رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

Al-sharq

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

الشرق

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

غياب مشروع محاربة الفساد يجعل الحكومة التونسية عاجزة

حين كان "حزب نداء" تونس في المعارضة لم يطرح على نفسه إنجاز ثورة سياسية، ولم يكن هذا وارداً لديه، لأنه بالأساس لم يكن يمتلك مشروعاً حقيقياً للتغيير في تونس، وبما أنه حزب ليبرالي، لم يكن أيضاً معنيا بإيجاد منوال جديد للتنمية يكون نقيضا للنموذج الاقتصادي التونسي الذي وصل إلى مأزقه المحتوم، الأمر الذي أسهم في تفاقم المشاكل الاقتصادية والاجتماعية، وارتفاع معدلات البطالة، والتفاوت الصارخ بين مختلف مناطق البلاد٬ وتفشي الفساد المؤسساتي. وحين تشكلت الحكومة الجديدة ما بعد الانتخابات التشريعية والرئاسية بزعامة السيد الحبيب الصيد لم يكن لديها برنامج حقيقي لمحاربة الفساد، وبالتالي لبلورة نموذج جديد للتنمية قادر أن ينقذ تونس من أزمتها البنيوية العميقة.ومن الواضح أن الحكومة الجديدة المتشكلة من أحزاب ليبرالية، والبعض منها يدافع عن الليبرالية المتوحشة كما هو الحل لحزب آفاق تونس، لديها نفس البرامج والتصورات فيما يتعلق بالاقتصاد، أسقطت من برنامجها مسألة مقاومة الفساد كبند من بنود خارطة الطريق للمرحلة المقبلة، لاسيَّما أن رئيس الحكومة السيد الحبيب الصيد تجنب الإشارة من قريب أو من بعيد لمقاومة الفساد في تركيبته الحكومية عندما لم يخصص هيكلا لا في شكل وزارة ولا كتابة دولة ولا حتى مستشارا للاهتمام بملف الفساد.ويعتبر ملف محاربة الفساد ملفاً مفصلياً في نجاح أي حكومة ما بعد الثورة. فالمراقب للوضع السياسي التونسي يلمس بوضوح أن الحكومات المتعاقبة سواء في عهد الترويكا السابقة بقيادة حركة النهضة، أم في عهد رئيس الحكومة المتخلى مهدي جمعة، لم تبلور خطة حقيقية لمقاومة الفساد، وإقرار الحوكمة الرشيدة، بل إن جميعها همشت ملف الفساد. وحسب تقييم منظمات المجتمع المدني المعنية بمحاربة الفساد، فإن حكومة السيد مهدي جمعة كانت الحكومة الأضعف، وأكثر حكومات ما بعد الثورة فشلا في مكافحة الفساد لاسيَّما أن تونس سجلت في عهد جمعة تراجعا في المؤشر العالمي لمدركات الفساد من المرتبة 75 إلى المرتبة 79 عالميا. الخوف ربما، أو تفادي الإحراج من كل ما له صلة بالفساد تكرر على ما يبدو مع حكومة الصيد حيث تراجع هذا الأخير خطوة أخرى إلى الوراء وحذف كتابة الدولة وكل ما يشير إلى نوايا مكافحة الفساد، فقد تدحرجت تونس في مؤشر الفساد في 2014 لتحتل المترتبة 79 من مجموع 175 دولة في مؤشرات مدركات الفساد بتراجع نقطتين عن ترتيب 2013 وبعشرين نقطة كاملة عن ترتيب 2010 حيث كانت تونس تحتل المرتبة 59 حسب تقرير منظمة الشفافية الدولية.أما حكومة السيد الحبيب الصيد المتشكلة من الحزبين الكبيرين: "النداء" و"النهضة"، ومن حزبين آخرين صغيرين: "الاتحاد الوطني الحر" و"آفاق تونس"، هذه الأحزاب جميعها لم تطرح في برامجها السياسية مسألة محاربة الفساد كمسألة محورية، وإن كانت أدرجت ملف الفساد ضمن شعاراتها الانتخابية.و الحال هذه أصبحت هذه الحكومة الجديدة منذ تشكلها فاقدة لكل إرادة سياسية لمحاربة الفساد، لأن الأحزاب الموجودة في صلبها تتجنب الإحراج في طرح ملف محاربة الفساد، نظرا لعلاقة الأحزاب السياسية الحاكمة بالمال السياسي وأيضا في علاقة هذه الأحزاب برجال الأعمال لاسيَّما المتورطين منهم في قضايا فساد، وكان ملف رجال الأعمال المتورطين في قضايا الفساد النقطة السوداء في سجل الحكومات المتعاقبة ما بعد الثورة، وهاهي حكومة السيد الحبيب الصيد تلغي تماماً من قاموسها السياسي مسألة محاربة الفساد، الأمر الذي يقودنا إلى أن تونس قد عادت إلى المربع الأول، لجهة اعتبار موضوع محاربة الفساد من المواضيع المحرمة.وكان الفساد استشرى في عهد نظام الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي وبطانته التي استطاعت أن تحتكر لنفسها مع نهاية 2010 ما نسبته 21 بالمائة من أرباح القطاع الخاص في البلاد. وسمح نظام بن علي خلال فترة حكمه التي استمرت 23 عاما، لعدد من أفراد عائلته وعائلة زوجته وعدد من أصهاره بالتحكم في مفاصل الاقتصاد التونسي ليمكنهم من مراكمة ثروات مشبوهة، تقدر ما بين 5 إلى 10 مليارات دولار، قسم منها مستثمر في الداخل، وقسم آخر في الخارج، لاسيَّما في أوروبا التي باشرت بعض دولها تجميد أرصدة وحسابات تابعة لـ بن علي وزوجته ومقربين منه.وكثيراً ما ينطوي الفساد في تونس على تحويل أو تحريف وجهة الموارد المالية أو الخدمية من الاستفادة العامة إلى العائلات الخاصة النهابة، إذ غالباً ما يتطلب هذا التحريف تحويلاً للأموال إلى مصارف وبنوك أجنبية، ما سبب حدوث تسريبات ضارة بالاقتصاد الوطني تعمل على زيادة عرقلة التنمية الاقتصادية.والفساد في تونس له علاقة بالمتغيرات الاقتصادية والاجتماعية الناجمة عن سياسة الخصخصة، التي بدأ النظام السابق يطبقها منذ مجيء الرئيس بن علي إلى السلطة، وفي ظل غياب قوانين صارمة ضد الاحتكار تعني الخصخصة استبدال احتكار القطاع العام باحتكار القطاع الخاص، وهذا يؤدي إلى استشراء الفساد بكلفة اقتصادية واجتماعية كبيرة، هناك حاجة إلى موازاة التخصيص مع وجود قوانين ضد الاحتكار لدرء الفساد، وهذه القوانين كانت علامات أساسية في التطور الاقتصادي في الدول الرأسمالية المتقدمة. كما أن ممارسات الفساد في تونس ليست مجرد ممارسات فردية خاصة لهذه العائلة أو تلك من العائلات النهابة، كما جاء في حيثيات قضايا الفساد الكبرى، وإنما هي تتحرك من خلال أطر شبكية ومافيات منظمة، وهكذا تكتسب ممارسات الفساد طابعاً مؤسساتياً في إطار تلك المنظومات الشبكية.إن للفساد آثاراً سلبية ومدمرة على الاستثمار الأجنبي والمساعدات الأجنبية، والتنمية الاقتصادية، حيث إن الفساد يعوق التنمية السياسية ويقوض الفعالية والكفاءة الإدارية، وشرعية القادة السياسيين والمؤسسات السياسية، غير أن الفساد ما كان له أن ينتشر في تونس، وينمو ويزدهر، لولا أنه لم يجد بيئة حاضنة للفساد. هذه البيئة الحاضنة للفساد، هي بقاء مؤسسات وشبكات النظام السابق الفاسدة من دون عملية تطهير، الأمر الذي ترك العنان للفساد يستشري في تونس، ولم يمارس أي دور في كبح جماحه، بل إن الحكومة الحالية لجأت إلى تأسيس علاقات وروابط مع رجال "البيزنس" الذين ينتمون إلى حزب بن علي المنحل، لاسيَّما أن "حزب النداء" لديه 50 نائباً كانوا في السابق "تجمعيين". إن السؤال المطروح تونسياً كيف يمكن لحكومة السيد الحبيب الصيد التي تفتقد للبرنامج الحقيقي لمحاربة الفساد، والعاجزة عن إحداث خلايا للحوكمة ومقاومة الفساد في صلب المؤسسات العمومية وإدراج مكافحة الفساد في الهياكل التنظيمية للإدارات وكل مرافق الدولة، أن تقوم بالإصلاحات الكبيرة ذات الطابع الإستراتيجي لبناء اقتصاد وطني منتج قادر أن يحقق نموا حقيقيا، وأن يقضي على جيوب الفقر في المحافظات المحرومة والمهمشة والفقيرة داخل تونس العميقة؟ وكيف يمكن لحكومة السيد الحبيب الصيد أن تنجز هذه الإصلاحات الكبرى المطلوبة في جل القطاعات والمجالات على غرار الديوانة (الجمارك)، والصحة، والطاقة، والمناجم، وجزء كبير من العلات والإخلالات المطروحة تعود أسبابها إلى تفشي الفساد وتغلغله في صلب الهياكل وفي الممارسات، وفي ظل الحصانة الكاملة من معاقبة الفاسدين، وبالتالي في ظل انعدام إستراتيجية وطنية لمحاربة الفساد؟إن مكافحة الفساد تتطلب توافر الإرادة السياسية، ومشاركة المجتمع المدني، وتقوية المؤسسات، فضلاً عن دور التعاون الدولي.

584

| 05 مارس 2015

الوضع العربي الراهن يستدعي إعادة بناء الدولة الوطنية

التحاليل التي تحدثت وشخصت الواقع المرضي الذي يعيشه العالم العربي، من تفشي الفقر المدقع، والاستبداد، والإرهاب، لا تحصى ولا تعد، ولا نضيف شيئاً جديداً في هذا المجال، لكن ما لم يتم التطرق إليه، هو كيفية معالجة الآفات التي تنهك هذا الجسم العربي المريض، ولعل أهم هذه المهمات، هي إعادة بناء الدولة الوطنية في بلدان العالم العربي. وإذا كان من الضروري إيضاح الخطوط الرئيسية لاستعادة بناء الدولة الوطنية، فإن هذه الخطوط هي: أولاً: المقدمة الأولى للدولة الوطنية وضمانة تحولها إلى دولة ديمقراطية، تكمن في تحقيق الاندماج القومي في كل بلد عربي على حدة، في العالم العربي بوجه عام، ونقصد بالاندماج القومي تصفية البنى والعلاقات ما قبل القومية، والانتقال من مفهوم الجماعة إلى مفهوم المجتمع المدني، ومن مفهوم الملّة الديني إلى مفهوم الأمة العلماني والديمقراطي، ومن وضعية التكسر المجتمعي وتحاجز فئات المجتمع إلى الوحدة المجتمعية السياسية - وسيرورة الاندماج القومي هذه هي ذاتها سيرورة نمو المجتمع المدني العلماني، وسيرورة بناء الدولة الوطنية وفق مقتضيات العقل ومطلب الحرّية. والاندماج القومي المجتمعي خطوة ضرورية منطقياً وتاريخياً للوحدة القومية، التي قد يفرض التطور الموضوعي أن يكون الوصول إليها عبر أشكال وسيطة مختلفة منها مثلاً صيغة السوق المشتركة، أو التعاون والتنسيق بين دولتين أو أكثر، أو قيام تجمعات إقليمية وجهوية التي يتحدد طابعها القومي الوحدوي بمدى وطنية الدولة في كل بلد عربي بالمعنى الذي أشرنا إليه. ثانياً: الدولة الوطنية هي التي ترتبط بتحرير عملية الإنتاج الاجتماعي وتحديثها، وبتنمية الموارد البشرية والمادية بصورة أساسية. فعمليات الإنتاج الاجتماعي المنفتحة على معطيات العصر الحديث وقيمه ومناهجه وكشوفه العلمية والتكنولوجية.. هي ذاتها عمليات بناء الوطنية وبناء الدولة الوطنية.ثالثا: الدولة الوطنية هي التي تتبنى الإنسانية، أي الاعتراف المبدئي والنهائي بالكرامة الإنسانية، وبأن الإنسان هو معيار جميع القيم ومنتجها، وبأن الماهية الإنسانية تتجلى في الفرد الذي يستمد قيمته منها، لا من أصله وفصله ونسبه وحسبه، ولا من ثروته أو تراثهن ولا من عقيدة دينية أو دنيوية، وأن الفرد، ذكر أو أنثى، ذات حرّة ومستقلة ومسؤولة... الإنسان غاية في ذاته ولذاته،لا يجوز أن يكون وسيلة لأية غاية مهما سمت، وحريته وحقوقه الطبيعية والمدنية والسياسية مقدمة على كل ما عداها. في ضوء ذلك، تبدو قضية حقوق الإنسان قضية مركزية في نسق الحداثة وفي منظومتها القيمية، وفي الثقافة الديمقراطية سواء بسواء. ولا يمكن فصل مقولة الحرية أو مشكلة الحرية، بتعبير الفلاسفة، عن قضية حقوق الإنسان وكرامته.. ومن المهم أن نلاحظ أن هذه القضية كانت غائبة عن الثقافة العربية، وعن الفكر السياسي خاصة، ولا تزال غائبة، ولذلك كان من السهل تذويب الفرد في العشيرة والطائفة والجماعة الإثنية، وفي الحزب السياسي «الحديث». فحقوق الإنسان مبدأ عام، يتعين واقعياً في حقوق الطفل، وحقوق المرأة، وحقوق الجماعات القومية والدينية والمذهبية وغيرها. ومن ثم فإن أي انتقاص من حقوق هذه الجماعات أو من حقوق إحداها هو انتقاص من حقوق الإنسان بوجه عام، ونقص في مبدأ الدولة الوطنية بوجه خاص، ونقص في الوطنية الذي ليس له من تحديد موضوعي سوى عضوية المواطنين المتساوية في الدولة الوطنية.. الوطنية هي صفة الدولة بامتياز، والدولة الوطنية هي التي تمنح الأفراد هوياتهم الوطنية وتمنح الجماعات والفئات الاجتماعية والأحزاب والتيارات الفكرية المختلفة هويتها الوطنية.. الوطنية صفة للدولة وتحديد ذاتي لجميع مواطنيها، وهي كالإنسانية صفة غير قابلة للتفاوت والتفاضل. رابعاً: الدولة الوطنية هي التي تتبنى العمومية، فتكون الدولة بهذا التعريف، دولة جميع مواطنيها بلا استثناء ولا تمييز،لا دولة طبقة رأسمالية أو بروليتارية ولا دولة جماعة إثنية أو عشيرة أو جماعة إسلامية، ولا دولة حزب ولا دولة طغمة تحتكر السلطة والثروة والقوة. المجتمع المدني هو الذي ينتج الدولة السياسية أي الدولة الوطنية، تعبيراً عن كليته ووحدته التناقضية، بما هو مجتمع الأفراد المختلفين والجماعات المختلفة والطبقات أو الفئات الاجتماعية المختلفة ذات المصالح المتعارضة.الدولة باعتبارها تجريداً للعمومية، تنظر إلى مواطنيها على أساس المساواة، فلا تنحاز إلى الراشدين ضد الأطفال، مثلاً، أو على الرجال ضد النساء، أو على المسلمين ضد المسيحيين، أو إلى الأغنياء ضد الفقراء، أو إلى «التقدميين» ضد «الرجعيين » أو العكس. وهذا التحديد يضع حدّا فاصلاً، على الصعيدين المفهومي والواقعي، بين الدولة والحكومة أو السلطة السياسية التي، رغم عموميتها، تنحاز إلى طبقة اجتماعية معينة وتخدم مصالحها وتعمم أفكارها وتصوراتها وقيمها، ومن ثم فإن الحكومة ذات طابع مزدوج: طبقي خاص ووطني عام، ولذلك تظل الدولة السياسية تناقضاً في ذاتها بين الخاص والعام. هذا التناقض الجدلي هو ما يفتح إمكانية تحولها إلى دولة ديمقراطية أو انتكاسها إلى شكل من أشكال الديكتاتورية، والتداول السلمي للسلطة، بطريق الانتخاب الحرّ والمباشر، مرّة تلو مرّة، هو الحل العملي لمثل هذا التعارض ولغيره من التعارضات الملازمة للمجتمعات البشرية. فقد آن الأوان أن تكف النزاعات المسلحة والحروب عن تسوية التعارضات الاجتماعية، والتناقضات السياسية، وآن الأوان أن يكف العنف السياسي الذي تمارسه الجماعات الإسلامية طريقاً للوصول إلى السلطة، وفرض نموذجها المجتمعي بالقوة. خامساً: الدولة الوطنية هي التجسيد الواقعي لدولة القانون. فالقانون هو روح الشعب، وهو ماهية الدولة، والتعبير الصريح عن الإرادة العامة والحرّية الموضوعية، وهو الذي يفرض سيادته على الحاكم والمحكوم في آن معاً. ومبدأ الدولة الوطنية (الجمهورية) والدولة الديمقراطية على السواء هو «الفضيلة السياسية» التي تتجلى في مبدأ المواطنة، فإذا ما فسد مبدأ الدولة تغدو أفضل القوانين سيئة. ولعل غياب مبدأ المواطنة في حياتنا السياسية يقبع في أساس فساد الدولة وتحولها إلى دولة شمولية استباحت المجتمع، وحلّت فيها الامتيازات محل الحقوق، وعلاقات التبعية والولاء الشخصي محل القانون. الدولة الوطنية التي ماهيتها القانون لا تنحل كلياً في الجهاز، أي في السلطة التنفيذية، ذلك أن انحلال الدولة في الجهاز، يعني تقوية السلطة التنفيذية بوصفها سلطة تشريع وتنفيذ وقضاء إزاء الشعب، وضعف الدولة إزاء الخارج، كما هو سائد في معظم الدول العربية، وفي هذه الحالة تفقد الدولة عموميتها، ويفقد القانون سيادته على الحاكم والمحكوم. سادسا: الدولة الوطنية الحقة هي التي تؤمن بإنجاز الوحدة القومية، سواء بين دولتين عربيتين أو أكثر. فلا تزال الوحدة العربية تعتبر أهم عناصر الثورة القومية الديمقراطية، لأن الإمبريالية العالمية مازالت قوية، وكانت قد خرجت منتصرة من الحرب العالمية الثانية. وعلى الرغم مما أصاب بريطانيا وفرنسا من إنهاك فإن الإمبريالية الأمريكية كانت ومازالت في عنفوانها، وإذا كان ضعف بريطانيا وفرنسا، وطموح الإمبريالية الأمريكية، يسمح باستقلال قطري جزئي، فإن عملية الاستقلال هذه، لم تكن تعني أن الوحدة الشاملة مقبولة، فقد كان ضرورياً للإمبريالية أن يبقى العالم العربي هامشاً تابعاً، وإن بصيغ جديدة. سابعًاً: الدولة الوطنية هي التي تعتبر أن من مهام بناء الديمقراطية أيضاً بناء اقتصاد وطني مستقل ومكتفٍ ذاتياً، وقادر على الثبات في وجه التحديات الاقتصادية الإقليمية والعالمية. وفي هذا السياق يبدو التمرد على تقسيم العمل الدولي مدخلاً ضرورياً للفكاك من شباك التبعية التي فرضها هذا النمط من التقسيم.

