رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
من يستطيع أن يمنع نفسه من أن تحب، أو من يستطيع العيش في الحياة من غير عاطفة الحب؟ ذلك بلا ريب إنسان لا قلب له ولا وجدان، يحيا عمره تعيسا شقيا محروما، لا تنعم نفسه بأرقى المشاعر، وأسمى الأحاسيس الإنسانية، مما يمتاز به بنو آدم، وخُصوا به من بين سائر المخلوقات. الحب بمفهومه السامي الذي نزلت الديانات السماوية لتوقظ معانيه في نفوس الخلق، لينتشر ويعمّ فيض خيره في الأرض، بل لقد جاء الدين يدعو إلى المحبة والوِداد، كما دعا إلى الإيمان، وقرر أنه لا إيمان من غير حب، حتى كأن المؤمن لا يدخل جنة الآخرة، إن لم تدخل نفسه في الدنيا جنة الحب. في قصتنا التي نحكيها سنعرض لجانب من جوانب الحب الكثيرة المتعددة في حياة خير خلق الله، سيدنا رسول الله، عليه الصلاة والسلام، جانب فيه أيضا صورة من صور رحمته وبره وكرمه، مما كان يفيض من نفسه العظيمة، نعرض ذلك من خلال سيرة حياة الصحابي زيد بن حارثة، رضي الله عنه، زيد حِبُّ رسول الله، كما لقب، أو زيد بن محمد، كما كان يدعى قبل أن يُبطل الوحي عادة التبني، زيد الصحابي الوحيد الذي ذكر اسمه صراحة في القرآن الكريم، زيد الذي أنعم الله عليه، وأنعم كذلك عليه رسوله الكريم. فمن هو زيد؟ وما هي قصته؟. ولد زيد لأبوين كريمين، وكما هي طبيعة الحال عند الأزواج، فرح حارثة وزوجه بمولودهما، وجعلا يعتنيان به، ويغمرانه بعطفهما وحنانهما، وتمر الأيام والسنوات هادئة هانئة على حارثة وزوجه، وابنهما زيد يكبر عندهما شيئا فشيئا، إلى أن جاء يوم بدا فيه لأم زيد أن ترحل لزيارة أهلها، مصطحبة طفلها الصغير، فقام حارثة بتهيئة الراحلة والزاد لهما، وخرج في وداعهما مع القافلة المسافرة من قومه إلى حيث ديار أهل زوجته، وأحس حارثة بشيء ليس بقليل من حزن الفراق، وخوف الوداع، حتى كأن قلبه يوسوس له بحدوث مكروهٍ يصيبهما. انطلقت القافلة بزيد وأمه التي كانت تحتضنه، وفي أثناء سيرها قاطعة الصحراء، تعرّض للقافلة طائفة من اللصوص قطاع الطريق، فهجموا على القافلة وسطَوْا عليها، واستلبوا ما فيها، وأخذوا فيما أخذوا، زيدا وخطفوه من بين يدي أمه، التي باتت والهة مُدلَّهة. بلغ هذا النبأ حارثة، فطار لبه وكاد يقضي حزنا وألما، وما علم ما يفعل، إنها كارثة على حارثة، الذي صمم على الخروج والتجوال في الفَيافي والبراري، بحثا عن ابنه، مهما لقي في سبيل ذلك من المشقة والعناء، إذ كان همه العثور على ابنه الصغير، ومعرفة مصيره، وما هي حاله، أهو حي فيرجى، أم أتى عليه الأجل.كان قطاع الطريق انطلقوا بزيد نحو مكة ليبيعوه في أسواقها الرائجة، فلما بلغوها، عرض عليهم شراءه حكيم بن حزام، فوافقوا على بيعه له، ونقَدَهم الثمن، وذهب حكيم بالغلام الحَدَث إلى داره، ثم إنه وهَبَه لعمته السيدة خديجة بنت خويلد، ومكث عندها زيد، حتى تزوجت من محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، قبل أن يبعث رسولا، ثم وهبت له زيداً، فتقبله بقبول حسن، وهو الرؤوف الرحيم بالناس جميعا. نشأ زيد في خير كَنَف، في معية خير البشر، فوجد ما يجده الأبناء عند آبائهم الصالحين، بل وجد أفضل وأحسن من ذلك بكثير، وكيف لا وهو في جنب نفس على خلق عظيم، نفسٍ يهيئها الله لحمل أعظم رسالة، لتبليغها للعالمين. بعد حين من الزمن علم حارثة، بمكان ولده ومقامه، عن طريق الذين يفدون على مكة لزيارة البيت العتيق، فما إن أُبلغ بذلك حتى حزم أمتعته، واستعد للسفر إلى مكة بصحبة أخيه، فأتياها وأخذا يسألان عن محمد بن عبد الله، من بني هاشم، فقال لهما الناس، إنه الصادق الأمين، فدلوهما عليه، فمضيا إليه يريدان مساومته على إعتاق زيد مقابل الفداء، فلما التقيا به، قال له والد زيد: يا بن عبد المطلب، أنتم أهل الحرم، تفكون العاني، وتطعمون الأسير، جئناك في ولدنا، فامنن علينا، وأحسن في فدائه. فقال لهم عليه الصلاة والسلام: أوَ أحسن من ذلك؟. قال: وما ذاك يا بن عبد المطلب؟. قال: أخيره بيني وبينكم، فإن اختاركم فهو حر لوجه الله، وإن اختارني فهو مني بمنزلة الولد، يرثني وأرثه. سُرّ حارثة حين سماعه هذا القول الذي أدهشه، ولم يكن يتوقعه، فقال فَرِحا: لقد أنصفت، وزدت على النَّصف. ثم دُعي إليهم زيد فأتى وعرف أباه وعمه، وقام إليه أبوه فاعتنقه وقبله، ثم خيره رسول الله بين البقاء معه، أو الذهاب مع أهله، فقال زيد من فوره: ما أنا بالذي أختار عليك أحدا، أنت الأب والعم. حينئذ خرج به رسول الله، إلى معشر القوم، حيث يجتمعون عند الكعبة، وأعلن تبنيه له قائلا: اشهدوا أن زيدا ابني، يرثني وأرثه. فصار يدعى زيد بن محمد، ومن يومئذ أحبه رسول الله محبة تفوق محبة الأب لابنه، حتى لقب فيما بعد بزيد الحِب، أيْ حبيب رسول الله. لما اصطفى الله محمداً بالرسالة الخاتمة، وابتعثه للناس جميعا بشيرا ونذيرا، كان زيد من أوائل المسلمين الأولين الذين لبوا دعوة النبي الكريم، واستجابوا لنداء الله لهم بوحي السماء، وتحمل زيد تبعات الدين الجديد، الذي آمن به، وهو في ريعان شبابه، واكتمال رجولته، فرأى رسول الله من الخير أن يزوج ابنه بالتبني، فشاء القدر أن يختار له زينب بنت جحش، ابنة عمته أميمة بنت عبد المطلب، زينب ذات الحسب والنسب، المزدانة بجمالها وحسنها، ومكانتها في قومها، حتى جعلها ذلك ترد الكثير من الخاطبين، إذ رأتهم ليسوا لها أكفاء، أفترضى بعد ذلك بالزواج من زيد المولى المتبنى في قومه، كيف يكون ذلك؟ والقوم خارجون من مدة ليست بالطويلة من عادات وأعراف المجتمع الجاهلي.عرض النبي الأمر عليها وعلى أخيها عبد الله، ففوجئت بما عُرض عليها، وكادت تُعرض عنه، وترفضه وتأباه، لولا أنها عَقِلت أمرها، وعلمت أنها أمام طلب أتاها من رسول الله (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعصِ الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبينا)، ففوضت أمرها إلى الله، ووافقت على هذا الزواج على مضضٍ، الذي لله فيه حكمة، ثم زُفت إلى زيد وانغلق عليهما باب الدار.إن مقدمة هذا الزواج لتدل على نتيجته التي يفضي إليها، فما كان لزواج يكتب له الاستقرار والنجاح، ليَتمَّ من غير إيجاب وقبول كاملين، نابعين من صميم الفؤاد لدي الزوجين، ولا يتم ذلك ويتحقق إلا عند التكافؤ أو ما يقاربه، بحيث يحصل الرضا المتبادل، لذلك دبّ التنافر بين زيد وزينب، بدل التقارب، فما وجد زيد من حيلة للإصلاح إلا الذهاب إلى رسول الله، ليشكو ما يلقاه من هذا الزواج، فنصحه الرسول وأمره بأن يمسك عليه زوجه. في تلك الأيام نزل تحريم الإسلام لعادة التبني، بقرآن يتلى (ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله). فعاد زيد يدعى إلى أبيه حارثة، وكان أيضا من أعراف أهل الجاهلية، ألا يتزوج الرجل من مطلقة من يتبناه، وأراد الإسلام كذلك أن يبطل هذا العرف، فعندما جاء زيد إلى رسول الله يشكو إليه مرة أخرى، كان أمر النبي له بالطلاق، فطلق زيد زينب، مُنهيا ذلك الزواج الذي لم يلق فيه الاثنان مودة ولا سعادة، ثم قضت زينب عدتها وتزوجها رسول الله، لتتم إرادة الله ويَنفذَ قضاؤه، الذي لا مردَّ له، وفق حكمته جل وعلا.نزلت على إثر ذلك آيات القرآن قائلة في هذه الحادثة من سورة الأحزاب (وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتقِ الله وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرجٌ في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا وكان أمر الله مفعولا). والذي كان يخفيه في نفسه عليه الصلاة والسلام، هو زواجه من زينب، الذي قضاه الله، وأعلمه إياه بالوحي، وكان يخشى أن يتحدث الناس قائلين: تزوج مطلقة ابنه بالتبني. ولكن الله يجيب عن نبيه حيث قال في القرآن:(ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين). شوق الحبيب إلى حبيبه في العام الثامن من الهجرة يجهز رسول الله جيشا لملاقاة الروم في معركة مؤتة، وأمّر عليه زيد بن حارثة، فقد كان لا يبعثُ زيدا في جيش قط، إلا أمّره عليه، واستشهد هنالك زيد الحِب، فبكى عليه النبي وحزن، وأتى أهله يواسيهم، ويخفف عنهم وقع المصاب، فجَهَشَت في وجهه بنت زيد، ففاض دمع رسول الله حتى انتحب، وكان معه سعد بن عبادة، رضي الله عنه، فقال: يا رسول الله، ما هذا؟ فقال عليه صلوات الله وتسليماته «هذا شوق الحبيب إلى حبيبه».
