رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
لا يوجد إنسان أو مؤسسة أو دولة على وجه البسيطة إلا وتنفق على احتياجاتها ورغباتها الاستهلاكية والاقتصادية. وإن كان هذا هو المعنى الاصطلاحي، فإن العجيب هو المعنى اللغوي للكلمة؛ حيث إن مصدرها اللغوي يأتي من أصل معاني الهلاك كهلك وأهلك أي ما يصطلح على زوال المنافع التي وجد الشيء من أجلها أو نهاية حياة الشيء. فيا لنفع لغتنا التي بينت حكمة الأمر من لفظ الكلمة قبل تعريفها. إن أهمية ارتباط الأمر أوسع من ذلك بكثير، لأنني أسأل؛ هل هناك فرق بين والإسراف والتبذير؟ فالإسراف لغةً هو التجاوز والزيادة في الحد، والتبذير هو صرف المال بتجاوز فيما لا ينبغي. فإن استهلاك الإنسان بتبذير وإسراف يؤدي إلى الدمار والخراب والهلاك الحتمي.
تختلف ثقافات الإسراف والتبذير حول العالم، فعند اليابانيين مثلاً فإن الطعام الكثير مثل الأمر الحاصل في ثقافتنا العربية قد يكون أمراً مستهجناً وغير مرغوب. وفي المقابل فإن كثرته على المائدة العربية يعتبر مثالا للكرم العربي الأصيل. تذكرت قصةً ذات عبرة لشخص سائح مرتاد لمطعم في أحد المدن الأوروبية قد طلب فوق الحد الذي يكفيه؟ وإذ بمدير المطعم يطلب جهة امنية مسؤولة عن الرقابة لمعاقبة هذا السائح لعدم انهاء وجبة الطعام المقدمة لتفرض عليه غرامة مالية! فالمفهوم الياباني «موتوناي» ومعناه لا للتبذير ولا للهدر ولا للإسراف. فتأثيره على بيئتنا مفيد لإعادة استخدام وتدوير العناصر، مما يمكننا من تقليل النفايات والاستهلاك الزائد دون مبرر. كما ينعكس على الناحية الشخصية لتقدير المواد المعطاة من رب العالمين، كما يعزز وينمي الشعور بالامتنان والرحمة للآخرين.
من الضروري معرفة قياس الحاجات المطلوبة للاستهلاك والتوفير على مستوى الفرد أو المؤسسة. ففي أمثلتنا الشعبية من الحكمة ما يفيد المعنى؛ «مدّ رجُولك على قدْ لحَافكْ» أي مد القدم على حد الغطاء. من ضمن الأمور المستفادة لتربية الأبناء على المائدة كيفية غرف الطعام من الإناء الى صحن الأكل، فلا يغرف إلا الحد الذي يستطيع أكله، وليس ملء الصحن عن آخره. ولكن في ثقافتنا العربية ترى الموائد والصحون المملوءة بالطعام دون معرفة عدد او قياس الاستهلاك له! ثم ترى الصحون ممتلئة بفضل الطعام الذي لا يُعلم كيف يصرف؟ فيرمى في حاويات المهملات دون إحساس بأصحاب الحاجة من الجوعى والمساكين والفقراء. ومع ذلك فإن المؤسسات الخيرية كحفظ النعمة ومثيلاتها لها دور جميل لتوصيل هذا الطعام لمستحقيه.
إن في دراسات الجدوى الاقتصادية دورا فعالا في هذا الإطار. فدراسات الجدوى تقيس من الناحية المادية والبشرية الاحتياجات الضرورية للمؤسسة والفرد على السواء. فقياس رأس المال المطلوب للمشاريع بسائر حجمها أو حتى الحاجات الشخصية للفرد يمكن قياسها بناءً على مستوى الدخل والتكلفة. وهو بالتالي مرتبط بالأساس من خلال مستوى دخل الفرد وتكلفة الحاجات الضرورية بناء على ظروف الطلب والعرض من السوق المحلي والدولي. فهذه الدراسات تنقذ البيئة التي نعيش فيها من الخراب والدمار جراء الكسب السيئ جراء سوء التدبير والاستهتار، ونضوب الموارد من الاستهلاك الجائر. قال تعالى {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاس} ٤١ الروم. في إحدى الدورات التدريبية عن اعداد الموازنات، قصة عن رئيسة الوزراء البريطانية مارغريت تاتشر عندما عُرض عليها مشروع لإنشاء طريق على منطقة تضاريسية مرتفعة، فاقترحوا عليها إزالة المرتفع، فسألتهم عن دراسة جدوى المشروع لتكون الإجابة إنها لم تتم بالشكل الشامل المطلوب؟ لتغضب وترفض المشروع بشكله لتعاد دراسته مرة أخرى ليتم تجنب إزالة المرتفع وحفظ البيئة والتكلفة على السواء.
