رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
"عندما تفكر بأنك أذكى شخص في الغرفة، سيكون مغريًا أن تخلق استراتيجياتك الكبرى".
بهذا التعليق بدأ نيل(نيل فيرغستون) المؤرخ البريطاني، وأستاذ التاريخ في جامعة هارفرد، تعليقه الوافي على ما يحسبهُ البعض مقابلة للرئيس الأمريكي باراك أوباما مع مجلة The Atlantic الأمريكية، في حين أن المادة تمثل تقريرًا شاملًا كتبه (جيفري غولدبرغ)، الصحفي فيها، نتيجة لقاءات مطولة مع الرئيس، ثم نشرهُ بعنوان (عقيدة أوباما).
لوضع الأمور في نصابٍ أوضح، غولدبرغ صحفي أمريكي إسرائيلي الجنسية، ترك الولايات المتحدة في شبابه للخدمة في الجيش الإسرائيلي أثناء الانتفاضة الفلسطينية الأولى، عاد بعدها إلى أمريكا وعمل في عدة صحف، وهو الذي اقترح عام 2008 إحدى الخرائط الشهيرة التي تقترح تقسيمات جديدة للشرق الأوسط(خارطة غولدبرغ)، كما أنه كان من أكبر مؤيدي ودعاة الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، فضلًا عن قيامه بكتابة مقالات استفزازية شهيرة منها واحدةٌ، عام 2015، بعنوان "هل آن الأوان ليغادر اليهود أوروبا؟"، كانت إجابته فيها "نعم".
لا تهدف هذه المقدمة للحكم على الرجل بإيحاءات الوقائع أعلاه، وما يمكن أن توحيه للبعض من(تفسير المؤامرة) والخبث في النية، فالرجل كما اتُهم بأنه (صهيوني) و(يميني مُتطرف) في بعض الأوساط، وُصفَ بأنه مُعادٍ لإسرائيل في أوساط أخرى، وكتب مقالة بعنوان (كيف أخطأتُ فيما يتعلق بالعراق). المهم في المسألة ألا نقرأ الظاهرة بسذاجة وأحادية، فالمؤكد أن آراء الرجل وَجَّهت طريقة كتابته للتقرير، سواء من خلال اختيار وانتقاء ما نَقلهُ عن أوباما، أو من خلال تعليقاته على تلك النقولات.
هذا مشهدٌ مُعبرٌ عن طريقة صناعة رأي النخبة في أمريكا، وكيفية تحويل ذلك الرأي إلى سياسات، بكل ما فيه من تعقيد.
لاشك بأن تقرير غولدبرغ يُعبرُ بشكلٍ صريح عن آراء الرئيس الأمريكي في نهاية المطاف، كما يقول الكثير عن شخصيته، وعن رؤيته، ليس فقط لشؤون السياسة الخارجية، بخلفياتها الثقافية والتاريخية، وإنما أيضًا عن تقويمه لمؤسسة صناعة السياسة الخارجية في واشنطن، والتي أوحت بمعان لا نُبالغ إذا قلنا إنها تُختصر بـ(الاحتقار).
لكن المشهد يحمل أيضًا دروسًا مهمة عن التفاعل بين أداء وعلاقات النُخب الأمريكية، السياسية والإعلامية والأكاديمية والاقتصادية، ذات الأجندات المختلفة، عندما يتعلق الأمر والتوظيف المتبادل فيما بينها، لتنفيذ تلك الأجندات.
ففي حين ظلت آراء أوباما، بهذه الصراحة مثلًا، طي الكتمان على مدى سبع سنوات من رئاسته، تمكن غولدبرغ من بلورتها بشكلٍ مُحكَم، ثم تجاوزَ ذلك إلى وضعها، إعلاميًا ونفسيًا، في إطارٍ أسماهُ هو (عقيدة أوباما)، بحيث باتت هذه الصورة من الآن فصاعدًا جزءًا من تاريخٍ وسيرةٍ للرئيس الأمريكي لا يمكن إغفالُها.