742

| 28 فبراير 2015

كيف يجب أن يكون الاتحاد المغاربي في ذكراه الـ 26 ؟

أحيت الشعوب المغاربية يوم الثلاثاء 17 فبراير الجاري الذكرى الـ26 لتأسيس اتحاد دول المغرب العربي 17 فبراير عام 1989، بوصفه مشروع بناء إقليميا قديما متجذرا في ضمير شعوب المنطقة. ورغم أن الاتحاد المغاربي لم يحقق أيا من أهدافه، فإن الأحزاب الوطنية والديمقراطية، والنقابات العمالية، ومكونات المجتمع المدني الحديث، في بلدان المغرب العربي، تؤكد على ضرورة أن تفتح التطورات التي تعيشها المنطقة المغاربية منذ أربع سنوات الآفاق الواسعة لإنجاز مشروع الاندماج المغاربي الذي لا يمكن أن يُصْبِحَ تاريخياً وقابلاً للحياة خارج سياق مشروع الانتقال الديمقراطي لشعوب المغرب العربي، من أجل تحقيق الحرية، والكرامة، والعدالة الاجتماعية، الأمر الذي يتطلب توافر العوامل التالية: 1-إن مشروع إعادة بناء الاتحاد المغاربي يحتاج بالضرورة إلى مشروع سياسي وثقافي ملازم له، وأكثر من أي وقت مضى، يبدو المدخل الضروري لإعادة هذا البناء هو تنمية الوعي الديمقراطي لدى الشعوب المغاربية، وضرورة المضي قدما في تنقية الأجواء السياسية المغاربية، وتغليب عوامل التكامل والوحدة والديمقراطية، على عوامل التجزئة والتأخر الإيديولوجي السياسي والاستبداد. والفكر المغاربي مطالب اليوم، وفي ظل التغيرات التي تعصف في العالم بمعرفة الواقع بأبعاده الثلاثة: الزمانية (التاريخية) والمكانية (العالمية) والمنطقية (العقلانية) دون رغبات أو مشاعر وهو مطالب قبل كل شيء بناء هذا كله وغيره على مبدأ الإنسان ومفهوم التاريخ وفكرة التقدم.2- إعادة إنتاج الحياة النقابية والسياسة في صلب المجتمعات المدنية المغاربية بوصفها فاعليتها الخاصة المميزة، وبوصفها حقل العام الذي تتخذ فيه التعارضات الاجتماعية طابعاً عاماً، وتحل بالطرق السلمية التوافقية المحكومة بنسبة القوى الاجتماعية. فالسياسة هي الحقل الذي يتخذ فيه التنافس بين الأفراد والتعارض بين الاتجاهات الإيديولوجية والأحزاب السياسية طابعاً مدنياً وحضارياً سلمياً، بعد أن تكون هذه التناقضات والتعارضات والصراعات قد اتخذت صفة ثقافية وإيديولوجية، وألا تنحط السياسة إلى حرب ويفقد المجتمع لغة التفاهم والحوار وشروط التوافق والإجماع على الصالح العام، والمصلحة الوطنية/المغاربية.3- إعادة بناء الدولة الوطنية في منطقة المغرب العربي على أسس ديمقراطية بوصفها تعبيراً حقوقياً وسياسياً عن هوية المجتمعات المغاربية. ولا يتحقق ذلك إلا بسيادة القانون، وفصل السلطات، واستقلال مؤسسات المجتمع المدني على قاعدة حرية الفرد وحقوق الإنسان والمواطن. 4-والحال هذه لا يمكن إعادة بناء مشروع الاتحاد المغاربي إلا عبر العمل بصورة جدية لتنشيط مؤسسات وهيئات اتحاد دول المغرب العربي، وتفعيل اللجان المشتركة، وتحيين الاتفاقيات المغاربية وتطبيقها، والسعي إلى توحيد سياسات الأقطار المغاربية سواء المتعلقة بالدبلوماسية المغاربية أو بمقتضيات التكامل الاقتصادي والبناء الداخلي. وهذا العمل يقتضي مشاركة النقابات العمالية، ومكونات المجتمع المدني في البلدان المغاربية، في عمل سياسي ديمقراطي يمارسه المجتمع في مؤسساته المستقلة بعيد عن هيمنة السلطات الحاكمة. ذلك أن مشروع بناء الاتحاد المغاربي من هذه الزاوية هو مشروع بناء ديمقراطي بمعنى كونه مشروع المجتمعات المغاربية التي يشعر فيها كل مواطن مغاربي بأن الاتحاد المغاربي يجسد صورته السياسية وملاذه وضامن حقوقه وحريته. والاتحاد المغاربي هو جنين لوحدة عدة دول عربية في المستقبل، أي أنه يقبل الاندماج في مشروع وحدوي، بغض النظر عن الشكل السياسي لهذه الوحدة، سواء اندماجية في دولة واحدة مركزية أو فيدرالية، أو تكامل اقتصادي الخ.5-إن النجاح في تحقيق الاندماج في المشروع المغاربي يعني واقعياً حرية انتقال عوامل الإنتاج من دولة إلى أخرى، أو بين الدول المغاربية الأخرى، ونشوء نوع من تقسيم عمل مغاربي تحدده الشروط الموضوعية والمصالح الحقيقية لشعوب المنطقة، وحرية الاستثمار في كل البلدان المغاربية من قبل رجال الأعمال والشركات الكبيرة والمتوسطة والصغيرة، وحرية تنقل السلع والأفراد، وتقوية التجارة البينية داخل الإقليم المغاربي الذي يضم البلدان الخمسة المشكلة له. وهذا يؤدي موضوعياً إلى نشوء سوق مغاربية موحدة قادرة على إقامة علاقات ندية أو متوازنة مع التكتلات الاقتصادية الأوروبية ومع السوق العالمية بوجه عام. إذاً فالمطلوب هو تعزيز الشراكات الاقتصادية بين البلدان المغاربية، والعمل على بناء تكتل اقتصادي إقليمي موحد قادر أن يدخل حلبة المنافسة الدولية أمام التكتلات الاقتصادية العملاقة.6-استنهاض الحركات النقابية والشعبية داخل كل بلدان المغرب العربي، ولهذه الحركات نزوع أصيل إلى التحرر والتقدم تجلى دائماً في نزوعها الوحدوي الديمقراطي من أجل بناء الاتحاد المغاربي. فالحركات النقابية والشعبية هي التي تنتج السياسة وتصنع الأحزاب، أما الأحزاب فلا تستطيع صناعة حركات نقابية وشعبية.7-وترى النقابات العمالية المغاربية، والأحزاب الوطنية والديمقراطية في بلدان المغرب العربي، أن الانتفاضات المغاربية التي شكلت منارة حقيقية لما بات يعرف بـ«الربيع العربي » لم تقم بتغيير الاختيارات الاقتصادية والاجتماعية في البلدان المغاربية، وإطلاق أنموذج جديد من التنمية يقطع مع نهج التبعية، ويكَّسِرُ الأنماط الاقتصادية السائدة،لاسيَّما تلك القائمة على أساس التحرير الاقتصادي، والخوصصة الرأسمالية، والاندماج في نظام العولمة الليبرالية الجديدة، الذي خدم بدرجة رئيسة الفئات الرأسمالية الطفيلية غير المنتجة.

623

| 20 فبراير 2015

الطبقة المتوسطة الفقيرة تبحث عن ممثلها في تونس (1)

