رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
في تاريخ العلاقات الدولية، تتكرّر ظاهرة خطيرة تُصيب بعض الدول أو القوى العظمى حين تمتلك فائضًا من القوة العسكرية أو الاقتصادية أو التقنية؛ ظاهرة تُعرف بــ “سكر القوة” أو «وهم التفوق المطلق».
حين تشعر دولة ما بأنها تتفوق على الآخرين، ينشأ لديها ميلٌ إلى الاعتقاد بأن القواعد التي تنطبق على غيرها لا تنطبق عليها، وأن القوة المفرطة قادرة على حمايتها من أي اعتراض أو مساءلة، بل وحتى من أحكام القانون الدولي.
لكن القارئ لا يحتاج إلى الذهاب بعيدًا في كتب التاريخ ليجد مثالًا حيًا على مخاطر القوة المفرطة؛ يكفي أن يتابع المشهد في الشرق الأوسط خلال الأيام القليلة الماضية.
فبذريعة “الدفاع عن الدروز” شنّت دولة الاحتلال إسرائيل عدوانًا جديدًا على الأراضي السورية، متجاهلةً أبسط قواعد السيادة، ومستخفةً بالقانون الدولي. وفي الوقت نفسه لم تتردد في انتهاك سيادة لبنان وخرق اتفاق وقف إطلاق النار القائم منذ سنوات، وكأن هذه الاتفاقات لا قيمة لها أمام إرادة القوة.
هذا السلوك ليس حادثة عابرة، بل هو تجسيد حيّ لسياسة يترجمها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بكل وضوح؛ سياسة تقوم على قناعة خطيرة بأن التفوق العسكري المطلق مضمون النتائج وأنه علاوة على ذلك يوفر حصانة من المحاسبة الدولية، وأن بإمكان إسرائيل ليس فقط إبادة الغزاويين وتجويعهم حتى الموت وتهجيرهم، بل حتى إعادة رسم الشرق الأوسط وفق رؤيتها، ولو كان ذلك عبر تجاوز حدود الدول وقواعد القانون الدولي، حيث تبرر القيادة المتغطرسة تدخلاتها وتجاوزاتها على سيادة دول اخرى، بذرائع “أمن قومي” أو “نظام إقليمي جديد” …
المخاطر الذاتية لثقة مفرطة بالنفس
حين تُصاب دولة أو قيادة بهذا الشعور، تتراكم لديها أخطاء قاتلة على المستوى الداخلي:
1. تراجع العقلانية في تشخيص مصالح الوطن أمام علو صوت القوة الفائقة والغطرسة.
2. تآكل الحس النقدي: تغيب المراجعة الذاتية وتُهمّش الأصوات التي تحذّر من المغامرة، فيسود الرأي الواحد.
3. الاستنزاف الاقتصادي: الإفراط في التسلّح والإنفاق العسكري يؤدي إلى إرهاق الاقتصاد وتراجع التنمية.
4. الانفصال عن الواقع، بين الآنيّ والاستراتيجي، وان ما يمكن تحقيقه في الأمد القريب قد لايمكن الحفاظ عليه في الأمد البعيد عندما يتغير ميزان القوة. وان التفوق ليس امراً مسلماً به على الدوام.
5. استدراج الخصوم إلى سباق تسلّح: يؤدي سلوكها المتفوق ظاهريًا إلى ردود فعل حادة من دول أخرى، فتبدأ سباقات تسلح، وتنتشر الفوضى. زرع الخوف لدى الدول الاخرى وبالتالي دفعها لاتخاذ مواقف مضادة، ربما جماعية، واعادة النظر بتسليح جيشها وتجهيزه بهدف معالجة التفوق العسكري المقابل.
6. تراكم الأعداء في الداخل: يتزايد الاحتقان الشعبي والرفض لأي مغامرة جديدة حين يرى المواطن أن رفاهيته تُضحى بها لصالح أوهام العظمة.
وهْم الحصانة من العقاب
القوة المفرطة لا تعني الحصانة الأبدية. حيث يؤكد التاريخ بأن الدول التي اعتمدت على شعور التفوق المطلق وانطلقت إلى المغامرات الخارجية، انتهت إلى مصير مأساوي.
أبرز الأمثلة على ذلك: ألمانيا النازية في الحرب العالمية الثانية.
