رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

Al-sharq

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

الشرق

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

"ماكينة الفتوى" وشلل الأفراد والمجتمعات

إن أي نقاش حول دور الإعلام العربي في الانقسامات الطائفية الإقليمية الراهنة يجب أن يأخذ بالحسبان الفصل الذي لم تنطو صفحاته بعد والذي يتتبع التغيرات التي طرأت على هذا الإعلام في أعقاب الربيع العربي. امتلك الإعلام حرية نسبية أفضل في البلدان التي نجحت انتفاضاتها ولو جزئيا في الإطاحة بأنظمة حكمها وبعد أن كان خاضعا لسيطرة تامة من الدولة. كما في تونس ومصر وليبيا. وقد تأسست عشرات الوسائط الإعلامية والقنوات التلفزيونية مباشرة بعد السقوط الكلي أو الجزئي لتلك الأنظمة. وربما كانت إحدى المظاهر الفارقة التي طرأت على المشهد الإعلامي الذي ما زال طور التبدل هو الحضور القوي للسياسة وبالأخص في وسائل البث الدينية. خاصة القنوات التلفزيونية. وبينما كانت تلك القنوات وتحديدا ذات الصبغة السلفية حريصة جدا في عهد الأنظمة السلطوية على عدم التطرق إلى السياسة وإنتاج مواد وبرامج خالية من أي إشارات سياسية. كانت الحكومات في المقابل تسمح لتلك القنوات بالعمل. بل إنها كانت سعيدة في الواقع بسلبية تلك القنوات وما لها من تأثير "تحييدي" على متابعيها. خاصة مقابل وسائل الإعلام الدينية المسيسة والقريبة من الحركات الإسلامية. والمقصود بـ "الأثر التحييدي" هنا هو تحييد المتلقين خاصة الشريحة الشبابية عن السياسة عن طريق تركيز البث الديني على أمور التدين التفصيلية. والحض على البعد عن السياسة. مع التوكيد الدائم على "طاعة ولي الأمر". وهكذا كان العديد من القنوات الدينية يزعم بأنه "لا يتدخل في السياسة" عبر تبني خطاب ديني تربوي يحض على المسلكيات فقط. ويصرف متابعيه بالتالي عن الشأن العام. والواقع أن هذه المقاربة الإعلامية للعديد من القنوات الدينية خاصة السلفية ما قبل الربيع العربي على وجه التحديد. هي سياسية قلبا وقالبا رغم ادعائها بعدم الخوض في السياسة. ذلك أن ابتعادها الواعي عن السياسة وتركيزها على الأمور الفرعية في الدين والطقوس والانهماك بها وإشغال الناس فيها يخدم السلطة بشكل مباشر. حيث يعمل على تجميد شرائح شعبية كبيرة من الاهتمام بالعمل العام. أي أن فعل "التحييد" و"التجميد" الذي كانت تساهم به هذه القنوات هو فعل سياسي في جوهره وينفي ادعائها بعدم الانخراط في السياسة. في سياق ما بعد الربيع العربي وفي عدد من الدول التي شهدت تحطيما لأسقف حريات التعبير المنخفض والتحرر من خوف القبضة الحديدية للدولة تسيست الكثير من القنوات التي كانت غير مسيسة بالأمس خاصة في مصر (في مرحلة ما قبل السيسي). وتحالفت القنوات الأهم بينها مع الأحزاب السلفية التي تأسست بسرعة هي الأخرى أيضاً وانخرطت في السياسة. وهيمنت السياسة والتسيس على الشاشة في انقلاب مفاجئ على الماضي القريب. أثر هذا "التسيس" الكاسح على سائر البث الديني تقريبا وكان يجري في وقت كانت المنطقة تغذ السير فيه صوب تموقع طائفي مكشوف بعد اندلاع الثورة السورية. وانخراط إيران وحزب الله في دعم نظام الأسد بلا هوادة. والواقع أن الفوضى التي عمت المشهد الإعلامي بعد الربيع العربي فاقمت من المشاكل التي طالما عانى منها الإعلام الإقليمي (العابر للحدود الوطنية). كغياب هيئات تسن الضوابط والقوانين ومواثيق الشرف المهني والأجهزة القضائية التي توازن بين الحريات وحقوق الأفراد. وعلى خلفية هذا المشهد الإعلامي المنفلت من أية ضوابط انطلقت العديد من القنوات التلفزيونية لتحرض على الكراهية الطائفية وتدعو إلى إقصاء "الآخر" عبر إثارة مرويات تاريخية ومن خلال الخوض في معارك دينية جرت في الماضي دون أن تتعرض لملاحقات قضائية. لكن في سياق ما بعد الربيع العربي برزت حالة من "فوضى الحريات" اختلطت فيها الشرعيات الثورية. بالانتخابية. بالمسلحة (كما في ليبيا). وهو الأمر المتوقع حدوثه إثر سقوط كل نظام سلطوي. وكان الأمل (وما زال) منعقدا على انبعاث "حيز عام" صحي (تعددي. وديمقراطي. ونقدي) بعد مرحلة الإطاحة بالدكتاتورية في كل من حالة من حالات الربيع العربي. عوضا عن ذلك. وعن اشتغال نظرية هابرماس التي تفترض احتلال القوى النقدية والديمقراطية لأي حيز عام يتم تحريره من سلطة الدولة. فإن الفراغ الذي برز جراء الانحسار السريع والمفاجئ للدولة السلطوية العربية احتله عموما الإسلاميون بسياساتهم وخطابهم وإعلامهم. لم تشتغل (بعد) طروحات هابرماس الكلاسيكية حول "الحيز العام" في بلدان ما بعد الربيع العربي. إذ تقوم على افتراض أن يشجع تشكل حيز عام على بروز التفكير الحر في إطار سياق علماني محدد. وذلك بالطبع بعد مواجهة قوة الدولة القمعية وارغامها على التراجع عن احتلال الحيز. فقد كشف الربيع العربي عن دينامية أخرى مقابل تلك الدينامية المفترضة. تمثلت ببساطة في استبدال سلطوية الدولة التي أطيح بها بسلطوية الخطاب الديني. وعوضا عن خلق فضاء للتفكير الحر. وقع الحيز العام في دول عربية مثل تونس ومصر وليبيا (وغيرها وإن بدرجات متفاوتة) فريسة لتدين زاحف. ورغم أن منسوب التدين دائما ما كان عاليا قبل تغيير الأنظمة إبان الربيع العربي. لكن طبيعته كانت تميل إلى البساطة وكانت أيضاً بعيدة عن التسيس (العفوي. أو المقصود). بيد أن الانتصارات الانتخابية التي سجلها الإسلاميون منحتهم قوة شعبية غير مسبوقة أسهمت في سيطرة طاغية للإسلاموية. كما دفعت إلى تحول في شخصية الإسلاميين أنفسهم فامتلكوا جسارة غير معهودة وأصبح خطابهم أكثر جراءة من ذي قبل. وتجسد كل هذا من خلال صعود وهيمنة الإعلام الديني وترسيخ عشرات القنوات الدينية النافذة وخلق فضاء مؤات لتأسيس المزيد منها. فالإسلاموية التي تمخض عنها الربيع العربي ليست إلا مرحلة متقدمة لعملية تخلق استمرت سنوات طويلة وربما جاز لنا تسميتها بـ "الفضاء الإسلاموي الإقليمي". لقد نجم هذا الفضاء عن عملية طويلة المدى شهدت غرس ممارسات وخطاب وأنشطة وتدين في داخل جسم المجتمع العربي من جانب الإسلاموية وإعلامها. وربما كانت أهم التغيرات البنيوية التي نجحت الإسلاموية في أحداثها داخل المجتمع هي التأسيس لشرعية دينية جديدة يرجع إليها في الحكم المعياري على السلوك الاجتماعي. الفردي والجماعي.