9628
| 24 يونيو 2016
عادت قريش من معركة بدر، مهيضة الجناح، جريحة تجر ذيل الهزيمة المرة، بعدما مُنِيت به من خسارة فادحة، وغرامة هائلة، إذ قتل من سادتهم وزعمائهم من قتل، وأسر منهم من أسر، على أيدي الذين آمنوا بالله ورسوله، وجاهدوا في سبيله حق جهاده، أولئك هم صحابة رسول الله، عليه الصلاة والسلام. وكان من المشركين الذين قتلوا في يوم بدر، أمية بن خلف، والد صفوان بن أمية، صفوان ذلك الابن الذي ظل حزينا مكتئبا على مقتل أبيه، حتى لم يعد يطيب له عيش، ولا يلذ له قوت، ويزيد من هَيَجان واضطراب نفسه، ما يشعر به من حقد وغل على قاتليه، ثم ما يجده من قِصَر اليد، وفقد الحيلة، في طلب ثأره، والأخذ بدمه المهدور، فهو موتور لا يجد سبيلا على واتره. في ذات يوم خرج صفوان يجول في مكة، لا يدري أين يقصد، خرج هائما على وجهه، بلا وجهة معينة يريدها، من فَرْط ما به من ضجر وضيق، فبينما هو يمشي، إذ لقي عمير بن وهب، أحد رجال قريش وقادتها المبرّزين، وفرسانها الماهرين، وكان هو أيضا ممن ذاق مر الهزيمة النكراء في بدر، وفي نفسه ما فيها من مَوْجِدة وضغينة على المسلمين، ولا سيما وقد أخذوا ولده أسيرا عندهم. فجلس الاثنان، صفوان وعمير يتحدثان، وهما متشاكلان في حالتيهما النفسية، وما يجدانه من شعور أليم على ما بهما من مصاب شديد بسبب المسلمين، فقال صفوان، ذاكراً قتلى بدر: والله ما في العيش بعدهم خير. قال عمير: صدقت، والله لولا دَينٌ علي لا أملك قضاءه، وعيالٌ أخشى عليهم الضَّيعة بعدي، لركبت إلى محمد حتى أقتلَه، فإن لي عنده علةً أعتل بها عليه، أقول: قدمت من أجل ابني الأسير. هنا حَدَقَه صفوان بعينه، واقترب منه، وقال وهو يضرب بكفه على صدره: عليّ دينك يا بن عمي، أنا أقضيه عنك، وعيالك مع عيالي أواسيهم ما بقيت. فسكت عمير هنيهة ثم قال: إذن فاكتم شأني وشأنك، ولا تطلع عليه أحداً أبداً.أخذ عمير بن وهب، يعد العدة، ويتجهز للسفر إلى المدينة، حاملا معه سيفا صارما مسموما، وانطلق نحو المدينة قاطعا المفاوز، وهو يحث السير، ويحدث نفسه بقرب نيل ثأره، وإشفاء غليله، فكان ذلك يقوي عزيمته، ويُذْكي حماسته، فيما خرج من أجله، فلما قدم المدينة لقيه عمر بن الخطاب، الفاروق، الذي من شدته وبأسه في دين الله، لو سلك شعبا لسلك الشيطان شعبا غير شعبه، فأوجس عمر من مقدمه وظن به شرا، وقال: هذا عدو الله، عمير بن وهب، والله ما جاء إلا لشر. ثم دخل عمر على رسول الله فقال: يا نبي الله، إن عمير بن وهب قد جاء متوشحا سيفه. فقال رسول الله: أدخله علي. فأقبل عمر على عمير، ولبّبه ودخل به على رسول الله، فلما رآه النبي قال: أرسله يا عمر. وقال: ادنُ يا عمير. فدنا عمير في رهبة قد أقلقه الموقف، ثم سأله رسول الله: ما جاء بك يا عمير؟ قال: جئت لابني الأسير الذي في أيديكم. قال: فما بال السيف في عنقك؟ أجاب عمير: قبحها الله من سيوف، وهل أغنت عنا شيئا- يعني يوم بدر-. قال رسول الله: أصدقني يا عمير، ما الذي جئت له؟ قال: ما جئت إلا لذلك. فقال رسول الله:(بل قعدت أنت وصفوان بن أمية في الحِجْر، فذكرتما أصحاب القليب من قريش، ثم قلت: لولا دَين علي، وعيال عندي لخرجت حتى أقتل محمدا، فتحمل لك صفوان بدينك وعيالك، على أن تقتلني له، والله حائل بينك وبين ذلك).فدَهِشَ عمير حينئذ أشد الدَّهَش، وأخذت منه المفاجأة، لعلمه أن هذا الخبر لم يعلمه أحد من البشر، وعلم أن هذا لا يكون إلا بوحي من السماء، من لدن العليم الخبير، جل شأنه، ومما زاد ما به من دهشة أن رسول الله قد أرسله ولطف به مع علمه أنه قادم للفتك به، فما عتَّمَ أن شهد شهادة الحق، ونطق قلبه قبل لسانه: أشهد ألا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله. فقال النبي لأصحابه:(فقهوا أخاكم في الدين، وأقرئوه القرآن، وأطلقوا له أسيره)، وهكذا أسلم عمير بن وهب بفضل معاملة النبي له بمبدأ قول الله تعالى:(ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم)، وكذلك صار عمير وليا حميما، بعد أن كان عدواً أثيما.كان صفوان بن أمية في أثناء تلك الأيام، يترقب وصول الأخبار من المدينة، ويتشوق إلى سماعها مبشرة بنجاح صاحبه في مهمته، ويسأل عنها القادمين إلى مكة، فلما طال انتظاره اغتم وظن أن في الأمر ما لا يَسُر، وإنه في حالته تلك حتى قدم بعضهم إلى مكة حاملا معه خبر إسلام عمير، وإقامته في المدينة يتفقه في الدين، نزل هذا الخبر كالصاعقة على صفوان، أشعلت في نفسه حريقاً، كاد يذوب له حسرة وأسفا.عاد عمير من بعدُ إلى مكة، ونفسه مفعمة بروح الإيمان، ونور الهداية، عاد إليها كي يشهرَ إسلامه أمام جميع من في مكة، معلنا دخوله في دين الله بلا خشية ولا رهبة، علّه بذلك يدعو إلى الإسلام، بعد أن كان يصد عنه، ويؤذي أتباعه، ويجاهر بعداوته، فينصر بذلك الإسلام، ويستدرك ما فاته أيام كفره، ولقي هناك صفوان بن أمية، يتميز من غيظه وغضبه، وأراد صفوان لومه ومنازعته فيما أقدم عليه، ولكنه تركه وشأنه، لما رأى منه الحزم والشدة يظهران في أفعاله وأقواله على من يسيء لدينه، فتجنبه وهجره، على ما كان بينهما سابقا من مودة حميمة، وعلاقة قديمة، ولم يمكث عمير في مكة طويلا، حتى عاد إلى المدينة، ومعه نفر ممن يريدون الإسلام.ثم تمضي السنوات حتى أتى عام فتح مكة، ودخل رسول الله مكة مبشرا ونذيرا، مع أصحابه المهاجرين والأنصار، ومن بينهم عمير بن وهب، الذي تذكر حين دخوله مكة صاحبه وابن عمه، صفوان بن أمية، فراح يسأل عنه ويبحث، حتى يطلب له الأمان من رسول الله بدخوله الإسلام، ولكن صفوان كان قد فر هاربا، خوفا على حياته يريد (جُدَّة) ليبحر منها إلى اليمن، منذ أن عرف بمقدم المسلمين، لم ييأس عمير من ذلك، بل ازداد حرصا وأملا، فذهب إلى رسول الله وقال: يا نبي الله، إن صفوان بن أمية، سيد قومه، وقد خرج هاربا منك، ليقذف نفسه في البحر، فأمنه عليك الصلاة والسلام. فقال النبي: هو آمن. قال عمير: يا رسول الله، فأعطني آية يعرف بها أمانك. فما كان من الرسول الكريم إلا أن أعطاه عمامته التي دخل بها مكة لرحمته ورأفته عليه الصلاة والسلام، وحرصه على أن يؤمن الناس جميعا بربهم.
14165
| 23 يونيو 2016
كان الصحابي عثمان بن مظعون، رضي الله عنه، من السابقين الأولين الذين استجابوا لدعوة الإسلام، ولبوا نداءه بالإيمان بالله وحدَه، وبرسالة عبده ونبيه محمد، عليه الصلاة والسلام، وكان حييا أتى له حياؤه بالخير كله، فلم يسلم ابتداءً إلا حياءً من رسول الله، لكثرة ما كان يعرض عليه الإسلام، فأسلم دون أن يستقر في قلبه الإيمان، حتى نزلت هذه الآية العظيمة:(إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون)، فما إن سمعها ووعِيها حتى استقر الإيمان في قلبه استقرار الجبال الراسيات، التي لا تُزحزح عن مراسيها.تلك الآية التي سمعها فراح يتلوها ويرتلها مع نفسه، ومع من يعرف من الناس في مكة، ومن أولئك الناس، الوليد بن المغيرة، وكان على إلف وصلة به، فقرأ عليه عثمان الآية إلى آخرها، فانتبه الوليد وقال: يا بن أخي، أعدها علي، فأعاد عليه قراءتها، فقال الوليد فيما سمع من القرآن: والله إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أصله لمورق، وإن أعلاه لمثمر، وما هو بقول بشر. ولا عجب في قوله هذا، فأي امرئ يقف على ما في تلك الآية الجامعة من معانٍ سامية خيّرة معجزة، لا عهد للناس بمثلها في زمنهم، تأمر بالعُرف، وتنهى عن النُّكر، تهدي إلى الخير والرشد، وتزجر عن الشر والغي، أي امرئ يقف عليها وهو سليم الفطرة، صحيح العقل، رقيق الحس، ولا يأخذه الإعجاب بها، ثم الله يهدي من بعد ذلك من يشاء.هاجر عثمان بن مظعون إلى الحبشة مع من هاجر من الصحابة، إنفاذا لأمر رسول الله لهم، بعد أن اشتد عليهم الأذى والضرُّ على أيدي مشركي قريش، مريداً لهم بذلك عليه الصلاة والسلام، السلامة والنجاة من وطأة ما هم فيه من اضطهاد وعذاب، جاعلاعثمان بن مظعون أميرا عليهم، فخرجوا إلى أرض الحبشة، ومكث عثمان هناك مع أصحابه ما شاء الله أن يمكثوا ثم بدا لهم أن يعودوا إلى مكة، فحزموا أمتعتهم ومضوا إليها، وكانت حالة المسلمين في مكة، على مثل ما تركوهم عليها قبل هجرتهم إلى الحبشة، إذ كانوا في شدة وكرب من المشركين لم يتبدل حالهم.حينما بلغ عثمان مكة رآه الوليد بن المغيرة، وقد قلنا إنه كان على إلف وصلة به من قديم، فعرض عليه الوليد أن يدخل في جواره، وهو سيد من سادة قريش، منيع الجوار في قومه، ينعم من يجيره بالأمان والرعاية، فقبل عثمان جواره هذا، وقد قلنا إنه كان حييا، لا يدع الحياءَ في تعامله أبدا. لبث عثمان في جوار الوليد أياما وهو آمن لا يمسه أحدٌ بسوء ولا أذى، ولكنّ حياءه لم يدعه وشأنه، إذ ثار في نفسه حين رأى أصحاب رسول الله في شدة وبلاء، على حين هو في نعمة ورخاء، يروح ويغدو هادئ البال، ناعم الحال، فآلمه ذلك، وكبر عليه، وكأن حياءه قال له: ويحك، كيف تمتاز على أصحابك وإخوانك، وتنأى بنفسك عما بهم بحيث لا تحس بهم، ولا تشعر، أما تستحي، أما لك إيمان في قلبك يبعث فيك الحياء؟.ساعتئذٍ انتفض عثمان كمن كان نائما فاستيقظ فزعا، وقال:(والله إنّ غدوي ورواحي آمنا بجوار رجل من أهل الشرك، وأصحابي وأهل ديني يلقَْوْن من الأذى والبلاء مالا يصيبني لنقص كبير في نفسي)، فذهب إلى الوليد وقال له: وَفَت ذمتك، يا أبا عبد شمس، وقد رددت إليك جوارك. قال: لمَ يا بن أخي؟ لعله آذاك أحد من قومي. قال: لا، ولكني أرضى بجوار الله عز وجل، ولا أريد أن أستجير بغيره. قال: فانطلق إلى المسجد، فاردد علي جواري علانية، كما أجرتك علانية. فانطلقا حتى أتيا المسجد، فقال الوليد: هذا عثمان، قد جاء يرد عليّ جواري. فقال عثمان: صدق، قد وجدته وفيا، كريم الجوار، ولكني أحببت ألا أستجير بغير الله، فقد رددت عليه جواره.اتفق في تلك الأيام أن كان الشاعر المشهور لبيد بن ربيعة العامري في مكة، قاعد في مجلس من قريش، ينشدهم أشعاره، وهو صاحب القصيدة المطوَّلة الشهيرة التي ذاع صيتها بين العرب، والتي يقول في مطلعها:عَفَتِ الديارُ محلَُها فمُقامُها بمنىً تأبَّدَ غَوْلُها فرِجامُهاوالتي منها هذين البيتين:فاقنعْ بما قَسَمَ المليكُ فإنما قَسَمَ الخلائقَ بيننا علَّامُهاوإذا الأمانةُ قُسِّمت في معشرٍ أوفى بأوفرِ حظِّنا قَسَّامُهارآهم عثمان في مجلسهم ذاك، فجلس معهم، ولبيد آخذٌ في إنشاد أشعاره، فقال من قصيدة بيته المشهور:ألا كلُّ شيءٍ ما خلا اللهَ باطلٌ...، فسارع عثمان قائلا: صدقت. وأكمل لبيد البيت: وكلُّ نعيمٍ لا محالة زائلُ. فقال عثمان: كذبت، نعيم أهل الجنة لا يزول. فتمَعَّرَ وجه لبيد، وغضب وقال: يا معشر قريش، والله ما كان يؤذى جليسُكم، فمتى حدث فيكم هذا. فقال رجل من القوم: إن هذا سفيه فارق ديننا، فلا تجدنّ في نفسك من قوله. فرد عليهعثمان حتى عظم أمرهما، فقام إليه ذلك الرجل فلطم عينه فخضّرها، وكان الوليد بنالمغيرة حينئذ قريبا، فرأى ما حدث لعثمان، فقال له آسفا: أما والله يا بن أخي، إن كانت عينك عما أصابها لغنية، لقد كنت في ذمة منيعة. فقال عثمان: بل والله إن عيني الصحيحة لفقيرةٌ إلى ما أصاب أختها في الله، وإني لفي جوار من هو أعز منك وأقدر.وأراد عثمان أن يثبت لهم شجاعته وعزته وقوته شعراً، ما داموا في مجلس شعر، فأنشد مرتجلا:فإنْ تك عيني في رضا الله نالها يدا ملحدٍ في الدين ليس بمهتدِفقد عوَّض الرحمنُ منها ثوابَه ومن يُرْضِه الرحمنُ يا قومُ يسعدِفإني وإن قلتم غوِيٌّ مضَلَّلٌ لَأحيا على دين الرسول محمدِأريد بذاك اللهَ، والحقُّ دينُنا على رغمِ من يبغي علينا ويعتديهاجر عثمان بن مظعون إلى المدينة المنورة مع المهاجرين، وعاش هناك زاهدا متبتلا، يصوم النهار، ويقوم الليل في راحة من نفسه، وخاصة بعد أن هدأ باله مما كان يؤرقه ويقض مضجعه في مكة من أذى المشركين، وهو في حالته هذه لا يلوي على شيء من متع الحياة وملذاتها، حتى إن امرأته دخلت ذات مرة على نساء النبي، سيئة الهيئة، في أثواب رثة، فقلن لها: مالكِ؟ قالت: أمّا الليلُ فقائم، وأما النهار فصائم. فأُخبر رسول الله بقولها، فلقي عثمان ولامه وقال له:(أما لك بي أسوة)، قال: بلى، جعلني الله فداك. فجاءت امرأته من بعدُ حسنة الهيئة، طيبة الرائحة.