حين صعد هتلر، هو لم يكتف بإعادة بناء الجيش الألماني بل اندفع إلى أقصى درجات التمدد العسكري على الارض معتقدا أن التفوق التكنولوجي والتنظيمي كفيلان بإخضاع أوروبا كلها، اجتاحت الجيوش النازية بولندا وفرنسا والاتحاد السوفيتي وتجاوزت القوانين والمعاهدات الدولية ….لكن هذا الشعور بالتفوق كان سرابا فقد تحول الجيش النازي إلى آلة استنزاف دمرت موارد ألمانيا واستدرجت تحالفا عالميا أطاح به في النهاية، انتهت ألمانيا بهزيمة ساحقة، بينما أكدت محاكمات نورمبرغ فيما بعد أن الجرائم لا تسقط بالتقادم كما ان القوة المفرطة مهما بلغت لن تعلو على سيادة القوانين الدولية، وان طال الزمن.
العبرة للدول المعاصرة
إن الإغراء الذي تمارسه القوة المفرطة على صاحب القرار لا يختلف كثيرًا عبر العصور عن أي دولة معاصرة تتصور أن تفوقها العسكري أو الاقتصادي قد يوفر لها حصانة من الاعتراض أو المساءلة، انها ببساطة تغامر باستعادتها أخطاء الماضي.
قد تتمكن هذه الدولة من فرض إرادتها مؤقتًا، لكنها ستدفع لاحقًا أثمانًا باهظة: من سمعتها الدولية، مقبوليتها عالمياً وإقليمياً، من أمنها الداخلي، من تغيّر موازين القوى مستقبلا لغير صالحها، ومن اقتصادها الذي يتآكل تحت ضغط سباق الهيمنة.
نحو توازن واستدامة
القوة ليست مذمومة بحد ذاتها، لكن خطورتها تكمن في الغطرسة المصاحبة لها. الدولة الرشيدة هي التي:
1. توظف قوتها في حماية مصالحها دون انتهاك سيادة الآخرين.
2. تدرك أن القانون الدولي ليس قيدًا بل ضمانة لسلام مستدام.
3. تراجع سياساتها بانتظام وتستمع إلى الأصوات الناقدة.
استدراك …!
لايمكن الحديث بالطبع عن القوة الفائقة لدولة الاحتلال اسرائيل ولا عن غطرستها دون ربطها بالترسانة العسكرية للغرب، أوروبا والولايات المتحدة على وجه الخصوص، والرابطة العضوية بين الأطراف لازالت في اعلى مناسيبها، لكن متى قطعت سلاسل الامداد، بتغير الموقف السياسي، وهو ممكن، عندها ستحرم إسرائيل من ميزة التفوق المطلق، إذاً عليها لا تباهي بقوتها وتفوقها ….فهي ليست ذاتية انما مستوردة ! من جهة اخرى، القوة ليست ترسانة عسكرية فحسب، بل هي حصيلة ثلاثة عوامل أساسية: السلاح، المقاتل، القيادة. ويفترض ان تتمتع العناصر الثلاثة بأعلى درجات الاهلية المطلوبة لتحقيق التفوق اللازم على العدو.
وبإجراء حسبة بسيطة يمكن الاستنتاج إلى ان دولة الاحتلال لا تتمتع بتفوق عسكري حقيقي على العرب، بل وهمي، ذلك لان قوة العدو لا يقابلها سوى ضعف عربي، ورغم اننا نملك السلاح التكنولوجي المتقدم كماً ونوعاً، كما يتوفر للسلاح مقاتل ماهر عزوم، فإن ما ينقصنا ويضعفنا هو غياب وحدة المؤسسة العسكرية العربية رغم وجود اتفاقية الدفاع العربي المشترك، إضافة إلى غياب الإرادة السياسية …..حيث يبقى القرار العسكري معلقاً الى إشعار آخر !
