رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
سيطر مسلحون حوثيون على منطقة مهمة وسط محافظة البيضاء بعد أن انسحب رجال القبائل يدعمهم ما يسمى بتنظيم (أنصار الشريعة) جراء القصف الجوي المكثف من طائرات "الدرونز" الأمريكية يسندها الطيران الحربي اليمني في عملية عسكرية مشتركة تعد الأولى من نوعها على صعيد التنسيق الأمريكي المكشوف مع "أنصار الله" الذين يرفعون شعار "الموت لأمريكا"، بينما تمهد لهم واشنطن الطريق لبسط نفوذهم في المناطق السنية، وهذه من المفارقات الكبيرة التي جعلت الشارع اليمني ينظر بكثير من التهكم والسخرية إلى شعارات الحوثيين أو كما يحبون أن يطلقوا على أنفسهم مسميات تمنحهم القداسة والقبول ومنها أيضا أتباع "المسيرة القرآنية" فلم تقتل شعاراتهم العدائية وزغة أمريكية أو إسرائيلية، بل إن الموت أصبح بفضل "مسيرتهم المخلصة"! طاعونا يزهق أرواح اليمنيين الأبرياء، أطفالا ونساء من الجو والبر.
كثير من الأمور السياسوية كانت تنطلي على الإنسان اليمني والعربي البسيط، ثقافة ووعيا سياسيا، بما يدور حوله من أحداث ومؤامرات لكن إقلاع الطائرات العسكرية الأمريكية هذه المرة من قاعدة في المحيط الهندي لتقدم المدد للحوثيين ومشاركة الطيران الحربي اليمني بأمر من الرئيس عبد ربه منصور هادي كشف المستور للجميع، وأكد حقائق كان ينظر إليها على أنها تخرصات محللين أو معلومات غير مؤكدة، إذا لم يعد هناك من شك بوجود تحالف أمريكي إيراني في اليمن يهدف إلى تحقيق هدف كل طرف، بالنسبة للأمريكيين فإن هدفهم المعلن هو ضرب تنظيم القاعدة وحماية خطوط الملاحة الدولية باعتبار موقع اليمن الإستراتيجي.
أما هدف إيران فهو بسط نفوذها في خاصرة أكبر دولة خليجية سنية المذهب، لكن الطرفين المتحالفين يسعيان لتحقيق أهدافهما بقليل من الجهد والمال عبر أطراف أخرى، بعضها ينفذ والبعض الآخر يدفع الأموال، فقد مارست الدبلوماسية الأمريكية ضغوطاً كبيرة في مجلس الأمن لتمنع صدور قرار يحدد أسماء معرقلي التسوية السياسية السلمية في اليمن، وعندما سيطر الحوثيون على عاصمة البلاد وأغلب محافظاتها وبعثروا الجيش وقوى الأمن ونهبوا العتاد العسكري بمساعدة من الرئيس المخلوع علي عبد الله صالح وحزبه المتهالك ودعم خليجي سني سمح لمجلس الأمن أن يكشف للعالم أسماء المعرقلين الخمسة ولكن بعد انهيار الدولة وصعوبة تحقيق أي تسوية سياسية على ما كان يعرف بالجمهورية اليمنية، سواء عبر بنود المبادرة الخليجية المقبورة أو حتى وفق اتفاق السلم والشراكة الوطنية الذي وقعته القوى السياسية تحت حد سيف الحوثي في يوم سقوط صنعاء.