4376
| 22 يونيو 2016
عُرف الصحابي ثابت بن قيس بن شَمَّاس الأنصاري، بصوته الجهير الرفيع، واشتهر بلسانه الفصيح البليغ، الذي يصدع بالحق المبين، في بيان ناصع لا يشوبه شيءٌ من التكلف ولا الإغراب، يجذب القلوب، ويخلب العقول، بالسحر الحلال، الذي ينساب من الحناجر بمعانيه وألفاظه وأنغامه، فيبلغ النفوس كالماء الزلال، يرويها وينعشها، بحيث يغذي العقل، ويصله بحياة تشع فيها أنوار العلم والحكمة، الهادية في طريق الحياة الشائكة، ذلك هو فعل البيان الحق. تجلت مهارة ثابت بن قيس في الخطابة، وظهرت في هذا المجال حذاقته، فكان خطيبا من مصاقِع الخطباء، إذا اعتلى المنبر، أسمع الناس خُطبا رنانة، تترك فيهم دويا أيَّ دويّ، يهز الضمائر، ويؤثر فيها، بما له من فكر قويم، ومنطق سليم، فكان خليقا أن يحتاز هذا اللقب الجليل، ألا وهو خطيب رسول الله، عليه الصلاة والسلام، وكان جديرا أن يظفر بثناء الرسول بقوله: (نعم الرجل، ثابت بن قيس).لئن كان ثابت خطيبا فصيحا، ذا مكانة شريفة في الخطابة، بفضل ذلك اللقب، فإنه أيضا رجل ذو إيمان وتقى، يحب طاعة الله، وطاعة رسوله، ويخاف المعاصي والذنوب، ويكره كل ما يغضب الله، وكل ما لا يرضي رسوله الكريم، فهو أواب منيب، حلّت التقوى في قلبه، واستقرت فيه فزينته، مثلما استقرت في قريحته ملكة البيان والفصاحة، فجعلته خطيبا مفوها، فإنه لما نزل قول الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون)، دخل ثابت داره، واحتبس فيها، وقعد يبكي وهو حزين مكتئب، إذ تخوف أن تكون الآية قد نزلت فيه، فهو ذو صوت جهير، في مجلس رسول الله، فمن ثم يكون قد حبط عمله، وذلك هو الخسران المبين، وظل على تلك الحالة مدة حتى افتقده النبي فسأل عنه فأُخبر عما به فأرسل إليه يدعوه وقال له، مطمئنا إياه:(إنك لست منهم، بل تعيش حميدا، وتقتل شهيدا، ويدخلك الله الجنة)، فسَعد ثابت بن قيس لهذه البشرى سعادة عظيمة، وعمل لها فيما بقي من عمره حق عملها، ليكون أهلا لها وجديرا بها، وليثبت أن ثابت بن قيس، يستحق تلك الشهادة له من خير البرية.دوّن أصحاب السير والمؤرخون، موقفا من مواقف العرب الفصحاء البلغاء، وقع في عام الوفود، من السنة التاسعة للهجرة، وذلك يوم قدم على رسول الله، وفد تميم، وكان وفدا مهيبا ضم وجوه بني تميم وسادتهم، ومعهم خطيبهم عطارد بن حاجب، وشاعرهم الزَّبِرقان بن بدر، فقالوا للنبي: جئناك نفاخرك، فاذن لشاعرنا وخطيبنا. قال: قد أذنت لخطيبكم فليقل. فقام عطارد بن حجاب، يخطب مفتخرا بقومه، ذاكرا ما لهم من مناقب ومحامد، وفضل وحسب، فلما فَرَغ وجلس، قال رسول الله لثابت بن قيس: قم فأجب الرجل في خطبته. فقام ثابت وخطب فأحسن، إذ حمد الله وأثنى عليه، وذكر فضله وبيّن نِعمه، ومدح نبيه المصطفى، خير خلقه، وخاتم رسله، ثم أتى على ذكر مآثر المهاجرين، أكرم الناس أحسابا، وخيرهم فِعالا، وعقّب بذكر الأنصار الذين آوَوْا رسول الله، والذين آمنوا معه، فنصروهم وأعزوا دين الله تعالى، ثم ختم ثابت خطبته بالاستغفار له وللمؤمنين والمؤمنات، وبالسلام.بعد ذلك جاء مقام الشعر، وللشعر مقام أثير عند العرب، كما هو معروف عنهم، فقام شاعر تميم الزبِرْقان بن بدر، فقال:نحنُ الملوكُ فلا حيٌّ يُقاربنا فينا العلاءُ وفينا تُنصَبُ البِيَعُونحن نُطْعِمُهم في القَحْطِ ما أكلوا منَ الشِّواء إذا لم يُؤْنَسِ القَزَعُوننحَرُ الكَوْمَ عِبطا في أرُومتنا للنازلين إذا ما أُنْزِلوا شَبِعواتلك المكارم حُزناها مُقارَعةً إذا الكرامُ على أمثالها اقترعواهذا قول شاعرهم، الذي لم يَعْدُ ذكر نحر الذبائح، ومدِّ الموائد، على عادة العرب الكرام، فلما فرغ هبّ شاعر رسول الله، الشاعر الفحل المُفْلِق، حسان بن ثابت، حين قال له النبي: قم يا حسان فأجب الرجل فيما قال. فردّ مرتجلا شعره على نفس بحر ورَوِي شاعر تميم، وأتى بمعانٍ بديعة رائعة فقال:إن الذوائبَ من فِهرٍ وإخوتهم قد بينوا سُنة للناس تُتّبعُيرضى بها كلُّ من كانت سريرته تقوى الإله وبالأمر الذي شَرَعواقومٌ إذا حاربوا ضرّوا عدوهم أو حالوا النفعَ في أشياعهم نفعواسجيّة تلك فيهمْ غيرُ مُحْدَثةٍ إن الخلائقَ فاعلمْ شرّها البِدَعلو كان في الناس سبّاقون بعدهُمُ فكلُّ سبْقٍ لأدنى سبقِهم تَبَعُأعفةٌ ذُكرت في الوحي عفتهم لا يَطبعونَ ولا يرديهمُ طمَعُلا يبخلون على جارٍ بفضلهمُ ولا يمسُّهم من مطمع طَبَعُلا يفخرون إذا نالوا عدوهم وإن أصيبوا فلا خَوَرٌ ولا هَلَعُإلى قوله:أكرم بقومٍ رسول الله شيعتهم إذا تفرّقَت الأهواء والشِّيَعُقال التميميون لما انتهى حسان من إلقاء قصيدته، معترفين بالحق: وربكم إن خطيب القوم أخطب من خطيبنا، وإن شاعرهم أشعر من شاعرنا، وما انتصفنا ولا قاربنا. وبعدئذٍ أسلم القوم، وأكرمهم رسول الله، وأحسن جوائزهم.
7386
| 21 يونيو 2016
لم يكن أحد من بين صحابة رسول الله، عليه الصلاة والسلام، في مثل مهارة سعد بن أبي وقاص، في الرمي بالسهام، ولا في مثل منزلته من الفضل الذي أحرزه كرامٍ، وسُجّل له في كتاب التاريخ، في باب الجهاد، سعد الذي أسلم مبكرا، وهو ابن سبع عشرة سنة، مع الأوائل السابقين إلى الدخول في الإسلام، برفقة أبي بكر، وعلي بن أبي طالب، وزيد بن حارثة، رضي الله عنهم جميعا، سعد الذي عُرف بلقب في الإسلام، امتاز به واشتهر ونال به الشرف العظيم، وهو أنه أول من رمى بسهم في سبيل الله، حتى كان هو نفسُه يذكر ذلك تحدثا بنعمة الله عليه، وشكرا له بها، فيقول مفتخرا بحق وصدق: (والله، إني لأول رجل من العرب، رمى بسهم في سبيل الله)، ونقول ما ذلك اللقب بقليل، وحُق لصحابه نيل المكانة السامية، والدرجة العالية عند الله والناس. فلنبين متى وكيف حدث ذلك لسعد بن أبي وقاص. في السنة الأولى للهجرة النبوية إلى المدينة، بعث رسول الله، أول سرية لمهمة استطلاع أخبار وشؤون المشركين في مكة، وعَقَدَ الراية فيها لعبيدة بن الحارث بن عبد المطلب، وجعله أميرا على ستين رجلا من المهاجرين، ليس فيهم أحد من الأنصار، كان من بينهم سعد، فمضت السرية في طريقها لتحقيق ما أُمرت به، فبينما هم في مسير طريقهم ذلك، إذ رأوا عددا غير قليل يفوق عددهم من كفار قريش، تحت إمرة أبي سفيان بن حرب، ولأنّ رسول الله كان بعثهم سرية استطلاعية لا قتالية، لم يبادر أحد من المسلمين بمهاجمة المشركين، فلم يقع بين الفريقين قتال، إلا أن سعدا البطل المقدام، أبى إلا أن يصيب منهم بيديه القويتين في الحق، الماهرتين في الرمي، فأطلق على المشركين عددا من سهام كنانته، أصاب بها بعض رجالهم ودوابهم، فكان بذلك أول من رمى بسهم في سبيل الله، نصرة للإسلام، ودفاعا عن المسلمين.بعد ذلك اليوم الأغر في حياة سعد بن أبي وقاص، شهد مع رسول الله المشاهد كلها، وكان المشهد الأعظم والأروع، بالنسبة إليه في يوم أحد، إذ تجلت فيه شجاعته في أبهى مظاهرها، ذلك اليوم الذي لقي فيه المسلمون شدة عظيمة، حين كرَّ عليهم المشركون وقد انكشف عنهم جبل أحد بنزول من كان عليه من الرماة، فتفرق المسلمون في ساحة القتال، وتولوا ولم يبق منهم حول رسول الله، غير نفر قليل ومن بين أولئك سعد، الذي وقف في ثبات وتحدٍّ، يذود ويدافع عن رسول الله بتفانٍ وفداء وتضحية، فأخذ يرشق المشركين بنباله حتى أمطرهم بوابل منها، ولما فرغت جعبته من السهام، نَثَلَ النبي كنانته بين يدي سعد قائلا: (ارمِ سعد، فداك أبي وأمي، ارمِ سعد فداك أبي وأمي)، فجعل سعد يرمي ويرمي، وهو يدعو: (اللهم سهمك، فارمِ به عدوك)، فدعا له الرسول: (اللهم سدد رميته، وأجب دعوته).هكذا أثبت سعد بطولته في هذه المعركة، وخرج منها ظافرا، بدعاء النبي له، الذي استجابه الله، فظل سعد مجاب الدعوة طول حياته، وظافرا أيضا بثنائه له الذي حُفظ في ذلك اليوم، فها هو علي بن أبي طالب يقول بإعجاب شديد:(ما سمعت رسول الله يفدي أحداً بأبويه إلا سعدا).بعد معركة أحد حظي سعد عند الرسول حُظوة عظيمة، حتى بلغ من شدة حب الرسول له أنه كان يفتخر به ويباهي، فيقول إذا رآه: (هذا خالي، فليرني امرؤ خاله). بخٍ بخٍ يا سعد، وهنيئا لك هذه المنزلة الكريمة. وذلك أن سعد قُرَشيّ من بني زُهرة، وبنو زهرة هم قوم أم رسول الله، السيدة آمنة. سبحان ربي! ما هذا الأدب الجم، ولطف النفس، ولين الخلق، وكرم الطبع، في معاملة النبي لأصحابه، إنه يقول لسعد: هذا خالي. مع أنه يكبره بنيّفٍ وعشرين سنة، ولكن لا عجب في ذلك، فرسول الله يزن أقدار الرجال، ويعرف الفضل لصاحبه، فيعطي كل ذي حق حقه، وفق ما له من منقبة ومزية، ويعامل الناس جميعا بخلق حسن، فهو الذي قال الله فيه:(فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك).استمر سعد في دفاعه عن الإسلام في حياة الرسول وبعد مماته عليه الصلاة والسلام، ولم ينِ ولم يكلَّ بل ازداد دفاعا، وتألق ضياء، في ميادين المعارك، وساحات القتال، ففي خلافة عمر بن الخطاب، لما تصعب الأمر وتأزم على المسلمين في العراق، من جراء ما تشنه قوات الفرس من هجمات، مثلت خطورة بالغة على وجود المسلمين هناك، بما للفرس من تفوق في العتاد وعدد الرجال، جمع عمر المسلمين، وحثهم على الجهاد، ورأى أن يرسل جيشا إلى العراق لمواجهة خطر الفرس، وأن يكون هو نفسه قائدا له، غير أن كبار الصحابة من أصحاب الرأي راجعوه في ذلك، وأشاروا عليه بالبقاء في المدينة، لكونه رأس دولة الإسلام، وهو حاكمها، الذي تصدر عن أمره، وترجع إليه في حكمه، وأن ينتدب لذلك قائدا من القواد، ثم وقع الاختيار بعد الرأي والتفكير، على سعد بن أبي وقاص، واتفقوا عليه قائلين: إنه الأسد عاديا. ليسيرَ بجيش المسلمين ويكون البطل القائد لمعركة القادسية العظيمة، التي عز الله فيها جنده، ونصر دينه، فبقيت خالدة في التاريخ لا تنسى.من بعد نصر القادسية، سار سعد بالجيش ليعبروا دجلة ويفتحوا المدائن عاصمة الفرس، ويدخلوا إيوان كسرى، الذي حين دخله سعد، صلى فيه ركعتين، قرأ فيهما قول الله تعالى:(كم تركوا من جناتٍ وعيون. وزروعٍ ومقام كريم ونعمة كانوا فيها فاكهين. كذلك وأورثناها قوما آخرين).بعد أن تم النصر التام للمسلمين على الفرس في العراق، ولّى عمر سعدا إمارة العراق، فاختط سعد هناك مدينة الكوفة، وشرع في بنيانها وتعميرها حتى أصبحت آهلة بالناس، حافلة بالعمران، ثم شاءت المقادير، أن تحدث لسعد حادثة عجيبة غريبة، وهي أن بعض أهل الكوفة شكا سعدا إلى عمر بن الخطاب، فقالوا: ( إن سعدا لا يحسن الصلاة!!). انظروا إلى هذا القول، بل هذا الكذب والزور والبهتان، إنْ تعجبْ فعجبٌ قولهم ذاك، أسعدٌ لا يحسن الصلاة؟! أستغفر الله، تبا لهذا القول، وتبا لمن افتراه.يا للرجالِ ذوي الألباب من نفرٍ لا يَبْرحُ السفهُ المُرديُّ لهم ديناوكذلك هم السفهاء في كل زمان ومكان، لا يسلم الكرام من سفاهاتهم وجهالاتهم وافتراءاتهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله.قال سعد مدافعا عن نفسه:( والله إني لأصلي بهم صلاة رسول الله، أرْكُد — أطيل — في الركعتين الأُوليين، وأخفف في الأُخريين)، فقال عمر:( ذلك الظن بك أبا إسحاق)، ولكن عمر أحب أن يستوثق من الأمر ليسكتَ المتخرصين الكاذبين، فبعث رجالا يسألون عنه في مساجد الكوفة، فكانوا لا يأتون مسجدا من مساجدها إلا أثنوا عليه خيرا، وقالوا معروفا، حتى أتوا مسجدا من المساجد فقال رجل يقال له أبو مسعدة:(اللهم إنه كان لا يسير بالسرية، ولا يعدل في القضية، ولا يقسم بالسوية)، فقال سعد:(أمَا والله لأدعونّ بثلاث، اللهم إن كان كاذبا فأطل عمره، وأطل فقره، وعرِّضه للفتن).فرُئي الرجل من بعدُ وقد سقط حاجباه على عينيه من الكِبَر، يتعرض للنساء في الطرق، وذلك جزاء الباغين الآثمين، وكان يقول إذا سئل عن سبب بلائه: شيخ كبير مفتون، أصابتني دعوة سعد.ثم إن عمر أراد من سعد أن يبقى واليا له على الكوفة، ولكن سعدا أجابه في أسفٍ وأسى:(أتأمرني أن أعود إلى قوم يزعمون أني لا أحسن الصلاة)، وآثر البعد عن الولاية، وأقام في داره بالعقيق، معتزلا صَخَب الحياة، مبتعدا عن ضوضائها، حتى وافته المنية وهو شيخ كبير له من العمر بضعٌ وثمانون سنة، آخر من توفي من المهاجرين كان سعد ابن أبى وقاص قد أوصى أهله أن يكفن في جُبة كان يرتديها يوم بدر، قائلا: (كفنوني بها، فإني لقيت المشركين فيها يوم بدر وهي علي، وإنما خبأتها لهذا اليوم)، ثم حُمل جثمانه إلى المدينة المنورة، وصلى عليه المسلمون في مسجد رسول الله، ودفن بالبقيع، وكان آخر من توفي من المهاجرين، فووري في التراب، وروحه محلّقة في السماء، خال رسول الله، المفدى، وبطل القادسية، رضي الله عنك يا أبا إسحاق.
