رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني
رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
نحن نعيش في زمن تتسارع فيه التكنولوجيا بوتيرة مدهشة، حتى أننا بالكاد نلتقط أنفاسنا لنفهم ما يدور حولنا، أحد أكثر الابتكارات تأثيرًا في هذا العصر هو «الذكاء الاصطناعي»، الذي دخل حياتنا دون استئذان، وتمدد في تفاصيل يومنا العادي، في هواتفنا، في منازلنا، في تعليم أبنائنا، وحتى في لحظات الترفيه والراحة. لكن مع كل ما يحمله من فرص، لا يمكن أن نغفل عن كونه سلاحًا ذا حدين. وبينما ينشغل العالم بإبراز مزاياه، أرى أن من واجب كل أب وأم أن يقفا قليلًا ليفكرا، ما الذي يدخل حياتي من خلال هذه التقنية؟ وكيف يمكن أن يؤثر على نفسي، وأسرتي، وأطفالي تحديدًا؟
ببساطة، الذكاء الاصطناعي هو قدرة الآلات على محاكاة بعض قدرات الإنسان العقلية، مثل التعلم، واتخاذ القرار، والتخطيط، والتفاعل مع اللغة والصوت والصورة، لكن دعونا لا نُبسط الأمور أكثر من اللازم، فهذه التقنية ليست مجرد روبوتات لطيفة أو تطبيقات طريفة، بل هي منظومات ضخمة تحلل بياناتنا، وتتعلم من سلوكنا، وتُعيد تشكيل تجاربنا اليومية في كل ضغطة زر.
كيف لا يُدهشك ذكاء آلة تقترح عليك فيلمًا تحبه دون أن تطلب؟ أو تطبيق يتنبأ بما تريده بناءً على محادثة عابرة؟ أو برنامج تعليمي يتفاعل مع مستوى ابنك بشكل شخصي؟ الذكاء الاصطناعي جعل حياتنا أسهل من أي وقت مضى، يوفّر الوقت، يقلل من الأخطاء، يُحسّن من جودة التعليم، ويمنحنا راحة لم نكن نحلم بها، لكنه – ويا للأسف – قد يسلبنا في المقابل شيئًا أثمن بكثير: وعينا، قدرتنا على التفكير، وعلاقاتنا الإنسانية. لا أنكر أن هناك تطبيقات تعليمية رائعة، تنمّي مهارات الطفل وتُبسط له المفاهيم الصعبة. لكن هل ننتبه للوجه الآخر؟ كم من طفل اليوم لا يستطيع أن ينام دون شاشة؟ كم من طفل فقد قدرته على التركيز أو الكلام المباشر بسبب الإفراط في استخدام الأجهزة الذكية؟ إن خوارزميات الذكاء الاصطناعي في منصات مثل YouTube لا تسعى لتعليم الطفل، بل لإبقائه مشدودًا لأطول وقت ممكن، محتوى يُبهر العين لكنه – في كثير من الأحيان – يُفسد الوجدان.
