رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
منذ سنوات، وأثناء قراءاتي المكثفة، التي تقلصت الآن مع الأسف، بفعل الانشغال الشديد، تعلقت بكتابات المجتمعات البدائية أو لنقل المجتمعات التي كانت تحتفظ بنقائها إلى عهد قريب، ولم تستفزها المدنية، وتعدل حيواتها وأمزجتها بعد.. قرأت روايات عن الطوارق، لكاتب أمريكي يبدو أنه مغرم بتلك الأجواء، لكني لم أحس بأنه أجاد كثيرا، هي محاولات لإقحام البداوة وتقاليدها في نصوص ليست عفوية في اعتقادي الخاص ولكن قد خطط لها بصبر. ولأن الكاتب الليبي إبراهيم الكوني، من الذين كتبوا الصحراء بحرفية، وفهم حقيقي وعميق، فقد تعلقت بكتاباته تلك الأيام، تعلقا شديدا. قرأت خريف الدرويش، والمجوس، والتبر، ونزيف الحجر وعشرات غيرها من الروايات التي كتبها إبراهيم بانتظام، وخرجت أشبه بأخوات يحملن نفس الجينات والملامح، لكن يختلفن في زمن الولادة فقط. كنت كما يبدو شغوفا باكتشاف صحراء غير التي أعرفها، وتركد في خيالي، اكتشاف ما وراء تلك التلال والكثبان، وذلك القحط الذي كنت أراه جليا في كل رحلة أعبر بها صحراء ما، راكبا قطارا أو عربة، وكنت من سكان شرق السودان حيث الصحراء ممتدة وقاحلة، لا تبدو لي فيها رائحة بشر أو حتى شجرة تتنفس. الكوني قدم لي الصحراء التي لا أعرفها حقيقة، واكتشفت أن وراء ذلك القحط الذي يبدو للعيون، حيوات كاملة تتشكل وتنمو، وأيضا تستقر في بقعة ما، برغم الرحيل الظاهري. توجد ميثلوجيا فريدة، سحرة ومتنبئون، وقراء بخت، وزعماء وتوابع وذلك المجتمع الذي تحكمه قوة التحمل، ولا يوجد فيه سكن لضعيف أو مستهلك، ولأنني لم أكن أتوقع أن أرى حبا جارفا أو عواطف تندلق عبر تلك الرمال، فقد فوجئت بوجود نساء رقيقات، يعشقن ويتغزلن ويترنمن شعرا، ورجال لهم ملامح أسطورية تتمدد في خيالات النساء. الماء له طعم آخر، الخبز المملح له طعم أسطوري، ومتابعة السحرة وهم يقرأون البخت ويستنفرون طاقتهم ليتوقعوا المطر والرياح، وفساد الأمزجة، تتبعها الكثير من الهواجس والأحلام، وحين يمرض أحد أو يموت لا تجد دعوعا تبكيه أكثر من اللازم، فقط نظرات إلى البطون المتكورة التي ربما تأتي بحياة أخرى تعوض الفقد، لتستمر رحلة اللا مكان .. إلى الأبد. مؤخرا قرأت سلطانات الرمل، للسورية لينا هويان الحسن، وهي أيضا تندرج تحت أدب الصحراء غير المكتشف، وأدهشني ذلك الكم الكبير من المعلومات الذي تحمله الرواية. هنا رصد لصحراء أخرى، بعيدة عن صحراء الكوني، لكنها تشبهها في كثير من الطقوس، وربما لو استمرت الكاتبة في نبشها لنفس المكان، لخرجت بأشياء أخرى، لا تقل أهمية عن تلك التي كتبتها.
617
| 12 سبتمبر 2016
لا شك أن الكتابة في سعيها الدائم للتميز، لدى معظم من يكتبون القصة أو الرواية خصيصا، قد ظهرت للقارئ المتابع بأساليب شتى، وتلك الأساليب تتبع مدارس راسخة، أو تتمرد عليها بما هو جديد، ويوجد كتاب كثيرون لا يزالون يتمسكون بالبساطة البعيدة تماما عن التعقيد اللغوي والفني، بينما آخرون يفضلون التعقيد، وهكذا يجد القارئ المتورط في قراءة النصوص ما يعجبه أو ما يشعره بالملل، ليترك ما يقرأه باحثا عما يلائمه أكثر. إنها أشبه بسوق يعرض كل السلع، ولا يجبر أحدا على شراء سلعة رغم إرادته. وتجد أن جميع السلع باختلاف خاماتها وماركاتها مطروقة ربما بالقدر نفسه أو بنسب متفاوتة. وفي مرور سريع على مواقع القراءة أو أنديتها التي تعرض آراء القراء في الكتب تجد ذلك التباين في الآراء موجودا، تجد الأسلوب المعين للكاتب قد وضع في سكة المقارنة، وتوافدت الآراء للإشادة به أو ذمه واعتباره لا يرقى للمستوى، وحتى لو كان ذلك الأسلوب سلسا وجميلا، لا يمنع تلك المقارنة.لقد قرأت مرة رأيا لقارئ عن رواية الحب في زمن الكوليرا للعملاق ماركيز، والتي أعتبرها واحدة من علامات الكتابة الكبرى لما احتوته من زخم شعري، وشخصيات مرسومة بدقة، وأصوات تتداخل وتفترق، وحيوات متمددة لشخصيات تعيش في الذهن ولا تبرحه، وشخصيا قرأتها أكثر من خمس مرات ولا أزال أقرأها كلما أحسست برغبة في تذوق طبق روائي نادر. كتب القارئ: رواية رديئة، ولا ترقى للمستوى، لم أتفاعل معها، ولم أحب أسلوبها.