لا تزال الطبقة المتوسطة التونسية بمختلف شرائحها تقف في صلب جميع الإستراتيجيات السياسية للأحزاب التونسية، لاسيَّما في حالات الأزمات التي تعيشها البلاد (تحديات الإرهاب والأزمة الاقتصادية والاجتماعية)، تتراوح مواقفها بين التضامن مع الطبقات الشعبية والتحالف مع البورجوازية الكبيرة. وقد شهدت هذه الكتلة المتنافرة ذات الدوائر غير المحدّدة تغيّراً جذرياً في صورتها: ففي الخيال الشعبي، حلّ الشاب خرّيج الجامعة ومتصفّح الإنترنيت محلّ الملاّك الصغير ذي الأفق الضيّق. ومن النضالات ضد الاستعمار إلى الثورة التونسية، كانت الطبقة المتوسطة حمّالة للمشاريع الوطنية والتقدمية إلى الأمام.ومع تفاقم أزمة الديون الخارجية التونسية في نهاية العقد الثاني من الثمانينيات وجدت البلاد التونسية نفسها عاجزة عن مواجهة الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، فلم تجد من سبيل لها سوى تطبيق برنامج التكيف الهيكلي للاقتصاد الذي فرضه صندوق النقد الدولي على كل بلدان العالم الثالث، والذي يستند من حيث الأساس النظري على فلسفلة الليبرالية الجديدة التي يمكن تلخيصها في جملة واحدة، وهي: السوق هي الخير... والدولة هي الشر.. فانخرطت الطبقة المتوسطة التونسية في العولمة الليبرالية منذ بداية التسعينيات من القرن الماضي، حيث جنت البلاد ثروات جلبتها تلك العولمة، واستفادت منها الطبقة المتوسطة الاستهلاكية بسبب التوسّع في سياسة الإقراض لشراء السيارة والمنزل، وحلّ في المقابل الفقر والبطالة ليهمّشا محافظات تونسية بأكملها من جراء انتهاج سياسات تعمق حجم الاختلال التنموي بين حمل شهائد جامعية إلى مستويات غير مسبوقة(250 ألف جامعي عاطل عن العمل)، وسوء الأوضاع الاقتصادية في المحافظات المحرومة والمهمشة في الوسط الغربي والجنوب، وتحوّل الفوارق الطبقية بين الأغنياء والفقراء إلى هوة سحيقة تطال كل مناحي الحياة، وأهمل أهمية العدالة الاجتماعية كمسألة سياسية أساسية لا يجوز التهاون فيها، واعتمد على السياسات النيوليبرالية الجهات والمناطق. وتجاهل النظام الديكتاتوري السابق وصول معدلات البطالة بين الشباب الذي من دون ضوابط ومن دون التفات كافٍ إلى قضايا توزيع الثروة والبطالة والأمية والفقر... إلخ. وليس عجيباً أنه في ظروف سيطرة الرأسمالي الأجنبي، والاستعمار الاقتصادي والسياسي على تونس، أن يستلزم تشكل وظهور الطبقة البرجوازية الطفيلية طحن الطبقة المتوسطة. وفي الحقيقة التاريخية لا يجوز أن نُحمّل العولمة الليبرالية المسؤولية الكاملة في تدهور أوضاع الطبقة المتوسطة في تونس، ذلك أن جانبا من هذا التدهور حصل بالفعل إبان الأزمة الاقتصادية التي سبقت الموافقة على تنفيذ برامج الإصلاح الهيكلي. ولما كانت الطبقة المتوسطة طبقة غير متجانسة على صعيد شرائحها المختلفة بسبب التفاوت الواضح في مستويات دخولها ومستويات معيشتها ووزنها الاقتصادي والاجتماعي ووعيها الطبقي، فإن سياسات العولمة الليبرالية الجديدة قد أثرت على شرائحها بشكل متباين لجهة السقوط الاجتماعي المفاجئ كما هو الحال في تونس بعد الثورة. وفي الوقت الذي كان فيه التونسيون يُدعون إلى صناديق الاقتراع في خريف العام الماضي، ويبدو من المسلَّم به أنّه سيقوم تحالفٌ بين الطبقات الشعبيّة والطبقة المتوسطة بالنسبة إلى قسمٍ كبير من اليسار؛ تحالفٌ يؤيّد «الجبهة الشعبية» غايتها أن تكون، بحسب التوجّهات، ضدّ الأحزاب اليمينية الليبرالية والدينية الليبرالية، أو بكلّ بساطة «يساريّة»، صوتت الطبقة المتوسطة التونسية بقوة لمصلحة «حزب نداء تونس» في الانتخابات التشريعية الأخيرة، ولزعيمه السيد الباجي قائد السبسي في الانتخابات الرئاسية التي فاز بها، لقناعتها بأن المكسب الوحيد للثورة التونسية الذي تحقق في عهد حكم الترويكا بقيادة حركة «النهضة» الإسلامية، هو تعميم الفقر والبؤس على الغالبية العظمى من الشعب التونسي، بما فيها الطبقة المتوسطة. في حكومات الترويكا تراجع الاقتصاد التونسي بشكل مخيف، حيث وصل معدلات التضخم إلى نسبة 5.6 في المئة، وانهار الدينار أمام الدولار الذي أصبح يساوي 1.9 دينار، لاسيَّما أن العملة الوطنية هي عبارة عن مرآة للوضع المالي والاقتصادي لأي بلد وباعتبار صعوبة الأوضاع المالية والاقتصادية في تونس، فإن النتيجة الحتمية أن تتدهور قيمة الدينار مما يجعل عملية الاستثمار مكلفة. كما وصلت البطالة إلى نحو مليون عاطل عن العمل، وارتفعت الأسعار بمستوى غير مسبوق، في مقابل ارتفاع نسبة من وقعوا تحت خط الفقر31 في المئة، وتدنت قدرة الدولة على تقديم الخدمات للمواطنين، في الوقت الذي كانت الدولة التونسية تتفاخر بأنها تمتلك أحسن إدارة ذات كفاءة عالية على صعيد العالم العربي والإسلامي. ولا شك أن التهرب الضريبي له انعكاسات سلبية على الاقتصاد التونسي خاصة على مداخيل الدولة، لاسيَّما إذا علمنا أن 70في المئة من مداخيل الدولة متأتية من الأداءات الموظفة على الأجراء بينما لا تدفع مؤسسات بعينها ـ رغم مرابيحها الضخمة ـ ما يوظفه القانون من أداءات، إضافة إلى أنه من جملة 3.8مليون نشيط نصفهم ينتمون إلى الاقتصاد الموازي (التهريب) غير المهيكل وهي خسارة أخرى للخزينة.. ويحتكر الاقتصاد الخفي 53.50 في المئة من السوق التونسية، حسب دراسة نشرها البنك الدولي خلال السنة الماضية عن تونس. ويضم في تركيبته فروعاً من النشاط من الباعة المتجولين في أسفل الهرم إلى الشركات غير المقيمة (الأوفشور)، والشركات المصدرة كليا (تسوق جزءا من إنتاجها في السوق المحلية بشكل غير قانوني) والتي تستنزف بشكل كبير رصيد تونس من العملة الصعبة في ظل مرونة عجيبة من القانون التونسي.. ولكن في قمة الهرم يتربع بعض المتنفذين، الذين يتقاسمون مناطق النفوذ والنشاط. ويمثل الاقتصاد الخفي حسب الدراسة المشار إليها 38 في المئة من الناتج الداخلي الخام، ويحتكر 42.2 في المئة من اليد العاملة في شكل تشغيل هش، وثلث النسيج المؤسساتي (مؤسسات صغرى وميكروية يبلغ عددها 52400وحدة حسب بيانات السجل التجاري). وينشط الاقتصاد الخفي في مجال الاحتكار، إذ تقدر القيمة الإجمالية لحصته من المداخيل من هذا الباب بأكثر من 30 في المئة، باعتبار أن زيادة الأسعار لأكثر من عشرين مادة أساسية قد بلغ معدلها سنة 2012، 27 في المئة. ويحتكر الاقتصاد الخفي حسب تقديرات الخبراء 35 في المئة من التداولات المالية في تونس، كما أنه من المؤكد أن دوائر متنفذة مالياً وسياسياً تقف وراءه وتحميه وتوفر له الغطاء المناسب سياسياً وأمنياً وحتى إعلامياً. ويقدر معدل النزيف من الموارد المالية حسب بيانات البنك المركزي التونسي خلال الأربع السنوات الأخيرة بين 4200 مليون دينار إلى 4700 مليون دينار.هذا النزيف يتحول جزء منه إلى الفراديس الضريبية، لاسيَّما سويسرا، حيث تبين الإحصاءات أن حجم تناقص رصيد تونس من العملة الصعبة التي تتداول داخل منظومة البنوك التونسية بلغت سنويا11268مليون دينار (باعتماد سعر التحويل).. وتدل هذه الأرقام أن معدل تبييض الأموال أو رسكلتها في تونس ناهز قيمة 2150مليون دينار سنوياً، باعتماد تدقيق وتحليل معطيات الوضع النقدي وتغييرات مؤشراته العامة. ويتهرب الاقتصاد الخفي من دفع الضرائب للدولة التونسية، بما أن تسويق سلعه يتم عادة خارج الإطار القانوني، إذ إن العائد الجبائي للاقتصاد الخفي لا يتجاوز 1.70 في المئة (مذكرة تنفيذ ميزانية الدولة عن سنة 2014 الصادرة في شهر يناير 2015). أما كتلة الأجور في الاقتصاد الخفي من إجمالي المداخيل، فهي لا تمثل سوى 145 في المئة. كما لا تسهم منظومة الاقتصاد الخفي إلا بنسبة 7 في المئة من القيمة المضافة الاقتصادية العامة(باعتماد سنة 2011 كنموذج).. وتستخدم الموانئ كممر رئيس للتهريب، إذ إن 80 في المئة من التداولات تتم عبر الموانئ، بينما 20 في المئة تتم عبر المعابر الحدودية الليبية والجزائرية.ويقتصر ريع مداخيلها على عائلات المناطق الحدودية. ويلمس المراقب للمشهد السياسي التونسي بوضوح أن الحكومة الجديدة التي ستسير في نهج الليبرالية الاقتصادية المندمجة في نظام العولمة الليبرالية المتوحشة، والحال هذه، فهي ستسير في النهج الاقتصادي نفسه، ومنوال التنمية نفسه اللذين سارت فيهما معظم الحكومات التونسية منذ بداية السبعينيات من القرن الماضي وحتى يناير 2015، سيزيدان في إفقار الطبقات الشعبية، والشرائح المتوسطة والدنيا من الطبقة المتوسطة.ومن هنا، يبدو جليا أن الطبقة المتوسطة في تونس التي انحازت بقوة لـــ «حزب النداء» الذي قدم نفسه على أنه حامي المشروع الوطني الحداثي في تونس، تبحث في الوقت الحاضر بعد خيبة أملها بسبب إشراك حركة النهضة في الحكم، وهيمنة التوجه الليبرالي للحكومة التونسية على صعيد الاقتصاد، تبحث عن حزب جديد قادر أن يعبر عن تطلعاتها وطموحاتها. فهل تمتلك الجبهة الشعبية القدرة السياسية والفكرية الحداثية، والمشروع الوطني الديمقراطي، لكي تجلب إليها الطبقة المتوسطة التي طحنتها العولمة الليبرالية؟ رغم احتداد الأزمة الاقتصادية في تونس، فإن معوّقات التحالف بين الطبقات الشعبية والطبقة المتوسطة تبقى هي نفسها. فالرهبة التي تثيرها عند شرائح الطبقة المتوسطة مشاريعٌ يعتبرونها راديكالية جدّاً – لاسيَّما من اليسار، أي تلك التي تهدّد مثلاً الملكية الخاصة أو أهميّة الادّخار - تبدو وكأنّها تشكّل دائماً معطى لا يتغيّر. لكن في مراحل الأزمات الحادة، تشجّع الخشية من الانحدار الطبقيّ بالنسبة للطبقة المتوسطة، لاسيَّما عندما تبدو الحكومة التونسية الجديدة عاجزةً إزاءه (هذا عندما لا تكون هي أصلاً مهندسها بشكلٍ مباشر).. تشجّع التحالفات أو اللقاءات بين الطبقات الشعبية والطبقة المتوسطة حول أهداف الإنقاذ العام للثورة التونسية، والتمسك بتحقيق أهدافها، خاصة في مجال بناء اقتصاد وطني منتج، وتحقيق العدالة الاجتماعية. وبدلاً من درسٍ عن الواقعية محبطٍ قليلاً، تقدّم دراسة التجارب الماضية إذن عدداً من المفاتيح التي تساعد في تحديد شروط نجاح تحالفٍ من هذا النوع، سواءً أكان اجتماعياً (مصالح اقتصادية مشتركة نسبياً) أو سياسيّا (رغبة الأغلبيّة من المجتمع التونسي في طرد اليمين بشقيه الليبراليي الديني).. وللمفارقة، فإن تشدّد الفوارق بين الطبقات، وانقطاع الحركيّة الاجتماعية، والطابع الأكثر أقلويّة للنخبة التي تسيطر على الدولة دون الانشغال بمصير الشعوب، كلّ هذا من شأنه أن يشجّع على وحدة مصالح، كثيراً ما أسقطها التاريخ. في الواقع التونسي لا تزال القيادات اليسارية المتنفذة داخل الجبهة الشعبية سجينة الأطروحات الماركسية التقليدية، ولم تطور خطابها لكي يلامس مسائل العصر الحديث، عصر العولمة الليبرالية، لاسيَّما في المهمة المركزية الملقاة على اليسار والمتمثلة في توفير مقومات بناء جبهة ديمقراطية واسعة يكون عمودها الفقري الطبقة المتوسطة - لا «جبهة شعبية» ذات طابع يساري ضيق- تشكل نوعاً من الكتلة التاريخية التي تهدف إلى منع اليمين الليبرالي واليمين الديني، من الهيمنة على مقدرات البلد ودفع البلاد نحو ثنائية موهومة لن تنتهي إلا بتحالف جديد، أو لنقل تقاسم السلطة بين حركة النهضة وحزب نداء تونس. لذلك لا تزال الطبقة المتوسطة المطرودة من السلطة بصفتها الاجتماعية، والفئات الشبابية المهمشة، والعمال والفلاحون هم القوى الاجتماعية المؤهلة لحمل المشروع السياسي الديمقراطي في زمن الثورة التونسية المغدورة، على الرغم مما أصابها من ضعف وتهتك... لذلك لابد أن تتصدى الطبقة المتوسطة باعتبارها تشكل العمود الفقري للمجتمع التونسي على وهنها، وكتلة الإنتلجنسيا لقيادة المشروع الوطني الديمقراطي، وعلى مدى نجاحها في إعادة إنتاج وعي سياسي حديث ديمقراطي، وعلى مدى جسارتها، تستطيع أن تستقطب العمال والفلاحين والفئات المهمشة لمصلحة تحقيق تحالف ديمقراطي، ومن أجل تحقيق أهداف الثورة، في بناء الدولة الديمقراطية، والعدالة الاجتماعية.

1161

| 13 فبراير 2015

الرابحون و الخاسرون في الحكومة التونسية الجديدة

بعد مخاض عسير أُعلن رسميا في تونس يوم الإثنين 2 فبراير 2015 عن تشكيل الحكومة الجديدة، التي طال انتظارها، منذ نهاية العام الماضي، ويقودها السيد الحبيب الصيد في قصر القصبة، الذي يعتبر أحد الرؤساء الثلاثة في عهد الجمهورية الثانية. ومن المعروف عن رئيس الحكومة الجديد، أنه كان رئيس ديوان الرجل القوي في زمن الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي ووزير الداخلية حينها عبد الله القلال، لكن هاهو يجد نفسه الآن مع بداية الجمهورية الثانية كواحد من بين الرؤساء الثلاثة الأقوياء، في دولة مازالت تبحث عن رجل قوي بالفعل، يقودها ويعيد لها تألقها وهيبتها.رغم أن تونس بعد أن استكملت مرحلة الانتقال الديمقراطي بحاجة ماسة إلى رجل دولة قوي يقودها في هذه المرحلة الصعبة من تاريخها، فإن النخب التونسية ومعها معظم الأحزاب السياسية تقر بأن السيد الحبيب الصيد ليس هو الرجل القوي في زمن الوهن السياسي والارتباك الحزبي، بل إنه يعتبر رجل دولة خبير في إدارة الشأن العام، ومطلع على الملفات الحساسة كالأمن والاقتصاد، ورجل هذه المرحلة التوافقية، ويقبل تطبيق التعليمات من دون مجادلة، لأن الرجل القوي في تونس يظل الرئيس الباجي قائد السبسي الراغب في ترك بصمته التاريخية على أنه منقذ تونس في زمن استعادة هيبة الدولة.وكان للقاء الذي جمع بين الشيخين الباجي قائد السبسي وراشد الغنوشي في باريس يوم 13 أغسطس 2013، هو الذي رسم المشهد السياسي التونسي الراهن، وهو أيضا الذي أسس وشكل المرجعية الحقيقية للشراكة في الحكم بين النداء والنهضة، والباقي تفاصيل في السياسة.فتونس محكومة بقرار إقليمي ودولي- لاسيَّما أن الولايات المتحدة الأمريكية تريد مشاركة النهضة في الحكومة- إلى أن يتم إعادة بناء الدولة الوطنية الديمقراطية التعددية في عهد الجمهورية الثانية. فالشيخ راشد الغنوشي كان يريد مشاركة حركة النهضة في الحكومة الجديدة، من أجل تخفيف الضغوطات عليه من داخل حركته، وفي سبيل بقائه على رأس الحركة في مؤتمرها القادم!! وفي المقابل فإن الباجي قائد السبسي مقتنع تمام الاقتناع بصعوبة و«عسر» المرحلة القادمة من جميع النواحي الاقتصادية والاجتماعية والأمنية ومن «السذاجة» بالنسبة إليه أن يحمل حزبه «وزْر» تلك الأيام القادمة، ومن مصلحته أن يحمل معه تلك «الأوزار» طرف آخر له ثقله في الشارع حتى لا يُنعت حزب نداء تونس بالفشل، مثل سابقيه!! ويريد الباجي قائد السبسي تحقيق المصالحة الوطنية، باعتبارها مطلباً ملحا للدساترة والتجمعيين الذين ينتمون إلى النظام السابق، والذين يشكلون العمود الفقري لحزب«نداء تونس»، وأوصلوه إلى قبة البرلمان في الانتخابات التشريعية الأخيرة، و«أوصلوا» أيضاً قائد السبسي إلى «أمنية» العمر وهي كرسي الرئاسة بقرطاج. فالدستوريون والتجمعيون يريدون قانون «المصالحة الوطنية»الذي لن يمر إلا إذا كانت النهضة مشاركة في الحكم، لكي يضعوا حدّاً للمضايقات والتتبعات والتجميد والتجويع والشيطنة التي تعرضوا لها منذ أربعة أعوام كاملة.ويهيمن على تشكيل الحكومة الجديدة الائتلافية بقيادة الحبيب الصيد، والتي تضم 27 وزيراً و14 كاتب دولة (وزير دولة) بينهم 8 نساء (3 وزيرات و5 كاتبات دولة)، حزب «نداء تونس» الذي أسسه السيد الباجي قائد السبسي، الفائز في الانتخابات التشريعية (86 مقعداً)، إذ حظي بـ6 وزارات بينها الخارجية التي تم إسنادها إلى الطيب البكوش، الأمين العام للحزب. وتم إسناد وزارات الداخلية والعدل والدفاع إلى شخصيات مستقلة ظاهريا،وليس لها انتماءات سياسية معلنة. وحصلت حركة «النهضة» التي احتلت المرتبة الثانية في الانتخابات (69 مقعداً) على وزارة التشغيل و3 كاتبات دولة (وزارات دولة).حيث إن المهم بالنسبة إليها ليس عدد الكراسي وعدد الوزارات التي حصلت عليهم، وإنما كسر هذا التقليد المسموم.. تقليد تحالف اليسار والدساترة على الإسلاميين، من أجل صناعة مشهد جديد.. مشهد لا يكون فيه الإسلاميون ضحية. وتعتبر حركة النهضة من أكبر الرابحين في تشكيل حكومة الحبيب الصيد، إذ استطاعت أن تفرض إرادتها، وحققت شروطها، وعادت بقوة إلى الحكومة الائتلافية مع أهم خصومها السياسيين، حتى وإن كانت مشاركتها في الحكومة «رمزية».فحركة النهضة لم تقبل بتلك المشاركة الرمزية إلا بعد أن اشترطت موافقتها على كل الوزراء، وتحييد وزارات سيادية، هي: العدل والداخلية والدفاع.وشارك في هذه الحكومة الجديدة أيضا كل من حزب الاتحاد الوطني الحر» (ليبرالي) الذي أسسه في 2011 رجل الأعمال الثري سليم الرياحي، والذي حصل على نحو 16 مقعدا في الانتخابات الأخيرة وحل ثالثاً. ورغم محدودية تمثيل حزب «آفاق تونس» الليبيرالي في البرلمان، الذي حل خامساً بنحو (8 مقاعد)، فهو يعتبر الحزب الثاني في ترتيب الرابحين، إذ توصل بفضل حنكة قيادته المرتبطة بالمؤسسات الدولية المانحة، والتي تطرح تطبيق الليبرالية المتوحشة، أن يحصل على ثلاث وزارات مهمة، وهي التنمية والاستثمار والتعاون الدولي (ياسن إبراهيم الأمين العام للحزب)، و المرأة والأسرة والطفولة، والاتصال والاقتصاد الرقمي.فيما لم يتمثل حزب «الجبهة الشعبية» اليساري (15 مقعدا) الذي حل رابعاً في الانتخابات التشريعية في الحكومة.وكانت «الجبهة الشعبية» أعلنت في وقت سابق، رفضها المشاركة في أي حكومة تكون حركة «النهضة» جزءاً منها. وبحسب الدستور التونسي الجديد، يتعين أن تحصل حكومة الحبيب الصيد قبل مباشرة عملها على ثقة الغالبية المطلقة من نواب البرلمان، أي 109 من إجمالي 217 نائبا. ومنح البرلمان في جلسته التي عقدت يوم الأربعاء 4 و5 فبراير الجاري الثقة للحكومة الجديدة من دون عناء، لأن أحزاب «نداء تونس» وحركة «النهضة» و«الاتحاد الوطني الحر» و«آفاق تونس» تملك مجتمعة 179 مقعدا. أما الجبهة الشعبية فقد أعلنت مسبقاً وعلى لسان ناطقها الرسمي، أنها لا يمكن أن تصوّت لحكومة فيها وزراء ممن عملوا في نظام بن علي الذي ثار ضده الشعب أو في ائتلاف الترويكا الذي أوصل البلاد إلى حافة الانهيار. وفضلاً عن ذلك، لن تصوت« الجبهة الشعبية» لحكومة لا يحتوي برنامجها المباشر على الأقل على إجراءات ملموسة لفائدة الشعب في مجالات الأسعار والأجور والدخل والأمن وكذلك إجراءات للبحث عن الحقيقة في قضية الشهداء بمن فيهم شهداء الجبهة الشعبية الذين ستحيي في الأيام القليلة القادمة الذكرى الثانية لاغتيال أحدهم وهو الشهيد شكري بلعيد زعيم «حزب الوطنيين الديمقراطيين الموحد» وأحد أبرز قيادات الجبهة الشعبية.يجمع المحللون الملمون بالشأن التونسي أن التركيبة الحالية للحكومة الجديدة لا تمثل الخيار الأمثل لمواجهة تحديات المرحلة المقبلة، ولاسيَّما في شقها المتعلق بمحاربة الإرهاب، فالذي تبوأ مركز القيادة في وزارة الداخلية، وهي وزارة سيادية بامتياز، وحسب آراء القوى السياسية الديمقراطية في البرلمان التونسي هو تجمعي من المنظومة القديمة، وكان من القضاة الحاضرين في الانقلاب على جمعية القضاة، كما تعرض للعقاب والطرد من المواطنين بعد الثورة، وتم تعيينه في منصبه والياً من قبل السيد الباجي قائد السبسي في حكومته الأولى وكان طيعاً للنهضة.وقد تذهب بعض التحاليل إلى الإقرار بوجود محاولة ولو جزئية لتحييد أهم وزارات السيادة،على الأقل بعض وزارات السيادة المحورية لدى حركة النهضة كالداخلية والعدل نظراً لعلاقتها بمسألة المحاسبة على أخطاء المرحلة الانتقالية، ولاسيَّما فيما يتعلق بالملفات الحارقة في صلب وزارة الداخلية: الإرهاب وتشجيع ما يسمى بـ «المجاهدين» للقتال في سورية، ومنها أيضاً العلاقة مع النقابات الأمنية وموضوع الأمن الموازي وإصرار عديد الكوادر الأمنية والنقابية على وجود اختراقات في وزارة الداخلية.ويتساءل هؤلاء المحللون: كيف سيتمكن وزير الداخلية الجديد من التعاطي مع جملة الملفات المعروضة عليه في ظل بوادر اعتراض على ترشيحه بلغت حدّ التشكيك في شخصه وفي انتماءاته؟.وكان أقوى تصريح معارض لشخص وزير الداخلية المقترح صدر عن القاضية كلثوم كنو التي ترشحت في الانتخابات الرئاسية، إذ قالت: «وزير الداخلية ناجم الغرسلي أسوأ اختيار قام به رئيس الحكومة، إنه قاض غير مستقل لعب أدوارا قذرة في السابق في هرسلة زملائه القضاة الشرفاء.. وهو من الانتهازيين ولا أثق فيه أبداً ولا أطمئن لأدائه فهو من جماعة قلابة الفيستة (الجاكيت).. » على حد تعبيرها.في مواجهة هذا الوضع يتساءل المدافعون عن أهداف الثورة التونسية: ماذا نقول للأجيال التي ناضلت من أجل الديمقراطية والعدالة الاجتماعية، وحرية التعبير والتفكير وإرساء قواعد التعامل الديمقراطي وتكافؤ الفرص في الدّولة والأحزاب،ورفعت شعارات فصل الحزب عن الدولة، وتكريس مبدأ الفصل بين السلطات، واستقلال القضاء، وترسيخ مفهوم دولة القانون والمؤسّسات أي كل التقاطعات والشعارات والأحلام الموءودة التي طفت إثر 14 يناير2011 وامتزجت بشعار الكرامة الوطنية كي تصبح رايات لبناء مستقبل البلاد والحفاظ على المكتسبات الّتي حقّقتها الأجيال السّابقة، فأين ربيع الشعارات الّتي حملتها الأجيال، بعد سنوات أربع في ربوع تونس والّتي تجمّعت كلّها حول بناء أسس الجمهورية الثانية؟الامتحان الحقيقي للحكومة الجديدة يتمثل في قدرتها على مواجهة التحديات الداخلية في شقيها الاقتصادي والأمني التي تعانيها تونس، فهل ستقدم الحكومة الجديدة «حلولاً سحرية» للأزمة الاقتصادية الناجمة بصورة رئيسة عن وصول الأنموذج التنموي السابق الذي كان سائدا منذ أكثر من خمسة عقود من الزمن إلى مأزقه الأخير مع اندلاع الثورة، الأمر الذي بات يتطلب من حكام تونس الجدد، انتهاج خيار جديد من التنمية قادر على تحقيق نسب نمو مرتفعة، لا يدفع المواطن البسيط فاتورته من «دمه».لكن المراقب للمشهد السياسي التونسي، يلمس بوضوح أن الأطراف الأساسية التي تتكون منها هذه الحكومة الجديدة، تتبنى نهج الليبرالية، وتالياً فإن الحكومة الجديدة موضوعة – رغم إرادتها- أمام خيارات صعبة، ولاسيَّما فيما يتعلق بتطبيق الإصلاحات الهيكلية التي تشترطها المؤسسات الدولية المانحة (صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، ومنظمة التجارة العالمية) لمعالجة الواقع الاقتصادي التونسي.فالحكومة الجديدة ستسير في نهج الليبرالية الاقتصادية المندمجة في نظام العولمة الليبرالية المتوحشة، والحال هذه، فهي ستسير في النهج الاقتصادي نفسه، ومنوال التنمية نفسه اللذين سارت فيهما معظم الحكومات التونسية منذ بداية السبعينيات من القرن الماضي وحتى يناير 2015، بصرف النظر عن طبيعة النظام التي اشتغلت تحت لوائه هذه الحكومات المتعاقبة... وهذا النهج الاقتصادي القديم – الجديد يتناقض بصورة جذرية مع أهداف الثورة التونسية المتمثلة في تحقيق العدالة الاجتماعية، وانتهاج تونس أنموذجاً جديداً للتنمية يحمي القدرة الشرائية للمواطن، ويسمح بتكوين الثروة، وتطبيق مبادئ السوق الاجتماعي،وإنقاذ البقية الباقية من الطبقة المتوسطة عماد أي اقتصاد قوي في العالم.أنموذج من التنمية جديد قادر على إخراج تونس من الوضع الاقتصادي المتأزم، ويكون قادراً على مواجهة «غول» الفقر الذي بات يضرب الطبقات الشعبية، والشرائح المتوسطة والدنيا من الطبقة المتوسطة.