أيها الأب، أيتها الأم... لا تفرحوا كثيرًا حين يصمت طفلك أمام الشاشة، هذا الصمت ليس علامة على الراحة، بل نداء خفي من عقل صغير يغرق في العزلة الرقمية. الذكاء الاصطناعي يتلاعب أيضا بعقول المراهقين أكثر مما نتصور، ما بين خوارزميات مواقع التواصل التي تبالغ في عرض «الكمال المزيف»، وتطبيقات تُعيد تشكيل الصور والواقع، يضيع الشاب أو الفتاة في مقارنة مستمرة مع نماذج غير حقيقية، يبدأ الشعور بالنقص، ثم التوتر، ثم الاكتئاب... وربما ما هو أخطر. هناك أيضًا خطر التنمر الإلكتروني، ونشر الشائعات، وتلقي رسائل مشفرة من شخصيات مؤثرة تحركها أدوات الذكاء الاصطناعي. المراهق، بطبيعته، يفتش عن ذاته، عن صوته الخاص، عن شخصيته، فكيف له أن يجدها وسط زحام محتوى مفلتر ومُصمم ليجذبه لا ليبنيه؟
أحيانًا نحن – ككبار – نستسلم بسهولة، نُسلم أطفالنا للمحتوى الذكي كي نرتاح قليلاً، أو نبرر بأن العالم يتغير ولابد أن يواكبوا، لكن... هل نراقب فعلًا ما يُشاهد؟ هل نسأل أنفسنا: هل أنا أعلّم طفلي التوازن، أم أزرع فيه التبعية؟
التكنولوجيا لا تعوض التربية، ولا تملأ الفراغ العاطفي، إن بيوتًا كثيرة تبدو هادئة من الخارج، لكن ما إن تُغلق الشاشات حتى تظهر الفجوات: طفل لا يعرف كيف يتكلم مع والده، ومراهق يفضل الحديث مع «روبوت» على أن يفتح قلبه لأمه.
وهنا أدعو جميع الآباء والأمهات، لا تتركوا التربية للأجهزة الذكية.. التطبيقات لا تُربي، والخوارزميات لا تُراعي قيمنا ولا ثقافتنا، التربية تبدأ بالقدوة، ثم بالحديث، ثم بالحب والاحتواء.. راقبوا المحتوى دون تجسس: هناك فرق بين المراقبة الحانية، والشك المؤذي. اسأل ابنك، اجلسي مع ابنتك، تحدثوا بلا توتر... فالحوار هو جدار الأمان الأول.
حدّدوا أوقات الاستخدام... وكونوا قدوة: لا يمكن أن تطلب من ابنك ترك الهاتف وأنت تمسك به طوال الوقت، التقنية تحتاج نظامًا عائليًا لا أوامر فردية.. عزّزوا المناعة النفسية والعقلية: لا تتركوا أبناءكم فريسة لما يُبهرهم بصريًا، علّموهم كيف يفكرون، كيف يشككون، كيف يسألون، التفكير النقدي هو السلاح الحقيقي.. حافظوا على العلاقات الواقعية، خصصوا وقتًا للأنشطة الجماعية، للأحاديث اليومية، للنقاشات العابرة، فالعائلة ليست شاشة، بل مشاعر وتفاعل وإنصات.
ختاما.. الذكاء الاصطناعي ليس عدوًا، لكنه ليس صديقًا دائمًا أيضًا، إنه أداة، وسلاح، ومرايا تعكس ما نزرعه نحن، إذا كنا واعين ومسؤولين، سيخدمنا، وإن كنا مهملين أو مستسلمين، فسيفسد حياتنا بصمت، دون أن نشعر إلا بعد فوات الأوان. أحب أن أكرر دائمًا هذه العبارة.. «الذكاء الحقيقي ليس في الآلة، بل في من يستخدمها.»
أيها الأب... أيتها الأم... المستقبل يبدأ من اليوم، ومن كل قرار تتخذونه داخل البيت، لا تجعلوا الذكاء الاصطناعي يُربي أبناءكم بدلًا عنكم، فأنتم – مهما تطورت الآلات – تظلون الأصل، والمرجعية، والمصدر الأهم للحب والأمان والتوجيه.