هل هذا يعني بالفعل أن الحب في زمن الكوليرا، بهذه المواصفات التي ذكرها القارئ؟ وهل يعني أن ماركيز كان مخطئا حين كتبها؟أبدا، هذا اختلاف التذوق بلا شك، الذي يتولد باختلاف الأسلوب من كاتب لكاتب، وكما قلت، هناك كتاب لا يزالون يكتبون بكلاسيكية قديمة، بالقدر نفسه يوجد قراء يعشقون النمط القديم، النمط الخطابي الذي يسمي الأشياء بمسمياتها، ويدير حوارات مطولة بين الشخوص على حساب السرد المبدع، وهذا القارئ قد يعجبه عمل لأرنست همينجواي، أو جوزف كونراد، وربما تفاعل مع عمل ذهني فلسفي من أعمال ميلان كونديرا، لكنه لم يحب السحرية أو الأسطورية، التي سيحبها آخرون غيره، ويرون أعمال ماركيز وغيره من كتاب الواقعية الأسطورية أعمالا عظيمة تستحق أن تقرأ دائما بلا ملل.لقد قلت مرارا، في مقالات أو حوارات، إن الكاتب غير مطالب إطلاقا بإرضاء القارئ، ولا يستطيع إرضاء كل القراء الموجودين في الدنيا، مهما اجتهد ومهما كتب، لذا عليه أن يكتب نصوصه بما يريحه شخصيا، وأن لا يهتم بالآراء سواء كانت سلبية أو إيجابية، لأن المبدع بوصفه كائنا حساسا، لا يخلو من بعض النرجسية صراحة، قد يحس بالمغص، والإحباط حين يقرأ رأيا مناهضا لإبداعه، ولسوء الحظ، فقد أتاحت تقنية الاتصالات الحديثة للقراء أن يكتبوا ما يشاؤون وأتاحت للمبدعين أن يطلعوا على ما كتب عنهم. ولو عدنا للوراء قليلا لتأكدنا أن الكتّاب العظام الذين سبقونا، لم يكونوا يعرفون ما يكتب عنهم، وظلوا يكتبون ما يرونه من دون مراقبة أو إحباط.
597
| 05 سبتمبر 2016
وأنا أقلب ذهني، محاولاً أن أتذكر قراءاتي في الأدب الأجنبي والعربي، وما علق منها في ذاكرتي، كما أفعل من حين لآخر، كتمرين للذاكرة، عثرت على عشرات المدن، موجودة ليس بأسمائها فقط، ولكن بجميع عوالمها، داخل روايات كثيرة سواء أن كانت عربية أو أجنبية. الكتاب هنا، يمسكون بيد القارئ، يقودونه عبر شوارع واسعة أحيانا، وضيقة في أحيان أخرى، يدخلونه مولات التسوق، والأحياء الشعبية والراقية، وبؤر الضجة وجذب السواح، وحتى المواخير والأندية الليلية بكل مواصفاتها، في سياحة أشبه بالسياحة الحقيقية التي يقوم بها أحد داخل مدينة ما. هذه المدن المذكورة، بعضها يتكرر في عدة روايات، بينما مدن أخرى لا ترد أسماؤها، ولا أي مرة، برغم ما فيها من ضجيج وصخب، واحتمال أن تولد داخلها القصص الغريبة، وتنمو باستمرار. هذا لا يعني بالتأكيد خصوبة مدن معينة، مقابل جفاف أو عقم، مدن أخرى، فقط، بعض الأماكن تحتاج لوقت طويل من استيعاب تاريخها وحاضرها وحيلها أيضا، والاحتكاك بذاكرتها، حتى تساهم في عمل أدبي.. والمثير في الأمر، إن الكتب الأدبية التي تذكر مدنا بعينها، تمنح أيضا قدرا من التشويق، ليس للقارئ العادي وحده، وإنما لكتاب الرواية أيضا، الذين قطعا يودون التعرف إليها عن قرب، ليكتشفوا إيحاءها وحدهم. لذلك حين قرأت روايات مثل: ليلة لشبونة للألماني أريك ماريا، والشتاء في لشبونة للإسباني أنطونيو مونيوز مولينا، وبيريرا يدعي للإيطالي الراحل: أنطونيو تابوكي، التي تدور أحداثها أيضا داخل لشبونة في البرتغال، تملكني إحساس غريب بأنني ربما أضعت شيئا هاما، بعدم زيارتي لشبونة حتى الآن. ورغم أن تلك الأعمال لا تشبه بعضها في أي شيء، ولا يربط بينها سوى ما وهبته لشبونة من مكان وأجواء وطقوس، إلا أن القارئ يحس بالفعل أنها متشابهة، وقريبة من بعضها. ليلة لشبونة كانت عملا عظيما عن الحرب العالمية الثانية، وما سطرته من مأساة للشعوب الأوروبية، تماما كما تفعل حروبنا في الوطن العربي الآن، من تشريد وقتل، وتدمير للبنى التنموية للدول، وطمس لهويات الشعوب المغلوبة، إنها رواية واضحة ولئيمة جداً في جعل العدو عدوا وكفى، والصديق في زمن الحرب عدوا، أشد ضراوة من العدو نفسه.
