رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

Al-sharq

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

الشرق

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

حسن الظن بالله

يجب على كل امرئٍ مسلم، وَكِلَ أمره إلى الله تعالى، وجعل الله وكيلاً عليه، (وكفى بالله وكيلاً) كما قال سبحانه، وكما أمر بذلك فقال عز وجل:( ألا تتخذوا من دوني وكيلاً)، وكانت نتيجة تلك الوِكالة أو ذلك التُّكلان، أن يقول بقلبه قبل لسانه: (حسبنا الله ونعم الوكيل)، وهذا هو قول الأنبياء والصالحين،(قالها إبراهيم عليه الصلاة السلام، حين ألقي في النار، وقالها محمد صلى الله عليه وسلام، عندما قال له الناس: إنّ الناسَ قد جمعوا لكم) كما جاء في الحديث.وجب عليه بعد ذلك كله، أن يُحسن الظن بالله، وأن يكون على ثقة تامة بفضله ورحمته ونصره، في كل أموره، وجميع شؤونه، المتعلقة في الدنيا وكذلك في الآخرة. يا ويحنا، أفلا نقرأ قول المولى تبارك وتعالى:( أليس الله بكافٍ عبده)، بلى وربِّ العباد، قال الشاعر:أحْسِن الظنّ بمن قد عَوَّدَك كلَّ إحسانٍ وسوَّى أَوَدَكْإنّ رباً كان يكفيك الذي كان بالأمسِ سيكفيكَ غَدَكواقرأ وتأمل جيداً قول الله تعالى في الحديث القدسي، الذي جاء في صحيح البخاري:(أنا عند ظنِّ عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه، ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأٍ، ذكرته في ملأٍ خيرٍ منهم، وإن تقرَّب إليّ شبراً، تقربت إليه ذراعاً، وإن تقرَّب إليّ ذراعاً، تقربت إليه باعاً، وإن أتاني يمشي، أتيته هرولةً).ومعنى قوله جل وعلا:( أنا عند ظن عبدي بي)، أي إذا ظن العبد بالله الخير- الظن هنا بمعنى اليقين والعلم- وأن الله سيرحمه وسيرزقه وسيغفر له، وأنه تعالى يقبل أعماله الصالحة، ويثيبه عليها، ويقبل أيضاً توبته، ويجيب دعوته، فإن ذلك كله له من الله؛ بسبب حسن ظنه هذا، وإن ظن أن الله لا يفعل به ذلك، فسيكون له ظنه هذا. تتجلّى في هذا الحديث قيمة إحسان الظن بالله، وأنها في غاية الأهمية والخطورة، قال عليه الصلاة والسلام:( لا يموتنّ أحدكم، إلا وهو يحسن الظن بالله)، ويستفاد منه تغليب جانب الرجاء على جانب الخوف، وهذا بالتأكيد يكون مع ذكر الله، والتقرب إليه بفعل الطاعات؛ لذلك ورد ذكرهما في بقية الحديث، إشارة إلى ضرورة اقترانهما مع حسن الظن بالله، إذ بدونهما يستحيل حسن الظن، إلى عجز وجهل، وغرورٍ محض.وقوله تعالى:(وأنا معه إذا ذكرني)، أي معه في هدايتي ورعايتي، وتوفيقي ورحمتي، فهي معية خاصة، غير المعية العامة، التي تعني العلم والإحاطة، كما قي قوله جل وعلا:( وهو معكم أين ما كنتم)، ويستفاد من قوله تعالى:(وأنا معه إذا ذكرني)، وما ذكر بعده في الحديث، من تقرب الله إلى من يتقرب إليه شبراً بذراع، وذراعاً بباع- الباع هو طول ذراعيّ الإنسان وعضديه وعرض صدره- بيان سعة كرم الله، وفضله العظيم، ويستفاد منه أيضاً بيان فضل ذكر الله، ومنزلة العابدين عند ربهم، وقربهم منه تعالى.وفي قوله عز وجل:(وإن أتاني يمشي، أتيته هرولة)، مجاز بالاستعارة، معناه أن من تقرب إلى الله بعمل قليل أو على إبطاء، وهو ما استعير له لفظة (يمشي)، جازاه الله بثوابٍ كثير وعلى وجه السرعة، واستعير لهذا ( الهرولة).وأضيف إلى هذا الحديث القدسي الشريف، حديثاً قدسياً آخر، تظهر فيه رحمة الله وعفوه، بأجلى مظاهرها، لا يدع للمرء العاقل مفراً ولا وَزَراً إلا إلى الله، ولا مجالاً ولا حالاً إلا إحسان الظن به تعالى، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:( قال الله: يا بن آدم، إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا بن آدم، لو بلغت ذنوبك عَنانَ السماء ثم استغفرتني، غفرت لك ولا أبالي، يا بن آدم، إنك لو أتيتني بقُراب الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تُشرك بي شيئاً، لأتيتك بقرابها مغفرة).فهل يجوز لأحدٍ بعد قراءة هذين الحديثين القدسيين، أن تسوّل له نفسه والشيطان، غير حسن الظن بالله والثقة بما عنده؟!.أذكر من أمثلة حسن الظن بالله، ما جاء عن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، وهو قوله:(أنا لا أحمل همّ الإجابة، ولكن أحمل همّ الدعاء، فمن ألهم الدعاء، فإن الإجابة معه).وقول بعض السلف:(إنّ أحسن ما أكون ظناً، حين يقول الخادم: ليس في البيت قفيزٌ- مكيال- من قمحٍ ولا درهمٌ).قال الشاعر:وكن واثقاً بالله في كل حادثٍ يصُنْكَ مدى الأيام من شر حاشدِوبالله اعتصم، ولا ترجُ غيرهُ ولا تكُ في النعماءِ عنه بجاحدِوأنشدوا مع الشاعر الذي قال، وهو محمد بن وهيب، شاعرٌ عباسيّ، ولله ما أجملَ قوله وأبدعه!وإنّي لأرجو اللهَ حتى كأنني أرى بجميل الظنِ ما اللهُ صانعُ

4183

| 12 يوليو 2014

أمثلةٌ مشرقةٌ على التواضع (3)

أذكر شيئاً من تواضع علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وما روي من أنه اشترى لحماً أو تمراً، فحمله في مِلحفته، فقال له رجل: أحمل عنك يا أمير المؤمنين. قال: لا، أبو العيال أحق أن يَحْمل. وروي مثل هذا عن أبي هريرة رضي الله عنه، من أنه أقبل من السوق يحمل حزمة حطبٍ، وهو يومئذٍ خليفة بالمدينة لمروان، ويقول: أوسعوا للأمير ليمرَّ والحزمة عليه.ألا يوجد من الرجال، من يأنف أو يستحي، أن يمسكَ بيده شيئاً من متاع السوق؟! لا شك أن هذا حياء وأنفة ليسا في موضعهما الصحيح، يدلان على ما هو مستقرٌّ في النفس من بذرة الكبر، يخشى منها، أن تنموَ شيئاً فشيئاً، ما لم تستأصل.علي بن أبي طالب رضي الله عنه، الذي له درسٌ أصيل في المساواة، وعدم التفريق بين أحدٍ من خلق الله، لاعتباراتٍ مثل الجنس والهوية وغيرها، التي لا يقيم لها الإسلام وزناً، إذ أتته امرأتان، عربية ومولاة لها، فأمر لكل واحدة منهما بمكيالٍ من طعام، وأربعين درهما، فأخذت المولاة الذي أعطيت وذهبت، وقالت العربية: يا أمير المؤمنين، تعطيني مثل الذي أعطيت هذه، وأنا عربية وهي مولاة، قال لها رضي الله عنه:(إني نظرت في كتاب الله عز وجل، فلم أرَ فيه فضلاً لولد إسماعيل على ولد إسحاق).وهذا سلمان الفارسي رضي الله عنه، دخل عليه رجلٌ وهو يعجن فقال مستغرباً مندهشاً: ما هذا؟ فقال سلمان: (بعثنا الخادم في عمل فكرهنا أن نجمع عليه عملين)، لله درك يا سلمان من رجل متواضع رفيق سَمْح، وهل ثم دليل على هذا أكبر مما روي من أنه رضي الله عنه كان أميراً على المدائن، فجاء رجل من أهل الشام، ومعه متاع كثير، فقال لسلمان- وهو لا يعرفه- وكان عليه لبسٌ لا يدل على شيءٍ من الغنى والتنعم، فضلاً عن الإمارة: تعالَ احملْ. فحمل سلمان، فرآه الناس فعرفوه وقالوا: هذا الأمير، قال الرجل وقد بُهِت: لم أعرفك. فقال له سلمان لا، حتى أبلغ منزلك. أذكر هنا قولاً بليغاً لعبد الله المبارك عن التواضع، وهو قوله:(رأس التواضع أن تضع نفسك عند من دونك في نعمة الدنيا، حتى تُعلِمَه أنه ليس لك عليه بدنياك فضلٌ، وأن ترفع نفسك عمن هو فوقك في الدنيا، حتى تُعلمَه أنْ ليس له بدنياه عليك فضل).أختم الأمثلة بالمسك يتضوع من سيرة الخليفة عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، ذي المآثر والمحامد المؤثّلة، الذي لما وُلّي الخلافة قُدمت إليه مراكب الخلافة فقال: مالي ولها، نحّوها عني وقدموا إليّ دابتي. فقُربت إليه، فجاء صاحب الشرطة يسير بين يديه بالحربة، فقال: تنحّ عني، مالي ولك، إنما أنا رجلٌ من المسلمين. ثم أمر بالستور فرفعت، والثياب التي كانت تبسط للخلفاء فأمر ببيعها وإدخال ثمنها بيت المال.هؤلاء الرجال الذين كل واحدٍ منهم يصح ويصدق فيه قول أبي تمام:فتىً كان عَذْبَ الروحِ لا من غضاضةٍ ولكنَّ كبراً أنْ يقالَ به كِبرُويُتبين فيهم صواب قول الشاعر: مَلأى السنابلِ تنحني بتواضعٍ والفارغاتُ رؤوسهنّ شوامخُ

