رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

Al-sharq

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

الشرق

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

الدكتورة حصة حامد المرواني

مساحة إعلانية

مقالات

87

الدكتورة حصة حامد المرواني

عولمة قطر اللغوية

24 ديسمبر 2025 , 06:14ص

حين تتكلم اللغة، فإنها لا تفعل ذلك طلبًا للاحتفاء، بل إعلانًا للسيادة. لا تتحدث من باب العاطفة، بل من موقع الوعي والقوة والمعرفة. ومع اكتمال معجم الدوحة التاريخي للغة العربية، لم تُنجز قطر كتابًا، بل أرست موقفًا حضاريًا واضحًا يقول إن اللغة ليست هامشًا ثقافيًا، بل ركيزة وجود، وأداة وعي، وعنوان ثقة

لقد تلاقت الدلالة مع الزمن؛ يوم عالمي للغة العربية في الثامن عشر من ديسمبر، ويوم وطني لدولة جعلت من الهوية مشروعًا، ومن الثقافة قرارًا، ومن اللغة استثمارًا استراتيجيًا وكأن التاريخ نفسه يتكلم، ليقول بوضوح لا يحتمل التأويل: هذا إنتاجنا، وهذه لغتنا، وهذه ثقتنا بأنفسنا وبمكاننا في العالم. هنا، لا تُصان العربية بالحنين، ولا تُرفع بالشعارات، بل تُبنى بالمشاريع، وتُحفظ بالعلم، وتُؤرَّخ بمنهج يليق بحضارتها

من معجم إلى موقف حضاري:

إن اكتمال معجم الدوحة التاريخي للغة العربية لا يمكن قراءته بوصفه إنجازًا لغويًا معزولًا، بل هو تعبير عن رؤية دولة تدرك أن القوة الحقيقية تبدأ من المعرفة، وأن الحضور العالمي لا يُبنى فقط بالاقتصاد والسياسة، بل باللغة، والهوية، والعمق الثقافي. وقد أكد حضرة صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني أمير البلاد المفدى أن اكتمال هذا المعجم يمثل مظهرًا من مظاهر التكامل العربي المثمر، ويعزز تمسك الشعوب بهويتها مع انفتاحها الواثق على العصر.

فالمعجم لا يعرّف الكلمات، بل يؤرخها، ولا يشرح الألفاظ، بل يكشف مسيرتها وتحولاتها وسياقاتها. إنه ينقل العربية من كونها لغة استعمال إلى لغة وعي، ومن كونها تراثًا محفوظًا إلى معرفة مُحلَّلة، ومن كونها لغة ماضٍ مجيد إلى لغة زمن ممتد يصل الماضي بالحاضر ويفتح أبواب المستقبل

اللغة كقوة ناعمة في زمن العولمة:

في عالم اليوم، لم تعد القوة تقاس فقط بما تملكه الدول من اقتصاد أو نفوذ، بل بما تملكه من سردية ثقافية قادرة على العبور والتأثير. وهنا تتجلى أهمية معجم الدوحة بوصفه أداة من أدوات القوة الناعمة. فتوثيق اللغة العربية تاريخيًا، وفق منهج علمي صارم، يمنحها قابلية أوسع للحضور في المنصات العالمية، والجامعات، ومراكز البحث، والتقنيات الرقمية. كما أنه يضع العربية في موقع الندّية مع لغات كبرى سبقتها في مشاريع التأريخ اللغوي، ويكسر الصورة النمطية التي تحصرها في إطار التراث أو القداسة وحدها، دون الاعتراف بديناميكيتها وقدرتها على التفاعل مع الحداثة.

ومن هذا المنطلق، يمكن قراءة معجم الدوحة كجزء من استراتيجية ثقافية أوسع تعيد تعريف علاقة العرب بلغتهم، وعلاقة العالم بالعربية، ليس كلغة “آخر”، بل كلغة معرفة وشراكة إنسانية.

انعكاسات الحدث… من الدوحة إلى العالم:

هنا تبدأ الانعكاسات الكبرى. فمعجم الدوحة ليس مشروعًا عربيًا داخليًا فحسب، بل رسالة ثقافية عالمية. إنه يضع اللغة العربية على خريطة البحث اللغوي العالمي بوصفها لغة موثقة تاريخيًا وفق أعلى المعايير العلمية، وقابلة للاندماج في مشاريع الترجمة، والدراسات المقارنة، والذكاء الاصطناعي، وصناعة المعرفة الرقمية.

كما يعيد هذا المشروع تقديم العربية للعالم لا كلغة مقدسة فقط، بل كلغة إنسانية حيّة، ساهمت في تشكيل الفكر الإنساني، وشاركت في بناء الحضارة، وما زالت قادرة على الإسهام في خطاب العصر. ومن هنا، تتحول قطر عبر هذا المعجم إلى فاعل ثقافي عالمي، يمارس عولمة لغوية مختلفة،عولمة تقوم على المعنى لا الهيمنة، وعلى الهوية لا الذوبان، وعلى الشراكة المعرفية لا الاستهلاك الثقافي.

العربية… لغة قرآن ولغة مستقبل

ولا يمكن فصل هذا الإنجاز عن مكانة اللغة العربية في القرآن الكريم؛ فهي لغة الوحي، ولغة المعنى العميق، ولغة القيم. والعناية بتاريخها هي في جوهرها عناية بالرسالة التي تحملها، وبالإنسان الذي خُوطب بها. ومعجم الدوحة يعيد الربط بين قداسة اللغة وحيويتها، بين ثبات النص ومرونة اللفظ، بين الجذور العميقة وآفاق العصر.

عولمة قطر اللغوية… حين تتكلم اللغة

إن ما فعلته قطر عبر معجم الدوحة هو أنها قدّمت نموذجًا جديدًا للحضور العالمي: حضور لا يفرض نفسه بالقوة، بل بالمعرفة؛ لا يذوب في العولمة، بل يعيد تعريفها؛ ولا ينسخ تجارب الآخرين، بل يقدّم تجربته الخاصة بثقة ووضوح.

وهكذا، حين تتكلم اللغة من الدوحة، فهي لا تخاطب العرب وحدهم، بل تخاطب العالم كله، قائلة: هذه لغة لها تاريخ، وهذه دولة تعرف وزن لغتها، وهذه أمة قادرة على أن تكون جزءًا من العالم… دون أن تفقد نفسها.

مساحة إعلانية