يجب علينا معرفة الحاجة الحقيقية عند الطلب او الاستهلاك. ويكون ذلك بمعرفة الحاجات الحقيقية للحياة، والتفرقة بين ما هو من الكماليات والترف والضروريات. فنحن في الأصل كبشر غايتنا التكليف للعبادة وعمارة الأرض في هذه الحياة، وليس الترف والاستمتاع بها. فنحن نأكل لنعيش ولسنا نعيش لنأكل.
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية




مساحة إعلانية
نعم، أصبحنا نعيش زمنًا يُتاجر فيه بالفكر كما يُتاجر بالبضائع، تُباع فيه الشهادات كما تُباع السلع، وتُؤجّر فيه المنصات التدريبية كما تُؤجّر القاعات لحفلات المناسبات. هو زمنٌ تحوّلت فيه «المعرفة إلى سلعة» تُسعَّر، لا رسالة تُؤدَّى. تتجلّى مظاهر «الاتّجار المعرفي» اليوم في صور عديدة، لعلّ أبرزها «المؤتمرات والملتقيات التدريبية والأكاديمية» التي تُقام بأسماء لامعة وشعارات براقة، يدفع فيها الحضور مبالغ طائلة تحت وعودٍ بالمحتوى النوعي والتبادل العلمي، ثم لا يخرج منها المشاركون إلا بأوراق تذكارية وصورٍ للمنصات! وهنا «العجيب من ذلك، والأغرب من ذلك»، أنك حين تتأمل هذه الملتقيات، تجدها تحمل أربعة أو خمسة شعارات لمؤسساتٍ وجهاتٍ مختلفة، لكنها في الحقيقة «تعود إلى نفس المالك أو الجهة التجارية ذاتها»، تُدار بأسماء متعدّدة لتُعطي انطباعًا بالتنوّع والمصداقية، بينما الهدف الحقيقي هو «تكرار الاستفادة المادية من الجمهور نفسه». هذه الفعاليات كثير منها أصبح سوقًا مفتوحًا للربح السريع، لا للعلم الراسخ؛ تُوزَّع فيها الجوائز بلا معايير، وتُمنح فيها الألقاب بلا استحقاق، وتُقدَّم فيها أوراق بحثية أو عروض تدريبية «مكرّرة، منسوخة، أو بلا أثرٍ معرفي حقيقي». وهذا الشكل من الاتّجار لا يقل خطورة عن سرقة البيانات أو بيع الحقائب التدريبية، لأنه يُفرغ الفضاء الأكاديمي من جوهره، ويُحوّل «الجهد العلمي إلى طقسٍ استعراضي» لا يصنع معرفة ولا يضيف قيمة. فالمعرفة الحقيقية لا تُشترى بتذكرة حضور، ولا تُختزل في شعار مؤتمر، ولا تُقاس بعدد الصور المنشورة في مواقع التواصل. من جهةٍ أخرى، يتخذ الاتّجار بالمعرفة اليوم وجهًا «رقميًا سيبرانيًا أكثر تعقيدًا»؛ إذ تُباع البيانات البحثية والمقررات الإلكترونية في «الأسواق السوداء للمعلومات»، وتُسرق الأفكار عبر المنصات المفتوحة، ويُعاد تسويقها تحت أسماء جديدة دون وعيٍ أو مساءلة. لقد دخلنا مرحلة جديدة من الاتّجار لا تقوم على الجسد، بل على «استغلال العقول»، حيث يُسرق الفكر ويُباع الإبداع تحت غطاء “التعاون الأكاديمي” أو “الفرص البحثية”. ولذلك، فإن الحديث عن «أمن المعرفة» و»السلامة السيبرانية في التعليم والتدريب» لم يعد ترفًا، بل ضرورة وجودية لحماية رأس المال الفكري للأمم. على الجامعات ومراكز التدريب أن تنتقل من مرحلة التباهي بعدد المؤتمرات إلى مرحلة «قياس الأثر المعرفي الحقيقي»، وأن تُحاكم جودة المحتوى لا عدد المشاركين. الاتّجار بالمعرفة جريمة صامتة، لكنها أخطر من كل أشكال الاتّجار الأخرى، لأنها «تسرق الإنسان من داخله»، وتقتل ضميره المهني قبل أن تمس جيبه. وحين تتحوّل الفكرة إلى تجارة، والمعرفة إلى وسيلة للشهرة، يفقد العلم قدسيته، ويصبح المتعلم مستهلكًا للوهم لا حاملًا للنور.