4062

| 11 يوليو 2014

أمثلةٌ مشرقةٌ على التواضع (2)

عمر بن الخطاب الذي له خير مثلٍ في كسر شِرَّة النفس، حين تشمخ بأنفها، ويركبها العُجب والغرور، عندما قال على رأس المنبر، بعد أن حمد الله وأثنى عليه، وصلى على نبيه: لقد رأيتُني أرعى على خالات لي من بني مخزوم، فيقبضْنَ لي القبضة من التمر والزبيب، فأظل يومي، وأيٌّ يوم، ثم نزل فقال عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: يا أمير المؤمنين ما زدت على أن قَمِئت نفسك- أيْ عبتها- فقال: ويحك يا بن عوف، إني خلوت فحدثتني نفسي فقالت: أنت أمير المؤمنين فمن ذا أفضل منك! فأردت أن أعرّفها نفسها.أجل هذا هو عمر الذي حدث عن نفسه فقال:(يا بن الخطاب كنت وضيعاً فرفعك الله، وكنت ضالاً فهداك الله، وكنت ذليلاً فأعزك الله، ما تقول لربك غداً إذا أتيته؟).ضرب عمر بن الخطاب رضي الله عنه، خير مثلٍ في إقامة العدل وردع المتكبر، ورده إلى جادة الصواب، وتلقين معنى التواضع السامي للناس أجمعين، حينما جاءه رجلٌ من أهل مصر، يشكو ما أصابه من ظلم ولد عمرو بن العاص، وكان عمروُ والياً على مصر، قائلاً: سابقت ابن عمرو بن العاص فسبقته، فجعل يضربني بالسوط ويقول: أنا ابن الأكرمين- ما حمله على هذا القول، إلا التكبر والغرور- فكتب عمر إلى عمرو يأمره بالقدوم مع ابنه، فلما قدما قال عمر: أين المصري؟ خذ السوط فاضرب، فجعل يضربه بالسوط، ويقول عمر: اضرب ابن الألْأمين- هذه الكلمة بتلك- ثم قال عمر للمصري: ضَعْ على صلعة عمرو فو الله ما ضربك ابنه إلا بفضل سلطانه. فقال: يا أمير المؤمنين، إنما ابنه الذي ضربني وقد استَقدْت منه. فقال عمر: أما والله لو ضربته ما حلنا بينك وبينه حتى تكون أنت الذي تدعه، ثم التفت إلى عمرو مغضباً، وقال قولته الشهيرة، التي خطها التاريخ بمداد الخلود، ورددتها الأمم والأجيال، كخير ما قيل من الأمثال، في حرية وكرامة بني الإنسان:(متى استعبدتم الناسَ، وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟!).نأتي على ذكر شيءٍ من تواضع ثالث الخلفاء الراشدين، عثمانَ بن عفان رضي الله عنه، نواصل به سرد بعض النماذج من تواضع أولئك العظماء حسب ترتيبهم التاريخي.عثمان الذي رُئيَ على المنبر، في يوم الجمعة وعليه إزار غليظ ثمنه أربعة أو خمسة دراهم. وعن الحسن أنه قال: رأيت عثمان بن عفان يقيل- ينام القيلولة- في المسجد وهو يومئذ خليفة، ويقوم وأثر الحصى بجنبه، فيقال: هذا أمير المؤمنين، هذا أمير المؤمنين.وكان رضي الله عنه، يلي وضوء الليل بنفسه، فقيل له: لو أمرت بعض الخدم فكفوك. قال:(لا، الليل لهم يستريحون فيه)، انظروا إلى تواضع عثمان ورحمته، التي قلما توجد عند الناس في زمننا هذا، ولا سيما في تعاملهم مع خدمهم، ذكَرني ذلك بموقفٍ لعمرَ بن عبد العزيز رضي الله عنه، وكان عنده ضيف بالليل، وكاد السراج يُطفأ، فقال الضيف: أقوم إلى المصباح فأصلحه. قال عمر: ليس من كرم الرجل أن يستخدم ضيفه. فقال الضيف: إذن أنبّه الغلام، قال عمر: إنها أول نومة نامها فلا تنبّهه، وذهب بنفسه وملأ المصباح زيتاً. فقال له الضيف: قمت أنت بنفسك يا أمير المؤمنين! فأجابه قائلاً:(ذهبت وأنا عمر، ورجعت وأنا عمر، ما نقص مني شيءٌ، وخير الناس من كان عند الله متواضعاً).

5425

| 10 يوليو 2014

أمثلةٌ مشرقةٌ على التواضع (1)

