رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

Al-sharq

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

الشرق

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

الفن والكوارث

بالنسبة لاستخدام الكوارث والأوبئة، وكل ما يصيب الإنسان من ضرر، في كتابة نص روائي، يعتبر من الكلاسيكيات في الكتابة، ويتم استخدامه حتى الآن خاصة في الغرب. وكما هو معروف الرواية فن وليست تاريخا، بمعنى أن الروائي يتفرغ لحادث ما، ويبدأ في دراسته، يختار منه ما يصلح ليحتمله الفن، ويلغي ما لا يصلح، وبناء على ذلك، لا يكون الحدث موصوفا كما وقع فعلا، ولا يكون الضحايا هم الضحايا أنفسهم، وإنما ضحايا متخيلون، تمت قيادتهم إلى لحظة الحدث، وغرسوا هناك ليموتوا أو يخرجوا سالمين ليروون ما أراده الكاتب بعد ذلك. وبرغم أن هناك روايات تحدثت عن أحداث جسيمة في الكرة الأرضية، ووضع مؤلفوها وثائق تدعم حدوثها وجاءوا بضحاياها أيضا، إلا أنني أزعم أن الخيال كان موجودا، والذي كتب ليس الذي حدث فعلا، وأذكر رواية مثل: القطار الأخير من هيروشيما لتشارلس بلغرينو، التي تحدثت عن مأساة هيروشيما بعد أن دمرتها القنبلة النووية، وساق لنا مؤلفها أسماء لمختبرات، وباحثين وأساتذة، وضحايا مشوهين، وأشخاص قال بأنه التقاهم، وتدل عذوبة كتابتها على أن الخيال كان سيدا آخر من سادتها، بجانب الحدث الأصلي. كذلك رواية: الظلال المحترقة لكاملا شمسي، التي تحدثت عن نفس الموضوع، وكتبت برشاقة كبيرة.ولعل رواية الطاعون للفرنسي ألبير كامو، تعد مثالا جيدا لكتابة الوباء. وأعني ما يمكن أن يحدث حين تتحول الكارثة إلى فن روائي. سيظل الوباء موجودا والضحايا موجودين، ولكن تستمر الحياة بانتزاع جزء من وتيرتها اليومية، من قلب المأساة، ستجد تجارة وزراعة ورعيا، وستجد من يأكل ويشرب في قلب الهلع، وحين تقرأ: الحب في زمن الكوليرا للعظيم ماركيز، ستشاهد بعين الخيال جثثا ملقاة على امتداد النهر، وضحايا يحرقون، وينثر رمادهم، وعقاقير عاجزة عن إنقاذ أحد، لكن أيضا تشاهد الحب الكبير لفيرمنثو داثا، ينمو بنمو المأساة، ولا ينتهي حتى بعد أن شاخ وشاخت المأساة.لقد ذكرت في كثير من الحوارات، أن الرواية بالذات بيت شاسع يمكن أن يسع كل الفنون الأخرى، وما تقدمه الرواية حتى لو كانت قصيرة، يفوق ما يقدمه متحف، وأضيف أنها أيضا صدر للإنسانية، وتتيح لكل الروائح أن تتنفس داخلها بارتياح، ولأننا لسنا بصدد دراسة للتاريخ، يمكن أن تزودنا الرواية بمساحتها وريشة كاتبها بما حدث في هيروشيما ساعة أن فجرت نوويا، وما حدث في أمريكا للاتينية، حين انتشر وباء الكوليرا. وأجزم أن هناك روايات كثيرة كتبت في الغرب، تتحدث عن أوبئة مماثلة، ربما حدثت بالفعل، أو ربما تخيل الكاتب حدوثها، لكنها لم تصل إلينا، أو لم تكن بشهرة الروايات التي ذكرتها، وكانت فنا رفيعا، يتحدث عن المآسي، ولا يفزع القارئ أو يفر من القراءة. بل أحيانا تجد سخرية شفافة، وسط دموع متغجرة، أو دما يتطاير، ولا تملك إلا أن تبتسم لبراعة الكاتب الذي أضحكك وأنت على وشك البكاء.إذن كتابة الرواية فن، وكتابة الأوبئة بطريقة لا تفزع القارئ، أو تطرده من القراءة، فن آخر. والقصص الحقيقية التي يحدث أن تقفز لمستوى الإيحاء، لا يجب أن تكتب هكذا عارية، ولكن تكسى بشيء من الفن لضمان نجاحها.