703

| 06 فبراير 2015

تحديات ما بعد فوز حزب «سيريزا» في اليونان (1)

دخلت اليونان في مرحلة سياسية جديدة، عبر الفوز الذي حققه حزب «سيريزا» اليساري الراديكالي بزعامة اليكسيس تسيبراس، الذي أصبح الحزب الأول في اليونان من خلال فوزه في الانتخابات التشريعية الأخيرة. يتفق المحللون في أوروبا أن سياسة التقشف المفروضة من قبل الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي هي التي أطاحت بالحزبين الرئيسيين في اليونان، وهما حزب الديمقراطية الجديدة، وحزب «الباسوك» الاشتراكي، وبالمقابل فإن النجاح الكبير الذي حققه حزب «سيريزا» اليساري المتطرف بزعامة اليكسيس تسيبراس، يعود في جزء أساس منه إلى برنامجه الراديكالي الذي تقدم به إلى الناخبين، والمتمثل بشكل رئيسي في مطالبته بتجميد خدمة الدين العام، وإلغاء قسم من الدين العام وإضافة بند في الاتفاق مع الاتحاد الأوروبي يتعلق بالنمو، وطرحه معالجة الوضع الاقتصادي المتردّي لبلد يعيش أزمة بطالة خانقة، والتفرغ لمعارك شرسة مع برلين وبروكسل رفضاً للتقشف وشروط الدائنين الدوليين، إضافة إلى مطالبته على رأس أولوياته في السياسة الخارجية: «فك الارتباط مع الناتو وإغلاق القواعد العسكرية الأجنبية على التراب اليوناني»، في إشارة إلى القاعدة البحرية الأمريكية في جزيرة كريت، و«إنهاء التعاون العسكري مع إسرائيل».وإذا كان زعيم حزب«سيريزا» السيد اليكسيس تسيبراس وعد بإبقاء اليونان في منطقة اليورو، وقدم خطابا معتدلاً خلال الأسابيع القليلة الماضية، فإن تعيينه رئيساً للحكومة الجديدة يمثل التشكيك الأكثر وضوحا في طريقة إدارة الأزمات التي اعتمدها الاتحاد الأوروبي منذ سنوات عديدة. ويمثل الملف الكبير الذي سيكون على جدول المحادثات مع «الترويكا» من الدائنين تسديد الديون العامة اليونانية. التي بلغت 321.7مليار يورو (175 من الناتج المحلي الإجمالي)، وحول شروط الدفع لأكثر من 7 مليارات يورو من المساعدات المالية التي تحتاجها اليونان خلال الأشهر القادمة لأنها لا تزال غير قادرة بمفردها على جمع الأموال في الأسواق.ورغم أن القياديين الأوروبيين من المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل إلى الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند، أكدا على رغبة البلدين الأوروبيين الكبيرين بقاء اليونان في منطقة اليورو، فإن‏ الأوروبيين ينظرون إلى تداعيات أزمة الديون اليونانية بكثير من القلق، مع انتشار المخاوف في أسواق المال العالمية من مواجهة أعضاء في منطقة اليورو، ولاسيَّما البرتغال وإسبانيا، مشكلات مالية مشابهة لليونان، وباتت معرضة لاضطرابات اجتماعية واسعة، وهو ما أرخى بثقله على اليورو نفسه الذي خسر نحو ستة في المائة من قيمته منذ يناير 2011 بعد خفض وكالات التصنيف العالمية التصنيف الائتماني لليونان.‏ ويظل خطر خروج اليونان من منطقة اليورو خياراً مفتوحا، لا يمكن تجنبه، لتدخل البلاد التي لا تملك هامش مناورة يسمح لها بعدم احترام التزاماتها، فيما بعد في أراض مجهولة.‏ ومن أجل تجنب إفلاس اليونان المرادف للأزمة البنيوية لمنطقة اليورو، عقد وزراء المال لدول منطقة اليورو اجتماعاً في اللوكسمبورغ مؤخرا، في ظل انقسام واضح بين الشركاء الأوروبيين حول الإستراتيجية التي يجب اتباعها في مواجهة أزمة الديون اليونانية الضخمة. وزير مالية ألمانيا وولفغانغ شوبل، الذي يُعَدُّ العقل المدبر لخطط الإنقاذ وشروطها، قال بإصرار رافضًا أي تفاوض حول الاتفاقات السابقة:«لا أحد يفرض أي شيء على اليونان، التعهدات تبقى سارية المفعول. وكان الموقف الألماني عبرت عنه أيضاً المستشارة أنجيلا ميركل، والذي يقوم على تخصيص بعض المؤسسات العامة في اليونان، ومشاركة المصارف الخاصة في تمديد آجال تسديد مديونية اليونان وتحمل جزء من تبعات الصعوبات التي تواجهها البلاد. وتواجه ميركل معارضة شديدة من أحزاب الوسط في ألمانيا التي تصف اليونان بأنها «بئر من دون قاع» نظراً للقروض التي حصلت عليها في سنة 2010(110 مليارات يورو) لكنها عجزت عن تصحيح أوضاع الخلل في الموازنة واضطرت في الفترة الأخيرة إلى طلب تمديد القروض.وهناك الموقف المعارض للموقف الألماني الذي يدافع عنه البنك المركزي الأوروبي وتدعمه فرنسا، حيث يملك الأول جزءاً كبيراً من السندات اليونانية، كما أن البنوك الفرنسية الخاصة تعد الأكثر عرضة للتضرر من عجز اليونان عن تسديد ديونها، فهي التي تملك الجزء الأكبر من الأصول اليونانية، مقارنة بنظيراتها من الدول الأوروبية الأخرى. فالبنك المركزي الأوروبي يرى أن ترك اليونان يتخلف عن الدفع سيقود إلى إحداث صدمة مشابهة لتلك التي قادت إلى انهيار بنك ليمان براذرز في سنة 2008، بوصفه «الإفلاس الأكثر كلفة في التاريخ». والحال هذه، فإن الموقف يتطلب منا الاستمرار في تمويل اليونان، وتجنب أي إعادة هيكلة لديونها. فالخطر يكمن في انتقال عدوى أزمة الديون اليونانية إلى البرتغال في مرحلة أولى، ثم إلى أيرلندا، وإيطاليا وبلجيكيا وإسبانيا في مرحلة لاحقة. فحسب حسابات الخبراء، فإن حاجيات التمويل المتراكمة لليونان، والبرتغال وأيرلندا بلغت قيمة 201مليار يورو في مايو 2013. وهذا يمثل إسهام البلدان المساعدة مثل فرنسا وألمانيا، بنحو 5.2 نقطة من ناتجها المحلي الإجمالي.إن اللعب بالكبريت يعتبر مسألة خطيرة حين نكون جالسين على برميل من البارود، هذا ما يتفق عليه الخبراء، الذين يعتقدون أن إعادة هيكلة الديون اليونانية بالنظر إلى ديناميكيات العمل في الأسواق، ستقود حتما إلى العدوى في أيرلندا، والبرتغال. وستتجه الأنظار إلى البلدان التي تقيمها الأسواق المالية بأن خطرها متوسط المدى، مثل إسبانيا، ولكن أيضا إيطاليا وبلجيكا. ومن خلال إضافة إسبانيا، إلى البرتغال، واليونان، يقدر الخبراء أن على دول منطقة اليورو أن تجمع ما قيمته 523 مليار يورو لمواجهة حالات الإفلاس هذه.وقد أدت الأزمة اليونانية بالأوروبيين إلى مناقشة مسألة الحاكمية الاقتصادية في منطقة اليورو، فالأزمة اليونانية كشفت مكامن خلل كثيرة في النظام الذي وضع عقب إطلاق العملة الأوروبية.‏ هناك خللان يجب معالجتهما بسرعة:‏ الأول: ويتعلق بمراقبة العجوزات في الموازنات، فمنذ سنوات لم تقل اليونان الحقيقة عن وضعها المالي كما أن الأوروبيين تظاهروا بعدم رؤية الوضع المالي في هذا البلد الأوروبي.‏ والثاني، وهو الأخطر: إن الاتحاد الأوروبي لم يضع أي آلية في حال اندلاع أزمة أو إفلاس بلد أوروبي سواء من أجل دعمه أم من أجل معاقبته (باستثناء بعض المخالفات التي لم تطبق أبداً).‏ ويجد هذان الخللان مصدرهما في التفسير التالي:‏ لقد كان خلق العملة الأوروبية ناجماً عن إرادة سياسية لرؤساء دول وحكومات عدة بلدان أوروبية ولاسيَّما ألمانيا عندما قبلت التضحية بعملتها الوطنية المارك الذي كان يمثل الرمز الحي لقوتها الاقتصادية التي وجدتها في النصف الثاني من القرن العشرين،‏ فاللجوء إلى الاقتراض من صندوق النقد الدولي لإنقاذ العملة الموحدة هو إهانة لأوروبا التي عجزت عن معالجة أزمتها بمفردها ولاسيَّما أن الولايات المتحدة الأمريكية هي المساهم الأول في صندوق النقد الدولي وهاهي تسرع لنجدة هذه العملة الأوروبية التي كانت المنافس القوي للدولار، وكانت تهدد بإسقاط إمبراطوريته.‏