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، مثالاً يُحتذى، وأسوة حسنة تُقتدى، في الأخلاق الجليلة، والفضائل النبيلة، بل هو إمام كل خلق كريم، وعَلم كل شيمة حسنة، قال شوقي في همزيته النبوية:يا من له الأخلاقُ ما تهوى العلا منها وما يَتَعشّقُ الكُبَراءُلو لم تُقِم ديناً، لقامت وحدها ديناً تُضيءُ بنوره الآناءُزانتك في الخُلُق العظيمِ شمائلٌ يُغْرى بهنّ ويولعُ الكرماءأتاه رجلٌ، فلما وقف بين يده انتابته رِعْدة، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام:(هوِّن عليك، فإني لست بملك، إنما أنا ابن امرأةٍ من قريش، كانت تأكل القديد)، القديد: اللحم المجففسئلت عائشة رضي الله عنها، هل كان رسول الله يعمل في بيته؟ قالت:(نعم، كان يَخْصِف نعله، ويخيط ثوبه، كما يعمل أحدكم في بيته)، أقول أين رجال اليوم من فعله عليه الصلاة والسلام، في إعانة أهله في البيت، وخدمة نفسه ما دام قادراً مستطيعاً، الذين حال الكثير منهم، يشبه حال الملوك والسلاطين الجالسين على عروشهم، وتحت تيجانهم، أوامر ورغبات.كما كان عليه الصلاة والسلام، يأكل على الأرض، ويعقل الشاة، ويجيب دعوة المملوك على خبز شعير، وعن أنسٍ رضي الله عنه، أنه مر على صبيان فسلم عليهم وقال: كان النبي يفعله. وعنه أيضاً أنه قال: إنْ كان رسول الله ليخالطنا- أي يخالط الصغار- حتى كان يقول لأخٍ لي:(يا أبا عمير، ما فعل النُّغيْر؟) النغير طائر صغير. وعنه أيضاَ أنه قال: كانت الأَمَة من أهل المدينة لتأخذ بيد رسول الله؛ فتنطلق به في حاجتها.كان يقول لأصحابه:(لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا عبد الله ورسوله)، وقال رداً على رجل قال له: يا سيدنا وابن سيدنا، ويا خيرنا وابن خيرنا:(يا أيها الناس قولوا بقولكم- أي بلا تكلف ومغالاة- ولا يستهوينَّكم الشيطان، أنا محمد بن عبد الله ورسول الله، واللهِ ما أُحِبُ أن ترفعوني فوق ما رفعني الله عز وجل).هذا وهو من هو عليه الصلاة والسلام، القائل عن نفسه صدقاً وحقاً:(أنا سيد ولد آدم ولا فخر، آدم ومن دونه تحت لوائي يوم القيامة ولا فخر)، عسى الموعظة والعبرة في هذا تبلغ كل من يحب أن يكال له المديح جُزافاً، ويطرب لسماع الإطراء ولو كان باطلا زِيافاً، أو كان هو لا يستحقه، ويستريح لمظاهر الإعظام والإكبار، وربما غضب إن لم تؤدَّ له، أو سعى وراءها، من أجل نيلها.تعلم الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، خلق التواضع من رسول الله عليه الصلاة والسلام، فكان دَأبهم محاسبة النفس وتفقدها، وزجرها عن الكبر، ومحاربة هذا الخلق الذميم فيها، ومنعها عنه، فهذا خليفة رسول الله أبو بكر الصديق، كان يحلب الغنم للنسوة العاجزات، وللفتيات القاصرات، كل صباح، فلمّا وُلّي الخلافة قالت بنات الحيْ: الآن لا يحلب لنا أبو بكر أغنامنا.فبلغ ذلك أبا بكر فقال:(بلى والله لأحلبنّ لكنّ كما كنت أصنع من قبل، وأرجو ألا يغيرني الله عن خلقٍ كنت أعتاده قبل الخلافة)، نعم وربِ البيت، فرجلٌ مثل أبي بكر الصديق، أكبر من أن يغيره الملك والسلطان، ويسلبه المنصب شيئاً من أخلاقه وآدابه الحميدة، وخصاله وعوائده الرشيدة. وكان مما حدث وفيه طرافة ولطافة، أنه رضي الله عنه، قرع باب إحدى دور أولئك النسوة الأرامل، ففتحت الباب فتاة صغيرة، ما إن رأته حتى صاحت قائلةً: إنه حالب الشاة يا أماه. فأقبلت الأم وعرفت أنه خليفة رسول الله أبو بكر الصديق، فقالت والحياء والخجل يغمرها: ويحكِ، ألا تقولين خليفة رسول الله. فقال أبو بكر الصديق بانشراح صدرٍ، وطيب خاطر، وتهلل وجه:(دعيها فإنه أحب ألقابي إليّ، لأنه يقربني من الله).وما هذا ببعيد عن أمير المؤمنين عمرَ بن الخطاب رضي الله عنه، روي عن طلحة بن عبيد الله، أنه قال: رأيت عمر يدخل بيتاً، فدخلت ذلك البيت، فإذا عجوز عمياء مقعدة، فقلت: ما بال هذا الرجل يأتي هنا؟ فقالت: يتعاهدني بالشيء من الطعام، ويكنس البيت، ويخرج منه الأذى. واتفق لعمر أنه كان إذا جاء تلك العجوز، وجد غيره قد سبقه إليها فأصلح ما أرادت، فرصده عمر، فإذا هو أبو بكر الذي يأتيها، وهو يومئذ خليفة، فقال عمر: أنت هو لعمري. رضي الله عنهما .

4253

| 09 يوليو 2014

الكبر جاهلية 3

ليت شعري علام تتكبر أيها المتكبر؟ وليت شعري كيف تجهل قدر نفسك؟! وتغفل عن ضِعة شأنك! أغرّك ما عندك من نعم المال والجاه والعافية والقوة...إلخ، فدخل العُجْب نفسك، وأوهمك أنك خيرٌ من غيرك، تالله ما هذا إلا ظن إبليس، وقوله بلسانه:(أنا خيرٌ منه)، فلحقه الوَصْم، وكان جزاؤه أن يكون رجيماً لعينا، أفتُشبهه وتدخل معه في قول الرب جل وعلا:(إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين).أم تظن أنك بعلو منزلتك، ووفرة غناك، قد فضلك الله على من سواك، ممن هو وضيع المنزلة، أسير الفقر، ضعيف الحال، وربما دفعك الغرور إلى مثل قول قارون: (قال إنما أُوتيته على علمٍ عندي)، الذي استحوذ عليه العُجْب والكبرياء، لكثرة كنوزه وأمواله، فبغى واستكبر على قومه، وازداد تيهاً وخيلاءً وفخرا، وأفسد في الأرض ما شاء أن يفسد، ولم يُحسن كما أحسن الله إليه، فكان مصيره ومصير كل معجب بنفسه، وبما عنده مما آتاه الله، وجزاؤه إما في الدنيا أو في الآخرة، ما قاله تعالى: (فخسفنا به وبداره الأرض).رويدك يا هذا، واستمع لقول الشاعر محمود سامي البارودي، رحمه الله:كيف يُدركُ ما في الغيبِ من حَدَثٍ من لم يزل بغرور العيشِ ينخدعُدهرٌ يَغُرُّ وآمالٌ تَسرُ وأعمـ ارٌ تَمرّ وأيام لها خِدَعُيا أيها السادِرُ المُزورُّ من صَلَفٍ مهلاً فإنك بالأيام منخدعُدعْ ما يَريبُ وخذ فيما خلقت له لعلَّ قلبك بالإيمان ينتفعُإنّ الحياة لثوبٌ سوف تَخْلعُه وكل ثوبٍ إذا ما رثّ ينخلعُألا إن الأمر كله بيد الله العزيز الحكيم، والبصير العليم، يعطي من يشاء فيبسط له ويُوسّع، ويقْدِرُ لمن يشاء ويضيّق، اختباراً وابتلاءً، لا تفضيلاً وإكراماً، أو استقلالاً وإهانة، وصدق الشاعر:وليس الغنى والفقر من حيلة الفتى ولكن أحاظٍ قسمت وجدودُوكائن رأينا من غنيٍ مذمّمٍ وصعلوك قومٍ مات وهو حميدُكائن وكأيّن: أي كم، التي تفيد الكثرة.ثَم سبب آخر يكون داعياً لنشأة الكِبر في نفس المتكبر، وهو سبب يعد بحد ذاته مثلبة، إلى جانب مثلبة الكبر، ليس بأدنى ضررٍ منه كثيراً، غير أنه عيبٌ نفسيّ لا خُلقي، ألا وهو الشعور بعقدة النقص، وهي شيءٌ نقيض نزعة التفوق، التي تقدمت آنفاً، وأصلها ضعفٌ وعجز ويأس، تُوهم الإنسان الناقص، أو من يشعر بالنقص، وهو ليس ناقصاً إلا عند الناس في نظرتهم إليه، أن في الكبر علاجا وسترا لمظنة ما فيه من نقص، وهيهات له هذا، وما أصدق مقالة ابن المعتز في ذلك:(لمّا عرف أهل النقص حالهم عند ذوي الكمال، استعانوا بالكبر، ليعظم صغيراً، ويرفع حقيراً، وليس بفاعل).ليست عقدة النقص أو غيرها ما يعيب المتكبر، ويغض منه وحدها، ولكن هناك شيئاٌ آخر له دليل إثبات على المتكبر من المتكبر نفسه، وهو تلبّس نفس المتكبر اللؤم والدناءة والخسة، عند من هو أعلى منه منزلة وقدراً، وذلك لأنه لا يكون متعالياً ومفاخراً إلا على من هو دونه، أفتراه يكون كذلك مع من هو فوقه؟ أم إنه يكون مستخذِيا منكمشاً مطأطئاً رأسه، كأنما قد سكنت نفسَه روحُ كلبٍ جاثٍ عند قدمي صاحبه، أرأيتم ألأم وأسوأ فعلاً وصورةً من هذا، قال بعض الحكماء:(ما رأيت أحداً تكبر على من دونه، إلا ابتلاه الله بالذلة لمن فوقه). نصائح في سطور، للمتكبر المغرور:ألا أيّهذا المتكبر، ويحك، خفّف خطوتك، وخفِّض هامتك، فما أنت إلا جيفةٌ قذرة منتنةٌ باعتبار ما سيكون، ستطؤها الأقدام بأحذيتها، (فما أظن أديم الأرض إلا من هذه الأجساد).واعلم أنك ضعيف صغير، مهما خيّلت لك نفسك والشيطان غير ذلك، فإن ظهرت بخلاف حقيقة ذاتك، كيف بعيشك تطيق رؤيتك العيون، وتحتمل منظرك؟ لا شك أنه يشقُّ عليها أكثر من رؤية الضُر، كما قال المتنبي:وإني رأيت الضُرّ أحسنَ منظراً وأهونَ من مرأى صغيرٍ به كِبرُواحذر عقاب يوم الدين، جزاءً وفاقاً على تكبرك، الذي جاء في الحديث:(يحشر الجبارون والمتكبرون يوم القيامة في صورة الذر، يطؤهم الناس لهوانهم على الله عز وجل).واستمع يرحمك الله بوعيٍ وانتباه، إلى الحديث الشريف:(من تواضع لله درجة، رفعه الله درجة، حتى يجعله في عليين، ومن تكبر درجة، وضعه الله درجة، حتى يجعله في أسفل سافلين)، والأمر بعدُ كما قال الحكيم:ليس التطاولُ رافعاً من جاهلٍ وكذا التواضعُ لا يضُرُّ بعاقلِواستحضر دائماً وأبداً، بل ليكن منقوشاً على قلبك، أنْ (لا فَضْلَ لعربيٍ على عجمي، ولا لعجميٍ على عربي، ولا لأسود على أبيض، إلا بالتقوى، إن أكرمكم عند الله أتقاكم، الناس من آدم وآدم من تراب).أختم مقالتي بحكمة الشافعي، الذي قال:(أرفع الناس قدراً، من لا يرى قدره، وأكبر الناس فضلاً، من لا يرى فضله).

