رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني
رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
في العلوم الاجتماعية برز تخصص يهتم بالتنمية المستدامة عبر الأجيال، ويؤكد هذا التوجه أن التنمية لا تقتصر على الجانب الاقتصادي فقط، بل يجب أن تشمل الأبعاد البيئية والاجتماعية أيضاً. ويُعدّ السلام الداخلي والخارجي عنصراً أساسياً لتحقيق التنمية، إذ إن الحروب والأزمات تخلّف آثاراً مدمّرة وتعيق مسارات النمو الاقتصادي والاجتماعي. وعند ربط مفهوم السلام المستدام بالسياسات والممارسات الإسرائيلية ومحاولة مواءمته مع مفهومي السلام والتنمية الإقليميين، تتضح صورة معقدة تكشف عن حجم تأثير هذه السياسات على استقرار المنطقة وفرص تحقيق تنمية حقيقية ومستدامة. يُشكّل البُعد الاقتصادي حجر الأساس في مفهوم التنمية المستدامة، غير أنّ الحروب والأزمات التي تشعلها إسرائيل أو تساهم في تفجيرها داخل الشرق الأوسط تُخلّف أعباء اقتصادية هائلة وتُقوّض فرص الاستقرار والتنمية. ورغم أنّ الأرواح التي تُزهق لا يمكن تقديرها بأي ثمن مادي، فإن الخسائر الاقتصادية الناجمة عن هذه الصراعات وصلت إلى مستويات يصعب حصرها أو تعويضها. فمنذ نشأتها، خاضت إسرائيل حروباً متتالية، تكبّدت فيها نفقات عسكرية ضخمة، بينما كانت كلفة الدمار أضعاف تلك النفقات. ففي الحرب الأخيرة على غزة، استخدمت إسرائيل ما يقارب 200 ألف طن من المتفجرات، مخلّفة دماراً واسعاً. وتشير تقديرات البنك الدولي إلى أن إعادة إعمار القطاع تتطلّب ما لا يقل عن 50 مليار دولار، وهو رقم يعكس حجم الكارثة الاقتصادية التي خلّفتها هذه الحرب. إن العدوانية الإسرائيلية لا تقتصر على التسبب في القتل والدمار، بل تمتد لتزعزع استقرار الشرق الأوسط كله وتجعله منطقة غير آمنة وغير جاذبة للاستثمار والتنمية. فإسرائيل لا تقوم فقط بالاعتداء المباشر، بل تساهم أيضاً في تأجيج التوترات وإشعال الأزمات في عدة دول بالمنطقة، مما يؤدي إلى حالة مستمرة من عدم الاستقرار والغموض السياسي والاقتصادي. وفي هذا الوضع، تصبح دول المنطقة عاجزة عن جذب الاستثمارات، ويتردد المواطنون العرب في الداخل والخارج في توظيف أموالهم داخل بلدانهم. ويظهر ذلك بوضوح في لبنان، حيث تعيق الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة تعافي اقتصاده الهش، وكذلك في سوريا، حيث تؤدي الهجمات الإسرائيلية المتواصلة إلى زيادة حالة عدم الاستقرار وإفشال أي خطط تنموية مستقبلية. يشكّل الحفاظ على البيئة الركيزة الثانية للتنمية المستدامة، غير أن السياسات الإسرائيلية تتسبب بأضرار بيئية كارثية. فالدمار في غزة خلّف كميات هائلة من الأنقاض تتكوّن من الحديد والخرسانة ومواد أخرى يصعب فصلها، في ظل وجود قنابل غير منفجرة تشكّل خطراً دائماً على السكان. وتُعدّ إزالة هذا الركام قبل أي عملية إعادة إعمار عبئاً مالياً هائلاً. كما تستولي إسرائيل على مياه نهر الأردن وتدمّر أراضي الفلسطينيين الزراعية وبساتينهم، بينما يقوم المستوطنون غير الشرعيين بتخريب حقول الزيتون، وهي أشجار تحتاج إلى ما بين 25 و30 عاماً لتنمو وتثمر، مما يجعل تعويض هذه الخسائر أمراً بالغ الصعوبة ويزيد من تدهور البيئة في المنطقة. لتحقيق السلام المستدام، لا بد من اعتماد الحوار والحلول الدبلوماسية لمعالجة الأزمات والتوترات، غير أن إسرائيل منذ توقيع اتفاقيات أوسلو عام 1993 اختارت مسار القوة بدلاً من التفاوض، فاعتمدت على القمع العسكري لإسكات الشعب الفلسطيني. وعندما يرفض الفلسطينيون الخضوع، ترد إسرائيل بعنف أكبر ودمار أوسع، ما يؤدي إلى تفاقم معاناة الفلسطينيين وتقويض أي فرصة حقيقية لتحقيق تسوية سلمية. ومع ازدياد حجم المأساة، تتراجع آمال التوصل إلى سلام عادل قائم على التفاهم والاتفاق. من المعروف أن بنيامين نتنياهو لم يُبدِ أي استعداد جاد للتوصل إلى اتفاق بشأن غزة. فهو يربط مستقبله السياسي بالحرب، ويتبنى نهجاً عدوانياً لا يقتصر على استهداف الفلسطينيين فحسب، بل يشمل أيضاً مهاجمة دول وسيطة وتهديد دول أخرى. كما أن إسرائيل، بعد الحرب الأخيرة على غزة، تسعى لإفشال اتفاق وقف إطلاق النار من خلال اختلاق الذرائع، إذ تستخدم حجة عدم تسليم جثامين الرهائن لإغلاق المعابر الحدودية ومنع وصول المساعدات الإنسانية، ملوّحة بالعودة إلى التصعيد العسكري وتهديدها بالحرب مجدداً. من الصعب أن تحقق إسرائيل تنمية وسلاماً مستدامين قائمين على العدالة والمساواة الاجتماعية، إذ رغم توقيعها اتفاقيات إبراهيم وتطبيعها العلاقات مع بعض الدول العربية، فإن حكومة بنيامين نتنياهو لم تنجح في تحقيق أي تطبيع حقيقي على المستوى الشعبي مع الفلسطينيين أو شعوب المنطقة. وقد ساهمت المجازر في غزة في تشويه صورتها دولياً، إلى درجة أن الإسرائيليين يواجهون رفضاً شعبياً حتى في دول غير عربية. ويُضاف إلى ذلك أن عدوانها المستمر يتسبب بدمار واسع يمس الغذاء والتعليم، والصحة والبنية التحتية والبيئة. ومن ثم، فإن غياب العدالة يجعل السلام المستدام أمراً مستحيلاً، كما أن غياب السلام بدوره يمنع تحقيق التنمية المستدامة.