532

| 22 سبتمبر 2014

لماذا يقف العرب ضد انفصال إسكتلندا عن بريطانيا؟

سألت أصدقاء وزملاء وطلبة في الجامعات أيضاً وفي أكثر من بلد عربي خلال الأشهر الماضية عن رأيهم في مسألة انفصال أسكتلندا عن بريطانيا. وهي التي سيحسمها الاستفتاء التاريخي يوم الخميس 18 سبتمبر القادم. المثير واللافت للانتباه أن الغالبية الكاسحة لمن سألتهم حتى هذه اللحظة يؤيدون بقاء أسكتلندا مع المملكة المتحدة. وعندما استفسر عن الأسباب التي تبرر هذا التأييد لا تُطرح حجج تفصيلية أو تشي بأن صاحب الرأي على اطلاع ولو معقول بالجوانب المختلفة سواء للرأي الداعم للانفصال أم المؤيد له. لا أزعم هنا بأن سؤالي العابر هنا وهناك كان مسحاً علميا ولا حتى قريبا من ذلك. ولم استطع تفسير ذلك إلا بتأكيد الانطباع الذي اعتقده وهو وجود مزاج عربي واسع وعميق ضد فكرة الانفصال ومُنحاز لفكرة الوحدة بشكل شبه غريزي. وهو الأمر الجدير بالتأمل. فرغم الانهيارات المتتالية للمشروع القومي العربي على المستوى السياسي والإحباطات التي تعرض له. والاستغلال الأديولوجي للشعارات القومية من قبل أنظمة دكتاتورية شوهته. إلا أن فكرة الوحدة العربية. وفكرة الانتماء إلى فضاء ثقافي واحد لا تزال متجذرة في الوجدان العربي. لن يُعجب هذا الكلام كثيرون نعوا الفكرة العربية وأعلنوا موتها مراراً. لكنها في ضوء التذري والتفسخ الطائفي والديني والإثني والسياسي الذي تواجهه المنطقة تثبت بأنها الفكرة الأكثر صلابة وديمومة. صحيح أن الايديولوجيا القومية عانت من أمراض عديدة. كالتوحيد القسري. وغياب الديمقراطية. وإقصاء الأقليات. لكن ذلك لم يؤثر في جوهر التأييد العميق للفكرة. وصحيح أن ليس ثمة تصور مطروح لترجمتها سياسيا وعملياتياً على الأرض في الوقت الحاضر. لكن ذلك يؤدي إلى شطبها من جدول الخيارات المستقبلية بدليل تمظهراتها القوية في فضاءات الثقافة والإعلام والتواصل واللغة. في تلك الحوارات العابرة مع زملاء وأصدقاء وطلبة حول المسألة الأسكتلندية كنت أورد حجج مؤيدي الانفصال سواء تلك الاقتصادية أو الهوياتية وذات العلاقة بالشعور الوطني الأسكتلندي المتأصل ضد الملكية. وضد سيطرة إنجلترا التاريخية وبطشها بمن جاورها. كما كنت أسحب الحجج إلى مساحة أخرى حيث موقف "بريطانيا العظمى" السلبي والمدمر في أحيان كثيرة إزاء القضايا العربية. وأن انسلاخ أسكتلندا عن التاج البريطاني يحررها سياسيا من المواقف البريطانية. وذلك في الغالب الأعم سيخدم القضايا العربية. فالمزاج الأسكتلندي قريب من الأيرلندي في تأييده لقضية فلسطين وفي نزعته المعادية للسياسة الأميركية التوسعية هنا وهناك. وأن تقلص بريطانيا جغرافيا وديموغرافيا سوف يؤدي إلى تقلص دورها ونفوذها العالمي الذي كان في الغالب الأعم على الضد من المصلحة العربية. ومع ذلك بالكاد كانت هذه الحجج تؤثر في الموقف الأعرض وهو غير المؤيد للانفصال. والمائل بوضوح لفكرة الوحدة. ثمة تقديرات ربما تكون غير دقيقة بوجود حوالي 700 الف عربي يعيشون في أسكتلندا ويحملون الجنسية البريطانية ويحق لهم التصويت يوم الخميس القادم. والبعض يرى أن هذا العدد كفيل بأن يرجح كفة النتيجة إن مالت أغلبيته الكاسحة إلى رأي معين وصوتت باتجاه الانفصال أو استمرار الوحدة. ربما كان في هذه التقديرات بعض المبالغات لكن سيكون من المثير فعلا. بحثيا ومعرفياً. استكناه رأي "عرب أسكتلندا" في مسألة الانفصال ومعرفة لمن صوتت أكثريتهم. ولماذا. وفي الوقت نفسه سيكون من المُعلم والمفيد لو اجريت بعض الاستطلاعات المسحية العلمية لاستكشاف المزاج العربي حول فكرة هذا الانفصال. بل وربما توسيع ذلك إلى قضايا "انفصالية" وخلافية أخرى مثل مطالبات إقليم الباسك وانفصاليو كرواتيا. الانطباع الأولي والتخميني. لدى كاتب هذه السطور على الأقل. أن نتائج مثل تلك المسوحات في ما لو أجريت ستؤثر إلى تفضيل واضح لفكرة الوحدة. حتى من دون الانخراط في التفاصيل وفي الأسباب التي تجعل كثيرين من سكان تلك المناطق يطالبون بالاستقلال والانفصال. وهذا يحيلنا مرة أخرى على معاودة فتح ملف فكرة الوحدة العربية التي رغم طوباويتها السياسية وعدم طرحها كبرنامج سياسي من قبل أي دولة أو حزب ذي جماهيرية حقيقية. إلا أنها ما تزال تعيش في الوجدان العربي العميق. وهي تعيش أيضاً ويؤيدها بقوة. وبما يلفت الانتباه أكثر. بعض الشرائح الشبابية العربية التي ولدت في المهجر والتي لا تتقن في مجملها اللغة العربية أصلا. وهذا يفتح باب نقاش آخر حول "الهوية العربية" وتعريفها. ويذكر بنقاش معمق اداره عبد الإله بلقزيز في كتابه عن "نقد الخطاب القومي". وفيه يرفض بلقزيز، وعلى خلاف مع كثير من المقاربات القومية الكلاسيكية، أيَّ تعريف يجذر الهوية بأطر جوهرانية وثقافوية تاريخية، تركز مثلاً على العرق، أو اللغة، أو الدين، أو التاريخ، فـ «عرب اليوم» يتجاوزون تلك التعريفات الحصرية والمقيدة، فأين يقع -مثلاً- أبناء العرب في المهاجر ممن لا يتكلمون العربية؟ وأين يقع غير العرب من المواطنين الذين ربما لا يتقنون العربية ولا ينتمون عرقياً لأي جنس «عربي»؟ وأين تقع الهوية الدينية في كل هذا اللبس؟ وأين يقع المسيحيون العرب إذا ما أدمجنا الإسلام في تعريف الهوية العربية؟ الجواب الحاسم عند بلقزيز هو أن الهوية الحديثة تتعرف فقط ضمن إطار سياسي ومواطني: الدولة الوطنية الديمقراطية هي مناط تعريف الهوية، وهذه الهوية تصبح ماهيتها سياسية قانونية في المقام الأول، وتتراجع أي مكونات ثقافوية أو تاريخية لتأخذ المقعد الخلفي. ومن هنا أيضاً، فإن أطروحات التجانس الثقافي المفتعلة والقسرية لا تخلق هوية بل تعمق أزمات، إذ تريد قولبة المختلف في إطار ثقافوي توحيدي فوقي مفترض. ويأتي الالتباس الكبير في تعريف الهوية القومية وحتى هوية الفرد في الفكر القومي من خلل أكبر وأهم، وهو احتقار فكرة «الدولة» أمام فكرة «الأمة»، فالأمة هي الأصل والدولة هي نتوء قد يبرز في هذه الحقبة أو تلك، ومن هنا، فإن تعريف الهوية بقي قلقاً من ناحية وثقافوياً من ناحية أخرى، لكنه في الحالتين اغترب عن حاضر عرب اليوم وعن دولهم القائمة، لأنه لم ينبع من هوية قانونية وسياسية تنطلق من تكريس مفهوم الدولة وإطارها. وعندما نعيد تدوير هذا النقاش النظري في ضوء مثال وحالة عملية وواقعية تقوم حول تأييد حالة وحدة معنية لا علاقة للعرب بها على حالة الانفصال. فإن ذلك يدلل على أن الفكرة والنقاش حولها لم يموتا بل ما زالا على قيد حياة متحدية.

730

| 15 سبتمبر 2014

مسيحيو الشرق مسؤولية الشرق وأهله

لا يحتاج مسيحيو المنطقة العربية إلى شهادة حسن سيرة وسلوك من مسلميها في سياق صد الحملات الداعشية والطائفية عليهم وعلى غيرهم من الطوائف والأديان والمعتقدات التي يريد استئصالها الفكر الداعشي ومنظماته وداعموه. كما لا يحتاجون إلى "خطاب التسامح"، لأن مثل هذا الخطاب ينطوي على فرضية مسبقة وكأن الطرف المُتسامح معه ارتكب خطيئة ما. ولكن الطرف المتسامح يبدي أخلاقا عالية ويمارس تسامحه الفوقي على تلك الخطيئة. الخطاب الوحيد الذي يحفظ كرامة الجميع في المجتمعات متعددة الأديان والطوائف والإثنيات هو "خطاب التعايش"، ففي هذا الخطاب يتساوى الجميع ويقفون بهاماتهم عالية ومتكافئة لا يضمن ولا يمن أحد فيهم على الثاني بـ"التسامح"، بل يقر بالتعايش القائم على الاحترام والندية، وكل ذلك أمام القانون وفي دولة القائمة على مبدأ المواطنة لا غيره. عاش مسيحيو الشرق في هذه المنطقة وبلدانها منذ أكثر من ألفي سنة، أي قبل الحقبة الإسلامية، وبقوا فيها وقاتلوا مع أهلها كل الغزوات الخارجية بما فيها الغزوات الصليبية. وهنا في بلدان المشرق هناك مئات من العائلات ذات التاريخ الطويل زمنيا والامتداد الواسع جغرافيا والتي لا يدلل اسمها على "دينها"، فقد تكون مسيحية أو مسلمة، ذلك أن أفرادها اختاروا أن يبقوا على مسيحيتهم أو يصبحوا مسلمين، وأيا ما كان الخيار فإن العائلة بقيت متماسكة حتى يومنا هذا بشقيها، نعم اختلفت أديان الناس، لكنهم بقوا، مجتمعات وشعوبا متعارفة. لم تكن التواريخ والحقب الزمنية وردية بالتمام والكمال، وكانت هناك فترات من التعصب والعنصرية، لكن الزخم العريض للاجتماع الأهلي كان في الوسط المعتدل والمتعايش. وصحيح أن مسيحيي المشرق صاروا أقلية، لكن ذلك لم يقلل من اكتمال أهليتهم التاريخية ولا انتمائهم الذي لا يجوز لأحد أن يمن عليهم به. عندما تحتاج أي أقلية ما إلى "تسامح" الأكثرية "ورأفتها" تدخل الأمور مرحلة المرض والخطر، وعندما تشعر الأقلية بأنها في خطر لمجرد أنها مختلفة عن الأكثرية فإن الأمور تكون مهددة بالعفن الخطير. والأخبار التي تأتي من هنا وهناك بشأن انعقاد مؤتمرات وتأسيس مبادرات للدفاع عن مسيحيي الشرق تخلق مشاعر متناقضة، خاصة عندما تأتي من خارج المنطقة العربية، فمن ناحية لا يستطيع أحد نقض ورفض كل الجهود الآتية من جهات بعضها مخلصة ولا أجندات خفية لها. ومن ناحية ثانية هناك كثير من النفاق والتوظيف السياسي الذي يثير شبهات لها ما يبررها بسبب التجربة التاريخية المريرة مع الغرب، سواء في أوروبا أو أمريكا. وعوض أن نغرق في تفنيد الجهود وإثارة عقلية المؤامرة يمينا وشمالاً، فإن هذا يجب أن يدفعنا لإعادة الطرق وبقوة على بوابات وعينا النائم كي نتحمل مسؤولياتنا تجاه بعضنا البعض، حتى لا نتركها للآخرين. وفي الجانب المشرق في هذا السياق تجدر الإشارة إلى رفض الأكثرية المسيحية في لبنان تحديدا وفي المشرق عموما، ونخبتها وقيادتها الدينية، فكرة إقامة "تحالف الأقليات" وهو ما دعا إليه النظام السوري وحلفاؤه. فمثل هذه الفكرة تعزز مسألة التخندق الطائفي بعيدا عن فضاء المواطنة، وتذهب بالصراع إلى أمدية بائسة أخرى، فعوض أن يصبح الدفاع عن المسيحيين وأي جماعة تستحق الدفاع مسؤولية الجميع، يُعاد ترسيم المهمة وفق خطوط التمايز الديني. مسؤوليتنا الجماعية هي أن يعيش مسيحيونا بأمان وكرامة، وهو الأمر ذاته الذي يحلم به مسلمونا وكل الجميع منا في هذه البقعة المنكوبة من العالم. تقع علينا نحن أهل المنطقة المسؤولية الكاملة والتامة، قبل أن تكون مسؤولية أي طرف خارجي، وحتى لا يتم تمييع المسؤولية عبر الحديث العام والفضفاض، فإن تلك المسؤولية تبدأ من الناس العاديين. أي الأفراد في الحواضر والأرياف والحارات، ثم تنتقل إلى جمعيات المجتمع المدني ومؤسساته وأهل الرأي فيه. وأخيرا تصل إلى الحكومات التي هي أفشل الجميع في القيام بأي مسؤولية وطنية، كما أثبتت بجدارة حتى الآن، إلقاء اللوم على الحكومات والجهات الرسمية حتى تقوم بما يجب أن تقوم به من مسؤوليات تجاه العنصرية الدينية والطائفية هو هروب إلى الأمام لا أكثر. عدد لا يُستهان به من هذه الحكومات والأنظمة قائم أساسا على بنية طائفية، لذا لا يُعقل منه أن يقوم بما يناقض بنيته التكوينية. ومرة أخرى، فإن ما لا نحتاجه في سياق التصدي لهذه المسؤولية هو خطاب التسامح والسماجة في النظرة إلى المسيحيين وكأنهم أطفال يحتاجون إلى حماية ورعاية. نحتاج إلى خطاب جمعي جديد ومتماسك، سواء في شأن مسيحيي الشرق أم في شأن الجماعات الأهلية المتعددة، إثنيا وطائفيا، خطاب قوامه وأساسه التعايش الندي. المسيحيون والمسلمون واليهود العرب والأزديون وكل أتباع الأديان لا يمكن أن يتعايشوا إلا على قادة المواطنة المتكافئة والتي لا تفرق بين الأفراد بحسب أديانهم ومعتقداتهم، بل تمحضهم المساواة والعدالة بكونهم مواطنين كاملي الأهلية أمام القانون والدستور. خطاب المواطنة المتساوية وخطاب الانتماء إلى الدولة المدنية هو الوحيد الذي يحمي مسيحيي الشرق ومسلميه وكل مكوناته، سواء أكانوا متدينين أم علمانيين. ويحافظ على إنسانيتهم وتكافؤهم مع بعضهم البعض، أي خطاب آخر سوف ينتقص من هذه الطائفة الدينية، أو تلك الأقلية الإثنية، ويعيد التأسيس لنظرة عنصرية ما، سواء دينية أم قومية.

