رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني
رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
في زمن تحولت فيه الهواتف الذكية إلى «حاضنة صامتة» لأطفالنا، وتبدلت فيه الألعاب من مجرد تسلية بريئة إلى عوالم افتراضية موازية قد تلتهم القيم وتُضعف الروابط الأسرية، جاء الحوار الذي أجرته صحيفة الشرق مع الدكتورة مريم الخاطر، أستاذ الاتصال الرقمي والسياسة، كجرس إنذار مدوٍّ، بجرأة الباحثة وعمق الاستشراف، وضعت الخاطر إصبعها على الجرح: المنصات الرقمية لم تعد مجرد أدوات ترفيه أو تواصل، بل باتت ــ إن تُركت بلا ضابط ــ أشبه بـ «أسلحة دمار شامل» تستهدف النشء وتخترق حصون الأسرة من الداخل.
ما قالته عن حظر لعبة «روبلوكس» في قطر لم يكن تعليقاً عابراً، بل كشفاً عن أزمة أوسع تتجاوز لعبة أو تطبيقاً إلى نمط حياة يهدد الأمن النفسي والاجتماعي. وما بين «الفاشينيستا» الذين صنعوا من الشهرة تجارة على حساب القيم، وغياب الوعي الإعلامي والتقني لدى كثير من أولياء الأمور، تبرز الحاجة إلى وقفة صادقة تعيد صياغة علاقتنا بهذا الفضاء الرقمي المتغول.
وهنا تحديداً تستعيد الخاطر مبادرة «نحو فضاء إعلامي مسؤول» التي أطلقتها صاحبة السمو الشيخة موزا بنت ناصر رئيس مجلس إدارة مؤسسة قطر للتربية والعلوم وتنمية المجتمع عام 2007، لتذكرنا أن الرؤية الاستشرافية قادرة على أن تسبق الزمن، وأن ما بدا وقتها تحذيراً بعيد المدى أصبح اليوم ضرورة وجودية لحماية الأجيال المقبلة.
حينما قررت دولة قطر حظر لعبة «روبلوكس»، اعتبر البعض أن القرار مبالغ فيه، أو أن الرقابة على الألعاب لم تعد مجدية في ظل انتشار مئات المنصات البديلة. لكن ما أوضحته الدكتورة مريم الخاطر هو أن القضية ليست مجرد لعبة، بل منظومة متكاملة من المحتوى التفاعلي الذي يتجاوز حدود البراءة الطفولية إلى فضاءات تهدد الأمن النفسي والاجتماعي.
«روبلوكس» ليست مجرد ترفيه، بل عالم افتراضي مفتوح يُمكّن الأطفال من التفاعل مع محتوى يصنعه مستخدمون آخرون، دون ضوابط حقيقية أو رقابة فعلية. ومن هنا تأتي خطورة اللعبة، حيث تنفتح على احتمالات التعرض لمضامين غير مناسبة، أو لسلوكيات سامة، بل وحتى لاستغلال رقمي خطير. إن قرار الحظر، برغم تأخره، يمثل إعلاناً بأن حماية النشء ليست ترفاً، بل ضرورة وطنية وأخلاقية.
أحد المحاور اللافتة في حديث الخاطر كان تناولها لظاهرة «البلوجر» و»الفاشينيستا»، بوصفها تجسيداً لتحول وسائل التواصل الاجتماعي إلى سوق استهلاكي، تُسوَّق فيه القيم السطحية على حساب المضمون الهادف. فبدلاً من أن تكون هذه المنصات جسراً للتنوير والمعرفة، أصبحت في كثير من الأحيان وسيلة لتكريس ثقافة المظهر والربح السريع، حتى لو كان الثمن هو إضعاف البنية الأخلاقية للمجتمع.
هذه الظاهرة ليست شأناً قطرياً فحسب، بل امتداد عالمي. لكن خصوصية المجتمع القطري، والعربي عموماً، تكمن في أن مثل هذه الظواهر تتصادم مباشرة مع قيم أصيلة، مثل التكافل الأسري، والهوية الدينية والثقافية. وهو ما يضاعف الحاجة إلى رقابة اجتماعية، لا بمعناها القمعي، بل في شكل وعي نقدي يتيح للنشء التمييز بين ما يُعرض عليهم، وما يتناقض مع قيمهم.