1321

| 20 يونيو 2016

بدايات الكتابة

أذكر حين قررت أن أبدأ كتابة الرواية، منذ أكثر من عشرين عاما، بعد أن كان الشعر مسيطرا على نتاجي الإبداعي، أنني جلست في غرفتي، وقد فرشت أمامي الورق الأبيض المصقول، وعدة أقلام بألوان مختلفة، وبدأت أفكر في قصة ربما أستطيع كتابتها، وتحقق شيئا من طموحي. لم تكن لدىي خبرة في شيء ولا كنت أعرف كيف تكتب الروايات، وتلك الأعمال التي قرأتها في ذلك الحين، كانت كلها أو معظمها أعمالا كلاسيكية، من الأدب الروسي، والفرنسي والإنجليزي، من تلك التي قرأها كل الناس في ذلك الوقت، إضافة إلى بعض أعمال الكتاب العرب من أمثال نجيب محفوظ ويوسف إدريس، وعبد الرحمن منيف وحنا مينا، وغيرهم من نجوم تلك الفترة. وأعترف أنني كنت أستمتع بقراءة الشعر وكتابته، ولم أكن أبحث عن شيء معين في الرواية، أي لا أهتم بفنياتها بقدر اهتمامي بالحصول على المتعة، لذلك أزعم بأنني لم أتعلم من قراءاتي السردية، إلا بعد أن دخلت لحم السرد، وبعد أن قضمت منه شيئا، وأصبح من الضروري أن أتعلم كيف أكتب وإلا لن ينجح مشروعي على الإطلاق.أقول بأنني جلست أفكر، وكان أول ما خطر لي في تلك اللحظة شكل البيت الذي ولدت فيه في قرية كرمكول في شمال السودان، شكل القرية نفسها بنيلها الذي يعانق الصحراء، وبيوتها الطين، وشوارعها الترابية المليئة بالحفر، تذكرت شخصيات كثيرة، عرفتها أثناء زياراتي للبلدة، في موسم الصيف، شخصيات بعضها سوي وبعضها معتل جسديا أو عقليا، تذكرت خبرات المراهقة، وكيف يمكن لمراهق قادم من المدينة، أن يتحول إلى نجم وسط بؤس الريف، تمجده الفتيات المسكينات في أمسيات اليباس العاطفي. تذكرت أشياء كثيرة، من نشأتي في مدينة بورتسودان، وبدأت أكتب رواية سميتها بعد ذلك: كرمكول، وكانت مجرد تمهيد إما سيشجعني على المضي في السكة، أو يشدني إلى خارجها.إذن آتي إلى موضوعي، وهو أن المبدع حين يبدأ في نبش أدواته وتحسس السكة التي سيسير عليها، في الغالب لن يبدأ بالكتابة عن هبوط الإنسان على سطح القمر، أو احتمال وجود حياة بشرية، تحت قاع البحر، لن يتخيل تاريخا فوضويا أو عاقلا ليكتبه، ولن يسعى للأشياء البعيدة، محاولا أن يقترب منها. هو في النهاية يكتب خبرته الشخصية، خبرته في بيته حين كان أبوه يعنفه وربما يضربه لأسباب لا تستدعي الضرب، حين كانت أمه تقلق لغيابه، وتبكي إن أصابه مكروه، وحين كانت الحياة الأولى التي عاشها، جديرة بأن تحكى للآخرين، في نظره رغم أنها قد تكون غير ذلك.الأدب في معظم تجلياته، خاصة الأدب الواقعي، يركن إلى مثل تلك الخبرات، وقد يقدم شيئا من المتعة، حتى لو لم يرتكز على الخيال كثيرا.

993

| 13 يونيو 2016

فقط رواية

قرأت منذ فترة، تحقيقا صحفيا مع عدد من الكتاب، ممن كتبوا رواية واحدة إما كعمل إبداعي مفرد لم تسبقه أي إرهاصات، أو وسط عدة مجاميع من الشعر أو القصة، وقد تباينت الآراء حول هذه الظاهرة، كل يبين السبب فيها كما يراه، فمنهم من تحدث عن الانشغالات الحياتية التي تمنع الإبداع وتقف له بالمرصاد، ومنهم من تحدث عن الإحباطات التي لازمت ظهور روايته الأولى، من إهمال ولامبالاة من قبل النقاد ودارسي الأدب، ومن ثم لم يكن ثمة دافع كبير أو صغير، لتكرار التجربة في عمل آخر، وأيضا من ذكر أسبابا أخرى، لعدم تكرار تجربته. حقيقة كتابة عمل إبداعي واحد، سواء إن كان رواية أو مسرحية، أو قصة طويلة، والتوقف بعده، أو ما أسميه الهروب من سكة الأدب عند من لم يكنوا شعراء أو قصاصين، من قبل، ليست ظاهرة جديدة، وإنما تتكرر دائما في الأجيال الكتابية المتعاقبة، وغالبا ما تكون هناك محاولات من قبل الكاتب قبل أن ينشر عمله الوحيد، أي أنه ليس العمل الأول، وإنما العمل الناضج الذي سيؤهله للظهور كاتبا محترما، سيبقى ما أنجزه عالقا بأذهان الناس لفترة طويلة، ولا يهم إن كتب بعده شيئا أو لم يكتب، وترد إلى ذهني دائما رواية مثل: الفهد للإيطالي لومبيدوزا، أو البركان للأمريكي مالكولم لاوري، وكلاهما من الروايات التي وضعت أصحابها في مكانة متقدمة من سماء الأدب، لكنهما لم يكتبا غيرها. ولا أحد يدري ما هي الأسباب الحقيقية لذلك، لكن غالبا كانت لدى الكاتبين، وغيرهما من الكتاب المماثلين، شحنات مزعجة، تمثل تجارب حياتية، معينة، أو مواقف قاهرة مرا بها، أجبرتهم على الكتابة، ولم يعد ثمة ما يقال.أذكر في نهاية الثمانينيات من القرن الماضي، حين كنت أبحث عن ناشر لروايتي الأولى: كرمكول والحصانة القروية، وأطرق كل الأبواب التي أظنها متاحة، بلا جدوى، أن أهداني أحد الناشرين رواية ضخمة، قال لي إن عاملا بسيطا قام بكتابتها، مستخدما أبسط طريقة للكتابة، وأبسط لغة، هي اللغة التي يستخدمها في حياته اليومية. كانت الرواية مشحونة أيديولوجيا كما أذكر، لكنها بينت بلا شك، معاناة أولئك العمال البسطاء، في البحث عن لقمة العيش، وفي الحفاظ عليها حين يجدونها، برغم كل ما يواجههم.إذن ما كتبه العامل، كانت تجربة جديرة بكتابتها، وكان ذلك في الثمانينيات من القرن الماضي، ولا نستطيع أن نطبق نموذجه على حاضرنا، بعد أن أصبحت الرواية تكتب بسبب وبلا سبب، وبلا أي تجربة حياتية أو قرائية من البعض، ولدرجة أن هناك من يسألني دائما عن كيفية كتابة رواية، من دون مشقة الاطلاع على قواعد الكتابة، أو قراءة من سبقه من الكتاب، أي أن الكتابة أصبحت من ضعف الشخصية، بحيث لا ترهب أحدا ولا يرتبك أحد حين يطرق بابها.