1691

| 08 يوليو 2014

الكبر جاهليةٌ 2

جاءت الأوامر الإلهية في القرآن الكريم، وكذلك في الأحاديث النبوية، ناهيةً عن الكبر، مرهّبةً منه، متوعدةً عليه، وآمرةً بالتواضع، مرغبة فيه، حاثّة عليه، فقال عز مِن قائل:(ولا تصعّر خدك للناس ولا تمشِ في الأرض مرحاً إن الله لا يحب كل مختالٍ فخورٍ)، ومهما أساء الإنسان تقدير حجم شأنه ومبلغ قدرته، فاختال لذلك، فإن الظن به ألا يجهل حقيقة قول الله تعالى، تصغيرا له، واستهانة به:(إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا)، ولا تظننّ أن المقصود في الآية الأولى المشي وحده وحسب، فهذا مظهرٌ يسيرٌ يُشير إلى هيئة المتكبر، التي يكون عليها من جر ذيل الخيلاء، ومد العنق للسماء، خلاف ما يكون عليه عباد الرحمن، الذين يمشون على الأرض هوناً، أي بسكينةً ووقار، لا بعنجهيّة وافتخار، ولكنّ المراد بالمشي بعدُ، ما يصاحبه وما يأتي وراءه، من الزراية بخلق الله، والتيه والعُجْب والتطاول والمباهاة، بالأقوال والأفعال، والمعاملات والنظرات، التي تمثل جميعها الخلق الشائن للمتكبر، وكل ذلك يدل عليه، ويفضي إليه كما ترى، المشي مرحاً وبطرا وفخرا. صدق الشافعي حينما عبر عن هذا المعنى فقال:ولا تمشِ في منكب الأرض فاخراً فعمّا قليلٌ يحتويك ترابهاأحسن والله في قوله:(فعما قليلٌ)، القليل من الزمن المتبقي من حساب العمر، الذي لا يدري أحدٌ متى ينقضي، فيحين بانقضائه الأجل، ولم يعبّر رحمه الله بالاستقبال، كأن يقول: فإنك سوف يحتويك ترابها.ومما جاء في الأحاديث من الأمر والندب إلى التواضع، قول المصطفى عليه الصلاة والسلام:(إن الله أوحى إليّ أنْ تواضعوا حتى لا يفخر أحدٌ على أحد، ولا يبغي أحدٌ على أحد)، وفي حديث آخر يبين ثمرة التواضع ونتيجته الحميدة، وأن بالتواضع يزداد المرء رفعة، وهو (ما نقصت صدقة من مال، ولا زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً، ولا تواضع أحد لله إلا رفعه الله).بل إن الله قد أمر رسوله عليه الصلاة والسلام بالتواضع، فقال تعالى:(واخفض جناحك للمؤمنين)، وأوضح له جل وعلا، أنْ لو كان خلاف ذلك، لانفضّ الناس من حوله، مع كونه رسول الله، الذي من أطاعه فقد أطاع الله، فقال سبحانه:(فبما رحمةٍ من الله لِنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك)، لعلّ الناس يعتبرون من هذا ويأخذون العظة لأنفسهم، ويفهمون معاني الرحمة واللين والتواضع، ويدركون ما لها من أهمية وضرورة في معاشرة الآخرين واكتساب ودّهم، والتقرب إليهم، ويعلمون أن الشر الذي يكفي عن كل شر، ما جاء في الحديث الشريف:(بحسب امرئٍ من الشر أن يحقر أخاه المسلم).في التكبر كل الشر يقع على المتكبر، فبعد بُغض الله له (إنّ الله لا يحب المستكبرين)، وقال تعالى أيضاً:(إن الله لا يحب من كان مختالاً فخوراً)، يبغضه الناس ولا تكون له منزلة في نفوسهم، إلا كالمنزلة التي لهم في نفسه، وفي هذا قال الشاعر:أُحبُّ مكارم الأخلاق جَهدي وأكره أنْ أعيب وأنْ أُعاباومن هابَ الرجال تهيّبوه ومن حقَرَ الرجالَ فلن يُهاباوقال أحمد شوقي، رحمه الله، في أحد الرجال:متواضعاً لله بين عباده والله يُبغض عبده المتكبّرالم تدرِ نفسُكَ ما الغرورُ وطالما دَخَلَ الغرورُ على الكبار فصغّراهذه إحدى نتائج الكبر القبيحة السيئة، التي يجنيها المتكبر، من بغض الله وغضبه، وبغض الناس كذلك، ونتيجة أخرى هي عَمَهُ قلبه عن الالتفات إلى آيات الله، والنظر إلى ما فيها من حكم ومعارف وأسرار، تنير البصيرة، وتجلو السريرة، فيصفو لها الضمير، مما يجعله يردُّ الحق، ولا يدين له، فضلاً عن حرمان الخير والتوفيق، في الأولى والآخرة، قال تعالى:(سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق)، ألا يكفي قوله جل وعلا:(أليس في جهنم مثوىً للمتكبرين)، زاجراً ورادعاً عن التكبر!.