292
| 29 أغسطس 2016
في الواقع، معظم الناس يملون من تنظيم فوضى المكتبات، داخل بيوتهم، والمكتبيون الذين توظفوا في مكتبات عامة، يحسون بإرهاق شديد حين يعيرون أحدا كتابا طلبه، وحين يستلمون كتابا انتهت إعارته، وحين يفقد كتاب لم يرده من استعاره، ويقول مانغويل، إن أفضل المكتبيين، أي أمناء المكتبات، من كان بلا هواية اسمها القراءة، فالمكتبي القارئ، يتحيز لرف أو كتب معينة، قرأها وتذوقها، وينفر من رفوف أخرى بها كتب لم تدخل تذوقه، وهكذا ثمة تناغم ومودة في إعارته للكتب التي يحبها، وتأفف وضيق حين يعير الكتب التي لم تدخل تذوقه، هذا رأي بالطبع يحتمل اعتباره رأيا صادقا، أو رأيا نظريا تخيليا، فأمناء المكتبات الذين أصادفهم، أثناء استعارتي للكتب عادة، يبدون لي آليين في تعاملهم مع الجمهور، يعيرون الكتب بآلية مطلقة، ويتلقونها بعد انتهاء استعارتها بنفس الآلية. وبخصوص تنظيم المكتبات المنزلية، فكما هو معروف فإن الأجيال الناضجة السابقة للجيل الناضج الحالي، كانت أجيال قراءة نهمة، لأن لا ترفيه سوى ترفيه القراءة آنذاك، وكان الكتاب الذي يصدر في أي مكان، يذهب إلى كل الأمكنة، ويمكن للنسخة الواحدة أن تدور على مائة شخص وتعود إلى صاحبها، وهكذا. وكان المحظوظون من استطاعوا تكوين مكتبات في البيوت، من كتب جمعوها من هنا وهناك، إما شراء وإما هدايا، وأذكر أنه كانت في بيتنا مكتبة متوسطة، فيها مئات الكتب، وشخصيا لا أذكر كيف تكونت؟، وكيف تمت فهرستها؟، لكنها موجودة، وما زالت إلى الآن في نفس المكان الذي أنشئت فيه، وهو جانب من صالون البيت، وإن كان عدد رفوفها قد زاد، وسكنتها إصدارات حديثة لم تكن موجودة أيام والدي. الكاتب الأرجنتيني أبرتو مانغويل يؤكد في هذا الشأن، أن المكتبة العظيمة، حتى ولو ضمت كتبا قليلة، تضم معها ذكريات شتى، ذكريات الشراء والقراءة الأولى لكتاب ما، ورد الفعل عن كتاب معين، قرأه صاحب المكتبة ذات اليوم. هذه الذكريات قد تشمل ساحة رببليكا في وسط روما، وكشك الكتب المستعملة في وسطها والبائع العجوز الذي اشتريت الكتاب منه، والتقطت معه صورة.
3805
| 22 أغسطس 2016
كان إمام مغنيا يملك صوتا ممتلئا بعناصر الطرب كلها، وكان يعمل نجارا في ورشة صغيرة، يملكها في أحد الأحياء البعيدة. كان يدق مسمارا أو مسمارين في الصباح على طاولة أو كرسي، أو خزانة، وينفق باقي اليوم في تلحين القصائد التي تناثرت داخل الورشة. وكان مألوفا جدا أن ترى عددا من زبائنه، يسألون بغضب عن أغراضهم التي مضى عليها زمن طويل وما زالت مجرد خشب. في أحد الأيام زرته في ورشته، أعطيته قصيدة كتبتها لفتاة جميلة وأرادت أن تسمعها مغناة، فطلب مني أن أحضر شايا من مقهى قريب وأعود، وحين عدت بعد عدة دقائق، كان يسمعني قصيدتي ملحنة بصورة لم أصدقها، وفي يوم آخر زودته بخامات الخشب، وطلبت منه طاولة جديدة لعيادتي التي سأفتتحها قريبا، فلم أستلم تلك الطاولة قط.. كان الصديق في ذلك الوقت، في الأربعين تقريبا، نحيلا وأسمر البشرة، يرتدي بنطلونا أزرق وقميصا أبيض باستمرار، يضع منديلا أحمر حول عنقه، وعلى عينيه نظارة طبية سميكة من ذلك النوع الذي يطلق عليه ( قعر الكوب)، كان خياطا، يجلس على ماكينته من طلوع الشمس إلى غروبها، يأتيه طبق الفول بالجبنة، يلتهمه وهو منهمك، يأتيه كوب الشاي الأحمرالداكن، يتجرعه وهو منهمك، يحاوره الناس في السياسة والكرة، وأفلام راجي كابور، فيحاورهم وهو منهمك، وحين يفرغ من عمله، تكون عشرات البناطيل والقمصان والبدل، معلقة على شماعات خلفه، في انتظار أصحابها. إنها الملابس التي استلم خاماتها في نفس الصباح، فصلها وخاطها، ثم التفت إلى جيرانه من الخياطين الآخرين يسألهم إن كانوا يرغبون في أن يمد لهم يد المساعدة، قبل أن ينصرف إلى بيته. في أحد الأيام استلم قماشا من أحد أبناء الجنوب المنتشرين بشدة في الشرق، لم يكن الجنوبي يعرف عنه شيئا، سلمه القماش طالبا ثوبا وسروالا، وقميصا داخليا.. أخذ الصديق قياساته، أعطاه قرشا وطلب منه أن يحضر له زجاجة من مشروب مرطب، ذهب الجنوبي إلى إحدى البقالات وعاد بالمشروب، ليسلمه الصديق ملابسه كاملة. وكانت صدمة للرجل الذي رفض أن يتقبلها باعتبارها ليست ملابسه، ودارت في ذلك اليوم معركة كبيرة دامت نصف ساعة، وعطلت الصديق عن إنجاز بدلة كاملة لأحد العرسان. استلمها منه واعدا بإنجازها حالما بفرغ الرجل من شرب شايه في أحد المقاهي القريبة.