315

| 06 يونيو 2016

اكتشاف

منذ سنوات وأثناء قراءاتي المكثفة، التي تقلصت الآن مع الأسف، بفعل الانشغال الشديد، تعلقت بكتابات المجتمعات البدائية أو لنقل المجتمعات التي كانت تحتفظ بنقائها إلى عهد قريب، ولم تستفزها المدنية، وتعدل حيواتها وأمزجتها بعد. قرأت روايات عن الطوارق، لكاتب أمريكي يبدو أنه مغرم بتلك الأجواء، لكني لم أحس بأنه أجاد كثيرا، هي محاولات لإقحام البداوة وتقاليدها في نصوص ليست عفوية في اعتقادي الخاص ولكن قد خطط لها بصبر، ولأن الكاتب الليبي إبراهيم الكوني، من الذين كتبوا الصحراء بحرفية، وفهم حقيقي وعميق، فقد تعلقت بكتاباته تلك الأيام، تعلقا شديدا. قرأت خريف الدرويش، والمجوس، والتبر، ونزيف الحجر وعشرات غيرها من الروايات التي كتبها إبراهيم بانتظام، وخرجت أشبه بأخوات يحملن نفس الجينات والملامح لكن يختلفن في زمن الولادة فقط. كنت كما يبدو شغوفا باكتشاف صحراء غير التي أعرفها، وتركد في خيالي، اكتشاف ما وراء تلك التلال والكثبان، وذلك القحط الذي كنت أراه جليا في كل رحلة أعبر بها صحراء ما، راكبا قطارا أو عربة، وكنت من سكان شرق السودان حيث الصحراء ممتدة وقاحلة، لا تبدو لي فيها رائحة بشر أو حتى شجرة تتنفس.الكوني قدم لي الصحراء التي لا أعرفها حقيقة، واكتشفت أن وراء ذلك القحط الذي يبدو للعيون، حيوات كاملة تتشكل وتنمو، وأيضا تستقر في بقعة ما، برغم الرحيل الظاهري. توجد ميثلوجيا فريدة، سحرة ومتنبئون، وقراء بخت، وزعماء وتوابع وذلك المجتمع الذي تحكمه قوة التحمل، ولا يوجد فيه سكن لضعيف أو مستهلك، ولأنني لم أكن أتوقع أن أرى حبا جارفا أو عواطف تندلق عبر تلك الرمال، فقد فوجئت بوجود نساء رقيقات، يعشقن ويتغزلن ويترنمن شعرا، ورجال لهم ملامح أسطورية تتمدد في خيالات النساء. الماء له طعم آخر، الخبز المملح له طعم أسطوري، ومتابعة السحرة وهم يقرأون البخت ويستنفرون طاقتهم ليتوقعوا المطر والرياح، وفساد الأمزجة، تتبعها الكثير من الهواجس والأحلام، وحين يمرض أحد أو يموت لا تجد دعوعا تبكيه أكثر من اللازم، فقط نظرات إلى البطون المتكورة التي ربما تأتي بحياة أخرى تعوض الفقد، لتستمر رحلة اللامكان.. إلى الأبد.مؤخرا قرأت سلطانات الرمل، للسورية لينا هويان الحسن، وهي أيضا تندرج تحت أدب الصحراء غير المكتشف، وأدهشني ذلك الكم الكبير من المعلومات الذي تحمله الرواية. هنا رصد لصحراء أخرى، بعيدة عن صحراء الكوني، لكنها تشبهها في كثير من الطقوس، وربما لو استمرت الكاتبة في نبشها لنفس المكان، لخرجت بأشياء أخرى، لا تقل أهمية عن تلك التي كتبتها. وفي عمل ثالث، قرأت منه، تجد صحراء الجزائر عند الزيواني حاج الصديق، وهذا رجل من الصحراء وعاشق لها، وأظنه كتب ما تحمله الرمال، وتضمه الأرض اليابسة بكثير من الفن.

332

| 30 مايو 2016

شخصيات قديمة

حين كنت تلميذا في المرحلة الابتدائية، كنا نقيم في مدينة بورتسودان الساحلية، وكنا نفر سنويا في عطلة الصيف من حر تلك المدينة الرهيب، إلى قريتنا الصغيرة في شمال السودان، حيث نقضي عطلة جيدة، وسط أهل بسطاء في حياة بسيطة، ومفردات غريبة على تذوقنا بالطبع، لكننا نتآلف معها سريعا، وخلاك شهري العطلة، نكون بالفعل أبناء أصيلين لتلك القرية، نرتدي الثياب البيضاء الفضفاضة، ونقص الشعر كاملا، وأيضا نستخدم الدواب المتوفرة كمواصلات وحيدة، وغير مكلفة، في ذلك الزمان. كانت توجد في تلك القرى المتراصة في شريط ضيق بين النيل والصحراء، شخصيات حية، إما تسكن في القرى أو تعبر بها، وقد تمت أسطرة بعضها وأصبحت شخصيات عامة، يعرفها الجميع هناك، ويسعون للتعرف بها واتباع خطواتها، التي كانت خطوات مقدرة بشكل كبير.كانت ماشطة شعر النساء مثلا، والتي في الغالب امرأة مسنة من الأعراب المرابطين بخيامهم وبيوتهم الشعر، حول تلك القرى، نجمة حقيقية، تتصدر مجالس النساء، وتنقل الأخبار من بيت لبيت، وغالبا ما يتم إكرامها بسخاء، حماية للأسرار أن تظل دفينة في صدرها، كان هؤلاء النسوة يدخلن في الأغنيات التي تضفر في ذلك الحين، ويذكرن في محافل كثيرة، ولعل كتابة مثل تلك الشخصية في نص روائي، في ذلك الحين وحتى عهد قريب، كان سيبدوا ساحرا فعلا، ومميزا فعلا، وفيه اكتشاف لبيئة قد يهم القراء معرفتها، وتتساوى في ذلك قارئات البخت، وراميات الودع اللائي، يستلهمن المستقبل، ويحاولن تضفير الطرق بالورود للذين سيعبرونها. كانت قارئات المستقبل أيضا نجمات، يمنحن كل من جلس إليهن نصيبا من الحلم الجميل: الموظف سيترقى في عمله إلى رتبة أعلى، الفتاة العزباء ستتزوج فورا، ومن رجل ثري، التلميذ سينجح في دراسته وقد يصبح ضابطا أو طبيبا أو وزيرا، والجدة العجوز التي تقترب من النهاية بخطى حثيثة، ستحج، وتعتمر وتعود إلى أهلها سالمة غانمة. وأعتقد أنني كتبت شخصية قارئة المستقبل، بوحي من تلك المشاهدات، ولابد أن توجد شخصيات مشابهة، في أعمال كتبت في فترات ازدهار القرى بتلك الثقافة، ولكن لا أعتقد أن معظم النصوص الحديثة التي تكتب الآن، يمكن أن تستوعبهن إلا ضيفات قليلات الإقامة في الصفحات.أيضا من الشخصيات التي كانت أسطورية بالفعل، في ذلك الزمان وتمثل أقصى طموح للفتيان في القرى، أن يصلوا إلى مقامها، وفتيان أحلام للفتيات الحالمات في ليالي العتمة القروية، حيث لا شيء سوى الثرثرة، وتضفير الأحلام، سائقي اللواري السفرية بين القرى والعاصمة، والذين كانوا يعبرون بكل القرى تقريبا في رحلاتهم الدؤوبة من العاصمة وإليها، حاملين البضائع والمسافرين، في شوارع رملية غير ممهدة، صنعتها عرباتهم. كان هؤلاء بالفعل شخصيات روائية عظيمة، وشخصيات دخلت في صميم الثقافة الشعبية، وهناك ملاحم عديدة، تحدثت عن سفر الحبيبة من بلدتها، مع سائق من أولئك، وكان الشاعر يوصيه باتباع الأخلاق وعدم إغواء حبيبته. وأذكر أسماء لسائقين من نجوم تلك الفترة مثل: كمال، وختوم حسن، ودوشي، وصابر الشهير الذي لو امتلك السائقون لغة توقيع الإوتوغرافات، لوقع لجميع سكان القرى الواقعة على شريط النيل، من شدة وهجه.