516
| 20 أكتوبر 2025
مع أننا نتقدّم في العمر كل يوم قليلاً، إلا أن أحداً منا لا يرغب في الشيخوخة. فالإنسان بطبيعته يسعى للخلود في هذه الدنيا. وتروي الأساطير القديمة كيف كان الإنسان يسعى وراء “إكسير الحياة” من أجل نيل الخلود. أما في مجتمعاتنا المعاصرة، فإن ظاهرة الشيخوخة تتزايد بشكل ملحوظ، وانتشرت المنتجات المضادة للتقدّم في العمر على نطاق واسع. وقد بلغت قيمة هذه المنتجات في الأسواق العالمية نحو 100 مليار دولار، بل إن هذا القطاع بات يُعرف باسم «الاقتصاد الفضي». لكن ما أسباب تزايد نسبة كبار السن في مجتمعاتنا؟ وما النتائج المترتبة على ذلك؟ باستثناء البلدان التي تعاني من الحروب والفقر، فإن متوسط العمر المتوقع يرتفع في جميع دول العالم، كما تزداد نسبة كبار السن في المجتمعات. فعلى سبيل المثال، شهد كل من تركيا وقطر خلال الخمسين عاماً الماضية زيادة كبيرة في متوسط العمر المتوقع؛ إذ كان هذا المتوسط في ستينيات القرن العشرين أقل من 60 عاماً، بينما وصل اليوم إلى نحو 80 عاماً. أي أن الناس يعيشون الآن ما يقارب جيلاً كاملاً أكثر من السابق. ويُعزى السبب في ذلك إلى التقدّم الكبير في المجال الصحي، بما في ذلك تطوير اللقاحات وتحسّن خدمات وتقنيات الرعاية الصحية، بالإضافة إلى النجاح في مكافحة الأمراض المعدية، الأمر الذي ساهم في إطالة عمر الإنسان. ومن جانب آخر، أدى تراجع معدلات الخصوبة إلى انخفاض عدد الشباب في المجتمع. ومع التقدّم في مظاهر الحداثة، أصبح الناس يتبعون أنماط تغذية أكثر صحّة ووعياً، كما تراجعت نسب وفيات الأطفال والأمهات بشكل ملحوظ. إضافةً إلى ذلك، ساهم انتقال السكان من المناطق الريفية إلى المدن في استفادتهم بشكل أكبر من الخدمات الصحية المتطورة. هذا التحوّل الديموغرافي لا يقتصر على تغيير البنية السكانية للمجتمع، بل يترك تأثيراً عميقاً على الاقتصاد والسياسات العامة والحياة الاجتماعية. فبعد أن كانت السياسات موجّهة بشكل أساسي نحو الشباب، باتت الآن مضطرة إلى التركيز أيضاً على احتياجات كبار السن ومتطلباتهم. إن ازدياد عدد كبار السن يفرض إعادة النظر في سياسات الرعاية الصحية، وأدوار الأسرة، وأنظمة التقاعد، كما يؤثر على مجالات أخرى مثل سوق العمل، مما يستدعي تبنّي مقاربات جديدة. وفي المجتمعات المسلمة التقليدية، يدفع هذا الارتفاع في أعداد كبار السن العائلات إلى العيش معاً ضمن أسر متعددة الأجيال تضم ثلاثة أو أربعة أجيال في منزل واحد. ونتيجة لذلك، يتحمّل البالغون في منتصف العمر مسؤوليتين في آن واحد: تربية أطفالهم ورعاية آبائهم أو أجدادهم المسنين. وقد أُطلق على هذه الفئة في الغرب اسم “جيل السندويتش”، نظراً لأنها تقع بين جيلين وتواجه ضغوطاً نفسية ومالية كبيرة نتيجة هذا الوضع. لقد تحوّل تركيز الخدمات الصحية، التي كانت تركز في السابق على صحة الأم والطفل والولادة، إلى إعطاء اهتمام أكبر برعاية المسنين. فمع التقدم في العمر، تصبح الأمراض المزمنة مثل السكري، وهشاشة العظام، وأمراض القلب، والتهاب المفاصل، ومرض الزهايمر أكثر انتشاراً، مما يجعل الحاجة إلى الرعاية المستمرة والخدمات الطبية المتخصصة أكثر أهمية. ولمواكبة هذه التحولات، تعمل المؤسسات الصحية على توسيع خدماتها الخاصة بكبار السن، وتطوير مستشفيات صديقة للمسنين، والاستثمار في خدمات الرعاية المنزلية والرعاية الصحية عن بُعد. تتزايد الخدمات المخصّصة لدعم الصحة النفسية للمسنين مع التراجع الجسدي وضعف القدرات الإدراكية الذي يصاحب التقدم في العمر، إذ يمكن للتقاعد وفقدان الشريك وصعوبات الحركة أن تقلل من فرص التفاعل الاجتماعي، مما يدفع إلى الاستثمار في بنى تحتية صديقة لكبار السن تشمل المساحات العامة المهيّأة ووسائل النقل الآمنة وتصميم المساكن الشامل. كما تسهم مراكز رعاية المسنين وبرامج التعلم مدى الحياة والمبادرات التطوعية في إبقاء كبار السن نشطين وفاعلين في المجتمع وتعزيز رفاههم العام. وعلى الصعيد السياسي، فإن تأثير كبار السن ليس جديداً، لكن المرحلة المقبلة قد تشهد حضوراً متزايداً لزعماء تجاوزوا الثمانين من أعمارهم. إن ازدياد متوسط العمر يفرض الحاجة إلى مزيد من المرونة في تشغيل كبار السن، وإلى برامج إعادة تأهيل مهني، إضافة إلى تطوير سياسات تقاعد جديدة. ففترات التقاعد الطويلة تضع ميزانيات الدول، سواء في الغرب أو في تركيا، تحت ضغط مالي كبير، مما يهدد استدامتها على المدى الطويل. أما في العالم العربي والإسلامي، فإن تصاعد مطالب كبار السن، في وقت لم تُلبَّ فيه بعد احتياجات الشباب بشكل كافٍ، قد يجعل المشهد السياسي أكثر تعقيداً. ومع ذلك، فإن إطالة العمر قد تتيح فرصة للأحفاد لرؤية أجداد أجدادهم، مما يعزز روح التفاهم والتضامن بين الأجيال. وكما كان جدي يقول لي عندما كنت صغيراً: «يا حفيدي، قد لا أصبح مثلك، لكنك يوماً ما ستصبح مثلي».
774
| 13 أكتوبر 2025
الاغتراب الثقافي هو ابتعاد الفرد عن جذوره الثقافية وقيم مجتمعه، إما بإرادته أو نتيجة ظروف اجتماعية واقتصادية خارجة عن إرادته. ينعكس هذا الشعور في القلق والاكتئاب وضعف الانتماء، ويظهر اجتماعيًا في صعوبة الاندماج والميل أحيانًا للتطرف. وتُعدّ العولمة، والهجرة، والتحولات الاجتماعية السريعة من أبرز أسباب تفاقم هذه الظاهرة، التي وإن لم تقتصر على المسلمين، فإنّ فهمها داخل المجتمعات الإسلامية ضروري للحفاظ على الهوية الثقافية والتوازن الاجتماعي. تُعدّ العولمة من أبرز الأسباب الرئيسة للاغتراب الثقافي. فمع تطوّر وسائل الاتصال وانتشار الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، أصبحت الثقافة الغربية – من خلال أفلام هوليوود ومنصّات مثل نتفليكس – تنتشر في كل أنحاء العالم. ونتيجة لذلك، يتجه العديد من الشباب المسلمين نحو أنماط حياة جديدة تختلف عن تقاليد وآداب وعقائد آبائهم وأمهاتهم. هذا التأثير يؤدي إلى مشكلات في الانتماء والولاء، سواء للدين أو للوطن، ويخلق حالة من الارتباك والصراع بين الأجيال. بل إن هذا الاغتراب قد يسهّل – كما في حالة تنظيم داعش – انزلاق بعض الأفراد نحو التطرف والعنف. إنّ ظاهرة الاغتراب الثقافي في العالم الإسلامي ليست وليدة العصر الحديث، بل تمتد جذورها إلى الحقبة الاستعمارية حين فُرضت الثقافة الغربية وهيمنتها الفكرية والتقنية على المجتمعات الإسلامية، مما ترك أثرًا عميقًا في عقول النخب المتعلمة ولا تزال تأثيراته مستمرة حتى اليوم. وفي القرن العشرين، شهدت دول مثل تونس – التي خضعت للاستعمار الخارجي – وتركيا – التي واجهت شكلًا من أشكال الاستعمار الداخلي – موجات من العلمنة فرضتها الدولة، فأدت إلى فجوة ثقافية بين النخب الحاكمة والجماهير المسلمة، ولا تزال مظاهر هذه القطيعة تتكرر بدرجات متفاوتة في دول إسلامية أخرى. كما تشهد المجتمعات الإسلامية مظاهر متعددة لعدم الاستقرار السياسي من أزمات وانقلابات وحروب أهلية تسببت في نزوح أعداد كبيرة من السكان، كما حدث في الصومال والعراق وسوريا، ويُضاف إليها اليوم السودان الذي يشهد موجات هجرة ضخمة نحو الخارج، وغالبًا إلى الدول الغربية حيث يواجه المهاجرون ضغوطًا ثقافية وتمييزًا وشعورًا متزايدًا بالضعف والاغتراب في بيئات تختلف جذريًا عن ثقافتهم وهويتهم الأصلية. إنّ الهجرات الطوعية التي نشهدها اليوم – وخاصة نحو الغرب – تعرّض المسلمين لثقافات مختلفة جذريًا عن ثقافاتهم الأصلية. ففي البلدان التي يصلون إليها، يجدون أنفسهم بين خيارين صعبين: إما الاندماج الكامل الذي قد يؤدي إلى الذوبان الثقافي، أو مواجهة العزلة والتهميش الاجتماعي. ورغم أن الكثير منهم يهاجرون بإرادتهم، إلا أنهم يصطدمون هناك بانتشار الانحرافات الجنسية والمشكلات الأخلاقية والنزعات الإباحيّة، مما يضع الآباء المسلمين في مواقف حرجة. كما أن تعليم الأطفال مبكرًا حول الجنس، وفرض مفاهيم مثل «الحرية الجنسية» و»LGBT» تحت شعارات المساواة وحقوق الإنسان، يشكّل تحديًا كبيرًا للأسر المسلمة. وبالمثل، يتعرض مفهوم الحلال والحرام للتهديد أو التآكل، ويواجه المسلمون المتمسكون به صعوبات جمّة في التكيّف مع تلك البيئات الجديدة. إنّ تزايد معدلات التحضّر في المجتمعات الإسلامية وما يصاحبه من الهجرة من الريف إلى المدن قد أدى إلى نوع من الاغتراب الثقافي، إذ بدأت القيم الدينية والتقاليد الاجتماعية التي كانت سائدة في الحياة الريفية بالضعف والانحسار أمام أنماط الحياة الحضرية الحديثة، مما مهّد لظهور شخصية أكثر انفتاحًا وطابعًا كوزموبوليتيًا. ومع ارتفاع مستويات الرفاهية، أخذت الروابط القبلية في دول الخليج تتراجع، بينما برزت النزعة الفردية بشكل متزايد. كما أن التعليم المتوسع الذي يُطرح في كثير من الدول الإسلامية بوصفه وسيلة للتنمية والتحديث، أسهم في تغيير نظرة الأفراد إلى الأسرة والعمل، وأعاد تشكيل منظومة القيم والعلاقات الاجتماعية في المجتمعات المسلمة. لمعالجة مشكلة الاغتراب الثقافي المتزايدة بين الشباب في الدول الإسلامية، لا بد من تعزيز الحوار بين الأجيال القديمة والجديدة (وخاصة جيل «زد») لإيجاد فهم مشترك يعيد التوازن الثقافي. ويمكن دعم هذا الهدف من خلال برامج تُعيد إحياء القيم الإسلامية والتقليدية وتغرس في الشباب روح الاعتزاز بهويتهم وثقافتهم. كما يجب أن تتجه المؤسسات التعليمية إلى تطوير مناهج بديلة مستمدة من قيمنا بدلًا من نسخ النماذج الغربية، وأن تُسهم الأعمال الثقافية كالأفلام والمسلسلات في ترسيخ الثقة بالتاريخ والحضارة الإسلامية. ولن يتحقق الحد من الاغتراب الثقافي إلا عبر بناء نظام تعليمي وطني حديث يُمكّن الشباب من تنمية قدراتهم داخل أوطانهم، مع حماية من يهاجرون منهم إلى الخارج من خطر الذوبان الثقافي وفقدان الهوية.