481

| 30 يناير 2015

الإرهاب ضد (شارلي إيبدو) يجدد صدام الحضارات

لا يختلف اثنان في العالم العربي والإسلامي أن الاعتداء الوحشي على الصحيفة الفرنسية الساخرة «تشارلي إيبدو»، التي يعمل فيها كبار رسامي الكاريكاتير في العالم- وبغض النظر عن آرائهم السياسية التي قد تجنح أحياناً، وعبر المبالغة، نحو خطأ التقدير أو تعميم الأحكام على أديان أو شعوب- يمثل عملاً إرهابيا مشيناً، ويدخل في سياق تشويه صورة الإسلام والعرب وكل المسلمين في العالم، إنه « إسلام التنظيمات الإرهابية والتكفيرية ضد الإسلام الحنيف والمعتدل والمتسامح». ومنذ أحداث 11 سبتمبر 2001، والحروب المتسلسلة التي استتبعتها (حرب أفغانستان، حرب العراق، والحرب الأخيرة في سوريا) تشهد المنطقة العربية نموا متزايداً لإرهاب الحركات الإسلامية المتشددة،«القاعدة» أولاً، ثم «داعش» في الوقت الحاضر، الذي ألحق الأذى بالإسلام والمسلمين والعرب أساساً أكثر بكثير مما أذى غيرهم من أتباع الأديان والقوميات الأخرى. إذ بعثت هذه التنظيمات التكفيرية من جديد مناخ «الفتنة الكبرى» في البلاد العربية خصوصاً والإسلامية عموما، وأحيت نبوءة صدام الحضارات الإسلام – الغرب، التي بلورها صمويل هنتنغتون في بداية عقد التسعينيات من القرن الماضي، حيث أصبحت في طريقها إلى أن تتحقق ذاتيا، لأن التأويل الذي نعطيه عن هذا العنف، وجغرافية هذا العنف، يعكس التناقض بين الغرب والعالم الإسلامي.وما هو دراماتيكي وخطير، أن الترجمة الواقعية لهذه المقولة(صدام الحضارات) تمارس من الجانبين، فهناك «أدبيات» فكرية وسياسية يجري الترويج لها على نطاق واسع في الإعلام الغربي تزعم أن الإسلام هو مصدر الفكر الإرهابي. وبالتالي فإن الحرب على الإرهاب تتطلب وبالضرورة الحرب على الإسلام. وفي المقابل فإن الأدبيات الإسلامية تقول: إن الحرب على الإرهاب تستهدف الإسلام، إلا أن هذه الأدبيات مخنوقة، إذ إنها تكاد تكون سجينة الإعلام العربي الذي يرددها إلى حد الاجترار من دون أن يتمكن من توصيلها إلى الرأي العام العالمي.لكن السؤال الذي يطرحه المحللون الغربيون أمام هذا المعطى المتشائم، من أين يأتي هذا العنف؟ وما هي جذوره، وكيف يمكن معالجته؟ في الواقع نحن نجد أنفسنا أمام مقولتين متناقضتين: واحدة تدعو إلى الحرب على الإرهاب باعتباره جزءاً من الثقافة الإسلامية، والثانية تدعو إلى الحرب على الإرهاب باعتباره مظهراً من مظاهر العداء للإسلام، هذه الثنائية الجدلية تنطلق من ثابت مشترك واحد وهو الأحكام المسبقة. شكلت أحداث 11 سبتمبر2001 التي شهدتها الولايات المتحدة الأمريكية قطيعة بين مرحلتين في الوضع العالمي، تتداخل وتتشابك عناصر الاتصال بينهما مع عناصر القطيعة.. ولم تكن مجرد عملية إرهابية عادية، بل إنها شكلت نقلة نوعية بالغة الأهمية في أشكال وآليات الصراع الدولي، وتسببت في إعادة تشكيل السياسات الخارجية للدول الكبرى، بما يتضمنه ذلك من إعادة تعريف دور أدوات هذه السياسات، ولاسيَّما الأداة العسكرية، وبالذات الولايات المتحدة.وكان من أبرز نتائج هذه التطورات أنها دفعت الإدارة الأمريكية إلى وضع هدف مكافحة الإرهاب ومعاقبة الدول التي ترعاه باعتباره الهدف الرئيسي للسياسة الخارجية الأمريكية، وهذه هي المرة الأولى منذ نهاية الحرب الباردة التي تضع الولايات المتحدة لنفسها هدفا محددا يكون محور التركيز الكامل لسياستها الخارجية، حيث كان التركيز الرئيسي للسياسة الخارجية وسياسة الأمن القومي للولايات المتحدة في مرحلة الحرب الباردة ينصب على محاربة الشيوعية وردع الاتحاد السوفيتي السابق، مما يعني أن الإدارة الأمريكية وضعت هدف الحرب ضد الإرهاب في نفس المكانة التي كان يحتلها هدف محاربة الشيوعية في فترة الحرب الباردة.إن احتلال الإدارة الأمريكية لمركز القيادة في النظام العالمي بعد انتهاء الحرب الباردة، لم يحل دون نشوب الحروب الإقليمية، في بلدان جنوب العالم، إنها حروب تكثفت وتلخصت في ثناياها جميع عوامل الحرب العالمية الشاملة: حرب الخليج الثانية، حرب البلقان، وغيرها من الحروب الأخرى في القارات الثلاث. ففي هذا المناخ جاءت أحداث 11 سبتمبر2001 لتختتم مرحلة كانت الولايات المتحدة فيها قد أنجزت مقاربتها مبدأها«الحرب دون أي قتيل»، ممنية نفسها بالحد قدر الإمكان من خسارة في الأرواح الأمريكية في الحروب المستقبلية، مكبدة في الوقت نفسه الأعداء العدد الأكبر من الخسائر، والتي عززت تدريجيا هذه الديناميكية النابذة، وأكدت أن العنف كان مستقطبا وفي تناقص على المسرح الدولي، ولكنه متجزأ أكثر فأكثر. الأزمة التي أثارتها حادثة الهجوم الإرهابي على صحيفة «شارلي إيبدو»، أزمة عالمية وشاملة، وهي أزمة عالمية بمعنى أنها تقحم بلدانا مختلفة عديدة في النزاع،على رأسها، بطبيعة الحال، فرنسا ومعها الولايات المتحدة الأمريكية ومناطق من العالم الإسلامي. وهي شاملة كونها، تؤثر، أكثر من أي أزمة عالمية عرفت حتى الآن، في مستويات متعددة من الحياة، سياسية واقتصادية وثقافية ونفسية.في ظل أجواء إعلان هذه الحرب، نظمت أجهزة الإعلام الأمريكية والأوروبية والصهيونية حملة واسعة شرسة على الإرهاب، بوصفه المسؤول الرئيسي عن ما حدث، ونال العرب والمسلمون نصيب الأسد من هذه الحملة التي لم تتوقف. ويختلف المحللون الغربيون في توصيفهم لمضمون الموجة الحالية من الإرهاب الجديد، ولاسيَّما بشأن العلاقة الارتباطية بين الإرهاب والإسلام. فرغم أن الإرهاب موجود في العديد من الدول، ويصيب بدرجة أو بأخرى العديد من الحضارات والثقافات، فإن بعض المفكرين الغربيين، وبالذات صامويل هنتنجتون، ركزوا على أن الإرهاب لا يمثل شكلا من أشكال الصراع الدولي، بقدر ما يمكن النظر إليه باعتباره حروب المسلمين، سواء فيما بينهم أو بينهم وبين غير المسلمين. وهي حروب قد تتطور إلى صدام كبير للحضارات بين الإسلام والغرب، أو بين الإسلام وبقية العالم. ويرى هانتنجتون أن هذه الحروب لا تعود إلى طبيعة المعتقدات الإسلامية، وإنما تعود إلى السياسات والأوضاع العامة في العديد من الدول الإسلامية، مثل حالة الانبعاث الإسلامي والشعور بالظلم والامتعاض والحسد تجاه الغرب والانقسامات الإثنية في العالم الإسلامي، وارتفاع معدلات الولادة في معظم الدول الإسلامية. ويخلص إلى أن حروب المسلمين سوف تستمر في حالة عجز المجتمعات الإسلامية عن تحقيق إصلاحات داخلية جذرية، وكذلك في حالة استمرار الحكومات غير الإسلامية في محاولة فرض سيطرتها على الأقليات الإسلامية فيها.المنطق والعقل يقولان لماذا اكتسبت الدول الغربية كل هذا الكم الهائل من الكراهية من الشعوب والأمم المضطهدة؟ والعقلانية تقتضي البحث عن الأسباب الحقيقية التي أدت بالولايات المتحدة إلى هذا التدهور؟ إن حكومة الولايات المتحدة الأمريكية وحكومة الكيان الصهيوني، متفقتان على تفتيت العالم العربي، وإخضاع كل القوى فيه. أما ما سر الحملة الأوروبية – الأمريكية – الصهيونية الشرسة على العرب والمسلمين واتهامهم بممارسة الإرهاب، فهي جزء من المعركة السياسية – العسكرية التي تخوضها الحكومات الصهيونية والأمريكية. وهدف هذه الحملة أن تترسخ صورة العربي والمسلم إرهابيا في كل أوساط الرأي العام العالمي، ليكون مبررا للقيام بالغزوات والحروب. من المنظور الأمريكي الهدف من الحرب على الإرهاب، هو فرض الأمن على منطقة الشرق الأوسط، تحت الهيمنة الأمريكية، بالتلازم مع تحقيق الأمن للكيان الصهيوني والإفساح في المجال للوصول إلى السلطة نخب عربية ليبرالية موالية للغرب منبثقة من المجتمع المدني. هذه الإستراتيجية وضعت موضع التطبيق بعد احداث11 سبتمبر من خلال «الحرب على الإرهاب» التي أرادت تصفية تنظيم القاعدة، وإسقاط نظام صدام حسين، والسيطرة على نفط الشرق الأوسط، وإعطاء الضوء الأخضر لحرب الإبادة الصهيونية التي شنها السفاح نتنياهو ضد الشعب الفلسطيني الأعزل.وتقوم السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، على هاتين الركيزتين: النفط الذي يحتل أولوية قصوى، وتحقيق أمن «إسرائيل» الذي أصبح يحتل المرتبة الأولى بعد حرب يونيو 1967. وتكمن الصعوبة كلها في تحقيق هذين الهدفين، وهذا ما يفسر لنا احتمالات قيام الدول الغربية و«إسرائيل» بحروب جديدة أوسع وأشرس ضد العرب في المنطقة العربية. إن التشديد على محاربة الإرهاب وعدم قبول التعامل معه لفظا، ودعم حكومة إسرائيل الإرهابية، وعدم توجيه الدوائر الأوروبية والأمريكية «المعنية بالحرية» والمدافعة عن حقوق الإنسان، النقد والإدانة للكيان الصهيوني الذي يمارس إرهاب دولة، يقود إلى سقوط مصداقية حكومات الدول الغربية مع اتباعها وحلفائها، وسقوط هذه المصداقية له تبعاته الكبيرة. فإذا وضعنا جانباً حقيقة أن الإرهاب ازداد ولم ينقص، وبات يشمل كل العالم تقريباً منذ بدء انتفاضات «الربيع العربي»، وما سمي بـ«الحرب» عليه (لسبب بسيط وهو أن القضاء على الإرهاب لا يمكن أن يتم إلا بمعالجة أسبابه)، فإن أهم ما نستخلصه هو أن هذا الإرهاب حاجة لـ«أعدائه»: فإذا كان موجوداً يجب التغاضي عنه، وإن لم يكن موجوداً يجب خلقه كي يكون الذريعة لتنفيذ المخططات.. فهل من عاقل يتوخى، في هذه الحال، أن يقضي المستفيد من الإرهاب على الإرهاب، ويسحب من بين يديه ذريعته؟! الإرهاب، إذاً، هو خدمة يتطلبها السيد، والسيد يغذّي خادمه كي يستمر في خدمته.. أما المتمرد على الخدمة فسيسمى كذلك «إرهابياً»، عله يتحوّل إلى خادم أيضاً.هل إن التنظيمات التكفيرية وحدها أشارت إلى أن الغرب يجسد إمبراطورية الشر بامتياز، والرغبة بالسيطرة على العالم بأنانية متفردة؟ لا. فالكاتب الفرنسي الاشتراكي بيار بوشيه كتب منذ عام 1840 إن العداوة للأمريكيين قديمة. فإذا أراد الغرب أن يثبت مكانته في العالم، وأن يجني فوائد حروبه على المدى البعيد، فعليه أن يبذل جهدا حقيقيا لفهم أسباب خشية وكره الشعوب الأخرى له. والمشكلة الحقيقية لا تتجلى في الإرهابيين أنفسهم إنما في حكومات الدول الغربية نفسها، التي تستغل الأزمة في أي بلد عربي أو إسلامي للنيل من حرية وحقوق الشعوب، لا للقضاء على الإرهاب كما تزعم، وإنما لتحقيق مخططاتها السياسية.على الدول الغربية أن تعيد النظر بعلاقاتها مع دول العالم العربي والإسلامي إذا أرادت اجتثاث الإرهاب ومعالجة أسبابه، لأن هناك حكاما يمارسون الإجرام وإرهاب الدولة، وهذا ما ينطبق تماما على تصرفات أصدقاء الولايات المتحدة من الصهاينة، الذين يتبعون سياسة ما هو أبشع من الجريمة، وأمريكا تغطي هذه السياسة كما حصل في العدوان الأخير على غزة.

880

| 16 يناير 2015

جدل تونسي حول مصداقية رئيسة هيئة الحقيقة والكرامة

شهد يوم الجمعة 26 ديسمبر الماضي قصر قرطاج مناوشات حادة بين السيدة سهام بن سدرين رئيسة هيئة الحقيقة والكرامة وأعوان الأمن الرئاسي الذين منعوها من الاستحواذ على أرشيف قصر قرطاج الذي يعود إلى300 سنة مضت، أي منذ بدايات تأسيس الدولة الحسينية من قبل البايات سنة 1705، حيث تمسكت ابن سدرين بحقها في نقل الأرشيف من القصر إلى مقر الهيئة، وهذا ما رفضه المدير العام توفيق القاسمي الذي أكد أنه لن يسمح بإخراج أي وثيقة، ولم تفاجئ هيئة الحقيقة والكرامة الأمن الرئاسي فقط، بل فاجأت الحكومة والأحزاب وكل المتابعين للشأن العام والملاحظين، عندما توجّهت رئيسة الهيئة مع بعض أعضاء الهيئة إلى قصر قرطاج مصحوبة بست شّاحنات ثقيلة، لنقل أرشيف القصر الرئاسي لوجهة ما. وحين منع أعوان الأمن الرئاسي سهام بن سدرين رئيسة هيئة الحقيقة والكرامة والمجموعة التي معها من دخول قصر قرطاج والاستحواذ على أرشيف القصر اتهمتهم بأنهم يحاولون الانقلاب على رئاسة الجمهورية، واتهمتهم أيضاً بأنهم يعرقلون عملها موجهة لهم الكلام قائلة بغضب «أنا أكبر سلطة في تونس».يتفق معظم المحللين في تونس، أن ما قامت به السيدة سهام بن سدرين رئيسة هيئة الحقيقة والكرامة يعتبر عملاً غير لائق، وغير بريء، ويحتوي على نية سيئة مسبقاً، لاسيَّما وأنها اختارت توقيتا مريباً للغاية، وتحديدا قبل فترة قصيرة من تسلم الرئيس الباجي قائد السبسي مقاليد رئاسة الدولة التونسية من الرئيس المؤقت محمد المنصف المرزوقي في قصر قرطاج بعد أداء اليمين الدستورية في مجلس النواب يوم الأربعاء 31 ديسمبر الجاري، وهو ما يدل على وجود مخطط للتلاعب بالأرشيف من قبل بعض الأطراف السياسية وإدخال البلاد في حالة من الفوضى والبلبلة وتصفية الحسابات الشخصية. وفضلاً عن ذلك، لا مجال للأمن الرئاسي أن يسلم أرشيف قصر قرطاج بهذه الطريقة غير القانونية، إذ إن كل الوثائق المتعلقة بالقصر ملك للدولة والحفاظ عليها من أولويات الأمن الرئاسي، خصوصاً أن رئيس الجمهورية الباجي قائد السبسي سيتسلم القصر في الأسبوع المقبل ولا مجال لأي جهة أن تتجاوز صلاحيتها إلا بإذن، وما قام به الأمن الرئاسي يعتبر عملاً تاريخياً، سيحسب للإدارة العامة لهذا السلك التي كانت مواقفها ثابتة وتصدت لمحاولات البعض بتسييس المؤسسة الأمنية، وهذا ما جعل توفيق القاسمي المدير العام للأمن الرئاسي، يمنع أي جهة من دخول القصر والاستحواذ على الأرشيف الذي يحتوي على تاريخ تونس من عهد البايات وإلى غاية اليوم، مؤكداً في هذا السياق بأن هذه المحاولة لم تكن الأولى بل هناك محاولات غير مباشرة لوضع اليد على الوثائق. فالحصول على الأرشيف ليس بالسهولة التي يتوقعها البعض،لأن هناك إجراءات قانونية وقضائية، ويجب أن يتواجد أيضا خبير في الأرشيف يتسلم كل وثيقة بمحضر رسمي. فالأرشيف هو ملك للدولة التونسية، ويتضمن الذاكرة الوطنية للشعب التونسي، لا يجوز التفريط فيه لأي جهة دون وجه قانوني.في هذا السياق، قال أستاذ القانون الدستوري قيس سعيد إن القضاء مطالب بتحديد بعض المفاهيم التي وردت بنص القانون الأساسي عدد 53 المؤرخ في 24 ديسمبر 2013 والمتعلق بإرساء العدالة الانتقالية وتنظيمها على غرار النفاذ إلى أرشيف الرئاسة فقط أو مده إلى الهيئة لحمله إلى مقرها ليتمكن بذلك من الحسم في هذا الإشكال القانوني.تناول هذه القضية يفترض الرجوع إلى القانون الأساسي عدد 53 لسنة 2013 المؤرخ في 24 ديسمبر 2013 المتعلق بإرساء العدالة الانتقالية وتنظيمها كما يفترض العودة إلى القانون المتعلق بحماية المعطيات الشخصية وبالحكم القضائي المتعلق بتعيين المتصرف القضائي للتصرف في الأرشيف الذي كان على ذمة لجنة المرحوم عبد الفتاح عمر والموضوع لدى الرئاسة.الأستاذ خالد الكريشي عضو هيئة الحقيقة والكرامة التي عُهد لها دستوريا بتنظيم العدالة الانتقالية يقول إن قرار الهيئة بأخذ الأرشيف يستند أساسا إلى الفصول 40 و52 و53 و54 و56.. من القانون عدد 53 لسنة 2013 المتعلق بإرساء العدالة الانتقالية وتنظيمها. وبالرجوع إلى الفصل 40 من هذا القانون الأساسي، فإنه ينص على حق الهيئة في «النفاذ إلى الأرشيف العمومي والخاص بقطع النظر عن كل التحاجير الواردة بالتشريع الجاري به العمل». كما ينص بحقها في الاستعانة بالسلطة العامة لتنفيذ مهامها المتصلة بالتقصّي والتحقيق والحماية.يتفق أساتذة القانون الدستوري، والخبراء في القانون، بأن الفصل 40 يتحدث عن النفاذ للأرشيف العمومي وليس نقله من مكانه، إذ إن النفاذ يعني الاطلاع وليس التحوّز أو النقل وبالتالي فإن سعي هيئة الحقيقة والكرامة إلى نقل أرشيف الرئاسة إلى مقرها هو إجراء نابع عن تأويل وليس عن نصّ. وبالعودة إلى الفصل 56 من القانون عدد 53، فإنه ينص على أنه «يمكن لرئيس الهيئة عند اكتشاف وثائق يخشى إتلافها أو عند وجود أدلة جدية حول اقتراف انتهاكات تدخل ضمن اختصاصها أن يأذن باتخاذ الإجراءات التحفظية اللازمة لحفظ تلك الوثائق والأدلة ولمنع مرتكب تلك الانتهاكات من إحالة الأموال والممتلكات موضوع الجريمة أو تبديلها أو التصرف فيها أو نقلها أو إتلافها». ويقول الأستاذ عبد الناصر العويني المناضل الثوري والمحامي في هذا الصدد، إن تحرّك هيئة الحقيقة والكرامة الآن بالذات هو تحرك سياسي يفقدها حيادها وبالتالي مصداقيتها. فالسرعة في نقل الأرشيف من القصر الرئاسي قبل نقل السلطة يعتبر نوعاً من الاتهام المسبق الذي يفقد هيئة الحقيقة والكرامة حياديتها، إضافة إلى أنه ليس لهيئة الحقيقة والكرامة الحق أصلا في نقل أرشيف رئاسة الجمهورية برمته، وهو عبارة عن ذاكرة وطنية لا يمكن وضعها خارج إطار مكانها، لاسيَّما أن الأرشيف يتضمن معطيات شخصية لا يحق لأي جهة المساس بها.يرى النقاد للسيدة سهام بن سدرين، بأن السعي للحصول على أرشيف الرئاسة قبل نقل السلطة من المرزوقي إلى السبسي هو سعي لاستعماله للابتزاز وكتابة «كتاب أسود» آخر مثلما فعل المرزوقي مع الصحفيين عندما واجهوه بالنقد. إذن قضية نقل هيئة الحقيقة والكرامة لأرشيف رئاسة الجمهورية إلى مقرها يعتبر بالنسبة إلى الحقوقيين والمحامين تجاوزا لصلاحياتها وللسلطة إذ يتساءل الأستاذ العويني لماذا سارعت سهام بن سدرين في الحصول على أرشيف الرئاسة في هذه الفترة بالذات رغم علمها بعدم أحقيتها قانونا ولم تتوجه للحصول على أرشيف وزارة الداخلية.السيدة سهام بن سدرين تتحدث دائما عن أن هيئة الحقيقة والكرامة المعنية بتحقيق العدالة الانتقالية هي هيئة دستورية، ويجب أن تتعامل من موقف الندية مع هيئة رئاسة الدولة، والحقيقة ليست كذل، ومن دون الدّخول في التفاصيل القانونية، تجدر الإشارة إلى أنّه بالرجوع إلى الدستور والقانون الأساسي للعدالة الانتقالية والنظام الدّاخلي لهيئة الحقيقة والكرامة، يتّضح أوّلا وخلافا لما يقال إن هيئة الحقيقة والكرامة ليست من بين الهيئات الدستورية الخمس والمتمثّلّة في هيئة الانتخابات وهيئة الاتصال السمعي البصري وهيئة حقوق الإنسان وهيئة التنمية المستدامة القادمة وهيئة الحوْكمة الرشيدة ومكافحة الفساد.ونظرا لانشغال التونسيين بأمر الانتخابات التشريعية والرئاسية طيلة الشهرين الماضيين، وضعت هيئة الحقيقة والكرامة لنفسها نظاما داخليا في 22 نوفمبر 2014 وسّعت فيه صلاحياتها وخالفت في عدّة نصوص منه الدستور والقانون العام والقانون الأساسي المنشئ للهيئة، ومرّة أخرى يوضع النظام الدّاخلي في غفلة من الجميع، ولم يقع الطعن فيه، إلى درجة أنه ساد الاعتقاد لدى العديد من المتابعين، بأن هذه الهيئة لا تُؤخذ مأخذ الجد، ونلمس هذا الانطباع لدى الرأي العام من خلال ما يكتب وينشر عن هذه الهيئة.

