رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
أستسمح القراء عذرا لانقطاعي منذ العشر الأواخر من رمضان وأسأل الله أن يتقبل منا كل عمل صالح ويبارك لكم في كل أعيادكم ويجعلها عامرة بطاعته.
وكنا بدأنا في مؤشرات الاهتمام بالصحة، والتي تعتبر من أساسيات بناء دولة متحضرة ومتطورة وفاعلة، وبدأناها بتأثير الأوبئة على الدولة كمؤشر أول على الاهتمام العام بالصحة وسنتبعها اليوم بمعيارين آخرين أساسيين:
(2) ﻧﺴﺒﺔ اﻟﻮﻓﻴﺎت ﺑﻴﻦ الأطفال
إن انتشار الأوبئة في دولة ما، يدل على اهتمام أو عدم اهتمام الدولة بتوفير بيئة صحية وآمنة للناس، وبالذات توفير المصادر النقية للمياه النظيفة، وهذا ينعكس سلباً على حياة الأطفال، ويؤدي إلى ارتفاع نسبة الوفيات بينهم، وﻧﺴﺒﺔ اﻟﻮﻓﻴﺎت ﺑﻴﻦ اﻷﻃﻔﺎل أحد المعايير الرئيسة التي تقاس بها الصحة في دول العالم، فإذا كانت نسبة الوفيات بين الأطفال مرتفعة، فهذا مؤشر على أن الوضع الصحي متخلف، وإذا كانت نسبة الوفيات قليلة، فهذا يعني أن الوضع الصحي متطور .
أنا أؤمن أن التقدم يحدث لكل المجالات في الدولة، وأن التخلف يصيب كل شيء فيها، والمقارنة التالية تكشف صدق ما أقول، ففي إفريقيا تبلغ نسبة وفاة الأم أثناء الولادة (1) لكل (16) بمعنى أم واحدة من كل (16) تموت أثناء الولادة، بينما في أمريكا تبلغ النسبة (1) لكل (٣٧٠٠) حالة ولادة، هل لاحظتم الفرق ..؟!
فائدة: في دراسة أعدها البنك الدولي اتضح " أن معدل وفيات الأطفال يزيد بثلاثة أضعاف في الدول الأكثر فساداً عنه في الدول الأقل فساداً ".
- تخفيض نسبة الوفيات بين الأطفال
تشير التقارير الحديثة الصادرة عن منظمات الصحة العالمية إلى أن نسبة الوفيات بين الأطفال في القرن الإفريقي في ازدياد، مع أنه يمكننا تخفيض نسبة الوفيات بين الأطفال إلى (٥٠٪) إذا اتبع الناس إجراءات صحية سليمة مثل:
* إبقاء الأطفال حديثي الولادة في مكان دافئ.
* عدم تعريضهم للحرارة الشديدة أو البرودة الشديدة .
* التشجيع على النظافة في المكان والجسم.
* وجود قابلة ماهرة وممرضة متخصصة عند الولادة.
ولا بد أن يكون هناك المزيد من الاستثمار في برامج المبادرات الصحية التي تسعى لضمان حصول الأمهات على المساعدات المهنية أثناء الولادة، لأن نسبة وفيات الأطفال كلما ارتفعت، فهذا يعين أن المجتمع يتجه نحو الشيخوخة.
- معدلات وفيات الأطفال في العالم (2008)م في الدول العربية
أنا أقول دائماً لا تنظروا إلى عدد المستشفيات ولا كثرة من يحملون الشهادات، ففي النهاية هناك معايير ونتائج ومؤشرات على أرض الواقع تعكس التطور أو التخلف، واحدة من هذه المعايير والمؤشرات: نسبة وفيات الأطفال، وهذه هي معدلات الدول العربية:
* الإمارات (7) لكل (1000) طفل .
* قطر (9,2) لكل (1000) طفل.
* الكويت (9,4) لكل (1000) طفل.
* البحرين (9,6) لكل (1000) طفل.
* عمان (10,3) لكل (1000) طفل.
* السعودية (18,4) لكل (1000) طفل.
* مصر (19,8) لكل (1000) طفل.
* لبنان (11,9) لكل (1000) طفل.
* سوريا (14,3) لكل (1000) طفل.
* ليبيا (15,3) لكل (1000) طفل.
* الأردن (17) لكل (1000) طفل.
* تونس (18,3) لكل (1000) طفل.