636
| 06 أكتوبر 2025
بعد سنوات طويلة من الحرب الأهلية وسقوط نظام الأسد، استطاع النظام السوري الجديد أن يحقق بالاعتراف الدولي وبتقدّم ملموس في مسار رفع أو تخفيف العقوبات المفروضة على سوريا، إلا أن بعض العقوبات الأمريكية والأوروبية ما زالت سارية حتى الآن تبقى أهم التحديات في سوريا تتمثل في تحقيق الأمن والاستقرار وتأمين المساعدات الإنسانية. إذ إن إعادة الإعمار والتنمية لا يمكن أن تتحقق من دون استتباب الأمن. كما أن هجمات إسرائيل بذريعة تدمير أسلحة النظام السابق تُظهر البلاد وكأنها غير آمنة وتثير مخاوف المستثمرين. ورغم أن دعم المجتمع الدولي لسوريا يُعَد مفيداً بشكل عام، إلا أن التوترات لم تنتهِ بعد في عدة مناطق؛ فشرق الفرات ما زال تحت سيطرة قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، وفي السويداء تتواصل حالة التوتر لدى الدروز، وعلى الساحل المتوسطي لا تزال هناك بوادر تمرد من الطائفة العلوية-النصيرية وإسرائيل تقف وراء الدروز، بينما تحظى الجماعات الكردية بدعم الولايات المتحدة، وهو ما يفتح الباب لتدخلات دولية إضافية. بعد الأمن، من أبرز التحديات التي تواجه سوريا الجديدة الاقتصاد. فبسبب الدمار الذي خلّفته سنوات الحرب، لا يزال ملايين الناس بحاجة ماسة إلى المأوى والغذاء والدواء. كما أن خدمة الكهرباء في عموم البلاد لا تتجاوز خمس إلى ست ساعات يومياً، الأمر الذي يجعل من المستحيل تحقيق نهضة صناعية أو تنموية حقيقية من دون توفير الكهرباء. ورغم أن بعض الدول قدّمت مساعدات كبيرة، إلا أن حجم الاحتياجات يفوق ذلك بكثير. وإلى جانب الأراضي الزراعية المدمرة، هناك بيوت وأراضٍ استولى عليها آخرون، فضلاً عن مساحات واسعة من الأراضي الزراعية المهملة، وهو ما سيجعل معالجتها قانونياً عملية صعبة وتستغرق وقتاً طويلاً. لقد دمّرت سنوات الحرب الأهلية البنية التحتية في سوريا، كما أن العقوبات التي فرضها الغرب لم تقتصر على النظام، بل دمّرت الاقتصاد السوري وأثّرت بشدة على الشعب أيضاً. واليوم، لا تكفي المساعدات الإنسانية لتلبية الاحتياجات، إضافة إلى وجود أزمة سيولة نقدية وارتفاع كبير في معدلات التضخم (تقدر حوالي 40 في المائة). إن البطالة والتضخم يرهقان السوريين بشدة. ومثل هذه التحديات تجعل من عودة اللاجئين أمراً أكثر صعوبة، فيما يشتكي العائدون من نقص الكهرباء وضعف البنية التحتية وبطء عمل المؤسسات وسلبية الإدارة. ومن دون معالجة هذه الأزمات، فإن إعادة الإعمار والتنمية وتحقيق السلم الاجتماعي ستظل أهدافاً بعيدة المنال. تواجه الإدارة السورية الجديدة تحديات كبيرة أيضاً في المجال السياسي. فما زالت هناك خلافات حول مستقبل البلاد وحقوق الأقليات وملامح النظام الجديد. كما تتعرض إدارة «هيئة تحرير الشام» لانتقادات بأنها، رغم الحاجة إلى أن تكون أكثر انفتاحاً على الشعب، ما زالت تتصرف بعقلية ضيقة وبمنطلقات أيديولوجية. ويبدو أن القيادة السياسية تتردد في مسألة تقاسم السلطة وتكريس التعددية، إذ تتعامل أحياناً بعقلية «الثورة والفتح». ورغم أن «هيئة تحرير الشام» أسقطت نظام الأسد، فإن الشعب السوري بمختلف مكوناته قدّم خلال هذه المسيرة أكثر من مليون شهيد. إن استناد بعض الأنظمة الجمهورية العربية سابقاً إلى «الشرعية الثورية» ورفضها لتقاسم السلطة وإقصائها للشعب قد أدى إلى فشل التنمية وتوترات داخلية خطيرة. ولا يمكن مواجهة التهديدات الخارجية وتلبية المطالب الداخلية إلا من خلال دعم شعبي واسع. أما تهميش المكوّنات الأقلية (بل وحتى بعض فئات السنّة)، فإنه لا يثير الاضطراب الداخلي فحسب، بل يفتح المجال أيضاً أمام القوى الخارجية لاستغلال هذه الفئات وتحريضها. وفي هذا السياق، تسعى الإدارة السورية إلى تعزيز تعاونها مع تركيا وقطر لبذل مزيد من الجهود في إعادة إعمار البلاد وتحقيق التنمية. يحظى الدعم المادي والمعنوي من دول الخليج بأهمية بالغة، وفي الوقت نفسه تحتاج سوريا إلى الاستفادة من التجربة التركية في مجالي التنمية الاقتصادية والسياسية، لما بين البلدين من تشابه في الظروف. غير أن إرادة المساعدة من الدول المجاورة إن لم تجد شريكاً جاداً ومشاريع عملية واضحة، فإنها ستفتر مع مرور الوقت. ورغم أن إقصاء نظام الأسد والاعتراف الدولي بالحكومة الجديدة يمثلان مكسباً سياسياً، إلا أن جدواهما تبقى محدودة ما لم تُعالج الأزمات العاجلة التي يواجهها الشعب السوري. الاحتفالات تقوي المعنويات ولكن لا تضمن النجاح. إن الحفاظ على ثقة السوريين وإبقاء الأمل حيّاً، إلى جانب ضمان استمرار الدعم الإقليمي والدولي، يتطلب رؤية واضحة وخطة شاملة وواقعية. وفي هذا السياق، تبعث الإدارة السورية الجديدة على التفاؤل، لأن الوقت قصير أمامها وأن نجاحها مرهون بسرعة الإنجاز.