362
| 15 أغسطس 2016
قلت لسكر، التي لمت صدرها الآن من طاولتي، وقطعا وجدتني غير متحمس لمتابعة عرضها: كوني هادئة وصامتة لو سمحت. تراجعت إلى الخلف، وقفت في وسط المكتب صامتة وهادئة. قلت: هل تعرفين فيودور ديستوفسكي؟ ردت، وألمح مائة أو ربما ألف علامة استغراب في وجهها، الملون بأصباغ ويلا أو شانيل الفرنسية، التي بدأت تظهر في البلاد، في ذلك الحين، وكانت نساؤنا قبل ذلك، تستخدمن أقنعة البيض، والحناء، ولبخات الذرة، والفازلين الرخيص، في تنعيم الوجه والبشرة عموما والكحل كأقصى زينة، ولم تكن ثمة زخرفة: أظنه لا عب كرة برتغالي، أو برازيلي. جيد.. هل تعرفين العلمونولوجيا؟ وقفت صامتة دقيقتين كاملتين، سقط الغطاء المتزلج عن رأسها، وأعادته، سقط وأعادته مرة أخرى.. سقط وأعادته للمرة الثالثة، سقط وتركته وكان شعرها جذابا أو على الأقل مثيرا إلى أقصى حد. ولكن ليس بالنسبة لي، فأنا لم أتذوقها منذ البداية. تمتمت بكلام غير مسموع، رفعت صوتها أخيرا: سيدي يوجد في حينا امرأة اسمها علمونة، وزوجها اسمه حراس، ولها ولد عبقري اخترع ساعة حائط تعمل بالماء. هل تقصدها؟ نعم أقصدها.. جيد.. جدا.. قلت متهكما، سألت: وراء كل عظيم امرأة، لماذا اشتهر وليام شكسبير إذن، ولم تشتهر آن هاثاواي التي كانت تطبخ له السمك والبطاطا، وحساء الدجاج والطماطم، وتجهز له الحبر الذي يكتب به، وربما الإيحاء الذي يستخدمه؟ ابتسمت سكر، كاشفة عن أسنان مزعجة، لا أعرف معنى إزعاج الأسنان، ولكنها خاطرة راودتني. وأخالها في تلك اللحظة، تفكر في ذلك المسؤول المجنون الذي، بدأ وظيفته، بالهلوسة، لم ترد، ولا بدت تتهيأ للرد، وقلت أشجعها: شكسبير يا سكر.. زوجته آن هاثاواي يا سكر. فتذكرت شكسبير، بوصفه مغنيا صاعدا، ولم تتذكر آن هاثاواي أبدا، ولا بدا لها مثل العظيم الذي وراءه امرأة، مثلا مرموقا. طيب: هل تملكين مكتبة في بيتك؟ لا.. لا أملك. وإن أردت تأسيس واحدة، من هو الكاتب الذي ستضعين أول كتاب له فيها؟ هذا سؤال من عندي ولم يسأله العقيد في امتحان القدرات، الذي أخضعني له، ولو سأله لربما افتضح أمري، فلم يكن لدى مكتبة منظمة في بيتي، وكانت لدى كتب في أغراض مختلفة، مشتتة هنا وهناك، وتركت معظمها في بيت حفرة، القديم. ردت: ألبيرتو مورافيا.
337
| 08 أغسطس 2016
حقيقة لم تكن مشكلة كبيرة، ولا حتى مجرد مشكلة، أن تنفرد " ليز" بتأثيث البيت، واختيار زوايا خنقه، وزوايا تنفسه، وأين تضع زهرة بلاستيكية، وشجرة حية ذات رائحة مملة، إلى أي مدى ستمتد بأوامرها تلك السجادة المزركشة؟ وتصرخ في الحائط تلك اللوحة الصارخة بحناجر الألوان كلها؟ وكيف سترتب جلوس الضيوف إن جاءنا ضيوف، وتمنع عبث الأطفال بأواني الزجاج والخزف إن صحب الضيوف أطفالا معهم، وأبدى الأطفال اهتماما وغدا بالتحف المبعثرة هنا وهناك؟ كانت باستثناء تصلدها في ذلك الشأن، امرأة جيدة إلى حد ما، لها حظ متجدد من الجمال، والمرح، وتبدو أحيانا في غاية العذوبة، لدرجة أخاف فيها من أن تذوب. وبالرغم من أنها لم تنجب أطفالا، بسبب إزالة الرحم في سن مبكرة، نتيجة لنزيف متكرر، إلا أنها لم تبتئس، ولم تغير رونقها في تذوق الحياة قط، لم تلغ تسريحة شعرها التي يبدو فيها الشعر، نهرا ليليا، ناطقا بالإثارة، لم تغير أحلامها، في أن تسمع صراخ أطفال في البيت، ولجأت في كثير من الأحيان، إلى دعوة أمهات حديثات الولادة، ليؤججن صراخ الرضع، داخل البيت، وأحيانا تزور بيت اللقطاء، أو بيت الأمل كما يسمونه، حفاظا على مشاعر سكانه في المستقبل، تتأمل الأطفال، وتبدي رغبة في تبني أحدهم، لكنها تخاف أن يظهر من يختطفه منها مستقبلا، وحين أتيت لها منذ عامين، بولد يتيم، في السادسة، من رحلة لي إلى غرب البلاد، وكان من أقارب سائقي مثقال، ومات أبواه في حادث قتال قبلي، وقلت لها: سيعيش معنا: ضحية، ابتهجت بالولد، لكن الاسم شك أذنيها وأثارها لدرجة السخط، احتضنت الولد، وهي تردد: ضحية هذا يدفن في موقع الحرب والجوع والقتل هناك، إنه منذ اليوم: أيهم جمعة. كان جمعة هو اسمي بالطبع، جمعة راضي الحداد، لكنها المرة الأولى التي أسمع فيها باسم أيهم، ولم أجرؤ أن أسأل عن معناه، أو كيف خطر ببالها هكذا، في جزء من الثانية، وهي تبكي، والولد المتوحش، الخائف، منجر إلى أحضانها بالقوة، وتذكرت فجأة، أنه أحد الأسماء التي اقترحتها لأبنائها القادمين منذ تزوجت، وأخبرتني بها، وخبأتها بعد ذلك داخلها، قبل أن تنهي إزالة الرحم كل علاقة لها بالإنجاب.