1584

| 07 يوليو 2014

الكبر جاهلية 1

لا يزال بعض الناس في زمننا هذا، ممن ينتسبون إلى الإسلام، ويعُدّون أنفسهم من المسلمين، يعيشون في جاهلية سحيقة، شديدة البعد عما جاء به الدين الحنيف، من أخلاقٍ وتعاليمَ وقيم، حالهم في هذه الجاهلية، لا تفضل مطلقاً عن حال الجاهلية الأولى، بل هي تشبه تماماً ما كان عليه البشر قبل سطوع نور الإسلام، في ظلمات النفوس حالكة السواد، فهداها إلى سواء السبيل، والصراط المستقيم، الدال والمرشد إلى الخلق القويم، الذي تلقى به في الدارين رَوْح النعيم.بيد أنها ليست جاهلية معتقداتٍ وعبادات، وإنما جاهلية معاملاتٍ وأخلاقيات، وهذه إشكالية عظيمة، فإن من مقاصد البعثة المحمدية، إتمام المكارم الأخلاقية في النفس البشرية، لتزكو وترتقي عن كل دنيّة، تحطها وتهوي بها إلى حضيض الحيوانية، تُصوّر تلك الجاهلية، في جهالاتٍ ورذائلَ وأباطيلَ وأمراضٍ، استقرت في عقولٍ غير سوية، وحلت في نفوس غير زكية.وأظهر مظاهر هذه الجاهلية في النفوس، (التكبر) وما يعنيه من زهْوٍ وخُيلاء واستعلاء، تحمل جميعها المتكبر على استعظام نفسه، ورؤيتها أنها خيرٌ من غيرها، وكأنما خلق من أصل شيءٍ غير ما خلق منه سائر البشر، فهو لهذا يرى لنفسه عليهم مزية وفضلاً وفخراً، وقد يدفعه الحمق والجهل، على أن يتفوه بهذا فيقول: أصلي وأصلي... أو غير ذلك، أنا كَيْت وكيت... ويحك يا من تقول هذا أو نحوه، بلفظك أو في نفسك، ألا تعلم أن كل البشر لآدم وآدم من تراب! قال شوقي:لا يقولنّ امرؤٌ أصلي فما أصله مسكٌ وأصل الناس طينُولكن ما ظنك فيمن نفسه يعبث بها النسيان، ويفسد فيها الشيطان، ما تعاقب عليها الجديدان، ما لم يعصِمْها الرحمن، قال إيليا أبو ماضي:نسي الطينُ ساعةً أنه طينٌ حقيرٌ فصار تيهاً وعربدْوكسى الخزُّ جسمَه فتباهى وحوى المالَ كيسُهُ فتمردْالبيت الثاني يحكي التيه والبطر الذي تجلبه كثرة وزيادة النعم على أصحابها، فتصيبهم بشدة الترف والمرح، حتى ينسيهم الشيطان أنفسهم، نعوذ بالله من طغيان النعمة.ونحن حين اعتبرنا الكبر جاهلية، فقد جاء من كلام رسول الله عليه الصلاة والسلام، ما يؤكد هذا، فيما روي عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه، أنه قال:(إني كنت ساببت رجلاً وكانت أمه أعجمية، فعيرته بأمه فشكاني إلى رسول الله، فقال: يا أبا ذر، إنك امرؤٌ فيك جاهلية)، فكان أبو ذر رضي الله عنه، بعد ذلك يُرى عليه بردٌ أو حُلةٌ، وعلى غلامه بردٌ أو حلة مثلها، طرداً لاستعلاء الكبر، وطلباً لمساواة التواضع.الحقيقة في الكبر أنه آفةٌ عظمى، وعلة كبرى، يذهب بالدين والخلق معاً، إذ فيه تجرؤٌ على الله، الذي جعل صفة الكبرياء له وحده، تفرّد بها ولا تنبغي إلا له سبحانه، فقال في الحديث القدسي، مبيناً الوعيد الشديد على الكبر:(الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني واحداً منهما، قذفته في النار)، وفيه استطالة على خلق الله، فالمتكبر لا يرى من هم دونه، أو من يظنهم هو دونه توهماً، إلا بنظرة احتقارٍ وازدراء، أو هو في الواقع لا ينظر إليهم، لكونه مصعّراً خده، غير مبالٍ بهم، ولعمري كيف يتصور ممن هذا شأنه، أن يكون له خلق كريم، وتعامل حسن! لذلك قال عليه الصلاة والسلام:(لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر)، يدلك هذا الحديث، على فظاعة وشناعة رذيلة الكبر الشديدة، فالنبي عليه الصلاة والسلام، لم يقل: لا يدخل الجنة متكبرٌ، بل قال:(من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر)، حسبك زِنة ذرةٍ واحدة؛ لأن الأمور لا تقاس بمقاديرها، ولا تحسب بأحجامها، ولكن بتأثيراتها وتبعاتها وعواقبها، فإن ذرةَ كبرٍ واحدة في نفسٍ، تفسد فيها كل فضيلة أخلاقية، يجب أن تكون في المؤمن، وتمحو من قلبه الرحمة الإنسانية، التي لا يكون مؤمناً إلا بها، وكأنما هذه الذرة الوحيدة تنشطر إلى جزيئاتٍ تنتشر في جوانب وحنايا النفس، فيستشري فيها داء الكبر الوبيل، فلا يدع فيها شيئاً حسناً حميداً، إلا أتى عليه فجعله حصيداً خامداً.

3008

| 06 يوليو 2014

توَّكل على الله

تقدم معنا قي مقالة (رزق الله)، علاقة طلب الرزق بالتوكل على الله، وأنه على صلة به عميقة، وأنهما يرتبطان معاً برابطة وثيقة، يبينها الحديث الآتي: عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:(لو أنكم توكلتم على الله حق توكله، لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خِماصاً وتروح بِطاناً).تغدو: تذهب أول النهار، خِماصاً: بكسر الخاء، جمع خميص أي جياعاً، وتروح: أي ترجع آخر النهار، بطانا: بكسر أولها، جمع بطين وهو عظيم البطن والمراد شباعاً.فالتوكل إذن من أعظم الأسباب التي يستجلب بها الرزق، ليس وحده فحسب، بل أيضاً استجلاب سائر الخيرات والمصالح، وكذلك في المقابل دفع السيئات والمضار، وذلك في كل أمور الدنيا والآخرة، ولا يتحقق التوكل ولا يتم للعبد، إلا بالوقوف على تعريفه، والعمل به، وهو: اعتماد العبد على الله وحدَه، وتفويض كل الأمر إليه تعالى، مع إظهار كامل العجز.والتوكل من مقتضيات الإيمان والعبودية لله، ومن لوازم شهادة التوحيد،(لا إله إلا الله)، قال عز وجل:(ولله غيبُ السموات والأرض وإليه يرجع الأمر كلُّهُ فاعبده وتوكَّل عليه)، وقال سبحانه أيضاً:(وعلى الله فتوكلوا إنْ كنتم مؤمنين).يحتاج التوكل الصحيح على الله، إلى يقين صادقٍ كاملٍ بالله، بأنه تعالى هو مدبر هذا الكون، لا يحدث فيه شيءٌ إلا بإذنه، قال عز ِمن قائل:(وما تسقُطُ من ورقةٍ إلا يعلمها ولا حبةٍ في ظُلُمات الأرضِ ولا رَطْبٍ ولا يابسٍ إلا في كتابٍ مبين)، وأنه فعّالٌ لما يريد، وأنه غالبٌ على أمره، وهو على كل شيءٍ قدير.حينئذٍ يتوجه العبد إلى ربه، ويعلم علم اليقين، أنْ ليس له من دون الله وليٌّ ولا نصير، فيتوكل عليه بكلِّيته، توكلاً صادقاً سليماً نابعاً من القلب، لا يجعله يتعلق بغيره، ولا يلتفت إلى سواه مطلقاً، وكيف يمكن أن يحيدَ عن هذا التوكل، والله جل وعلا يقول:(ومن يتوكل على الله فهو حسبه)، أي كافيه ما أهمه في جميع أموره، ويقول تعالى أيضاً في الحديث القدسي الصحيح:(يا عبادي كلكم جائعٌ إلا من أطعمتهُ، فاستطعموني أُطعمكم، وكلكم عارٍ إلا من كسوتهُ، فاستكسوني أُكسكم)، وكان من سنة النبي عليه الصلاة والسلام، أنه إذا خرج من بيته يقول:(بسم الله توكلت على الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله)، وأخبر أن من قال ذلك، يقال له:(هديت وكفيت ووقيت، وتنحّى عنه الشيطان، ويقول لشيطانٍ آخر: كيف لك برجلٍ قد هُدي وكُفي ووثقي)، وكل هذا كما ترى بفضل التوكل على الله عز وجل. قال الشاعر:توكّل على الرحمنِ في الأمر كلِّه فما خاب حقاً من عليه توكلاوكنْ واثقاً بالله وارضَ بحكمه تَنَلْ مثلَ ما ترجوه منه تفضُّلاوقال آخر:توكّل على الرحمن في كل حاجةٍ أردْتَ؛ فإنّ الله يقضي ويقْدِرُمتى ما يُرِدْ ذو العرش أمراً بعبده يُصِبْه، وما للعبد ما يتخيّرُوقد يُهْلَكُ الإنسانُ من وجه أمْنِه وينجو بإذن الله من حيث يحذرُمعنى البيت الثاني من قوله تعالى:(ما يَفْتحِ اللهُ للناس من رحمةٍ فلا ممسكَ لها وما يمسكْ فلا مرسلَ له من بعده وهو العزيز الحكيم).والبيت الثالث يُنظر فيه إلى قول محمد بن وهيب:ألا ربما ضاقَ الفضاءُ بأهلِه وأمكن من بين الأسنةِ مخرجُزبدة القول:قال أحد الصالحين: (من سرَّه أن يكون أقوى الناس، فليتوكل على الله).واقرأ - يرعاك الله - قول القائل، وخذ به:هوِّن عليك، وكن بربِّك واثقاً فأخو التوكّل شأنه التهوينُأختم بقول المولى تبارك وتعالى، في محكم تنزيله:(وتوكلْ على الحيّ الذي لا يموت وكفى به بذنوب عباده خبيرا)، وقوله أيضاً:(ربُّ المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتّخذه وكيلا)، ولا شك أن الغرض من الأمر في الآيتين الوجوب.