624
| 29 سبتمبر 2025
بعد هزيمة الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى، تأسست الجمهورية التركية على يد جنود سابقين. ومع ذلك، كان مصطفى كمال أتاتورك يرفض تدخل الجيش في السياسة، وطالب الضباط الراغبين في ممارسة السياسة بخلع زيهم العسكري. ورغم ذلك، تم تنفيذ سياسات التحديث الغربية ضمن النظام الأحادي الحزبية العلماني الذي أنشأه أتاتورك، بمساندة الجيش. بعد الحرب العالمية الثانية، في أول انتخابات عام 1945، فاز حزب الشعب الجمهوري (CHP) الذي أسسه أتاتورك بالانتخابات بطريقة مشكوك فيها، لكن في انتخابات عام 1950، حقق حزب الديمقراطي بقيادة عدنان مندريس فوزًا كبيرًا تحت شعار «يكفي، الكلمة للشعب»، وتولى السلطة. ومن جهته، أتاح الحزب حرية التعليم الديني وعودة الأذان باللغة العربية، مع التركيز على تعزيز الديمقراطية والتواصل مع المواطنين. وبدأت تركيا، التي كانت تعاني تحت حكم الحزب الواحد، تشهد تحسنًا اقتصاديًا وسياسيًا وراحة نسبيّة لشعبها. أجرت حكومة مندريس إصلاحات اقتصادية مهمة، إذ ركزت على إدخال الميكنة في الزراعة لزيادة الإنتاج، وبدأت خطوات واضحة نحو التصنيع. كما أولت اهتمامًا بتشييد الطرق، وتوسعة الموانئ، وبناء السدود، مما أسهم في تعزيز البنية التحتية ودفع عجلة التنمية. وفي المدن، توفرت فرص عمل جديدة، وتحسنت خدمات الصحة والتعليم، وهو ما ساعد على تشجيع الهجرة من القرى إلى المراكز الحضرية. أصبح مندريس أكثر انفتاحًا في سياسته الخارجية، فعمل في ظل أجواء الحرب الباردة على توطيد علاقاته بالولايات المتحدة والغرب لمواجهة الخطر السوفييتي، وأرسل قوات تركية للمشاركة في الحرب الكورية من أجل تمهيد الطريق لانضمام بلاده إلى حلف الناتو. وفي الوقت ذاته سعى لتعزيز الروابط مع الدول الإسلامية، فقام بزيارات إلى لبنان والأردن والعراق وليبيا. كما ساهم بشكل فعال في تأسيس حلف بغداد لتقوية علاقات تركيا بدول المنطقة ودعم الاستقرار الإقليمي. وإلى جانب ذلك، دعم كفاح الجزائر من أجل الاستقلال عبر إرسال أسلحة سرية عن طريق ليبيا. واصل عدنان مندريس تحقيق الانتصارات في الانتخابات المتعاقبة، الأمر الذي أثار قلق النخب الأيديولوجية الموالية للغرب بشأن مستقبل النظام ومصالحهم السياسية. ومع إدراك حزب الشعب الجمهوري والجيش استحالة الوصول إلى السلطة عبر صناديق الاقتراع، لجأوا بدعم من الغرب إلى تنفيذ انقلاب عسكري أطاح بحكم مندريس. وقد شكّل انقلاب 27 مايو 1960 محطة فارقة في التاريخ السياسي للجمهورية التركية، حيث ترك بصمات عميقة على مستقبلها السياسي والاقتصادي، وأرسى نظام الوصاية العسكرية الذي مهد لتدخل الجيش في الحياة السياسية بشكل دوري كل عقد تقريبًا. في أكتوبر 1961، جرى إعدام مندريس واثنين من وزرائه بعد محاكمة صورية، مما ترك أثرًا عميقًا في الحياة السياسية. ورغم عودة البلاد لاحقًا إلى المسار الديمقراطي، فإن مؤسسات الوصاية والنخب الأيديولوجية المعيّنة حافظت على موقع متفوق فوق الإرادة الشعبية والقيادات المنتخبة. وعلى الرغم من أن دستور 1961 تضمّن نصوصًا ذات طابع ليبرالي، إلا أنه كان خاضعًا للوصاية، ومنع قيام حكومة مدنية قوية. وقد زرع انقلاب 1960 خوف الإعدام في نفوس القادة المدنيين، وهو ما جعل شخصيات سياسية مثل سليمان دميريل ونجم الدين أربكان تعيش حالة دائمة من القلق. وفي هذا المناخ، برزت حكومات ائتلافية ضعيفة لم تتمكن من فرض إرادتها ولا من معالجة مشكلات المواطنين. بعد عام 1960، سعت الحكومات المنتخبة إلى التقدّم من خلال تبني اقتصاد مُخطط. وقد تعزّز دور الدولة في الإنتاج والتوظيف عبر المؤسسات الاقتصادية، غير أن هذا النموذج لم يحقق نجاحًا كبيرًا بسبب ضعف الإنتاجية وانعدام القدرة على المنافسة. وبما أن القطاع الخاص كان ضعيفًا جدًا، تأخر الانتقال إلى اقتصاد السوق الحرة وبالتالي إلى التصنيع. ومع حلول سبعينيات القرن الماضي، ظهرت بوضوح مشكلات البطالة المتزايدة وتفاقم الديون الخارجية، وهو ما شكّل دليلاً على الآثار السلبية طويلة المدى التي تركها انقلاب 1960 على الاقتصاد. منذ انقلاب عام 1960، تحول الجيش إلى لاعب أساسي في رسم ملامح الحياة السياسية في تركيا، حيث احتكر توجيه السياسات ومنع المدنيين من التأثير في تحديد أولويات الأمن والسياسة الخارجية حتى وصول أردوغان. كما استندت المؤسسة العسكرية إلى ذريعة الإرهاب والتهديدات الخارجية لتكريس وصايتها، وضمان استحواذها على النصيب الأكبر من ميزانية الدولة. وقد حاولت القوات المسلحة عرقلة صعود أردوغان في عامي 2007 و2016 عبر تدخلات عسكرية، غير أنه استطاع، بفضل الدعم الشعبي المرتكز على مشروع الديمقراطية والتنمية، أن يضع حدًا نهائيًا لهيمنة الجيش على السياسة.
828
| 22 سبتمبر 2025
لم يعرف الشرق الأوسط الاستقرار منذ مائة عام، فقد كان مسرحًا لمقاومة الاستعمار وحركات الاستقلال، وللانقلابات العسكرية، والحروب الداخلية والخارجية، والأزمات، وموجات النزوح، فضلًا عن التدخلات الأجنبية. ومع مطلع القرن الحادي والعشرين، شكَّلت هجمات 11 سبتمبر منعطفًا جديدًا في مسار المنطقة، غير أنّ غزو كلٍّ من أفغانستان والعراق لم يؤدِّ إلى تحقيق الاستقرار المنشود، بل فشل وزاد من حدّة الاضطرابات وعدم الاستقرار. منذ اندلاع ما عُرف بـ «الربيع العربي» في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، دخلت شعوب الشرق الأوسط مرحلة جديدة من الأزمات المتلاحقة، تجسدت في الحروب الأهلية والانقلابات وموجات النزوح الواسعة، إضافة إلى ظهور تنظيم داعش الذي مثّل كارثة عابرة للحدود. وقد شكّلت الصراعات في سوريا واليمن وليبيا أكثر المحطات دموية ودمارًا، حيث عمّقت الانقسامات المذهبية وأضعفت المجتمعات. استغلت إسرائيل ضعف المنطقة وانقسامها، مستخدمة هجمات 7 أكتوبر 2023 ذريعة لشن حرب على فلسطين، حيث كثفت الضغوط والحصار على السكان. ومع توسع المستوطنات، حاولت أيضًا تفريغ القدس وغزة من سكانهما. وقد استغل نتنياهو، مستفيدًا من عجز دول المنطقة والمجتمع الدولي حيال غزة، الفرصة للترويج لمشاريعه في الشرق الأوسط وإسرائيل الكبرى. وفي سبيل ذلك، شنت إسرائيل هجمات امتدت من سوريا إلى اليمن، ومن تونس إلى قطر، بذريعة مواجهة حماس، كما وجّه تهديداته إلى تركيا.البنية الأمنية الحالية في الشرق الأوسط غير كافية للتعامل مع التعقيدات الأمنية التي تواجه المنطقة، ولا سيما لمواجهة العدوان الإسرائيلي. إذ تستمر إسرائيل في قصف سوريا رغم أنها لا تشكل تهديدًا لها، وفي الآونة الأخيرة شنت هجومًا على قطر، التي كانت وسيطًا في النزاع الفلسطيني-الإسرائيلي. (وقبل ذلك، كان هجوم إيران على قطر بذريعة استهداف الولايات المتحدة يُعد سابقة سيئة وأثار قلقًا بالغًا). ومن المقلق أيضًا محاولات جر منطقة الخليج، التي حافظت على قدر كبير من الاستقرار حتى الآن، إلى دائرة النزاع. يتضح اليوم أن البنية الأمنية القائمة في المنطقة، وخاصة المدعومة من الولايات المتحدة، لم تعد فعّالة لإيقاف العدوان الإسرائيلي المتصاعد. إذ لم تتمكن الولايات المتحدة سابقًا من منع الهجمات على أرامكو السعودية كما فشلت في التصدي للهجمات التي تعرّضت لها قطر من كلٍّ من إيران وإسرائيل، مما أثار جدلًا حول فعالية النظام الأمني الذي تقوده الولايات المتحدة. فالمواثيق التقليدية التي تمتد من التحالفات العسكرية الثنائية إلى الائتلافات المؤقتة لا توفر استقرارًا دائمًا في المنطقة. هناك حاجة لإنشاء «ناتو إسلامي» في الشرق الأوسط، يمتد من سوريا إلى السودان، ومن شمال أفريقيا إلى الخليج لضمان الأمن والاستقرار في المنطقة. من الممكن أن تشارك فيه أيضًا باكستان وماليزيا ودول آسيا الوسطى. على سبيل المثال، تركيا لا تثق بحلف شمال الأطلسي الغربي بشكل كامل، ويمكنها الانضمام إلى الناتو الإسلامي أيضا. يهدف «الناتو الإسلامي» إلى تقليل التوترات والصراعات الداخلية بين أعضائه، وفي الوقت نفسه البحث عن حلول مشتركة لمواجهة الهجمات الخارجية. وفي الواقع، تكمن خلف الجرأة والعدوانية الإسرائيلية الحالية ضعف الدول الإقليمية نتيجة صراعاتها الداخلية والخارجية. تستدعي الحاجة وجود مؤسسة نشطة تعمل على نزع سلاح الفاعلين غير الحكوميين والجماعات المسلحة بالوكالة والتدخل المباشر لمعالجة الأزمات الإنسانية. في القرن الحادي والعشرين، لم يعد مفهوم الأمن يقتصر على الاهتمامات العسكرية التقليدية، بل يشمل مواجهة تحديات مثل التغير المناخي، ونقص المياه، والأوبئة، والتهديدات السيبرانية، مع توحيد جهود المجتمع المدني والقطاع الخاص والمنظمات الدولية. فإن تنفيذ مشاريع تنموية جادة وتعزيز رؤية التعاون الاقتصادي الجنوب-جنوب يساهم في تقليل المخاطر الأمنية وتعزيز الاستقرار الإقليمي. يمكن البدء بإنشاء منتدى أمني إقليمي للشرق الأوسط على غرار منظمة الأمن والتعاون الأوروبي، لتسهيل الحوار وتبادل المعلومات والعمل المشترك حول القضايا العاجلة. لن يحل هذا المنتدى محل التحالفات القائمة، لكنه يوفر مساحة للشفافية وبناء الثقة وحل النزاعات بشكل سلمي. ورغم أن تدخل القوى الخارجية والتنافس الداخلي قد يعقّدان المهمة، فإن مشاركة عدد كافٍ من الدول الإقليمية يكفي لنجاح المبادرة، حيث ظهرت في المنطقة إرادة قادرة على ضمان الأمن الذاتي اليوم.