724

| 08 سبتمبر 2014

بين دفء "قانا الجليل" ... ووحشية داعش

الإعلام العربي وغير العربي مهووس هذه الأيام بملاحقة الدم الذي يريقه الإرهاب الداعشي وتغذية الثقافة الداعشية الكامنة هنا وهناك في هوامش البنى الثقافية والاجتماعية والتربوية في مجتمعاتنا، وذات الإعلام لا ينتبه إلى ما يحدث بعيدا عن ميدان الذبح، وقريباً من قلوب الناس العاديين، وعيشهم المشترك، فعلى الضد من المناخ الطائفي والإبادي، والتعصب الديني القاتل الذي ينشر أشباح الموت حول الجميع، تعيد قرى "الناصرة" مدينة فلسطين والمسيح في سفح الجليل تقديم نموذجها الإنساني البديع في العيش المشترك، هنا وعلى بعد عتبتين من السماء عاش مسيحيون ومسلمون بمحبة وإخاء في المدينة التي شهدت معجزات المسيح وطفولته وقيامته، وشهدت قدوم الفتح الإسلامي وانتصاراته وجاورت حطين وشملها صلاح الدين بعباءته. في قرية "كفر كنا"، والتي تُعرف بـ "قانا الجليل" والتي شهدت معجزة المسيح الأولى بحسب الرواية الإنجيلية حيث حول الماء خمراً، أعلن رئيس البلدية مُجاهد عوواودة بناء عمارة ستحتوي على مسجد وكنيسة ومتنزه لتعبر عن الإخاء والعيش المشترك في القرية وجوارها الناصري، يقول رئيس البلدية، وبحسب التغطية التي وردت في "القدس العربي" وتُشكر عليها: "إن إنجاز هذا الصرح الرمزي الإسلامي ـ المسيحي سيبدأ الشهر المقبل (سبتمبر) بعد أن رُصدت ميزانية له، وخصصت قطعة أرض بمساحة ثمانية دونمات. ويوضح عوواودة أن فكرة المشروع انطلقت من "المتاهة" التي تجتاح منطقة الشرق الأوسط ككل، وتتجلى بأبشع صورها الآن بتنظيم "داعش" الذي يهدد الحضارة الإسلامية أكثر من كل أعدائها عبر التاريخ...(و) والمشروع المشحون برمزية كبيرة (يبعث) رسالة أمل مفادها أن هناك حكماء على هذه الأرض يستطيعون تصحيح المسار والانطلاق معا نحو فجر عربي جديد مسلمين ومسيحيين نابع من مبدأ راسخ "لكم دينكم ولي ديني" وكل الأديان لله.. في "كفر كنا" تقاسم المسلمون والمسيحيون الرغيف والهم الواحد والأمل الواحد وجمعتهم التجربة الحلوة المرة وهم على هذا الدرب سائرون". يعيد لنا عوواودة في فكرته المبدعة والجميلة بعضا من ذاتنا المهدورة يوميا على شاشات التلفزة والممزقة في الصراعات الطائفية التي لم يعد بإمكان أحد أن يستوعبها. ما تستوعبه الفكرة الناصرية والجليلية الجليلة وتنادي به بالفم الملآن أن ليس ثمة بديل عن العيش المشترك سوى الإراقة المتبادلة للدماء... وإلى الأبد! هذا هو درس التاريخ في كل مكان وزمان. حيثما تتواجد جماعات تنتمي لإثنيات وأديان وأصول مختلفة تواجدت الصراعات والحروب وسفك الدم. والنتيجة الواحدة واليتيمة بعد كل صراع هي أن على الجميع أن يجد معادلة ما مقبولة تضمن العيش للجميع. بعد المرور بكل التجارب التي دفع البشر أكلافا باهظة لتعلم دروسها. انتقل الفهم البشري من نزعة الإبادة والإقصاء إلى نزعة قبول الآخر والتعايش معه. وإزاحة الفروقات والاختلافات إلى الهوامش مع احترامها. والتركيز على ما هو يومي وحياتي ومشترك. في منطقتنا العربية اليوم نحن نقف على مفترق طرق مخيف: إما الانجرار إلى الخلف نحو نزعة الإبادة والإقصاء وبالتالي الانخراط في "حرب الكل ضد الكل" والتي سوف لا تبقى ولا تذر ويخرج منها الجميع. بعد سنوات إن لم تكن عقود. خاسرا ومدميا ومدمراً. وأما التيقظ من المآل الرهيب للحروب الدينية والتمسك بخيار العيش المشترك والتنازلات المتبادلة. ويتفرع مفترق الطرق ذاك إلى صراعات دينية واثنية لا يمكن حصرها: إبادة مسيحية على يد الداعشيين. صراع سني ـ شيعي طاحن ومدمر. صراع عربي ـ كردي. صراع سني ـ علوي. صراع درزي ـ سني ـ مسيحي. هذا كله من دون أن نشير إلى العنصرية الابادية الصهيونية التي سعرت في قلب المنطقة صراع إسلامي ـ يهودي نقض قرون التعايش التي عرفتها المنطقة بين اليهود والمسلمين. من المغرب إلى البحرين مرورا بفلسطين والعراق والشام. في الجانب المشرق وفي الرد على الجرائم الداعشية ضد مسيحيي العراق ومسلميه قرأت مقالة جميلة تم تداولها في بعض وسائل الإعلام الاجتماعي من كاتب فلسطيني مسيحي رأيت أن اقتبس منه. ولو مطولاً. بعض الفقرات التي تعبر أروع تعبير عن جوهر العيش المشترك الذي شهدته المنطقة عندما كان الجميع يتعامل مع الدين والطقوس بصفتها مسلكيات تعزز الإخاء والحياة العفوية. وليس بصفتها سيوفا تقطع رؤوس المخالفين. يتساءل الدكتور جمال سلسع في مقالته أو بالأحرى ندائه الحار والمرير "هل أحمل جذوري العربية على كتفي وأرحل عن دياري؟ لأن مسيحيتي ثقافتها عربية إسلامية؟ لن أرحل كمسيحي من بلدي لأن مسيحيتي ثقافتها إسلامية وأين "العهدة العمرية" يا أشقائي المسلمين؟ أين احكل دمع المثنى بن حرثة الشيباني النصراني قائد جيوش النصارى في دولة الغساسنة الذي تخلى عن الرومان النصارى. وسار مع سعد بن أبي وقاص بجيشه، وشارك في الفتوحات الإسلامية؟ كيف ألملم معلقاتي الشعرية العربية الإبداعية عن حائط عروبتي الثقافية ومازال عمرو بن كلثوم يردد بحضارته وجيشه الكبير.. كيف أنزع عن جلدي ميراث أجدادي وارتك هوائي الذي لا هواء غيره؟ ومدينتي التي في حاراتها طفولتي، وفي شوارعها رفاق مدرستي، ولما كبرنا نسجنا معا مواقفنا القومية العربية، ضد كل محتل ومستعمر، وعلق أعواد المشانق أجدادي في بلاد الشام على يد جمال باشا السفاح من أجل حرية الأرض العربية؟ لماذا لم يقرأ الآخرون حضوري الوطني عندما كانت راية الإسلام التي رفعها الأتراك تدوس لواء الاسكندرون العربي. في حين كانت شوارع الشام بمسلميها ومسيحييها تخرج بمظاهرات لم يشهد لها التاريخ مثيلاً. ومن كنائس الشام وأجراس المشرق. بعد أن أقفل الأتراك كل جوامع الشام لمنع التظاهرات ضد استلاب لواء الاسكندرون. حيث تحولت كل الكنائس إلى جوامع، ووقف خطيب المسلمين في محراب المسيح يلقي خطبة الجمعة، وصعد المؤذن إلى قبة الناقوس يرفع الآذان، فلماذا تغلق العيون أمام هذا التاريخ؟ ولماذا تصم الآذان عن صوت عروبة آت من أعماق التاريخ؟"