بمثل هذا الجهد، ليس بعيدًا أن يكون من أهداف الصحفي المخضرم أن يُرسِّخ تلك (العقيدة)، بعناصرها الحساسة، في مؤسسة السياسة الخارجية، باعتبارها باتت ركيزةً لا يمكن تجاوزها من قبل تلك المؤسسة، يُفترض فيها أن تؤثر في، إن لم تَحكُم، قرارات الرئيس القادم تحديدًا، وهو إنجازٌ استراتيجيٌ يتعدى الأجندات الشخصية بدرجةٍ واضحة.
قد يكون في هذا التحليل ما هو أدعى للتفكير من الغرق المُبالغ فيه بخصوص تصريحات أوباما، ومحاولة التعامل معها إعلاميًا على المدى القصير. فبدلًا من القبول بسحبِ تفكيرنا واهتمامنا وتركيزنا نحو تفاصيل ظواهر(تبدو) إستراتيجية، سيكون من الأجدى تحليلُ جذور تلك الظواهر وإدراك ما فيها من عناصر هي حقًا إستراتيجية.
هكذا، لا يصبح ممكنًا معالجة التفاصيل بفعاليةٍ أكبر فقط، بل تتطور القدرة على فهم المنظومة المعقدة نفسها، وصولًا إلى إدراك آليات ومداخل التعامل معها، أيضًا بشكلٍ جذري. وعلى كثرة الحديث عن هذا الموضوع، والعمل عليه، يبدو إحداثُ النقلة النوعية فيه مطلوبًا، أفكارًا وكوادرَ ومؤسسات.
في التفاصيل، ثمة دلائل على أن تقرير (غولدبرغ) أصبح (القشة) الأوبامية التي قصمت ظهر (بعير) مؤسسة السياسة الخارجية الأمريكية التي يتصاعد انزعاجها"ديمقراطيين وجمهوريين وعسكر وخبراء ودبلوماسيين"، من طريقة الرجل في التفكير، وقراراته الناتجة عنها. بل إن ثمة تذمرًا وتململًا من طريقة الرئيس في التعامل المُستخِّف، بلغة اللسان والجسد، حتى بأقرب مساعديه، وفي مجال الشؤون الخارجية تحديدًا. فما أن يرى في يد وزير الخارجية كيري ورقةً عن سوريا حتى يقول له بلهجة متعالية:"اقتراحٌ آخر؟"، وينفجر في وجه مندوبته في الأمم المتحدة، سامانثا باورز طالبًا منها السكوت بكلمة:"كفى". ليكمل قائلًا:"حسنًا حسنًا، تعرفين أنني قرأت كتابكِ"، هذا فضلًا عن كلامه المسيء تجاه حلفاء آخرين منهم ديفيد كاميرون، رئيس الوزراء البريطاني.
وبالإضافة إلى مقال (فيرغستون) المذكور أعلاه، ثمة مقالٌ موسوعي أيضًا نشره في (الواشنطن بوست) قبل أقل من أسبوع (ستيفن هايدمن)، الباحث في مركز بروكنغز لسياسات الشرق الأوسط، والمقالان يحللانِ بشكلٍ متكامل الأخطاء والتناقضات السياسية والأخلاقية المتعلقة بتفكير أوباما في مجال السياسة الخارجية.
لهذا، وغيره من أسباب تتعلق بالخلط في قراءته للواقع والتاريخ والتناقض في مقاييس الأخلاقية لديه، يبدو القلقُ العربي من تصريحات أوباما مبالغًا فيه. والأرجحُ أن إرث وسياسات و(عقيدة) هذا الرئيس الذكي، الذي وضع عليه العرب الآمال يومًا، ستخرجُ معه في الصناديق التي سيحملها يوم مغادرته البيت الأبيض، وقد يكون من أسباب هذا ما ذكره المؤرخ (فيرغستون)، في إشارةٍ إلى ما يمكن أن يفعلهُ غرور القوة والذكاء بالإنسان، حين قال إن قراءته لتقرير (جولدبرغ) أعطته انطباعًا قويًا بأن"الرئيس يشعر "في الحقيقة" أنه ليس فقط أذكى رجلا في الغرفة، وإنما أذكى رجلا في العالم، عرفهُ التاريخ".