6588
| 27 أكتوبر 2025
في زمنٍ تتسارع فيه التكنولوجيا وتتصارع فيه المفاهيم، باتت القيم المجتمعية في كثيرٍ من المجتمعات العربية أقرب إلى «غرفة الإنعاش» منها إلى الحياة الطبيعية. القيم التي كانت نبض الأسرة، وعماد التعليم، وسقف الخطاب الإعلامي، أصبحت اليوم غائبة أو في أحسن الأحوال موجودة بلا ممارسة. والسؤال الذي يفرض نفسه: من يُعلن حالة الطوارئ لإنقاذ القيم قبل أن تستفحل الأزمات؟ أولاً: التشخيص: القيم تختنق بين ضجيج المظاهر وسرعة التحول: لم يعد ضعف القيم مجرد ظاهرة تربوية؛ بل أزمة مجتمعية شاملة فنحن أمام جيلٍ محاط بالإعلانات والمحتوى السريع، لكنه يفتقد النماذج التي تجسّد القيم في السلوك الواقعي. ثانياً: الأدوار المتداخلة: من المسؤول؟ إنها مسؤولية تكاملية: - وزارة التربية والتعليم: إعادة بناء المناهج والأنشطة اللاصفية على قيم العمل والانتماء والمسؤولية، وربط المعرفة بالسلوك. - وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية: تجديد الخطاب الديني بلغة العصر وتحويل المساجد إلى منصات توعية مجتمعية. - وزارة الثقافة: تحويل الفنون والمهرجانات إلى رسائل تُنعش الوعي وتُعيد تعريف الجمال بالقيمة لا بالمظهر. - وزارة الإعلام: ضبط المحتوى المرئي والرقمي بما يرسّخ الوعي الجمعي ويقدّم نماذج حقيقية. - وزارة التنمية الاجتماعية: تمكين المجتمع المدني، ودعم المبادرات التطوعية، وترسيخ احترام التنوع الثقافي باعتباره قيمة لا تهديدًا. ثالثاً: الحلول: نحو حاضنات وطنية للقيم: إن مواجهة التراجع القيمي لا تكون بالشعارات، بل بإنشاء حاضنات للقيم الوطنية تعمل مثل حاضنات الأعمال، لكنها تستثمر في الإنسان لا في المال. هذه الحاضنات تجمع التربويين والإعلاميين والمثقفين وخبراء التنمية لتصميم برامج عملية في المدارس والجامعات ومراكز الشباب تُترجم القيم إلى ممارسات يومية، وتنتج مواد تعليمية وإعلامية قابلة للتكرار والقياس. كما يمكن إطلاق مؤشر وطني للقيم يُقاس عبر استطلاعات وسلوكيات مجتمعية، لتصبح القيم جزءًا من تقييم الأداء الوطني مثل الاقتصاد والتعليم. رابعا: تكامل الوزارات:غرفة عمليات مشتركة للقيم: لا بد من إطار حوكمة ؛ • إنشاء مجلس وطني للقيم يُمثّل الوزارات والجهات الأهلية، يضع سياسة موحّدة وخطة سنوية ملزِمة. مؤشرات أداء مشتركة • تُدرج في اتفاقيات الأداء لكل وزارة • منصة بيانات موحّدة لتبادل المحتوى والنتائج تُعلن للناس لتعزيز الشفافية. • حملات وطنية متزامنة تُبث في المدارس والمساجد والمنصات الرقمية والفنون، بشعار واحد ورسائل متناسقة. • عقود شراكة مع القطاع الخاص لرعاية حاضنات القيم وبرامج القدوة، وربط الحوافز الضريبية أو التفضيلية بحجم الإسهام القيمي. الختام..... من يُعلن حالة الطوارئ؟ إنقاذ القيم لا يحتاج خطابًا جديدًا بقدر ما يحتاج إرادة جماعية وإدارة محترفة. المطلوب اليوم حاضنات قيم، ومجلس تنسيقي، ومؤشرات قياس، وتمويل مستدام. عندها فقط سننقل القيم من شعارات تُرفع إلى سلوك يُمارس، ومن دروس تُتلى إلى واقع يُعاش؛ فيحيا المجتمع، وتموت الأزمات قبل أن تولد.