غطرسة الكيان المحتل تشكل استفزازاً لا سابق له في تاريخ الصراع العربي الاسرائيلي، والمفروض ان نعمل على عجل، نراجع، نعالج الخلل، ونصوّب المسار ….وها هي المنازلة في غزة قد منحتنا جرعة هائلة من الثقة بالنفس …فكيف لو اقترنت بسلاح متقدم، وقيادة عزومة أعدّت للأمر عدته وأحسنت التوكل على الله هنا يكمن التفوق.…
تأهيل ذوي الإعاقة مسؤولية مجتمع
لم يعد الحديث عن تأهيل ذوي الإعاقة مجرد شأن إنساني أو اجتماعي بحت، بل أصبح قضية تنموية شاملة... اقرأ المزيد
153
| 24 أكتوبر 2025
منْ ملأ ليله بالمزاح فلا ينتظر الصّباح
النّهضة هي مرحلة تحوّل فكري وثقافي كبير وتمتاز بالتّجدّد وتظهر دائما من خلال المشاريع الجديدة العملاقة المعتمدة على... اقرأ المزيد
390
| 24 أكتوبر 2025
لا تنتظر الآخرين لتحقيق النجاح
في حياتنا اليومية، نجد أنفسنا غالبا ما نعتمد على الآخرين لتحقيق النجاح والسعادة. نعتمد على أصدقائنا وعائلتنا وزملائنا... اقرأ المزيد
66
| 24 أكتوبر 2025
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
● سياسي من العراق
مساحة إعلانية




مساحة إعلانية
ليس الفراغ في الأماكن، بل في الأشخاص الذين لم يتقنوا الجلوس في أماكنهم. كم من مقعدٍ امتلأ جسدًا، وظلّ فارغًا فكرًا، وإحساسًا، وموقفًا. الكرسي لا يمنح الهيبة، بل من يجلس عليه هو من يمنح المكان معناه. المدرب… حين يغيب التأثير: المدرب الذي لا يملأ مقعده، هو من يكرّر المعلومات دون أن يُحدث تحولًا في العقول. يشرح بجمود، ويتحدث بثقة زائفة، ثم يغادر دون أن يترك بصمة. الحل أن يفهم أن التدريب رسالة لا مهنة، وأن حضوره يقاس بتغيير الفكر والسلوك بعده. وعندما يغيب هذا الإدراك، يتحول التدريب إلى ترفٍ ممل، ويفقد المجتمع طاقاته الواعدة التي تحتاج إلى من يشعل فيها شرارة الوعي. المدير… حين يغيب القرار: المدير الذي لا يملأ كرسيه، يهرب من المسؤولية بحجة المشورة، ويُغرق فريقه في اجتماعات لا تنتهي. الحل: أن يدرك أن القرار جزء من القيادة، وأن التردد يقتل الكفاءة. وعندما يغيب المدير الفاعل، تُصاب المؤسسة بالجمود، وتتحول بيئة العمل إلى طابور انتظار طويل بلا توجيه. القائد… حين يغيب الإلهام: القائد الذي لا يملك رؤية، لا يملك أتباعًا بل موظفين. الحل: أن يزرع في فريقه الإيمان لا الخوف، وأن يرى في كل فرد طاقة لا أداة. غياب القائد الملهم يعني غياب الاتجاه، فتضيع الجهود، ويضعف الولاء المؤسسي، ويختفي الشغف الذي يصنع التميز. المعلم… حين يغيب الوعي برسالته: المعلم الذي يجلس على كرسيه ليؤدي واجبًا، لا ليصنع إنسانًا، يفرغ التعليم من رسالته. الحل: أن يدرك أنه يربّي أجيالًا لا يلقّن دروسًا. وحين يغيب وعيه، يتخرّج طلاب يعرفون الحروف ويجهلون المعنى، فيُصاب المجتمع بسطحية الفكر وضعف الانتماء. الإعلامي… حين يغيب الضمير: الإعلامي الذي لا يملأ كرسيه بالمصداقية، يصبح أداة تضليل لا منبر