ركزت الخاطر في حديثها على أن المواجهة الحقيقية تبدأ من الأسرة، وهو طرح بالغ الأهمية. فالقرارات الحكومية أو التشريعات، مهما كانت صارمة، تظل عاجزة عن ضبط كل تفاصيل التفاعل اليومي للأطفال واليافعين مع المنصات الرقمية. هنا يبرز دور الوالدين كخط الدفاع الأول، من خلال رفع وعيهم الإعلامي والتقني.
ولعل أكبر إشكالية تواجه الأسرة القطرية والعربية اليوم، أن الفجوة الرقمية بين الأجيال تتسع يوماً بعد يوم. في حين ينغمس الأبناء في تفاصيل التطبيقات والمنصات الحديثة، يبقى كثير من الآباء والأمهات خارج هذه المعادلة، مكتفين بالمتابعة من بعيد أو بالمنع التقليدي. غير أن المطلوب، كما أشارت الخاطر، ليس المنع فقط، بل المشاركة الواعية، من خلال تثقيف الوالدين إعلامياً وتقنياً، بحيث يصبحون شركاء لأبنائهم في الفضاء الرقمي، لا مجرد رقباء أو خصوم.
من أبرز ما جاء في الحوار استدعاء الخاطر لمبادرة «نحو فضاء إعلامي مسؤول» التي أطلقتها صاحبة السمو الشيخة موزا بنت ناصر رئيس مجلس إدارة مؤسسة قطر للتربية والعلوم وتنمية المجتمع عام 2007. يومها ربما لم يدرك كثيرون أن العالم مقبل على ثورة رقمية ستجعل من الإعلام الجديد سلطة فوق الدول والمجتمعات. لكن المبادرة كانت بمثابة رؤية استراتيجية، دعت إلى إعلام يحترم القيم الإسلامية والعربية، ويحمي النشء من سطوة المحتوى المستورد.
اليوم، وبعد مرور ما يقارب عقدين، يبدو أن تلك المبادرة لم تفقد بريقها، بل تزداد راهنيتها. ففي زمن تحول فيه «المؤثر» إلى سلطة تنافس المدرسة والجامعة، وفي وقت باتت فيه المنصات الرقمية «أسلحة دمار شامل» للقيم والثقافة، يصبح استدعاء هذه الرؤية ضرورة قصوى.
وصفت الدكتورة مريم الخاطر منصات التواصل الاجتماعي بأنها «أسلحة دمار شامل»، وهو توصيف يحمل دلالتين: الأولى أن هذه الوسائل تملك قدرة هائلة على التأثير في العقول والوجدان، والثانية أنها إذا لم تُضبط بقوانين وقيم، فإنها تتحول إلى قوى تدميرية.
فوسائل التواصل الاجتماعي مكنت الأفراد من التعبير عن ذواتهم، وخلقت فضاءات للنقاش والتفاعل. لكنها في الوقت نفسه أفرزت تحديات خطيرة، مثل الأخبار المضللة، والعنف اللفظي، والإدمان الرقمي، وتفكك الروابط الأسرية. إن إدارة هذا التناقض لا يمكن أن تتحقق عبر الدولة وحدها، بل عبر شراكة مجتمعية متكاملة، تضع حماية النشء في صدارة الأولويات.
من خلال قراءة ما طرحته الدكتورة الخاطر، يمكن القول إننا أمام حاجة ملحّة لبناء إستراتيجية وطنية شاملة لحماية النشء في قطر من مخاطر الفضاء الرقمي. هذه الإستراتيجية يجب أن تقوم على عدة ركائز، التشريعات والقوانين، التثقيف الأسري، التعليم المدرسي، الشراكة مع المجتمع المدني: تمكين الجمعيات والمؤسسات الثقافية من المشاركة في التوعية، وتقديم مبادرات بديلة عن المحتوى المستورد، إنتاج محتوى محلي هادف: دعم صناعة إعلامية محلية توفر بدائل جاذبة ومواكبة، تحترم القيم وتستجيب لاحتياجات الجيل الجديد.
