رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
ناقشت في مقالي الأسبوع الماضي في الشرق «اعتداء إسرائيل على قطر… يُسّرع بتشكيل تحالفات تردع إسرائيل!!- لتشكيل تحالف لردع إسرائيل ولجم عدوان نتنياهو وحكومته الأكثر تطرفا. وأشرت لنجاح دولة قطر بحشد موقف عربي-إسلامي-دولي-والتضامن الواسع لمكانة وما تملكه قطر من شبكة علاقات بفضل دبلوماسيتها النشطة وقوتها الناعمة ونجاح حراك القيادة القطرية بعقد قمة عربية-إسلامية استثنائية بسرعة قياسية في الدوحة. تبعها عقد اجتماع لرؤساء أركان ووزراء دفاع دول مجلس التعاون الخليجي وتفعيل مجلس الدفاع الخليجي المشترك لتعزيز التكامل الدفاعي الخليجي، وتكثيف وربط الأنظمة الدفاعية لمواجهة جميع المخاطر والتحديات بما يضمن تحقيق أمن واستقرار وسلامة دول المجلس بالتعاون والتصدي للتهديدات والاعتداءات المحتملة التي تهدد استقرار المنطقة.
وشكّل تحركات القيادة القطرية بالمشاركة الفعالة والمواقف ورسائل الشيخ تميم بن حمد في كلمته في الجمعية العامة للأمم المتحدة الثمانين في نيويورك تطورا ملفتا. ووصف الشيخ تميم بن حمد: «استهداف الهجوم الإسرائيلي حركة حماس في الدوحة ب»خرق سافر للأعراف الدولية وفعلة شنعاء صنفناها إرهاب دولة». وذكّر بالجملة التي حظيت بتعليق وترديد واسع في وسائط التواصل الاجتماعي عن خداع ومكر إرهاب الدولة-بالتعليق الملفت: «يزورون بلادنا ويخططون لقصفها والتعامل مع هذه العقلية يكاد يكون مستحيلا». وانتقد الشيخ تميم حرب إسرائيل على غزة لأن هدفها الحقيقي تدمير غزة، «لتنعدم فيها مقومات الحياة الإنسانية تمهيدا لتهجير سكانها»، معتبرًا أنه «إذا كان ثمن تحرير الرهائن هو وقف الحرب فإن حكومة إسرائيل تتخلى عنهم». وأشار الشيخ تميم الى أن رئيس الحكومة الإسرائيلية نتنياهو، دون ذكر اسمه، «يحلم أن تصبح المنطقة العربية «منطقة نفوذ إسرائيلية»... «يؤمن بما يسمى أرض إسرائيل الكاملة ويعتبرها فرصة لتوسيع المستوطنات وتغيير الوضع القائم في الحرم القدسي، ويخطط لعمليات ضم في الضفة الغربية. وأن «تغيير واقع المناطق المحتلة وفرض وقائع جديدة على الإقليم هو هدف هذه الحرب». وذكر سموه، بتحذيرات القمة العربية-الإسلامية الطارئة في الدوحة «من عواقب هذا الوهم الخطير».
وكان ملفتا الاجتماع المهم بين قادة من دول عربية-وإسلامية الثلاثاء الماضي. بحضور أمير دولة قطر وملك الأردن، والرئيس التركي أردوغان- والرئيس الإندونيسي ورئيسي وزراء باكستان ومصر ووزير خارجية المملكة العربية السعودية، ووزير خارجية دولة الإمارات مع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في نيويورك على هامش دورة انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة- وبلورة رسالة عربية-إسلامية واضحة للرئيس ترامب عن فداحة وخطر تفلت ما يقوم به نتنياهو وحكومته المتطرفة من تهديد أمن ومصالح الولايات المتحدة وحلفائها في الشرق الأوسط والحاجة الملحة لوقف حرب الإبادة في غزة وإنهاء المعاناة والتجويع وإدخال المساعدات الإنسانية الضرورية والعاجلة.
أكد البيان المشترك بعد اللقاء «شرح قادة الدول العربية والإسلامية الوضع المأساوي والكارثة الإنسانية والخسائر البشرية الفادحة، والعواقب الخطيرة على المنطقة وتأثيره على العالم الإسلامي ككل في قطاع غزة والحاجة لوقف الحرب بشكل فوري ودائم. وإطلاق سراح الرهائن والسماح بإدخال المساعدات الإنسانية الكافية بوصفه الخطوة الأولى نحو سلام عادل ودائم.