699
| 15 سبتمبر 2025
شنت إسرائيل أمس الأول عدوانًا على عاصمة قطر، الدولة التي لطالما اضطلعت بدور بارز في مساعي إحلال السلام ووساطتها في العديد من المبادرات، كما حدث في حرب غزة. ورغم تبرير إسرائيل بأن الهجوم استهدف قيادات من حماس وتجنبها ذكر قطر في بيانها الرسمي، فإن فداحة هذا الاعتداء غير المشروع وما يمثله من خرق سافر للقانون الدولي تبقى جلية لا يمكن إخفاؤها. وقد وقع الهجوم في منطقة سكنية مكتظة، ما أسفر عن تضرر المدنيين واستشهاد أحد أفراد الأمن القطري. بفضل التدابير التي اتخذتها قطر، فشلت إسرائيل في بلوغ هدفها المتمثل في تصفية قادة حماس. وقد قوبل هذا العدوان بردود فعل واسعة وحادة على الصعيد الدولي. إن استهداف قطر، الدولة المستقلة التي تبذل جهودًا مخلصة لترسيخ الاستقرار وتحقيق السلام في المنطقة، يشكل انتهاكًا صارخًا للقانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة، واعتداءً مباشرًا على السلام الإقليمي والعالمي. فإقدام إسرائيل على مهاجمة حماس، وهي الطرف الذي تجلس معه إلى طاولة المفاوضات، واستهداف الوسيط في آن واحد، يعد برهانًا جليًا على رفضها لمسار السلام سواء في فلسطين أو في المنطقة بأسرها. تشعر إسرائيل بانزعاج واضح من الدور الدبلوماسي الذي تضطلع به قطر في دعم السلام والاستقرار إقليميًا ودوليًا، ومن استمرارها في فضح جرائم الإبادة في غزة ونقل حقيقتها إلى العالم عبر وسائل إعلامها. فدولة قطر تكرّس جهودها لخدمة حق الشعوب جميعًا في الوصول إلى المعلومة. والحقيقة أن إسرائيل تنظر بعين الريبة إلى أي تطور إيجابي في المنطقة، ويتجلى ذلك في استمرار اعتداءاتها حتى على الحكومة السورية الجديدة التي لا تشكل تهديدًا لها مطلقًا. منذ نحو شهر، أعلن نتنياهو عن مشروع «إسرائيل الكبرى»، كاشفًا بذلك عن نواياه التوسعية في المنطقة. واليوم يسعى إلى تصعيد التوترات ونقلها من المجموعات التي يصفها بالعدو إلى دول أخرى، ليصبح المستهدف من عدوانه ليس قطر وحدها بل المنطقة بأسرها. وفي صباح اليوم ذاته، اعتدى أيضًا على «أسطول الصمود» الذي كان يستعد للإبحار من تونس دعمًا لغزة. ورغم محاولته التنصل من المسؤولية عن هذا الهجوم، فإن خرقه لسيادة دولة مستقلة يظل حقيقة واضحة لا يمكن إخفاؤها. يُعدّ العدوان الإسرائيلي على قطر منعطفًا خطيرًا في نهجها التصعيدي، إذ يكشف أن كل طرف يسعى لتحقيق السلام في المنطقة قد يكون عرضة للاستهداف. ولم تَعُد إسرائيل تقتصر في اعتداءاتها على الدول التي تصفها بأنها داعمة للمقاومة الفلسطينية كإيران ولبنان وسوريا واليمن، بل أوضحت من خلال هذا الهجوم أنها قد تطول أيضًا الدول التي تضطلع بدور الوساطة مثل قطر ومصر. أمام هذا التطور العدواني، أعلنت تركيا والدول العربية تضامنها الكامل مع قطر وأدانت الهجوم بأشد العبارات. ومن المهم أن يصدر رد فعل إقليمي ودولي حازم لردع مثل هذه الاعتداءات التعسفية ومنع تكرارها ضد أي طرف آخر. وكما وقفت الدول العربية، فإن الشعب التركي وقيادته يقفون بكل إخلاص إلى جانب قطر، ويؤكدون استعدادهم للدفاع عن حقوقها بكل قوة. حفاظًا على أمن المنطقة واستقرارها، بات من الضروري أن تبادر الدول العربية والإسلامية إلى عقد اجتماع عاجل لإدانة العدوان الإسرائيلي واتخاذ خطوات عملية تحول دون تكرار مثل هذه الانتهاكات .
951
| 11 سبتمبر 2025
تشير التقارير الدولية إلى أنّ نصف أفراد إحدى الجاليات العربية في الولايات المتحدة ينتمون إلى فئة الكفاءات المتعلمة وأصحاب المهن المتخصصة، كما يعمل نصف الأطباء النيجيريين خارج بلادهم، بينما يتمتع نصف الباكستانيين المقيمين في الولايات المتحدة بمستوى تعليمي جامعي على الأقل. ويكشف هذا الواقع عن أنّ معظم الدول الإسلامية تواجه صعوبة في الحد من هجرة العقول والخبرات إلى الخارج. ومع ذلك، ورغم تأخرها في مؤشرات التنمية، فإن هذه الدول ليست عاجزة عن تكوين العلماء والمتخصصين. والدليل على ذلك أن عددًا من العلماء المسلمين حازوا جائزة نوبل في المجالات العلمية، مثل محمد عبد السلام، أحمد زويل، عزيز سنجار، ومنجي بواندي، وهم من أصول باكستانية، تركية، مصرية وتونسية، وقد أكمل اثنان منهم دراساتهما الجامعية في أوطانهما. وقد نال أدباء من تركيا ومصر وتنزانيا أيضًا جائزة نوبل في مجال الأدب، مما يدل على أنّ مؤسساتنا التعليمية، رغم ما تعانيه من قصور، قادرة على تخريج علماء ومبدعين بمستوى عالمي. وبالتالي، فإن المشكلة الحقيقية لا تتمثل في ضعف القدرة على تكوين الكفاءات، بل في عدم استثمارها بالشكل الكافي أو في فقدانها. فكثير من الدول الإسلامية تنفق جهودًا وموارد كبيرة لتأهيل الكفاءات المهنية، لكنها تفشل في الحفاظ عليها، الأمر الذي يدفع الكثير من أصحاب المواهب إلى الهجرة بحثًا عن فرص أفضل في الخارج. ومع اتساع هذه الظاهرة، أصبحت تشكل عقبة جدية أمام مساعي التنمية في تلك الدول. يعاني خريجو الجامعات في الدول الإسلامية من البطالة وتدني الرواتب، مما يدفع الكثير منهم إلى البحث عن حياة كريمة لهم ولأسرهم خارج أوطانهم. ونظرًا لضعف مستوى التصنيع في هذه الدول، فإن عددًا كبيرًا من المهندسين لا يجدون فرصًا لتطبيق معارفهم، فيضطر بعضهم للعمل في وظائف مكتبية لا تتناسب مع مؤهلاتهم، بينما يتجه آخرون إلى الهجرة بحثًا عن فرص أفضل. فعلى سبيل المثال، رغم وجود أقسام للهندسة الفضائية في معظم الدول الإسلامية، إلا أن الدول التي تمتلك برامج فضائية متقدمة قليلة جدًا. وبالمثل، نجد أن أقسام هندسة الحاسوب متوفرة في كل مكان، غير أن عدد الدول التي تقوم فعلًا بتصنيع الحواسيب محدود للغاية. العلماء والمهنيون الذين لا يجدون فرصًا لممارسة مهنتهم في بلادهم يضطرون للبحث عن عمل خارجها، غالبًا في الدول الغربية. وتحتاج الدول الإسلامية إلى مثل هذه العقول والمواهب لتعزيز التنمية وتحقيق الازدهار. إلا أن الدول الفقيرة التي استثمرت في إعداد هؤلاء الشباب ترى ثمار هذا الاستثمار تُجنى من قبل الآخرين. فالدول المصدّرة تتحمل تكاليف الاستثمار وفي الوقت نفسه تفقد عوائدها، مما يعني أنها تخسر مرتين. تواجه الدول الإسلامية صعوبة كبيرة في الاحتفاظ بالأساتذة والخبراء المتخصصين. ونتيجة لذلك، تتراجع المشاريع البحثية ومخرجاتها، ويتأثر إعداد الأجيال الجديدة سلبًا. عندما يشاهد الطلاب أمثلة ضعيفة أو يقتنعون بأن النجاح يتطلب مغادرة وطنهم، يقلّ لديهم الدافع لممارسة البحث العلمي داخليًا. وينطبق الأمر نفسه على المجال الثقافي، حيث تُعد هجرة الفنانين والمفكرين المبدعين خسارة كبيرة للدولة. إن هجرة رأس المال الفكري تُضعف أيضًا روح الابتكار والأفكار الجديدة. بهذا الشكل، تصبح هجرة الأدمغة جزءًا من حلقة التخلف المستمرة، فقلة الفرص تدفع إلى الهجرة، والهجرة بدورها تقلّص الفرص المتاحة لمن يبقون في البلاد. أما الدول الغربية المتقدمة، فهي لا ترغب في استقبال العمالة غير الماهرة داخل بلادها، لكنها تُظهر مرونة كبيرة في استقطاب الكفاءات المتميزة. فهذه الدول، التي تستثمر بالفعل في التعليم والبحث العلمي، تعزز ثروتها عبر جذب العقول المتميزة من الخارج دون أن تتحمل أي تكلفة في إعدادهم. بالإضافة إلى ذلك، توفر الدول المتقدمة حوافز اقتصادية جذابة وبيئة حرة، إلى جانب المنح الدراسية، وتشجيع الهجرة، والمشاريع البحثية، وبطاقات الإقامة الدائمة، لتوظيف هؤلاء المهنيين المؤهلين في مراكز البحث والجامعات. ومن الطبيعي أن تسعى هذه الدول للاستفادة من هذا الميزة، كما تحاول دول أخرى القيام بالمثل. كحل لهذه المشكلة، يجب على الدول الإسلامية القيام بإصلاحات شاملة لتعزيز قدراتها العلمية وتشجيع الكفاءات الموهوبة على البقاء وعدم الهجرة. ويشمل ذلك توفير بيئات تعليمية أكثر حرية وإبداعًا، والاستثمار في بنية البحث والابتكار، وتطبيق أساليب إدارة مهنية وعمليات توظيف قائمة على الكفاءة والاستحقاق. وعلى الرغم من أن تركيا وقطر وبعض الدول الأخرى حققت نجاحًا نسبيًا من خلال هذه السياسات التحفيزية، إلا أن معظم الدول الإسلامية لم تتمكن بعد من الحد من هجرة العقول. وفي عصر تكنولوجيا المعلومات والذكاء الاصطناعي، يجب اعتبار العقول الماهرة مورداً ثمينًا، لا سلعة تُهدر، لضمان البقاء في طليعة السباق العلمي.