309
| 01 أغسطس 2016
جعفر حماد، أو جعفر القديم، كما كانوا يسمونه، بسبب إصراره على استخدام لهجة أجداده البدوية شبه المنقرضة، في التعاطي مع الحاضر، والد ليز، كان في الواقع رساما، ظل مبتدئا منذ أن عرف التخطيط على الورق الخشن، والأراضي الطينية، واستخدام الألوان، ومحاولات رسم الوجوه، في سن مبكرة وحتى مات وقد قارب السبعين. كان قد بين افتتانه بالرسام الإيطالي: ليوناردو دافنشي منذ أن عرف باسمه، وألم بإنجازه، وصرح بأن لوحته موناليزا، ليست مجرد ابتسامة غامضة، على وجه غامض، ولكنها الحياة المنشودة، لمن أراد حياة خالية من الهواجس. وفي سياق تهيجه هذا، لم يوضح أبدا، كيف تتحول لوحة مرسومة على قماش، لحياة منشودة خالية من الهواجس، لكن الشيء الذي فعله، هو أن سمى أولى بناته: موناليزا، سمى الثانية، موناليزا، والثالثة موناليزا أيضا، ويسأله موظف تسجيل المواليد في كل مرة، يأتي فيها، للتسجيل: ألم تسمى هذا الاسم من قبل أخي الفاضل؟يقول: لافيكمل الموظف عملية التسجيل، من دون أن يلمح شقاوة الكذب في لسانه العريض المشقق، أو يقلب دفتره عامين وأربعة، إلى الوراء، ليجد موناليزا أولى وثانية، قبل هذه الأخيرة التي يقوم بتسجيلها.موناليزات جعفر، كبرن وعانين من ألقاب موجعة، لم يكن الغرض منها، توجيه إساءة، أو استخدام بذاءة من أحد في حقهن، بقدر ما كان الأمر لمجرد التفريق بينهن، ومعرفة أي الموناليزات يخاطبون. كانت أعمارهن متقاربة، وفي خد كل منهن شامة بنية، كانت في الحقيقة ولدت مع الأولى فقط، وسعت الثانية، والثالثة إلى رسمها على خديهن، لمجرد الغيرة والحسد، وقد سمعن أغنية شعبية، تتحدث عن خد عليه شامة، يترنح بسببه الرجال. لقبت واحدة بالحرباء، وأخرى بالبلهاء، بالرغم من أنها لم تظهر بلها قط، وأمسكت الأم بالثالثة، وبمعاونة نساء أخريات، ثقبت أنفها، وزرعت فيه حلقا كبيرا من القصدير، ليس بغرض الزينة، ولكن لتلقب بذات الأنف المثقوب، كان جعفر القديم، غير مهتم بكل هذا، ولم يحس بأي تعاسة أو بؤس، أو وخز من ضمير، وبناته اللطيفات، يتقلبن في الألم، كان كل ما يهمه، أن لا يتغير اسم موناليزا رسميا بأي حال من الأحوال. وقد حكت لي زوجتي ليز التي كانت البلهاء، كل ذلك، وحكت كيف أن قريبا للأسرة كان مسافرا في أوروبا وعاد، قد غير كل شيء، بتحضر شديد، وصوت هادئ، وشفافية فائقة، حين ردد: موناليزا الكبيرة: هي مونا. الوسطى هي: ليز، والصغرى ذات الأنف المثقوب: هي منى. انتهت المعضلة.
419
| 25 يوليو 2016
هبط الرسام عن حماره، وأطالعه بشغف، أحاول أن أنتزع ملمحا يخص ليز الجميلة، من وجهه. كان أنفه كبيرا بعض الشيء.. عيناه واسعتان وفيهما بقايا رمد، وجلده أملس، وليس ثمة شارب أو لحية على وجهه. وحين وقف بمحاذاتي، كان طويلا، أطول مني بسنتمترات عدة. كنا أمام بيته بالتحديد، ودخلنا على الفور، وكان البيت بالضبط، مطابقا لبيوت تلك الفترة، كلها، تقريبا.. ثمة حوش كبير ممتلئ بأسرة الخشب المنسوجة بالحبال، وفي العادة بلا ألحفة ولا وسائد. ثلاثة أزيار من الفخار، على قاعدة من الطين، مغطاة بأغطية من السعف، وأعلى غطاء إحداها، إناء من الفخار. ثمة مبنى طيني صغير في وسط الحوش، وزريبة ملحقة بالبيت، حيث الحمير، وربما بعض الضأن والماعز. لم يكن بيت رسام قط، والمذهل في الأمر، أن الفترة نفسها لم تكن فترة استنارة كبيرة، ليخرج فيها رسام أو شاعر، ولتأتي أسماء إفرنجية لفنانين، ولوحات، يمجدها البعض، ويلتقط منها جعفر القديم اسما لسلالته كلها.جلست على أحد تلك الأسرة، أتشمم اللحظة، باحثا عن رونق ليز. وكنت نسيت أن أحضر لوحة الأسنان الضاحكة، أو أسنان الملكة كما سميت، لكن لا يهم، وإن سار مخططي جيدا، فيمكنني إحضارها في أي وقت آخر. كان الرسام العجوز قد جلس قبالتي على سرير آخر، كان صامتا، ويبدو أنه ينتظر كلمة مني.. مؤكد كان يعرف بزيارتي، وربما كان على ظهر حماره منذ الصباح الباكر، يغربل حيي دومة من طرفه العامر، إلى وسطه الضاج، إلى طرفه الآخر المهجور، بحثا عن غريب، يسأل عن بيته..لكن أين ليز؟