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
• ناشطة اجتماعية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
ليس الفراغ في الأماكن، بل في الأشخاص الذين لم يتقنوا الجلوس في أماكنهم. كم من مقعدٍ امتلأ جسدًا، وظلّ فارغًا فكرًا، وإحساسًا، وموقفًا. الكرسي لا يمنح الهيبة، بل من يجلس عليه هو من يمنح المكان معناه. المدرب… حين يغيب التأثير: المدرب الذي لا يملأ مقعده، هو من يكرّر المعلومات دون أن يُحدث تحولًا في العقول. يشرح بجمود، ويتحدث بثقة زائفة، ثم يغادر دون أن يترك بصمة. الحل أن يفهم أن التدريب رسالة لا مهنة، وأن حضوره يقاس بتغيير الفكر والسلوك بعده. وعندما يغيب هذا الإدراك، يتحول التدريب إلى ترفٍ ممل، ويفقد المجتمع طاقاته الواعدة التي تحتاج إلى من يشعل فيها شرارة الوعي. المدير… حين يغيب القرار: المدير الذي لا يملأ كرسيه، يهرب من المسؤولية بحجة المشورة، ويُغرق فريقه في اجتماعات لا تنتهي. الحل: أن يدرك أن القرار جزء من القيادة، وأن التردد يقتل الكفاءة. وعندما يغيب المدير الفاعل، تُصاب المؤسسة بالجمود، وتتحول بيئة العمل إلى طابور انتظار طويل بلا توجيه. القائد… حين يغيب الإلهام: القائد الذي لا يملك رؤية، لا يملك أتباعًا بل موظفين. الحل: أن يزرع في فريقه الإيمان لا الخوف، وأن يرى في كل فرد طاقة لا أداة. غياب القائد الملهم يعني غياب الاتجاه، فتضيع الجهود، ويضعف الولاء المؤسسي، ويختفي الشغف الذي يصنع التميز. المعلم… حين يغيب الوعي برسالته: المعلم الذي يجلس على كرسيه ليؤدي واجبًا، لا ليصنع إنسانًا، يفرغ التعليم من رسالته. الحل: أن يدرك أنه يربّي أجيالًا لا يلقّن دروسًا. وحين يغيب وعيه، يتخرّج طلاب يعرفون الحروف ويجهلون المعنى، فيُصاب المجتمع بسطحية الفكر وضعف الانتماء. الإعلامي… حين يغيب الضمير: الإعلامي الذي لا يملأ كرسيه بالمصداقية، يصبح أداة تضليل لا منبر وعي. الحل: أن يضع الحقيقة فوق المصلحة، وأن يدرك أن الكلمة مسؤولية. وعندما يغيب ضميره، يضيع وعي الجمهور، ويتحول الإعلام إلى سوقٍ للضجيج بدل أن يكون منارة للحق. الطبيب… حين يغيب الإحساس بالإنسان: الطبيب الذي يرى في المريض رقمًا لا روحًا، ملأ كرسيه علمًا وفرّغه إنسانية. الحل: أن يتذكر أن الطب ليس مهنة إنقاذ فقط، بل مهنة رحمة. وحين يغيب هذا البعد الإنساني، يفقد المريض الثقة، ويصبح الألم مضاعفًا، جسديًا ونفسيًا معًا. الحاكم أو القاضي… حين يغيب العدل: الحاكم أو القاضي الذي يغفل ضميره، يملأ الكرسي رهبة لا هيبة. الحل: أن يُحيي في قراراته ميزان العدالة قبل أي شيء. فحين يغيب العدل، ينهار الولاء الوطني، ويُصاب المجتمع بتآكل الثقة في مؤسساته. الزوج والزوجة… حين يغيب الوعي بالعلاقة: العلاقة التي تخلو من الإدراك والمسؤولية، هي كرسيان متقابلان لا روح بينهما. الحل: أن يفهما أن الزواج ليس عقداً اجتماعياً فحسب، بل رسالة إنسانية تبني مجتمعاً متماسكاً. وحين يغيب الوعي، يتفكك البيت، وينتج جيل لا يعرف معنى التوازن ولا الاحترام. خاتمة الكرسي ليس شرفًا، بل تكليف. وليس مكانًا يُحتل، بل مساحة تُملأ بالحكمة والإخلاص. فالمجتمعات لا تنهض بالكراسي الممتلئة بالأجساد، بل بالعقول والقلوب التي تعرف وزنها حين تجلس… وتعرف متى تنهض.