8604
| 20 يونيو 2016
من بين الأسرى المشركين الذين وقعوا تحت أيدي المسلمين يوم بدر، كان سهيل بن عمرو، خطيب قريش الفصيح البليغ، المعروف بخطابته في مكة ضد الإسلام والمسلمين، يشتم ويعيب الدين الجديد، الذي جاء به رسول الله، عليه الصلاة والسلام، هكذا كان قيامه يخطب في الناس، بما له من الفصاحة والبيان، ولكنه اليوم بعد معركة بدر، أسير قد أسكت ذل الأسر لسانه الذَّرِب، ومنع القيد وقوفه المنتصب، وكذلك يقطع الموقف الشديد العصيب، قول كل خطيب، فلا يعود للبيان ميدان يصول فيه اللسان. يومئذٍ رآه عمر بن الخطاب، وهو يعلم جيدا ما كان من شأن سهيل في مكة، وما كان عمله فيها، فمشى عمر إلى النبي، وقال له بما عُرف به من شدة وقوة في الدين:(يا رسول الله، دعني أنزع ثنيتيْ سهيل بن عمرو، حتى لا يقوم عليك خطيبا بعد اليوم)، فقال النبي الأمين، الذي بعثه الله رحمة للعالمين:(كلا يا عمر، دعه، لعل سهيلا يقف غدا موقفا يسرك)، وسنعلم هذا الموقف بعد حين يسير، الذي يمثل نبوءة للنبي الكريم، الذي اختار استعمال الحلم والأناة مع أسيره، على ما كان منه سالفا، وما عُرف به من عداوة وخصومة في حق الدين. فُكَّ إسارُ سهيل بن عمرو، وعاد إلى وطنه مكة، وعاش فيها إلى أن جاء عام فتح مكة من السنة الثامنة للهجرة، وقدم رسول الله مع صحابته مؤيدين بنصر الله وتوفيقه، فدخلوا البلد الحرام آمنين مطمئنين، واستحضر المهاجرون من الصحابة صورة ما كانوا عليه في وطنهم الذي طالما شهدوا فيه صنوف الأذى والسوء، من المشركين، ثم كيف مكّن الله لهم اليوم وأعادهم إليه ظافرين عزيزين، فما زادهم ذلك إلا حمدا وشكرا، لا زهوا وفخرا، وما أحدث فيهم إلا تسامحا وتغافلا، عما لقوه في الماضي من أهل مكة، فطوَوْا صفحة الأمس، وألقوا بها في هاوية النسيان السحيقة.هنالك دارت الأرض بسهيل بن عمرو، حين جاء هذا الأمر، وضاق به على سعته الرَّحْب، وظن أنه هالك لا محالة، مما قد اقترفه في حق الإسلام من سوء، وما جنته نفسه من عداء طول السنين الماضية، وتذكر ما كان منه قبل نحو عامين في الحديبية، فهجمت على خاطره الذكرى فأزعجته وزعزعته، لمّا ابتعثته قريش لمفاوضة رسول الله، وعقد الصلح معه، الصلح الذي كان الرسول حريصا عليه لرحمته وتسامحه، حتى قال لأصحابه:(لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة، يسألوني فيها صلة الرحم إلا أعطيتهم إياها)، فأفاد سهيل من ذلك إفادة كبيرة، واستطاع بدهائه وفطنته من ربح مكاسبَ لقريش، وتحقيق أغراضها من إبرام شروط الصلح. تذكّر سهيل موقفه من رسول الله حين أمر عليا بن أبي طالب، بكتابة الصحيفة، فأملى النبي عليه:(بسم الله الرحمن الرحيم)، فقال سهيل:(أما الرحمن فوالله لا ندري ما هو؟ ولكن اكتب باسمك اللهم)، فأمر رسول الله عليا بذلك، ثم أملى:(هذا ما صالح عليه محمد رسول الله)، فقال سهيل:(لو نعلم أنك رسول الله، ما صددناك عن البيت، ولا قاتلناك، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك)، فقال رسول الله:(إني رسول الله، وإن كذبتموني)، وأمر عليا أن يمحو كلمة رسول الله، ويكتب في محلها محمد بن عبد الله، ولكن عليا لم تستطع نفسه تقبل محو كلمة رسول الله، ولا طاوعته يمينه بذلك، فتناول النبي الصحيفة ومحا الكلمة بيده لتتم كتابة الصلح.لم ينته موقف سهيل عند هذا، فإنه في أثناء كتابة الصحيفة، قدم على رسول الله، أبو جندل، وهو ابن سهيل بن عمرو، جاء من مكة فاراً، بنفسه والأغلال في جسده، وألقى بنفسه لدى المسلمين، فقال سهيل:(هذا أول ما أقاضيك عليه، على أن ترده)، فقال النبي:(إنا لم نقضِ الكتاب بعد)، قال:(فوالله إذن لا أقاضيك على شيء أبدا)، فقال النبي:(فأجِزه لي)، قال:(ما أنا بمجيزه لك)، فقال النبي ملحّا عليه:(بلى فافعل)، قال:(ما أنا بفاعل)، وأقبل على أبي جندل وأمسكه بتلابيبه وساقه، ليعود به إلى قريش، فجعل أبو جندل يصرخ بصوت عالٍ:(يا معشر المسلمين، أَأُرد إلى المشركين يفتنونني في ديني)، فقال له النبي:(يا أبا جندل، اصبر واحتسب، فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا ومخرجا، إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحا، وأعطيناهم على ذلك، وأعطونا عهد الله، فلا نغدر بهم). وثب عمر بن الخطاب، إلى أبي جندل، ومشى إلى جنبه وأسرّ إليه قائلا: اصبر يا أبا جندل، فإنما هم مشركون، وإنما دم أحدهم دم كلب. وجعل عمر يدني قائم السيف منه، يريد أن يأخذ أبو جندل السيف فيضرب به أباه، ولكن أبا جندل، أكبر قتل أبيه وعافه.كل تلك الذكرى قامت ماثلة أمام مخيلة سهيل بن عمرو، كليلٍ أسودَ بهيمٍ موحش تراءى له فيه أنه لا شك مقتول لا مناص له من هذا المصير المحتوم، ولم ير لنفسه غير أن يدخل داره ويغلق عليه بابه، ثم إنه فكّر في أن يرسل من يأتيه بابنه عبد الله، الذي أسلم من قبلُ، أو يخبره بما يطلبه منه، وهو أن يأخذ له أمانا وجوارا من محمد، فذهب عبد الله بن سهيل، إلى النبي، فقال:(أتؤمن أبي، يا رسول الله)، قال:(نعم هو آمن بأمان الله فليظهر)، ثم قال لمن حوله:(من لقي منك سهيل بن عمرو، فلا يشدّ النظر إليه، فليخرج فلعمري إن سهيلا له عقل وشرف). فانطلق عبد الله مسروراً إلى أبيه، فأخبره بقول رسول الله، فسُرّي عنه وقال بتأثر بالغ ونفسه تجهش بعبرته:(كان والله برَّا صغيرا وكبيرا)، فلم يلبث أن أسلم سهيل وصَدُق إسلامه، وأخلص دينه لله، وحسن عمله في الإسلام، فراح ينصره ويؤيده في كل المواطن بما وسعه جهده، كما سنعلم بعد قليل.في صبيحة يوم الاثنين، الثاني عشر من ربيع الأول، عام أحد عشر من الهجرة، لحق رسول الله بالرفيق الأعلى، ففقدت الأرض وما عليها سيد الورى، وخير من وطئ الثرى، فقدوا الرحمة والنور والهدى، وتلك والله فجيعة ليس يحدّها مدى، هذا الحدث الجلل، والنبأ العظيم، الذي بَرْقَع شمس الضحى بظلام، وهدَّ همم وعزائم الرجال، وغيّر معالم وجه دنيا الناس، فغشّاها ما غشّى، يومئذ كان لأبي بكر الصديق موقف مشهود في المدينة، وكان لسهيل بن عمرو، كذلك موقف مشهود، ولكن في مكة، حيث كان يقيم. أما موقف أبي بكر في المدينة فمشهور قد حفظه التاريخ جيدا، وعلمه كافة الناس ورووه وتناقلوه، جيلا بعد جيل، الموقف الذي ثبّت به أفئدة المسلمين وألبابهم، من هول ما نزل بهم من مصيبة فقد النبي الكريم، فقال كلماته الخالدة:(من كان يعبد محمدا، فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله، فإن الله حي لا يموت...). أما موقف سهيل في مكة، فإنه قد قام في جماعة الناس، الذين هزهم النبأ وزلزلهم، وكادوا يفتنون به، وألقى خطبة كان لها مثل أثر خطبة أبي بكر هناك، وجاء بالقول الحكيم، وأبان الحق المنير، بلسان عربي مبين، حتى عاد الناس إلى رشدهم، واستقروا على إيمانهم، قد هدأت نفوسهم واطمأنت، وأسلموا إلى الله الأمر كله.وهكذا تحققت نبوءة رسول الله، التي أنبأ بها عمر حين رغب في انتزاع ثنيتَيْ سهيل، يوم أُسر في بدر، حين قال له عليه الصلاة والسلام:(لعل سهيلا يقف غدا موقفا يسرك)، وصدق رسول الله الصادق الأمين. الرجل لا لوم عليه في خلافة أمير المؤمنين، عمر بن الخطاب، جاء سهيل بن عمرو، والحارث بن هشام، إلى عمر فجلسا وهو بينهما، فجعل المهاجرون الأولون يأتون عمر، فيقول: ههنا يا سهيل، ههنا يا حارث، فينحيهما عنه، ثم جعل الأنصار يأتون، فينحيهما عنه كذلك، حتى صارا آخر الناس، فشَقَ عليهما ذلك، فلما خرجا من عند عمر، قال الحارث بن هشام لسهيل: ألم تر ما صنع بنا؟!. قال سهيل: إن الرجل لا لوم عليه، ينبغي أن نرجع باللوم على أنفسنا، دُعِي القوم فأسرعوا ودعينا فأبطأنا. فلما قام المهاجرون والأنصار من عند عمر أتيا فقالا له: يا أمير المؤمنين، قد رأينا ما فعلت بنا اليوم، وعلمنا أنه أُتينا من قِبَل أنفسنا فهل من شيءٍ نستدرك به ما فاتنا من الفضل؟ قال: لا أعلم إلا هذا الوجه، وأشار لهما إلى ثغر الروم، فخرجا إلى الشام، يقاتلان ويرابطان، حتى استشهدا بها، رحمهما الله، ورضي عنهما.