699

| 23 مايو 2016

عن المؤلف، وحقوقه

أخبرني روائي كبير، وكان قد توقف عن الكتابة منذ فترة طويلة: إن من أهم أسباب توقفه عن الكتابة في وقت مبكر، وربما يكون أكثر الأوقات المحملة بعطاء محتمل، الشعور بعدم جدوى الكتابة، في غياب ما يسمى بحقوق المؤلف، خاصة في وطننا العربي. فالمؤلف كما هو معروف، هو البداية لكل عمل إبداعي سواء أكان ذلك العمل نثرا أو شعرا أو مسرحا أو حتى لحنا موسيقيا بسيطا، أو شريطا سينمائيا لا تتعدى مدته نصف الساعة، من هنا تنطلق شرارة البداية، وهنا أيضا تكون النهاية، لأن المؤلف بالضرورة هو الذي يضعها. 

 ما قاله ذلك الروائي، وكثيرون من جيله وكل الأجيال اللاحقة إلى يومنا الحاضر يطرح تساؤلا مهما جدا: لماذا إذن يجلس الناس في تلك العزلة، ليضيعوا وقتهم في الكتابة؟ ما دامت بلا جدوى وبلا أي عائد مادي يعوض ذلك الوقت الطويل في إنجازها؟ 

في الماضي، وفي أيام شح الموارد، وعدم وجود وسيلة أخرى للانتشار سوى دور النشر القليلة العدد في ذلك الوقت، سأقول إن الأمر هو ابتلاء ابتلي به المبدع، ولا يستطيع التخلص منه، وحتى لو عمل بلا حقوق لأن العائد المادي لدى الناشر كذلك لم يكن عائدا كبيرا جدا حتى يقتسمه مع أحد، أو يشرك فيه أحدا، وكونه أسهم في نشر عذاب المؤلف، وشد إليه بعض البريق، هذا يكفي.

الآن ستختلف الحكاية، أو بالأحرى ستتطور الحكاية، ستنشأ آلاف دور النشر التي تعمل بانتظام ليل نهار، ولا نسمع عن دار نشر أفلست أو توقفت إلا نادرا، ستأتي الإنترنت بخيرها وشرها، ويأتي النشر الإلكتروني، وتقام معارض الكتب الممتلئة بالزوار حتى الاختناق، ستنشأ الجوائز الأدبية في شتى فروع المعرفة وتقام المؤتمرات الخاصة بالإبداع في كل مكان طوال العام، ونرى ناشري الكتب متأنقين ومبتسمين، يقيمون مؤتمرا تلو الآخر، ونرى عارضي الكتب يقولون إنهم استطاعوا تربية زبائنهم، ولم تعد لديهم خسارات في تجارتهم. إذن تحول الأمر إلى تجارة كبرى لها أصولها وقواعدها، تماما مثل تجارة أي سلعة أخرى.. فقط ثمة خاسر وحيد، وهو الذي أشعل ويشعل شرارة البداية لذلك السوق.

 والذي تغير، ربما لدى ذلك الخاسر الوحيد، هو التعامل الشكلي، أي صياغة عقود له تبين حصته وسط ذلك الضجيج، لكن حتى الآن لا يعرف عن سلعته سوى أنها سلعة تتسرب ويعاد تصنيعها، ولا شيء آخر.

 في مؤتمرات ناشري الكتب الأخيرة، سمعت حديثا عن حقوق المؤلف، وعن صيغ جديدة للتعامل مع ذلك الخاسر، لكن في المقابل لم أر نتائج، والأغرب من ذلك أننا استوردنا من الغرب كل ما يختص بثقافته، لكننا لم نجلب حقوق المؤلف، ولعل تلك الفقرة الثقافية سقطت من أمتعتنا ونحن نجلب ثقافة الغرب.