وعي. الحل: أن يضع الحقيقة فوق المصلحة، وأن يدرك أن الكلمة مسؤولية. وعندما يغيب ضميره، يضيع وعي الجمهور، ويتحول الإعلام إلى سوقٍ للضجيج بدل أن يكون منارة للحق. الطبيب… حين يغيب الإحساس بالإنسان: الطبيب الذي يرى في المريض رقمًا لا روحًا، ملأ كرسيه علمًا وفرّغه إنسانية. الحل: أن يتذكر أن الطب ليس مهنة إنقاذ فقط، بل مهنة رحمة. وحين يغيب هذا البعد الإنساني، يفقد المريض الثقة، ويصبح الألم مضاعفًا، جسديًا ونفسيًا معًا. الحاكم أو القاضي… حين يغيب العدل: الحاكم أو القاضي الذي يغفل ضميره، يملأ الكرسي رهبة لا هيبة. الحل: أن يُحيي في قراراته ميزان العدالة قبل أي شيء. فحين يغيب العدل، ينهار الولاء الوطني، ويُصاب المجتمع بتآكل الثقة في مؤسساته. الزوج والزوجة… حين يغيب الوعي بالعلاقة: العلاقة التي تخلو من الإدراك والمسؤولية، هي كرسيان متقابلان لا روح بينهما. الحل: أن يفهما أن الزواج ليس عقداً اجتماعياً فحسب، بل رسالة إنسانية تبني مجتمعاً متماسكاً. وحين يغيب الوعي، يتفكك البيت، وينتج جيل لا يعرف معنى التوازن ولا الاحترام. خاتمة الكرسي ليس شرفًا، بل تكليف. وليس مكانًا يُحتل، بل مساحة تُملأ بالحكمة والإخلاص. فالمجتمعات لا تنهض بالكراسي الممتلئة بالأجساد، بل بالعقول والقلوب التي تعرف وزنها حين تجلس… وتعرف متى تنهض.
5058
| 20 أكتوبر 2025
لم تكنِ المأساةُ في غزّةَ بعددِ القتلى، بل في ترتيبِ الأولويات؛ لأن المفارقةَ تجرحُ الكرامةَ وتؤلمُ الروحَ أكثرَ من الموت. ففي الوقتِ الذي كانتْ فيهِ الأمهاتُ يبحثنَ بينَ الركامِ عن فلذاتِ أكبادِهِنَّ أو ما تبقّى منهُم، كانتْ إسرائيلُ تُحصي جثثَها وتُفاوِضُ العالمَ لتُعيدَها قبلَ أن تسمحَ بعبورِ شاحنةِ دواءٍ أو كيسِ طحينٍ. وكأنَّ جُثثَ جنودِها تَستحقُّ الضوء، بينما أَجسادُ الفلسطينيينَ تُدفنُ في العتمةِ بلا اسمٍ ولا وداعٍ ولا حتى قُبلةٍ أَخيرةٍ. فكانتِ المفاوضاتُ تُدارُ على طاولةٍ باردةٍ، فيها جُثثٌ وجوعٌ وصُراخٌ ودُموعٌ، موتٌ هنا وانتظارٌ هناك. لم يكنِ الحديثُ عن هدنةٍ أو دواءٍ، بل عن أشلاءٍ يُريدونَها أولًا، قبلَ أن تَعبُرَ شُحنةُ حياةٍ. أيُّ منطقٍ هذا الذي يجعلُ الجُثّةَ أَكثرَ استحقاقًا من الجائعِ، والنّعشَ أسبقَ من الرّغيف؟ أيُّ منطقٍ ذاك الذي يُقلِبُ موازينَ الرحمةِ حتى يُصبحَ الموتُ امتيازًا والحياةُ جريمةً؟ لقد غدتِ المساعداتُ تُوزَّعُ وفق جدولٍ زمنيٍّ للموتى، لا لاحتياجاتِ الأحياء، صارَ من يُدفنُ أَسرعَ ممن يُنقذُ، وصارتِ الشواهدُ تُرفَعُ قبلَ الأرغفةِ. في غزّةَ لم يَعُدِ الناسُ يَسألونَ متى تَصلُ المساعداتُ، بل متى تُرفَعُ القيودُ عن الهواء. فحتى التنفّسُ صارَ ترفًا يَحتاجُ تصريحًا. في كلِّ زُقاقٍ هناكَ انتظارٌ، وفي كلِّ انتظارٍ صبرُ جبلٍ، وفي كلِّ صبرٍ جُرحٌ لا يندملُ. لكنَّ رغمَ كلّ ذلك ما زالتِ المدينةُ تَلِدُ الحياةَ من قلبِ موتِها. هُم