4776
| 20 أكتوبر 2025
لم تكنِ المأساةُ في غزّةَ بعددِ القتلى، بل في ترتيبِ الأولويات؛ لأن المفارقةَ تجرحُ الكرامةَ وتؤلمُ الروحَ أكثرَ من الموت. ففي الوقتِ الذي كانتْ فيهِ الأمهاتُ يبحثنَ بينَ الركامِ عن فلذاتِ أكبادِهِنَّ أو ما تبقّى منهُم، كانتْ إسرائيلُ تُحصي جثثَها وتُفاوِضُ العالمَ لتُعيدَها قبلَ أن تسمحَ بعبورِ شاحنةِ دواءٍ أو كيسِ طحينٍ. وكأنَّ جُثثَ جنودِها تَستحقُّ الضوء، بينما أَجسادُ الفلسطينيينَ تُدفنُ في العتمةِ بلا اسمٍ ولا وداعٍ ولا حتى قُبلةٍ أَخيرةٍ. فكانتِ المفاوضاتُ تُدارُ على طاولةٍ باردةٍ، فيها جُثثٌ وجوعٌ وصُراخٌ ودُموعٌ، موتٌ هنا وانتظارٌ هناك. لم يكنِ الحديثُ عن هدنةٍ أو دواءٍ، بل عن أشلاءٍ يُريدونَها أولًا، قبلَ أن تَعبُرَ شُحنةُ حياةٍ. أيُّ منطقٍ هذا الذي يجعلُ الجُثّةَ أَكثرَ استحقاقًا من الجائعِ، والنّعشَ أسبقَ من الرّغيف؟ أيُّ منطقٍ ذاك الذي يُقلِبُ موازينَ الرحمةِ حتى يُصبحَ الموتُ امتيازًا والحياةُ جريمةً؟ لقد غدتِ المساعداتُ تُوزَّعُ وفق جدولٍ زمنيٍّ للموتى، لا لاحتياجاتِ الأحياء، صارَ من يُدفنُ أَسرعَ ممن يُنقذُ، وصارتِ الشواهدُ تُرفَعُ قبلَ الأرغفةِ. في غزّةَ لم يَعُدِ الناسُ يَسألونَ متى تَصلُ المساعداتُ، بل متى تُرفَعُ القيودُ عن الهواء. فحتى التنفّسُ صارَ ترفًا يَحتاجُ تصريحًا. في كلِّ زُقاقٍ هناكَ انتظارٌ، وفي كلِّ انتظارٍ صبرُ جبلٍ، وفي كلِّ صبرٍ جُرحٌ لا يندملُ. لكنَّ رغمَ كلّ ذلك ما زالتِ المدينةُ تَلِدُ الحياةَ من قلبِ موتِها. هُم يَدفنونَ موتاهم في صناديقِ الخشبِ، ونحنُ نَدفنُ أحزانَنا في صدورِنا فتُزهِرُ أملًا يُولَدُ. هُم يَبكونَ جُنديًّا واحدًا، ونحنُ نَحمِلُ آلافَ الوُجوهِ في دَمعَةٍ تُسقي الأرضَ لتَلِدَ لنا أَحفادَ من استُشهِدوا. في غزّةَ لم يكنِ الوقتُ يَتَّسِعُ للبُكاءِ، كانوا يَلتقطونَ ما تَبقّى من الهواءِ لِيَصنَعوا منه بروحِ العزِّ والإباء. كانوا يَرونَ العالمَ يُفاوِضُ على موتاهُ، ولا أَحدَ يَذكُرُهم بكلمةٍ أو مُواساةٍ، بينما هُم يُحيونَ موتاهُم بذاكرةٍ لا تَموتُ، ومع ذلك لم يَصرُخوا، لم يَتوسَّلوا، لم يَرفَعوا رايةَ ضعفٍ، ولم يَنتظروا تلكَ الطاولةَ أن تَتكلَّمَ لهم