تلك الأيام، كان صوت المرأة من الخفوت بحيث لا يمكن أن يسمع في أي محفل. وجهها لا بد من إخفائه حتى لا يفتن الرجال، ولا أعني تغطية الوجه، وإنما الإخفاء المعنوي، أي أن تمر المرأة بأقل قدر من لفت النظر، ولولا أن جعفر حماد كان مثقفا وفنانا نشطا، برغم ضعف موهبته، لما كان بالإمكان رؤية ليز، أو أي واحدة من بناته. لكن هنا، في حي شعبي مثل دومة، سيكون الرسام صارما جدا، ولن تخرج ليز من ذلك الصرح الطيني المغروس في وسط الحوش.. أعرف ذلك. وقبل أن أبعد خواطري عن ذهني، وأعود لأواجه مضيفي بما جئت من أجله، امتلأ البيت برجال كثيرين، نبعوا فجأة ولا أعرف من أين. كانوا جيشا من الجلابيب والعمائم، غطوا أسرة الخشب المبعثرة كلها، وكانوا يمدون لي أعينهم، وأيديهم تباعا قبل أن يجلسوا.عثرت على بيت جعفر إذن.. قال أحدهمأخبرتني أمي أنك تبحث عن بيت جعفرقال آخر..أبي شاهدك تبحث عن بيت جعفرأختي قالتابن أخي لمحكجدتي،قال آخر، وثالث ورابع. وبدا أن دخولي الحي، وسؤالي بالرغم من أن أحدا لم يدلني، كان برنامج ذلك اليوم، ولو جلست أكثر، لربما ربطوني إلى جزع شجرة جاف من تلك الجذوع المتآكلة في الحي، وقسموني إلى لقم صغيرة، والتهموني.. لقد عشت في حي شعبي مشابه، ولا أزال أعيش فيه، وشاهدت الفضول لدرجة المرض عند سكانه، وكانت أمي نفسها، محشورة في أي شيء غير طبيعي يحدث، لكن مثل هذا الحشد لم يصادفني قط. وقفت، قلت لمضيفي هامسا: إنها موناليزا البلهاء، ليز، على بركة الله.قال هامسا وثمة آذان عدة، تمطت لتستمع ولم تلتقط شيئا: على بركة الله.
607
| 18 يوليو 2016
كان نضوج مصلح صفوان، وتغريده خارج السرب قد حدث أيام مرض الاستياء الشهير، الذي انتشر في البلدة ذات يوم مسببا أضرارا جسيمة كادت أن تقضي على بلدة متماسكة. حيث تحول الاستياء فجأة من مجرد توتر عاطفي محترم، يمكن أن يصيب عاطفة معينة لزمن محدود ويندحر، إلى مرض مهلك توطنت أعراضه ومضاعفاته في عواطف عدد كبير من أهل البلدة، فيهم رجال وقورون، ونساء يقبضن على بيوتهن وعوراتها بكثير من القوة وحتى أطفال لم تكتمل عواطفهم بعد. كان الآباء يستاءون من أبنائهم إلى درجة الضرب بالسياط، إذا طلبوا قرشًا لشراء حلوى، الأبناء يستاءون من آبائهم المسنين إذا طالبوهم بالمودة والرحمة، وربما يلقون بهم خارج البيوت، النساء يستأن من زينتهن حتى وهن عرائس في الليالي النضرة، ويقمن بإتلافها، الأفواه تستاء من الأكل والشرب، وآذان المراهقات الدلوعة، تستاء من ترنحات الغزل التي تطلقها ألسنة الشباب، وربما يقمن بإيذاء المتغزلين بدرجة خطرة. كان العمدة سليمان عمدة البلدة في ذلك الحين، هو أول من أصيب بذلك المرض كما قيل، التقط الجرثومة من راع للأغنام جاء من بلدة أخرى عارضا بهائمه، كان العمدة يفاوضه في شراء خروف يحتاجه لإقامة عشاء لبعض الوجهاء، اختلف المتفاوضان في نصف جنيه فقط، فذبح الراعي أغنامه كلها وذهب، وفي اليوم التالي ظهرت أعراض المرض على العمدة، استاء بشدة، طلق ثلاث زوجات كان قد دفع فيهن مهورا وقحة من قبل من دون سبب، سوى أنهن كن يتنافسن على إرضائه في طقس مألوف يتكرر يوميا، وكان يحبه غاية الحب.انتشر المرض بعد ذلك، وقد قيل إن زينب داية البلدة الموهوبة في ذلك الحين، والتي لم تتعثر الولادات على يديها قط، استاءت من يديها فجأة، أدخلتهما نارا فظة، حمراء، حتى احترقتا بالكامل، وتحولت إلى متسولة فقيرة بعد ذلك. أيضًا تنازل ناظر مشهور لإحدى القبائل عن نظارته وسطوته الكبيرة، لواحد من رعاياه، لأنه استاء من رائحة قرع كان يطبخ في بيته، وتنازلت فتاة عاشقة عن حبيبها لامرأة مسنة، لأنها استاءت من كلمة: أحبك، التي كانت تطرب لسماعها فيما مضى. وكانت أقسى مضاعفات للمرض تلك التي أصابت جبران، أحد تجار البلدة المعروفين في ذلك الحين، حين استاء من تجارته كلها فأفرغ دكانه وبدأ يوزع السلع على الناس في بيوتهم. وقد استغل "الحضارم"، الذين لم يصبهم المرض بسبب بعدهم عن الاحتكاك المباشر تلك الدربكة المرضية استغلالا فادحا، نسبوا جنون مصلح صفوان، وتغريده خارج السرب إلى مرض الاستياء المسيطر، لكنهم لم يستطيعوا مداواته بكل ما بذلوه من جهد. لبخوه