يَدفنونَ موتاهم في صناديقِ الخشبِ، ونحنُ نَدفنُ أحزانَنا في صدورِنا فتُزهِرُ أملًا يُولَدُ. هُم يَبكونَ جُنديًّا واحدًا، ونحنُ نَحمِلُ آلافَ الوُجوهِ في دَمعَةٍ تُسقي الأرضَ لتَلِدَ لنا أَحفادَ من استُشهِدوا. في غزّةَ لم يكنِ الوقتُ يَتَّسِعُ للبُكاءِ، كانوا يَلتقطونَ ما تَبقّى من الهواءِ لِيَصنَعوا منه بروحِ العزِّ والإباء. كانوا يَرونَ العالمَ يُفاوِضُ على موتاهُ، ولا أَحدَ يَذكُرُهم بكلمةٍ أو مُواساةٍ، بينما هُم يُحيونَ موتاهُم بذاكرةٍ لا تَموتُ، ومع ذلك لم يَصرُخوا، لم يَتوسَّلوا، لم يَرفَعوا رايةَ ضعفٍ، ولم يَنتظروا تلكَ الطاولةَ أن تَتكلَّمَ لهم وعَنهُم، بل رَفَعوا وُجوهَهم إلى السماء يقولون: إن لم يكن بك علينا غضبٌ فلا نُبالي. كانتِ إسرائيلُ تَحصُي خَسائِرَها في عَدَدِ الجُثَث، وغزّة تَحصُي مَكاسِبَها في عَدَدِ مَن بَقوا يَتَنفَّسون. كانت تُفاخر بأنها لا تَترُكُ قَتلاها، بينما تَترُكُ حياةَ أُمّةٍ بأَكملها تَختَنِقُ خلفَ المَعابِر. أيُّ حضارةٍ تلكَ التي تُقيمُ الطقوسَ لِموتاها، وتَمنَعُ الماءَ عن طفلٍ عطشان؟ أيُّ دولةٍ تلكَ التي تُبجِّلُ جُثَثَها وتَتركُ الإنسانيّةَ تحتَ الرُّكام؟ لقد كانتِ المفاوضاتُ صورةً مُكثَّفةً للعالمِ كُلِّه؛ عالمٍ يَقِفُ عندَ الحدودِ يَنتظر “اتِّفاقًا على الجُثَث”، بينما يَموتُ الناسُ بلا إِذنِ عُبورٍ. لقد كشفوا عن وجوهِهم حينَ آمَنوا أن عودةَ جُثّةٍ مَيتةٍ أَهمُّ من إِنقاذِ أرواحٍ تَسرِقُ الأَنفاس. لكن غزّة كالعادة كانتِ الاستثناءَ في كلِّ شيءٍ وصَدمةً للأعداءِ قبل غيرِهم، وهذا حديثهم ورأيهم. غزّة لم تَنتظر أَحدًا ليُواسيَها، ولم تَسأَل أَحدًا ليَمنَحَها حَقَّها. حينَ اِنشَغَلَ الآخرونَ بعدَّ الجُثَث، كانت تُحصي خُطواتها نحو الحياة، أَعادت تَرتيبَ أَنقاضِها كأنها تَبني وطنًا جديدًا فوقَ عِظامِ مَن ماتوا وُقوفًا بشموخ، وأَعلَنَت أنَّ النَّبضَ لا يُقاس بعددِ القلوبِ التي توقَّفَت، بل بعددِ الذين ما زالوا يَزرَعونَ المستقبل، لأنَّ المستقبل لنا. وهكذا، حين يَكتُب التاريخُ سطره الأخير، لن يَقول من الذي سلّم الجُثَث، بل من الذي أَبقى على رُوحه حيّة. لن يَذكُر عددَ التوابيت، بل عددَ القلوب التي لم تَنكسِر. دولةُ الكيان الغاصب جَمَعَت موتاها، وغزّة جمَعَت نَفسها. هم دَفَنوا أَجسادَهم، وغزّة دَفَنَت بُذورَ زيتونِها الذي سَيُضيء سَنا بَرقه كل أُفق. هم احتَفلوا بالنِّهاية، وغزّة تَفتَح فَصلًا من جديد. في غزّة، لم يَكُنِ الناس يَطلُبون المعجزات، كانوا يُريدون فقط جُرعةَ دواءٍ لِطفلٍ يحتضر، أو كِسرةَ خُبزٍ لامرأةٍ عَجوز. لكن المعابِر بَقِيَت مُغلَقة لأن الأَموات من الجانب الآخر لم يُعادوا بعد. وكأنَّ الحياة هُنا مُعلَّقة على جُثّة هناك. لم يَكُن العالم يسمع صُراخَ الأَحياء، بل كان يُصغي إلى صَمتِ القُبور التي تُرضي إسرائيل أكثر مما تُرضي الإنسانية.