48689
| 19 يونيو 2016
نشأ عمرو بن الجموح، في موطنه يثرب، بين أسرة كريمة تنتمي إلى الخزرج من بني سَلَمة، فشب على أخلاق السادة والزعماء الكرام، ممتازاً عن أقرانه وأترابه من شبان يثرب، إذ كان كريم النفس، سخي اليد، ذا أدب جم، فعرف قومه بنو سلمة، فضله وشرفه، فأنزلوه منزلة يستحقها، وهو لها أهل، وبها جدير، وإنه مع ما تتحلى به نفسه من شريف الخصال، وحميد الصفات، كان في جسده عاهةٌ، متمثلة في ساقه، التي بها عرج بيِّنٌ شديد، كأن السوء لم يجد له محلاً ولا موضعاً في روحه الفاضلة، فحلَّ من ثم في جسده، وأصاب ساقه، ولكن لم يكن ذلك ليضرَّ أو يؤثر في عمرو بن الجموح، بل زاده في نفسه عزيمة ومضاءً، ولم يكن انحناؤه وانعطافه، بعرجته إلا كانحناء السيف، وانعطاف القوس، الشيء الذي لا يعد فيهما عيبا، وإنما مزية وخصيصة في صنعهما، بهما تُدرك الغاية، وكذلك حال عمرو بن الجموح مع عرجه، إذ لم يسبب له نقصا ولا تأخرا، ولم يعقه أي إعاقة، بل كان سباق غايات يقصّر دونها العداء ذو الساق السليمة، بحيث جرى في ميدان المجد والخير في الحياة، بفعله وعمله، كفرس جموح لا يكبو، وهو ابن الجموح كما سنعرفه. تزوج عمرو، ورزقه الله أربعة أبناء، منهم ابنه معاذ بن عمرو، الذي سبقه إلى الدخول في دين الله الإسلام، منذ بيعة العقبة الثانية، فعاد ابنه معاذ بعد أن أسلم إلى المدينة، يدعو إلى الإيمان بالله ورسوله، وينشر دعوته في أهله وقومه، فكان من الطبيعيّ أن يبدأ أولا بدعوة أبيه عمرو، الذي يعرف منه صواب الرأي، وحكمة العقل، وطيب النفس، فجعل معاذ في رفق ولين يبين لأبيه محاسن الرسالة المحمدية، وما تحض عليه من مكارم الأخلاق، التي لم يكن عنها عمرو بمعزل، وما تأمر به من فضائل المعاملات، وأن كل ذلك إنما هو بالإيمان بالله وحده، وبالإحسان إلى خلقه. فما كاد عمرو بن الجموح، يسمع تلك المعاني العالية الرفيعة في سموها ورقيّها، التي تصدع بها دعوة الإسلام، حتى وافقت من نفسه قبولا ورضا بغير شك ولا ريبة، فسارع على أثر ذلك في إعلان إسلامه واللحاق بركب رسول الله، هو وجميع أبنائه الأربعة.كان عمرو جواداً سخيا بارزا في ذلك بين عشيرته بني سَلمة، معروفا بذلك عند سائر القوم في المدينة، حتى إن النبي عليه الصلاة والسلام، سأل ذات يوم جماعة من بني سلمة فقال لهم:( من سيدكم يا بني سلمة؟ قالوا سيدنا الجدُّ بن قيس، على بخلٍ فيه، فقال رسول الله: وأي داء أدوأ من البخل؟ بل سيدكم الجَعْدُ الأبيض، عمرو بن الجموح)، أجل، كذلك يعرف الرجال بالكرم، ويا له من ثناء، وشرف ناله ابن الجموح، فخلده في الدهر، فإن ذلك الثناء والشرف، وسام قلَّده إياه النبي الكريم، سيد ولد آدم، كجزاء حسن عاد على عمرٍ بفضل جوده وسخائه، ومن هنا انطلق لسان شاعرهم بالمديح والتبجيل المستحق، فقال:فسَوَّدَ عمروَ بن الجموح لجودِه وحُقَّ لعَمْرٍ بالندى أن يسوَّداإذا جاءه السُّؤال أذهب مالَه وقال: خذوه، إنه عائدٌ غدا الله أكبر! أين من يقول للمال: خذوه إنه عائد غدا. لله دره إن كان مثله موجودا بين البشر، وما أحسن أن ننشد هنا قول الشاعر القديم:والحمدُ لا يُشترى إلا له ثَمَنٌ مما تضنُّ به الأقوامُ معلومُرجل مثل ابن الجموح بروحه الطموح، ليس يكفيه أن يكون جواداً بالمال فحسب، ينفق منه فيما يرضي ربه ويكسبه الحمد والمجد، ولكنه يبتغي في سبيل الله أن يكون جواداً بنفسه أيضا، والجود بالنفس أقصى غاية الجود، فأراد أن يخرج للجهاد مع رسول الله، مع ما في ساقه من عرج، وهو يمنّي نفسه بذلك، لعله أن يظفر بالشهادة ويلقى الله شهيدا، قد بذل روحه كما قد بذل ماله، فداءً وتضحية من أجل الإسلام، تلك هي أمنيته التي ملأت قلبه، وشغلت فكره، ولكنه رجل أعرج، والأعرج غير مفروض عليه الجهاد، ولا حرج عليه في القعود عنه، فإنه من أهل الأعذار المعفى عنهم الجهاد، وليسوا مطالبين به، غير أنه سعى إلى الخروج منذ يوم بدر، وحدّث رسول الله في ذلك، وسأله راجيا الإذن له بالقتال معه، وقد كان أبناؤه الأربعة كلُّهم من المجاهدين، إلا أنهم كانوا ذهبوا إلى رسول الله، وطلبوا إليه ألا يأذن لأبيهم بالخروج، رحمة به وشفقة، فما كان من النبي إلا أن أخبره بأن الجهاد ليس فريضة عليه، وجعل يتلطف معه في الخطاب مواسيا إياه، مهونا عليه، على حين أن ابن الجموح كان مصمما على ما يريد، فلم يكن من النبي إلا أن أمره بالبقاء في المدينة، فانصرف من عنده حزينا تكاد عيناه تفيضان من الدمع، وهو يسأل الله أن يبقيه ويوفقه للخروج في يوم آخر من أيام الله.ظل عمرو بعد يوم بدر، متربصا بيوم آخر يخرج فيه للجهاد، إذ لم تعرف نفسه اليأس، ولم تخضع للقنوط، وكيف يكون منه ذلك وهو رجل اعتاد البذل والندى، ولم يعرف في حياته قط معنىً للخيبة والفشل، فلما نادى المنادي أن حي على الجهاد يوم أحد، استعد عمرو وتأهب وانطلق إلى النبي، وقال في عزم وجَلَد: يا رسول الله، إن بَنِيَّ يريدون أن يحبسوني عن الخروج معك، فوالله إني لأرجو أن أطأ بعرجتي هذه الجنة. فلم يجد رسول الله أمام هذه العزيمة الصريمة، والبسالة العظيمة، بدا من أن يأذن له بالخروج، فغمرت نفسه حينئذٍ الفرحة والسرور، واندفع يعرج بخطاه، كأنه يثب من شدة سرعته، وهو يدعو الله قائلا: اللهم ارزقني الشهادة، ولا تردني إلى أهلي. هكذا دعا عمرو:(ولا تردني إلى أهلي)، ثم جاء يوم أحد، ودار القتال في ساحة الوغى، فصال وجال ابن الجموح، وأبلى بلاءً عظيما، كأنما عاد عليه عرجه سلاحا آخر يقاتل به الأعداء الذين حيرهم مشهده وقتاله، وهو يطْفِر هنا وهناك، حتى استشهد رضي الله عنه، ونال بغيته بالموت شهيدا.
2919
| 18 يونيو 2016
للشعراء منزلة جليلة عند العرب من قديم الأزل، منذ أن عرفوا الشعر ونطقوا به، وسارت فيهم رواية أبياته وقصائدِه، التي كانت تَشيع بينهم، وتدور على ألسنهم، وكانوا يتناشدونها في محافلهم وأنديتهم ومجالسهم، نهاراً في أعمالهم، وليلا في أسمارهم، ومن هنا كانت للشاعر النابه الحصيف في شعره، قيمةٌ وقدر، إذ تَعُدُّه قبيلته وعشيرته لسانا مبينا يدافع ويذود عنها، في ميدان البيان، يفصح عن فضلها ومجدها، ويُذيع شرفها وفخرها، ويسجل مآثرها وأيامها، بحيث يكون الشعر ديواناًَ يحفظ المدح والفخر، ليكون خير إعلان لهم يتباهون به ويسمون على من سواهم، فتنتشر في الناس أنباء محامدهم ومكارمهم.. على تلك الحال كان للشاعر الجاهلي الطُفيل بن عمرو الدَّوْسي، فضلٌ وصيتٌ في قبيلته ومجتمعه الذي يحيا فيه، وإنه في ذات يوم نوى المجيء إلى مكة وزيارة الكعبة المقدسة، وكانت مكة إذ ذاك، قد شعّت فيها أنوار الدعوة الإسلامية، ينشر تباشيرها رسول الله، محمد عليه الصلاة والسلام، الذي شرع يصدع بما أُمر به من هُدى وخير وحكمة. لما قَدِم الطفيل مكة علمت به قريش، واهتموا بأمره، وخشوا أن يلقى محمداً ويسمع شيئا مما يدعو إليه الناس، ثم تكون العاقبة أن يسلم وهو الشاعر ذو القول الذائع، الذي إن قال شعرا في الإسلام، سرعان ما ينتشر في مجامع الأقوام، ثم يتناقلونه، فيكون في ذلك دِعاية للإسلام تساعد في إعلانه ورَوَجانه. فاجتمع إلى الطفيل نفر من قريش، جعلوا يرحبون به ويَهَشون، ويوسعون له مقام الضيافة بحفاوة بالغة، جعلته يستأنس بهم ويرتاح إليهم، وما علم أن تلك الحفاوةَ ليست خالصة لوجه المودة والكرامة والألفة، وأنها تطوي في باطنها مكرا وخداعا وكيداً يُراد به، كالتي يبديها أهل النفاق والزيف دائما في كل زمان، وما هي إلا لحاجة في نفوسهم أرادوها، يستدرجون بها غيرهم ليوقعوه في حيلتهم.. حين أحسوا باطمئنان الطفيل إليهم، طفقوا يحذرونه من رسول الله ومما يقوله، ويدعو إليه الناس، بين أظهرهم قائلين: «يا طفيل.. إن لهذا الرجل قولاً كالسحر، يفرق بين الرجل وأبيه والرجل وأخيه، والرجل وزوجه، وإنا نخشى عليك وعلى قومك منه، فلا تكلمه ولا تسمعن منه شيئاً». ارتاع الطفيل من قولهم لأول وهلة، وانقبضت نفسه، وشاع الخوف والحذر فيها، وما زالوا به حتى عزم على ألا يسمع من رسول الله شيئا، ولا يلقاه مطلقاً، تحرزاً منه واتقاء، حتى إنه حين غدا إلى الكعبة المشرفة، حشا أُذنيه قُطناً، كيلا يسمع شيئا من قوله إذا تحدث، وكذلك هم أغلب الناس عند استماعهم لأقاويل الناس، يصدقون كل ما يقال، ويصبحون أسرى لما يسمعون، وربما اعتقدوا ما سمعوا وعملوا به بكل سذاجة وبلاهة، بلا تحقق ورويّة وتبصر.. حينما بلغ الطفيل الكعبة، وجد هنالك رسولَ الله قائما يصلي بخشوع، فما مَلَك الطفيل إلا القيام قريباًَ منه، كأن قوة خارجية دفعته من حيث لا يشعر، وجذبته إلى قرب الرسول، دون أن تكون له إرادة في ذلك، حينئذ أبى الله إلا أن يُسمعَ الطفيلَ بعض ما يقرأ رسوله، فسمع كلاما لا كسائر الكلام، كلاماً عجباً حَسَنا يرُوْع السامعين.. فالشاعر أبصر الناس بالكلام؛ رفيعه وخسيسه، بعدئذٍ وقف الطفيل يحدث نفسه متأسفاً، وقد بدا له خطأ ما أقدم عليه في أول أمره، قائلاً لنفسه: «واثُكْل أمي، والله إني لرجل لبيب شاعر، لا يخفى علي الحَسَن من القبيح، فما يمنعني أن أسمع من الرجل ما يقول، فإن كان الذي يأتي به حسنٌ قبلته، وإن كان قبيحا تركته»، ثم إنه مكث حتى انصرف رسول الله إلى بيته، فتبعه حتى دخل البيت، ودخل وراءه، وسأله أن يعرض عليه الأمر، فعرض عليه النبي الإسلام، وتلا عليه بعض آي القرآن، حتى قال الطفيل: «والله ما سمعت قولاً قط، أحسن منه، ولا أمراً أعدل منه»، فأسلم وشهد شهادة الحق، وقال: «يا رسول الله، إني امرؤ مطاع في قومي، وأنا راجع إليهم وداعيهم إلى الإسلام، فادعُ الله أن يجعل لي آية، تكون لي عوناً عليهم، فيما أدعوهم إليه»، فقال عليه الصلاة والسلام: «اللهم اجعل له آية».. عاد الطفيل مسرعاً إلى قومه في مضارب (دَوْس)، معتقداً أنه حامل رسالة لا بد له من تبليغها، كما وعاها، فكان أول إنسان يدعوه الطفيل إلى الإسلام هو والده، فإن للأقربين حقوقاً مقدمة، فما أن لقي أباه حتى قال له: لست مني، ولست منك. فرد عليه أبوه متعجباً قَلِقا: ولمَ يا بُني؟ قال: لقد أسلمت واتبعت رسول الله محمداً. قال والده: ديني هو دينك. وفي قوله هذا دلالةٌ على ما للطفيل الابن عندوالده من دالَّة عنده ومكانة، ودلالة أخرى على معرفته برجاحة عقله، وسلامة فكره، ولا عجب أن يعرف الوالد ولده، فلذلك صدّقه وتبعه بثقة دون إبطاء، ولا تردد، ولا ريبة. ثم ذهب الطفيل إلى زوجه وقال لها مثل قوله لأبيه: لستِ مني، ولست منك. فردت مثل رد أبيه، ولكن بارتياع شديد: ولمَ؟ وزادت: بأبي أنت وأمي. فأخبرها بما عنده، فلما علمت بإسلامه، كان منها ما كان من أبيه، فأسلمت من فورها!!ثم انطلق الطفيل إلى دعوة قومه، بنفس ما كان عليه من نشاط وعزيمة حين دعا أهله، غير أن قومه أحجموا عن الاستجابة له، ولم يُبدوا رغبة ولا قبولاً، بل صدوا عنه، وتفرقوا وتركوه وحده، فأزعج ذلك الطفيل وآلمه، فأجمع على العودة إلى رسول الله ليخبره بما وقع معه، فلما بلغ مكة ذهب إلى دار رسول الله، وأفضى إليه بأمره، وهو في غاية الحسرة والكمد، حتى سأل النبي أن يدعو على (دوس)، التي رفضت وأبت دين الله. لكن نبي الرحمة والهدى رفع كفيه داعياً لهم لا عليهم، فقال: (اللهم اهدِ دوساً، واءتِ بهم مسلمين»، وقال للطفيل: «ارجع إلى قومك فادعهم وارفق بهم»، وهنا ازداد الطفيل معرفة بالنبي، وحبّا له، وتعجباً من خلقه العظيم، وكيف لَعَمْرُ اللهِ يكون منه ـ عليه الصلاة والسلام ـ غير ذلك، وهو الذي قيل له ادعُ على المشركين الذين عادوا المسلمين، وقاتلوهم وآذوهم، فأجاب: «إني لم أبعث لعّانا وإنما بعثت رحمة».. رجع الطفيل إلى قومه وهو مزودٌ بنصيحة الرسول، وظافرٌ بدعائه لقومه بالهداية، وأخذ يدعوهم برفق ولين وصبر، متذكراً وصية رسول الله له، فما مرَّ إلا زمن ليس بالطويل، حتى هدى الله دوساً، وجاء بهم مسلمين، واستجاب الله دعاء نبيه الكريم.