* موريتانيا (19,8) لكل (1000) طفل.
* المغرب (32,3) لكل (1000) طفل.
* الجزائر (36) لكل (1000) طفل.
- معدلات وفيات الأطفال في العالم (2008)م في بعض الدول الإسلامية
* ماليزيا (5,9) لكل (1000) طفل
* تركيا (19,8) لكل (1000) طفل
* إندونيسيا (30,7) لكل (1000) طفل
* باكستان (71,9) لكل (1000) طفل
* إيران (94) لكل (1000) طفل
* نيجيريا (95,8) لكل (1000) طفل
نلاحظ أن ماليزيا من أفضل الدول الإسلامية على الإطلاق، وأن النسبة بلغت في الإمارات (7) لكل (1000) طفل، وهذا يعني أن القطاع الصحي تطور في الإمارات تطوراً ملحوظاً، بينما نجد أن هناك مشكلة حقيقة في إيران ونيجيريا، حيث تبلغ النسبة حوالي (١٠٪)، وأعتقد أن كل طفل نحميه داخل في باب إحياء النفس، الذي يقول الله تعالى فيه ( وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا ) وكذلك هو مساهمة عملية في بناء الحضارة.
(3) ﻣﺘﻮﺳﻂ اﻟﻌﻤﺮ اﻟﻤﺘﻮﻗﻊ
هذا مؤشر ثالث يُقاس به التطور الصحي في بلد معين، ونحن كمسلمين نعتقد أن الأعمار بيد الله تعالى، ولا نشكّ في ذلك، لكن الله تعالى جعل لذلك أسباباً، وديننا لا يمنع من الأخذ بالأسباب بل يحضّ عليها ويوجبها، ومن ذلك التداوي في حال المرض، يقول النبي ((تَدَاوَوْا عِبَادَ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يُنَزِّلْ دَاءً إِلَّا أَنْزَلَ مَعَهُ شِفَاءً إِلَّا الْمَوْتَ وَالْهَرَمَ )) أحمد
فلا يجوز في شريعة الإسلام أن ترمي بنفسك أمام سيارة بحجة أن الأعمار بيد الله تعالى، ولا يجوز كذلك أن تعرّض نفسك للأمراض وتقول الأعمار بيد الله تعالى، صحيح أن الأعمار بيد الله تعالى، ولكن هناك أسباب بيد البشر، وكلما طال عمر الإنسان عند الوفاة، وطالما أن الأطفال لا يموتون في الولادة أو الصغر، كان متوسط العمر أعلى.
- معدلات متوسط الأعمار في دول الخليج العربي ومصر عام (١٩٥٠)م وعام 2008تشير الى أن متوسط الأعمار آخذ بالارتفاع، وهذا مؤشر إيجابي على أن الوضع الصحي يتطور ويتحسن بشكل كبير وملحوظ.
" كلما ألفت الحياة الإسلامية أعجبت بقواعد حفظ الصحة العجيبة التي وضعها النبي ( للمؤمنين " د. شروف بيرون
- كل انحراف عن منهج الله يقابله ابتلاء
كلما انحرف الناس عن منهج تعالى، وخالفوا سننه الكونية، أصابهم البلاء والأمراض، وهذا ما يشير إليه حديث النبي (( .. لَمْ تَظْهَرِ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ قَطُّ، حَتَّى يُعْلِنُوا بِهَا، إِلَّا فَشَا فِيهِمُ الطَّاعُونُ وَالْأَوْجَاعُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ مَضَتْ فِي أَسْلَافِهِمُ الَّذِينَ مَضَوْا )) ابن ماجه
وأكثر دولة ينطبق عليها هذا الحديث هي دولة " سوازيلاند " في إفريقيا، حيث نجد فيها حالياً أقل متوسط للأعمار ، إذ يبلغ (32) سنة فقط، والسبب هو الأمراض التي أصابتهم بسبب انحرافهم عن منهج الله تعالى، فهي نفس الدولة الأعلى في نسبة الإصابة بالإيدز، حيث وصلت نسبة الإصابة بالمرض إلى (٣٩٪)، وفقاً لــ (Global Shocking Facts) .
وهناك سبب آخر لانتشار الأمراض في العالم وهو السمنة، حيث تقدّر أعداد المصابين بالسمنة في العالم (مليار وستمائة مليون) إنسان.
