رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

Al-sharq

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

الشرق

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

د. م. جاسم عبدالله جاسم ربيعة المالكي

نائب رئيس المجلس البلدي المركزي (سابقاً)

مساحة إعلانية

مقالات

39

د. م. جاسم عبدالله جاسم ربيعة المالكي

الدبلوماسية القطرية والصلح بين أفغانستان وباكستان

21 أكتوبر 2025 , 02:42ص

بين موجات من عدم الاستقرار في جنوب آسيا، برزت الدوحة مجددًا كعاصمة للوساطة وفض النزاعات. خلال أكتوبر 2025، شهدت العاصمة القطرية مفاوضات مكثفة بين أفغانستان وباكستان انتهت إلى إعلان وقف فوري لإطلاق النار، بوساطة مشتركة من قطر وتركيا. لكن وراء الخبر اليومي تقف قصة أعمق: كيف نجحت الدبلوماسية القطرية في تحويل هدنة مؤقتة إلى مسار محتمل للصلح والاستقرار؟

جذور التوتر لا تُختزل في حادثة أو بيان. فمنذ رسم “خط ديورند” في القرن التاسع عشر، تتراكم حساسيات الهوية والحدود والقبائل والطرق التجارية. وتعاظمت المعضلة الأمنية بعد 2001، ثم بعد سيطرة طالبان على كابول في 2021، حيث تبادلت العاصمتان الاتهامات بإيواء جماعات مسلحة عبر الحدود، وتعرضت التجارة والمعابر الحيوية إلى الإغلاق مرات متكررة، فيما دفعت المجتمعات الحدودية الثمن الأكبر.

في هذا السياق، تبنت الدوحة “الدبلوماسية الهادئة”: علاقات متوازنة مع كابول وإسلام آباد، وقنوات مفتوحة مع القوى الدولية، وسمعة تراكمت عبر سنوات من الوساطات الناجحة. لم تدخل قطر بثقل الإعلام، بل بثقل الثقة. آلية العمل اعتمدت على ثلاث ركائز: بناء الثقة عبر لقاءات غير معلنة، هندسة بنية تفاوضية تدمج الأمن بالتجارة والإنسان، ثم تحويل الاختراقات الصغيرة إلى خطوات مؤسسية قابلة للقياس.

الاختراق الأول كان تثبيت هدنة قصيرة، أتاحت عقد جولة محورية في الدوحة. أهمية هذه الهدنة أنها وفّرت «نافذة زمنية» لعزل العمليات الميدانية عن مسار المفاوضات، وتخفيف التوتر الشعبي والإعلامي، وتهيئة بيئة تسمح بأخذ قرارات صعبة دون ضغوط الساعات الساخنة. ومع إعلان وقف إطلاق النار، طُرحت حزمة أولية من المبادئ: احترام السيادة، الامتناع عن دعم جهات تعتدي على الجار، وتفعيل آليات مراجعة دورية بإشراف وسطاء موثوقين.

لكن نجاح أي وساطة لا يُقاس بالبيانات الختامية وحدها، بل بقدرتها على معالجة “مصادر الاحتكاك” البنيوية. هنا تبدو المقاربة القطرية أكثر تماسكًا عندما تنتقل من وقف النار إلى معالجة قضايا الحدود والاقتصاد واللاجئين. ويمكن تصور خارطة طريق من أربعة مسارات عملية:

1) مسار أمني–حدودي: تشكيل لجنة حدودية مشتركة دائمة، مزودة بقنوات اتصال طارئة بما يضمن استمرارية التجارة ويمنع الانفجارات الموضعية.

2) مسار تجاري–إنساني: إعادة فتح المعابر الرئيسية وفق جداول زمنية واضحة وتخصيص “ممرات إنسانية–تجارية” للسلع الأساسية والأدوية، وإطلاق صندوق مصغر لدعم الاقتصاد الحدودي وتمويل مشاريع صغيرة تعمل بها المجتمعات المحلية على جانبي الحدود.

3) مسار اللاجئين والتنقل: وضع بروتوكول مشترك لتسجيل وتنقّل الأشخاص، وبرنامج عودة طوعية للاجئين يراعي الكرامة والجدوى الاقتصادية، مع دعم تعليمي وصحي تموّله شراكات دولية تُدار عبر الدوحة لضمان الحياد والشفافية.

4) مسار سياسي–دبلوماسي: اجتماعات متابعة دورية بالتناوب بين الدوحة وإسطنبول، مع إشراك الأمم المتحدة.

لماذا تنجح الوساطة القطرية؟ لأن الدوحة لا تفرض حلولًا، بل تنظم طاولةً تصغي حيث يعلو الضجيج عادةً. وهي أيضًا وسيط “ذو مصلحة في الاستقرار” لا “ذو مصلحة في النفوذ”، إذ يرتبط أمن الخليج وازدهاره باستقرار جواره الأوسع. وبالنسبة لباكستان وأفغانستان، فإن وسيطًا يحظى بثقة العواصم الغربية والإسلامية في آنٍ معًا يمنح العملية السياسية “جسرًا” نحو المجتمع الدولي دون أن يُشعر الطرفين بفقدان السيطرة على القرار السيادي.

التحديات لا تزال كبيرة: ملفات الجماعات المسلحة متشابكة، وتوازنات الداخل الأفغاني والباكستاني معقدة، وأي حادث ميداني كبير قد يبدد الرصيد المعنوي سريعًا. لكن إدارة المخاطر جزء من نجاح أي وساطة.

على المستوى الأوسع، قد يحمل الصلح بين كابول وإسلام آباد آثارًا اقتصادية تتجاوز الحدود الثنائية: تنشيط محور التجارة من موانئ كراتشي إلى آسيا الوسطى، تقليل تكلفة النقل والعبور، وفتح شهية الاستثمارات الإقليمية في الطاقة والبنية التحتية. كما أنه ينعكس استقرارًا على ملفات الأمن في غرب آسيا، ويمنح جهود مكافحة المخدرات وتهريب السلاح فرصة أكبر للنجاح.

إن الدبلوماسية القطرية تقدم نموذجًا يمكن تعميمه: وساطة هادئة، مسارات متعددة، مؤشرات قابلة للقياس، وشراكات دولية محسوبة. في النهاية، السلام ليس صورة جماعية بعد التوقيع، بل منظومة عمل يومية تحوّل الخلافات إلى مصالح مشتركة. وإذا استمر المسار الذي انطلق من الدوحة في أكتوبر 2025، فقد نكون أمام لحظة فارقة تعيد تعريف العلاقة بين أفغانستان وباكستان من “صفرية” متوارثة إلى “تعاونية” ممكنة.

الخلاصة: ما يحدث اليوم ليس مجرد هدنة عابرة، بل اختبار لفعالية وساطة تحترم الخصوصيات وتستثمر في المشترك. وإذا كان بناء الثقة يحتاج إلى مراكمة صغيرة وثابتة، فإن الدوحة تملك كل المقومات كي تبقى العنوان الأبرز لسلام يُبنى ببطء ولكنه يدوم.

مساحة إعلانية