بلبخات نبات القرض المستخدمة كدواء شائع في كل شيء، ولم يكونوا يؤمنون به كثيرًا، بخروه ببخور اسمه التيمان، كان يستخدم لطرد العين والحسد، دقوا له الزار عند أحمد حليمة، شيخ الزار الوحيد بالبلدة، دقوا الدفوف أيضًا، وسدوا أنفه بالقطن، والفلين، حتى لا يشم مواطن الخلل وينزح إليها. خطبوا له سوان الحضرمية، وزمزم التي كانت حبشية الأصل، لكنها تربت عند عائلة حضرمية، ولن تعتبر خطيئة كبرى، إن زوجت لحضرمي، تهوروا في بيت عائلة "بادان" القبلية العريقة طالبين منها القرب، بعد فتوى كاذبة من بعضهم، بأن عائلة بادان ذات جذور حضرمية، لم ترد أن تفصح عنها، ووصل بهم الأمر أن ذهبوا مرتعشين، إلى بيت "رزان قمر"، باحثة العادات العاصمية الجميلة، التي دخلت البلدة ذات يوم، لتكملة بحث جامعي، تكتبه عن ريالة أطفال إفريقيا، ناسين بأنهم حضارمة لا يهبون نطفة لغريب، وأن رزان قمر، باحثة عادات، غامرت بالمجيء إلى تلك الأصقاع البعيدة، لتبحث، لا لترتبط برجل بدائي، يغرد خارج سرب عائلته.
470
| 11 يوليو 2016
تعتبر رواية ليلة لشبونة، للكاتب الألماني أريش ماريا ريمارك، من الروايات الفذة التي رصدت الحياة في أوروبا أيام ظلامها في النصف الأول من القرن العشرين، هذه الرواية التي نشرت عام ١٩٦٢، مازالت في نظري طازجة، ونضرة، وتملك مؤهلات أن تقرأ الآن، ومستقبلا، فكاتبها ألماني، وعاش كابوس النازية، وفر في النهاية ليكتبها في وطن بديل بعيد. الرواية قائمة على الذكريات، وتحكى على لسان راو يحمل هوية مزورة، اقتناها من حطام رجل ميت صادفه ذات يوم، عاش وتنقل بها واعتقل، وفر، ويحكيها لعابر التقاه مصادفة في ميناء لشبونة في البرتغال، وكان يتطلع للسفر إلى أمريكا فرارا من وطأة الحرب وقسوتها، ساومه على منحه تذكرة ليعبر بها المحيط بشرط أن يستمع إلى قصته، وبالتالي يستمع القارئ للرواية، لهذه القصة المؤثرة، ويتفاعل معها أشد التفاعل.كانت ألمانيا - هتلر، قد تورمت، وغزت أوروبا بأكملها وأصبح الوجود كارثة لكل من له أفكار مناوئة، وأيضا الأبرياء الذين ليس لهم ذنب سوى أنهم وجدوا في زمن الجنون والحسرة، ننتقل مع الراوي المتخم بالذكريات من مغامرة إلى مغامرة، من سجن إلى حرية إلى سجن، والمطاردون دائما ما يملكون حصصا من التجارب لا يملكها غيرهم، يملكون الحيل، ومضادات الحيل، ويمكن أن يجوعوا ويعطشوا ويقتربوا من الموت، ولكن تظل الحيل موجودة ومتنامية، وهكذا في تلك السراديب التي تحمل السم، والشوارع التي تحمل رائحة الخطر، يتماسك هذا النص بقوة، ويوثق لتلك الفترة المظلمة من تاريخ أوروبا، بطريقة أكثر سهولة في الهضم، كما لو وثقها التاريخ الحقيقي.الذكريات لا تحمل هواء الحرب وحده، وهواء التشرد وحده، ولكن تحمل هواء الحب أيضا، حب البطل لزوجته هيلين، التي وشى به أخوها ليعذب في البداية، قبل أن يفر. هيلين الرقيقة، الطيف، المرأة التي لم يحل النص شفراتها بالكامل، وإنما ترك لنا مهمة حل بعض الشفرات، وهكذا ننغمس في القراءة، ونشارك الكاتب أيضا، كتابة ما كان غير موجود، أو إضاءة ما كان معتما من النص، وهذا في رأيي ترف إبداعي كبير، ولا يقدر على ضخه إلا القليلين.على أن رواية ليلة لشبونة، ورغم أنها تدور في زمن الحرب، لا توضح ذلك، هي تحوم حول الحرب وتداعياتها وانشغال الناس بها في كل الأقطار الأوروبية، لكنها لا ترسم معركة، ولا تورد ضحايا سقطوا في وسطها، ورغم ذلك أعتبرها من روايات أدب الحرب الهامة. الحرب الطيف التي تتجسد في كل ما يحيط بذلك العالم، لكنها لا تنشب في النص إلا في هيئة إشارات.في البداية، حين يعمد الراوي إلى اصطياد ذلك المهاجر البائس، ومقايضته بتذكرة إلى أمريكا، مقابل أن يستمع إلى قصته، نتساءل: ما الهدف من ذلك،، ولماذا هذا الليل قد انفتح لغريبين أحدهما يحكي والآخر يجتهد في السماع، وينتقل مع الراوي من حانة توشك أن تغلق أبوابها، إلى أخرى ستغلق أبوابها أيضا عما قريب؟لنكتشف في النهاية، إن الراوي أراد أن يتحرر من الذكريات التي يحملها في عقله، أراد أن ينتهي مما كان يعتبره أقسى ما صادفه خلال أيامه التي عاشها"الذكريات".