الإيرانيون يكسبون كل يوم، سواء في المفاوضات على الملف النووي أو في النفوذ الجيوإستراتيجي في المنطقة العربية، حيث أصبحت رابع عاصمة عربية تحت نفوذهم، فقد نجحوا في تحويل أهل السنة إلى أهداف إرهابية على اعتبار أن مذهبهم يدعو إلى اجتثاث الآخر المختلف، نجحوا أيضا في تكوين تحالف دولي كبير ضد تنظيم الدولة الإسلامية في العراق وسوريا دون أن يكونوا طرفا فيه، ربما لكي لا يستعدوا كل أهل السنة وفي المقابل حولوا الأنظار من نظام الأسد الذي أجرم في حق شعبه إلى ضرورة التخلص من الحالة الداعشية وهنا تورطت في المؤامرة أكبر الدول السنية كعادتها في دعم ضرب داعش وحواضنه الشعبية ولم ينس الغرب أن يشيد بالسعودية ويبين مميزات مشاركتها في هذه الحرب، بأنها تمثل قبلة روحية لكل المسلمين وتزخر بثروات مادية هائلة تمكنها من تقديم دعم مالي على المدى الطويل يحقق النصر على الإرهاب، كما أن مراكز تدريب المتطوعين لحرب الدواعش على أرضها سيكون أكثر جدوى باعتبار القرب والعتاد العسكري السعودي المتطور.
الإعلام الإيراني يقول الآن إن الحوثيين يخوضون حربا نيابة عن المجتمع الدولي ضد دواعش اليمن وأن الحوثيين أصبحوا بما يملكونه من قوة وسيطرة على الأرض الضامن الوحيد لكبح جماح تنظيم القاعدة في بلاد العرب، لكن يبدو أن التحالف الأمريكي الإيراني في اليمن على وجه الخصوص وفر حاضنة شعبية لتنظيم القاعدة بعد أن كان معزولا، شعبيا وسياسيا، خاصة أن الكثير من ثوار ١١ فبراير ٢٠١١ كانوا يرون في القاعدة تهديدا للدولة المدنية التي حلم بها كل اليمنيين، أما اليوم فربما تحفز الكثير من الشباب المعارض لسياسات حزب التجمع اليمني للإصلاح السلمية، ليشكلوا مددا كبيرا لتنظيم أنصار الشريعة، وهي التسمية الجديدة لتنظيم القاعدة في اليمن، وهنا تفشل من جديد السياسة الأمريكية في حربها على القاعدة في اليمن وبدل أن كان الخطر محدودا في بعض المناطق الجنوبية تمددت القاعدة في عدد من المحافظات، منها إب والبيضاء، مسنودة بدعم شعبي من رجال القبائل الذين يرون في الحوثيين مذهبا اثنى عشريا غريبا عما ألفوه أثناء قرون التعايش السلمي بين المذهبين الشافعي والزيدي.. إذا نحن هنا بصدد تشكل نسخة جديدة من الصراع على غرار الحرب المذهبية في العراق وسوريا.
التحالف الأمريكي الإيراني ليس وليد اللحظة، فعلى مدى أكثر من ربع قرن لعبت أمريكا دورا كبيرا في نجاح ثورة الخميني، وما كان أحد يتخيل نجاح الثورة بمنأى عن دعم واشنطن التي قلبت ظهر المجن لحليفها السابق الشاه محمد رضا بهلوي، ورغم الشعارات الجوفاء "الموت لأمريكا الموت لإسرائيل"، إلا أن فضيحة "إيران غيت" كشفت ورقة التوت عن سوءة النظام الإيراني الجديد، وبعد ذلك ازداد حجم التعاون بإسقاط نظام طالبان وصدام حسين وسيطرة الشيعة على كل مفاصل الدولة العراقية وغض الولايات المتحدة الطرف عن انتهاكات النظام الإيراني لحقوق الأقليات المضطهدة، كما أن النظام السوري الحليف الإستراتيجي لإيران ظل يقتل شعبه ولم تحرك واشنطن ساكنا سوى إدانات لا تهش ذبابا.
سلوك الأمريكيين ينطلق من مصالحهم الإستراتيجية ومصالح إسرائيل ولذلك فهم يضحون حتى بمصالح أقرب حلفائهم كما فعلت الآن مع السعودية، إذ تركتها تواجه قدر تمدد الشيعة في كل حدودها ولم يجد الإعلام السعودي من يلوم سوى شن هجوم على الرئيس اليمني المخلوع علي عبد الله صالح بأنه خدعهم وأخلَّ بوعوده لهم، بل وأصبح حليفا لإيران إلى جانب الحوثي، مما يجعل اليوم عين الإيرانيين على برج الساعة بألوانه الخضراء والذهبية الزاهية الذي تتوجه إليه كل لحظة كاميرات الحرم المكي.