ختاما.. حوار صحيفة الشرق مع الدكتورة مريم الخاطر ليس مجرد نقاش أكاديمي، بل دعوة جادة لإعادة النظر في علاقتنا بالفضاء الرقمي. إن حماية النشء في قطر، والحفاظ على الترابط الأسري، لم تعد مسؤولية فردية أو خياراً ترفياً، بل قضية أمن وطني وثقافي بامتياز.
لم يعد مشهد الاحتجاجات والحراك الشبابي مفاجئًا لنا وللمراقبين في عالمٍ يتغير بسرعة مذهلة، وحيث تتقاطع الأزمات الاقتصادية... اقرأ المزيد
165
| 22 أكتوبر 2025
جاء خطاب حضرة صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، أمير البلاد المفدى، في افتتاح دور الانعقاد... اقرأ المزيد
75
| 22 أكتوبر 2025
في آخر مشاهد حياته، ظهر صحفي الجزيرة صالح الجعفراوي في مقطع مصور تداولته وسائل التواصل الاجتماعي، ممددا على... اقرأ المزيد
99
| 22 أكتوبر 2025
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
• ناشطة اجتماعية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
ليس الفراغ في الأماكن، بل في الأشخاص الذين لم يتقنوا الجلوس في أماكنهم. كم من مقعدٍ امتلأ جسدًا، وظلّ فارغًا فكرًا، وإحساسًا، وموقفًا. الكرسي لا يمنح الهيبة، بل من يجلس عليه هو من يمنح المكان معناه. المدرب… حين يغيب التأثير: المدرب الذي لا يملأ مقعده، هو من يكرّر المعلومات دون أن يُحدث تحولًا في العقول. يشرح بجمود، ويتحدث بثقة زائفة، ثم يغادر دون أن يترك بصمة. الحل أن يفهم أن التدريب رسالة لا مهنة، وأن حضوره يقاس بتغيير الفكر والسلوك بعده. وعندما يغيب هذا الإدراك، يتحول التدريب إلى ترفٍ ممل، ويفقد المجتمع طاقاته الواعدة التي تحتاج إلى من يشعل فيها شرارة الوعي. المدير… حين يغيب القرار: المدير الذي لا يملأ كرسيه، يهرب من المسؤولية بحجة المشورة، ويُغرق فريقه في اجتماعات لا تنتهي. الحل: أن يدرك أن القرار جزء من القيادة، وأن التردد يقتل الكفاءة. وعندما يغيب المدير الفاعل، تُصاب المؤسسة بالجمود، وتتحول بيئة العمل إلى طابور انتظار طويل بلا توجيه. القائد… حين يغيب الإلهام: القائد الذي لا يملك رؤية، لا يملك أتباعًا بل موظفين. الحل: أن يزرع في فريقه الإيمان لا الخوف، وأن يرى في كل فرد طاقة لا أداة. غياب القائد الملهم يعني غياب الاتجاه، فتضيع الجهود، ويضعف الولاء المؤسسي، ويختفي الشغف الذي يصنع التميز. المعلم… حين يغيب الوعي برسالته: المعلم الذي يجلس على كرسيه ليؤدي واجبًا، لا ليصنع إنسانًا، يفرغ التعليم من رسالته. الحل: أن يدرك أنه يربّي أجيالًا لا يلقّن دروسًا. وحين يغيب وعيه، يتخرّج طلاب يعرفون الحروف ويجهلون المعنى، فيُصاب المجتمع بسطحية الفكر وضعف الانتماء. الإعلامي… حين يغيب الضمير: الإعلامي الذي لا يملأ كرسيه بالمصداقية، يصبح أداة تضليل لا منبر وعي. الحل: أن يضع الحقيقة فوق المصلحة، وأن يدرك أن الكلمة مسؤولية. وعندما يغيب ضميره، يضيع وعي الجمهور، ويتحول الإعلام إلى سوقٍ للضجيج بدل أن يكون منارة للحق. الطبيب… حين يغيب الإحساس بالإنسان: الطبيب الذي يرى في المريض رقمًا لا روحًا، ملأ كرسيه علمًا وفرّغه إنسانية. الحل: أن يتذكر أن الطب ليس مهنة إنقاذ فقط، بل مهنة رحمة. وحين يغيب هذا البعد الإنساني، يفقد المريض الثقة، ويصبح الألم مضاعفًا، جسديًا ونفسيًا معًا. الحاكم أو القاضي… حين يغيب العدل: الحاكم أو القاضي الذي يغفل ضميره، يملأ الكرسي رهبة لا هيبة. الحل: أن يُحيي في قراراته ميزان العدالة قبل أي شيء. فحين يغيب العدل، ينهار الولاء الوطني، ويُصاب المجتمع بتآكل الثقة في مؤسساته. الزوج والزوجة… حين يغيب الوعي بالعلاقة: العلاقة التي تخلو من الإدراك والمسؤولية، هي كرسيان متقابلان لا روح بينهما. الحل: أن يفهما أن الزواج ليس عقداً اجتماعياً فحسب، بل رسالة إنسانية تبني مجتمعاً متماسكاً. وحين يغيب الوعي، يتفكك البيت، وينتج جيل لا يعرف معنى التوازن ولا الاحترام. خاتمة الكرسي ليس شرفًا، بل تكليف. وليس مكانًا يُحتل، بل مساحة تُملأ بالحكمة والإخلاص. فالمجتمعات لا تنهض بالكراسي الممتلئة بالأجساد، بل بالعقول والقلوب التي تعرف وزنها حين تجلس… وتعرف متى تنهض.