- مبادرات لا إحصاءات وشعارات
ليس هدفي أن أحشو عقول القرّاء بأرقام وإحصائيات ترهق أذهانهم، وإنما الهدف بعث الهمّة نحو العمل، والبدء بمشاريع عملية منتجة، تسهم بشكل فعال في بناء الحضارة، ويمكن الاطلاع على المشاريع المقترحة والمبادرات المطروحة، من خلال زيارة الموقع الإلكتروني الخاص بمشروع التغيير الحضاري (www.change-project.org)
في الموقع ستجدون مبادرات، واحدة منها متعلقة بتطوير الصحة في كل بلد، لذا أتمنى من المهتمين خاصة فئة الشباب أن يتفاعلوا مع هذه المبادرات، فمثلاً يقول الشباب السوداني: نحن الذين سنتولى مشروع تطوير الصحة في السودان لنرفع هذه المعدلات، وقِس على ذلك باقي المبادرات في كل المجالات.
وأختم بهذه الجملة المضحكة والمعبرة في نفس الوقت للناقد الساخر مارك توين " توخ الحذر بشأن قراءة الكتب الصحية، فقد تموت من خطأ مطبعي".
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية




مساحة إعلانية
في زمنٍ تتسارع فيه التكنولوجيا وتتصارع فيه المفاهيم، باتت القيم المجتمعية في كثيرٍ من المجتمعات العربية أقرب إلى «غرفة الإنعاش» منها إلى الحياة الطبيعية. القيم التي كانت نبض الأسرة، وعماد التعليم، وسقف الخطاب الإعلامي، أصبحت اليوم غائبة أو في أحسن الأحوال موجودة بلا ممارسة. والسؤال الذي يفرض نفسه: من يُعلن حالة الطوارئ لإنقاذ القيم قبل أن تستفحل الأزمات؟ أولاً: التشخيص: القيم تختنق بين ضجيج المظاهر وسرعة التحول: لم يعد ضعف القيم مجرد ظاهرة تربوية؛ بل أزمة مجتمعية شاملة فنحن أمام جيلٍ محاط بالإعلانات والمحتوى السريع، لكنه يفتقد النماذج التي تجسّد القيم في السلوك الواقعي. ثانياً: الأدوار المتداخلة: من المسؤول؟ إنها مسؤولية تكاملية: - وزارة التربية والتعليم: إعادة بناء المناهج والأنشطة اللاصفية على قيم العمل والانتماء والمسؤولية، وربط المعرفة بالسلوك. - وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية: تجديد الخطاب الديني بلغة العصر وتحويل المساجد إلى منصات توعية مجتمعية. - وزارة الثقافة: تحويل الفنون والمهرجانات إلى رسائل تُنعش الوعي وتُعيد تعريف الجمال بالقيمة لا بالمظهر. - وزارة الإعلام: ضبط المحتوى المرئي والرقمي بما يرسّخ الوعي الجمعي ويقدّم نماذج حقيقية. - وزارة التنمية الاجتماعية: تمكين المجتمع المدني، ودعم المبادرات التطوعية، وترسيخ احترام التنوع الثقافي باعتباره قيمة لا تهديدًا. ثالثاً: الحلول: نحو حاضنات وطنية للقيم: إن مواجهة التراجع القيمي لا تكون بالشعارات، بل بإنشاء حاضنات للقيم الوطنية تعمل مثل حاضنات الأعمال، لكنها تستثمر في الإنسان لا في المال. هذه الحاضنات تجمع التربويين والإعلاميين والمثقفين وخبراء التنمية لتصميم برامج عملية في المدارس والجامعات ومراكز الشباب تُترجم القيم إلى ممارسات يومية، وتنتج مواد تعليمية وإعلامية قابلة للتكرار والقياس. كما يمكن إطلاق مؤشر وطني للقيم يُقاس عبر استطلاعات وسلوكيات مجتمعية، لتصبح القيم جزءًا من تقييم الأداء الوطني مثل الاقتصاد والتعليم. رابعا: تكامل الوزارات:غرفة عمليات مشتركة للقيم: لا بد من إطار حوكمة ؛ • إنشاء مجلس وطني للقيم يُمثّل الوزارات والجهات الأهلية، يضع سياسة موحّدة وخطة سنوية ملزِمة. مؤشرات أداء مشتركة • تُدرج في اتفاقيات الأداء لكل وزارة • منصة بيانات موحّدة لتبادل المحتوى والنتائج تُعلن للناس لتعزيز الشفافية. • حملات وطنية متزامنة تُبث في المدارس والمساجد والمنصات الرقمية والفنون، بشعار واحد ورسائل متناسقة. • عقود شراكة مع القطاع الخاص لرعاية حاضنات القيم وبرامج القدوة، وربط الحوافز الضريبية أو التفضيلية بحجم الإسهام القيمي. الختام..... من يُعلن حالة الطوارئ؟ إنقاذ القيم لا يحتاج خطابًا جديدًا بقدر ما يحتاج إرادة جماعية وإدارة محترفة. المطلوب اليوم حاضنات قيم، ومجلس تنسيقي، ومؤشرات قياس، وتمويل مستدام. عندها فقط سننقل القيم من شعارات تُرفع إلى سلوك يُمارس، ومن دروس تُتلى إلى واقع يُعاش؛ فيحيا المجتمع، وتموت الأزمات قبل أن تولد.
