رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

Al-sharq

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

الشرق

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

عصام بيومي

إعلامي وباحث سياسي
ماجستير العلوم السياسية

مساحة إعلانية

مقالات

138

عصام بيومي

قطر تعيد صياغة قواعد العلاقات الدولية وتعريف مفهوم السيادة

21 ديسمبر 2025 , 03:00ص

مع احتفالات قطر بيوم وطني جديد في عمرها المجيد، يتراءى للعالم الكثير والكثير من الإنجازات والنجاحات التي حققتها على مر السنين. لكن هناك نجاحا بعينه لن ينتبه إليه كثيرون. ذاك هو نجاح قطر في أن تكون نموذجا فريدا في مقاييس الدول في القرن 21، بل ونموذجا للمستقبل، في عالم يتلاشى فيه شكل الدولة المعروف منذ تأسيس نظام الدولة الحديثة، الدولة ذات الحدود المعروفة والسلطات المحددة والعلاقات المحددة مع محيطها. لقد استطاعت قطر أن تعيد تعريف معنى الدولة ومفهوم السيادة، عبر مزيج من الاستقلال السياسي، والانفتاح الدبلوماسي، والتخطيط الإستراتيجي طويل المدى. فبنموذج قطر سيدخل إلى قاموس العلاقات الدولية مفاهيم جديدة منها "الدولة المتفوقة" و"الدول المفيدة".

منذ توقيع اتفاقية ويستفاليا عام 1648، تشكّل مفهوم الدولة القومية الحديثة بوصفها كيانًا سياسيًا مستقلًا، يمتلك سيادة واضحة وحدودًا معترفًا بها وسلطة عليا غير خاضعة لقوة خارجية. غير أن هذا النموذج، الذي هيمن على النظام الدولي لقرون، كما أوضحت سابقا، يواجه اليوم تآكلًا متسارعًا بفعل العولمة الاقتصادية، وتغوّل المؤسسات العابرة للحدود، والنزعة المتسارعة نحو تأسيس حكومة كونية للعالم تحت مسميات مختلفة، كالحوكمة العالمية أو النظام الدولي القائم على القواعد. في هذا السياق المضطرب، تبرز دولة قطر كنموذج لافت لدولة حديثة استطاعت، رغم صغر مساحتها الجغرافية، أن تحافظ على استقلال قرارها السياسي وتُعيد تعريف مفهوم السيادة في القرن الحادي والعشرين.

برغم كثير من التحديات، سارعت قطر إلى الحضور الفاعل في النظام الدولي، من إدراك واع بأن السيادة في العصر الحديث لا تُصان فقط بالقوة العسكرية، بل أيضًا بالقوة الناعمة، والدبلوماسية النشطة، وبناء شبكات مصالح متوازنة مع مختلف القوى الدولية. ومن خلال سياسة خارجية متعددة المسارات، استطاعت قطر أن تحجز لنفسها موقعًا فاعلًا في ملفات إقليمية ودولية معقدة، من الوساطة السياسية إلى أدوار إنسانية وتنموية، بل وحتى رياضية، وهو ما شاهدناه نموذجا يتجلى في عرس كأس العرب الرياضي الرائع.

اقتصاديًا، قدّمت قطر مثالًا على توظيف الموارد السيادية لا لتعميق التبعية، بل لتعزيز الاستقلال. فالاستثمار في الطاقة، وتحديدًا الغاز الطبيعي المسال، لم يكن مجرد مصدر للثروة، بل أداة إستراتيجية مكّنت الدوحة من بناء اقتصاد قوي، وصناديق سيادية مؤثرة، وقدرة على الصمود أمام الضغوط السياسية والاقتصادية التي استخدمها صانع القرار القطري لمصلحته وليس العكس. وقد تجلّى ذلك بوضوح خلال فترات الحصار والتوتر الإقليمي، وحتى في النطاق الأوسع مع تفجر الحرب الأوكرانية الروسية، حيث أثبتت قطر أن الدولة الحديثة المفيدة القادرة على التخطيط الإستراتيجي يمكنها تجاوز محاولات الإخضاع أو العزل، وأن تجعل "الآخر" أيا كان في حاجتها.