وعَنهُم، بل رَفَعوا وُجوهَهم إلى السماء يقولون: إن لم يكن بك علينا غضبٌ فلا نُبالي. كانتِ إسرائيلُ تَحصُي خَسائِرَها في عَدَدِ الجُثَث، وغزّة تَحصُي مَكاسِبَها في عَدَدِ مَن بَقوا يَتَنفَّسون. كانت تُفاخر بأنها لا تَترُكُ قَتلاها، بينما تَترُكُ حياةَ أُمّةٍ بأَكملها تَختَنِقُ خلفَ المَعابِر. أيُّ حضارةٍ تلكَ التي تُقيمُ الطقوسَ لِموتاها، وتَمنَعُ الماءَ عن طفلٍ عطشان؟ أيُّ دولةٍ تلكَ التي تُبجِّلُ جُثَثَها وتَتركُ الإنسانيّةَ تحتَ الرُّكام؟ لقد كانتِ المفاوضاتُ صورةً مُكثَّفةً للعالمِ كُلِّه؛ عالمٍ يَقِفُ عندَ الحدودِ يَنتظر “اتِّفاقًا على الجُثَث”، بينما يَموتُ الناسُ بلا إِذنِ عُبورٍ. لقد كشفوا عن وجوهِهم حينَ آمَنوا أن عودةَ جُثّةٍ مَيتةٍ أَهمُّ من إِنقاذِ أرواحٍ تَسرِقُ الأَنفاس. لكن غزّة كالعادة كانتِ الاستثناءَ في كلِّ شيءٍ وصَدمةً للأعداءِ قبل غيرِهم، وهذا حديثهم ورأيهم. غزّة لم تَنتظر أَحدًا ليُواسيَها، ولم تَسأَل أَحدًا ليَمنَحَها حَقَّها. حينَ اِنشَغَلَ الآخرونَ بعدَّ الجُثَث، كانت تُحصي خُطواتها نحو الحياة، أَعادت تَرتيبَ أَنقاضِها كأنها تَبني وطنًا جديدًا فوقَ عِظامِ مَن ماتوا وُقوفًا بشموخ، وأَعلَنَت أنَّ النَّبضَ لا يُقاس بعددِ القلوبِ التي توقَّفَت، بل بعددِ الذين ما زالوا يَزرَعونَ المستقبل، لأنَّ المستقبل لنا. وهكذا، حين يَكتُب التاريخُ سطره الأخير، لن يَقول من الذي سلّم الجُثَث، بل من الذي أَبقى على رُوحه حيّة. لن يَذكُر عددَ التوابيت، بل عددَ القلوب التي لم تَنكسِر. دولةُ الكيان الغاصب جَمَعَت موتاها، وغزّة جمَعَت نَفسها. هم دَفَنوا أَجسادَهم، وغزّة دَفَنَت بُذورَ زيتونِها الذي سَيُضيء سَنا بَرقه كل أُفق. هم احتَفلوا بالنِّهاية، وغزّة تَفتَح فَصلًا من جديد. في غزّة، لم يَكُنِ الناس يَطلُبون المعجزات، كانوا يُريدون فقط جُرعةَ دواءٍ لِطفلٍ يحتضر، أو كِسرةَ خُبزٍ لامرأةٍ عَجوز. لكن المعابِر بَقِيَت مُغلَقة لأن الأَموات من الجانب الآخر لم يُعادوا بعد. وكأنَّ الحياة هُنا مُعلَّقة على جُثّة هناك. لم يَكُن العالم يسمع صُراخَ الأَحياء، بل كان يُصغي إلى صَمتِ القُبور التي تُرضي إسرائيل أكثر مما تُرضي الإنسانية.