674

| 03 يناير 2015

فوز السبسي يطوي صفحة الانتقال الديمقراطي في تونس

أصبح الباجي قائد السبسي زعيم "حزب نداء تونس" أول رئيس منتخب بشكل حر وديمقراطي في تاريخ تونس، وأول رئيس لجمهوريتها الثانية، وذلك عقب فوزه في الدورة الثانية من الانتخابات الرئاسية التي شهدتها تونس يوم 21 ديسمبر. ويشكل فوز الباجي قائد السبسي انتصارا للمشروع الوطني الحداثوي الذي قاده الراحل الحبيب بورقيبة منذ تأسيسه الجمهورية التونسية الأولى عقب حصول تونس على استقلالها في عام 1956، حيث شيد بورقيبة الدولة المدنية الوحيدة في العالم العربي، فيما أخفقت الأيديولوجيات الشمولية الأخرى. الرئيس الباجي قائد السبسي تمرد على نظام والده الروحي الحبيب بورقيبة، عندما انشق رمزيا عنه في نص استقالة شهير سنة 1970 في جريدة "لوموند" عندما كان سفيرا لتونس في باريس.. وفي المؤتمر الثامن للحزب الاشتراكي الدستوري المنعقد في مدينة المنستير عام 1971، حقق الجناح الذي كان ينادي بالليبرالية الاقتصادية والليبرالية السياسية في آن واحد، الأغلبية في المؤتمر، وتمثل هذا الجناح في أحمد المستيري والباهي الأدغم والباجي قائد السبسي، والحبيب بولعراس، فتدخل بورقيبة شخصياً، وألغى انتخابات المؤتمر. ومع ذلك فإن عدداً كبيراً من المؤرخين التونسيين يتجاهلون أن الباجي قائد السبسي كان قائد الجناح الديمقراطي داخل النظام البورقيبي عينه، والرجل الذي وضع كل إمكاناته المالية على ذمة الحركة الديمقراطية الناشئة فأسس مجلة "ديمقراطية" الناطقة بالفرنسية، وكان قريبا من مجموعة "الرأي" ورابطة حقوق الإنسان وحركة الديمقراطيين الاشتراكيين.ولم يعد الباجي قائد السبسي إلى الحكومة إلا بعد أكثر من عشر سنوات وبعد اعتراف الزعيم بورقيبة بالتعددية الحزبية في 1981. انطلاقا من هذا الإرث البورقيبي، عمل الباجي قائد السبسي على تأسيس حزب جديد بعد أن سيطرت الترويكا الحاكمة سابقا بقيادة حركة النهضة الإسلامية على مقاليد السلطة في تونس عقب الانتخابات التي جرت في 23 أكتوبر 2011. ونجح الباجي قائد السبسي، الوزير السابق في عهد بورقيبة والرئيس الأوّل للبرلمان في عهد بن علي، وصاحب الكاريزما "البلدية" العتيقة (كابن برجوازية تونس العاصمة)، في أن يقدّم نفسه كـ"أملٍ للخلاص والتغيير" لجزء هامّ من المجتمع التونسي، عبر تجميعه في "حزب نداء تونس" في بداية سنة 2012، أطياف سياسية وفكرية عديدة، شتات الجزء الأهمّ من كوادر ورجال أعمال نظام بن علي وحزبه المنحلّ، "التجمّع الدستوري"، ممّن لم يختاروا الانضمام لـ"حزب النهضة الإسلامي"، وبقيّة الأحزاب "الدستوريّة"، ومن فئات الطبقة المتوسطة المتضررة من الثورة، ومن النقابيين واليساريين الليبراليين المتخوفين من مشروع حزب النهضة القاضي بـ"أخونة الدولة التونسية" والقضاء على مظاهر مدنيتها وعلمانيته، من خلال تمظهرات مسودّة مشروع النهضة للدستور، التي تضمّنت "الشريعة الإسلامية كمصدر للتشريع"، وبعث مجلس أعلى إسلامي. بفوز "حزب نداء تونس" في الانتخابات التشريعية، وفوز زعيمه الباجي قائد السبسي في الانتخابات الرئاسية، استطاع هذا الأخير المدعوم من قبل الأحزاب السياسية الوطنية الديمقراطية والليبرالية والعلمانية، أن ينجح في استمالة كوادر النظام السابق لـ"حزب نداء تونس"، ويواصل تمثيل مصالح برجوازيّة العاصمة والساحل، والاحتفاظ بدعم القاعدة الاجتماعية التقليديّة للحزب الحاكم منذ الاستقلال، وأن ينقذ تونس ودولتها المدنية، ومكاسبها الحداثية.فالتونسيون الذين خرجوا إلى الشوارع واحتجوا على النظام السابق في أكثر من مدينة سواء في أحداث سليانة 1990 أو الحوض المنجمي في 2008 أو بنقردان في صيف 2010 أو بداية من 17 ديسمبر 2010 إلى 14 يناير 2011 كان هاجسهم الأساسي هو الديمقراطية والعدالة الاجتماعية والتنمية، وليس تخريب الدولة ونسف مكاسبها. والحال هذه عرف زعيم "حزب نداء تونس"، والرئيس المنتخب الباجي قائد السبسي كيف يستثمر الأخطاء الكبيرة التي وقعت فيها حركة النهضة، لاسيَّما ضعف الكفاءة في إدارة الحكم، والعجز عن تقديم أجوبة شافية على المطالب الاجتماعية، وتساهلها الكبير مع التيّارات السلفيّة، في النصف الأوّل من فترة حكمها، وكذلك تهميش النهضة لحليفيْها في "الترويكا" الحاكمة، حزبي "المؤتمر من أجل الجمهورية" و«التكتل من أجل العمل والحرّيات»، وصدمة زلزال اغتيال القيادي اليساري شكري بلعيد في فبراير 2013، وتعاظم خطر الإرهاب إثر اغتيال النائب القيادي بالجبهة الشعبيّة محمّد البراهمي في 25 يونيو 2013. إضافة إلى أخطاء حركة النهضة، لعبت العوامل الإقليمية والدولية لمصلحة تزايد نفوذ «حزب نداء تونس»، ومنها: أولاً: الحرص الواضح للدول الغربيّة المؤثّرة، تحديدا الولايات المتحّدة وفرنسا وألمانيا، على أن تكون تونس «النموذج الديمقراطي» الناجح في المنطقة، وهو ما يفترض وجود توازن بين قوّتين سياسيتين كبيرتين تحت سقف شروط المنظومة الليبراليّة المعولمة. وثانياً: تداعيات تغيّر المشهد الإقليمي، وتحديدا سقوط الإخوان المسلمين في مصر على تراجع حركة النهضة، والصعوبات التي واجهها مؤخّرا حليفاها في أنقرة والدوحة.وثالثاً: أجواء الخوف للشعب التونسي من الإرهاب المستوطن في تونس، والحنين إلى «الأمن والاستقرار الضروريّين لعودة الحركة الاقتصاديّة»، وخيبة أمل أغلب التونسيين من حكم «النهضة». فنجح الباجي قائد السبسي في إقناع الكثيرين من التونسيين بخطابه عن «استعادة هيبة الدولة»، و«المحافظة على الإرث الحداثي البورقيبي والنمط المجتمعي التونسي». كما استفاد في ذلك من الماكينة الحزبية والانتخابيّة القويّة التي ورثها عن حزب بن علي المنحلّ. ونجح زعيم «حزب نداء تونس» الباجي قائد السبسي خلال الحملة الانتخابية في كسب تأييد قطاعات واسعة من الرأي العام، حيث نحت لنفسه صورة «رجل الدولة القوي» الذي يدافع عن مكاسب التونسيين الاجتماعية والسياسية. ومع فوز قائد السبسي يكون التونسيون قد انتصروا للمشروع الوطني الحداثوي، الذي ناضلت من أجله أجيال من المصلحين مند منتصف القرن التاسع عشر من أجل بناء دولة مدنية ذات مؤسسات سيادية قوية تتمتع باستقلالية قرارها الوطني، وأيضاً من أجل مجتمع تعددي ديمقراطي يضمن الحق في الاختلاف والتعايش السلمي. وبذلك نجح الشعب التونسي وقواه الوطنية والديمقراطية في طي صفحة الانتقال الديمقراطي، وودع صفحة المؤقت بما فيها وفتح صفحة جديدة في تاريخه الحديث... صفحة سيكتب التاريخ في بداياتها أن التجربة الديمقراطية في تونس قد ولدت كبيرة وراشدة ومكنت البلاد من إعطاء درس جديد للبشرية ومن بلورة أنموذج رائد للانتقال الديمقراطي.