4177
| 17 يونيو 2016
أعد المسلمون العدة للخروج إلى ملاقاة الروم في السنة التاسعة للهجرة، استجابة لأمر رسول الله، عليه الصلاة والسلام، الذي حثهم على التجهز والاستعداد، بعد أن علم أن الروم في الشمال قد جمعت قواها تبتغي الهجوم على المدينة، وكان ذلك في زمن اشتداد الصيف، واشتعال حره، فضلا عما أصيب به الناس من جَدْب وقحط، حتى كان من وجد منهم ظلا يقيه وَقْدة القيظ، وقوتا يكفيه لذعة الجوع، عدَّ نفسه في نعيم مقيم، لِما كان فيه القوم من وقت شدة وعسرة صادف تلك الدعوة إلى الخروج، ناهيك ببعد الشُّقة، وقوة العدو. مع هذه الأحوال الشديدة القاسية، هب المؤمنون ولبوا نداء الجهاد بأموالهم وأنفسهم وبذلوا ما استطاعوا بذله رجالا ونساءً، أغنياءَ وفقراءَ، كلّا على قدر طاقته، وجعلوا يجمعون الصدقات لعُدة الجيش، فمنهم من جاد بكل ماله كأبي بكر الصديق، رضي الله عنه، ومنهم من جاد بنصف ماله كعمر بن الخطاب، رضي الله عنه، ومنهم من بذل الكثير الجزيل كعثمان بن عفان، رضي الله عنه... وغيرهم من المنفقين في سبيل الله، ومنهم من لم يستنكف عن تقديم القليل الضئيل مما يملكه، فقدم صاعا أو مُدّاً من تمر ونحوه، أما النساء فتصدقن بما معهن من ذهب وحُلي، حتى تأتى للمسلمين أن يخرجوا بجيش عظيم القوام، نهضوا به وقد كانوا في عسرة، فكان هو جيش العسرة. هذه هي حال المؤمنين الصادقين الذين آمنوا بالله واليوم الآخر، ووثقت قلوبهم ولم يترددوا ويرتابوا، خلافا لما فعلت جماعة المنافقين الذين استساغوا التخلف عن أمر رسول الله، وكرهوا الخروج معه، فقعدوا مخذولين مع القاعدين، بعد أن جاءوا بأعذارٍ هم فيها من الكاذبين، ولم يتخلف سواهم إلا المعذَّرون الذين حبسهم ومنعهم عذر الفقر والضعف، وهم يودون أن يخرجوا لولا أنهم لا يجدون ما ينفقون، وما معهم غير الحزن والدمع، وإلا ثلاثة معروفون تخلفوا أيضا لم يكن لهم عذر ولا يُتهم أحد منهم في إسلامه وإيمانه، هم الذين ابتلاهم الله من بعدُ ابتلاءً شديداً حتى تابوا، وأنزل الله فيهم قرآنا يُتلى إلى يوم الدين، وإلا رجل آخر تخلف ولكن كان له شأنٌ أيُّ شأن، يقال له أبو خَيثمة، هو مدار هذه القصة. كان أبو خيثمة مالك بن قيس من أغنياء الأنصار، أنعم الله عليه في حاله ونفسه، أما الإنعام عليه في حاله فقد كان له بستان، وافر الظلال، يانع الثمار، جعل لنفسه فيه عريشين، وأحلَّ في كل عريش منهما زوجاً حسناءَ، كانت كل واحدة منهما مقيمةً على أمره، ملبية حاجته، لا تدخران وسعا في إسعاده ورعاية شؤونه، وبالجملة فهو في حالته المادية في عيشة راضية هانئة، كفلت له رخاء الحياة، وكل أولئك من رزق الله الكريم ذي الفضل العظيم. أما إنعام الله عليه في نفسه، وهي النعمة الكبرى، التي لا تضاهيها نعمة، فإن لهذا خبرا فيه كل العبرة والعظة لأولي الضمائر والقلوب. لما خرج جيش المسلمين في لواء رسول الله، وضربوا في الأرض باتجاه تبوك، أوى أبو خيثمة إلى بيته نهاراً، حيث بستانه الظليل، فوجد امرأتاه هيأتا داره بحيث قامت كلٌّ منهما بإبراد الماء، وإعداد الطعام، وتزيين الدار، حتى لم يعد هناك مزيد على ما فعلتا، وليس ثمة نقص، ولكن أبا خيثمة ما إن وَلَج وتجاوز عتبة الباب، حتى أحس بانقباض في صدره، وضيق في نفسه، كأنما رأى ما يسوء ويحزن لا ما يسر ويفرح، بل كأنه رأى شرا يؤذيه ويعيبه ويجلب عليه العار، تُرى ما مرجع ذلك وما سببه؟ إن صوت ضميره صرخ في نفسه، الضمير الحي المفعم بالإيمان، فأيقظ إحساسه وشعوره، فتنبه الإحساس الذي لم يمت، والشعور الذي لم يتبلد، وأفٍ لموت الإحساس، وتبلد الشعور، فما ذلك إلا بلاء وبيل على بني الإنسان، لا يصاب أحد منهم بمثل المصيبة به، ولا تكون عليهم مصيبة أشد منها، فإن ميّت الإحساس وبليد الشعور يكون مصدر شرور في الحياة حتى ليُخيّلُ أنه ما خُلق إلا لفسادٍ أريد بهذا الكون، ولسوء أريد بساكنيه، إذ هو ينفصل بطبيعته ويبعد عن أن يكون إنسانا سوِيّا، ويتصل ويقرب إلى أن يكون شيطانا غوِيّا. بعد ذلك الإحساس الذي طاف بأبي خيثمة، جعل يقلب نظره في مسكنه وفي زوجيه وما صنعتا له، وهما تنظران إليه حائرتين حتى ارتابتا وقالت إحداهما: ما بالك يا أبا خيثمة، هل فرطنا في شيء، أو قصّرنا في أمر؟ وأبو خيثمة جامد في محله لا يرد جوابا، ثم إنه قال:(رسول الله في الحر والريح، وأبو خيثمة في ظل بارد، وطعام وماء مهيأ، في ماله مقيم، ما هذا بالنَّصَف، والله لا أدخل عريش واحدة منكما حتى ألحق برسول الله، فهيّئا لي زادا ورَكوبة)، ففعلتا من فورهما ما طلبه منهما، ثم خرج مسرعا في اثر رسول الله، حتى كأن شيئا وراءه يجدُّ في طلبه فهو يريد الخلاص منه والفرار، وما زال كذلك حتى أدرك القوم حيث نزلوا في تبوك، وحينما اقترب من معسكر الجيش، رأى الناس شخصا آتيا من بعيد، فقالوا: هذا راكب على الطريق مقبل. فقال رسول الله:(كن أبا خيثمة)، فقالوا:
5818
| 16 يونيو 2016
ازداد غيظ كفار قريش في مكة بعد أن خابت مساعيهم، وفشلت حيلهم، في صد رسول الله عن تبليغ دعوته، ومنع الناس عن الدخول في دين الإسلام، وبدا لهم عجزهم ظاهرا بعدما هموا بما لم ينالوا، حين أرادوا قتل النبي عليه الصلاة والسلام، وذلك لأن أبا طالب عمَّ رسول الله، كان قد أحاط ابن أخيه بعنايته وظلله في كنفه، وحفظه من أن يمس بسوء أو كيد، ولم يكن ذلك موقف أبي طالب وحده، ولكن اجتمع بنو هاشم، وبنو المطلب، ولدا عبد مناف على أمر أبي طالب، في حِياطة رسول الله، والذود عنه، والقيام دونه في وجه مشركي قريش.شق ذلك على كفار قريش، ورأوا أن يجمعوا أمرهم على مقاطعة ومنابذة بني هاشم، وبني المطلب، بحيث لا يبيعونهم، ولا يبتاعون منهم، ولا ينكحون إليهم ولا ينكحونهم حتى يسلموا محمدا للقتل، وتحالفوا على هذه المقاطعة المادية والاجتماعية، وقاموا بكتابتها على صحيفة عُلقت في جوف الكعبة، واستطاعوا فرضها، فأحكموا الحصار عليهم في شعب أبي طالب، واجتهدوا في التضييق عليهم، ومنع الميرة عنهم، إذ كان المشركون يبادرون بشراء كل ما يدخل مكة من قوت، ويساومون التجار على شرائه بثمن غالٍ، كيلا يتمكن معشر أبي طالب من ابتياع أي شيء من داخل مكة، كما كانوا يمنعون التجار من مبايعتهم، فلم يكن أمامهم من خيار إلا الشراء من العِير قبل ورودها مكة وفي ذلك مشقة عسيرة عليهم، لم تكن لتغني عنهم شيئاً.استمر الحال على ذلك، ثلاث سنوات، والمسلمون وغير المسلمين من بني هاشم، وبني المطلب، محاصرون أشد الحصار في شعب أبي طالب، مقاطعون مقاطعة شديدة، حتى استحالت حياتهم، وتبدلت أحوالهم، ولقوا العناء والشقاء صابرين، لا يشكون إلا إلى الله ما أصابهم من المجاعة التي اضطرتهم إلى أكل ورق الشجر الأخضر، وشد الحجر على البطن الأجوف، وقد صاروا من قسوة العيش، وشدة الحاجة، في مثل حالة المحتضَر الذي ينتظر استقبال الموت، ومفارقة الحياة، ويود ألا يطول عليه ألم النزع، غير أن مدة حالتهم طالت وامتدت أياماً وشهورا وسنوات، على غير ما تكون مدة حالة المحتضر في طولها، قبل أن تنزل عليه راحة الموت تقضي على أوجاع وآلام حياته وتخلصه منها.كان المسلمون في حصارهم لا يصلهم شيء من الطعام من داخل مكة إلا سرا وخُفية، وكان ما يصل إليهم نزر قليل لا يكفيهم جميعا، ومع ذلك لا يستطاع جلبه إلا بعد جهد، وممن يملك حيلة وطَوْلا، من ذلك ما كان يحمله حكيم بن حزام، من قمح إلى عمته السيدة الكريمة خديجة بنت خويلد، رضي الله عنها، وفي ذات مرة علم أبو جهل بشأن حكيم، فأقبل عليه يمنعه ويحجزه بعنف وغلظة، وجعل يحذره ويخوفه من مغبة ما يفعله، وقام بينهما جدال عنيف لم يحسم إلا بفضل رجلٍ أيِّ رجل، رجلٌ اسمه أبو البُختري بن هشام، الذي قام في وجه أبي جهل زاجرا ورادعا، ومكّن حكيم بن حزام من حمل القمح إلى عمته، وقال لأبي جهل: دعه يمضِ لحاجته، وخلِّ بينه وبين ما يسعى، ما بالك يا أبا الحكم، أتريد أن تمنع حتى هذا الشيء الزهيد عنهم، وخاصة عن خير نساء قريش شرفا ونسبا، مما يمسك رمقهم، ويدفع عنهم غائلة الجوع، إن ذلك ليس لك، ولن أسمح به وأنا عليه شهيد.. لم يجد أبو جهل شيئا يقوله بعد قول أبي البختري، وانكفأ مغضبا حنِقا مما سمعه ورآه.مضى أبو البختري بعد موقفه ذلك في شأن نفسه، وجعل يفكر ويسرّح نظره يمينا وشمالا، قد شغله تفكيره فيما يحدث من حوله وما يجري أمامه من أحوال وظروف، وفكر فيما آل إليه حال القوم المحاصرين، الذين بلغ منهم النَصَب مبلغه، وهم على مسمع ومرأى منه ليسوا عنه ببعيدين، فثارت في نفسه أسئلة عدة، انتصبت واقفة أمامه، وقالت لقلبه: حتّامَ يبقون على تلك الحال القاتلة المدمرة؟ وعلامَ يجازون بهذا الجزاء؟ ألذنب ارتكبوه أم لجُرم اقترفوه؟ ثم اتجه أبو البختري إلى نفسه وقال لها: يا ويحي، كيف أصمت عن شيء مثل هذا، بل كيف أقبل به، كلا لا أرضينّ به أبدا، وكيف أرضى به وآكل وألبس أنا وعيالي هانئين وادعين، على حين غيري من حوالَيْ ممن أعلمهم وأنظر إليهم، معدِمون محتاجون لا يجدون الغذاء والكسوة. ولكن ماذا أفعل؟ وماذا أستطيع صنعه؟ وماذا في يدي؟ وآه من ماذا هذه، ومن أثقالها ومطالبها.ذلك بعض الذي وجده في نفسه أبو البختري من حياة القلوب، وصحوة الأحاسيس، مما يمتاز به الناس الأسوياء من بني آدم، الذين يصح على واحدهم نعته باسم الإنسان، أولئك الذين أنعم الله عليهم بهبة القلب والإحساس، ورعوا نعمة الله حق رعايتها، فأمدّت أرواحهم بفيض المشاعر والعواطف. كان الذي قام في نفس أبي البختري قام مثله في أنفس أربعة من أشراف مكة، اجتمعوا وقد اتفقت مشاعرهم وآراؤهم، واتحدت كلمتهم على ما عزموا عليه من نقض تلك الصحيفة الجائرة الظالمة، وهم هشام بن عمرو العامري، وزهير بن أبي أمية المخزومي، والمُطعم بن عَدي النوفلي، وزَمعة بن الأسود الأسْدي، استجابوا جميعا لنداء القلب، وأصاخوا إلى صوت الضمير، فاتفقوا ليلا فيما بينهم على القيام بنقض الصحيفة.