4418

| 05 يوليو 2014

أهمية العدل والإنصاف

أواصل الحديث في هذه المقالة، عن معنى آخر من معاني الكِياسة والفطنة في المؤمن، ومظهرٍ آخر، من مظاهرها، تتجلى به العبقرية الفذة، للشخصية المؤمنة، وتبرز فيه دماثة خُلقه النبيل، ألا وهو خلق العدل والإنصاف، العدل الذي يتمثّل في أن تعطيَ كل ذي حقٍ حقه، عطاءً دائماً غير ممنون، والإنصاف الذي يعني أن تعطي كل ذي حقٍ ما يستحقه، عطاءً وافياً غير منقوص. وقِف ملياً عند هذه القصة، التي وقعت بين سلمانَ الفارسيّ وأبي الدرداء رضي الله عنهما، اللذين آخى بينهما النبي عليه الصلاة والسلام، وهي مروية في صحيح البخاري، وتعرّف منها على ما عليك من حقوق وواجبات:زارَ سلمانُ الفارسي أبا الدرداء، فرأى أم الدرداءِ متبذِّلةٌ - الدرداء اسم ابنتهما- فقال لها: ما شأنك؟ قالت: أخوك أبو الدرداء ليس له حاجةٌ في الدنيا! فجاء أبو الدرداء، فصنع له طعاماً، فقال: كُلْ فإني صائمٌ، قال: ما أنا بآكلٍ حتى تأكل، قال: فأكل، فلما كان الليل، ذهب أبو الدرداء يقوم، قال: نَمْ فنامَ، ثم ذهب يقوم، فقال: نم، فلما كان آخر الليل، قال سلمان: قم الآن، فصَلَّياً.. فقال له سلمان: إنّ لربك عليك حقاً، ولنفسك عليك حقاً، ولأهلك عليك حقاً، ولضيفك عليك حقاً، فأعطِ كل ذي حقٍ حقه، فأتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَر ذلك له، فقال النبي: (صَدَقَ سلمانُ).هذه هي العبقرية التي تميز شخصية المؤمن، وهذا هو الوصف الذي ينبغي أن يتصف به، وهو بحق من أجل وأشرف ما يزيّن خُلق الإنسان، فيه دليلٌ على صحة الإيمان، وعلامة على الخوف من الرحمن، وسمة على حب الخير والإحسان، إذ بالعدل والإنصاف، تسمو نفس المرء، وترتقي إلى الكمال، ومكارم الأخلاق، ويحققان لها العزة والشرف والكرم، عند الله تعالى، وعند الأنام.والعدل والإنصاف اللذان نتحدث عنهما، ينبغي أن يكونا ثابتين مستقرين على كل حال، لا تميل بهما الأهواء، ولا يتغيران مع تقلب الأحوال، بحيث يُقيم المرء العدل في حالتي الرضا والغضب، ويحقق الإنصاف في حالتي الحب والكره، بذا يصبح المرء عادلاً منصفاً، وكذا تستقيم معادلة العدل، وتستوي كفتا ميزانه، فلا ترجح إحداهما على الأخرى، استجابةً لدواعٍ نفسية مِزاجيةٍ هوائية.من كان يريد رضا الله جل وعلا، فليكن عادلاً منصفاً، ومن كان يريد رضا الناس فليكن كذلك، ومن أراد أن يبقيَ على صلات الأرحام، وأن يديمَ علاقات الأصدقاء، ويبني مثلها مع سائر الناس، لا سبيل له إلا العدل والإنصاف، وإنّ غيابهما لا يبقي ولا يذر من ذلك شيئاً، وضعفهما يؤثر فيه بحسب الضعف وعلى مقداره، خللاً ونقصا، وصدق المتنبي إذ قال:ولم تزلْ قلةُ الإنصاف قاطعةًبين الرجالِ ولو كانوا ذوي رَحِمِوقد جاء بهذا المعنى من قبله، الشاعر معن بن أوس المزني، من مخضرمي الجاهلية والإسلام في قوله:إذا أنت لم تَنصفْ أخاك وجَدْتهُعلى طَرَفِ الهجران إنْ كان يعقلُويركبُ حدَّ السيف من أنْ تُضيمهُإذا لم يكن عن شَفْرة السيفِ مَزْحَلُإنْ كان يعقل: أي إن كان له عقل، ومَزْحَل: اسم مكان من زَحَل عن مكانه، إذا تنحى عنه وتباعد.وقد جاء في الأثر: (لا خيرَ للمرء في صحبة من لا يرى عليه من الحق مثل ما يرى له).وفي ذلك قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: من أراد أن ينصف الناس من نفسه، فليحب لهم ما يحب لنفسه.رحم الله أحمد شوقي، الذي قال فأحسن القول بإيجاز مفيد، في أهم مبادئ الدين:والدينُ يُسْرٌ، والخلافة بيعةٌوالأمر شورى، والحقوق قضاءُ

31756

| 04 يوليو 2014

لا تحقرنّ معروفًا ولا ذنبًا (2)