3690
| 21 أكتوبر 2025
يمثل صدور القانون رقم (24) لسنة 2025 في دولة قطر، الخاص بمكافحة المنشطات في المجال الرياضي، تحولًا مفصليًا في مسار التشريع الرياضي العربي. فالقانون لا يقتصر على تحديد المخالفات والعقوبات، بل يؤسس لفلسفة جديدة قوامها الإنسان، بوصفه غاية الرياضة قبل أن يكون وسيلة للإنجاز. هذا التوجه التشريعي يعكس نضجًا مؤسساتيًا يربط بين الطب والقانون والأخلاق، في محاولة لصياغة مفهوم حديث للنزاهة الرياضية داخل بيئة تتسارع فيها التطورات العلمية والتقنيات الطبية. على الصعيد العلمي والطبي، يُدرك المشرّع أن قضية المنشطات ليست مجرد مخالفة قانونية، بل قضية صحة عامة تمس توازن الجسد الإنساني. فالمواد المحظورة، مهما كان أثرها في تحسين الأداء، تُحدث اضطرابًا فسيولوجيًا وتشوه المسار الطبيعي للقدرة البدنية. ومن ثم، فإن تشجيع الرياضي على الاعتماد على جسده لا على العقار يُعبّر عن احترام للعلم في جوهره، لأن الطب وعلوم الحياة وُجدت لفهم الطبيعة البشرية وصونها لا لتجاوزها. وهكذا يرسخ القانون مفهوم "الطب الأخلاقي” الذي يوازن بين العلاج والحماية من الانحراف الدوائي. وإذا كان الجانب العلمي قد كشف خطورة المنشطات على الجسد، فإن الجانب القانوني يسعى لضبط مسؤوليات المنظومة بأكملها. فالقانون ينقل عبء المسؤولية من الفرد الرياضي إلى الهيئات والمدربين والمختبرات والإدارات التنظيمية. وهذا تطور مهم، لأن التجارب العالمية أثبتت أن الرياضي ليس دائمًا الجاني، بل قد يكون ضحية نظام يضغط نحو الفوز بأي ثمن. لذلك يتبنى التشريع القطري فلسفة المسؤولية المشتركة، فيتحول من أداة عقاب إلى نموذج إصلاحي متوازن يعزز الشفافية داخل المنظومة الرياضية. أما في البعد الأخلاقي والفلسفي، فيفتح القانون نقاشًا عميقًا حول معنى العدالة في الرياضة: هل العدالة مساواة شكلية أمام القانون أم حماية لجوهر الجهد الإنساني الطبيعي؟ الإجابة تميل إلى الثانية، إذ ينحاز التشريع إلى الفطرة الرياضية وإلى التنافس النزيه الذي يستمد شرعيته من الإرادة لا من الكيمياء. إن هذه الرؤية لا تُعلي من شأن العقوبة بقدر ما تُعلي من شأن القيمة، وتضع الرياضة في سياقها الأسمى: تهذيب الجسد والروح معًا. ومع ذلك، يظل التنفيذ هو التحدي الحقيقي، فمكافحة المنشطات ليست معركة قوانين بل معركة وعي وثقافة. ومن دون إدماج هذه المبادئ في المناهج التربوية والأكاديميات الرياضية، سيبقى القانون نصًا بلا روح. آخر الكلام: إن تجربة قطر تُجسد فهمًا عميقًا للرياضة كقيمة إنسانية وثقافية لا كصناعة للألقاب، وتؤسس لمرحلة عربية جديدة تجعل من الأخلاق الرياضية جزءًا من الأمن الصحي الوطني. وهكذا يصبح القانون رقم (24) لسنة 2025 أكثر من تشريع؛ إنه إعلان فلسفي عن هوية رياضية جديدة قوامها المعرفة، والإنصاف، واحترام الجسد الإنساني كأسمى معمل للطاقة والإبداع.
2799
| 21 أكتوبر 2025