وكرر القادة الموقف المشترك في البيان الختامي للقمة العربية-الإسلامية في الدوحة، برفضهم القاطع للتهجير القسري لسكان غزة وضرورة السماح بعودة الذين غادروا. إضافة إلى ضرورة إنهاء الحرب وتحقيق وقف فوري لإطلاق النار. والالتزام بالتعاون مع ترامب، وعولوا على قيادته في إنهاء الحرب وفتح آفاق لسلام عادل ودائم. وشدد القادة على ضرورة وضع تفاصيل خطة لتحقيق الاستقرار، مع ضمان استقرار الضفة الغربية والمقدسات في القدس. وأعربوا عن دعمهم لجهود إصلاح السلطة الفلسطينية. وضرورة وضع خطة شاملة لإعادة إعمار غزة، وترتيبات أمنية، مع مساعدة دولية لدعم القيادة الفلسطينية، وأعربوا عن التزامهم بالعمل معا لضمان نجاح الخطط وضمان بناء حياة الفلسطينيين في غزة. وطالب القادة باستمرار الزخم حتى يكون اجتماع نيويورك مع الرئيس ترامب، بداية مسار على الطريق الصحيح نحو مستقبل يحقق السلام والتعاون الإقليمي.
وكان ملفتا وصف الرئيس ترامب الاجتماع مع قادة عرب ومسلمين بأنه «أهم اجتماعاتي، وهو الاجتماع الذي يهمني كثيرًا لأنه سيمكننا من إنهاء أمر ربما لم يكن يجب أن يبدأ أصلًا». «وشارك جميع اللاعبين الكبار باستثناء إسرائيل، لكن ذلك سيكون لاحقًا»- (إشارة لاجتماعه الرابع المرتقب مع نتنياهو الاثنين القادم). لمناقشة الحرب في غزة «نريد إنهاء الحرب في غزة، وربما يمكننا إنهاؤها الآن».
وأكد الشيخ تميم بن حمد مخاطبا الرئيس ترامب: «الوضع سيئ في غزة، ونلتقي بكم لفعل كل ما بوسعنا لوضع حد لهذه الحرب واستعادة الرهائن»... ونعوّل على قيادتكم لإنهاء الحرب ومساعدة سكان غزة».
لكن لم يكشف الرئيس ترامب، عن خطته لوقف حرب غزة وإدارة القطاع بعد الحرب، إلا بعد يومين من الاجتماع، الذي وصفه مبعوثه للشرق الأوسط ويتكوف بأن أجواء الاجتماع كانت إيجابية.
واضح ان اجتماع قادة دول عربية وإسلامية مع ترامب آتى أُكله. فاجأ الرئيس ترامب الجميع بتصريح ملفت بوضوحه وصرامته في اجتماعه مع الرئيس التركي أردوغان في البيت الأبيض: «لن اسمح لإسرائيل بضم الضفة الغربية»-وتم تسريب مقترح خطة ترامب تحتاج لتفاصيل وموافقة نتنياهو. وإدارة مدنية انتقالية برئاسة طوني بلير في غزة. وتقترح مشاركة قوات دول عربية وإسلامية مكان الجيش الإسرائيلي، وإعادة الإعمار. كما طالب القادة العرب والمسلمون برفض سيادة إسرائيل على الضفة الغربية. وتقديم ضمانات بعدم تكرار هجمات إسرائيلية على دول خليجية.
نشهد حراكا مهما يلجم تغول وتفلت ويعزل نتنياهو. ويمهد لمناخ أمن واستقرار وإنهاء التصعيد والحروب. يؤسس لمرحلة تعظيم المصالح والرخاء. لكن كل ذلك مرهون بقناعة ترامب بطرح القادة العرب والمسلمين، وممارسته ضغوطا فعالة على نتنياهو وتحالفه المتطرف المعزول والمنبوذ!!