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية




مساحة إعلانية
ليس الفراغ في الأماكن، بل في الأشخاص الذين لم يتقنوا الجلوس في أماكنهم. كم من مقعدٍ امتلأ جسدًا، وظلّ فارغًا فكرًا، وإحساسًا، وموقفًا. الكرسي لا يمنح الهيبة، بل من يجلس عليه هو من يمنح المكان معناه. المدرب… حين يغيب التأثير: المدرب الذي لا يملأ مقعده، هو من يكرّر المعلومات دون أن يُحدث تحولًا في العقول. يشرح بجمود، ويتحدث بثقة زائفة، ثم يغادر دون أن يترك بصمة. الحل أن يفهم أن التدريب رسالة لا مهنة، وأن حضوره يقاس بتغيير الفكر والسلوك بعده. وعندما يغيب هذا الإدراك، يتحول التدريب إلى ترفٍ ممل، ويفقد المجتمع طاقاته الواعدة التي تحتاج إلى من يشعل فيها شرارة الوعي. المدير… حين يغيب القرار: المدير الذي لا يملأ كرسيه، يهرب من المسؤولية بحجة المشورة، ويُغرق فريقه في اجتماعات لا تنتهي. الحل: أن يدرك أن القرار جزء من القيادة، وأن التردد يقتل الكفاءة. وعندما يغيب المدير الفاعل، تُصاب المؤسسة بالجمود، وتتحول بيئة العمل إلى طابور انتظار طويل بلا توجيه. القائد… حين يغيب الإلهام: القائد الذي لا يملك رؤية، لا يملك أتباعًا بل موظفين. الحل: أن يزرع في فريقه الإيمان لا الخوف، وأن يرى في كل فرد طاقة لا أداة. غياب القائد الملهم يعني غياب الاتجاه، فتضيع الجهود، ويضعف الولاء المؤسسي، ويختفي الشغف الذي يصنع التميز. المعلم… حين يغيب الوعي برسالته: المعلم الذي يجلس على كرسيه ليؤدي واجبًا، لا ليصنع إنسانًا، يفرغ التعليم من رسالته. الحل: أن يدرك أنه يربّي أجيالًا لا يلقّن دروسًا. وحين يغيب وعيه، يتخرّج طلاب يعرفون الحروف ويجهلون المعنى، فيُصاب المجتمع بسطحية الفكر وضعف الانتماء. الإعلامي… حين يغيب الضمير: الإعلامي الذي لا يملأ كرسيه بالمصداقية، يصبح أداة تضليل لا منبر وعي. الحل: أن يضع الحقيقة فوق المصلحة، وأن يدرك أن الكلمة مسؤولية. وعندما يغيب ضميره، يضيع وعي الجمهور، ويتحول الإعلام إلى سوقٍ للضجيج بدل أن يكون منارة للحق. الطبيب… حين يغيب الإحساس بالإنسان: الطبيب الذي يرى في المريض رقمًا لا روحًا، ملأ كرسيه علمًا وفرّغه إنسانية. الحل: أن يتذكر أن الطب ليس مهنة إنقاذ فقط، بل مهنة رحمة. وحين يغيب هذا البعد الإنساني، يفقد المريض الثقة، ويصبح الألم مضاعفًا، جسديًا ونفسيًا معًا. الحاكم أو القاضي… حين يغيب العدل: الحاكم أو القاضي الذي يغفل ضميره، يملأ الكرسي رهبة لا هيبة. الحل: أن يُحيي في قراراته ميزان العدالة قبل أي شيء. فحين يغيب العدل، ينهار الولاء الوطني، ويُصاب المجتمع بتآكل الثقة في مؤسساته. الزوج والزوجة… حين يغيب الوعي بالعلاقة: العلاقة التي تخلو من الإدراك والمسؤولية، هي كرسيان متقابلان لا روح بينهما. الحل: أن يفهما أن الزواج ليس عقداً اجتماعياً فحسب، بل رسالة إنسانية تبني مجتمعاً متماسكاً. وحين يغيب الوعي، يتفكك البيت، وينتج جيل لا يعرف معنى التوازن ولا الاحترام. خاتمة الكرسي ليس شرفًا، بل تكليف. وليس مكانًا يُحتل، بل مساحة تُملأ بالحكمة والإخلاص. فالمجتمعات لا تنهض بالكراسي الممتلئة بالأجساد، بل بالعقول والقلوب التي تعرف وزنها حين تجلس… وتعرف متى تنهض.