443

| 26 ديسمبر 2014

خيارات التصويت في الرئاسية تفجر الأزمة الداخلية في النهضة

من هو الأكثر إيماناً بالديمقراطية؟ الذي يصوت لمصلحة انتخاب الباجي قائد السبسي لإنقاذ الدولة المدنية في تونس، وإعادة بناء الدولة الوطنية الديمقراطية التعددية، دولة القانون، بعد أن بات من المستحيل على الشعب التونسي أن يقبل تحويل جهاز الدولة إلى دكتاتورية شخصية تختزل هويّةَ الشعب في هويّة الحاكم؟ أم الذي يصوت لمصلحة المنصف المرزوقي لإنقاذ الثورة؟ تلك هي المعادلة السياسية والانتخابية الصعبة القائمة التي تلخص المشهد السياسي في تونس، التي تتهيأ لعملية حسم انتخاب أول رئيس الجمهورية الثانية يوم 21 ديسمبر الجاري.هذه الجمهورية الثانية التي ستكون بالتأكيد امتداداً تاريخياً وحضارياً للجمهورية الأولى التي أسسها الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة في عام 1956، لكنها بالتأكيد ستختلف عنها من حيث الرؤى والخيارات السياسية والاقتصادية. وتمثل الحدث الأبرز في المشهد السياسي التونسي في استقالة السيد حمادي الجبالي الأمين العام السابق لحركة النهضة من حزبه الإسلامي، حيث أصدر هذا الأخير بيانا يعلم فيه بانسحابه من تنظيم الحركة وانصرافه للتفرغ لمهمة الدفاع عن الحريات، وحمل البيان أيضا بعض الإشارات التي تدل على موقفه المخالف لمنهج الحركة وذلك بالانتصار لما سماه «منهج الثورة السلمي المتدرج». ومن المعلوم أن السيد حمادي الجبالي كان يختلف مع توجهات حزب حركة النهضة منذ ترؤسه حكومة الترويكا الأولى،إذ أعلن الانسحاب من رئاستها،لكن مبادرته باءت بالفشل، ولم تقبل، الأمر الذي اعتبره المحللون في تونس بأنه سابقة في تاريخ الأحزاب السياسية بأن ينقلب الأمين العام لحزب في السلطة على حزبه ويخرجه منها ويطرح بديلاً آخر ثم وهو الأهم يبقى في منصبه، ولولا أن رفضت قيادته وأجبرته على الاستقالة من الحكومة لظل يحكم بتفويض منها ولكن من دونها.ومنذ خروجه من الحكومة ابتعد ولم يعد يحضر اجتماعات حزب حركة النهضة الإسلامي، ولم يشارك في اتخاذ قراراته سواء داخل المكتب التنفيذي أو داخل مجلس الشورى رغم الاحترام الكبير الذي وجده من كل أبناء النهضة ورغم أن منصب الأمانة العامة بقي على ذمته أكثر من سنتين وهو غائب عنه ولم يتم تعيين بديل عنه إلا حينما أصر على عدم العودة إليه علنا.ثم قدم مقترحه بالترشح للرئاسة ولما لم يجد التجاوب من أبناء النهضة لسبب بسيط يعود إلى إن الحركة قررت عدم الترشح لهذا المنصب من الأساس. في بيان استقالته، كشف الجبالي عن السبب الرئيس الذي دعاه إلى الانسحاب نهائيا من الحركة، ويتمثل في أن مشروع الإسلام السياسي في تونس: « يواجه اليوم تحديات جسام ومخاطر ردة داخلية وخارجية وضعت شعبنا وقياداته على المحك مجددا وأمام امتحان: إما مواصلة النضال لإنجاز حلقات هذه الثورة السلمية على طريق صعب وطويل. وإما تخاذل واستسلام يفضي لا قدر الله إلى انتكاسة، والعودة بشعبنا إلى حلول اليأس والعنف والتطرف والإرهاب».وكشفت استقالة رئيس الحكومة الأسبق الأمين العام السابق لـ«النهضة» حمادي الجبالي، عن عمق الأزمة الداخلية التي تعاني منها حركة النهضة، لاسيَّما مع بروز خطين واضحين يتصارعان في الداخل، خط متشدد يدعو إلى تصدر المعارضة ومساندة المترشح منصف المرزوقي، وخط يدعو إلى العودة إلى الحكم الحالم والتزام الحياد الجدي خدمة لفوز ساحق للباجي قائد السبسي. وكان السيد حمادي الجبالي دعا في بيان وحيد إلى التصويت إلى مرشح يحافظ على مكاسب الثورة وهذا التصريح وأن اعتبره البعض انتصارا لروح الثورة ولخط الحفاظ على نهجها فقد اعتبره البعض الآخر مزايدة مجانية على الموقف الذي اختارته قيادة حركة النهضة بانتهاج خيار الحياد عن دعم أي مرشح خاصة أن الجميع يعرف أن علاقة السيد الجبالي لم تكن جيدة بالمرشح للرئاسية السيد المنصف المرزوقي.و أكّد الأمين العام السابق المستقيل من حركة النهضة حمادي الجبالي أنّه على خلاف مع قيادة حزبه، بسبب تثبيت موقف وقرار مجلس الشورى الداعي إلى الالتزام بالحياد في علاقة بالانتخابات الرئاسية في دورها الثاني، إذ اعتبر الجبالي إنّ الحياد في هذه الحالة لايمكن أن يضمن التوازن في البلاد التي مازالت تعيش على وقع الانتقال الديمقراطي مشدّدا على أنّ موقفه هذا ليس انتصارا للمترشح الرئاسي محمد منصف المرزوقي بل هو تنبيه من خطر هيمنة طرف واحد على الحياة السياسية في تجربة هشّة. ومنذ نتائج الدورة الأولى للانتخابات الرئاسية التي جاء فيها الباجي قائد السبسي في المرتبة الأولى،أصدر حمادي الجبالي بياناً سياسياً في 27 نوفمبر الماضي، بعنوان: « «مرشح يفرق بين أبناء شعبه لا يستحق أن يكون رئيساً »، طالب فيه، الباجي قائد السبسي بالاعتذار للتونسيين عما بدر منه من تصريحات اعتبرها محرضة على الفتنة والتقسيم الفئوي بين شمال البلاد وجنوبه.ودعا الجبالي إلى انتخاب مرشح ليس من الحزب الفائز بالغالبية لضمان التوازن والتشاركيّة الحقيقية في الحكم ومن أجل مصلحة تونس دون سواها وذلك في كنف الوحدة الوطنية مع حق الاختلاف والتنوع، على حد توصيفه.هذا الموقف كسر حياد «النهضة» وأظهرها في موقع الداعم صراحة للمرزوقي، نظراً إلى وزن الجبالي عند قواعد الحركة وتاريخه النضالي، وهو ما أثار حفيظة طيف واسع من القيادات الباحثة عن السلم البرلماني في بدايات الفترة المستقرة مع الخصم التاريخي والذي لا يكون إلا باتخاذ موقع الحياد من حرب الرئاسة. وقد وجد الجبالي نفسه بموقفه هذا، ينسجم مع القيادات المتشددة داخل حزب النهضة الإسلامي، ماشجع الشيخ الحبيب اللوز، أحد مؤسسي حركة «النهضة» ومن قياداتها التاريخية، انسلاخ الجبالي عن الحركة إلى ما اعتبره «دعوات إلى مد اليد لحزب نداء تونس والاستعداد الذي لامسه عند عدد من القيادات إلى التحالف أو التشارك معه»، معتبراً أن مثل هذه الدعوات لا تعبر عن غالبية داخل مجلس الشورى. فقد أصدر كل من الحبيب اللوز والصادق شورو رسالتين تصبان في نفس الاتجاه، وتدفعان نحو إعلان حزبهما عن مساندة المرشح المنصف المرزوقي، وقد سبقت هاتين الرسالتين استقالة الأمين العام السابق حمادي الجبالي من الحزب، والاستقالة وأن تختلف في مضمونها عما جاء في رسالتي اللوز وشورو فإنها تتفق في جوهرها مع الخط السياسي الذي يدافع عنه الرجلان والداعي إلى الحيلولة دون تقديم أي دعم للمرشح قائد السبسي ولا أي تقارب مع حزبه «حزب نداء تونس». المواقف الثلاثة الصادرة عن حمادي الجبالي والصادق شورو والحبيب اللوز يمكن تلخيصها في موقف واحد وهو عدم وضع النهضة يدها في يد «حزب نداء تونس» وعدم الالتزام بموقف الحياد الذي دعت إليه الحركة وبالتالي التصويت للمرشح منصف المرزوقي وعدم التصويت للباجي قائد السبسي. وهو موقف يجد له صدى واسعا بين قواعد النهضة، التي تنادي بالانتصار إلى الثورة ومبادئها وضرورة تخندق الحركة مع أنصار الثورة التي يحميها من وجهة نظر هؤلاء المرزوقي وليس الباجي قائد السبسي، بل تعتبر الباجي من النظام القديم وأن فوزه سيشكل خطراً على مبادئ الثورة وما وفرته من حريات،حيث تتخوف قواعد النهضة من إمكانية استعادة الماضي البغيض وذكريات تسعينات القرن الماضي. مع اقتراب جولة الحسم في الاستحقاق الرئاسي بين المرشحين قايد السبسي والمرزوقي في الدورة الثانية التي ستجري يوم الأحد 21 ديسمبر الجاري، أصبح هامش المناورة لحزب حركة النهضة ضيقاً جداً، ففي السياسة لا مجال للحياد.و في كل الفترات الصعبة التي مرت بها البلاد طيلة مرحلة الانتقال الديمقراطي المرتبكة، كان القيادي الأول في حركة النهضة الشيخ راشد الغنوشي يلعب دوراً حاسماً في تغليب منطق الحكمة والتعقل في السياسة، لأن تونس لن يحكمها سوى التوافق والتقارب بين مختلف الأطياف السياسية، مهما كانت خلافاتها الايديولوجية والتاريخية، حسب وجهة نظره. وهو ما جعله، وعدد آخر من القياديين، يمدون أياديهم نحو منافسيهم وتجسم ذلك خلال فترة الحوار الوطني من أجل المصادقة على الدستور الجديد،وخلال فترة التوافقات التي سبقت التحضير للانتخابات ولا تزال متواصلة إلى الآن. من الواضح أن الشيخ راشد الغنوشي والخط المعتدل داخل حزب النهضة يميز تاريخيا بين الشق الدستوري في حزب الحبيب بورقيبة وحزب التجمع في عهد زين العابدين بن علي، والذي ينتمي إليه الباجي قائد السبسي، وبين الشق اليساري الذي تغلغل في حزب التجمع في زمن بن علي، والذي يمثل الخط الاستئصالي المتشدد ضد الإسلاميين. وحسب بعض المحللين العارفين بتاريخ الصراع الطويل بين النظام السابق والإسلاميين، يبدو أن الشيخ راشد الغنوشي استخلص الدرس من تجربة نتائج انتخابات عام 1989، حين اختار الإسلاميون مواجهة نظام بن علي، فاستفرد بهم اليسار الانتهازي الذي كان الأداة الاستئصالية للنهضة ثقافيا واجتماعيا بل وحتى أمنيا. وانطلاقاً من هذه الرؤية، يعمل الشيخ راشد الغنوشي والتيار المعتدل داخل حزب النهضة إلى التقارب مع الباجي القائد السبسي باعتباره يمثل الشق الدستوري المهيمن داخل «حزب نداء تونس»، بحثاً عن صيغة معينة من التوافق للشراكة مع الحكم. والحال هذه، في كل مرة تمر فيها البلاد بأزمة سياسية كبيرة، يتدخّل «الشيخان» راشد الغنوشي والباجي قائد السبسي للتقدّم بالتجربة الديمقراطية الناشئة خطوة مهمّة إلى الأمام تعكسُ حرصا مشتركا واضحا لتغليب المصلحة الوطنيّة وتجنيب المشهد السياسي القطيعة والصدام. فقد كان تأثير الشيخين بارزا في محطات أخرى هامّة من بينها على وجه الخصوص:أولاً:تأمين نجاح المرحلة الانتقالية الأولى وإجراء انتخابات المجلس الوطني التأسيسي وتحقيق أوّل تداول سلمي على السلطة والذي كان طرفاه حينها الباجي قائد السبسي (الوزير الأوّل) وراشد الغنوشي (رئيس الحزب الأغلبي في انتخابات 23 أكتوبر 2011). ثانياً:تأمين نجاح المرحلة الانتقالية الثانية وإخراج البلاد من الأزمة الخانقة التي عرفتها إبان اغتيال الشهيدين بلعيد والبراهمي، وكان لقاء باريس الشهير في 13 أغسطس 2013 منطلقا فعليّا لمسار الحوار الوطني الذي مهّد لإتمام صياغة الدستور وتوفير مستلزمات إنهاء الوضع المُؤقت (قانون انتخابي / هيئة انتخابات / حكومة محايدة ومستقلة). ثالثاً:علاقة التواصل التي تبعت نتائج الانتخابات التشريعية ليوم 26 أكتوبر 2014 حيث تنقّل الغنوشي لتهنئة السبسي وقابل هذا الأخير ذلك بتأكيدات واضحة على أهميّة التوافق ورفض إقصاء النهضة على اعتبارها القوّة الثانية انتخابيا.رابعاً:تأمين عملية انتخاب مكتب رئاسة مجلس نواب الشعب بشكل توافقي وبغالبية مريحة من أصوات النواب تُشجّع على انتظارات جيّدة على مستوى أداء السلطة التشريعية. وأياما قبل الدور الثاني لانتخابات الرئاسة لا يريد الشيخ راشد الغنوشي والخط المعتدل داخل حزب النهضة، أن يرتكب خطأً تاريخياً من خلال مسايرة الخط المتشدد الداعي إلى دعم المرزوقي أمام السبسي، لأن في مثل هذا الموقف، سيجد الباجي القائد السبسي أمام خيار وحيد وهو من حقه لضمان أوفر حظوظ الفوزفي هذه الدورة الثانية من الانتخابات الرئاسية بالالتجاء إلى اليسار الانتهازي الاستغلالي الذي يحسن اقتناص الفرص عكس بعض قيادات النهضة وحينها سيفرضون شروطهم على السبسي والتي تتخلص أولا وأخيرا وفي مجملها ومفردها في التخلص من النهضة واستئصالها نهائيا من المشهد السياسي مستغلين بعض الدعوات «الدولية» في هذا الاتجاه والتي تدعو إليها أطراف كان اليسار الانتهازي ينعتها بالرجعية فصارت الآن تقدمية فقط لأنها ضد الإسلام السياسي، حسب قول مثقف تونسي. حركة النهضة تعيش هذه الأيام مرحلة عصيبة في تاريخها، يتجاذبها تياران، الأول يدافع عنه الشيخ راشد الغنوشي الذي بات يدرك تأثير التداعيات الإقليمية والدولية على التموقع للحركة في المشهد السياسي التونسي، وما تفرضه هذه التداعيات من لعب ورقة التوافق للبقاء أو استراتيجية تونسة الحركة، والثاني يقوده الشيخان اللوز وشورو، وهو تيار معادي للمنظومة السابقة ويدافع عن المحافظة على خط إخواني لحزب حركة النهضة الإسلامي.

391

| 19 ديسمبر 2014

حاجة تونس إلى خطة لإنقاذ الاقتصاد

تونس في الوقت الحاضر تعاني من أزمة اقتصادية خانقة، السبب في ذلك، أن الأنموذج التنموي السابق الذي كان سائدا منذ أكثر من خمسة عقود من الزمن، لفظ أنفاسه الأخيرة مع اندلاع الثورة، وحتى المؤسسات الليبرالية الدولية، مثال صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، ووكالات تصنيف ومنتديات عالمية أو بصيغة مقتضبة كامل حارسي المعبد الليبرالي الجديد المسيطر حاليا على الاقتصاد الدولي، وعلى الفكر الليبرالي الدوغمائي، يقرون جميعاً بموت الأنموذج التنموي السابق، وضرورة إيجاد بديل له. وكانت تونس شهدت منذ سنة 2006 بداية التراجع في الترقيم السيادي للبلاد، مما تسبب في تراجع النمو لاسيَّما خلال الفترة الممتدة بين 2007 و2009، وانخفاض القيمة المضافة أساساً في الصناعات التحويلية والسياحية والتجارية خصوصا في سنة 2009، الأمر الذي أدى إلى تراجع الدخل الفردي المتاح ليصل إلى 5641دينارا، حوالي (3133 دولارا)، وبدأت بذلك تبرز ظواهر الفقر وضعف تكوين رأس المال الثابت، إذ لم تتجاوز نسبة ارتفاعه 5.8%، لتتكثف موجات الهجرة من المحافظات الداخلية المهمشة والفقيرة والمحرومة من مشاريع التنمية، نحو التجمعات الحضرية الكبرى، خاصة في تونس العاصمة، وسوسة. وصفاقس. ومنذ انفجار الثورة، وطلية حكم الترويكا، عاشت تونس خرابا حقيقيا لاقتصادها، محا النمو المتسارع والمستقر الذي عاشته البلاد على مدى أكثر من عقد بشهادة المنظمات الدولية المانحة، والشركاء الاقتصاديين لتونس مثل الاتحاد الأوروبي، وبشهادة الشعب التونسي بمختلف طبقاته الاجتماعية وأجياله، الذي صار أكثر من ثلثه فقيراً أو تحت خط الفقر. وحسب معطيات المعهد الوطني للإحصاء، فقد تفاقمت نسبة الفقر الشديد من 15% في أواخر سنة 2009 من مجمل السكان في 2013 حسب المسوحات الميدانية لمصالح وزارة الشؤون الاجتماعية، فأصبحت نسبة الفقر اليوم تشمل أكثر من مليوني تونسي صاروا تحت خط الفقر بحسب المعايير الوطنية والدولية، ويعانون بالتالي صعوبة في التغذية، ونقص مداخيلهم ما ألجأهم إلى التداين المفرط لتلبية أبسط مقومات العيش، إذ بلغ قائم التداين العائلي 16091 مليون دينار(حوالي 9مليارات من الدولارات)، وفق معطيات مركزية المخاطر للبنك المركزي التونسي الذي أحصى 800 ألف عائلة تونسية ترزح تحت الديون. وكانت الترويكا الحاكمة بقيادة حركة النهضة الإسلامية تفتقر إلى منوال جديد للتنمية، فتراجع النمو والتنمية في عهدها، بل انعدما أو كادا يضمحلان رغم أرقام نمو سلبية غالباً أو مبالغ فيها لا تناسب الواقع بسبب الفقر المستشري والأزمة الاقتصادية التي تعيشها البلاد، والتي رهنت مستقبل الأجيال القادمة عقوداً لدى الدائنين، وقضت على أنموذج التنمية السابق لحكم الترويكا على علاته، ونسفت نجاحاته وصارت التنمية غاية يصعب تحقيقها. فقد تفشت ظاهرة التهريب في ظل حكم الترويكا، إذ تسبب في خسائر يومية طائلة لخزينة الدولة، وخلقت مشاكل جمة للمؤسسات المنظمة، فأضحت المغذي الرئيسي للتجارة الفوضوية التي تحولت إلى اقتصاد خفي قائم الأركان. وحسب دراسة أعدها البنك الدولي، فإن التهريب يكلف تونس سنويا خسائر تقدر بنحو 6600 مليار من المليمات، أي ما يعادل 3.6مليار دولار. ومن المعروف أن عائدات التهريب والاقتصاد الموازي تعود بالدرجة الرئيسية لجيوب عصابات المهربين، أو المافيات الاقتصادية، وهي لا تعود بالنفع على الفئات المهمشة، كما هو الاعتقاد الشائع في المجتمع. وفضلا عن ذلك، فإن التهريب والاقتصاد الموازي تسببا ولا يزالان في فقدان مليون تونسي لمصادر رزقهم، ويهددان مواطن الشغل في القطاع المنظم من الاقتصاد. وتتضح الأزمة الاقتصادية في تونس راهنا، في انهيار التوازنات المالية للدولة، وعجز قياسي في ميزان المدفوعات رغم التداين المفرط الذي بلغ في مجمله خلال السنوات الثلاث الماضية 19078 مليون دينار، أي ما يعادل 10مليارات دولار، مما تسبب في تراجع القدرة الشرائية للمواطن بنسبة 22%، ما أحدث تضخما مفتوحاً يفوق 6%. وشهدت تونس تراجعاً شديداً في ترتيبها الاقتصادي، مثلما جاء في الترتيب الأخير لمجلة «فوراين أفارس» للدول الهشة والتي أسندت بالاعتماد على جملة من المؤشرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية المرتبة 87 إلى تونس، وهي مرتبة تبعث على الخوف، وتهم نقاط الضعف حسب المجلة بالخصوص قطاعين أساسيين وهما قطاع الخدمات العامة وجهاز الدولة بصورة عامة، وهي مسائل يجب أن تحظى بالأولوية المطلقة من قبل الحكومة القادمة حتى لا تتحول تونس إلى بلد فاشل.في ظل هذه الأزمة الاقتصادية الخانقة، المتمثلة في استمرار هبوط قيمة الدينار التونسي إلى قاع البئر، وتوقف السياحة التي كانت تشكل العمود الفقري للاقتصاد التونسي، وزيادة معدلات البطالة بصورة كبيرة، لاسيَّما بين الشباب حاملي الشهادات الجامعية (250000)، والتهاب الأسعار، باتت تونس تحتاج إلى برنامج اقتصادي للإنقاذ يقطع مع الأنموذج الاقتصادي السابق الذي وصل إلى مأزقه المحتوم بشهادة المؤسسات الدولية المانحة، ويؤسس لأنموذج اقتصادي جديد يحل محل رأسمالية المحسوبية والفساد، الذي فرضها النظام السابق حسب التقرير الأخير للبنك الدولي المخصص للاقتصاد التونسي.إن أول شروط وضع خطة لإنقاذ الاقتصاد، هو تأمين الاستقرار السياسي في البلاد بعد أربع سنوات من الانتقال الديمقراطي المتوتر والمرتبك، لتمكين الحكومة المقبلة من مواصلة المقدرة على إنعاش الاقتصاد والمؤسسات الكبرى المهددة بالإفلاس، وتوضيح الرؤية في مجال الاستثمار العمومي، ومعالجة الاختلالات الكبيرة في ميزانية الدولة التي ستناهز حسب التقديرات 2500 مليون دينار(1400 مليون دولار) في أواخر شهر ديسمبر الجاري، فضلاً عن إيجاد حل لضخ إيرادات جديدة على المستوى النقدي قدرت إجمالاً بنحو 55 مليار دينار(30مليار دولار)، منها 22 مليار دينار(12مليار دولار) ديون خارجية إضافية، والباقي استثمارات أجنبية، رغم أن قيمة الدين الخارجي لتونس وصلت إلى حد 17 مليار دولار، وبات يثقل كاهل الاقتصاد التونسي في ضوء انتظار ارتفاع قيمة خدمة الدين بنسبة 50% في غضون السنتين القادمتين. ويجمع الخبراء الملمون بالشأن التونسي، أن الأولوية للإصلاح الاقتصادي يجب أن تكون موضع اتفاق وإجماع مجمل الحساسيات ومكونات المجتمع المدني بالبلاد، وذلك في سياق تكريس مفهوم النمو المندمج، ومقاومة آفة البطالة، ومعالجة معضلة الفقر المستفحل في المحافظات المهمشة والفقيرة في تونس العميقة، وعدد من التجمعات الحضرية الكبرى بالبلاد، حيث إن الإدماج التنموي يمر عبر إيجاد الصيغ الفعالة للمشاركة في تحديد حاجيات كل محافظة من مشاريع تنموية، وبرمجتها والإشراف على إنجازها. وفضلاً عن ذلك، يقتضي الإصلاح الاقتصادي، بلورة إستراتيجية من أربعة محاور رئيسية: أولها، إعادة بسط سيادة الدولة، وثانيها، إقرار مناهج لمحاربة الفساد المستشري في البلاد، وثالثها، التقييم الدقيق للأضرار الحاصلة وتبعاتها وفق مقاربة معيارية استشارية واضحة المعالم، ورابعها، البحث عن سبل تغطية المخاطر باعتماد الأساليب والمناهج الملائمة. وتقتضي خطة الإنقاذ وتجنب المحاذير، الإقرار بضرورة«خطة مارشال» جديدة في تونس، تساهم فيها الدول المانحة: الاتحاد الأوروبي، والولايات المتحدة الأمريكية، ودول مجلس التعاون الخليجي، والمؤسسات المالية الدولية، باعتبارهم الشركاء الحقيقيين لتونس، وتركيز حقيقي للامركزية واللامحورية الإدارية، وإعادة هيكلة التقسيمات الإدارية للجهات، ورصد القدرات البشرية والمادية الكفيلة بإنجاح هذا المسار الطموح، ودعم النمو مع تقوية الدعائم المالية للنسيج الاقتصادي المهيكل المستقطب لليد العاملة، والسعي قدر الإمكان إلى إدماج الآلاف من العاملين في الاقتصادي الموازي، لتفادي خطره على الاقتصاد المهيكل. كما تستدعي خطة الإنقاذ أيضاً تطوير البنية الصناعية وفق المعايير الدولية القائمة على تحديث المناطق الصناعية والأقطاب اللوجستية والتي يجب أن تخضع لسلطة الدولة التونسية بعيداً عن سياسة المناولة المخربة لعوامل الإنتاج.