645

| 25 أغسطس 2014

الرئيس عباس والهوس بالمبادرة المصرية

الغرام الارتمائي الذي عبر عنه الرئيس عباس بالمبادرة المصرية، وإعلان التمسك بها، وحض الفصائل الفلسطينية على قبولها، يثير الاستغراب ويستدعي أسئلة عديدة، فالمبادرة المصرية الحالية لا تتضمن سوى تعديلات طفيفة على المبادرة الأصلية التي فرحت بها إسرائيل وتمسكت بها، ورفضت في مقابلها أي مبادرات أخرى بما فيها تلك الأمريكية، أي أن المبادرة المصرية ـ وبكل موضوعية ووضوح وهدوءـ حققت لإسرائيل ما لم تحققه الوساطات والمبادرات الأمريكية، على ذلك كيف يمكن أن يقبلها الفلسطينيون و"يتمسكون" بها؟ فهذه المبادرة لا تحقق المطالب الفلسطينية بقدر ما هي مهجوسة بـ"أمن إسرائيل" وكيفية تحقيقه والحرص عليه، وتعيد تدوير الأمور على ما كانت عليه قبل الحرب، وهي إلى ذلك مليئة بالعبارات الغامضة والضبابية والاشتراطية التي تتيح لإسرائيل تفسير بنودها كما تراها، ومن دون أي إلزام. مثلا. وفي بندها الأول. تؤكد المبادرة على عدم تنفيذ إسرائيل "أي عمليات اجتياح بري لقطاع غزة أو استهداف المدنيين"، معنى ذلك أن إسرائيل مسموح لها أن تستهدف غير المدنيين، وإسرائيل أساسا تقول ليل نهار إنها لا تستهدف مدنيين، وأن الألفي شهيد الذي سقطوا في هذه الحرب سقطوا "عفوا" ومن غير قصد! هذا البند باختصار يتيح لإسرائيل الاستمرار فيما كانت تقوم به دائما، وهو الاغتيالات المتواصلة عن طريق الجو أو الصواريخ. في البند الثاني الذي يلزم فصائل المقاومة هناك إسهاب في تعداد ما هو ممنوع عليها وينص على التالي: "تقوم كافة الفصائل الفلسطينية في غزة بإيقاف جميع الأعمال العدائية من قطاع غزة تجاه إسرائيل برا وبحرا وجوا وبناء الأنفاق خارج حدود القطاع في اتجاه الأراضي الإسرائيلية، مع التأكيد على إيقاف الصواريخ بمختلف أنواعها والهجمات على الحدود أو استهداف المدنيين". لن نتوقف هنا عند وصف "الأعمال العدائية" الذي يصف المقاومة الفلسطينية بما ينقض مقولة الرئيس عباس بأن مصر طرف وليست وسيطا، والواقع أنها فعلا طرف، لكنه ترك لذكائنا استنتاج أين يقف هذا الطرف بالضبط، على كل حال. في البند المذكور أكثر من لغم. لكن يكفي الإشارة إلى الذكر الصريح لحظر "الهجمات على الحدود"، فالمقصود هنا هو الجيش الإسرائيلي لأن وحداته هي التي ترابط على الحدود وتكون معرضة للهجمات، أي أن البند الخاص بإلزام المقاومة ينص بوضوح على وجوب توقفها عن استهداف الجيش الإسرائيلي، بينما البند الخاص بإلزام إسرائيل يطلب منها عدم استهداف المدنيين ويطلق يدها في ملاحقة المقاومين. البند الثالث يتحدث عن تخفيف الحصار وعبر صيغ اشتراطية تنقض ما قد يبدو وأنه انفراج وفتح ولو جزئي للمعابر، يقول البند ما يلي: "فتح المعابر بين إسرائيل وغزة وبما يحقق إنهاء الحصار وحركة الأفراد والبضائع ومستلزمات إعادة الإعمار وتبادل البضائع بين الضفة الغربية وغزة وبالعكس. طبقا للضوابط التي يتم الاتفاق عليها بين السلطات الإسرائيلية والسلطة الفلسطينية". هنا تريد مصر أن تبرئ نفسها من المشاركة في الحصار على قطاع غزة عبر إغلاق معبر رفح من خلال إزاحة الحصار على المعابر بين الضفة وغزة فقط، لذلك يحتوي هذا البند على تعبير "وبما يحقق إنهاء الحصار"، حتى يوحي بأن هذا المطلب يتحقق من دون فتح معبر رفح، لكن الأمر لا يتوقف عند ذلك فحسب، بل حتى فتح المعابر مع الضفة الغربية وبفرض أنها تفك الحصار مرهون بشرط في غاية الغموض هو".. طبقا للضوابط التي يتم الاتفاق عليها بين السلطات الإسرائيلية والسلطة الفلسطينية". ما هي هذه الضوابط؟ أليست هي ضوابط إسرائيلية في نهاية المطاف؟ وهل تستطيع السلطة الفلسطينية ونحن نعرف قوتها التفاوضية الخارقة أن ترفض أيا من الضوابط الإسرائيلية التي ستفرضها إسرائيل؟ معنى ذلك كله وباختصار أن كل قصة فتح المعابر تعيدها المبادرة المصرية العتيدة إلى سلطة إسرائيل وإرادتها. في كل بند من بنود المبادرة هناك شرك مقصود أو غير مقصود ويقود إلى تكبيل الفلسطينيين ورهن حياة ما يقارب من مليوني فلسطيني في قطاع غزة بيد إسرائيل، والمبادرة تنفس كل المطالب الفلسطينية إما بالجملة أو التقسيط، ولننظر أخيرا إلى البند التاسع الذي يتحدث عن المطالب الفلسطينية التي تم ترحيلها لمدة شهر أو" ليتم التفاوض عليها لاحقا". يقول البند ما يلي: "عقب استقرار التهدئة وعودة الحياة الطبيعية إلى قطاع غزة يتم استكمال المفاوضات غير المباشرة بين الطرفين في القاهرة خلال شهر من تاريخ الاتفاق بشأن استكمال موضوعات: أ) تبادل الأسرى والجثامين. ب) بحث أسلوب إنشاء وتشغيل المطار والميناء البحري في غزة طبقا لاتفاقية أوسلو والاتفاقات الموقعة بين الطرفين". لا يحدد البند ولا أحد يعرف معنى "استقرار التهدئة وعودة الحياة الطبيعية إلى قطاع غزة". ماذا لو قالت إسرائيل إن استمرار تسلح المقاومة الفلسطينية هو ضد "الحياة الطبيعية" في قطاع غزة. ثم إن "استقرار التهدئة" قد تخرقه بارودة صياد يتم استخدامها كمبرر للقول بأن التهدئة خرقت، إن تجزئة المطالب وإحالة جزء هام منها إلى المستقبل يعني عمليا إلغاء هذه المطالب، كيف يمكن التفاوض مع إسرائيل بلا سقف زمني ومن دون أي أوراق ضغط وأمامنا التجربة المريرة والمرة لمفاوضات أوسلو منذ عام ١٩٩٣. بل إن المبادرة تفاجئنا بحشر مطلب المطار والميناء الجوي في مفاوضات "طبقا لاتفاقية أوسلو والاتفاقات الموقعة بين الطرفين". هل نقول: صح النوم؟ أين هي اتفاقية أوسلو والاتفاقات الموقعة بين الطرفين والتي دمرها الاستيطان والتهويد والتوسع؟ يبدو أن تلك الاتفاقية لم تعد موجودة إلا في العقل الأمني الذي صاغ المبادرة، وهو عقل كل همه "دور مصر الإقليمي" ولو على حساب مصلحة ومستقبل القضية الفلسطينية وفلسطين برمتها. الرئيس عباس يخطئ خطأ جسيما ووطنيا في تشبثه بالمبادرة المصرية، وأخطأ مرتين عندما طالب الفصائل بالالتزام بها عبر الإعلام؛ لأنه أضعف الموقف الفلسطيني الموحد في مفاوضات القاهرة، وأخطأ الرئيس عباس مرة أخرى عندما ظل يكرر على أن ما نريده هو وقف القتال، طبعا يريد الفلسطينيون وقف القتال ووقف إراقة دمهم لأنهم من يدفع الثمن الباهظ. لكن لا نحتاج إلى براعة فائقة وتشاطر سياسي كبير للقول بأن هذا التصريح في هذه اللحظة الحساسة يضعف الموقف الفلسطيني أيضا، فما يريده الفلسطينيون الآن وعلى طاولة المفاوضات هو رفع الحصار وضمان حياة كريمة لمليوني فلسطيني في القطاع، حتى لا تظل دماؤهم وحياتهم تراق ولكن ببطء وبعيدا عن أعين الكاميرات، إسرائيل أيضاً تريد وقف القتال وهي لا تحب أن ترى صورتها ملطخة بالدم الفلسطيني في عيون الرأي العام العالمي، وتريد أن تعود لسياسة القتل البطيء عبر الحصار الذي لا ينتبه له الإعلام، التباكي على الدماء الفلسطينية في الوقت الخطأ وعبر المنبر الخطأ، وكما نراه متكررا عند أساطين العجز العربي، هو كلمة حق الدم يراد بها باطل الرضوخ.

