رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

Al-sharq

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

الشرق

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

د. أحمد المحمدي

مساحة إعلانية

مقالات

189

د. أحمد المحمدي

التفكير التضخيمي خطره وعلاجه

09 نوفمبر 2025 , 06:06ص

في زوايا النفس، حيث تتناوب الهموم والظنون، وتتصاعد الأصوات الخافتة في دهاليز الفكر، يولد التفكير التضخيمي؛ ذلك النمط الذهني الذي يهوّل الأمور، ويُكبّر التفاصيل حتى تصير الجبال من الحصى، ويحول المواقف العابرة إلى معارك وجود. هو تلك العدسة المشوهة التي يضعها العقل على عينيه، فلا يرى من الواقع إلا ظلاله المقلقة، ولا يقرأ من الأحداث إلا وجوهها السوداء.

إن التفكير التضخيمي ليس مجرد عادة فكرية، بل هو اضطراب في إدراك النسبة بين الشيء وقدره، وخلل في ميزان النظر إلى الوقائع. ينشأ غالبًا من بيئة نفسية يغلب عليها القلق، ومن تربية تزرع الخوف من الخطأ، أو من تجربة مؤلمة علمت الإنسان أن يتوجس من كل قادم. حينها يختلط الحذر بالهلع، ويضيع الحد بين التوقع الطبيعي والمبالغة المرضية، فيتحول الذهن إلى ساحة مفتوحة للظنون، تشتعل فيها كل فكرة صغيرة حتى تصبح نارًا تلتهم راحة القلب.

ملامحه وصفاته

من أبرز سمات هذا التفكير أن يعيش صاحبه في حالة ترقب دائم، كمن ينتظر مصيبة لم تقع بعد، ويقرأ في صمت الأيام إنذارًا خفيًا، وفي كل تأخر أو تغير في المألوف، دليلًا على شر قادم. يرى الغد عدوًا متربصًا، ويحمّل الحاضر ما لا يحتمل من الهواجس. يتضاعف خوفه من المستقبل لأنه فقد الثقة في المدبر سبحانه، ويفر من واقعه لأنه لا يرى فيه لطفًا ولا حكمة.

هو إنسان يعيش في خيال يهدده، وفي ظلال فكرة لم تتجسد، يرى الخطر قبل أن يوجد، ويستسلم لصور وهمية من الفقد والألم. يظن أن كل نظرة تخفي نقدًا، وكل تأخير يحمل مؤامرة، وكل تجربة فاشلة نذير نهاية. فلا عجب أن يفقد طمأنينته، لأن نفسه أرهقتها صناعة العواصف من النسيم.

 آثاره على النفس والحياة

آثار التفكير التضخيمي عميقة ومتشعبة. فهو يستنزف طاقة الإنسان النفسية قبل أن يرهق جسده. يبدد الصفاء الداخلي، ويغتال الهدوء في لحظات السكون، فيعيش صاحبه بين مطرقة الندم على الماضي وسندان الخوف من القادم. لا يهنأ بلذة الحاضر، لأن ذهنه منشغل بما لم يقع بعد، ولا يطمئن إلى قدره، لأن في داخله يقينًا خفيًا بأن الشر أقرب من الخير.

ومن آثاره كذلك: اضطراب العلاقات الاجتماعية، إذ يسيء صاحبه تأويل المواقف والنوايا، فيظن بالناس السوء، ويهرب من الحوار خوفًا من المواجهة، ويفقد قدرته على اتخاذ القرار لأن الخطر في نظره يترصد كل خطوة. تتقلص دائرة حياته شيئًا فشيئًا حتى يصبح أسيرًا لفكرة واحدة، سجينا لعقله الذي لا يهدأ.

 العلاج والتعافي

ليس علاج هذا النمط في القمع أو التجاهل، ولا في محاولات التفكير الإيجابي السطحية، بل في إعادة بناء العلاقة بين الفكر والإيمان. فالعقل إن لم يستند إلى يقين التوحيد، ضل في متاهات الخوف، وصار يضخم المجهول لأنه فقد ميزان الثقة بالله. إن أول خطوة في العلاج أن يدرك المرء أن الأمور بقدر، وأنه لا يقع في الكون شيء عبثًا، كما قال الله تعالى:

﴿قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ [التوبة: ٥١].

بهذا اليقين، تبدأ النفس في استعادة توازنها، ويستعيد العقل قدرته على رؤية الأشياء كما هي، لا كما يخاف أن تكون. وكلما ازداد الإيمان بالقدر، تقلص الخوف من المستقبل، لأن المؤمن يعلم أن تدبير الله له أوسع من تدبيره لنفسه.

ثم يأتي الجانب العملي: أن يدرب الإنسان نفسه على الوعي بالفكر حين ينشأ، فيلاحظ المبالغة دون أن ينخرط فيها، وأن يتنفس بعمق حين تهاجمه الفكرة الكارثية، وأن يذكّر نفسه بأن الخطر المتخيَّل لا يساوي جهد الخوف منه. ويمكن أن يستعين بالعلاج المعرفي السلوكي الذي يساعد على إعادة تشكيل المفاهيم، وضبط المنطق الداخلي الذي يضخم الأمور.

قال تعالى: ﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ﴾ [البقرة: ٢١٦]، فهي الآية التي تهدم جذور التفكير التضخيمي من أعماق النفس؛ لأن فيها يقينًا بأن وراء كل أمر وجه خير وإن خفي، وأن الخوف في جوهره سوء ظن بلطف الله.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «عجبًا لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحدٍ إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له» (رواه مسلم).

فهذا الحديث يضع قاعدة ذهبية في طمأنينة النفس؛ إذ يجعل الإنسان يرى في كل قدر بابًا إلى الخير، وفي كل محنة معنى من الرحمة الإلهية، فينقلب الخوف سكينة، والقلق رضا، والاضطراب طمأنينة.

إن التفكير التضخيمي ينهزم أمام الإيمان الراسخ، لأن اليقين بالله يختصر كل احتمالات الشر في جملة واحدة: “لن يصيبني إلا ما كتب الله لي”، وعندها يعود الاتزان إلى النفس، فيتوازن الإدراك، وتصفو الرؤية، ويعود الخيال إلى مجاله الجميل، مجال الإبداع لا الخوف، والتفكير لا التهويل.

وهكذا يتعافى القلب حين يضعف سلطان الوهم، ويقوى سلطان الإيمان.

مساحة إعلانية