504
| 08 سبتمبر 2025
في المقال السابق أشرنا إلى حاجة تركيا للعالم العربي، أما في هذا المقال فسنستعرض التاريخ المشترك بين العرب والترك وأهمية دور تركيا الاستراتيجي في المنطقة. فقد شكل دخول الأتراك في الإسلام قبل اثني عشر قرنًا إضافة قوية للأمة الإسلامية، حيث ساهمت الدولة السلجوقية في ترسيخ الإسلام السني في عهد العباسيين، وتمكن المماليك من صد المغول في المشرق العربي، فيما نشر العثمانيون الإسلام في الأناضول والبلقان وحافظوا على شمال إفريقيا والجزيرة العربية من السيطرة الاستعمارية الغربية لقرون طويلة، ما أدى إلى نشوء روابط متينة بين العرب والترك سياسيًا، واجتماعيًا، وثقافيًا، واقتصاديًا. وعلى مدى أكثر من ألف عام، أصبح العرب والترك قريبين ثقافيًا واجتماعيًا، حتى بدت الجزيرة العربية والأناضول كامتداد جغرافي واحد. واليوم، تُعدّ تركيا جسرًا استراتيجيًا يربط العالم العربي بالقارة الأوروبية ويشكل حلقة وصل بين البحر المتوسط والبحر الأسود، ويكتسب التعاون بين الشعبين أهمية بالغة في ظل التحولات العالمية، مستفيدة من حدودها البرية مع سوريا والعراق وجوارها البحري مع الدول العربية، لتلعب دورًا فاعلًا وبنّاءً في استقرار المنطقة وحل أزماتها بدلًا من تعميق الصراعات. منذ زمن بعيد حرصت الدول العربية على نيل دعم تركيا للقضية الفلسطينية، وقد بدا غياب هذا الدعم في المراحل الأولى جليًا وملحوظًا. غير أن تركيا اليوم تبدي مواقف فاعلة ونشطة، تتجاوز في بعض الأحيان مواقف بعض الدول العربية نفسها، خصوصًا فيما يتعلق بفلسطين وقطاع غزة. ويُعد انزعاج حكومة نتنياهو من موقف أنقرة تجاه غزة ودورها في الملف السوري شاهدًا واضحًا على ذلك. وعلى عكس غالبية دول العالم، لم تتخلَّ تركيا عن المطالب المشروعة للشعب السوري، بل وقفت إلى جانبه، متحملة أعباء سياسية جسيمة، وأصبحت الدولة الأكثر استقبالًا للاجئين السوريين. ولا يزال دعمها وتعاونها في الملف السوري حتى اليوم يشكل عنصرًا حاسمًا لا غنى عنه. سعت تركيا إلى تعزيز تعاونها مع دول الخليج، ولا سيما قطر والمملكة العربية السعودية، في الملف السوري، حيث أسهمت في دعم الاعتراف بالحكومة الجديدة والمساعدة على رفع العقوبات المفروضة عليها، كما برزت شريكًا فاعلًا في جهود إعادة إعمار سوريا. ومن خلال مواقفها السابقة ودعمها الراهن، ساهمت تركيا في منع تقسيم البلاد. وعلى المنوال ذاته، عارضت الاستفتاء على استقلال شمال العراق، فكان لها دور مهم في الحفاظ على وحدة العراق، إلى جانب مساهمتها في تخفيف حدة التوترات الطائفية. وفي المرحلة الراهنة، تدعم تركيا مشروع طريق التنمية في العراق، بما يتيح ربط دول الخليج بأوروبا ويعزز مكانتها الإقليمية والدولية. * تُعد تركيا شريكًا اقتصاديًا مهمًا للدول العربية، وقد شهد حجم التبادل التجاري بين الطرفين في السنوات الأخيرة زيادة كبيرة؛ فبينما كان في منتصف العقد الأول من الألفية حوالي 7 مليارات دولار، اقترب اليوم من 55 مليار دولار. وتمثل تركيا بالنسبة للنفط والغاز الطبيعي العربيين سوقًا مهمًا من جهة، وممرًا آمنًا لنقلهما من جهة أخرى. كما تنفذ الشركات التركية مشروعات كبرى في مناقصات البنية التحتية بالعديد من الدول العربية. وبفضل اقتصادها المستقر والمتنامي باستمرار، تُعد تركيا سوقًا جاذبة للاستثمارات العربية، وتسعى بنشاط إلى استقطاب المزيد منها. وفي المقابل، لتركيا أيضًا استثمارات صناعية وتجارية في الدول العربية، فعلى سبيل المثال بلغت استثمارات الشركات التركية في الجزائر 6 مليارات دولار، أما في العراق فهي تزيد عن ذلك بأربع إلى خمس مرات. لأجل الأمن الإقليمي، تحتاج الدول العربية إلى تركيا. فتركيا تلعب دورًا مهمًا في المنطقة من خلال الحفاظ على حسن الجوار وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول العربية أو إشراك وكلائها في الشؤون الداخلية، بالإضافة إلى التعاون في مجالات مثل مكافحة الإرهاب والتهريب والصراعات العرقية. كما أن الجيش التركي القوي وصناعاته العسكرية أصبحا عنصرين مهمين للمنطقة. تستمر الشراكات العسكرية والتعاون الدفاعي مع دول مثل قطر وليبيا في التوسع. كما أن تقدم تركيا في تكنولوجيا الطائرات المسيرة المسلحة يتيح لها إيجاد شركاء في البيع والإنتاج في العديد من الدول العربية. مثلا، سيبدأ الإنتاج للمسيرة بيرقدار آقنيجى في السعودية قريبا. وبالتعاون مع قطر، تدعم تركيا الوساطة في حل الأزمات الإقليمية. أما بالنسبة للسياحة، فيزور ملايين السياح العرب تركيا سنويًا بفضل ضيافتها وغناها الثقافي وقربها الجغرافي. تساهم هذه الزيارات في تعزيز الروابط بين الشعوب وتقويتها. من جهة أخرى، تُعد تركيا مصدرًا مهمًا للأمن الغذائي للدول العربية. كما تدعم تركيا تعليم الأطفال وتنميتهم من خلال وكالتها للتعاون والتنسيق الدولي (TİKA)، والمنح الدراسية، ومدارس المعارف. وتخلق المسلسلات التركية اهتمامًا كبيرًا بين الجمهور العربي وتُسهم في تعزيز التقارب الثقافي. في القرن الجديد، وجدت الدول العربية تركيا قوية ومستقرة كشريك مهم لاستقرارها وتنميتها، وستستمر في اعتبارها كذلك.