1084

| 18 أغسطس 2014

مصر.. وتصريحات ليفني

في تصريح جديد فج ومثير للأعصاب وبالغ الوقاحة قالت تسيبي ليفني في تصريحات حديثة إن هناك "توافقا إسرائيليا مصريا على خنق حماس". هناك حاجة فورية لتصريحات مصرية رسمية تشرح للرأي العام ما جاء على لسان ليفني، وطبعا تنفيه على الأقل، وهي الوزيرة التي أسهبت في تصريحها ذاك وقالت عندما أقول "نحن" فأنا أقصد إسرائيل ودول عربية عديدة لم تتردد عن تعدادها واحدة بعد الأخرى، وعلى رأسها مصر. مجريات الحرب الوحشية والإبادية التي تخوضها إسرائيل ضد الفلسطينيين وهم تحت الحصار ومعابر "الأشقاء" مغلقة في وجوه جرحاهم ومعاقيهم الذين تجاوزا العشرة آلاف جريح تؤشر مع الأسف باتجاه صدقية تصريحات ليفني الوقحة. والمواقف العربية الرسمية الغائبة والمتواطئة هي الأخرى مع الحرب الإسرائيلية تؤشر ومع الأسف مرة ثانية إلى صدقية ما نطقت به ليفني. كما الاندهاش المتواصل لمسؤولين أمريكيين وغربيين من الصمت العربي "المدوي" وتعليقاتهم العلنية على أنهم لم يروا أبداً في الماضي مثل هذا المستوى من "التعاون" بين إسرائيل وبعض العرب ضد المقاومة الفلسطينية يؤشر أيضاً إلى صدقية تصريحات ليفني. تعزز ذلك كله الاعترافات المتواترة يوما بعد يوم من قبل مسؤولين وإعلاميين إسرائيليين حول مستوى "التنسيق" مع عواصم عربية خلال الحرب. وكأن الجميع لا يريد أن يترك مجالا لأي شك. التصريحات الإسرائيلية التي تريد أن تخرج مما يتم في السر إلى العلن ليست أخطاء إعلامية، أو زلات لسان، بل هي مقصودة وتريد أن تحقق واحدا من أهداف الحرب الجانبية. تريد إسرائيل أن تنتهي من مسألة التعامل سرا مع الأنظمة العربية، وتريد أن تخرج ذلك التعامل والتعاون إلى النور، لتقول للجميع بأنها دولة "عادية" في المنطقة، وتتعاون مع جيرانها ضد الأعداء المشتركين، وهذه المرة "حماس والإسلام السياسي" هو العدو المشترك. وهذا ما قاله بالحرف تقريبا شاؤول موفاز وزير الدفاع الإسرائيلي الأسبق منذ عدة أيام، متغنيا بالفرصة الذهبية ووجود معسكر اعتدال عربي عريض يقف مع إسرائيل، ومع ذلك كله ورغما عنه علينا أن نتساذج ونحسن الظن ونرفض ما يأتي على ألسنة عسكريي وسياسيي وإعلاميي إسرائيل، بل ونمعن في إحسان الظن بـ"الأشقاء" ونقول إن إسرائيل وناطقيها يصطادون في الماء العكر، لكن المسألة ليست أقوالا ولا تصريحات، بل هي أفعال على الأرض، وهذه الأفعال تقول إن بقاء معبر رفح مغلقا والتقارير الإعلامية المتزايدة التي تشير إلى أن مصر تزداد تشددا في مسألة فك الحصار عن القطاع وفتح المعبر تدمر كل نوايا حسن الظن المتآكلة حول المواقف العربية عموماً وإزاء الدور المصري الراهن على وجه الخصوص. بعيدا عن حسن الظن أو سوئه، يمكن أن نحلل الموقف المصري من الحرب القائمة ومن حاضر ومستقبل قطاع غزة من منظور واحد يتيم وهو العداء لحماس باعتبارها التمثيل الفلسطيني لحركة الإخوان المسلمين التي يعتبرها النظام المصري العدو رقم واحد في عالمه المُتوهم. معنى ذلك أن كل العوامل الأخرى والمعطيات، سواء الراهنة أو المُتطورة سوف تُخضع قسرا لهذا المنظور قصير المدى، ما تقوم عليه النظرة المصرية هو عدم خروج حماس بصورة المنتصرة مهما كلف الأمر بلو الانتهاء إلى صيغة تهدئة في المفاوضات الجارية تزيد من الحصار على حماس وتضعفها... وتخنقها، وهو الخنق الذي تحدثت عنه ليفني، مشكلة هذا المنظور. ومن ناحية تحليل سياسي بارد وبعيدا عن العواطف وعن التوقعات الأخوية، أنه قصير النظر وليس له أفق في النجاح، فضلا عن انعكاساته السلبية على مصر ذاتها. فمن ناحية أولى لم تعد المسألة مسألة حماس ولا مطالبها، بل هي مسألة ومطالب وحقوق الفلسطينيين كلهم. لقد نجحت المقاومة إلى حد كبير في أن تعيد إنتاج مطالبها في سياق المطالب الفلسطينية الأعرض والأهم، والتي قام حولها إجماع فلسطيني من غزة إلى رام الله، هذه المرة، وبسبب خطل حسابات الحرب النازية ومناصريها ضد قطاع غزة، حدث عكس ما كان مخططا له: لم يكن هناك من خيار أمام السلطة الفلسطينية في رام الله والتي تآكل رأسمالها السياسي والوطني إلى ما هو قريب من نقطة الصفر، إلا الاقتراب من مطالب المقاومة وتبنيها، لأنها مطالب الشعب الفلسطيني المحاصر في غزة. وعبر هذا الاقتراب والتمثيل الفلسطيني الموحد في مفاوضات القاهرة أحبط هدف آخر للحرب وهو إعادة تقسيم الفلسطينيين وتخريب المصالحة الفلسطينية. لقد عززت الحرب تلك المصالحة، وربما سوف ترسخ الوحدة الفلسطينية، وبانتظار النتيجة النهائية للمفاوضات. وعلى رأس مطالب الفلسطينيين هناك مسألة فك الحصار، والتي يُطالب العالم بها، وحتى أوباما قد تحدث عنها. على ذلك فإن مسألة خنق المقاومة الفلسطينية سواء في الضفة الغربية أو في قطاع غزة لم تعد ممكنة من ناحية عملية إلا عبر طريقة واحدة وهي خنق القطاع كله. وخنق سكانه الـ 1.8 مليون فلسطيني هناك. سوف نتجاوز هنا عن مدى التواطؤ في مسألة المساهمة في خنق المقاومة ونضع ذلك جانبا، لكن نركز على أن هدف إسرائيل والمتواطئين معها في إنجاز هذا الخنق لم يعد ممكناً. الركن الثاني لمنظور "خنق المقاومة" يقوم على التالي: هذه المقاومة هي التي تسببت في إراقة دماء الفلسطينيين لأنها لم تكن رشيدة ولم تقدر عواقب الرد الإسرائيلي المتوحش. والمرحلة القادمة يجب أن تقوم على "تعقيم" قطاع غزة من المقاومة، كما تم "تعقيم" الضفة الغربية من المقاومة. وبعدها لن تُراق الدماء الفلسطينية. تتوازى مع ذلك إعادة إعمار القطاع بأموال خليجية لا تمر عبر حماس حتى يعيش الناس في حالة أخرى، بعيدا عن النار والمقاومة، ويستشعرون الفرق. هذا الحل السينمائي يفترض الغباء الفادح عن الآخرين وعند الفلسطينيين خصوصاً. ذلك أنه حل طبق في الضفة الغربية على مدار العقد الماضي ولم يستشعر الفلسطينيون الفرق، فالذي حصل هناك أن حققت إسرائيل كل أهدافها بالجملة أو بالتقسيط: أنهت المقاومة، وواصلت مهزلة المفاوضات حتى تقول للعالم بأن "عملية سلمية" لا تزال قائمة. وبالتوازي مع ذلك واصلت توسيع الاستيطان وتعميقه، وتهويد القدس وصهينتها... وفي الظل كان الفلسطينيون يزدادون فقرا وذلا هذه المرة. منظور "خنق المقاومة" و"إعمار غزة" في الوقت نفسه هو خدعة تافهة تم تجريبها من قبل، وعلى الوافدين حديثا إلى دفة القيادة السياسية في مصر أن يقرأوا ذلك مليا حتى لا يتورطوا فيما لن يجر إلا السوء على مصر.