5589
| 24 أكتوبر 2025
ليس الفراغ في الأماكن، بل في الأشخاص الذين لم يتقنوا الجلوس في أماكنهم. كم من مقعدٍ امتلأ جسدًا، وظلّ فارغًا فكرًا، وإحساسًا، وموقفًا. الكرسي لا يمنح الهيبة، بل من يجلس عليه هو من يمنح المكان معناه. المدرب… حين يغيب التأثير: المدرب الذي لا يملأ مقعده، هو من يكرّر المعلومات دون أن يُحدث تحولًا في العقول. يشرح بجمود، ويتحدث بثقة زائفة، ثم يغادر دون أن يترك بصمة. الحل أن يفهم أن التدريب رسالة لا مهنة، وأن حضوره يقاس بتغيير الفكر والسلوك بعده. وعندما يغيب هذا الإدراك، يتحول التدريب إلى ترفٍ ممل، ويفقد المجتمع طاقاته الواعدة التي تحتاج إلى من يشعل فيها شرارة الوعي. المدير… حين يغيب القرار: المدير الذي لا يملأ كرسيه، يهرب من المسؤولية بحجة المشورة، ويُغرق فريقه في اجتماعات لا تنتهي. الحل: أن يدرك أن القرار جزء من القيادة، وأن التردد يقتل الكفاءة. وعندما يغيب المدير الفاعل، تُصاب المؤسسة بالجمود، وتتحول بيئة العمل إلى طابور انتظار طويل بلا توجيه. القائد… حين يغيب الإلهام: القائد الذي لا يملك رؤية، لا يملك أتباعًا بل موظفين. الحل: أن يزرع في فريقه الإيمان لا الخوف، وأن يرى في كل فرد طاقة لا أداة. غياب القائد الملهم يعني غياب الاتجاه، فتضيع الجهود، ويضعف الولاء المؤسسي، ويختفي الشغف الذي يصنع التميز. المعلم… حين يغيب الوعي برسالته: المعلم الذي يجلس على كرسيه ليؤدي واجبًا، لا ليصنع إنسانًا، يفرغ التعليم من رسالته. الحل: أن يدرك أنه يربّي أجيالًا لا يلقّن دروسًا. وحين يغيب وعيه، يتخرّج طلاب يعرفون الحروف ويجهلون المعنى، فيُصاب المجتمع بسطحية الفكر وضعف الانتماء. الإعلامي… حين يغيب الضمير: الإعلامي الذي لا يملأ كرسيه بالمصداقية، يصبح أداة تضليل لا منبر وعي. الحل: أن يضع الحقيقة فوق المصلحة، وأن يدرك أن الكلمة مسؤولية. وعندما يغيب ضميره، يضيع وعي الجمهور، ويتحول الإعلام إلى سوقٍ للضجيج بدل أن يكون منارة للحق. الطبيب… حين يغيب الإحساس بالإنسان: الطبيب الذي يرى في المريض رقمًا لا روحًا، ملأ كرسيه علمًا وفرّغه إنسانية. الحل: أن يتذكر أن الطب ليس مهنة إنقاذ فقط، بل مهنة رحمة. وحين يغيب هذا البعد الإنساني، يفقد المريض الثقة، ويصبح الألم مضاعفًا، جسديًا ونفسيًا معًا. الحاكم أو القاضي… حين يغيب العدل: الحاكم أو القاضي الذي يغفل ضميره، يملأ الكرسي رهبة لا هيبة. الحل: أن يُحيي في قراراته ميزان العدالة قبل أي شيء. فحين يغيب العدل، ينهار الولاء الوطني، ويُصاب المجتمع بتآكل الثقة في مؤسساته. الزوج والزوجة… حين يغيب الوعي بالعلاقة: العلاقة التي تخلو من الإدراك والمسؤولية، هي كرسيان متقابلان لا روح بينهما. الحل: أن يفهما أن الزواج ليس عقداً اجتماعياً فحسب، بل رسالة إنسانية تبني مجتمعاً متماسكاً. وحين يغيب الوعي، يتفكك البيت، وينتج جيل لا يعرف معنى التوازن ولا الاحترام. خاتمة الكرسي ليس شرفًا، بل تكليف. وليس مكانًا يُحتل، بل مساحة تُملأ بالحكمة والإخلاص. فالمجتمعات لا تنهض بالكراسي الممتلئة بالأجساد، بل بالعقول والقلوب التي تعرف وزنها حين تجلس… وتعرف متى تنهض.