4767
| 20 أكتوبر 2025
لم تكنِ المأساةُ في غزّةَ بعددِ القتلى، بل في ترتيبِ الأولويات؛ لأن المفارقةَ تجرحُ الكرامةَ وتؤلمُ الروحَ أكثرَ من الموت. ففي الوقتِ الذي كانتْ فيهِ الأمهاتُ يبحثنَ بينَ الركامِ عن فلذاتِ أكبادِهِنَّ أو ما تبقّى منهُم، كانتْ إسرائيلُ تُحصي جثثَها وتُفاوِضُ العالمَ لتُعيدَها قبلَ أن تسمحَ بعبورِ شاحنةِ دواءٍ أو كيسِ طحينٍ. وكأنَّ جُثثَ جنودِها تَستحقُّ الضوء، بينما أَجسادُ الفلسطينيينَ تُدفنُ في العتمةِ بلا اسمٍ ولا وداعٍ ولا حتى قُبلةٍ أَخيرةٍ. فكانتِ المفاوضاتُ تُدارُ على طاولةٍ باردةٍ، فيها جُثثٌ وجوعٌ وصُراخٌ ودُموعٌ، موتٌ هنا وانتظارٌ هناك. لم يكنِ الحديثُ عن هدنةٍ أو دواءٍ، بل عن أشلاءٍ يُريدونَها أولًا، قبلَ أن تَعبُرَ شُحنةُ حياةٍ. أيُّ منطقٍ هذا الذي يجعلُ الجُثّةَ أَكثرَ استحقاقًا من الجائعِ، والنّعشَ أسبقَ من الرّغيف؟ أيُّ منطقٍ ذاك الذي يُقلِبُ موازينَ الرحمةِ حتى يُصبحَ الموتُ امتيازًا والحياةُ جريمةً؟ لقد غدتِ المساعداتُ تُوزَّعُ وفق جدولٍ زمنيٍّ للموتى، لا لاحتياجاتِ الأحياء، صارَ من يُدفنُ أَسرعَ ممن يُنقذُ، وصارتِ الشواهدُ تُرفَعُ قبلَ الأرغفةِ. في غزّةَ لم يَعُدِ الناسُ يَسألونَ متى تَصلُ المساعداتُ، بل متى تُرفَعُ القيودُ عن الهواء. فحتى التنفّسُ صارَ ترفًا يَحتاجُ تصريحًا. في كلِّ زُقاقٍ هناكَ انتظارٌ، وفي كلِّ انتظارٍ صبرُ جبلٍ، وفي كلِّ صبرٍ جُرحٌ لا يندملُ. لكنَّ رغمَ كلّ ذلك ما زالتِ المدينةُ تَلِدُ الحياةَ من قلبِ موتِها. هُم يَدفنونَ موتاهم في صناديقِ الخشبِ، ونحنُ نَدفنُ أحزانَنا في صدورِنا فتُزهِرُ أملًا يُولَدُ. هُم يَبكونَ جُنديًّا واحدًا، ونحنُ نَحمِلُ آلافَ الوُجوهِ في دَمعَةٍ تُسقي الأرضَ لتَلِدَ لنا أَحفادَ من استُشهِدوا. في غزّةَ لم يكنِ الوقتُ يَتَّسِعُ للبُكاءِ، كانوا يَلتقطونَ ما تَبقّى من الهواءِ لِيَصنَعوا منه بروحِ العزِّ والإباء. كانوا يَرونَ العالمَ يُفاوِضُ على موتاهُ، ولا أَحدَ يَذكُرُهم بكلمةٍ أو مُواساةٍ، بينما هُم يُحيونَ موتاهُم بذاكرةٍ لا تَموتُ، ومع ذلك لم يَصرُخوا، لم يَتوسَّلوا، لم يَرفَعوا رايةَ ضعفٍ، ولم يَنتظروا تلكَ الطاولةَ أن تَتكلَّمَ لهم