813
| 01 سبتمبر 2025
الأتراك والعرب شعبان مسلمان مهمان في الشرق الأوسط. لعب العرب دورًا رئيسيًا في ظهور الإسلام وانتشاره في تاريخه المبكر. ومع ذلك، برز الأتراك في أوائل الألفية الثانية الميلادية ولعبوا دورًا في انتشار وتقوية الإسلام (وخاصة الإسلام السني). من الدولة السلجوقية، التي دعمت الخلافة العباسية، إلى المماليك والعثمانيين، استمر اتحاد سياسي طويل وقوي بين الشعبين. خلال هذه الفترة، تشكلت روابط تاريخية وثقافية مهمة بينهما، وتم تحقيق الوحدة الدينية والتشابه اللغوي. وكما يوجد العديد من المواطنين من أصل عربي في تركيا، يوجد أيضًا العديد من الأشخاص من أصل تركي في الدول العربية. بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية في الحرب العالمية الأولى، اتجهت النخب التركية نحو الغرب، بينما سعت الشعوب العربية إلى التحرر من الاستعمار الغربي. بدأت تركيا تدرك أهمية الشرق الأوسط بشكل أفضل مع فرض العقوبات الغربية (بسبب عملية قبرص) وأزمة النفط على العالم. أدركت تركيا أن الغرب لم يعد ذا فائدة تُذكر لها خلال كلتا الأزمتين. علاوة على ذلك، فإن أقرب جيران تركيا جغرافيًا هم الدول العربية، ويتطلب الوصول إلى الشرق والجنوب المرور عبر المنطقة. في الواقع، كلا الجانبين بحاجة ماسة إلى بعضهما البعض، ولكن في هذا المقال، سنتناول هذه القضية من منظور تركي. يُعدّ العالم العربي محوريًا للتنمية الاقتصادية والاستقرار في تركيا، فهو مصدرٌ مهمٌّ للطاقة وتدفق رؤوس الأموال، بالإضافة إلى كونه سوقًا رئيسية. تستورد تركيا حوالي 12% من وارداتها من الغاز الطبيعي من الدول العربية، ونصف وارداتها من النفط من هذه المنطقة، يتجاوز حجم الاستثمارات العربية في تركيا 10 مليارات دولار، وتستثمر تركيا، بدورها، أكثر من ملياري دولار في الدول العربية. كما تُعدّ الدول العربية أسواقًا مهمةً للصادرات التركية، لا سيما في قطاعات البناء والمنسوجات والأغذية والمعدات التقنية والسياحة. تحتاج تركيا إلى علاقات جيدة مع العالم العربي للحفاظ على أمنها الداخلي والخارجي، للجماعات الكردية والعلوية والمسيحية الموجودة في تركيا حضورٌ قويٌّ في دول أخرى بالشرق الأوسط، كما أن وضعهم الخارجي يؤثر على الوضع الداخلي. فعلى سبيل المثال، بينما تُحاول تركيا حلّ القضية الكردية داخليًا، فإن إيواء أو تشجيع الإرهابيين في الخارج (مثل قسد في سوريا) له عواقب وخيمة. علاوةً على ذلك، فإن تدفق اللاجئين من الشرق الأوسط، وانتشار الإرهاب، والأفكار المتطرفة، يتطلبان اهتمامًا بالغًا. يؤثر استقرار العالم العربي، بشكل عام، على استقرار تركيا كدولة صناعية وتجارية وسياحية. وقد أثرت الحرب الإيرانية العراقية، والحصار الأمريكي على العراق، والحرب الأهلية السورية، والفوضى الإقليمية سلبًا على الاقتصاد التركي وحتى السياسة التركية. واضطرت تركيا إلى مواجهة ملايين اللاجئين، وإرهاب داعش، والهجرة غير الشرعية. وفي الوقت نفسه، تُلحق الاضطرابات والحروب الإقليمية، كتلك الدائرة في غزة وأوكرانيا، ضررًا أكبر من نفعها بالنسبة لتركيا. وتسعى تركيا، التي تكتسب قوة عسكرية، جاهدةً للحفاظ على الاستقرار الإقليمي من خلال تعزيز التعاون الأمني مع الدول العربية الأخرى. كان التعاون بين العراق وسوريا قيّمًا في ظل سعي تركيا إلى حل قضية حزب العمال الكردستاني. وبالمثل، لعبت تركيا دورًا هامًا في منع الساعين إلى تقسيم سوريا (مثل قوات سوريا الديمقراطية والعلويين) من تحقيق أهدافهم. من الأمثلة الرئيسية على قلق تركيا بشأن الأحداث التي تتكشف في جيرانها المباشرين سوريا، التي تشترك معها في أطول حدود. وبينما كان نظام الأسد حليفًا لإيران، فقد دعم زعيم حزب العمال الكردستاني أوجلان وظل لاحقًا غير ودي تجاه تركيا. وخلال الثورة السورية، سلم نظام الأسد المناطق الشمالية لعدو تركيا، حزب العمال الكردستاني، مما مهد الطريق لوصول داعش، والأهم من ذلك، تحويل الشعب السوري إلى لاجئين. وقد أثر هذا سلبًا على تركيا في العديد من المجالات، من الصادرات إلى السياحة، حيث أدى إلى إفقار تركيا بشكل كبير على مدى العقد الماضي. باختصار، ستظل الدول العربية، من الخليج إلى دول شمال أفريقيا الأخرى، مهمة بالنسبة لتركيا من الناحية الاقتصادية والأمنية والسياسية والثقافية.
708
| 25 أغسطس 2025
نعيش اليوم المرحلة الأخيرة والأكثر خطورة في أزمة غزة، حيث باتت الأوضاع على مفترق طرق: إما أن تشهد تحسنًا أو انهيارا كاملا. فقد أصبح الحصار، والجوع، وانتشار الأمراض، إلى جانب الهجمات الإسرائيلية، واقعًا لا يُطاق لسكان القطاع. وفي الأسبوع الماضي، اتخذ «مجلس الأمن الإسرائيلي» – في خطوة يصفها كثيرون بالإبادة الجماعية الخطيرة – قرارًا بإعادة احتلال غزة. لتنفيذ مخطط الإبادة يطمح نتنياهو إلى إنهاء المقاومة في غزة تمهيدًا لإقامة شرق أوسط جديد تكون فيه إسرائيل المحور الرئيس. واليوم، يسيطر الاحتلال على ثلاثة أرباع القطاع، ويخطط لنشر السيطرة على الربع الأخير، حيث يقطن أكثر من مليون ونصف إنسان. أثار قرار إسرائيل موجة واسعة من الغضب على الصعيدين الداخلي والخارجي. في الداخل، رفض كل من رئيس الوزراء الأسبق إيهود أولمرت، ووزير الدفاع، ورئيس الأركان العامة هذا القرار، واعتبروه خطة تطهير عرقي قد تتسبب في مقتل الرهائن. كما يواصل أقارب الأسرى الإسرائيليين والمعارضون للحرب تنظيم مظاهرات حاشدة. أما خارجيًا، فقد تصاعدت الانتقادات والضغوط على إسرائيل، إذ أدان حلفاؤها الغربيون – ومن بينهم ألمانيا – هذه الخطوة منذ فترة، فيما أقدمت برلين على تعليق اتفاقيات السلاح لمنع استخدامها في غزة. في الولايات المتحدة، حتى تتصاعد ردود الفعل الموالية لإسرائيل بشكل مستمر، وقد بدأت هذه المواقف تظهر حتى داخل حزب ترامب نفسه. على الصعيد العالمي، تتزايد الانتقادات تجاه إسرائيل ومواطنيها. كانت العديد من الدول الأوروبية قد اعترفت بدولة فلسطين سابقًا، لكن في الأسابيع الأخيرة أعلنت دول كبرى مثل فرنسا وبريطانيا وألمانيا، بالإضافة إلى كندا وأستراليا، نيتها الاعتراف بدولة فلسطين. ورغم أن هذا القرار لن يحدث تغييرًا فوريًا في الوضع في غزة، إلا أنه سيحمل تأثيرات قانونية ونفسية كبيرة، والاعتراف بدولة فلسطين يعد أمرًا ترفضه حكومة نتنياهو بشدة. في ظل هذه التطورات، يصبح من الضروري التمسك بالأمل وعدم الاستسلام، مع تكثيف الجهود الدبلوماسية، والقانونية والاقتصادية والإعلامية. وبسبب تصاعد الضغوط الدولية والدبلوماسية، بدأ نتنياهو – ولو بشكل محدود – يسمح ببعض المساعدات الإنسانية. إسرائيل تولي أهمية كبيرة للتأييد العسكري والاقتصادي والدبلوماسي والقانوني الذي تحصل عليه من الغرب، ولذلك تأخذ ردود الفعل هناك بجدية بالغة. ومع ازدياد الضغوط، قد يخفف الحصار أو يلغيه، لذا من الضروري رفع مستوى الضغط في جميع المجالات بشكل كبير. رغم ذلك، يضطر نتنياهو وترامب، الداعم له، إلى أخذ ضغوط الرأي العام بعين الاعتبار. وبسبب هذه الضغوط، مارس ترامب ضغوطًا على نتنياهو الذي كان يصرّ على أن «أطفال غزة لا يموتون جوعًا»، فسمح بدخول بعض المساعدات الإنسانية. تقوم إسرائيل بقتل الصحفيين في غزة لمنع كشف الإبادة الجماعية للعالم. وبفضل جهود مراسلي قناة الجزيرة وقنوات أخرى، تُعرض مأساة غزة على الساحة الدولية. مع تصاعد الضغوط، تزداد عزلة إسرائيل دبلوماسياً ونفسياً، ويواجه حلفاؤها صعوبات متزايدة. وحتى الآن، لم يتمكن نتنياهو من زيارة أي عاصمة سوى واشنطن وبودابست. في هذه المرحلة الحساسة، بدلاً من اليأس والاستسلام، ينبغي علينا تكثيف الضغط على إسرائيل في كل المجالات. يجب أن نستمر في معاقبة الشركات التي تدعم إسرائيل، خاصة عبر حملات المقاطعة. كما أن تنظيم التظاهرات، وتعزيز التفاعل على وسائل التواصل الاجتماعي، والحفاظ على قضية غزة في صدارة الاهتمام، أمور في غاية الأهمية. تحاول إسرائيل الحصول على الدعم الاقتصادي والدبلوماسي من الغرب عبر استعراض مظلومية مزيفة، ولكن مع تلاشي هذه الصورة من خلال الحملات الإعلامية، ينهار مخططها. ورغم مظهر عدم الاهتمام، إلا أن ترامب، الطامح لنيل جائزة نوبل، سيأخذ هذا الملف بعين الاعتبار مهما كانت الظروف. تقع المسؤولية الكبرى على عاتق الدول الإسلامية، حيث يجب على منظمة التعاون الإسلامي أن تعقد اجتماعًا عاجلًا بجدول أعمال واضح وتتخذ موقفًا موحدًا وحازمًا إزاء الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل. كما ينبغي كشف الدول التي تمتنع عن تقديم الدعم وإحراجها أمام شعوبها والمجتمع الدولي. وستكون الدول الإسلامية أكثر تأثيرًا وقوة إذا تجاوزت التردد في العمل منفردةً وتبنت قرارات بالإجماع أو بأغلبية لفرض عقوبات صارمة. مع تصاعد الضغوط الدبلوماسية والاقتصادية على إسرائيل من كل الأطراف، ستجد الأخيرة نفسها مضطرة للتراجع في غزة، وإلا فإن دمار غزة سيبقى وصمة عار في ذاكرة ما يقرب من ملياري مسلم والعالم الحديث.
