رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

Al-sharq

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

الشرق

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

د. فاطمة سعد النعيمي

* أستاذ التفسير وعلوم القرآن- كلية الشريعة والدراسات الإسلامية جامعة قطر

مساحة إعلانية

مقالات

0

د. فاطمة سعد النعيمي

كريمٌ يُميت السر.. فيُحيي المروءة

24 أكتوبر 2025 , 12:38ص

في زمنٍ تاهت فيه الحدود بين ما يُقال وما يُكتم، وبين ما يُروى وما يُستر، يبرز خُلُق كريمٍ عزيزٍ على النفوس، لا يحمله إلا من صفا قلبه وتهذّب لسانه، ذاك هو كتمان السرّ. الكرم الحقيقي ليس في بذل المال ولا في طلاقة الوجه فحسب، بل في أن يملك الإنسان نفسه عند الكلام، فيُميت السر حتى كأنه لا يعرفه، فإذا استبحثوه عن حديثك جهلَه، لا توريةً ولا نفاقًا، ولكن مروءةً وحياءً وحفظًا للأمانة.

لقد علّمنا القرآن أن الأمانة ليست محصورةً في الأموال، بل تمتد إلى الأقوال والأسرار، قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا﴾ [النساء: 58].

ومن الأمانة أن تحفظ ما استُؤمنت عليه من قولٍ أو سرّ، فلا تُفشيه ولو على سبيل المزاح أو الفضفضة، فإنما القلوب مطايا الكلام، وما خرج من الفم لا يعود.

ولذلك قرن الله بين ضبط اللسان وتقوى القلب، فقال سبحانه: ﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ [ق: 18]،

إشارة إلى أن الكلمة مسؤولية، وأن كتمان السر عبادة خفية لا يراها الناس، ولكن يراها الله، فيجزي عليها صدقًا وأجرًا عظيمًا.

القرآن يوجّهنا إلى أن الكرامة ليست في كثرة الكلام، بل في الصمت الحكيم، كما قال تعالى في وصف عباده المؤمنين:

﴿وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ﴾ [المؤمنون: 3]، فاللغو يشمل كل ما لا فائدة فيه، وأي لغوٍ أعظم من بثّ سرٍّ أُؤتمنت عليه؟!

إن الكريم لا يقتل السر خوفًا، بل حياءً من الله ووفاءً لصاحبه، يرى أن الستر جزء من شخصيته، وأن الصمت عن الأسرار أدبٌ إيماني قبل أن يكون خُلقًا اجتماعيًا. ومن فهم القرآن حق الفهم، علم أن الستر على الناس من دلائل الإيمان، قال النبي ﷺ: "من ستر مسلمًا ستره الله في الدنيا والآخرة" (رواه مسلم).

فما أجمل أن يكون الإنسان "كريمًا يُميت السر حتى كأنه لا يعلمُه"، يعيش القرآن خلقًا في قلبه ولسانه، فيجعل من كتمان الأسرار بابًا من أبواب الطاعة، ومن الصمت جسرًا نحو رضا الله وحسن المروءة بين الناس.

مساحة إعلانية