5067
| 20 أكتوبر 2025
لم تكنِ المأساةُ في غزّةَ بعددِ القتلى، بل في ترتيبِ الأولويات؛ لأن المفارقةَ تجرحُ الكرامةَ وتؤلمُ الروحَ أكثرَ من الموت. ففي الوقتِ الذي كانتْ فيهِ الأمهاتُ يبحثنَ بينَ الركامِ عن فلذاتِ أكبادِهِنَّ أو ما تبقّى منهُم، كانتْ إسرائيلُ تُحصي جثثَها وتُفاوِضُ العالمَ لتُعيدَها قبلَ أن تسمحَ بعبورِ شاحنةِ دواءٍ أو كيسِ طحينٍ. وكأنَّ جُثثَ جنودِها تَستحقُّ الضوء، بينما أَجسادُ الفلسطينيينَ تُدفنُ في العتمةِ بلا اسمٍ ولا وداعٍ ولا حتى قُبلةٍ أَخيرةٍ. فكانتِ المفاوضاتُ تُدارُ على طاولةٍ باردةٍ، فيها جُثثٌ وجوعٌ وصُراخٌ ودُموعٌ، موتٌ هنا وانتظارٌ هناك. لم يكنِ الحديثُ عن هدنةٍ أو دواءٍ، بل عن أشلاءٍ يُريدونَها أولًا، قبلَ أن تَعبُرَ شُحنةُ حياةٍ. أيُّ منطقٍ هذا الذي يجعلُ الجُثّةَ أَكثرَ استحقاقًا من الجائعِ، والنّعشَ أسبقَ من الرّغيف؟ أيُّ منطقٍ ذاك الذي يُقلِبُ موازينَ الرحمةِ حتى يُصبحَ الموتُ امتيازًا والحياةُ جريمةً؟ لقد غدتِ المساعداتُ تُوزَّعُ وفق جدولٍ زمنيٍّ للموتى، لا لاحتياجاتِ الأحياء، صارَ من يُدفنُ أَسرعَ ممن يُنقذُ، وصارتِ الشواهدُ تُرفَعُ قبلَ الأرغفةِ. في غزّةَ لم يَعُدِ الناسُ يَسألونَ متى تَصلُ المساعداتُ، بل متى تُرفَعُ القيودُ عن الهواء. فحتى التنفّسُ صارَ ترفًا يَحتاجُ تصريحًا. في كلِّ زُقاقٍ هناكَ انتظارٌ، وفي كلِّ انتظارٍ صبرُ جبلٍ، وفي كلِّ صبرٍ جُرحٌ لا يندملُ. لكنَّ رغمَ كلّ ذلك ما زالتِ المدينةُ تَلِدُ الحياةَ من قلبِ موتِها. هُم يَدفنونَ موتاهم في صناديقِ الخشبِ، ونحنُ نَدفنُ أحزانَنا في صدورِنا فتُزهِرُ أملًا يُولَدُ. هُم يَبكونَ جُنديًّا واحدًا، ونحنُ نَحمِلُ آلافَ الوُجوهِ في دَمعَةٍ تُسقي الأرضَ لتَلِدَ لنا أَحفادَ من استُشهِدوا. في غزّةَ لم يكنِ الوقتُ يَتَّسِعُ للبُكاءِ، كانوا يَلتقطونَ ما تَبقّى من الهواءِ لِيَصنَعوا منه بروحِ العزِّ والإباء. كانوا يَرونَ العالمَ يُفاوِضُ على موتاهُ، ولا أَحدَ يَذكُرُهم بكلمةٍ أو مُواساةٍ، بينما هُم يُحيونَ موتاهُم بذاكرةٍ لا تَموتُ، ومع ذلك لم يَصرُخوا، لم يَتوسَّلوا، لم يَرفَعوا رايةَ ضعفٍ، ولم يَنتظروا تلكَ الطاولةَ أن تَتكلَّمَ لهم وعَنهُم، بل