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية




مساحة إعلانية
ليس الفراغ في الأماكن، بل في الأشخاص الذين لم يتقنوا الجلوس في أماكنهم. كم من مقعدٍ امتلأ جسدًا، وظلّ فارغًا فكرًا، وإحساسًا، وموقفًا. الكرسي لا يمنح الهيبة، بل من يجلس عليه هو من يمنح المكان معناه. المدرب… حين يغيب التأثير: المدرب الذي لا يملأ مقعده، هو من يكرّر المعلومات دون أن يُحدث تحولًا في العقول. يشرح بجمود، ويتحدث بثقة زائفة، ثم يغادر دون أن يترك بصمة. الحل أن يفهم أن التدريب رسالة لا مهنة، وأن حضوره يقاس بتغيير الفكر والسلوك بعده. وعندما يغيب هذا الإدراك، يتحول التدريب إلى ترفٍ ممل، ويفقد المجتمع طاقاته الواعدة التي تحتاج إلى من يشعل فيها شرارة الوعي. المدير… حين يغيب القرار: المدير الذي لا يملأ كرسيه، يهرب من المسؤولية بحجة المشورة، ويُغرق فريقه في اجتماعات لا تنتهي. الحل: أن يدرك أن القرار جزء من القيادة، وأن التردد يقتل الكفاءة. وعندما يغيب المدير الفاعل، تُصاب المؤسسة بالجمود، وتتحول بيئة العمل إلى طابور انتظار طويل بلا توجيه. القائد… حين يغيب الإلهام: القائد الذي لا يملك رؤية، لا يملك أتباعًا بل موظفين. الحل: أن يزرع في فريقه الإيمان لا الخوف، وأن يرى في كل فرد طاقة لا أداة. غياب القائد الملهم يعني غياب الاتجاه، فتضيع الجهود، ويضعف الولاء المؤسسي، ويختفي الشغف الذي يصنع التميز. المعلم… حين يغيب الوعي برسالته: المعلم الذي يجلس على كرسيه ليؤدي واجبًا، لا ليصنع إنسانًا، يفرغ التعليم من رسالته. الحل: أن يدرك أنه يربّي أجيالًا لا يلقّن دروسًا. وحين يغيب وعيه، يتخرّج طلاب يعرفون الحروف ويجهلون المعنى، فيُصاب المجتمع بسطحية الفكر وضعف الانتماء. الإعلامي… حين يغيب الضمير: الإعلامي الذي لا يملأ كرسيه بالمصداقية، يصبح أداة تضليل لا منبر وعي. الحل: أن يضع الحقيقة فوق المصلحة، وأن يدرك أن الكلمة مسؤولية. وعندما يغيب ضميره، يضيع وعي الجمهور، ويتحول الإعلام إلى سوقٍ للضجيج بدل أن يكون منارة للحق. الطبيب… حين يغيب الإحساس بالإنسان: الطبيب الذي يرى في المريض رقمًا لا روحًا، ملأ كرسيه علمًا وفرّغه إنسانية. الحل: أن يتذكر أن الطب ليس مهنة إنقاذ فقط، بل مهنة رحمة. وحين يغيب هذا البعد الإنساني، يفقد المريض الثقة، ويصبح الألم مضاعفًا، جسديًا ونفسيًا معًا. الحاكم أو القاضي… حين يغيب العدل: الحاكم أو القاضي الذي يغفل ضميره، يملأ الكرسي رهبة لا هيبة. الحل: أن يُحيي في قراراته ميزان العدالة قبل أي شيء. فحين يغيب العدل، ينهار الولاء الوطني، ويُصاب المجتمع بتآكل الثقة في مؤسساته. الزوج والزوجة… حين يغيب الوعي بالعلاقة: العلاقة التي تخلو من الإدراك والمسؤولية، هي كرسيان متقابلان لا روح بينهما. الحل: أن يفهما أن الزواج ليس عقداً اجتماعياً فحسب، بل رسالة إنسانية تبني مجتمعاً متماسكاً. وحين يغيب الوعي، يتفكك البيت، وينتج جيل لا يعرف معنى التوازن ولا الاحترام. خاتمة الكرسي ليس شرفًا، بل تكليف. وليس مكانًا يُحتل، بل مساحة تُملأ بالحكمة والإخلاص. فالمجتمعات لا تنهض بالكراسي الممتلئة بالأجساد، بل بالعقول والقلوب التي تعرف وزنها حين تجلس… وتعرف متى تنهض.