5067
| 20 أكتوبر 2025
في زمنٍ تتسارع فيه التكنولوجيا وتتصارع فيه المفاهيم، باتت القيم المجتمعية في كثيرٍ من المجتمعات العربية أقرب إلى «غرفة الإنعاش» منها إلى الحياة الطبيعية. القيم التي كانت نبض الأسرة، وعماد التعليم، وسقف الخطاب الإعلامي، أصبحت اليوم غائبة أو في أحسن الأحوال موجودة بلا ممارسة. والسؤال الذي يفرض نفسه: من يُعلن حالة الطوارئ لإنقاذ القيم قبل أن تستفحل الأزمات؟ أولاً: التشخيص: القيم تختنق بين ضجيج المظاهر وسرعة التحول: لم يعد ضعف القيم مجرد ظاهرة تربوية؛ بل أزمة مجتمعية شاملة فنحن أمام جيلٍ محاط بالإعلانات والمحتوى السريع، لكنه يفتقد النماذج التي تجسّد القيم في السلوك الواقعي. ثانياً: الأدوار المتداخلة: من المسؤول؟ إنها مسؤولية تكاملية: - وزارة التربية والتعليم: إعادة بناء المناهج والأنشطة اللاصفية على قيم العمل والانتماء والمسؤولية، وربط المعرفة بالسلوك. - وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية: تجديد الخطاب الديني بلغة العصر وتحويل المساجد إلى منصات توعية مجتمعية. - وزارة الثقافة: تحويل الفنون والمهرجانات إلى رسائل تُنعش الوعي وتُعيد تعريف الجمال بالقيمة لا بالمظهر. - وزارة الإعلام: ضبط المحتوى المرئي والرقمي بما يرسّخ الوعي الجمعي ويقدّم نماذج حقيقية. - وزارة التنمية الاجتماعية: تمكين المجتمع المدني، ودعم المبادرات التطوعية، وترسيخ احترام التنوع الثقافي باعتباره قيمة لا تهديدًا. ثالثاً: الحلول: نحو حاضنات وطنية للقيم: إن مواجهة التراجع القيمي لا تكون بالشعارات، بل بإنشاء حاضنات للقيم الوطنية تعمل مثل حاضنات الأعمال، لكنها تستثمر في الإنسان لا في المال. هذه الحاضنات تجمع التربويين والإعلاميين والمثقفين وخبراء التنمية لتصميم برامج عملية في المدارس والجامعات ومراكز الشباب تُترجم القيم إلى ممارسات يومية، وتنتج مواد تعليمية وإعلامية قابلة للتكرار والقياس. كما يمكن إطلاق مؤشر وطني للقيم يُقاس عبر استطلاعات وسلوكيات مجتمعية، لتصبح القيم جزءًا من تقييم الأداء الوطني مثل الاقتصاد والتعليم. رابعا: تكامل الوزارات:غرفة عمليات مشتركة للقيم: لا بد من إطار حوكمة ؛ • إنشاء مجلس وطني للقيم يُمثّل الوزارات والجهات الأهلية، يضع سياسة موحّدة وخطة سنوية ملزِمة. مؤشرات أداء مشتركة • تُدرج في اتفاقيات الأداء لكل وزارة • منصة بيانات موحّدة لتبادل المحتوى والنتائج تُعلن للناس لتعزيز الشفافية. • حملات وطنية متزامنة تُبث في المدارس والمساجد والمنصات الرقمية والفنون، بشعار واحد ورسائل متناسقة. • عقود شراكة مع القطاع الخاص لرعاية حاضنات القيم وبرامج القدوة، وربط الحوافز الضريبية أو التفضيلية بحجم الإسهام القيمي. الختام..... من يُعلن حالة الطوارئ؟ إنقاذ القيم لا يحتاج خطابًا جديدًا بقدر ما يحتاج إرادة جماعية وإدارة محترفة. المطلوب اليوم حاضنات قيم، ومجلس تنسيقي، ومؤشرات قياس، وتمويل مستدام. عندها فقط سننقل القيم من شعارات تُرفع إلى سلوك يُمارس، ومن دروس تُتلى إلى واقع يُعاش؛ فيحيا المجتمع، وتموت الأزمات قبل أن تولد.