311

| 16 مايو 2016

عن القراءة

يعد كتاب تاريخ القراءة، الذي كتبه القارئ المشهور: آلبرتو مانغويل، وأصدرته دار الساقي مترجما، أحد أهم الكتب التي ينبغي لكل باحث عن السبب في متعة القراءة، وتفوقها على كثير من المتع الأخرى، حتى عهد قريب، الاطلاع عليه، ذلك أن الكتاب كان عبارة عن جهد كبير، قضى فيه الكاتب سنوات طويلة، وأنجزه ليمنحنا أولا شهادة معرفية عن القراءة، وثانيا ليمتعنا بقراءة الكتاب. الكتاب يتعرض تقريبا لكل الحقب التاريخية، منذ أن عرف الناس كيف يقرأون على نطاق ضيق، وحتى لحظة اكتشاف الطباعة منذ قرنين بواسطة نوتنبيرج، وبداية انتشار المعرفة على نطاق أوسع حين انزاح عبء النسخ اليدوي للكتب وأصبحت تطبع برص الحروف والحبر، وتجلد وتحمل إلى بعيد.لكن أمتع ما في الكتاب، تلك الطقوس التي كانت تلازم القراءة، وآلية الاستماع للنص المقروء، ذلك أن القراءة لم تكن مفردة في بداية تعرف الناس إليها، بمعنى أن ينكفئ أحدهم على نص في عزلة تامة، ويستمتع به، أو يستخلص منه المعرفة، ولكن تجري في مجموعات، تجلس للاستماع بينما هناك معلم وغالبا هو أحد القساوسة، يقوم بفعل القراءة، ونعرف أن التعليم كان قديما من وظائف الكنيسة، والمدارس التي تنشأ، يقوم برعايتها قساوسة، يهتمون أولا بتدريس النصوص المقدسة، ثم العلوم الأخرى بعد فلترتها، بحيث لا تقترب أو تعارض الدين المسيحي، ويقول المؤلف أن هذا الطقس كان يحدث نشوة كبرى لدى المستمعين تقترب من الطرب، وشخصيا أظنها نشوة الاكتشاف التي يحدثها فعل الإلمام بمعلومة معرفية جديدة، بعكس ما يحدث معنا الآن في هذا العصر، حيث لا نشوة، ولا طرب لأي اكتشاف، وباتت الدنيا كلها مكتشفة، يمكننا الخوض في تفاصيلها ببرود شديد.أيضا تعرض الكتاب لطرق ممارسة القراءة، والأدوات المساعدة لكي تتم القراءة بمزاج جيد. هناك مقاعد وطاولات خاصة، وجلسات متعددة يتخذها المرء أثناء قراءته، هناك من يقرأ مستلقيا، وهناك من يقرأ ماشيا أو راكضا، وحقيقة ذكرني ذلك بطقوس الكتابة نفسها، وهي لا تختلف كثيرا، حيث لدى كل كاتب، طقسا معينا، ووضعا معينا يريحه أثناء الكتابة، فقط أصبح تعدد الطقوس صعبا كثيرا في السنوات الأخيرة، لأن استخدام جهاز الكمبيوتر، وحتمية الجلوس مقيدا إلى مقعد أثناء الكتابة، قلل من تعدد الوضعيات.أعتقد أن القراءة الجماعية، برغم تقلصها كثيرا، وجنوح القراء إلى العزلة والانفراد بكتاب، هي الأفيد للباحثين عن المعلومة، في الكتب العلمية، حيث يمكن أن يدور نقاش مهم أثناء فعل القراءة، وبالتالي فائدة كبرى لكل من يستمع أو يناقش، بعكس القراءة الأدبية، فهي التي يصلح فيها الانفراد بالكتب ومحاولة الاستمتاع بكل ما فيها، ذلك أن الأدب في معظمه وبرغم القضايا الكبرى التي يحاول معالجتها، هو كتابة مسلية، وسلسة، ويمكن أن يخرج القارئ حين ينفرد بكتاب ممتع لفترة طويلة، بقصة حب كبيرة مع ذلك الكتاب، والسعي لكتب أخرى مشابهة.

490

| 09 مايو 2016

إشارات

كتب الزميل الكاتب السوري إسلام أبو شكير، عن فكرة عثر عليها في إحدى رواياتي، وأشار إلى أن تلك الفكرة الغريبة، كان يمكن أن تتطور، وتتحول وحدها إلى عمل ملحمي، بطله تلك الشخصية التي قرأ عنها في روايتي. أشير أولا إلى أن إسلام ولأنه كاتب أيضا، انتبه لما كتب بشكل عابر، في نص كان معنيا بأشياء أخرى، شكلت مادته الرئيسة، وتلك الفكرة برغم غرابتها وطرافتها وإمكانية توظيفها بالفعل، لم تكن بارزة أثناء الكتابة، بحيث تنحرف بالنص عن مساره الذي رسمته، وتشكل قوامه وهيئته الجديدة، والحقيقة أنني بعد أن تأملتها الآن، أحسست بأنني وفي سبيل توصيل أفكار أخرى، ألقيتها عن ظهر الذهن، في طريق كتابتي للنص، وهذا التأمل لم يحدث أثناء الكتابة، وإلا لفكرت في طريقة تجعلني أستمر في حملها وأمضي.هذه المسألة، أي مسألة تطور الأفكار وعدم تطورها أثناء الكتابة، وأيضا الأفكار الموحية وغير الموحية، تطرقت لها عدة مرات في كتاباتي عن مفهوم الكتابة وآلياتها، من وجهة نظري الشخصية. هناك كثير من الشخصيات والأفكار، تصادفنا في الحياة، وأحيانا تلازمنا لفترة طويلة، وتسكننا وبرغم ذلك لا نستطيع كتابتها، قد يحس الكاتب أنها قوية ومتمكنة، وستمنح الكتابة نصا متمكنا، لكنه حين يجلس ليكتبها، لا يستطيع أن يرسم ملمحا واحدا، أو يطور فكرة واحدة، وإن حاول، لا يكون راضيا عن محاولته، على العكس تأتي بعض الومضات الخاطفة، تأتي مصادفة في أحيان كثيرة، لتصنع نصوصها وملاحمها، وبسهولة شديدة. وإن حاولنا البحث عن تفسير لذلك، لا نجد أبدا، هو شيء لا يملكه أحد قطعا.أذكر هنا قصة كبير الممرضين في مستشفى عملت به، والذي أعتبره حكاء عظيما كان يتجول بخياله في كل مكان ويروي نصوصا لن تحدث قطعا، ولدرجة أنه كان يلقب بالكذاب في أوساط معارفه ورؤسائه في العمل. فالرجل الجالس على مقعد البلاستيك الممزق في حوش المستشفى، والذي لم يغادر المدينة إلا عدة مرات فقط، ذهب فيها للعاصمة وعاد، يتحدث عن فترة عمل فيها سائقا خاصا لملك الأردن، ويصف كل ما له علاقة بقيادة سيارات الملوك، يتحدث عن صداقته بالممثل يوسف وهبي، وكيف كانا يسهران معا في فنادق الدرجة الأولى في ذلك الزمان. عن الهندية التي تزوجها وسماها: نور الصباح وكان اسمها: شينا، وطلقها لأنها سخرت من والده العجوز الذي زاره قادما من قريته في الشمال.هذا الحكاء الذي جلست إليه عشرات المرات واستمعت إلى حكاياته الغريبة والدقيقة في وصفها وتقنيتها، لم أستطع كتابته. فكرت فيه بطرق متعددة، جعلته شخصيات مختلفة، ولم أرض عن أي منها، وتركته، في حين أن فكرة رواية مثل زحف النمل، وبطلها المغني أحمد ذهب، لم تكن سوى ومضة صغيرة، من خبر قرأته مصادفة في صحيفة، وجلست في نفس اليوم لأكتب روايتي زحف النمل.إذن نحن في عالم الكتابة، لا نملك أحقية أن نكتب فكرة، أو نرسم شخصية، بمحض إرادتنا، وبعفوية كاملة، لكننا ننتظر أن تومض الفكرة، وتهددنا من أجل أن نكتبها، وهكذا ربما تضيع بعض الأفكار العظيمة، أو تسقط عن حمولة نص كان يحملها.

