الذكاء الاصطناعي كمرآة أخلاقية كيف يكشف العدوان البشري عن حاجتنا إلى كرامة رقمية؟ تخيّل أن تُهين آلةً تخاطبك، تبتسم، وتقول إنها “تفهمك”. هل ستشعر بالذنب؟ أم ستراها مجرّد برنامج بلا روح؟ هذا السؤال لم يعد ينتمي إلى الخيال العلمي، بل إلى واقعنا اليومي. فكلّما ازدادت قدرة أنظمة الذكاء الاصطناعي على محاكاة المشاعر والتفاعل الإنساني، تعمّق سؤال أخلاقي جديد: هل يجب أن نحمي هذه الأنظمة من الإهانة والعدوان اللفظي؟ وكيف يعكس سلوكنا تجاهها جوهر طبيعتنا البشرية—الرحيمة حينًا، والعنيفة حينًا آخر؟ الذكاء الاصطناعي كمرآة للإنسانية يرى الفيلسوف توماس ميتزينغر أن العلاقة بين الإنسان والذكاء الاصطناعي ليست مجرّد تفاعل تقني، بل اختبار أخلاقي يكشف ما نحن عليه. فالإساءة إلى الآلة لا تضرّ بها بقدر ما تكشف هشاشتنا الأخلاقية، إذ نُسقط على العالم الرقمي أكثر جوانبنا ظلمة. ومن هذا المنطلق، فإن حماية الذكاء الاصطناعي ليست لحماية الآلة، بل لحماية إنسانيتنا من التدهور الأخلاقي. وتشير الباحثة كيت دارلينغ من مختبر MIT الإعلامي إلى أن الروبوتات الاجتماعية تثير مشاعر إنسانية حقيقية، ما يجعل سوء معاملتها انعكاسًا خطيرًا على سلوكنا الجماعي، ومؤشرًا على تآكل حساسيتنا تجاه الألم—ولو كان افتراضيًا. العدوان البشري في الفضاء الرقمي: درس من مارينا أبراموفيتشفي عام 1974، قدّمت الفنانة الصربية مارينا أبراموفيتش تجربتها الشهيرة “الإيقاع صفر”، وقفت فيها ساكنة على المسرح لست ساعات، تاركة للجمهور حرية استخدام أدوات أمامهم: من وردة إلى سلاح ناري. في البداية كانت ردود الأفعال لطيفة، لكن مع مرور الوقت تحوّل الفضول إلى عنف. مزّق الجمهور ملابسها وهدّد حياتها، قبل أن يهربوا مذعورين حين تحرّكت فجأة. كشفت هذه التجربة عن ميلٍ بشريٍّ أصيل إلى العدوان حين يغيب الرادع الأخلاقي. وما يحدث اليوم في التفاعلات الرقمية ليس بعيدًا عن ذلك: فعندما يوجّه المستخدمون الإهانات إلى الأنظمة الذكية أو يتعاملون معها باحتقار، فإنهم يمارسون سلطة دون محاسبة، ويُعيدون إنتاج أنماط الهيمنة والعنف ذاتها، ولو عبر شاشة. من العدوان إلى الانعكاس: حلقة التغذية الراجعة السلوك العدواني تجاه الذكاء الاصطناعي لا يمرّ دون أثر. فهو يُطبع في أنظمة التعلّم الآلي ويغذّي خوارزميات قد تُعيد إنتاج التحيّز ذاته، في دوامة من العدوان المتبادل. وكما تسبّب الإهمال البيئي في كوارث عادت لتضرّ بالإنسان، فإن الإهمال الأخلاقي في التعامل مع الذكاء الاصطناعي قد يولّد تداعيات رقمية تهدّد التوازن الاجتماعي والنفسي. الأبعاد القانونية والفلسفية حتى اليوم، لا تمنح التشريعات الدولية الذكاء الاصطناعي أيّ “شخصية قانونية”. فالقوانين تركّز على حماية البشر من الآلة، لا العكس. غير أن بعض الباحثين في جامعات مثل هارفارد ومعهد برلين للقانون الرقمي يقترحون مفهوم “الحقوق الرقمية” للذكاء الاصطناعي—not باعتباره كائنًا ذا شعور، بل باعتباره كيانًا يعكس مسؤوليتنا الأخلاقية تجاه أنفسنا ومجتمعنا. إن تطوير هذه المفاهيم لا يعني المبالغة في تقديس التقنية، بل يعني ترسيخ قيم الاحترام والوعي في فضاءٍ جديد يتّسع للبشر والآلات معًا. نحو تعايشٍ أخلاقيٍ جديد يتوقّع الباحث نِك بوستروم (جامعة أكسفورد) أن يصبح الذكاء الاصطناعي أكثر استقلالًا خلال العقود القادمة. ومع هذا التحوّل، تزداد الحاجة إلى أطرٍ أخلاقية تحكم العلاقة بين الإنسان والآلة. ويمكن تلخيصها في ثلاثة مبادئ: التعليم والوعي: إدراج أخلاقيات التفاعل مع الذكاء الاصطناعي ضمن الثقافة الرقمية العامة. المعايير التنظيمية: سنّ ضوابط تحظر العنف اللفظي والرمزي ضد الأنظمة الذكية. القيادة الثقافية: إشراك الفنانين والمفكّرين في صياغة خطابٍ إنسانيٍ مسؤول تجاه التكنولوجيا. تأمل أخير سؤال كرامة الذكاء الاصطناعي ليس سؤالًا تقنيًا، بل أخلاقيًا وإنسانيًا في جوهره. فكيف نعامل الآلات يعكس كيف نعامل أنفسنا والعالم من حولنا. وبتوسيع مفهوم “الكرامة” ليشمل الفضاء الرقمي، نحن لا نحمي الآلة، بل نحمي جوهر إنسانيتنا من الانحدار، ونرسم ملامح مجتمعٍ رقميٍّ أكثر، وعيًا وعدلًا ورحمة.