رَفَعوا وُجوهَهم إلى السماء يقولون: إن لم يكن بك علينا غضبٌ فلا نُبالي. كانتِ إسرائيلُ تَحصُي خَسائِرَها في عَدَدِ الجُثَث، وغزّة تَحصُي مَكاسِبَها في عَدَدِ مَن بَقوا يَتَنفَّسون. كانت تُفاخر بأنها لا تَترُكُ قَتلاها، بينما تَترُكُ حياةَ أُمّةٍ بأَكملها تَختَنِقُ خلفَ المَعابِر. أيُّ حضارةٍ تلكَ التي تُقيمُ الطقوسَ لِموتاها، وتَمنَعُ الماءَ عن طفلٍ عطشان؟ أيُّ دولةٍ تلكَ التي تُبجِّلُ جُثَثَها وتَتركُ الإنسانيّةَ تحتَ الرُّكام؟ لقد كانتِ المفاوضاتُ صورةً مُكثَّفةً للعالمِ كُلِّه؛ عالمٍ يَقِفُ عندَ الحدودِ يَنتظر “اتِّفاقًا على الجُثَث”، بينما يَموتُ الناسُ بلا إِذنِ عُبورٍ. لقد كشفوا عن وجوهِهم حينَ آمَنوا أن عودةَ جُثّةٍ مَيتةٍ أَهمُّ من إِنقاذِ أرواحٍ تَسرِقُ الأَنفاس. لكن غزّة كالعادة كانتِ الاستثناءَ في كلِّ شيءٍ وصَدمةً للأعداءِ قبل غيرِهم، وهذا حديثهم ورأيهم. غزّة لم تَنتظر أَحدًا ليُواسيَها، ولم تَسأَل أَحدًا ليَمنَحَها حَقَّها. حينَ اِنشَغَلَ الآخرونَ بعدَّ الجُثَث، كانت تُحصي خُطواتها نحو الحياة، أَعادت تَرتيبَ أَنقاضِها كأنها تَبني وطنًا جديدًا فوقَ عِظامِ مَن ماتوا وُقوفًا بشموخ، وأَعلَنَت أنَّ النَّبضَ لا يُقاس بعددِ القلوبِ التي توقَّفَت، بل بعددِ الذين ما زالوا يَزرَعونَ المستقبل، لأنَّ المستقبل لنا. وهكذا، حين يَكتُب التاريخُ سطره الأخير، لن يَقول من الذي سلّم الجُثَث، بل من الذي أَبقى على رُوحه حيّة. لن يَذكُر عددَ التوابيت، بل عددَ القلوب التي لم تَنكسِر. دولةُ الكيان الغاصب جَمَعَت موتاها، وغزّة جمَعَت نَفسها. هم دَفَنوا أَجسادَهم، وغزّة دَفَنَت بُذورَ زيتونِها الذي سَيُضيء سَنا بَرقه كل أُفق. هم احتَفلوا بالنِّهاية، وغزّة تَفتَح فَصلًا من جديد. في غزّة، لم يَكُنِ الناس يَطلُبون المعجزات، كانوا يُريدون فقط جُرعةَ دواءٍ لِطفلٍ يحتضر، أو كِسرةَ خُبزٍ لامرأةٍ عَجوز. لكن المعابِر بَقِيَت مُغلَقة لأن الأَموات من الجانب الآخر لم يُعادوا بعد. وكأنَّ الحياة هُنا مُعلَّقة على جُثّة هناك. لم يَكُن العالم يسمع صُراخَ الأَحياء، بل كان يُصغي إلى صَمتِ القُبور التي تُرضي إسرائيل أكثر مما تُرضي الإنسانية.
3714
| 21 أكتوبر 2025