بين العلم والضمير
عندما تحول العلم من وسيلة لخدمة البشرية إلى ماردٍ مارقٍ متفلّت يسير بمنطقه الخاص دون الالتفات إلى الإنسان... اقرأ المزيد
252
| 26 أكتوبر 2025
ترامب يستجيب لأمير قطر والقادة العرب ويعارض ضم الضفة
طالبت في مقال الأسبوع الماضي» تحديات وعقبات أمام نجاح اتفاقية وقف حرب إسرائيل على غزة»- الحاجة لتقديم ضمانات... اقرأ المزيد
300
| 26 أكتوبر 2025
ماذا استفادت القضية الفلسطينية بعد حرب غزة؟
شهدت القضية الفلسطينية واحدة من أكثر اللحظات دراماتيكية في تاريخها الحديث، حين اندلعت مواجهة غير مسبوقة بين فصائل... اقرأ المزيد
123
| 26 أكتوبر 2025
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
تويتر @docshayji
@docshyji
مساحة إعلانية




مساحة إعلانية
في زمنٍ تتسارع فيه التكنولوجيا وتتصارع فيه المفاهيم، باتت القيم المجتمعية في كثيرٍ من المجتمعات العربية أقرب إلى «غرفة الإنعاش» منها إلى الحياة الطبيعية. القيم التي كانت نبض الأسرة، وعماد التعليم، وسقف الخطاب الإعلامي، أصبحت اليوم غائبة أو في أحسن الأحوال موجودة بلا ممارسة. والسؤال الذي يفرض نفسه: من يُعلن حالة الطوارئ لإنقاذ القيم قبل أن تستفحل الأزمات؟ أولاً: التشخيص: القيم تختنق بين ضجيج المظاهر وسرعة التحول: لم يعد ضعف القيم مجرد ظاهرة تربوية؛ بل أزمة مجتمعية شاملة فنحن أمام جيلٍ محاط بالإعلانات والمحتوى السريع، لكنه يفتقد النماذج التي تجسّد القيم في السلوك الواقعي. ثانياً: الأدوار المتداخلة: من المسؤول؟ إنها مسؤولية تكاملية: - وزارة التربية والتعليم: إعادة بناء المناهج والأنشطة اللاصفية على قيم العمل والانتماء والمسؤولية، وربط المعرفة بالسلوك. - وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية: تجديد الخطاب الديني بلغة العصر وتحويل المساجد إلى منصات توعية مجتمعية. - وزارة الثقافة: تحويل الفنون والمهرجانات إلى رسائل تُنعش الوعي وتُعيد تعريف الجمال بالقيمة لا بالمظهر. - وزارة الإعلام: ضبط المحتوى المرئي والرقمي بما يرسّخ الوعي الجمعي ويقدّم نماذج حقيقية. - وزارة التنمية الاجتماعية: تمكين المجتمع المدني، ودعم المبادرات التطوعية، وترسيخ احترام التنوع الثقافي باعتباره قيمة لا تهديدًا. ثالثاً: الحلول: نحو حاضنات وطنية للقيم: إن مواجهة التراجع القيمي لا تكون بالشعارات، بل بإنشاء حاضنات للقيم الوطنية تعمل مثل حاضنات الأعمال، لكنها تستثمر في الإنسان لا في المال. هذه الحاضنات تجمع التربويين والإعلاميين والمثقفين وخبراء التنمية لتصميم برامج عملية في المدارس والجامعات ومراكز الشباب تُترجم القيم إلى ممارسات يومية، وتنتج مواد تعليمية وإعلامية قابلة للتكرار والقياس. كما يمكن إطلاق مؤشر وطني للقيم يُقاس عبر استطلاعات وسلوكيات مجتمعية، لتصبح القيم جزءًا من تقييم الأداء الوطني مثل الاقتصاد والتعليم. رابعا: تكامل الوزارات:غرفة عمليات مشتركة للقيم: لا بد من إطار حوكمة ؛ • إنشاء مجلس وطني للقيم يُمثّل الوزارات والجهات الأهلية، يضع سياسة موحّدة وخطة سنوية ملزِمة. مؤشرات أداء مشتركة • تُدرج في اتفاقيات الأداء لكل وزارة • منصة بيانات موحّدة لتبادل المحتوى والنتائج تُعلن للناس لتعزيز الشفافية. • حملات وطنية متزامنة تُبث في المدارس والمساجد والمنصات الرقمية والفنون، بشعار واحد ورسائل متناسقة. • عقود شراكة مع القطاع الخاص لرعاية حاضنات القيم وبرامج القدوة، وربط الحوافز الضريبية أو التفضيلية بحجم الإسهام القيمي. الختام..... من يُعلن حالة الطوارئ؟ إنقاذ القيم لا يحتاج خطابًا جديدًا بقدر ما يحتاج إرادة جماعية وإدارة محترفة. المطلوب اليوم حاضنات قيم، ومجلس تنسيقي، ومؤشرات قياس، وتمويل مستدام. عندها فقط سننقل القيم من شعارات تُرفع إلى سلوك يُمارس، ومن دروس تُتلى إلى واقع يُعاش؛ فيحيا المجتمع، وتموت الأزمات قبل أن تولد.
