رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

Al-sharq

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

الشرق

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

وجيدة القحطاني

• ناشطة اجتماعية

مساحة إعلانية

مقالات

375

وجيدة القحطاني

التسامح زينة الفضائل وبوابة الراحة النفسية

14 يوليو 2025 , 05:43ص

التسامح بالنسبة لي ليس مجرد قيمة أخلاقية عابرة، بل هو جوهر إنساني يُضفي على الشخصية بُعدًا روحيًا راقيًا، إنه الزينة التي تكتمل بها الأخلاق، والعنصر الذي يعيد التوازن إلى العلاقات، ويُصلح النفوس، ويمنح المجتمعات فرصة للاستمرار في أمان وسلام، أرى أن ما يجعل التسامح في نظري «زينة الفضائل» حقًا، هو قدرته على أن يجمع بين الحب والرحمة والعدل والغفران والعلو عن الصغائر، ليخلق من الإنسان كيانًا أرحب وأسمى.

التسامح ليس ترفًا ولا ضعفًا كما يظنه البعض، بل ضرورة وجودية ومجتمعية، وعلامة نضج روحي وفكري..المتسامح لا يعني أنه مغلوب على أمره، بل هو في الواقع شخص قوي، قادر على أن يملك زمام مشاعره، ويقاوم رغبة الانتقام أو رد الأذى، ويمنح نفسه مساحة للنمو الداخلي، والمجتمع الذي يشيع فيه التسامح، هو مجتمع قادر على تجاوز خلافاته، ومهيأ لبناء مستقبل أكثر إشراقًا.

لطالما آمنت أن التسامح هو خيار الشجعان، أن تسامح يعني أنك اخترت طريق النور بدلًا من الظلام، وأنك فضّلت أن تبني جسورًا نحو الآخرين بدلًا من أن ترفع جدرانًا في وجوههم، المتسامح إنسان صاحب قلب نقي وشجاعة حقيقية، لأن العفو يحتاج إلى قوة داخلية تفوق رغبة اللوم والقصاص.

من واقع تجربتي، أدركت أن للتسامح أشكالًا متعددة، تبدأ بالتسامح الفكري، حين نمنح الآخر حق الاختلاف، ونقبل بأن يكون له رأي لا يشبه رأينا، في التسامح الفكري يتحقق المعنى الحقيقي للحوار، وتُصان قيمة التنوع، ويصبح المجتمع أكثر نضجًا وانفتاحًا، الاختلاف في الرأي لا يهدد قناعاتنا، بل يمنحنا فرصة لاختبارها وتطويرها،÷ لذلك، كل نقاش حر هو خطوة نحو التقدم، وكل عقل متسامح هو لبنة في بناء مجتمع متوازن.

أما التسامح الديني، فأراه من أرقى صور الرحمة الإنسانية، أن نؤمن بأن الأديان جميعها تدعو للخير، وأن التعددية سنة من سنن الله في خلقه، هو إدراك لا يحتاج إلى تنازل عن العقيدة، بل إلى احترام قناعات الآخرين. الإسلام نفسه قدّم لنا أسمى صور التسامح، حين قال تعالى: «لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ»، و*»لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ»*، فالدين لا يُفرض بالقوة، بل يُحتضن بالقناعة والمحبة.

وإذا انتقلنا إلى المعاملات اليومية، سنجد أن التسامح فيها يسهّل الحياة، ويقلل من الاحتكاكات والنزاعات. التسامح في البيع والشراء، وفي العلاقات الأسرية، وفي العمل، ومع الأصدقاء، هو ما يجعل الحياة أكثر سلاسة وأقل توترًا، وقد عبّر النبي صلي الله عليه وسلم عن ذلك بقوله: «رحم الله رجلًا سمحًا إذا باع، وإذا اشترى، وإذا اقتضى». التسامح هنا ليس مجرد سلوك، بل عبادة تُقرّبنا من الله وتُريح أرواحنا.

لكنني أجد أن أعظم أشكال التسامح، وأكثرها صعوبة، هو التسامح مع النفس. كم مرة حمّلنا أنفسنا ما لا تطيق؟ كم مرة جلَدنا ذاتنا على خطأ مضى، أو قرار لم يُثمر؟ أعترف أنني كثيرًا ما كنت قاسيًا على نفسي، وكنت أظن أن اللوم المستمر هو الطريق للإصلاح، لكنني مع الوقت أدركت أن التسامح مع النفس ليس ضعفًا ولا هروبًا، بل شفاء حقيقي، وبداية جديدة، لا يمكن أن نُسامح الآخرين بصدق، ونحن نحمل في دواخلنا ألمًا غير معالَج من ذواتنا.

التسامح مع النفس يبدأ بالاعتراف دون قسوة، بفهم أن كل خطأ يحمل درسًا، وأن كل تجربة تُشكّلنا بطريقة أو بأخرى، لقد تعلّمت أن أتوقّف عن مقارنة بدايتي بمنتصف طريق الآخرين، وأن أقول لنفسي في كل محاولة: «أنت تحاول، وهذا كافٍ»، هذا الحديث الداخلي الإيجابي ليس شعارًا، بل دواء نفسي، ومفتاح للثقة بالنفس.

ومن هنا، أقول بيقين: نعم، نحن بحاجة ماسة للتسامح مع أنفسنا. لأجل السلام الداخلي، لأن العقل لا يهدأ والقلب مُثقَل باللوم، ولأجل التقدّم، فالتعلم لا يحدث في ظل جلد الذات، ولأجل الاتزان العاطفي، لأن من يُسامح نفسه، يتصالح مع من حوله، ويعيش بعاطفة متزنة غير متوترة.

ويكفي أن ننظر إلى القرآن الكريم لنُدرك كم دعا الإسلام إلى التسامح والعفو، فها هو يقول: «وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا * أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ»، وفي أروع مشهد قرآني، يُجسّد نبي الله يوسف عليه السلام التسامح المطلق حين يقول لإخوته الذين ظلموه: «لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ * يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ»، وهكذا يعلّمنا القرآن أن القوة ليست في الانتقام، بل في العفو.

فلماذا نحتاج إلى التسامح؟ لأننا نتوق إلى المحبة الحقيقية، ونبحث عن السلام، ونرغب في أن نعيش دون أعباء الماضي المؤلم، التسامح يمنحنا حرية من الذكريات السلبية، ويخلّصنا من الحقد، ويقرّبنا من الطمأنينة النفسية، هو الخطوة الأولى نحو راحة لا تُشترى، بل تُبنى بالتسامح، وبالإيمان، وبالنية الطيبة.

حين نسامح، نحن لا نغيّر الماضي، لكننا نختار الحاضر، ونمنح أنفسنا أملًا جديدًا في المستقبل، التسامح لا يُحرر من نُسامحه فقط، بل يحررنا نحن أولًا، هو البذرة التي تُثمر سلامًا، والنور الذي يُضيء عتمة القلوب، هو رسالة حياة، وعهد نُجدد به إنسانيتنا كل يوم.

ولعل أجمل ما يمكن أن نبدأ به، هو أن نسامح أنفسنا أولًا، ثم الآخرين. فالحياة أقصر من أن نضيعها في الحقد والغضب. ولعلّ في كلمة واحدة تختصر كل المعنى: فلنكن متسامحين، نصنع عالمًا أرحم، وأجمل، وأقرب إلى الله.

مساحة إعلانية