3360
| 21 أكتوبر 2025
المعرفة التي لا تدعم بالتدريب العملي تصبح عرجاء. فالتعليم يمنح الإطار، بينما التدريب يملأ هذا الإطار بالحياة والفاعلية. في الجامعات تحديدًا، ما زال كثير من الطلاب يتخرجون وهم يحملون شهادات مليئة بالمعرفة النظرية، لكنهم يفتقدون إلى الأدوات التي تمكنهم من دخول سوق العمل بثقة. هنا تكمن الفجوة بين التعليم والتدريب. فبدلاً من أن يُترك الخريج يبحث عن برامج تدريبية بعد التخرج، من الأجدى أن يُغذّى التعليم الجامعي بجرعات تدريبية ممنهجة، وأن يُطرح مسار فرعي بعنوان «إعداد المدرب» ليخرّج طلابًا قادرين على التعلم وتدريب الآخرين معًا. تجارب ناجحة: - ألمانيا: اعتمدت نظام التعليم المزدوج، حيث يقضي الطالب جزءًا من وقته في الجامعة وجزءًا آخر في بيئة العمل والنتيجة سوق عمل كفؤ، ونسب بطالة في أدنى مستوياتها. - كوريا الجنوبية: فرضت التدريب الإلزامي المرتبط بالصناعة، فصار الخريج ملمًا بالنظرية والتطبيق معًا، وكانت النتيجة نهضة صناعية وتقنية عالمية. -كندا: طورت نموذج التعليم التعاوني (Co-op) الذي يدمج الطالب في بيئة العمل خلال سنوات دراسته. هذا أسهم في تخريج طلاب أصحاب خبرة عملية، ووفّر على الدولة تكاليف إعادة التأهيل بعد التخرج. انعكاسات التعليم بلا تدريب: 1. اقتصاديًا: غياب التدريب يزيد الإنفاق الحكومي على إعادة التأهيل. أما إدماج التدريب، فيسرّع اندماج الخريج في السوق ويضاعف الإنتاجية. 2. مهنيًا: الطالب المتدرب يتخرج بخبرة عملية وشبكة علاقات مهنية، ما يمنحه ثقة أكبر وفرصًا أوسع. 3. اجتماعيًا: حين يتقن الشباب المهارات العملية، تقل مستويات الإحباط، ويتحولون من باحثين عن وظيفة إلى صانعين للفرص. حلول عملية مقترحة لقطر: 1. دمج التدريب ضمن المناهج الجامعية: أن تُخصص كل جامعة قطرية 30% من الساعات الدراسية لتطبيقات عملية ميدانية بالتعاون مع المؤسسات الحكومية والقطاع الخاص واعتماد التدريب كمتطلب تخرج إلزامي لا يقل عن 200 ساعة. 2. إنشاء مجلس وطني للتكامل بين التعليم والتدريب: يضم وزارتي التعليم والعمل وممثلي الجامعات والقطاع الخاص، ليضع سياسات تربط بين الاحتياج الفعلي في السوق ومخرجات التعليم. 3. تفعيل مراكز تدريب جامعية داخلية: تُدار بالشراكة مع مراكز تدريب وطنية، لتوفير بيئات تدريبية تحاكي الواقع العملي. 4. تحفيز القطاع الخاص على التدريب الميداني. منح حوافز ضريبية أو أولوية في المناقصات للشركات التي توفر فرص تدريب جامعي مستدامة. الخلاصة التعليم بلا تدريب يظل معرفة ناقصة، عاجزة عن حمل الأجيال نحو المستقبل. إنّ إدماج التدريب في التعليم الجامعي، وإيجاد تخصصات فرعية في إعداد المدربين، سيضاعف قيمة التعليم ويحوّله إلى أداة لإطلاق الطاقات لا لتخزين المعلومات. فحين يتحول كل متعلم إلى مُمارس، وكل خريج إلى مدرب، سنشهد تحولًا حقيقيًا في جودة رأس المال البشري في قطر، بما يواكب رؤيتها الوطنية ويقودها نحو تنمية مستدامة.
2865
| 16 أكتوبر 2025