6315
| 24 أكتوبر 2025
ليس الفراغ في الأماكن، بل في الأشخاص الذين لم يتقنوا الجلوس في أماكنهم. كم من مقعدٍ امتلأ جسدًا، وظلّ فارغًا فكرًا، وإحساسًا، وموقفًا. الكرسي لا يمنح الهيبة، بل من يجلس عليه هو من يمنح المكان معناه. المدرب… حين يغيب التأثير: المدرب الذي لا يملأ مقعده، هو من يكرّر المعلومات دون أن يُحدث تحولًا في العقول. يشرح بجمود، ويتحدث بثقة زائفة، ثم يغادر دون أن يترك بصمة. الحل أن يفهم أن التدريب رسالة لا مهنة، وأن حضوره يقاس بتغيير الفكر والسلوك بعده. وعندما يغيب هذا الإدراك، يتحول التدريب إلى ترفٍ ممل، ويفقد المجتمع طاقاته الواعدة التي تحتاج إلى من يشعل فيها شرارة الوعي. المدير… حين يغيب القرار: المدير الذي لا يملأ كرسيه، يهرب من المسؤولية بحجة المشورة، ويُغرق فريقه في اجتماعات لا تنتهي. الحل: أن يدرك أن القرار جزء من القيادة، وأن التردد يقتل الكفاءة. وعندما يغيب المدير الفاعل، تُصاب المؤسسة بالجمود، وتتحول بيئة العمل إلى طابور انتظار طويل بلا توجيه. القائد… حين يغيب الإلهام: القائد الذي لا يملك رؤية، لا يملك أتباعًا بل موظفين. الحل: أن يزرع في فريقه الإيمان لا الخوف، وأن يرى في كل فرد طاقة لا أداة. غياب القائد الملهم يعني غياب الاتجاه، فتضيع الجهود، ويضعف الولاء المؤسسي، ويختفي الشغف الذي يصنع التميز. المعلم… حين يغيب الوعي برسالته: المعلم الذي يجلس على كرسيه ليؤدي واجبًا، لا ليصنع إنسانًا، يفرغ التعليم من رسالته. الحل: أن يدرك أنه يربّي أجيالًا لا يلقّن دروسًا. وحين يغيب وعيه، يتخرّج طلاب يعرفون الحروف ويجهلون المعنى، فيُصاب المجتمع بسطحية الفكر وضعف الانتماء. الإعلامي… حين يغيب الضمير: الإعلامي الذي لا يملأ كرسيه بالمصداقية، يصبح أداة تضليل لا منبر وعي. الحل: أن يضع الحقيقة فوق المصلحة، وأن يدرك أن الكلمة مسؤولية. وعندما يغيب ضميره، يضيع وعي الجمهور، ويتحول الإعلام إلى سوقٍ للضجيج بدل أن يكون منارة للحق. الطبيب… حين يغيب الإحساس بالإنسان: الطبيب الذي يرى في المريض رقمًا لا روحًا، ملأ كرسيه علمًا وفرّغه إنسانية. الحل: أن يتذكر أن الطب ليس مهنة إنقاذ فقط، بل مهنة رحمة. وحين يغيب هذا البعد الإنساني، يفقد المريض الثقة، ويصبح الألم مضاعفًا، جسديًا ونفسيًا معًا. الحاكم أو القاضي… حين يغيب العدل: الحاكم أو القاضي الذي يغفل ضميره، يملأ الكرسي رهبة لا هيبة. الحل: أن يُحيي في قراراته ميزان العدالة قبل أي شيء. فحين يغيب العدل، ينهار الولاء الوطني، ويُصاب المجتمع بتآكل الثقة في مؤسساته. الزوج والزوجة… حين يغيب الوعي بالعلاقة: العلاقة التي تخلو من الإدراك والمسؤولية، هي كرسيان متقابلان لا روح بينهما. الحل: أن يفهما أن الزواج ليس عقداً اجتماعياً فحسب، بل رسالة إنسانية تبني مجتمعاً متماسكاً. وحين يغيب الوعي، يتفكك البيت، وينتج جيل لا يعرف معنى التوازن ولا الاحترام. خاتمة الكرسي ليس شرفًا، بل تكليف. وليس مكانًا يُحتل، بل مساحة تُملأ بالحكمة والإخلاص. فالمجتمعات لا تنهض بالكراسي الممتلئة بالأجساد، بل بالعقول والقلوب التي تعرف وزنها حين تجلس… وتعرف متى تنهض.