وعَنهُم، بل رَفَعوا وُجوهَهم إلى السماء يقولون: إن لم يكن بك علينا غضبٌ فلا نُبالي. كانتِ إسرائيلُ تَحصُي خَسائِرَها في عَدَدِ الجُثَث، وغزّة تَحصُي مَكاسِبَها في عَدَدِ مَن بَقوا يَتَنفَّسون. كانت تُفاخر بأنها لا تَترُكُ قَتلاها، بينما تَترُكُ حياةَ أُمّةٍ بأَكملها تَختَنِقُ خلفَ المَعابِر. أيُّ حضارةٍ تلكَ التي تُقيمُ الطقوسَ لِموتاها، وتَمنَعُ الماءَ عن طفلٍ عطشان؟ أيُّ دولةٍ تلكَ التي تُبجِّلُ جُثَثَها وتَتركُ الإنسانيّةَ تحتَ الرُّكام؟ لقد كانتِ المفاوضاتُ صورةً مُكثَّفةً للعالمِ كُلِّه؛ عالمٍ يَقِفُ عندَ الحدودِ يَنتظر “اتِّفاقًا على الجُثَث”، بينما يَموتُ الناسُ بلا إِذنِ عُبورٍ. لقد كشفوا عن وجوهِهم حينَ آمَنوا أن عودةَ جُثّةٍ مَيتةٍ أَهمُّ من إِنقاذِ أرواحٍ تَسرِقُ الأَنفاس. لكن غزّة كالعادة كانتِ الاستثناءَ في كلِّ شيءٍ وصَدمةً للأعداءِ قبل غيرِهم، وهذا حديثهم ورأيهم. غزّة لم تَنتظر أَحدًا ليُواسيَها، ولم تَسأَل أَحدًا ليَمنَحَها حَقَّها. حينَ اِنشَغَلَ الآخرونَ بعدَّ الجُثَث، كانت تُحصي خُطواتها نحو الحياة، أَعادت تَرتيبَ أَنقاضِها كأنها تَبني وطنًا جديدًا فوقَ عِظامِ مَن ماتوا وُقوفًا بشموخ، وأَعلَنَت أنَّ النَّبضَ لا يُقاس بعددِ القلوبِ التي توقَّفَت، بل بعددِ الذين ما زالوا يَزرَعونَ المستقبل، لأنَّ المستقبل لنا. وهكذا، حين يَكتُب التاريخُ سطره الأخير، لن يَقول من الذي سلّم الجُثَث، بل من الذي أَبقى على رُوحه حيّة. لن يَذكُر عددَ التوابيت، بل عددَ القلوب التي لم تَنكسِر. دولةُ الكيان الغاصب جَمَعَت موتاها، وغزّة جمَعَت نَفسها. هم دَفَنوا أَجسادَهم، وغزّة دَفَنَت بُذورَ زيتونِها الذي سَيُضيء سَنا بَرقه كل أُفق. هم احتَفلوا بالنِّهاية، وغزّة تَفتَح فَصلًا من جديد. في غزّة، لم يَكُنِ الناس يَطلُبون المعجزات، كانوا يُريدون فقط جُرعةَ دواءٍ لِطفلٍ يحتضر، أو كِسرةَ خُبزٍ لامرأةٍ عَجوز. لكن المعابِر بَقِيَت مُغلَقة لأن الأَموات من الجانب الآخر لم يُعادوا بعد. وكأنَّ الحياة هُنا مُعلَّقة على جُثّة هناك. لم يَكُن العالم يسمع صُراخَ الأَحياء، بل كان يُصغي إلى صَمتِ القُبور التي تُرضي إسرائيل أكثر مما تُرضي الإنسانية.