641

| 11 أغسطس 2014

المبادرة المصرية ليست مقدسة ويجب تجاوزها

ثمة تشدد مصري غير مفهوم في مسألة "التمسك" بعدم تعديل المبادرة التي طرحتها الحكومة المصرية بهدف توقف "الأعمال العدائية بين الطرفين", إلى درجة أن أصبحت هذه المبادرة عائقا في طريق الوصول إلى اتفاق جديد يحقق المصالح الوطنية الفلسطينية. إسرائيل قبلت المبادرة على الفور، لأنها تستجيب لمتطلباتها جملة وتفصيلا, ورفضها الفلسطينيون وطالبوا بتعديلها حتى تستجيب ولو لبعض مطالبهم. المبادرة التي من المفترض أن تكون جسرا تفاوضيا يسهل عملية وقف إطلاق النار والوصول إلى صيغة مقبولة من "الطرفين" تحولت إلى عقبة كأداء يرفض المصريون تعديلها وكأنها أصبحت بقرة مقدسة. من غير المعقول ولا المفهوم أن يتحول أي وسيط بين الفلسطينيين وإسرائيل (ناهيك عن مصر العروبة التي نحب) إلى طرف مُنحاز تتلقف مبادرته إسرائيل ويرفضها الفلسطينيون, بل ويصر على فرضها على الفلسطينيين. مشكلة الفلسطينيين مع "المبادرات" المصرية أنها تتحول إلى قضية "كرامة" وكأن طرحها للنقاش والتعديل يمس بهيبة مصر. رأينا ذلك على مدار عدة سنوات خلال حكم الرئيس السابق حسني مبارك عندما كان عمر سليمان, مدير المخابرات المصرية آنذاك, يدير ملف المصالحة الفلسطينية. حينها, تم صوغ وتقديم ما سمي في تلك الأيام بـ"الورقة المصرية" التي كان من المفترض فيها أن تجسر الفجوة بين فتح وحماس وتساهم في رأب الصدع الفلسطيني. لم يتم قبول تلك الورقة آنذاك واعتبرت منحازة لفتح والسلطة الفلسطينية, ورفضت مصير إجراء أي تعديل عليها لفترة طويلة. خلال تلك الفترة تم إغلاق الباب أمام أي محاولات أخرى للتوسط بين الفلسطينيين, وتحول "الملف الفلسطيني" إلى شأن مُحتكر من قبل المخابرات المصرية لا يحق لأي دولة أخرى التدخل فيه. كان من الصعب في تلك الأثناء فهم المنطق المصري (والمفترض أن يكون وسيطاً لا طرفا) في رفض أي تعديل على "الورقة المصرية" وفي نفس الوقت حضر فتح أي مسار تصالحي آخر. واليوم يُعيد التاريخ نفسه، حيث تغلق المبادرة المصرية الطريق أمام أي مبادرات أخرى, وتحرج جميع الأطراف التي تريد أن تتدخل حتى لا يُقال عنها إنها تتجاوز "الدور المصري". لكن هذا الدور لم يعد وسيطا ولا نزيها ولا محايدا. الحياد نفسه من قبل مصر والحديث عن "أعمال عدائية متبادلة" مخجل ويحط من قدر مصر, التي يجب ألا تكون محايدة بين إسرائيل وفلسطين. لكن, حتى الحياد لم يتم التمسك به, وأصبحت المبادرة المصرية في خدمة المصالح الإسرائيلية ولهذا فإن إسرائيل تتمسك بها وبكل قوة. لكن لماذا تتمسك إسرائيل في المبادرة المصرية وترفض كل الأفكار الأخرى حتى تلك التي طرحها وزير الخارجية الأمريكي كيري؟ السبب في ذلك وببساطة أن المبادرة المصرية سوف تُعيد إنتاج الوضع الذي كان قائما قبل الحرب, وتبقيه على حاله, وهو الوضع الذي كان يوفر كل الراحة والتفوق العسكري والسياسي لإسرائيل. ومكونات ذلك الوضع كانت التالية: استمرار الحصار العنصري والإبادي مفروضا على 1.8 مليون فلسطيني في قطاع غزة, ومفاقمة ذلك الحصار، خاصة بعد تدمير الأنفاق التي كانت تصل القطاع بمصر وشكلت شريان الحياة الرئيسي للناس, واستمرار السيطرة الإسرائيلية الاحتلالية حول القطاع برا وبحرا وجواً، مع تمتع إسرائيل بحق توجيه ضربات عسكرية هو تكبيل أيدي الفلسطينيين وشلهم عن أي رد فعل وأي مقاومة، سواء أكانت مسلحة أم سلمية, وإجبارهم على قبول الصفعات الإسرائيلية على وجوههم من دون رد, وفي الوقت الذي تختاره إسرائيل. كل ذلك على خلفية انعدام الخيارات الأخرى أمام الفلسطينيين وفشل مسرحية مفاوضات السلام. المبادرة المصرية التي رفضها الفلسطينيون بشكلها القائم تريد إعادة الأمور إلى تلك النقطة, نقطة الوضع القائم الذي يخدم إسرائيل, ولأن ذلك هو جوهرها الذي احتضنته إسرائيل وتمسكت به ـ المبادرة المصرية التي تقول إن هدفها وقف سيل الدماء الفلسطينية لا تنطوي على تناقض كبير وحسب، لأنها تصر على إبقاء الحصار, بل أصبحت الآن سببا في استمرار إراقة تلك الدماء, لأنها تقف في وجه أي جهد إقليمي أو أممي آخر يريد أن يقوم بما عجزت مصر عن القيام به, أو لا تريد القيام به. أي أنها, ومرة أخرى, تتبنى الموقف الإسرائيلي والسياسة الإسرائيلية ما قبل الحرب والقائمة على ديمومة قتل الفلسطينيين ولكن ببطء وصمت وبعيدا عن أعين الرأي العالم العالمي. مشكلة إسرائيل ومن يؤيدها في هذه الحرب وما تولد عنها من صراع إرادات أن هذه الحرب الهمجية والإبادية التي يقودها الجيش الوالغ في دماء الأطفال والمدنيين أنها تكشف الغطاء عن ذلك الموت البطيء والصامت الذي استمر سنوات طويلة خلال مرحلة الحصار, وتحوله إلى موت سريع ومعلن وفج. والمبادرة المصرية لا تعطي الفلسطينيين إلا الاختيار بين نوعي الموت هذين: الموت البطيء الصامت, أو الموت السريع المدوي. باختصار, هذه المبادرة لا تستحق أن توصف بأنها مصرية, ويجب أن يخجل منها كل المصريين الأحرار.

883

| 04 أغسطس 2014

ضرورة الانتفاضة الثالثة لقلب الطاولة وتصحيح للمسار

ليس مصير قطاع غزة وحده بل مصير الحاضر الفلسطيني برمته قد يدخل منعرجا جديدا وتحريرا لو اندلعت انتفاضة فلسطينية جديدة في الضفة الغربية. ستقلب هذه الانتفاضة كل الحسابات الإسرائيلية رأسا على عقب وتعيد الأمور إلى المربع الأول والأصلي: احتلال عسكري كولونيالي وشعب مُحتل يثور ضد ذلك الاحتلال. وستربك مثل هذه الانتفاضة الإستراتيجية الإسرائيلية العسكرية الحالية ضد قطاع غزة القائمة على الاستفراد والاستفادة من "الهدوء" الذي أتاحته مرحلة أوسلو العقيمة في الضفة الغربية. صحيح أن انتفاض الضفة الغربية لم يعد سهلا بعد سنوات التنسيق الأمني الطويلة والعمل المتواصل على "تعقيم المقاومة" هناك, لكن ذلك لا يعني أن ذلك لم يعد خيارا. احتمالية هذا الخيار ما زالت قائمة لأن فتح وأجيالها الجديدة تحتاج إلى نفض ثوري حقيقي وتجديد حتى تلحق بالمقاومة الكبيرة في قطاع غزة, وحتى تُستعاد البوصلة الوطنية مرة ثانية. لماذا الحاجة إلى انتفاضة ثالثة؟ السبب الأول هو تصحيح المسار الوطني العام خاصة بعد فشل مفاوضات السلام وبعد أن تبدى أن إسرائيل ليست في وارد تقديم أي حل للفلسطينيين حتى لو لم يلب أيا من طموحاتهم. بعد أكثر من عشرين سنة مفاوضات, تعاقبت عليها حكومات إسرائيلية عديدة, وإدارات أمريكية متلاحقة, يجب أن يكون قد ثبت للقيادة الفلسطينية أن المفاوضات بشكلها الحالي, ومن دون أي ضغط دولي (وليس تركها للاحتكار الأمريكي) هي انتحار سياسي ووطني للفلسطينيين وتذرية لما تبقى من حقوقهم الوطنية. خلال عقدين من المفاوضات فرضت إسرائيل منطقها التفاوضي وهو التفاوض بعيدا عن الشرعية الدولية وقراراتها, وعدم قبول أي طرف ثالث نزيه أو شبه نزيه يشارك فيها. الموقف الأمريكي, والعربي من ورائه مع الأسف, يقوم على مقولة نقبل ما يتوصل إليه الطرفان, وكأن الطرفين متكافآن في القوة والندية. الانتفاضة الثالثة وعلى خلفية الصمود الكبير للمقاومة في قطاع غزة معناه التقاط فرصة غالية لتوحيد الموقف الفلسطيني على قاعدة جديدة وعملية وهي رفض الاحتلال ومقاومته بعد أن فشلت المفاوضات معه, وليس على قاعدة فرض المفاوضات واشتراطاتها الإسرائيلية على كل الأطراف الفلسطينية. عناد الإرادة الفلسطينية وأداء المقاومة في قطاع غزة والمفاجآت التي صدمت إسرائيل وجيشها دفعت بكل الفلسطينيين في الداخل والخارج إلى الالتفاف حولها, رغم التضحيات والثمن الباهظ الذي دفعه الفلسطينيون. وكل ذلك دفع بالرئيس الفلسطيني ومنظمة التحرير والشرائح الأعرض في القيادات الفلسطينية لأن تتبنى مطالبات المقاومة بكونها حقوقا للفلسطينيين في قطاع غزة, وعلى رأسها فك الحصار. الالتفاف التضامني والسياسي حول تلك المطالب يعني أنه في مقدور القيادة الفلسطينية في هذه اللحظة أن تفرض مساراً جديدا, وأن تتحدث لغة جديدة, وأن تعيد "فلسطنة" الأجندة وعدم تركها للتنافسات الإقليمية, بل إعادة توجيهها بالاتجاه الصحيح والوطني. السبب الثاني الذي يبرر الحاجة إلى انتفاضة ثالثة هو إعادة القضية الفلسطينية إلى الأجندة الإقليمية (المزدحمة بالصراعات والقضايا), وحتى إعادتها إلى رأس قائمة القلق والأجندة الإسرائيلية. في السنوات العجاف الأخيرة, وخاصة بعد الانقسام الفلسطيني, انخفض الاهتمام والقلق من القضية الفلسطينية من كونها القضية المركزية التي تواجه "الأجندة الإسرائيلية" إلى مجرد أن قضية مزايدات في سوق التنافس الحزبي بين التيارات والجماعات الإسرائيلية. تحولت الحالة الاستعمارية الأكبر والأهم في النص الثاني من القرن العشرين وفي القرن الواحد والعشرين إلى بند على برامج الأحزاب الإسرائيلية, كل منها يريد أن يثبت لناخبيه أنه أكثر تطرفا وتشددا كي يكسب أصواتا أكثر في أوساط "دولة الاستيطان" التي صارت تحكم وتتحكم في إسرائيل. الانتفاضة الثالثة تكسر هذه الرتابة التي ندفع ثمنها غاليا وتعيد القضية إلى كل الواجهات بما فيها الإسرائيلية. السبب الثالث, وربما يكون الأهم, الذي يفرض على الفلسطينيين الآن التحرك الانتفاضي في الضفة الغربية هو كسر "الأمر الواقع" الذي اشتغلت على تثبيته إسرائيل خلال سنوات ما بعد الانقسام الفلسطيني, وهو أمر واقع مدمر بشكل هائل للحقوق الفلسطينية, وللأرض الفلسطينية, وللفلسطينيين. هذا الأمر الواقع قام على ثلاثة مرتكزات: تعميق الانقسام, تعميق التنسيق الأمني, وتعميق الاستيطان. وقد اشتغلت الإستراتيجية الإسرائيلية على الحفاظ على هذه المرتكزات مع توفير غطاء سياسي ودبلوماسي يحميها وهو الاستمرار المتقطع لـ "عملية السلام". تحت ستار ومظلة جولات المفاوضات العقيمة تضاعف الاستيطان, عددا وحجماً, إلى ثلاثة أضعاف خلال منذ التوقيع على أوسلو. وخلالها أيضاً نجح التنسيق الأمني في تفريغ الضفة الغربية من المقاومة وأنتج أجيالا خاضعة لأجهزة الأمن الفلسطيني التي نجحت إسرائيل في تجيير كل أعمالها لتعزيز "الاستقرار والهدوء" الذي حيَد الضفة الغربية من معادلة الصراع والمقاومة مع إسرائيل. حتى المقاومة السلمية وغير العسكرية تم ضبط إيقاعها والسيطرة عليها حتى لا تتسع. بالتوازي مع ذلك استمر الانقسام الفلسطيني الذي خدم إسرائيل خدمة جليلة أيضاً, وعملت هي بدورها على ترسيخه واستثماره. والسعار الإسرائيلي الذي تبع المصالحة الفلسطينية كان سببه أن ركيزة أساسية من ركائز الأمر الواقع الذي ترتاح إسرائيل فوقه قد بدأت تهتز وفي طريقها إلى الانهيار. والحرب الوحشية والإبادية التي أطلقتها إسرائيل ضد قطاع غزة هدفها الأساسي العودة بالأمور إلى "الأمر الواقع". كسر الأمر الواقع معناه إجبار إسرائيل وداعميها الغربيين والعالم على مواجهة القضية الفلسطينية مرة أخرى, ودفعهم, وخاصة إسرائيل, لمواجهة استحقاقات تفرضها حقوق الفلسطينيين في التحرر الوطني والاستقلال, أو تحويل الأرض كلها إلى دولة واحدة لمواطنيها. يجب ألا يستمر الأمر الواقع الذي جوهره ابارتيهد عنصري يكون فيه العنصر والجنس اليهودي متفوقا على الفلسطينيين الذين يعتبرون أفرادا من الدرجة العاشرة وغير مكتملي الإنسانية. عبر استمرار الأمر الواقع فإن إسرائيل تتملص من المواجهة المباشرة مع السؤال عن مصير الفلسطينيين: هل هم شعب تحت الاحتلال, هل هم مواطنون من درجات دنيا, أم ماذا؟

