رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

Al-sharq

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

الشرق

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

ميسون أبو حمدة

* مدربة معتمدة في التنمية الذاتية

مساحة إعلانية

مقالات

420

ميسون أبو حمدة

جبل القرود في بيئة العمل.. دروس في القيادة

29 أغسطس 2025 , 04:51ص

في كل بيئة عمل، هناك قصص صغيرة تتكرر: موظف يطلب منك المساعدة في مهمة، زميل يترك لك مسؤولية متابعة أمر ما، أو فريق ينتظر منك أن تحلّ مشكلاتهم بدلًا عنهم. وفي لحظة غير واعية، تجد نفسك تحمل على كتفيك «قرودًا» لم تكن من حصتك أصلًا.

هذه القرود ليست حقيقية بالطبع، بل استعارة قدّمها الباحثان ويليام أونكن جونيور ودونالد واس في مقالة شهيرة نُشرت في هارفارد بزنس ريفيو قبل عقود. شبّها المشكلات والمهام بالقرود، وحذّرا القادة والمديرين من عادة تسلّق هذه القرود على أكتافهم. فالمدير الذي يستجيب بسرعة لكل طلب، أو يقبل أن يتابع كل صغيرة وكبيرة بنفسه، يجد نفسه محاصرًا بجبل من القرود التي لم يطلبها ولم يخطط لها. أتذكر بوضوح أيامي الأولى حين عملت منسقة في إحدى المدارس. بحماس البدايات، كنت أظن أن النجاح يعني أن أساعد الجميع، وأن أتأكد أن كل شيء يسير بلا أخطاء. فإذا سلّمني أحدهم مهمة ناقصة، أتممها عنه. وإذا كتب تقريرًا مرتبكًا، أراجعه وأعيد صياغته من جديد. لم يكن الأمر مجرّد تعاون، بل كان شعورًا خفيًا أنني لو لم أفعل ذلك سينهار العمل.

ومع مرور الأيام، وجدت نفسي غارقة تحت أكوام من المهام الصغيرة والكبيرة. كل «قرد» تركه زميل في بريده الإلكتروني كان يقفز إلى صندوق الوارد عندي، ثم يستقر على كتفي، يمنعني من التنفس. كنت أصل إلى نهاية اليوم مُرهقة، لا لأنني أنجزت ما يخصني، بل لأنني أنجزت ما يخص الجميع. وحين كنت أسأل نفسي: لماذا لا أفوّض؟ لماذا لا أعلّم غيري بدلًا من أن أعدل وراءه؟ كانت الإجابة واحدة: لم أرد أن أصطدم بأحد.

كنت أخاف أن يظنوا أنني قاسية أو أنني لا أتعاون. فقبلت كل شيء بصمت. لكن الثمن كان باهظًا: ثقل على كتفي، إرهاق يزداد، وفريق لم يتعلّم كيف يتحمل مسؤولياته. الذين يحملون «قرود» الآخرين قد يُنظر إليهم في البداية كأشخاص لطفاء، قادة داعمين، وزملاء متعاونين. لكن الحقيقة المؤلمة أن هذا السلوك يضر الجميع: القائد يتآكل وقته وجهده في التفاصيل بدل أن يتفرغ للرؤية الأكبر، والموظفون يفقدون فرصة التعلم والنمو، لأن كل خطأ يُصحَّح عنهم، وكل تقصير يُغطّى عليهم، والفريق ككل يعتاد ثقافة الاعتماد على الآخر بدلًا من ثقافة المسؤولية المشتركة. وبينما يظن القائد أنه «يخدم» فريقه، يكون في الحقيقة قد أفسد التوازن: جعل نفسه مستنزفًا، وجعل الآخرين متكئين.

ومع مرور الوقت، بدأت ألاحظ أن المشكلة لم تكن في حجم العمل نفسه، بل في طريقتي في التعامل معه. لم يكن الأمر يتطلب مزيدًا من الجهد، بل مزيدًا من الوعي. كان عليَّ أن أتعلم كيف أعيد كل قرد إلى صاحبه، وكيف أضع حدودًا واضحة دون أن أشعر أنني أقل تعاونًا أو أنني «أخذل» أحدًا. فصرت أدرّب نفسي على التمييز بين ما هو فعليًا من دوري وما تسلّل إليَّ من مهام الآخرين. وحين يصلني إيميل من أحد الزملاء يتوقع أن أتكفل بمهمته، كنت أبتسم وأرد: «أثق أنك تستطيع إنهاء هذا، دعني أعرف فقط إن احتجت دعمًا». شيئًا فشيئًا، أدركت أن تقديم الإرشاد أعمق أثرًا من القيام بالمهمة بدلًا من صاحبها، وأن الفريق ينمو حقًا عندما يتعلم كل فرد أن يرعى قرده بنفسه بدل أن يُسقطه على الآخرين.

تعلّمت أن القائد الحقيقي ليس من يحمل كل شيء على كتفيه، بل من يعرف متى يقول: «هذه مهمتك أنت، وأنا هنا لأدعمك لا لأقوم بها عنك». أدركت أن رفضي للتصادم لم يكن رحمة، بل كان عائقًا يمنع الآخرين من التطور. وأن خوفي من كلمة «لا» جعلني أظلم نفسي وفريقي في آن واحد. ومع الوقت اكتشفت أن التفويض ليس ضعفًا ولا تهرّبًا، بل هو تدريب حيّ على القيادة. أن أعطي المهمة لزميل مع معايير واضحة وجدول زمني، ثم أتابعها دون أن أستحوذ عليها، هو فعل قيادة أعظم من إنجاز المهمة بنفسي.

القيادة الحقيقية لا تُقاس بعدد القرود التي تحملها على ظهرك، بل بقدرتك على أن تبقي القرود حيث تنتمي: على أكتاف أصحابها. ومن هنا يولد الفرق بين قائد غارق في التفاصيل لا يجد وقتًا للتفكير، وقائد يحرّر نفسه ليقود المستقبل. في النهاية، نحن لا نحتاج إلى قادة أبطال ينهكون أنفسهم، بل إلى قادة أذكياء يعرفون أن أعظم خدمة يقدمونها لفريقهم هي أن يثقوا بهم، ويدربوهم على تحمّل المسؤولية. فالقرد إذا حمله كل فرد عن نفسه، صار الطريق أخفّ وأوسع للجميع.

واليوم، حين أعود بذاكرتي إلى تلك المرحلة، لا أرى جبل القرود بقدر ما أرى نفسي وأنا أتعلم أثمن درس في القيادة: أن تكون قائدًا لا يعني أن تُرهق كتفيك، بل أن تُحررها لتبني مستقبلًا مع فريقك، لا بدلًا عنه.

اقرأ المزيد

alsharq رحمات مُرسلة

في مسيرة الحياة، تتسلل إلينا بعض الأرواح كأنها إشارات خفيّة من السماء، تحمل في حضورها سكينة تخفف عن... اقرأ المزيد

324

| 21 أكتوبر 2025

alsharq متى تعود غزة للحياة؟

ما هذه الأخبار التي نقرأها كل يوم؟! أليس من المفترض أن يكون قرار وقف إطلاق النار ساريا منذ... اقرأ المزيد

135

| 21 أكتوبر 2025

alsharq ثقافة الإلغاء

مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، أصبح توثيق كل كلمة وصورة سهلا وفي متناول اليد. وكل صواب وخطأ يمكن... اقرأ المزيد

159

| 21 أكتوبر 2025

مساحة إعلانية