1004

| 12 ديسمبر 2014

اليسار التونسي أمام أسئلة المشاركة في الحكم

احتلت الجبهة الشعبية (التقاء سياسي بين قوى وطنية وديمقراطية تقدمية يسارية وقومية، وهي الفضاء السياسي لالتقاء أبرز القوى اليسارية مع بقية القوى التقدمية المناضلة مثل البعثيين والناصريين التقدميين والاشتراكيين، وهي قوى يمكن تصنيفها على أنها قوى يسارية، ليست بالضرورة ماركسية) المرتبة الرابعة في الانتخابات التشريعية التي جرت بتونس يوم الأحد 26 أكتوبر 2014، بحصولها على 15 مقعداً من أصل 217 مقعداً في البرلمان التونسي، واحتل مرشح الجبهة الشعبية في الدورة الأولى من الانتخابات الرئاسية التي جرت يوم الأحد 23نوفمبر 2014، المرتبة الثالثة، بحصوله على 255529 صوتا أي ما يعادل 7.82%. هاتان النتيجتان اللتان حصلتا عليهما الجبهة الشعبية في الانتخابات التشريعية والرئاسية، جعلتا منها الطرف المحدد في مسألة فوز الباجي قائد السبسي في الدورة الثانية من الانتخابات الرئاسية التي ستجري على الأرجح يوم 21ديسمبر الجاري، رغم أن الجبهة لم تصدر موقفا واضحا حتى الآن، وتعتبر أن المرشحين اللذين بقيا في السباق من أجل الوصول إلى قصر قرطاج، وهما الباجي قائد السبسي ومحمد المنصف المرزوقي، لا ينسجمان مع برنامج الجبهة حيث لا هذا ولا ذاك يمثل الجبهة، وبالتالي لا يمكن أن ينال أصوات الجبهة بصورة غير مشروطة، لكن في المقابل كيف ستتعامل الجبهة مع هذا الواقع، وهو ما يبقى رهن الأيام المقبلة. وفي ضوء هذه النتائج الإيجابية التي حققتها الجبهة الشعبية، أصبحت هذه الأخيرة أيضاً بيضة القبان المحددة في تشكيل الحكومة المقبلة من قبل «حزب نداء تونس»، باعتباره الحزب الفائز في الانتخابات التشريعية الأخيرة، والمؤهل لتشكيل الحكومة عبر تكوين تحالفات سياسية وحزبية تُؤمن له الحصول على 109 نواب، بوصفها الأغلبية النسبية المطلوبة التي تمكنه من إدارة الحكم في تونس. والحال هذه، بات على اليسار التونسي أن يشارك في الحكم لأول مرّة في تاريخه، بدلاً من البقاء مشتتاً ومهمشاً خارج إدارة الدولة طيلة العقود الخمسة الماضية، ويتحمل مسؤولياته في إدارة شؤون الدولة من خلال تسلم حقائب وزارية معينة، حتى في ظل ائتلاف حكومي، يقوده حزب ليبرالي ينتمي إلى يمين الوسط.ومادامت هناك فرصة تاريخية لكي يشارك اليسار التونسي في الحكم، فإن هذا الأمر بات يتطلب من هذا الأخير أن يبلور رؤية سياسية سليمة وواقعية لعملية المشاركة السياسية هذه. وتنطلق هذه الرؤية، من أن تونس تمر في الظروف الراهنة بمرحلة التحول الديمقراطي المرتبك، بعد أن حوّلت الترويكا التي حكمت تونس طيلة السنوات الماضية الثورة التونسية الراديكالية في طلباتها في مجال الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية إلى فوضى واستبداد جديد وإرهاب مستوطن. فعلى مستوى المجلس النيابي، أصبح بإمكان الجبهة الشعبية أن تؤسس كتلة نيابية محترمة، باعتبار أن الحد الأدنى لتأسيس كتلة نيابية وفق قاعدة المجلس التأسيسي السابق هي 10 نواب. كما أن الجبهة الشعبية يمكن أيضاَ أن تستقطب نواباً آخرين إلى كتلتها، لاسيَّما من النواب غير المنتمين إلى أحزاب سياسية، وإن كان هذا يبقى مرهوناً بالتفاعلات التي ستجري داخل المجلس بين النواب المتواجدين في مجلس الشعب. وفيما يتعلق بالمشاركة السياسية في الحكومة المقبلة، فإن الجبهة الشعبية من حقها أن تحسن شروطها التفاوضية مع الباجي قائد السبسي و«حزب نداء تونس»حول تركيبة وشكل الحكومة المقبلة، وبالتالي حول التسوية السياسية المقبلة، نظراً لوجود اختلافات حقيقية حول الخيارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تحكم توجهات كل طرف. ولكن في هذا المجال، على الجبهة الشعبية أن تعي مسألة في غاية من الأهمية، ألا وهي أن النظام الديمقراطي الجديد المطلوب بناؤه بعد الانتخابات التشريعية والرئاسية، صعب التصنيف على صعيد المنظومة الفقهية الدستورية، باعتباره نظاماً ازدواجياً، وإن كان مركز الثقل الحقيقي فيه هو بيد الحكومة، ويتمتع البرلمان بسلطات واسعة وشاملة في العديد من القضايا مقابل إعطاء مؤسسة الرئاسة صلاحيات تبدو متوسطة التأثير. وتبدو مشاركة الجبهة الشعبية في الحكومة المقبلة مسألة في غاية من الأهمية، نظرا لأن البلاد التونسية تعاني من عدم الاستقرار السياسي الناجم عن مرحلة التحول الديمقراطي الصعبة، وغياب الإستراتيجية الوطنية لمحاربة الإرهاب، فضلاً عن أن الأحزاب السياسية الديمقراطية لا تمتلك تصوراً واضحاً لبناء النظام الديمقراطي البديل. بناء على ذلك فالنظام الديمقراطي الذي يريده الشعب التونسي إقامته بعد أن أنجز ثورته وتم الغدر بها، هو النظام الذي يسمح بمشاركة سياسية واسعة في إطار الميكانيزمات الانتخابية، أي النظام الذي يتضمن توسيع قاعدة المشاركة في عملية صنع القرار السياسي، والذي يتحقق من خلال الانتخابات التنافسية، والاعتراف بمبدأ التداول على السلطة والمشاركة في عملية اتخاذ القرارات. فمفهوم الديمقراطية يتضمن فكرة جوهرية وهي قدرة السياسات العامة على الاستجابة لمطالب الجماهير، وذلك عن طريق هياكل أساسية تقوم بتعبئة المصالح. وعليه فالتحول الديمقراطي هو عملية تهدف إلى إعادة النظر في خارطة القوة على مستوى النظام السياسي، والعمل على إعادة التوازن بين القوى الرسمية المتمثلة في الدولة والمؤسسات غير الرسمية متمثلة في منظمات المجتمع المدني. إن التحول الديمقراطي الحقيقي الذي ينشده الشعب التونسي ما بعد الانتخابات التشريعية والرئاسية المقبلة، مرتبط بإقامة نموج جديد للتنمية الاقتصادية غير خاضع لمقتضيات الليبرالية المتوحشة، ويقوم على دعامتين أساسيتين: الدعامة الأولى تتمثل في أن الديمقراطية تعني تنظيم الأفراد في جماعات تنافسية من خلال نظام تعددية حزبية بهدف السيطرة على سلطة الدولة. والدعامة الثانية، إن الديمقراطية شرط أساسي لبناء الدولة الوطنية التي تستطيع مقاومة الضغوط السلبية النابعة من النظام الدولي الجديد الذي تتحكم فيه القوى الدولية الغربية، والمؤسسات المالية المانحة، وكذلك ما يترتب عليها داخليا من آثار وعواقب. ويمكن القول بصفة عامة إن مقولة الديمقراطية تساوي نموذج التنمية الذي أضحى قضية خلافية في الجدل السياسي التونسي، فهناك من يرى الديمقراطية من المنظور الليبرالي، ويدافع عن النموذج الاقتصادي الليبرالي المتوحش، وهو ما سيقود إلى إعادة إنتاج نظام ابن علي، وبالتالي إعادة إنتاج منظومة الفساد السياسي والاقتصادي والثقافي التي كانت سائدة قبل الثورة، والتي جعلت تونس خاضعة للهيمنة الغربية وتابعة لها. وهناك من يؤكد في تونس على ضرورة تحلل مفهوم الديمقراطية من إطاره الرأسمالي، وانتهاج نموذج جديد للتنمية عبر إعطاء عملية التحول الديمقراطي توجها وطنياً (أي معاد للإمبريالية الغربية) ومضمونا اجتماعياً(أي معاد لليبرالية الرأسمالية المتوحشة ومن يمثلها من منظمة الأعراف والبرجوازية الطفيلية في الداخل).من المؤكد أن فكرة بناء الدولة الوطنية الديمقراطية التعددية على أركان نظام برلماني مهيمن أو مزدوج كما هو الحال في تونس، لا يمكن أن تنجح إلا في بلدان تجذرت فيها الديمقراطية، وتجاوزت مرحلة النشوء والنمو. ولكن في واقع تونس، الديمقراطية لا تزال ناشئة، وفي هذه الحالة يصبح من واجب اليسار التونسي أن يكون مشاركاً في عملية إعادة بناء الدولة الوطنية الديمقراطية التعددية، عبر تركيز أسس نظام ديمقراطي جديد يقوم على التمثيل الواسع للأحزاب الوطنية والديمقراطية ويكرس تداول الحكومات في زمن قصير من أجل تجاوز ديكتاتورية اللون السياسي الواحد- سواء من الأحزاب اليمينية الليبرالية على اختلاف أطيافها، أو من خلال شراكة في الحكم بين «حزب نداء تونس» وحزب «النهضة الإسلامي»- وتوسيع شراكة الشعب في صنع مستقبله السياسي، وإدارة شؤونه العامة. فعملية الانتقال الديمقراطي في تونس بعد الانتخابات التشريعية والرئاسية، التي تم فيها حل أزمة الشرعية والمشاركة والهوية والتنمية، أي انتهاج الديمقراطية كأسلوب لممارسة الأنشطة السياسية، تقتضي تغييرا جذريا لعلاقات السلطة في المجال السياسي وعلاقات الترتيب في الحقل الاجتماعي. وعليه فالتحول الديمقراطي يعني تغييرات عميقة في الأبعاد الأساسية الثلاثة في النظام: البعد الثقافي،البعد الهيكلي، والسياسات، وهذه التغييرات ناتجة عن وجود تناقضات بين هذه الأبعاد الثلاثة، مما يؤدي إلى ضرورة مشاركة اليسار التونسي في الحكم كي يسهم من موقعه في عملية تغيير جذري لجميع مستويات النظام، ويتجاوز مستوى التفتت السياسي بوصفه عاملاً رئيسياً من عوامل عدم الاستقرار السياسي.

831

| 05 ديسمبر 2014

alsharq
محكمة الاستثمار والتجارة

عندما أقدم المشرع القطري على خطوة مفصلية بشأن...

1716

| 25 نوفمبر 2025

alsharq
العائلة الخليجية تختار قطر

أصبحت قطر اليوم واحدة من أفضل الوجهات الخليجية...

1569

| 25 نوفمبر 2025

alsharq
سابقة قضائية قطرية في الذكاء الاصطناعي

بات الذكاء الاصطناعي اليوم واقعاً لا يمكن تجاهله...

1383

| 30 نوفمبر 2025

alsharq
ثقة في القرار وعدالة في الميدان

شهدت الجولات العشر الأولى من الدوري أداءً تحكيميًا...

1281

| 25 نوفمبر 2025

alsharq
حوكمة القيم المجتمعية

في زمن تتسارع فيه المفاهيم وتتباين فيه مصادر...

846

| 25 نوفمبر 2025

alsharq
الصداقة العالمية.. في سماء قطر

الصداقة من خلال الرياضة.. الشعار العالمي للمجلس الدولي...

750

| 24 نوفمبر 2025

alsharq
الكلمة.. حين تصبح خطوة إلى الجنة أو دركاً إلى النار

في زمنٍ تتزاحم فيه الأصوات، وتُلقى فيه الكلمات...

636

| 28 نوفمبر 2025

alsharq
قلنا.. ويقولون

* يقولون هناك مدير لا يحب تعيين المواطن...

516

| 24 نوفمبر 2025

alsharq
الذهب المحظوظ والنفط المظلوم!

منذ فجر الحضارات الفرعونية والرومانية وبلاد ما وراء...

492

| 24 نوفمبر 2025

483

| 27 نوفمبر 2025

alsharq
التوافد الجماهيري.. والمحافظة على السلوكيات

كل دولة تمتلك من العادات والقواعد الخاصة بها...

480

| 30 نوفمبر 2025

alsharq
المجتمع بين التراحم والتعاقد

يحكي العالم الموسوعي عبد الوهاب المسيري في أحد...

450

| 30 نوفمبر 2025

أخبار محلية