4917
| 24 أكتوبر 2025
لم تكنِ المأساةُ في غزّةَ بعددِ القتلى، بل في ترتيبِ الأولويات؛ لأن المفارقةَ تجرحُ الكرامةَ وتؤلمُ الروحَ أكثرَ من الموت. ففي الوقتِ الذي كانتْ فيهِ الأمهاتُ يبحثنَ بينَ الركامِ عن فلذاتِ أكبادِهِنَّ أو ما تبقّى منهُم، كانتْ إسرائيلُ تُحصي جثثَها وتُفاوِضُ العالمَ لتُعيدَها قبلَ أن تسمحَ بعبورِ شاحنةِ دواءٍ أو كيسِ طحينٍ. وكأنَّ جُثثَ جنودِها تَستحقُّ الضوء، بينما أَجسادُ الفلسطينيينَ تُدفنُ في العتمةِ بلا اسمٍ ولا وداعٍ ولا حتى قُبلةٍ أَخيرةٍ. فكانتِ المفاوضاتُ تُدارُ على طاولةٍ باردةٍ، فيها جُثثٌ وجوعٌ وصُراخٌ ودُموعٌ، موتٌ هنا وانتظارٌ هناك. لم يكنِ الحديثُ عن هدنةٍ أو دواءٍ، بل عن أشلاءٍ يُريدونَها أولًا، قبلَ أن تَعبُرَ شُحنةُ حياةٍ. أيُّ منطقٍ هذا الذي يجعلُ الجُثّةَ أَكثرَ استحقاقًا من الجائعِ، والنّعشَ أسبقَ من الرّغيف؟ أيُّ منطقٍ ذاك الذي يُقلِبُ موازينَ الرحمةِ حتى يُصبحَ الموتُ امتيازًا والحياةُ جريمةً؟ لقد غدتِ المساعداتُ تُوزَّعُ وفق جدولٍ زمنيٍّ للموتى، لا لاحتياجاتِ الأحياء، صارَ من يُدفنُ أَسرعَ ممن يُنقذُ، وصارتِ الشواهدُ تُرفَعُ قبلَ الأرغفةِ. في غزّةَ لم يَعُدِ الناسُ يَسألونَ متى تَصلُ المساعداتُ، بل متى تُرفَعُ القيودُ عن الهواء. فحتى التنفّسُ صارَ ترفًا يَحتاجُ تصريحًا. في كلِّ زُقاقٍ هناكَ انتظارٌ، وفي كلِّ انتظارٍ صبرُ جبلٍ، وفي كلِّ صبرٍ جُرحٌ لا يندملُ. لكنَّ رغمَ كلّ ذلك ما زالتِ المدينةُ تَلِدُ الحياةَ من قلبِ موتِها. هُم يَدفنونَ موتاهم في صناديقِ الخشبِ، ونحنُ نَدفنُ أحزانَنا في صدورِنا فتُزهِرُ أملًا يُولَدُ. هُم يَبكونَ جُنديًّا واحدًا، ونحنُ نَحمِلُ آلافَ الوُجوهِ في دَمعَةٍ تُسقي الأرضَ لتَلِدَ لنا أَحفادَ من استُشهِدوا. في غزّةَ لم يكنِ الوقتُ يَتَّسِعُ للبُكاءِ، كانوا يَلتقطونَ ما تَبقّى من الهواءِ لِيَصنَعوا منه بروحِ العزِّ والإباء. كانوا يَرونَ العالمَ يُفاوِضُ على موتاهُ، ولا أَحدَ يَذكُرُهم بكلمةٍ أو مُواساةٍ، بينما هُم يُحيونَ موتاهُم بذاكرةٍ لا تَموتُ، ومع ذلك لم يَصرُخوا، لم يَتوسَّلوا، لم يَرفَعوا رايةَ ضعفٍ، ولم يَنتظروا تلكَ الطاولةَ أن تَتكلَّمَ لهم وعَنهُم، بل