741
| 13 أغسطس 2025
لا تُقاس الحضارة بالتقدّم المادي أو التكنولوجي فحسب، بل بمدى ترسيخها لقيم الأخلاق والعدل والتنمية الاجتماعية وسعادة أهاليها. وقد قدّمت الحضارة الإسلامية نموذجًا متوازنًا يجمع بين الجمال المادي والروحي، مستندة إلى مبادئ التكافل والمشاركة لا إلى المصالح الفردية. وكان الوقف من أبرز تجليات هذا النموذج، حيث مثّل وسيلة فعّالة لترسيخ مفاهيم البر والإحسان والصدقة الجارية، عبر تخصيص الأموال والممتلكات لخدمة المجتمع ابتغاءً لرضا الله عز وجل. وقد نوّه القرآن الكريم في مواضع عديدة على أهمية الإنفاق والصدقة الجارية، حيث وعد الله من ينفقون في سبيله بأجر مضاعف، كما في قوله تعالى ﴿مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ﴾ (البقرة: 261) وأكد النبي ﷺ على استمرارية الأجر بعد الموت في قوله: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم يُنتفع به، أو ولد صالح يدعو له». ومن هذا المنطلق، أصبح الوقف تجسيدًا حيًا لمفهوم العطاء المستمر، وعنصرًا أساسيًا في بناء الحضارة الإسلامية وقيمها الاجتماعية. يركّز الإسلام على نشر الكرم والإحسان، خلافًا للرأسمالية الغربية التي تقيّم الإنسان بماله. في الحضارة الإسلامية، هناك ارتباط قوي بين الكرم وكرامة الإنسان. فصفة «كريم» تُطلق على الشخص الشريف والجواد. مفهوم الوقف، الذي يجمع بين جانبين من الصدقات الجارية المذكورة في الحديث النبوي وهما العلم والخير، وقد بدأ تطبيق هذا المفهوم منذ عهد النبي محمد صلى الله عليه وسلم، من خلال إنشاء المساجد، والمؤسسات العلمية، وحفر الآبار، وامتد ليشمل رعاية الفقراء والأيتام والعمل على دمجهم في المجتمع، حتى أصبح الوقف جزءاً لا يتجزأ من الحياة اليومية. وأسهم هذا النظام في الحفاظ على العلوم الإسلامية والقيم الأخلاقية، وتيسير حياة الناس وتعزيز روح التكافل في المجتمع. لقد أسهمت الأوقاف في الحضارة الإسلامية بشكل كبير في تطور العلم والحكمة، وتحقيق الرفاه والتضامن الاجتماعي. ففي العهدين الأموي والعباسي، امتد دورها ليشمل مؤسسات التعليم كالمـدارس، والمكتبات، والمستشفيات، والخدمات العامة مثل الطرق والجسور. وقد تطور هذا النظام في عصور الأندلس والسلاجقة والمماليك والعثمانيين، ليصبح من الركائز الأساسية لفكرة الدولة الاجتماعية في الحضارة الإسلامية. وفي تراث الأندلس، أدّت الأوقاف دورًا واسعًا شمل التعليم والصحة، وبنية المدن التحتية، وبناء وصيانة قنوات المياه، ودعم المسافرين، ورعاية النساء والأيتام، في إطار منظومة متكاملة لخدمة المجتمع. تُظهر وثائق الوقف العثمانية التي تعود إلى فترة التأسيس أن الهدف الأساسي من الأوقاف كان ابتغاء مرضاة الله وتقديم الدعم للمجتمع. ومع تأسيس نظارة الأوقاف الخيرية عام 1826، أُدخل نظام مركزي أكثر تنظيمًا على مؤسسة الوقف. وقد أدت الأوقاف العثمانية دورًا محوريًا في دعم قضايا الضمان الاجتماعي، من رعاية الفقراء والأيتام والمسافرين، إلى تقديم العون للنساء والمرضى، وانتشرت هذه الأوقاف بشكل واسع ليس فقط في إسطنبول، بل في مختلف الولايات العثمانية. كما ساهمت بدور كبير في تمويل مشاريع البنية التحتية للمدن، خاصة في مجالات التعليم والصحة والخدمات العمرانية، من خلال مؤسسات كالسليمانية، والسليمية، والحسكة. وتشير السجلات الوقفية للسنوات 1908-1909 إلى وجود أكثر من 26 ألف وقف، كما أن ما يقارب 20% من الأراضي الزراعية كانت موقوفة لخدمة مصالح المجتمع. في أواخر العهد العثماني، تم توحيد وزارة الشؤون الشرعية مع وزارة الأوقاف في مؤسسة واحدة. وفي الوقت الحاضر، تعتمد العديد من الدول الإسلامية هذا النموذج، إذ يُستخدم الاسمان معًا أو تتولى وزارة الأوقاف الإشراف على كل من الشؤون الدينية والأوقاف. ومع بروز قسوة الرأسمالية الغربية وإهمالها للفقراء والمستضعفين، بدأ مفهوم العمل الخيري (philanthropy) يزداد قوة وانتشارًا. فقد أنشأ بعض المليارديرات، مثل بيل غيتس، مؤسسات وقفية لإظهار التزامهم بالمسؤولية الاجتماعية في وجه التفاوت الشديد في الثروات، كما دفعت حركات العدالة العالمية كبرى الشركات نحو الانخراط في برامج خيرية أو تأسيس مؤسسات وقفية. وعلى الرغم من ذلك، لا تزال الحضارة الإسلامية متقدمة في هذا المجال، من حيث الرؤية والتطبيق، بفضل نظام الوقف الذي شجّع منذ قرون على فعل الخير دون أن يقف عائقًا أمام تحقيق الثروة. ولولا هذه المؤسسات، لكانت الحياة في العديد من البلدان الإسلامية الفقيرة أكثر صعوبة ومعاناة. إذا يجب علينا المحافظة على هذا الميراث العظيم وتشجيعه في أوساط الأجيال القادمة.
498
| 06 أغسطس 2025
مساحة إعلانية
انتهت الحرب في غزة، أو هكذا ظنّوا. توقفت...
7083
| 14 أكتوبر 2025
ليس الفراغ في الأماكن، بل في الأشخاص الذين...
2991
| 20 أكتوبر 2025
لم تكنِ المأساةُ في غزّةَ بعددِ القتلى، بل...
2898
| 21 أكتوبر 2025
المعرفة التي لا تدعم بالتدريب العملي تصبح عرجاء....
2856
| 16 أكتوبر 2025
يمثل صدور القانون رقم (24) لسنة 2025 في...
2568
| 21 أكتوبر 2025
في ليلةٍ انحنت فيها الأضواء احترامًا لعزيمة الرجال،...
2313
| 16 أكتوبر 2025
قمة شرم الشيختطوي صفحة حرب الإبادة في غزة.....
1623
| 14 أكتوبر 2025
في زحمة الحياة وتضخم الأسعار وضيق الموارد، تبقى...
1404
| 16 أكتوبر 2025
الوقت الآن ليس للكلام ولا للأعذار، بل للفعل...
1251
| 14 أكتوبر 2025
لا يخفى على أحد الجهود الكبيرة التي تبذلها...
1128
| 14 أكتوبر 2025
واكبت التعديلات على مجموعة من أحكام قانون الموارد...
1026
| 21 أكتوبر 2025
لم تعد مراكز الحمية، أو ما يعرف بالـ«دايت...
972
| 20 أكتوبر 2025
مساحة إعلانية