793

| 28 يوليو 2014

التصهين العربي وتعزيز «الأمر الواقع» الاستعماري

بعد الحرب العدوانية الإسرائيلية على قطاع غزة سنة 2009. ثم بعد الحرب الثانية عام 2012. كان التزام حماس تحديدا وفصائل المقاومة عموما بالاتفاقات التي كانت تشرف عليها مصر مثار نقد كثير ومماحكات من خصومها. كانت المماحكة الأكبر تقول إن حماس تقوم بـ "قمع" المقاومة وحظر إطلاق الصواريخ على إسرائيل وهو ما كانت تقوم به السلطة الفلسطينية عندما كانت تسيطر على قطاع غزة. وما تقوم به في الضفة الغربية الآن. عندما ترد المقاومة على العنجهية الإسرائيلية التي تريد اخضاع الفلسطينيين وإذلالهم سياسيا وعسكريا وأخلاقيا واقتصاديا وثقافيا فإن تلك المقاومة تصبح صبيانية ولا تقدر موازين القوى. وعندما تلتزم بالاتفاقات على إجحافها ورغم عدم وجود غطاء عربي لها فإنها ليست سوى نسخة من السلطة الفلسطينية. يبقى وكأن الخيار الوحيد الذي يقبله تيار التصهين العربي الراهن الذي يكاد يقف في الصف الإسرائيلي لجهة صب جام غضبه على مقاومي غزة وشعبها هو قبول الصفعات الإسرائيلية واحدة تلو الاخرى. وإدارة الخد الفلسطيني واستقبالها وتقديم الشكر للإجرام الإسرائيلي. والمعنى والترجمة السياسية على الأرض لهذا "الخيار" المطلوب هو قبول وتعزيز "الأمر الواقع" الذي خلقته إسرائيل على الأرض: احتلال من طراز "ديلوكس" تسيطر فيه على الأرض. واتحاد أوروبي يمول الاحتلال. في ما تكون قضايا السكان مسؤولية سلطة مطلوب منها قبل اي شيء آخر ان تحمي امن إسرائيل. ونقطة آخر السطر. هذا ما يريده عرب التصهين ممن صرنا نخجل كثيرا من كتاباتهم عندما نقارنها بمواقف وكتابات غربية وامريكية ترى الامور كما هي حقيقة. ولا تخلط بين الجلاد المستعمر والغاصب ومالك الآلة العسكرية الجبروتية والشعب الذي يقع تحت الاحتلال ومن حقه ان يدافع عن نفسه. وان يرفض الاحتلال والإذلال بكل الطرق. حملة المؤازرة العربية المبطنة والمخجلة للعدوان الإسرائيلي الجديد لا تقول للفلسطينين ما هو البديل. يدير العرب ظهورهم للقضية الفلسطينية ويتخلون عن أبسط أدوارهم. حتى في تنظيم حملة دبلوماسية تجمع الأصوات في الأمم المتحدة كي لا تفوز إسرائيل بنائب الرئيس في اللجنة الخاصة بتصفية الاستعمار. وهي الدولة الاستعمارية الأبرز في عالم اليوم. وبعد ذلك يشبعون الفلسطينيين نقد وشتماً. ما هو البديل بعد أن استنزف الفلسطينيون أنفسهم ورأسمالهم النضالي والحقوقي في عملية سلام بائسة على مدار أكثر من عشرين سنة لم تؤد إلا إلى تكريس الاحتلال ومضاعفة الاستيطان وتهويد القدس أكثر وأكثر وخنق الفلسطينيين في كانتونات تمارس عليها كل أنواع العنصرية. منذ التوقيع على اتفاق أوسلو سنة 1993 وحتى الآن تضاعف الاستيطان وعدد المستوطنين في الضفة الغربية والقدس إلى ثلاثة أضعاف. تآكل الوجود الفلسطيني والعربي في القدس. وتلاعبت إسرائيل بكل فكرة المفاوضات عبر توليد شروط تعجيزية لم يستطع أكثر القادة الفلسطينيين اعتدالا أن يقبلها. الشيء الوحيد الذي حرصت عليه إسرائيل وأنجحته مع الفلسطينيين هو التنسيق الأمني. وهو الاسم المهذب لوظيفة القيام بالمهمات القذرة للاحتلال وهي قمع الفلسطينيين وبأيديهم لأية مقاومة يمكن أن يبديها أي طرف منهم تجاه إسرائيل. في أكثر من محفل سياسي وأمني يتبجح قادة إسرائيليون بأنه بعد سنوات من التنسيق الأمني الفعال مع أجهزة الأمن الفلسطينية التي لا تتحرك لم يتبق هناك أي مطلوب أمني على القوائم الإسرائيلية بعد أن كانت تلك القوائم تضم المئات ان لم يكن الألوف. خضع الفلسطينيون وسلطتهم للشروط والمطالب الإسرائيلية وطاردوا كل من تخول له نفسه التفكير بالمقاومة. ومع ذلك لم ترض إسرائيل. انقسموا وانشقوا على أنفسهم بسبب الإملاءات الإسرائيلية. وتحقق حلم إسرائيلي كبير بفصل قطاع غزة عن الضفة الغربية. ومع ذلك لم ترض إسرائيل. قبلت القيادات الفلسطينية المفاوضة. ضمنيا وعملياً. شطب حق العودة للاجئين. ومع ذلك لم ترض إسرائيل. قبل الفلسطينيون. ضمنيا وعملياً. بأي شكل من أشكال الدولة يكون منزوع السلاح وفاقدا لجزء كبير من السيادة. ومع ذلك لم ترض إسرائيل. وفي كل تلك المسيرة المريرة كان الظهر الفلسطيني مكشوفاً. ولم يخرج الموقف العربي من دائرة التصريحات الجوفاء التي تعودت عليها إسرائيل. الآن انتقلنا إلى مرحلة جديدة صارت حتى تلك التصريحات الجوفاء شحيحة وخجولة. بل موجهة الى الفلسطينيين ومقاومتهم. وصارت المقالات النارية التي يكتبها عرب ضد المقاومة والفلسطينيين تعج بها المواقع الإلكترونية لوزارة الخارجية الإسرائيلية. وبقية مواقع الدعاية الصهيونية. الخيط المشترك لجحافل الناقدين هو القول بأن حماس والمقاومة هي التي استفزت إسرائيل للقيام بحربها الحالية. وهو ترداد للدعاية الإسرائيلية وبعيد عن الواقع. إسرائيل استفزتها المصالحة الإسرائيلية وتشكيل حكومة فلسطينية توافقية. وهي هددت الرئيس عباس بأنه سوف يدفع ثمنا باهظا بسببها. وبدأت بسلسلة سياسات ضد السلطة. واستفزت إسرائيل اكثر بسبب الاعتراف الضمني من قبل دول العالم بما فيها دول الاتحاد الأوروبي وحتى الولايات المتحدة بتلك الحكومة. لا يعني ذلك ان الحكومة التوافقية كانت ستنجز الحقوق الفلسطينية وتقوم بالمعجزات. لكنها كانت بداية لإنهاء الانقسام الذي اعتاشت عليه إسرائيل في السنوات السبع الماضية. ارتاحت إسرائيل على وضعية التشرذم الفلسطيني الذي يعزز "الأمر الواقع" التوسعي والاستيطاني. وكان سياسيوها يرددون أنهم لا يستطيعون الوصول إلى سلام مع السلطة في الضفة الغربية لأنها لا تسيطر على قطاع غزة. فلما أرادت هذه السلطة المصالحة مع قطاع غزة. جن جنون إسرائيل. الانقسام الفلسطيني هو حجز الزاوية في إستراتيجية الحفاظ على "الأمر الواقع". في ما كسر هذا الأمر الواقع وتحطيمه هو ما يجب أن يكون حجز الزاوية في أي إستراتيجية فلسطينية. في ذروة السعار الإسرائيلي على حكومة التوافق الفلسطيني وقع حادث اختطاف المستوطنين الثلاثة ثم قتلهم. وهو ما استثمرته إسرائيل إلى أقصى ما تستطيع. ومن تلك النقطة اشتغلت الإستراتيجية الإسرائيلية لإعادة الانقسام بالقوة ان لزم الأمر. وردد نتنياهو مرارا وتكرارا أنه لن يقبل من محمود عباس. عقب عملية الاختطاف. أي اعتذار سوى إلغاء المصالحة مع حماس (وهي التي لم تعلن مسؤوليتها عن الاختطاف. وليس هناك من دليل حتى الآن بأنها من قامت به). لم تنتظر إسرائيل أحدا إذ شنت عمليات قصف جوي على قطاع غزة واغتالت قيادات وقتلت مدنيين. ووضعت حماس وكل الفصائل في هناك في الموقف التالي: إما أن تديروا الخد للصفعات القادمة وتتقبلوها بكل رضا وخنوع. وتقروا بـ "الأمر الواقع" وتخضعوا له. وإما أن تردوا فتتحملوا مسؤولية ردنا الواسع بعد ذلك. في كلا الحالتين الصفعات قادمة. وإسرائيل. لهؤلاء الشامتين المقاومة لأنها وفرت مسوغا للحرب. سوف تجد مسوغات يومية لشن أي حرب. حتى لو كانت تلك المسوغات في سجلات المواليد الجدد في غزة.