5055
| 20 أكتوبر 2025
لم تكنِ المأساةُ في غزّةَ بعددِ القتلى، بل في ترتيبِ الأولويات؛ لأن المفارقةَ تجرحُ الكرامةَ وتؤلمُ الروحَ أكثرَ من الموت. ففي الوقتِ الذي كانتْ فيهِ الأمهاتُ يبحثنَ بينَ الركامِ عن فلذاتِ أكبادِهِنَّ أو ما تبقّى منهُم، كانتْ إسرائيلُ تُحصي جثثَها وتُفاوِضُ العالمَ لتُعيدَها قبلَ أن تسمحَ بعبورِ شاحنةِ دواءٍ أو كيسِ طحينٍ. وكأنَّ جُثثَ جنودِها تَستحقُّ الضوء، بينما أَجسادُ الفلسطينيينَ تُدفنُ في العتمةِ بلا اسمٍ ولا وداعٍ ولا حتى قُبلةٍ أَخيرةٍ. فكانتِ المفاوضاتُ تُدارُ على طاولةٍ باردةٍ، فيها جُثثٌ وجوعٌ وصُراخٌ ودُموعٌ، موتٌ هنا وانتظارٌ هناك. لم يكنِ الحديثُ عن هدنةٍ أو دواءٍ، بل عن أشلاءٍ يُريدونَها أولًا، قبلَ أن تَعبُرَ شُحنةُ حياةٍ. أيُّ منطقٍ هذا الذي يجعلُ الجُثّةَ أَكثرَ استحقاقًا من الجائعِ، والنّعشَ أسبقَ من الرّغيف؟ أيُّ منطقٍ ذاك الذي يُقلِبُ موازينَ الرحمةِ حتى يُصبحَ الموتُ امتيازًا والحياةُ جريمةً؟ لقد غدتِ المساعداتُ تُوزَّعُ وفق جدولٍ زمنيٍّ للموتى، لا لاحتياجاتِ الأحياء، صارَ من يُدفنُ أَسرعَ ممن يُنقذُ، وصارتِ الشواهدُ تُرفَعُ قبلَ الأرغفةِ. في غزّةَ لم يَعُدِ الناسُ يَسألونَ متى تَصلُ المساعداتُ، بل متى تُرفَعُ القيودُ عن الهواء. فحتى التنفّسُ صارَ ترفًا يَحتاجُ تصريحًا. في كلِّ زُقاقٍ هناكَ انتظارٌ، وفي كلِّ انتظارٍ صبرُ جبلٍ، وفي كلِّ صبرٍ جُرحٌ لا يندملُ. لكنَّ رغمَ كلّ ذلك ما زالتِ المدينةُ تَلِدُ الحياةَ من قلبِ موتِها. هُم يَدفنونَ موتاهم في صناديقِ الخشبِ، ونحنُ نَدفنُ أحزانَنا في صدورِنا فتُزهِرُ أملًا يُولَدُ. هُم يَبكونَ جُنديًّا واحدًا، ونحنُ نَحمِلُ آلافَ الوُجوهِ في دَمعَةٍ تُسقي الأرضَ لتَلِدَ لنا أَحفادَ من استُشهِدوا. في غزّةَ لم يكنِ الوقتُ يَتَّسِعُ للبُكاءِ، كانوا يَلتقطونَ ما تَبقّى من الهواءِ لِيَصنَعوا منه بروحِ العزِّ والإباء. كانوا يَرونَ العالمَ يُفاوِضُ على موتاهُ، ولا أَحدَ يَذكُرُهم بكلمةٍ أو مُواساةٍ، بينما هُم يُحيونَ موتاهُم بذاكرةٍ لا تَموتُ، ومع ذلك لم يَصرُخوا، لم يَتوسَّلوا، لم يَرفَعوا رايةَ ضعفٍ، ولم يَنتظروا تلكَ الطاولةَ أن تَتكلَّمَ لهم