5079
| 20 أكتوبر 2025
لم تكنِ المأساةُ في غزّةَ بعددِ القتلى، بل في ترتيبِ الأولويات؛ لأن المفارقةَ تجرحُ الكرامةَ وتؤلمُ الروحَ أكثرَ من الموت. ففي الوقتِ الذي كانتْ فيهِ الأمهاتُ يبحثنَ بينَ الركامِ عن فلذاتِ أكبادِهِنَّ أو ما تبقّى منهُم، كانتْ إسرائيلُ تُحصي جثثَها وتُفاوِضُ العالمَ لتُعيدَها قبلَ أن تسمحَ بعبورِ شاحنةِ دواءٍ أو كيسِ طحينٍ. وكأنَّ جُثثَ جنودِها تَستحقُّ الضوء، بينما أَجسادُ الفلسطينيينَ تُدفنُ في العتمةِ بلا اسمٍ ولا وداعٍ ولا حتى قُبلةٍ أَخيرةٍ. فكانتِ المفاوضاتُ تُدارُ على طاولةٍ باردةٍ، فيها جُثثٌ وجوعٌ وصُراخٌ ودُموعٌ، موتٌ هنا وانتظارٌ هناك. لم يكنِ الحديثُ عن هدنةٍ أو دواءٍ، بل عن أشلاءٍ يُريدونَها أولًا، قبلَ أن تَعبُرَ شُحنةُ حياةٍ. أيُّ منطقٍ هذا الذي يجعلُ الجُثّةَ أَكثرَ استحقاقًا من الجائعِ، والنّعشَ أسبقَ من الرّغيف؟ أيُّ منطقٍ ذاك الذي يُقلِبُ موازينَ الرحمةِ حتى يُصبحَ الموتُ امتيازًا والحياةُ جريمةً؟ لقد غدتِ المساعداتُ تُوزَّعُ وفق جدولٍ زمنيٍّ للموتى، لا لاحتياجاتِ الأحياء، صارَ من يُدفنُ أَسرعَ ممن يُنقذُ، وصارتِ الشواهدُ تُرفَعُ قبلَ الأرغفةِ. في غزّةَ لم يَعُدِ الناسُ يَسألونَ متى تَصلُ المساعداتُ، بل متى تُرفَعُ القيودُ عن الهواء. فحتى التنفّسُ صارَ ترفًا يَحتاجُ تصريحًا. في كلِّ زُقاقٍ هناكَ انتظارٌ، وفي كلِّ انتظارٍ صبرُ جبلٍ، وفي كلِّ صبرٍ جُرحٌ لا يندملُ. لكنَّ رغمَ كلّ ذلك ما زالتِ المدينةُ تَلِدُ الحياةَ من قلبِ موتِها. هُم يَدفنونَ موتاهم في صناديقِ الخشبِ، ونحنُ نَدفنُ أحزانَنا في صدورِنا فتُزهِرُ أملًا يُولَدُ. هُم يَبكونَ جُنديًّا واحدًا، ونحنُ نَحمِلُ آلافَ الوُجوهِ في دَمعَةٍ تُسقي الأرضَ لتَلِدَ لنا أَحفادَ من استُشهِدوا. في غزّةَ لم يكنِ الوقتُ يَتَّسِعُ للبُكاءِ، كانوا يَلتقطونَ ما تَبقّى من الهواءِ لِيَصنَعوا منه بروحِ العزِّ والإباء. كانوا يَرونَ العالمَ يُفاوِضُ على موتاهُ، ولا أَحدَ يَذكُرُهم بكلمةٍ أو مُواساةٍ، بينما هُم يُحيونَ موتاهُم بذاكرةٍ لا تَموتُ، ومع ذلك لم يَصرُخوا، لم يَتوسَّلوا، لم يَرفَعوا رايةَ ضعفٍ، ولم يَنتظروا تلكَ الطاولةَ أن تَتكلَّمَ لهم وعَنهُم، بل