270

| 02 مايو 2016

نصوص ناقصة

كثيرا ما يبدأ كاتب ما، كتابة نص روائي أو قصصي، تكون فكرته مكتملة، وبعض أركانه متوفرة في الذهن، ويمكن بالاستمرار في كتابته، أن يحصل على نص متميز إلى حد ما، لكن فجأة تحدث ظروف طارئة، وينقطع الكاتب عن نصه مرغما عدة أيام أو أشهر، وربما سنوات، وحين يتذكره ويعود إليه، غالبا لا يحصل عليه كما كان، أي أن النص لا ينتظره بنفس توهجه، ليعود ويعمل عليه، ولكن ينطفئ، وتصعب عملية إعادة إشعاله مرة أخرى، وإن حدث واشتعل، سيكون ذلك اشتعالا باردا، وغالبا ما يحدث بعد محاولات مضنية.ما ذكرته ينطبق على الذين يكتبون الرواية بشكل يومي أو متقطع على حد سواء، لأن الكتابة المتقطعة، لا تعني أن يكتب أحدهم صفحة أو صفحتين كل عدة أيام، أو عدة أشهر، وإنما في الغالب تحدث حسب الزمن الذي يحصل عليه الكاتب، في ازدحام يومه، بحيث يسرع ليدون كل خواطره، ويمكن أن يحدث ذلك عدة مرات في اليوم أو الأسبوع، من دون أن يفقد النص بريقه في ذهن الكاتب. شخصيا أميل للكتابة بشكل مستمر حتى ينتهي النص، إن جاءتني فكرة، ووجدتها تستحق عناء أن أفكر في كتابتها، ثم إن جاءتني بعد ذلك بداية نص، وهكذا أحاول أن أنتزع الوقت لأكتب بلا انقطاع حتى ينتهي النص وإن حدث وانقطع لأي ظرف كما ذكرت، تبدأ أهميته تتناقص في ذهني إلى أن يصبح نصا غير مكتمل، أو نصا مهملا، لا أمل في إيقاظه مرة أخرى والعمل عليه.لقد عدت مؤخرا إلى أوراقي القديمة، قبل أن أدخل تقنية الكمبيوتر، وأيضا إلى بعض الديسكات القديمة، حين كانت رائجة في حفظ النصوص والصور، عثرت في تلك الأوراق والديسكات على عدد من النصوص التي كتبتها بحماس فعلي، وضاعت بعض ذلك لأسباب لم أعد أذكرها، لكنها غالبا أسباب مثل المرض أو السفر لفترة طويلة. بعض هذه النصوص قصيرا بحيث بدا لي بدايات روايات، لم أتعمق فيها كثيرا، وبعضها طويل، من عدة فصول، وواضح أنها كانت روايات تحمل هيكلها وأفكارها، وللأسف، انتهت إلى الإهمال.من هذه النصوص، نص اسمه: غثيان، عثرت عليه مؤرخا بنهاية التسعينيات، أي في الفترة التي كنت ما أزال متأثرا فيها بالشعر، لكن كان ذلك النص مختلفا فعلا، فالحكي فيه ظاهر جدا، والشخصيات مرسومة كما ينبغي أن ترسم الشخصيات، وأخاله الآن لو اكتمل، لكان بدايتي الحقيقية في السرد، أي بداية ملامح أسلوبي الذي يزاوج بين الشعر والنثر من دون سيطرة للشعر على النص، ودائما ما أؤرخ له برواية مهر الصياح.القصة عن شاب ريفي، قرر أن يترك الريف فجأة، ويسافر للعاصمة، واستعان في التعرف إلى طريقه، وما يمكن أن يقابله في العاصمة، قبل أن يندمج فيها، برجل من العاصمة، استقر في الريف منذ فترة وأسس مطعما جيدا.حقيقة لا أتذكر ماذا كان مثار قصة غثيان، وماذا كان سيحدث للريفي المهاجر، وهو في العاصمة، والآن قطعا لن أفكر في ذلك، لأنني لن أعود لإكمال هذا النص.