وعلى المستوى الداخلي، عملت قطر على بناء مؤسسات حديثة، واستثمرت في التعليم والإعلام والبنية التحتية، إدراكًا منها أن الدولة القوية في زمن تآكل الحدود ليست تلك التي تكتفي بالرموز السيادية، بل التي تمتلك مجتمعًا متماسكًا، ونخبة معرفية، وقدرة على إنتاج خطابها الخاص بدل استيراده. وفي هذا الصدد، مثلا، كان الإعلام القطري، ولا يزال، وبفضل قناة الجزيرة، أحد أبرز أدوات هذا الحضور السيادي، حيث تحوّل إلى منصة مؤثرة في تشكيل الرأي العام العالمي، وهو أمر نادر في دول صغيرة الحجم.

وفي زمن تتعالى فيه الدعوات إلى تقليص دور الدولة لصالح كيانات فوق قومية أو حكومة عالمية واحدة، تقدم قطر نموذجًا مختلفًا: دولة لا ترفض الانخراط في النظام الدولي، لكنها ترفض الذوبان فيه؛ دولة تدرك قواعد اللعبة العالمية، لكنها تصر على أن تكون لاعبًا لا مجرد ساحة. وبهذا المعنى، لا تمثل قطر استثناءً جغرافيًا فحسب، بل تجربة فكرية وسياسية تعيد طرح سؤال الدولة الحديثة: كيف يمكن لدولة صغيرة أن تكون مستقلة، فاعلة ومتفوقة، وذات سيادة حقيقية في عالم يتجه نحو المركزية الكونية؟ إن تجربة قطر تؤكد أن تآكل الدولة ليس قدرًا محتومًا، وأن السيادة، وإن تغيّرت أدواتها، لا تزال ممكنة لمن يمتلك الرؤية، والمرونة، والإرادة السياسية. وهي بذلك تقدم درسًا مهمًا في زمن تتراجع فيه الدول، وتتصاعد فيه مشاريع ما بعد نظام ويستفاليا.

وهذه قصة واقعية تبلور كثيرا من المعاني السابقة.

في العام 2015، وتحديدا في نوفمبر من ذلك العام، قامت كريستيان لا جارد وكانت وقتها رئيسة البنك الدولي بجولة في دول المنطقة شملت الدوحة بالطبع. حملت لاجارد معها "توجيهات" النظام العالمي الذي يريد فرض الفقر وصناعة الأزمات على الحكومات والشعوب، لتسريع الوصول إلى الحكومة العالمية. كان من تلك المقترحات، رفع أسعار البنزين، إلى المستويات العالمية، وزيادة الضرائب غير النفطية (مثل ضريبة القيمة المضافة)، وخفض الإنفاق الحكومي (وخاصة الأجور)، ومراجعة المشاريع الكبرى، بزعم الرغبة في وضع قواعد مالية قوية لتحقيق الاستقرار في المستقبل. كانت قطر أقل الدول استجابة لتلك المطالب المجحفة بحق الشعوب وحافظت قيادتها على مستوى معيشة مجتمعها، بل وحسنتها برغم تعرضها لأزمة الحصار بعد ذلك بفترة وجيزة، وهو ما انعكس تلاحما بين القيادة الواعية المخلصة وبين شعب بمواطنيه ووافديه ممتن لقيادته الحكيمة، ومستعد للتضحية من أجلها بالغالي والنفيس، لتخرج منها قطر دولة فريدة على الساحة العالمية، تعيد بالفعل تعريف الكثير من مفردات قواميس العلوم السياسية.

 

 

عصام بيومي

essam7@gmail.com

مساحة إعلانية