3228
| 21 أكتوبر 2025
المعرفة التي لا تدعم بالتدريب العملي تصبح عرجاء. فالتعليم يمنح الإطار، بينما التدريب يملأ هذا الإطار بالحياة والفاعلية. في الجامعات تحديدًا، ما زال كثير من الطلاب يتخرجون وهم يحملون شهادات مليئة بالمعرفة النظرية، لكنهم يفتقدون إلى الأدوات التي تمكنهم من دخول سوق العمل بثقة. هنا تكمن الفجوة بين التعليم والتدريب. فبدلاً من أن يُترك الخريج يبحث عن برامج تدريبية بعد التخرج، من الأجدى أن يُغذّى التعليم الجامعي بجرعات تدريبية ممنهجة، وأن يُطرح مسار فرعي بعنوان «إعداد المدرب» ليخرّج طلابًا قادرين على التعلم وتدريب الآخرين معًا. تجارب ناجحة: - ألمانيا: اعتمدت نظام التعليم المزدوج، حيث يقضي الطالب جزءًا من وقته في الجامعة وجزءًا آخر في بيئة العمل والنتيجة سوق عمل كفؤ، ونسب بطالة في أدنى مستوياتها. - كوريا الجنوبية: فرضت التدريب الإلزامي المرتبط بالصناعة، فصار الخريج ملمًا بالنظرية والتطبيق معًا، وكانت النتيجة نهضة صناعية وتقنية عالمية. -كندا: طورت نموذج التعليم التعاوني (Co-op) الذي يدمج الطالب في بيئة العمل خلال سنوات دراسته. هذا أسهم في تخريج طلاب أصحاب خبرة عملية، ووفّر على الدولة تكاليف إعادة التأهيل بعد التخرج. انعكاسات التعليم بلا تدريب: 1. اقتصاديًا: غياب التدريب يزيد الإنفاق الحكومي على إعادة التأهيل. أما إدماج التدريب، فيسرّع اندماج الخريج في السوق ويضاعف الإنتاجية. 2. مهنيًا: الطالب المتدرب يتخرج بخبرة عملية وشبكة علاقات مهنية، ما يمنحه ثقة أكبر وفرصًا أوسع. 3. اجتماعيًا: حين يتقن الشباب المهارات العملية، تقل مستويات الإحباط، ويتحولون من باحثين عن وظيفة إلى صانعين للفرص. حلول عملية مقترحة لقطر: 1. دمج التدريب ضمن المناهج الجامعية: أن تُخصص كل جامعة قطرية 30% من الساعات الدراسية لتطبيقات عملية ميدانية بالتعاون مع المؤسسات الحكومية والقطاع الخاص واعتماد التدريب كمتطلب تخرج إلزامي لا يقل عن 200 ساعة. 2. إنشاء مجلس وطني للتكامل بين التعليم والتدريب: يضم وزارتي التعليم والعمل وممثلي الجامعات والقطاع الخاص، ليضع سياسات تربط بين الاحتياج الفعلي في السوق ومخرجات التعليم. 3. تفعيل مراكز تدريب جامعية داخلية: تُدار بالشراكة مع مراكز تدريب وطنية، لتوفير بيئات تدريبية تحاكي الواقع العملي. 4. تحفيز القطاع الخاص على التدريب الميداني. منح حوافز ضريبية أو أولوية في المناقصات للشركات التي توفر فرص تدريب جامعي مستدامة. الخلاصة التعليم بلا تدريب يظل معرفة ناقصة، عاجزة عن حمل الأجيال نحو المستقبل. إنّ إدماج التدريب في التعليم الجامعي، وإيجاد تخصصات فرعية في إعداد المدربين، سيضاعف قيمة التعليم ويحوّله إلى أداة لإطلاق الطاقات لا لتخزين المعلومات. فحين يتحول كل متعلم إلى مُمارس، وكل خريج إلى مدرب، سنشهد تحولًا حقيقيًا في جودة رأس المال البشري في قطر، بما يواكب رؤيتها الوطنية ويقودها نحو تنمية مستدامة.
2862
| 16 أكتوبر 2025