368

| 25 أبريل 2016

من يدخل الحكي؟

أصبحت عادة أن يطلب مني كثير من الأصدقاء، أو حتى غير الأصدقاء الذين التقيهم لقاءات عابرة في الشوارع أو الأسواق أو السفر، أن أكتبهم في واحدة من رواياتي القادمة، يقولون هذا وهم يعتقدون جازمين، أن بإمكان الكاتب أن يفتح بيته النصي لإسكان كل من يريد متى شاء ذلك، غير مدركين أن للكتابة طقوسها ومزاجيتها الغريبة.تلك واحدة من إشكاليات الكتابة، أن لا تنفتح دائما، أو أن تنفتح حين لا يريد الكاتب ذلك، وتنغلق حين يريد، والذي يملك التجارب لابد يريد كتابتها كلها، لكن ذلك لا يحدث أبدا. هناك أناس بطبعهم شخوص روائية، أسماؤهم روائية، ضحكاتهم، تصرفاتهم، وكل شيء فيهم يوحي بالكتابة، عكس آخرين، لا تستطيع أن تقترب منهم الكتابة مهما حاولت، وحتى أولئك الذين يمكن تصنيفهم شخصيات روائية، قد يحتاجون إلى كثير من المكر والصبر حتى يدخلوا النص. وقد أخبرني أحد الأصدقاء الكتاب، أنه ظل لعشرين عاما يطارد شخصا يعمل جرسونا في أحد المقاهي، أحس به سيثري نصا يريد كتابته، إلى أن استطاع إدخاله أخيرا في رواية جديدة وكان كلاهما قد كبر.. الكاتب وشخصيته. ومنذ أكثر من عشر سنوات، تحوم حولي شخصية الآسيوي الذي يدعي بأن رجله مكسورة، ويمشي عشرات الأميال يوميا.. أمتص تلك الشخصية كلما صادفتها، أدير معها حوارات عديدة، وتأبى حتى الآن أن تتسكع في نص جديد.لكن بالمقابل، هناك شخصية سريعة الولوج، شخصية المقتحم الذي لن يترك نصك أبدا، وسيدخله حتما، وقد حدث لي ذلك في روايتي (زحف النمل) التي صدرت في مصر وبيروت بعد ذلك في طبعة جديدة.. الشخصية شبه الرئيسية كانت لشخص اقتحم هدوئي وأحاله إلى صخب، وتحول سريعا إلى كتابة مؤلمة، أبت أن تسكت حتى اكتمل صراخها في زحف النمل. أيضا شخصية عبد القيوم دليل في روايتي الأخيرة: منتجع الساحرات، إذ كان إحدى الشخصيات العادية، التي التقيتها في حياتي، وبالرغم من ذلك دخل مبجلا إلى الرواية.والآن ماذا أقول لذلك الرجل الفندقي الأنيق الذي التقيته في مصر وطلب مني إدخاله نصا؟.. ماذا أقول لذلك الطبيب الذي أدى لي معروفا، وطلب أن يكتب، وماذا أقول للعشرات الذين قد لا يعرفون كيف تكتب النصوص، ومن أين تأتي بوقود تشغيلها؟.. لا شيء يمكن أن يقال سوى قد يكتب يوما أحد وقد لا يكتب أبدا.

264

| 18 أبريل 2016

لقاء

"لن تتذكري أبدًا أين التقيتك لأول مرة، يا أسماء، لأنك لا تعرفين أصلًا أنني التقيتك، وأنني تعمقت في لقائك، وصادقتك لحد الجنون، وعرفت بحاسة قوية متمكنة، تفاصيلك، التي قد لا تعرفينها أنت نفسك، وأستطيع أن أدرسك، وأحاضر في سيرة تملكينها، وأملكها أكثر منك، لن تصدقي أنني كنت قريبًا منك لأشهر طويلة، في لحظات مرضك التي ربما تكونين قد مرضته، ورونقك وانبهارك واستيائك، وغرورك، وكل ما يمكن أن يخصك، وتخيلته بجدارة. أتعذب في صمت، لدرجة أنني أحببت العذاب بشدة، سميته عطر أسماء، صنعت منه نكهات متعددة، رششتها في قلبي، وأصبح على مر الأيام، عطرًا مفضلًا، وبديعًا، شمته الدنيا كلها، إلا أنت. وبرغم أن عشقي كان من البداية بلا أمل، فقد تركته ليكون هكذا، مستعرًا نازفًا، أنا الذي ألقي بحطب معاناته كلما خبا، من دون قدرة على تركه يموت.الزمان، إحدى ليالي الخميس، الليالي المفضلة لإقامة الأفراح في بلادنا، كما تعرفين، والمكان ناد شبه أرستقراطي عتيق، في وسط المدينة، قريبًا من شاطئ البحر، يسمونه النادي الطلياني، اسمه استعماري صرف، لكني لم أر طليانًا أو أشباه طليان، أو أي غرباء آخرين، يتحاومون فيه في المرات القليلة التي طرقته فيها، ولا أعرف سر تسميته تلك، وإن كانت ملاعب التنس وكرة اليد والسلة المهجورة، بنجيلها اليابس، والأزهار المحترقة على جانبيها، وطريقة زخرفة الأبواب والنوافذ، وأردية عماله المنسقة إلى حد ما، تدل على أنه كان ذات يوم، إحدى بؤر الغرب المتعددة في بلادنا، وفارقته الأرواح القديمة، لتحل أرواحنا في المكان، تلبسه ثياب البيئة المحلية، ويستطيع واحد من أقاربي، مثل "عبدالقادر علي"، الذي يعمل موظفًا عاديًا في أحد البنوك الوطنية، ويسكن مع أهله، حيًا شعبيًا في طرف من أطراف المدينة، أن يستأجر مسرحه القديم، ليقيم حفل زفافه.لم أكن أيضًا من هواة حفلات الزفاف الصاخبة على الإطلاق، أعتبرها مناسبات خرقاء يمكن اختصارها إلى أدنى حد، وإقامتها داخل بيت صغير بلا ترف ولا ضجيج، بحضور من يعنيهم أمرها، من أهل العروسين وجيرانهم، لكن المجتمع ليس في صفي على الإطلاق، وكنت أذهب مضطرًا لمشاركة من أعرفهم، وكان عبدالقادر من أقاربي اللصيقين، ومن ثم لا بد من مشاركته حتى النهاية.أتيت إلى الحفل متأنقًا بحسب تصوري الشخصي، ولم أكن ضليعًا في الأناقة، في أي فترة من فترات حياتي، أرتدي ملابس راعيت فيها أن تبدو ملابس معلم في مدرسة، ربما يصادفه أحد تلاميذه في ذلك الحفل، ولا يحس بأنه يصادفه خارج صفوف الدراسة، أو معامل الكيمياء، قميصي أبيض بلا خطوط إضافية، وسروالي أزرق فاتح، وعطري واحد من تلك العطور السائدة في السوق، أظنه كان عطر ماكسي أو جاكومو، أو ون مان شو، لا أذكر الآن بالتحديد، ولم تكن لدي حيلة لأجعل وجهي شديد الفرح، فقد كان وجهًا جامدًا، ممتلئًا بتجاعيد، ورثتها من أسرة لم تورث سوى التجاعيد".