وعَنهُم، بل رَفَعوا وُجوهَهم إلى السماء يقولون: إن لم يكن بك علينا غضبٌ فلا نُبالي. كانتِ إسرائيلُ تَحصُي خَسائِرَها في عَدَدِ الجُثَث، وغزّة تَحصُي مَكاسِبَها في عَدَدِ مَن بَقوا يَتَنفَّسون. كانت تُفاخر بأنها لا تَترُكُ قَتلاها، بينما تَترُكُ حياةَ أُمّةٍ بأَكملها تَختَنِقُ خلفَ المَعابِر. أيُّ حضارةٍ تلكَ التي تُقيمُ الطقوسَ لِموتاها، وتَمنَعُ الماءَ عن طفلٍ عطشان؟ أيُّ دولةٍ تلكَ التي تُبجِّلُ جُثَثَها وتَتركُ الإنسانيّةَ تحتَ الرُّكام؟ لقد كانتِ المفاوضاتُ صورةً مُكثَّفةً للعالمِ كُلِّه؛ عالمٍ يَقِفُ عندَ الحدودِ يَنتظر “اتِّفاقًا على الجُثَث”، بينما يَموتُ الناسُ بلا إِذنِ عُبورٍ. لقد كشفوا عن وجوهِهم حينَ آمَنوا أن عودةَ جُثّةٍ مَيتةٍ أَهمُّ من إِنقاذِ أرواحٍ تَسرِقُ الأَنفاس. لكن غزّة كالعادة كانتِ الاستثناءَ في كلِّ شيءٍ وصَدمةً للأعداءِ قبل غيرِهم، وهذا حديثهم ورأيهم. غزّة لم تَنتظر أَحدًا ليُواسيَها، ولم تَسأَل أَحدًا ليَمنَحَها حَقَّها. حينَ اِنشَغَلَ الآخرونَ بعدَّ الجُثَث، كانت تُحصي خُطواتها نحو الحياة، أَعادت تَرتيبَ أَنقاضِها كأنها تَبني وطنًا جديدًا فوقَ عِظامِ مَن ماتوا وُقوفًا بشموخ، وأَعلَنَت أنَّ النَّبضَ لا يُقاس بعددِ القلوبِ التي توقَّفَت، بل بعددِ الذين ما زالوا يَزرَعونَ المستقبل، لأنَّ المستقبل لنا. وهكذا، حين يَكتُب التاريخُ سطره الأخير، لن يَقول من الذي سلّم الجُثَث، بل من الذي أَبقى على رُوحه حيّة. لن يَذكُر عددَ التوابيت، بل عددَ القلوب التي لم تَنكسِر. دولةُ الكيان الغاصب جَمَعَت موتاها، وغزّة جمَعَت نَفسها. هم دَفَنوا أَجسادَهم، وغزّة دَفَنَت بُذورَ زيتونِها الذي سَيُضيء سَنا بَرقه كل أُفق. هم احتَفلوا بالنِّهاية، وغزّة تَفتَح فَصلًا من جديد. في غزّة، لم يَكُنِ الناس يَطلُبون المعجزات، كانوا يُريدون فقط جُرعةَ دواءٍ لِطفلٍ يحتضر، أو كِسرةَ خُبزٍ لامرأةٍ عَجوز. لكن المعابِر بَقِيَت مُغلَقة لأن الأَموات من الجانب الآخر لم يُعادوا بعد. وكأنَّ الحياة هُنا مُعلَّقة على جُثّة هناك. لم يَكُن العالم يسمع صُراخَ الأَحياء، بل كان يُصغي إلى صَمتِ القُبور التي تُرضي إسرائيل أكثر مما تُرضي الإنسانية.