لما أصبحوا غدا زهير المخزومي إلى البيت الحرام وطاف به، ثم أقبل على الناس وقال:(يا أهل مكة، أنأكل الطعام، ونلبس الثياب، وبنو هاشم وبنو المطلب، هلكى لا يباع ولا يبتاع منهم؟ والله لا أقعد حتى تشق هذه الصحيفة القاطعة الظالمة). فسمعه أبو جهل فقال: كذبت، كلا لا تشق. فقال زمعة بن الأسود: أنت والله أكذب، إنا ما رضينا كتابتها حين كتبت. فقال أبو البختري: صدق زمعة، لا نرضى ما كُتب فيها ولا نقر به. هنا قال المطعم بن عدي: صدقتما وكذب من قال غير ذلك. وانبرى هشام بن عمرو، وصدّق ما قالوه. حينئذٍ انخذل أبو جهل صاغراً وقال: هذا أمرٌ قُضي بليل، تشاوروا فيه بغير هذا المكان. وقام المطعم بن عدي إلى الصحيفة فشقها ومزقها، وعندئذ انزاح الكرب، وانجلت الشدة، وخرج رسول الله ومن معه مما كانوا فيه في ذلك الشعب.مضت الأيام والشهور الطوال، وهاجر رسول الله وصحابته إلى يثرب، حيث أقاموا هناك دولة الإسلام، وأسسوا بنيانها بتضحيات من المهاجرين، وتأييد ونصر من الأنصار، حتى فرض الله أن يلتقي المسلمون مع الكافرين في موقعة قتال وذلك يوم "بدر" اليوم العظيم الذي ذل الله فيه الكفر، وأعز الإسلام. قبل أن يلتحم جمع الإيمان بجمع الشرك في بدر، علم النبي بوجود أبي البختري في صفوف الأعداء، وقد كانت قريش دفعته على الخروج، وأكرهته على القتال، بما لزعمائها المشركين من نفوذ وسلطة في مكة، وهو لا يريد قتالا، ولا أذىً بأحد. علم النبي بذلك وتذكر ما لأبي البختري من فضل، وسابقة خير، وجميل عُرف، ووقوفه موقف الأبطال النبلاء في مواجهة طغيان الظلم، ورفضه البغي والجور، وعدم السكوت عن الحق، الذي فيه إنصاف المظلومين المضطهدين، استحضر كل ذلك رسول الله، وهو الوفي الذي لم يخفرْ ذمة، ويهضمْ حقا، ولم يخلف وعدا، وينقض عهدا، ولم يضِعْ أمانة قط، وما كل أولئك إلا من خلق الوفاء الكريم، الذي دعا الناس إليه، ورأوه مجسما في خلقه العظيم.ألزمه وفاؤه عليه الصلاة والسلام، تجاه أبي البختري، أن يقول لأصحابه: (من لقي أبا البختري بن هشام بن الحارث بن أسد، فلا يقتله). ولكن كان لله أمر آخر، ومشيئة أخرى، وبيان ذلك، أن أبا البختري لقيه في ساحة الهياج، الصحابي المُجذّر بن زياد، وكان مع أبي البختري رجل زميل له وصديق، فقال المجذر: يا أبا البختري، إن رسول الله قد نهانا عن قتلك. فقال: وزميلي هذا؟. قال المجذر: لا والله ما نحن بتاركي زميلك، ما أمرنا رسول الله إلا بك وحدك. هنا ثارت نخوة أبي البختري من جديد، وصاح في وجه المجذر: ماذا تقول؟! واثُكل أماه، ولك الويل، أتريدني أن أنجوَ بنفسي وأُخلِّيَ صديقي وزميلي يلقى مصيره وحيدا، والله لأموتنّ أنا وهو جميعا، أو لَنسلَمَنّ جميعا، فلا يتحدث عني الناس أني تركت زميلي حرصا على الحياة. ثم اقتتلا وارتجز أبو البختري وهو يقارع المجذر قائلا:لن يتركَ ابن حرة زميلَه حتى يموتَ أو يرى سبيله
9251
| 15 يونيو 2016
في موسم من مواسم الحج في مكة، وافق السنة الثانية عشرة من البعثة النبوية، جاء اثنا عشر رجلاً من أهل يثرب يبتغون الدخول في دين الله الإسلام، فقصدوا رسول الله عليه الصلاة والسلام، ولاقَوْه عند العقبة بمنى، وأعلنوا له إسلامهم، وبسطوا إليه أيمانهم، فبايعهم رسول الله على ألا يشركوا بالله شيئا، والا يسرقوا والا يزنوا والا يقتلوا أولادهم، والا يأتوا ببهتان يفترونه بين أيديهم وأرجلهم، وعلى ألا يعصوا النبي في معروف، ولم يكن ضمن شروط البيعة الجهاد في سبيل الله، إذ كان لمّا يفرضْ بعد، لذلك سميت هذه البيعة ببيعة النساء. رأى رسول الله أن يبعث مع أولئك القوم من الأنصار، رجلا ليقرئهم القرآن ويعلمهم الإسلام، ويفقههم في دينهم، فوقع اختياره لهذه المهمة العظيمة الجليلة على مصعب بن عمير، رضي الله عنه، ليكون بهذا أول سفير في الإسلام، يحمل سِفارته إلى المدينة التي ستكون فيما بعد دار الهجرة، ويطلق عليها المدينة المنورة، التي اصطفاها القدر لتكون المنارة المشعة بالنور كالشمس ترسل أشعتها المضيئة مبددةً ظلام الأكوان، وباعثةً الأمل في النفوس، فتأخذ الحياة طريقها إلى الخير والسعادة والنماء. لقد اختير مصعب بن عمير من بين السابقين الأولين، وكُلف بهذا التكليف الشريف، وهو له جدير، ولا غرابة في هذا، فإنه الفتى الذي باع دنياه برخائها ونعيمها وجمالها، بدينه الذي آمن به، ولم يُغلِ شيئا مما يملك على العقيدة التي رأى الحق والصدق فيما تدعو إليه، لذلك لم يتلبث ويتردد في التخلي عن كل شيء دونها، إن كان يقف في سبيل بقائه عليها، وهو الذي كان أنضر وأعطر فتيان مكة وشبانها، يتمتع بظلال ودلال والديه، ثم رضي بعد ذلك من أجل الإسلام عما صار إليه من شدة وبؤس شديدين، بحيث يرتدي المرقّع البالي، ويطعَمُ اليابس القاسي، وما ذلك إلا من حبه لله ورسوله، فلا غَرْو إذن أن يكونَ سفيرا للإسلام من بعدُ، وينالَ حظوة القرب والرضا. بلغ مصعب يثرب ونزل فيها ضيفا على أسعد بن زرارة، ثم إنهما راحا معا يدعوان الناس إلى الله، حيثما نزلا من مجالس القوم وبيوتهم، هنالك شرع مصعب يعظ الناس ويدعوهم بحكمة وأناة وحلم إلى الإيمان بالله وحده، والتصديق برسالة نبيه محمد، مستعينا بتلاوة وترتيل ما في صدره من آيات مباركات من كتاب الله. كان مصعب مخلصا صابرا حكيما في دعوته، يدعو إلى الله بخلقه وتعامله قبل أن يدعو بلسانه ومقالته، لا يُكبِر جهدا، ولا يدخر وسعا، لذلك لقي من الناس قبولا واستجابة بحيث انفتحت له مغاليق القلوب، وصغت الآذان، فأخذ الإسلام من ثَم محله الفطري من نفوس الذين أحبوا دخوله. في ذات يوم خرج مصعب بن عمير ومعه أسعد بن زرارة، يريدان دار بني عبد الأشهل، فلما قدما محلاً من أرضهم، اتخذاه مجلسا لهما، فلم يلبثا إلا قليلا حتى اجتمع إليهما نفر ممن أسلم، وممن سمع بهما وأراد أن يخبر ما معهما من علم ونبأ، وكان بنو عبد الأشهل يومئذ يتزعمهما سيدان من أكرم فتيانهم هما سعد بن معاذ، وأسيد بن خضير، فلما نُمي إليهما خبر مصعب وصاحبه أسعد، وما يقومان به، رابهما ذلك وأقلقهما وظنا فيه سوءاً يكاد يحيق بقومهم، من حيث لا يشعرون، ولا سيما بعدما انتشرت قالة السوء من بعض المرجفين، فقال سعد بن معاذ، لأسيد بن خضير: (لا أبالك، انطلق إلى هذين الرجلين اللذين قد أتيا دارنا ليسفها ضعفاءنا، فازجرهما وانههما أن يأتيا دارنا، فإنه لولا أن أسعد بن زرارة مني حيث قد علمت، كفيتك ذلك، هو ابن خالتي، ولا أجد عليه مقدما). انتبه أسيد بن خضير هنا، واستشعر الخطر، فقام وامتشق حربته، وأخذ يمشي بخطى سريعة، تقرب إلى أن تكون عَدْواً، حتى أقبل عليهم في مجلسهم، وما إن شاهد القاعدون هيئته وصورته اللتين يبدو عليهما الغضب والحنق، حتى أوجسوا خيفة وجعلوا يتهامسون فقال أسعد لمصعب: هذا سيد قومه، قد جاءك فاصدق الله فيه. قال مصعب: إن يجلسْ أكلمْه. فوقف أسيد عليهما متشتما، وقال: ما جاء بكما إلينا، تسفهان ضعفاءنا، اعتزلانا إن كان لكما في أنفسكما حاجة. فقال مصعب، بنبرة هادئة حانية: أوتجلس فتستمع، فإن رضيت أمرا قبلته، وإن كرهته فكفّ عنك ما تكره. بهذا القول الحكيم البليغ تمثلت ردة فعل مصعب وظهرت فطنته، وأسفرت معالجته لما واجهه من موقف صعب وحرِج، أما أسيد بن خضير فقد كان سيدا حقا يستحق السيادة على قومه بما له من أخلاق كريمة، وصفات حميدة، جعلته يمتاز بكرم النفس، ورجاحة العقل، لذلك قال لمصعب: أنصفت. وكذلك هم العقلاء والحكماء يحتكمون إلى لغة العقل والمنطق وينقادون للحق، ويذعنون له، ويعترفون بالصواب ويقرون به، إذا عرفوه، وأي عقلٍ ومنطق أصح وأبلغ مما نطق به الداعية مصعب بن عمير. ثم رَكَز أسيد حربته وجلس، فحدثه مصعب بالإسلام، وقرأ عليه القرآن، وأسيد ينصت بخشوع واهتمام، حتى إنهم عرفوا في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم من خلال إشراقه وتهلله، وقد صدق حدسهم، فلم يفرغ مصعب من حديثه حتى قال أسيد: ما أحسنَ هذا وأجملَه!! كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا في هذا الدين؟ قال مصعب: تغتسل وتطهر ثوبك، ثم تشهد شهادة الحق، ثم تصلي ركعتين. فقام واغتسل وطهر ثوبه وشهد شهادة الحق، ثم قام فركع ركعتين، ولما فرغ قال لمصعب وأسعد: إن ورائي رجلا إن اتبعكما لم يتخلف عنه أحد من قومه — يعني سعد بن معاذ — وسأرسله إليكما. مضى أسيد من عندهما وهو يفكر في حيلة يسوق بها سعداً إليهما حتى يسمع منهما، فرأى أن يقول له إن ابن خالته سعد بن زرارة على خطر من القوم يتهدده، فتثور حينئذ حمية سعد ونخوته على قريبه، فيسرع في نجدته، فلما قال له ذلك، قام سعد من فوره فزعا مغضبا، وأخذ حربته وأسرع إليه حيث كان، حتى بلغ مكانه، ولكنه نظر إلى ابن خالته فرآه مطمئنا ما به من بأس، فسرعان ما انتقل من حال إلى حال، ومن شعور إلى شعور، ووقف منهما نفس الموقف الذي وقفه من قبل أسيد بن خضير أول أمره، فقال له مصعب مثل ما قاله لأسيد، من لغة الحكمة والمنطق، فقبل منه سعد ذلك فجلس ورَكَز حربته وأنصت لما يقال، إذ كان رجلا عاقلا حكيما، قد ساد قومه كما أسلفنا هو مع ابن عشيرته أسيد بن خضير، وهو الذي لم يكن ليتخلفَّ عنه في فضل وخير، ثم انتهى الحديث بإسلام سعد على نحو ما أسلم أسيد.