6480
| 24 أكتوبر 2025
تُخلّف بعض اللحظات أثرًا لا يُمحى، لأنها تزرع في القلب وجعًا عميقًا يصعب نسيانه.. في الجولة الثالثة من دوري أبطال آسيا للنخبة، كانت الصفعة مدوية! الغرافة تلقى هزيمة ثقيلة برباعية أمام الأهلي السعودي، دون أي رد فعل يُذكر. ثم جاء الدور على الدحيل، الذي سقط أمام الوحدة الإماراتي بنتيجة ٣-١، ليظهر الفريق وكأنه تائه، بلا هوية. وأخيرًا، السد ينهار أمام الهلال السعودي بنفس النتيجة، في مشهد يوجع القلب قبل العين. الأداء كان مخيبًا بكل ما تحمله الكلمة من وجع. لا روح، لا قتال، لا التزام داخل المستطيل الأخضر. اللاعبون المحترفون الذين تُصرف عليهم الملايين كانوا مجرد ظلال تتحرك بلا هدف و لا حس، ولا بصمة، ولا وعي! أما الأجهزة الفنية، فبدت عاجزة عن قراءة مجريات المباريات أو توظيف اللاعبين بما يناسب قدراتهم. لاعبون يملكون قدرات هائلة ولكن يُزج بهم في أدوار تُطفئ طاقتهم وتشل حركتهم داخل المستطيل الأخضر، وكأنهم لا يُعرفون إلا بالاسم فقط، أما الموهبة فمدفونة تحت قرارات فنية عقيمة. ما جرى لا يُحتمل. نحن لا نتحدث عن مباراة أو جولة، بل عن انهيار في الروح، وتلاشي في الغيرة، وكأن القميص لم يعد له وزن ولا معنى. كم كنا ننتظر من لاعبينا أن يقاتلوا، أن يردّوا الاعتبار، أن يُسكتوا كل من شكك فيهم، لكنهم خذلونا، بصمت قاسٍ وأداء بارد لا يشبه ألوان الوطن. نملك أدوات النجاح: المواهب موجودة، البنية التحتية متقدمة، والدعم لا حدود له. ما ينقصنا هو استحضار الوعي بالمسؤولية، الالتزام الكامل، والقدرة على التكيّف الذهني والبدني مع حجم التحديات. نحن لا نفقد الأمل، بل نطالب بأن نرى بشكل مختلف، أن يعود اللاعبون إلى جوهرهم الحقيقي، ويستشعروا معنى التمثيل القاري بما يحمله من شرف وواجب. لا نحتاج استعراضًا، بل احترافًا ناضجًا يليق باسم قطر، وبثقافة رياضية تعرف كيف تنهض من العثرات لتعود أقوى. آخر الكلام: هذه الجولة ليست سوى بداية لإشراقة جديدة، وحان الوقت لنصنع مجدًا يستحقه وطننا، ويظل محفورًا في ذاكرته للأجيال القادمة.
3177
| 23 أكتوبر 2025