3690
| 21 أكتوبر 2025
يمثل صدور القانون رقم (24) لسنة 2025 في دولة قطر، الخاص بمكافحة المنشطات في المجال الرياضي، تحولًا مفصليًا في مسار التشريع الرياضي العربي. فالقانون لا يقتصر على تحديد المخالفات والعقوبات، بل يؤسس لفلسفة جديدة قوامها الإنسان، بوصفه غاية الرياضة قبل أن يكون وسيلة للإنجاز. هذا التوجه التشريعي يعكس نضجًا مؤسساتيًا يربط بين الطب والقانون والأخلاق، في محاولة لصياغة مفهوم حديث للنزاهة الرياضية داخل بيئة تتسارع فيها التطورات العلمية والتقنيات الطبية. على الصعيد العلمي والطبي، يُدرك المشرّع أن قضية المنشطات ليست مجرد مخالفة قانونية، بل قضية صحة عامة تمس توازن الجسد الإنساني. فالمواد المحظورة، مهما كان أثرها في تحسين الأداء، تُحدث اضطرابًا فسيولوجيًا وتشوه المسار الطبيعي للقدرة البدنية. ومن ثم، فإن تشجيع الرياضي على الاعتماد على جسده لا على العقار يُعبّر عن احترام للعلم في جوهره، لأن الطب وعلوم الحياة وُجدت لفهم الطبيعة البشرية وصونها لا لتجاوزها. وهكذا يرسخ القانون مفهوم "الطب الأخلاقي” الذي يوازن بين العلاج والحماية من الانحراف الدوائي. وإذا كان الجانب العلمي قد كشف خطورة المنشطات على الجسد، فإن الجانب القانوني يسعى لضبط مسؤوليات المنظومة بأكملها. فالقانون ينقل عبء المسؤولية من الفرد الرياضي إلى الهيئات والمدربين والمختبرات والإدارات التنظيمية. وهذا تطور مهم، لأن التجارب العالمية أثبتت أن الرياضي ليس دائمًا الجاني، بل قد يكون ضحية نظام يضغط نحو الفوز بأي ثمن. لذلك يتبنى التشريع القطري فلسفة المسؤولية المشتركة، فيتحول من أداة عقاب إلى نموذج إصلاحي متوازن يعزز الشفافية داخل المنظومة الرياضية. أما في البعد الأخلاقي والفلسفي، فيفتح القانون نقاشًا عميقًا حول معنى العدالة في الرياضة: هل العدالة مساواة شكلية أمام القانون أم حماية لجوهر الجهد الإنساني الطبيعي؟ الإجابة تميل إلى الثانية، إذ ينحاز التشريع إلى الفطرة الرياضية وإلى التنافس النزيه الذي يستمد شرعيته من الإرادة لا من الكيمياء. إن هذه الرؤية لا تُعلي من شأن العقوبة بقدر ما تُعلي من شأن القيمة، وتضع الرياضة في سياقها الأسمى: تهذيب الجسد والروح معًا. ومع ذلك، يظل التنفيذ هو التحدي الحقيقي، فمكافحة المنشطات ليست معركة قوانين بل معركة وعي وثقافة. ومن دون إدماج هذه المبادئ في المناهج التربوية والأكاديميات الرياضية، سيبقى القانون نصًا بلا روح. آخر الكلام: إن تجربة قطر تُجسد فهمًا عميقًا للرياضة كقيمة إنسانية وثقافية لا كصناعة للألقاب، وتؤسس لمرحلة عربية جديدة تجعل من الأخلاق الرياضية جزءًا من الأمن الصحي الوطني. وهكذا يصبح القانون رقم (24) لسنة 2025 أكثر من تشريع؛ إنه إعلان فلسفي عن هوية رياضية جديدة قوامها المعرفة، والإنصاف، واحترام الجسد الإنساني كأسمى معمل للطاقة والإبداع.
2799
| 21 أكتوبر 2025