كان لدى سلفنا الصالح، يقين صادق، وثقة تامة، بكلام الله تعالى، وكلام رسوله عليه الصلاة والسلام، لا يسمعون بشيءٍ منه، إلا وعوه وفعلوه، ومن ذلك ما جاء من فعل أم المؤمنين، عائشة رضي الله عنها، الذي ينم عن تصديقها ويقينها الكاملين، بقول الله تعالى: (من يعمل مثقال ذرة خيراً يره)، وقول رسول الله: (اتقوا النار ولو بشق تمرة)، فيما روي عنها أنها تصدقت بعنبة، وقالت: (كم فيها من مثقال ذرة)، الله أكبر، كم نضيّع بجهلنا وغفلتنا الكثير من مثاقيل الذر!، وتفوتنا أجورها، فوات الهباء المنثور، من بين أيدينا. تحكي لنا السنة المشرفة، أمثلة مضيئة هادية مرشدة، عن أناسٍ قاموا بأعمال هينة يسيرة، في غاية اليسر والسهولة، متناهية في الصغر، لو قورنت بغيرها من الأعمال الصالحة، التي يَعْمَد إليها، ويتكئ عليها أصحابها، ويرجون ثوابها العظيم، أدخلهم الله بسببها الجنة، لمّا خلصت نيتهم لله فيها وصدقت، ونبعت من رحمة القلب، وعاطفة الوجدان، وشفقة النفس.ففي الصحيحين، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله عليه الصلاة والسلام، قال: (بينما رجلٌ يمشي بطريق، وجد غُصن شوكٍ على الطريق، فأخّره، فشكر الله له، فغفر له)، لا شك أن هذا الرجل، حدّثته نفسه، وهو يميط ذلك الشوك، أنه قد يؤذي أحداً من المسلمين، ممن يمرون في الطريق، فكان دافع عمله هذا، الرحمة والرأفة بالناس، من أن يصيبهم بلاء، وتلمُّ بهم ضراء، فكان أن غفر له رب الأرض والسماء، على ما أبداه من نية صافية خالصة بيضاء. وفي الصحيحين أيضاً، قال عليه الصلاة والسلام: (بينما كلبٌ يُطيفُ بركِيَّةٍ - يدور حول بئر - كاد يقتله العطش، إذ رأته بغِيٌّ من بغايا بني إسرائيل، فنزعت مُوقَها -خُفّها- فاستقت له به، فسَقَته فغُفِر لها به)، انظروا هدانا وعلمنا الله وإياكم، هذه امرأةٌ زانية من بني إسرائيل، صنعت خيراً، وفعلت معروفاً، وقدمته إلى كلبٍ، وكان أداتها في ذلك حذاؤها، فكان جزاؤها مغفرة من الله ورضوان، لكنها الشفقة التي ثارت في نفسها، والرحمة التي نازعت قلبها، فكوفِئت عليهما، الرحمة التي لا يرحم الله إلا من كانت في قلبه، كما جاء في الحديث:(إنما يرحم الله من عباده الرحماء)، فجميع السعادة والهناءة، لمن خالطت قلبه الرحمة، وكل الشقاوة والتعاسة، لمن قسا قلبه -عياذاً بالله - حتى صار غليظاً كالجدار أو كالأحجار، أو أشد قسوة، لا ينفذ إليه شيءٌ، ولا يَبضُّ بشيء، (وإنّ من الحجارةِ لما يتفجّر منه الأنهار.. وإنّ منها لما يشّقّق فيخرج منه الماء.. وإنّ منها لما يهبط من خشية الله)، فما بال قلوب أشقياء بني آدم، في قسوتها لا تلين ولا تتأثر ولا تخشع، على حين يحدث ذلك للحجارة نفسها، كما بينت الآية، لذلك فهاتيك القلوب أشد منها قسوةً ولا عذر لها، فيما لم يعذر منه الحجر.أختم بقصة صاحب الرغيف، التي رويت عن أبي موسى الأشعريّ:لمّا حضرت أبا موسى الأشعري الوفاة، قال: يا بَنِيّ اذكروا صاحب الرغيف، فقالوا: يا أبانا من صاحبُ الرغيف؟ قال: كان رجل يتعبد في صومعته، سبعين سنة، لا ينزل إلا في يومٍ واحد، فنزل ذات مرة، فرأى امرأةً جميلة زينها الشيطان في عينه، فقضى معها سبع ليالٍ في الحرام، قال: ثم كشف عن الرجل غطاؤه، فخرج تائباً، فكان كلما خطا خطوةً صلى وسجد، فآواه الليل إلى دكان فيه اثنا عشر مسكيناً، فأدركه الإعياء، فرمى بنفسه بين رجلين منهم، وكان هناك راهبٌ يبعث إليهم كل ليلة من يقسم بينهم أرغفةً، فيعطي كل إنسانٍ رغيفاً، فلما جاءهم، أعطى كل إنسانٍ رغيفاً، ومر على ذلك الذي خرج تائباً، فظنّ أنه مسكينٌ فأعطاهُ رغيفاً، فقال الذي لم يُعطَ منهم: ما لك لم تعطني رغيفي؟ قال: أتُراني أُمسكه عنك؟! والله ما عندي شيءٌ أعطيك إياه، فعَمَد التائب إلى الرغيف الذي عنده، فدفعه إلى المسكين، فأصبح التائب ميْتاً، قال: فوُزنت السبعون سنة، بالسبع الليالي، فلم تَزِن، فوُزِن الرغيف بالسبع ليالي، فرجح الرغيف، فقال أبو موسى: يا بَنيّ اذكروا صاحب الرغيف.قال الله تعالى: (إنّ اللهَ لا يظلمُ الناسَ شيئاً ولكنّ الناسَ أنفُسَهُم يَظلِمون).

10826

| 03 يوليو 2014

لا تحقرنّ معروفًا ولا ذنبًا (1)

من معاني ومقتضيات الكِياسة والفطنة في المؤمن، التي أشار إليها نبينا الكريم عليه الصلاة والسلام، في الحديث: (الكيِّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأمانيّ)، أنه لا يحقر ولا يستصغر شيئاً من المعروف أو من الذنوب، وأنه يُقدّر كل الأمور في دينه حق قدرها، ويمنحها جميعاً قسطاً من اهتمامه العمليّ، ونصيباً من عنايته القلبية، أياً كان حجم تلك الأمور وقدرها، إذ إنها ذات صلةٍ برصيده الأخروي، الذي تحسب فيه الأفعال، وتوزن فيه الأعمال، بالحسنات والسيئات. هذا ما يجب أن يكون عليه المؤمن، ويصير عنده لزاماً في حياته، أنه لا يستقلّ ولا يستهين بشيءٍ من الأعمال مطلقاً، أكانت حسنة أم سيئة، وينبغي أن يكون عنده دقيقها كجليلها، وصغيرها ككبيرها، في حرصه على فعلها، واحتسابه لأجرها، إن كانت حسنة، أو تجنبه اقترافها، وخوفه عقابها، إن كانت سيئة.كيف يجوز للمؤمن ترك ذلك، والله سبحانه وتعالى يقول: (من يعمل مثقال ذرة خيراً يرهُ.. ومن يعمل مثقال ذرةٍ شراً يره)، أي يراه يوم القيامة مسطوراً في كتابه، ومثقال: أي زِنة، والذرة: هي أصغر النمل، تجمع على ذرّ، وسبب نزول هذه الآية الكريمة، كما روي، أنه لما نزلت (ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيرا)، كان المسلمون يرون أنهم لا يؤجرون على الشيء القليل إذا أعطوه، وكان آخرون يرون أنهم لا يلامون على الذنب اليسير: الكذبة والنظرة والغيبة، وأشباه ذلك، ويقولون: إنما وعد الله النار على الكبائر فأنزل الله الآية.كيف لا يوقن المؤمن بما سبق، ويعمل به، والله جل وعلا يقول: (ونضعُ الموازينَ القسطِ ليوم القيامةِ فلا تُظلم نفسٌ شيئاً وإن كان مثقالُ حبةٍ من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين)، وحبة خردل، كناية عن صغر وحقارة العمل، ولمّا كان الأمر كذلك، فإن المجرمين يعجبون يوم القيامة، حينما تعرض عليهم صحف أعمالهم ويقولون، كما جاء في القرآن: (يا ويلتنا مالِ هذا الكتاب لا يغادر صغيرةً ولا كبيرةً إلا أحصاها)، انظر قولهم وكيف قدموا ذكر المعصية الصغيرة على الكبيرة، ما ينبيك عن خطورة أمرها.كيف لا يوقن المؤمن بهذا، وهو لو تأمل في الحياة، وأطال نظره فيها، لقالت له رسومها ومعالمها في الواقع المحسوس من الطبيعة، التي هي كتاب الله المنظور، إن كان القرآن هو كتابه المسطور، ولنطقت له بالحكمة مما جاء على لسان الشعراء:لا تحقرنّ صغيراً في مخاصمةٍإنّ البعوضةَ تُدمي مقلةَ الأسدِوفي الشرارة ضعفٌ وهي مؤلمةٌوربما أضرمت ناراً على بلدِولآخر:لا تَحْقِرنَّ صغيرةًإنّ الجبالَ من الحصىكيف يتصور من المؤمن، أن يحقر شيئاً من المعروف أو من الذنوب، وهو لا يدري بأي الأعمال تكون نجاته أو هلاكه، ولا يدري بما يغفر الله له، فيدخله الجنة، فإن الله سبحانه قد أخفى رضوانه في طاعته، وأخفى غضبه في معصيته، وللإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه، قول بليغ في هذا وهو: (إنّ الله أخفى اثنتين في اثنتين، أخفى أولياءه في عباده، فلا تدري أيهم تلقى من عباد الله، هو من أوليائه، وأخفى رضوانه في طاعته، فلا تدري أي طاعة تعبد الله بها تكون سبباً لرضوانه).وفي المعنى الأول من قول الإمام علي رضي الله عنه، يقول الشاعر:فلا تحقرنّ خَلْقاً من الناس علَّهوليّ إله العالمين وما تدريفذو القَدْر عند الله خافٍ عن الورىكما خفيت عن علمهم ليلةُ القدرِأما المعنى الثاني، فقد جاءت الأحاديث النبوية منبهة إليه، ودالة عليه، حاثةً وآمرةً على العمل بمقتضاه، قال عليه الصلاة والسلام: (لا تحقرنّ من المعروف شيئاً، ولو أن تلقى أخاك بوجهٍ طليق) أي متهلل بالبشر والابتسام، وقال أيضاً: (اتقوا النار ولو بشق تمرةٍ، فمن لم يجد فبكلمة طيبة)، وفي حديث آخر: (الكلمة الطيبة صدقة)، أي القول الحسن، الذي قلّ من يقيم له وزناً، مع أنه لا يكلف الإنسان شيئاً، ويحقق الأَرَب، ويصنع العجب، حتى قيل في المثل: رب قولٍ أشد من صَوْل.ولننظرْ كيف فهم السلف الصالح، هذه المعاني، وكيف تجلت في أعمالهم، وذلك في المقالة القادمة، بحول الله وقوته.