377

| 28 مارس 2016

رقابة

إن تطرقنا للكتب الإبداعية، وهي أكثر الكتب لفتا لعين الرقيب، وأكثرها إثارة لمقصه، نجد فيها ما يستوجب التدخل رقابيا بالفعل، وما كان مظلوما منها، وتم إبعاده بلا معنى، فلا غضاضة من إبعاد كتاب غاص بالركاكة، ولغة الشوارع، والوصف الدقيق المتكرر للحظات الحميمة التي هي سلوك إنساني عريق، ولا يمكن التغاضي عنه في كتابة بعض الروايات، ولا مانع بالطبع من كتابة هذه المشاهد، لكن بقلم رشيق، يلقي عليها نظرة سريعة، ولا يتعمق في النظر. وبالنسبة للركاكة التي أعنيها، فهي الحديث باللغة التي إن سمعناها في الشارع، سددنا آذاننا، مثل لغة السباب والشتائم، واستخدام وصف الأعراض في العراك والمشاحنات، وكان ولا يزال لي رأي في مسألة التعرض للدين، التي يعتبرها البعض حرية، ويسمح لنفسه بالخوض فيها بلا عوائق. هذه بالذات لا جدال فيها، فالمقدس يظل مقدسا، والذي لا يؤمن به، عليه مراعاة شعور مئات الملايين التي تؤمن به، الذي لا يصوم في رمضان، لا أحد يسأله، إن التزم بعدم صيامه في بيته، والذي لا يصلي، لا أحد يتعرض له، إن لم يلق بحجارة على المصلين، وهكذا.الذي يحدث عادة كما أعتقد، أن يكون الرقيب الموظف، هو موظف عادي، مثل موظفي المالية والإدارة وشؤون العاملين، لا يخضع للتفكير الحر بقدر خضوعه للقوانين والأعراف السائدة، بمعنى أن الأعراف السائدة، فيها حماية لما هو من المفروض أن تتم حمايته بالفعل، وحماية لأشياء أخرى ليست في المستوى نفسه، وأعتقد أنه ليس من المفروض أن يمنع كتاب قصة لأن أحد شخوصه تم تعذيبه بواسطة سلطة ما، وتحدث المؤلف بلسانه عن ذلك الموضوع، كذلك سياسة الفقر والتجويع والظلم السائدة في أماكن ما، وتطرق لها مؤلف، ليست أسرارا يجب كتمها وبالتالي منع الكتب التي تتحدث عنها.أحيانا ترد بعض العناوين لكتب، أو ترد بعض الكلمات، في كتب الروايات، ويفاجأ الكاتب أن عنوان كتابه، أو بعض الكلمات، أسهمت في إبعاد الكتاب عن القراء، وشخصيا عندي رواية بعنوان "اشتهاء"، منعت في كثير من الأماكن بسبب العنوان، ولا يوجد ما يستوجب منعها إن قرأنا لحم النص. واشتهاء مثل كلمات أخرى، من الكلمات التي تجعل الرقيب قلقا ومسورا بالشك، ويلجأ إلى الحل الأسرع والسليم في رأيه، أي أن يمنع عرض الكتاب.هناك كلمات أخرى، استغرب فعلا من اعتبارها عورات تستوجب الستر مثل كلمة: فخذ، التي تمنع كتابا جيدا عن القراء، حتى لو كانت الجملة التي وردت فيها هي فخذ الدجاج، وكلمة مبيض التي هي عضو إخصاب في المرأة، ينتج البويضات، التي تذهب للتلقيح في الرحم، ولا علاقة له بالإثارة على الإطلاق، وكلمة رحم نفسها، تزيد هرمون الأدرنالين لدى الرقيب وتزعجه، وقد حكى لي أحد الزملاء، أنه كتب قصة غرفة مغلقة، يحاول البطل أن يتخيل ما وراءها، ومن تخيلاته، أن تكون امرأة نائمة وتحلم به، فاعترض الرقيب قبل النشر، وشوه القصة، وبالتالي لم يقم الكاتب بنشرها.

298

| 20 مارس 2016

alsharq
السفر في منتصف العام الدراسي... قرار عائلي أم مخاطرة تعليمية

في منتصف العام الدراسي، تأتي الإجازات القصيرة كاستراحة...

1950

| 24 ديسمبر 2025

alsharq
الانتماء والولاء للوطن

في هذا اليوم المجيد من أيام الوطن، الثامن...

1137

| 22 ديسمبر 2025

alsharq
الملاعب تشتعل عربياً

تستضيف المملكة المغربية نهائيات كأس الأمم الإفريقية في...

1068

| 26 ديسمبر 2025

alsharq
قمة جماهيرية منتظرة

حين تُذكر قمم الكرة القطرية، يتقدّم اسم العربي...

999

| 28 ديسمبر 2025

alsharq
محكمة الاستثمار تنتصر للعدالة بمواجهة الشروط الجاهزة

أرست محكمة الاستثمار والتجارة مبدأ جديدا بشأن العدالة...

861

| 24 ديسمبر 2025

alsharq
بكم تحلو.. وبتوجهاتكم تزدهر.. وبتوجيهاتكم تنتصر

-قطر نظمت فأبدعت.. واستضافت فأبهرت - «كأس العرب»...

828

| 25 ديسمبر 2025

alsharq
التاريخ منطلقٌ وليس مهجعًا

«فنّ التّأريخ فنّ عزيز المذهب جمّ الفوائد شريف...

720

| 21 ديسمبر 2025

alsharq
لماذا قطر؟

لماذا تقاعست دول عربية وإسلامية عن إنجاز مثل...

663

| 24 ديسمبر 2025

alsharq
مشــروع أمـــة تنهــض بــه دولــة

-قطر تضيء شعلة اللغة العربيةلتنير مستقبل الأجيال -معجم...

633

| 23 ديسمبر 2025

alsharq
احتفالات باليوم الوطني القطري

انتهت الاحتفالات الرسمية باليوم الوطني بحفل عسكري رمزي...

549

| 23 ديسمبر 2025

alsharq
معجم الدوحة التاريخي للغة العربية… مشروع لغوي قطري يضيء دروب اللغة والهوية

منذ القدم، شكّلت اللغة العربية روح الحضارة العربية...

525

| 26 ديسمبر 2025

alsharq
التحول الرقمي عامل رئيسي للتنمية والازدهار

في عالم اليوم، يعد التحول الرقمي أحد المحاور...

507

| 23 ديسمبر 2025

أخبار محلية