رَفَعوا وُجوهَهم إلى السماء يقولون: إن لم يكن بك علينا غضبٌ فلا نُبالي. كانتِ إسرائيلُ تَحصُي خَسائِرَها في عَدَدِ الجُثَث، وغزّة تَحصُي مَكاسِبَها في عَدَدِ مَن بَقوا يَتَنفَّسون. كانت تُفاخر بأنها لا تَترُكُ قَتلاها، بينما تَترُكُ حياةَ أُمّةٍ بأَكملها تَختَنِقُ خلفَ المَعابِر. أيُّ حضارةٍ تلكَ التي تُقيمُ الطقوسَ لِموتاها، وتَمنَعُ الماءَ عن طفلٍ عطشان؟ أيُّ دولةٍ تلكَ التي تُبجِّلُ جُثَثَها وتَتركُ الإنسانيّةَ تحتَ الرُّكام؟ لقد كانتِ المفاوضاتُ صورةً مُكثَّفةً للعالمِ كُلِّه؛ عالمٍ يَقِفُ عندَ الحدودِ يَنتظر “اتِّفاقًا على الجُثَث”، بينما يَموتُ الناسُ بلا إِذنِ عُبورٍ. لقد كشفوا عن وجوهِهم حينَ آمَنوا أن عودةَ جُثّةٍ مَيتةٍ أَهمُّ من إِنقاذِ أرواحٍ تَسرِقُ الأَنفاس. لكن غزّة كالعادة كانتِ الاستثناءَ في كلِّ شيءٍ وصَدمةً للأعداءِ قبل غيرِهم، وهذا حديثهم ورأيهم. غزّة لم تَنتظر أَحدًا ليُواسيَها، ولم تَسأَل أَحدًا ليَمنَحَها حَقَّها. حينَ اِنشَغَلَ الآخرونَ بعدَّ الجُثَث، كانت تُحصي خُطواتها نحو الحياة، أَعادت تَرتيبَ أَنقاضِها كأنها تَبني وطنًا جديدًا فوقَ عِظامِ مَن ماتوا وُقوفًا بشموخ، وأَعلَنَت أنَّ النَّبضَ لا يُقاس بعددِ القلوبِ التي توقَّفَت، بل بعددِ الذين ما زالوا يَزرَعونَ المستقبل، لأنَّ المستقبل لنا. وهكذا، حين يَكتُب التاريخُ سطره الأخير، لن يَقول من الذي سلّم الجُثَث، بل من الذي أَبقى على رُوحه حيّة. لن يَذكُر عددَ التوابيت، بل عددَ القلوب التي لم تَنكسِر. دولةُ الكيان الغاصب جَمَعَت موتاها، وغزّة جمَعَت نَفسها. هم دَفَنوا أَجسادَهم، وغزّة دَفَنَت بُذورَ زيتونِها الذي سَيُضيء سَنا بَرقه كل أُفق. هم احتَفلوا بالنِّهاية، وغزّة تَفتَح فَصلًا من جديد. في غزّة، لم يَكُنِ الناس يَطلُبون المعجزات، كانوا يُريدون فقط جُرعةَ دواءٍ لِطفلٍ يحتضر، أو كِسرةَ خُبزٍ لامرأةٍ عَجوز. لكن المعابِر بَقِيَت مُغلَقة لأن الأَموات من الجانب الآخر لم يُعادوا بعد. وكأنَّ الحياة هُنا مُعلَّقة على جُثّة هناك. لم يَكُن العالم يسمع صُراخَ الأَحياء، بل كان يُصغي إلى صَمتِ القُبور التي تُرضي إسرائيل أكثر مما تُرضي الإنسانية.
3699
| 21 أكتوبر 2025