9540

| 02 يوليو 2014

تحية رمضان

لا يهلُّ هلال رمضان، وتشع أنواره على أمة الإسلام، إلا ويرافق حلول هذه المناسبة العزيزة سيلٌ عرمٌ من المقالات والخطب، تذكّر الناس بمنزلة هذا الضيف الكريم، وتهيئهم لاستقباله، لكي يعدّوا أنفسهم، بما يجب عليهم، وينبغي لهم القيام به، من طاعات، وأعمالٍ صالحات، على سَنَن الهدى. ولعلّ من أهم ما يُذكر في هذا الصدد، قول رسول الله، عليه الصلاة والسلام: (إذا كان أول ليلةٍ من شهر رمضان، صُفّدت الشياطين ومَردة الجن، وغُلّقت أبواب النار فلم يُفتح منها باب، وفُتّحت أبواب الجنة، فلم يُغلق منها باب، وينادي منادٍ يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر، ولله عُتقاء من النار، وذلك كلَّ ليلة).ولئلا يكون ما نقوله في شهر رمضان، كلاماً معاداً قد أعيد كثيراً، وشُرح طويلاً، حتى تشبّعت النفوس من سماعه، من عامٍ لآخر، ولم يعد بإمكان الخِطاب، أن يأتيَ بقولٍ فيه جديد، فيكون كلامنا تكراراً لكلامٍ قد قاله غيرنا، ومن ثم ندفع قارئنا على الملالة، أو ترك قراءة ما نكتب، لابد لنا من علم شيئين، حريٌ بنا أن نفطن لهما..الشيء الأول: أنّ ما نكون عليه من تحرّي قدوم رمضان، وأُهبة الاستعداد لمجيئه، التي تجعلنا نستأنس ونفرح لمقدمه، لا ينبغي أن تكون لشيءٍ، إلا لأن رمضان فرصة زمنية يجود بها عمر من كتب الله له البقاء ليشهدَ رمضان، وهو ما كان فرصةً ثمينة، إلا لأن فيه تكفير السيئات، ومضاعفة الحسنات، والعتق من النيران، والمفرط المُهمِل، من لا ينتهز هذه الفرصة، ويغتنمها بالعمل، ألا كأنما رمضان يصيح قائلاً: يا من تريدون النجاة والخلاص، هأنذا قد أتيتكم، فأنيبوا إلى اللهِ ربكم.الشيء الثاني، الآكد علماً، أن رمضان ما استمد مكانته الشريفة الكريمة، إلا بسبب الحدث الذي وقع فيه، وهو نزول القرآن العزيز، مما يشعرنا بضرورة رجوعنا إلى كتاب الله في رمضان، وتقوية صلتنا به، تدارساً واستظهاراً، وتدبراً وفهماً، ليكون لنا من بعدُ منهج حياة، خُلقاً وعملا، هذا هو المطلب المقصود، والغرض المنشود، لا مجرد التنافس فقط في عدد مرات ختمه، ختماً يُهذْرِمُ به اللسان، دون أدنى أثرٍ يعود على قارئه، ودون نتيجة يخرج بها من تلاوته، ودون أي التفاتٍ إلى ما في القرآن من معانٍ سامية، يُنتفع بها، ترتقي بالروح من جانبيها الإيمانيّ والإنسانيّ.. ألا كأنما رمضان يقول لنا: أنا الزمن الشريف الذي اُنزل فيّ القرآن، فأقبلوا فيّ على كتابكم، وعودوا للتمسك به، يرحمكم الله ربكم.يا من امتنّ الله عليك، بأن بلّغك رمضان، إن تلك نعمة توجبك شكرها، ومنحةٌ ربانية تُهديك خيرها، وإن أدب الخُلُق يفرض عليك استقبالها بالحمد والتوبة، حمداً يُدرك قيمة وشرف النعمة المحمودة، وتوبةً تستدعي طيّ صفحة قد لوّثت واسودّت بالخطايا، مدة عامٍ مضى، لِتُنشَرَ لك صفحةٌ بيضاءُ طَهور، تحيا بها من ربك على نور.. ألا كأنما رمضان يقول واعظاً: إنما أنا شاهد حق، إما لكم وإما عليكم، فاتقوا الله ربكم.فكّرت في تحيةٍ أحيي بها شهر رمضان الفضيل، وهلاله الميمون، فلم أجد خيراً من التحية التي نظمها قصيدةً، الشاعر والأديب مصطفى صادق الرافعي، ناصحاً للمسلمين، لافتاً إلى ما يجب عليهم في شهرهم، فقال رحمه الله:فديتُكَ زائراً في كلِّ عامِتُحيّا بالسلامة والسلامِوتُقْبِلُ كالغمامِ يَفيضُ حيناًويبقى بعدهُ أثرُ الغمامِوكم في الناسِ من دَنِفٍ مَشوقٍإليكَ وكم شجِيٍّ مُستهامِولم أرَ قبلَ حُبّكَ من حبيبٍكفى العشاقَ لوعاتِ الغرامِبني الإسلامِ هذا خيرُ ضيفٍإذا غَشيَ الكريمُ ذُرى الكرامِيلمُّكمُ على خير السجاياويجمعكمْ على الهِمَمِ العِظامِفشدّوا فيه أيديكمْ بعزمٍكما شدَّ الكَمِيُّ على الحُسامِوقوموا في لياليه الغواليفما عاجَت عليكم للمُقامِوكم نَفَرٍ تغُرُّهمُ اللياليوما خُلقوا ولا هي للدوامِوخلُّوا عادةَ السفهاءِ عنكمفتلك عوائدُ القومِ اللئامِيُحلِّونَ الحرامَ إذا أرادواوقد بانَ الحلالُ من الحرامِومن روَّته مُرضعةُ المعاصيفقد جاءتهُ أيامُ الفِطامِ

1918

| 01 يوليو 2014

alsharq
حدود العنكبوت

حينَ شقَّ الاستعمار جسدَ الأمة بخطوطٍ من حديد...

3945

| 04 نوفمبر 2025

alsharq
انخفاض معدلات المواليد في قطر.. وبعض الحلول 2-2

اطلعت على الكثير من التعليقات حول موضوع المقال...

2280

| 03 نوفمبر 2025

alsharq
العالم في قطر

8 آلاف مشارك بينهم رؤساء دولوحكومات وقادة منظمات...

2160

| 04 نوفمبر 2025

alsharq
السودان.. حوار العقل العربي مع مُشعِلي الفتنة

في السودان الجريح، لا تشتعل النيران في أطراف...

1953

| 05 نوفمبر 2025

alsharq
حين يصبح النجاح ديكوراً لملتقيات فوضوية

من الطرائف العجيبة أن تجد اسمك يتصدر أجندة...

1317

| 04 نوفمبر 2025

alsharq
الصالات المختلطة

تشهد الصالات الرياضية إقبالا متزايدا من الجمهور نظرا...

1146

| 10 نوفمبر 2025

alsharq
عندما يصبح الجدل طريقًا للشهرة

عندما صنّف المفكر خالد محمد خالد كتابه المثير...

1020

| 09 نوفمبر 2025

alsharq
الكفالات البنكية... حماية ضرورية أم عبء؟

تُعدّ الكفالات البنكية بمختلف أنواعها مثل ضمان العطاء...

1011

| 04 نوفمبر 2025

alsharq
خطاب سمو الأمير خريطة طريق للنهوض بالتنمية العالمية

مضامين ومواقف تشخص مكامن الخلل.. شكّل خطاب حضرة...

981

| 05 نوفمبر 2025

alsharq
نظرة على عقد إعادة الشراء

أصدر مصرف قطر المركزي في التاسع والعشرين من...

972

| 05 نوفمبر 2025

alsharq
نحو تفويض واضح للقوة الدولية في غزة

تسعى قطر جاهدة لتثبيت وقف اطلاق النار في...

879

| 03 نوفمبر 2025

alsharq
عمدة نيويورك

ليس مطلوباً منا نحن المسلمين المبالغة في مسألة...

879

| 06 نوفمبر 2025

أخبار محلية