700
| 04 يوليو 2016
حين نقلنا نيشان من حي: دار السلام، لم يكن في حالة تسمح بإسكانه بيتا في هذه الليلة، وعرضه على متخصص في الصباح، ونحن في العربة كان متورما، وبذيء اللسان، يقاوم قيد الحبال القوي لينفلت، ونجح إلى حد ما، في إخافة "أفرنجي" وزحزحة قناعاته، في إمكانية حراسته والاعتناء به بأجر. شاهدت قاهر الجن كما يقول، وصديق الجنية دلدونة، يتلفت فزعا، ويحك ذقنه بأظفار متسخة، سمعته يخبرني بضرورة الإسراع، وفي تمتمة خاصة، وبصوت شبه مسموع، كان يثني على تلك الخرقة الممزقة، التي يتوسدها في سوق عائشة كل ليلة. أفرنجي لن يقبل بالمهمة كما بدا لي، ولن أضغط عليه حتى لا يفر من صحبتي وكنت أحتاج إليه في خدمات كثيرة، ما طرأ على بالي في تلك اللحظة، هو أن أمنحه البيت المؤجر، وأخبره صراحة بأنه سيكون لنيشان حالما يشفى من مرضه. حين استأجرت خدمات أفرنجي، في البداية، لم أخبره بقصة التخاطر التي قادتني للاهتمام بنيشان، لأنني أعرف تماما بأنه لن يستوعب غموضا كهذا، هو يعرفني مدرسا قديما، في مدرسة كان يعمل فيها ساعيا، يعرفني كاتبا متفرغا في الوقت الحالي، ولم تسمح له ثقافته المحدودة، ومعرفته الضالة باللغة التي أكتب بها، أن يقرأني ولا أظنه سيقرأني حتى لو امتلك الثقافة واللغة كاملة. قلت له في حينها بأنني أقوم بواجب إنساني لشخص أعرف أهله، ولم يطرح سوى الأسئلة الخاصة بمرض الرجل وشخصيته.لقد وصلنا بنيشان، أو "ن ح ن" كما سميته في ذهني، لأن اسمه الطويل العريض، ابتدأ يرهقني حين أنطقه أو أفكر فيه إلى المستشفى، كان لا يزال مورما بالأعراض، ما زال يقاوم حبل أفرنجي القوي، يسأل عن عسكري متمرد في جيشه النظامي، يستحق القتل، وذبابة صعلوكة لا تتركه ينام، ولفت أكثر من مائة نظر متجول، ونحن نعبر به الشوارع أو نتوقف في شارات المرور الحمراء، كلمت الدكتور شوقي هاتفيا بمأساته ومأساتي ونحن نعبر بالطرق، وكان شهما في فهم المأساة عند حد الفصام العقلي، ولم يرد أن يخوض معي نقاشا في مسألة التخاطر، إما لأنها خرافة في رأيه، أو لأنه لا يستوعبها، وربما يسعى لاستيعابها مستقبلا. نيشان قوبل بالترحاب القوي، عند باب المستشفى، حملوه على محفة نظيفة، إلى غرفة منعزلة، لا يسمح نظامها الأمني الصعب، بمرور ذبابة تافهة، من دون أن تحمل إذنا بالمرور. شاهدته ملقى على سرير أبيض، وثمة محاليل معلقة على ساعديه، أو تركت على طاولة بجانبه، في انتظار أن تعلق. شاهدته هادئا ونائما، وما عاد ثمة مخاط يسيل من أنفه، ولا ريالة مهووسة، تتلاقح في فمه، ولو كان ثمة حلم يداعبه الآن، فلا بد أن يكون حلما ورديا يخص رنيم، المعشوقة المهاجرة، أو محكمة ضاجة بالمحكومين والشهود، يدير جلساتها بوصفه قاضيا.
350
| 27 يونيو 2016
مساحة إعلانية
لم يكن خروج العنابي من بطولة كأس العرب...
2328
| 10 ديسمبر 2025
في عالمٍ يزداد انقسامًا، وفي إقليم عربي مثقل...
807
| 10 ديسمبر 2025
هناك ظاهرة متنامية في بعض بيئات العمل تجعل...
702
| 11 ديسمبر 2025
تمتاز المراحل الإنسانية الضبابية والغامضة، سواء على مستوى...
630
| 12 ديسمبر 2025
السعادة، تلك اللمسة الغامضة التي يراها الكثيرون بعيدة...
600
| 14 ديسمبر 2025
يوماً بعد يوم تكبر قطر في عيون ناظريها...
594
| 15 ديسمبر 2025
نحن كمجتمع قطري متفقون اليوم على أن هناك...
555
| 11 ديسمبر 2025
في عالمٍ تتسارع فيه الأرقام وتتناثر فيه الفرص...
552
| 14 ديسمبر 2025
• في حياة كل إنسان مساحة خاصة في...
531
| 11 ديسمبر 2025
يوم الوطن ذكرى تجدد كل عام .. معها...
516
| 10 ديسمبر 2025
مع دخول شهر ديسمبر، تبدأ الدوحة وكل مدن...
504
| 10 ديسمبر 2025
-إعمار غزة بين التصريح الصريح والموقف الصحيح -...
414
| 14 ديسمبر 2025
مساحة إعلانية