رَفَعوا وُجوهَهم إلى السماء يقولون: إن لم يكن بك علينا غضبٌ فلا نُبالي. كانتِ إسرائيلُ تَحصُي خَسائِرَها في عَدَدِ الجُثَث، وغزّة تَحصُي مَكاسِبَها في عَدَدِ مَن بَقوا يَتَنفَّسون. كانت تُفاخر بأنها لا تَترُكُ قَتلاها، بينما تَترُكُ حياةَ أُمّةٍ بأَكملها تَختَنِقُ خلفَ المَعابِر. أيُّ حضارةٍ تلكَ التي تُقيمُ الطقوسَ لِموتاها، وتَمنَعُ الماءَ عن طفلٍ عطشان؟ أيُّ دولةٍ تلكَ التي تُبجِّلُ جُثَثَها وتَتركُ الإنسانيّةَ تحتَ الرُّكام؟ لقد كانتِ المفاوضاتُ صورةً مُكثَّفةً للعالمِ كُلِّه؛ عالمٍ يَقِفُ عندَ الحدودِ يَنتظر “اتِّفاقًا على الجُثَث”، بينما يَموتُ الناسُ بلا إِذنِ عُبورٍ. لقد كشفوا عن وجوهِهم حينَ آمَنوا أن عودةَ جُثّةٍ مَيتةٍ أَهمُّ من إِنقاذِ أرواحٍ تَسرِقُ الأَنفاس. لكن غزّة كالعادة كانتِ الاستثناءَ في كلِّ شيءٍ وصَدمةً للأعداءِ قبل غيرِهم، وهذا حديثهم ورأيهم. غزّة لم تَنتظر أَحدًا ليُواسيَها، ولم تَسأَل أَحدًا ليَمنَحَها حَقَّها. حينَ اِنشَغَلَ الآخرونَ بعدَّ الجُثَث، كانت تُحصي خُطواتها نحو الحياة، أَعادت تَرتيبَ أَنقاضِها كأنها تَبني وطنًا جديدًا فوقَ عِظامِ مَن ماتوا وُقوفًا بشموخ، وأَعلَنَت أنَّ النَّبضَ لا يُقاس بعددِ القلوبِ التي توقَّفَت، بل بعددِ الذين ما زالوا يَزرَعونَ المستقبل، لأنَّ المستقبل لنا. وهكذا، حين يَكتُب التاريخُ سطره الأخير، لن يَقول من الذي سلّم الجُثَث، بل من الذي أَبقى على رُوحه حيّة. لن يَذكُر عددَ التوابيت، بل عددَ القلوب التي لم تَنكسِر. دولةُ الكيان الغاصب جَمَعَت موتاها، وغزّة جمَعَت نَفسها. هم دَفَنوا أَجسادَهم، وغزّة دَفَنَت بُذورَ زيتونِها الذي سَيُضيء سَنا بَرقه كل أُفق. هم احتَفلوا بالنِّهاية، وغزّة تَفتَح فَصلًا من جديد. في غزّة، لم يَكُنِ الناس يَطلُبون المعجزات، كانوا يُريدون فقط جُرعةَ دواءٍ لِطفلٍ يحتضر، أو كِسرةَ خُبزٍ لامرأةٍ عَجوز. لكن المعابِر بَقِيَت مُغلَقة لأن الأَموات من الجانب الآخر لم يُعادوا بعد. وكأنَّ الحياة هُنا مُعلَّقة على جُثّة هناك. لم يَكُن العالم يسمع صُراخَ الأَحياء، بل كان يُصغي إلى صَمتِ القُبور التي تُرضي إسرائيل أكثر مما تُرضي الإنسانية.
3801
| 21 أكتوبر 2025