3037
| 14 يونيو 2016
نشأ والد الصحابي حذيفة بن اليمان في مكة، وكان اسمه حُسيل بن جابر العبسي، عاش بين أهل مكة كواحدٍ منهم، له ما لهم وعليه ما عليهم، وظل في عيشته هذه مطمئنا آمنا، لا يكدر هناءها، ولا يعكر صفاءها شيء من شرور الأهواء، ولا صروف الأيام، حتى قُدّر لحسيل بن جابر، أن يصيب في مكة دما، جعله طِلبة للثأر الذي لا يرضى بشيء سوى سفك دمه، ولم تكن له منعة في قومه تكفيه وتذود عنه، فلم يجد حُسيل من بعدُ بدا من أن يترك مكة فارا بحياته إلى يثرب.هناك في يثرب استقر بحسيل المقام، وحالف بني عبد الأشهل من قبيلة الأوس اليمانية، القبيلة التي نزحت من قديم من اليمن، فسمي لذلك حسيل باليمان، حتى لم يعد يعرف إلا بهذا الاسم الجديد، ثم تزوج منهم، وولدت له زوجه ابنه حذيفة، الذي أصبح له في الإسلام شأن أيُّ شأنٍ، سنعلمه فيما يأتي.شب حذيفة في يثرب، وطن أبيه الذي اختاره بديلا عن وطنه الأصلي، شب هنالك مع القوم الذين شاء القدر لهم أن يكونوا أنصاراً لرسول الله، عليه الصلاة والسلام، وأن تكون مدينتهم موطناً لدعوة الإسلام الذي شاع نوره وأضاء ما حوله، وكان للأنصار أوسهم وخزرجهم حظٌ عظيم من نوره، وفعل جليل لنصرته، في تلك المدينة سمع اليمان وابنه حذيفة، وابن آخر له اسمه صفوان، عن الإسلام، وعلموا الكثير عن دعوة ورسالة النبي الكريم محمد، عليه الصلاة والسلام، ممن دخلوا دين الله من قومهم، وقد كانوا كثيرا، فعزموا على المجيء إلى رسول الله لمبايعته، والدخول في الإسلام، وقد صح عزمهم فقدموا على الرسول الكريم، وأسلموا لله رب العالمين.حين رأى رسول الله حذيفة، تخايل فيه علامات النجابة والفطانة، وتوسم فيه خيرا كثيرا، فأحب إكرامه فقال له:(إن شئت كنت من المهاجرين، وإن شئت كنت من الأنصار، فاختر لنفسك ما تحب)، ولأن حذيفة كان قد ولد وتربى مع الأنصار في المدينة، اختار أن يكون من الأنصار. لم تنقطع صلة اليمان بموطنه الأول مكة، دار مهده وصباه وشبابه، فكان يزورها من حين إلى آخر، بعد أن ابتعد عنها سنينَ طويلة، وفي إحدى زياراته صحبه ابنه حذيفة إلى مكة، وذلك بعد إسلامهما، وبعد هجرة الرسول إلى المدينة، فحدث أن أمسك بهما المشركون الذين كانوا متهيئين للخروج إلى قتال المسلمين قبل معركة يوم بدر، وأسروهما واشترطوا عليهما مقابل أن يطلقوهما ألا يقاتلا مع المسلمين، وأخذوا عليهم العهد بذلك، فأعطوهم العهد وانطلقا في سبيلهما حتى بلغا مشارف المدينة ولقيا الرسول فأخبراه خبرهما مع قريش، فقال لهما:(نستعين الله عليهم، ونفي بعدهم)، وبذلك لم يشهد حذيفة ولا أبوه اليمان، يوم بدر العظيم، وتلك هي أخلاق المسلمين المؤمنين، وما يمتازون به من خِلال، التي من أبرزها الصدق والوفاء بالعهد، ولو مع الأعداء، ومع من يكرهون، وما ذلك إلا من تقوى الله عز شأنه، التقوى التي حلت في قلوبهم، فجعلتها قلوبا بصيرة لا تعمى عن الحق، بل تُقر به، قلوبا بيضاءَ مملوءة بمعاني الخير والبر، بحيث تعرف المعروف، وتنكر المنكر.ظل حذيفة بعد يوم بدر الذي لم يكتب له أن يشهده، متشوقا متطلعا إلى يوم آخرَ يُري فيه الله من نفسه تضحية وفداءً من أجل دينه الذي آمن به، وليعوض أيضا ما فاته مع إخوانه المسلمين، من عظيم الأجر الذي ظفروا به فكانوا من الفائزين، كان ذلك منه حتى بلَّغه الله يوم أحد، فخرج فيه مجاهدا في سبيل الله، جاهد في ذلك اليوم ولم يكن في حسبانه ما كان ينتظره فيه من شدة وبلاء على نفسه خاصة، وعلى المسلمين عامة، بعد أن دارت الدائرة عليهم بمخالفة من خالف أوامر رسول الله، أما ما وقع على حذيفة خاصة من بلاء وشدة وكرب، فهو أن بعض المسلمين قتلوا خطأ من غير علم أباه اليمان حين لم يعرفوه، إذ لم تكن له علامة ولا شارَة مبيِّنة في زيّه، ولم يكونوا يستطيعون تمييزه من وجهه، فقد كان متلثما في معمعة الوغى، ناهيك بمُثار النَّقْع الذي غطى الوجوه، واعتلى الرؤوس، فأضعف نظر الأبصار، فما عاين حذيفة ذلك المصاب الجلل، إلا والسيوف والرماح تنوش أباه، وتَعْتوره، فصاح صيحة هائلة، ارتجت لها الأبدان في ساحة الهيجاء قائلا: أبي، أبي، ويحكم إنه أبي. ولكنّ السيفَ كان قد سبق العَذَل، فأخذ الجزع والحزن من نفس حذيفة مأخذا عظيما، يصعب احتماله، ولا يمكن تصوره.أما من قتلوا أباه فقد اعتراهم الفزع، وتملكتهم الحيرة، وسُقطوا في أيديهم، ولم يزيدوا على قولهم: والله ما عرفناه. ثم قال لهم حذيفة بصوت متهدج تكاد تخنقه العبرات: (يغفر الله لكم، وهو أرحم الراحمين)، ثم استمر حذيفة يقاتل حتى وضعت المعركة أوزارها، وانتهى القتال بما انتهى عليه من مصاب وبلاء.لما علم رسول الله، بخبر قتل اليمانِ أبي حذيفة خطأ، أمر بالدية تُسلم لولده، فأخذها حذيفة وتصدق بها على المسلمين، وهو على ظنٍ حسن بأن أباه قتل شهيدا، وأنه بفضل الله وكرمه معدودٌ في الشهداء، وبصنيع حذيفة هذا ارتفع قدره، وكبر شأنه بعين رسول الله، وعرف قوة إيمانه، وكرم معدنه.جاء يوم الخندق، اليوم الذي جمعت فيه قريش أحزابها من العرب لغزو المدينة والقضاء على المسلمين، حتى صاروا جيشا لَجِبا، فيه نحو عشرة آلاف مقاتل، ومَضَوْا إلى ما أرادوا، فحاصروا المدينة المنورة، نحو شهر بعد أن فوجئوا بالخندق أمامهم محفورا، يصدهم عن الاقتحام والهجوم، وفي تلك الظروف الشديدة، والأحوال العصيبة، التي بلغت ذروتها على المسلمين نتيجة الحصار، والاستعداد للمواجهة المحتملة في أي حين إن استطاع ذلك الجيش الكبير اجتياز الخندق، واختراق حصون المدينة، أصاب المسلمين ما أصابهم من نصب وجوع وخوف وقلق، علاوة على البرد القارس، الذي لفَّ الأجواء ببرودته الشديدة، فكان ابتلاءً عظيما، زُلزلوا به زلزالا عنيفا.عند كل ذلك رأى رسول الله أن يرسل رجلا إلى معسكر العدو، ليجسّ له خبرهم، فبينما هو جالس مع أصحابه الكرام في ليلة ليلاءَ باردة، إذ قال:(ألا رجلٌ يأتيني بخبر القوم، جعله الله معي يوم القيامة)، سكت جميع الصحابة، ولم يجبه منهم أحد، فكرر رسول الله قوله ذاك، فلم يجبه أحد، فأعاد الرسول قوله ثانية، فلم ينطق أحد بكلمة واحدة، وذلك من شدة ما كان بهم من بأساء وضراء، فوق ما تحتمل طاقتهم، وطاقة البشر عامة، ثم قال رسول الله:(قم يا حذيفة، فأتنا بخبر القوم، ولا تَذْعَرهم)، فلم يجد حذيفة بدا من أن يقوم إذ دعاه الرسول باسمه، فقام متحاملا على نفسه، من فرط ما به من جهد وإعياء، ومضى في طريقه حذرا حتى أتى معسكر الأعداء، وتسلل إليه حتى صار جالسا مع بعض الأجناد، ولم يشعروا به إذ كانت الرياح القوية قد أخمدت نيرانهم، فباتوا في ظلام دامس، حينئذ أحس قائد جيش المشركين أبو سفيان بالخطر في ذلك الظلام الذي لا يكاد يعرف فيه الرجل من بجواره، وخشي من أن يتسلل في جنودهم أحد من المسلمين، فقام على شَرَفٍ محذرا الجيش بصوت جهير سمعه حذيفة:(يا معشر قريش، لينظرْ كلٌّ منكم جليسه، ولْيأخذْ بيده، وليعرف اسمه)، هنالك سارع حذيفة بسرعة بديهته، وفطنته الذكية، إلى أخذ يد الرجل الذي بجواره، وقال له: من أنت؟ فقال: فلان بن فلان. وبذلك أمن على نفسه بينهم.وفي تلك الليلة رأى أبو سفيان ما حلّ بالجيش، ونظر فيه فإذا بالخيل والإبل قد هلكت، والريح ما انفكت عنهم مشتدّةً أياما، بحيث لا تقوم لهم نار، ولا تطمئن قِدْرٌ، ولا يستمسك لهم بناء، فقال لهم: إني مرتحل، فارحلوا، وراح يهيئ للمسير.ما إن سمع حذيفة ذلك من أبي سفيان، ورأى حالتهم تلك، حتى انسل هاربا، ورجع إلى رسول الله فرحا مستبشرا، بنجاحه في مهمته، وفرحا أيضا بما يحمل من خبر رحيل الأعداء، فسُر النبي بالخبر، وحمد الله أن كفاهم القتال، كما سُرّ بحذيفة الذي أدى مهمته على أتم وجه، وألبسه عباءة كانت عليه يصلي بها، ونام بها حذيفة في تلك الليلة، نوما هادئا هانئا، نومَ قرير العين، وما زال نائما حتى أصبح، فقال له رسول الله ممازحا: (قم يا نَوْمان).
4153
| 13 يونيو 2016
مساحة إعلانية
نعم، أصبحنا نعيش زمنًا يُتاجر فيه بالفكر كما...
6540
| 27 أكتوبر 2025
في زمنٍ تتسارع فيه التكنولوجيا وتتصارع فيه المفاهيم،...
6423
| 24 أكتوبر 2025
لم تكنِ المأساةُ في غزّةَ بعددِ القتلى، بل...
3909
| 21 أكتوبر 2025
تُخلّف بعض اللحظات أثرًا لا يُمحى، لأنها تزرع...
3126
| 23 أكتوبر 2025
يمثل صدور القانون رقم (24) لسنة 2025 في...
2874
| 21 أكتوبر 2025
القضية ليست مجرد غرامات رادعة، بل وعيٌ يُبنى،...
1866
| 23 أكتوبر 2025
المسيرات اليوم تملأ السماء، تحلّق بأجنحةٍ معدنيةٍ تلمع...
1827
| 28 أكتوبر 2025
جاء لقاء حضرة صاحب السمو الشيخ تميم بن...
1677
| 26 أكتوبر 2025
واكبت التعديلات على مجموعة من أحكام قانون الموارد...
1578
| 21 أكتوبر 2025
على مدى العقد الماضي أثبتت دولة قطر أنها...
1245
| 27 أكتوبر 2025
النّهضة هي مرحلة تحوّل فكري وثقافي كبير وتمتاز...
1023
| 24 أكتوبر 2025
في زمنٍ تاهت فيه الحدود بين ما يُقال...
999
| 24 أكتوبر 2025
مساحة إعلانية