883

| 21 يوليو 2014

"الجدار الحديد" والإرادة الفلسطينية مرة أخرى!

"الفلسطينيون متخلفون عنا ثقافيا بـ500 سنة، وروحيا لا يمتلكون الصلابة ولا الصمود الذي نملكه... (ومع ذلك) فإن كل شعب أصيل سوف يقاوم أي مستوطنين أغراب طالما يرى فسحة أمل في إنهاء الخطر القادم مع الاستيطان الأجنبي، وهذا ما يفعله عرب فلسطين وما سوف يواصلون فعله طالما بقي لهم أي بصيص أمل في الحيلولة دون تحويل "فلسطين" إلى "أرض إسرائيل". هذا الخطاب الخليط من العنصرية والتعالي والإدراك أيضا لما سيكون عليه موقف الفلسطينيين من المشروع الصهيوني هو بعض مما كان قد قاله فلاديمير جابوتنسكي أحد غلاة المنظرين الصهاينة، ومؤسس الحركة التصحيحية اليهودية، قبل قيام دولة إسرائيل في مقال نشره في نوفمبر 1923، جابوتنسكي كان يجادل ضد بعض الأصوات الصهيونية "المعتدلة" التي كانت ترى ضرورة الوصول إلى اتفاق مع الفلسطينيين حول الهجرة اليهودية وحول الوجود اليهودي المتعاظم في فلسطين، جابوتنسكي وصف تلك الأصوات بأنها ساذجة وأن عليها أن تغادر الفكرة الصهيونية إن لم تتحمل رؤية الصهيونية وهي تتحقق على الأرض بالقوة والجبروت ورغم أنف سكان البلاد المحليين، وكان يرى أن أرض إسرائيل تمتد على ضفتي نهر الأردن ويكرر "هذه الضفة لنا، وتلك الضفة لنا أيضا"، وقد رفض بشدة توصية لجنة بيل بالتقسيم سنة 1947، وعلى أفكار جابوتنسكي تربى والد بنيامين نتنياهو الذي عمل سكرتيرا خاصا له، ومن مدرسة جابوتنسكي تخرج عتاة القادة الإسرائيليين من اليمين إلى اليسار، من مناحيم بيجن وشارون، إلى إسحق رابين وإيهود باراك، في نفس المقال المذكور والشهير تابع المنظر الصهيوني توضيح أفكاره قائلاً: "لا نستطيع أن نعد عرب إسرائيل أو في البلدان العربية بأي شيء، ذلك أن موافقتهم الطوعية (على المشروع الصهيوني) غير واردة، لذلك فعلى الذين يحملون فكرة أن اتفاقا مع السكان الأصليين هو شرط جوهري للصهيونية أن يقولوا "لا" ثم يتركوا الصهيونية، الاستعمار الصهيوني، حتى في أكثر صوره محدودية، يجب إما أن ينتهي وإما أن يتواصل على الضد من رغبة السكان المحليين، ولهذا فليس ثمة طريقة لهذا الاستعمار كي يتواصل ويتحقق إلا بالقوة – بجدار حديدي لا يتمكن السكان المحليون من اختراقه، وهذه سياستنا تجاه العرب أيضا... بعضنا يفضل هذا أن يقوم هذا الجدار بحراب يهودية، وبعضنا الآخر يقترح حربا بريطانية، وبعض ثالث يقترح أن يكون عبر حراب اتفاق مع بغداد... لكن المهم أننا جمعيا نريد جدارا حديدياً". "الرؤية" التي كان يقترحها جابوتنسكي على الحركة الصهيونية أصبحت في نهاية المطاف العمود الفقري للفكر والإستراتيجية الصهيونية الإسرائيلية على مدار عقود طويلة، وكما يثبت المؤرخ آفي شلايم في كتابه الشهير بعنوان "الجدار الحديدي"، وهي تتلخص في ضرورة إغلاق باب الأمل نهائيا أمام الفلسطينيين وتحطيم إرادتهم كلياً، بحيث لا يجدون بديلا عن الاستسلام والرضوخ لواقع "الجدار الحديدي" الصلب الذي لا يستطيعون هدمه، آنذاك، أي عندما يتأكد للفلسطينيين أن لا طريق أمامهم سوى الاستسلام يمكن الوصول إلى توقيع اتفاق معهم، يكون عمليا صك استسلام وبحسب الشروط والإملاءات الصهيونية، لذلك فإن أي شكل من أشكال مقاومة المشروع الصهيوني ورفضه والوقوف في وجهه يجب أن تضرب كل قشوة ممكنة ويتم تسويتها بالأرض، لأن ذلك هو الطريق الوحيد الذي يمهد لظافرية فكرة وإستراتيجية "الجدار الحديد". تمكننا قراءة كل تاريخ إسرائيل العدواني والتوسعي من زاوية نظرية "الجدار الحديد" الذي يريد أن يدمي رؤوس الفلسطينيين والعرب وهم يحاولون تدميره، ولنظرية "الجدار الحديد" آليات أخرى تشتغل على مستويات متعددة متعلقة بالداخل الإسرائيلي ومكوناته الصهيونية، وأهمها "إبقاء النيران متقدة" كما كان يقول جابوتنسكي، ومعنى ذلك الإبقاء الدائم على حالة التوتر والحرب والتيقظ وتصوير الحياة اليومية الصهيونية بكونها تحفز للحرب والدفاع ضد "الأغيار" الذين يحتشدون وراء "الجدار الحديد" ويريدون أن يفترسوا إسرائيل واليهود، ومن دون هذه السيكولوجيا التخويفية والاستعدائية فإن مخاطر الترهل والتساهل قد تبدأ في السريان في "الصف الصهيوني"، ولهذا وبسبب هذا التخوف فإن جانبا لا يُستهان به من الفكر الصهيوني اللاحق، أي بعد بأسس الدولة العبرية، وحتى الآن ورغم قوتها وجبروتها، ما زال يقف جوهريا وفلسفيا ضد فكرة "السلام مع العرب والفلسطينيين"، فمثل هذا السلام حتى لو كان بحسب الشروط الصهيونية وبحسب طموحات ورؤية جابوتنسكي سوف ينهي سمات التيقظ والتحفز للحرب والجاهزية ضد الأغيار، ويفتح الأبواب للدعة والترهل والاسترخاء، وبحسب هذه النظرة فإن معنى بقاء إسرائيل مرتبط عضويا بفكرة إبقاء الخوف من الخطر الوجودي عليها، الحقيقي أو المتخيل، متقدة نصب أعين كل اليهود. حرب نتنياهو على غزة هذه الأيام هي الإعادة الدورية لإنتاج "الجدار الحديدي" الذي أسسه جابوتنسكي، رسالتها هي ذات الرسالة القديمة، لكن التي أصابها التوتر والهشاشة على مدار العقود، على الفلسطينيين أن يرضخوا وحسب، وليس أمامهم أي خيار سوى القبول بالاستسلام، التوتر الذي صارت تميز به رسالة وإستراتيجية "الجدار الحديد" هي أن إرادة الفلسطينيين ومنذ أن بشر جابوتنسكي برؤيته سنة 1923 لم تهن ولم تنكسر رغم كل الهزائم، ورغم الخذلان العربي، ورغم التضحيات، ورغم ما قد يتبدى من انسداد في الأفق، لم تستطع إسرائيل بكل جبروتها العاتي، وبكل الدعم الغربي والأمريكي الذي تعتاش عليه، ورغم اتفاقات السلام مع دول عربية مجاورة التي حيدت عبرها الجيوش والمواقف السياسية، أن تكسر الإرادة الكلية للفلسطينيين وأن توقف مقاومتهم، صحيح أن الأكلاف الفلسطينية الحالية وككل مرة تكون باهظة، لأن البطش الإسرائيلي وآلة الحرب العمياء النازية لا ترحم وتريد أن تذل الفلسطينيين وتسكتهم، لكن في الصورة التاريخية والأعم فإن جدار إسرائيل الحديد هو الذي يتهشم، وكما أن خيارات الفلسطينيين محدودة بعد أن أرادت إسرائيل منهم أن يوافقوا على توسيع الاستيطان ولا يعترضوا، وعلى تهويد القدس ولا يعترضوا، وعلى التنسيق الأمني ولا يعترضوا، فإن خيارات إسرائيل هي الأخرى محدودة، عوض أن يترسخ الجدار الحديد بعد كل جولة حربية تنخرط فيها إسرائيل وقادتها المهووسون بتتبع أبيهم الروحي الموغل في التطرف والعنصرية، فإن ذلك الجدار يتهشم أكثر.

627

| 14 يوليو 2014

الاختزال والتنميط تمهيدًا للإبادة والإقصاء

يتخذ اختزال الآخر وتنميطه في صور إجمالية, وفي أغلب الحالات, سمة تهكمية وربما تحقيرية.. ولئن كانت آليات الاختزال والتنميط وما تنطوي عليه من تحقير مولدة لمشاعر سلبية وتوترات واحتقانات في سياقات العيش العادي للمجتمعات, فإنها تتحول إلى سمة تدميرية مهولة في السياقات الصراعية.. ينتقل “التنميط” هنا من لعب دوره الساخر والمهين لــ “الآخر” إلى لعب دور مركزي في الصراع مع هذا “الآخر” وفي تهيئة أرضية الاحتراب معه, وتوفير المبررات التفوقية عليه, وتخفيض مستوى إنسانيته تحضيرا لتهميشه وقمعه وربما إبادته. المثال الأبرز والأكثر فداحة في التاريخ الحديث يتجسد في التنميط الأوروبي ثم النازي لليهود.. فهذا التنميط لم يستثمر وحسب مناخات العداء للسامية في ألمانيا وأوروبا التي ظلت تنظر لليهود باعتبارهم مجموعة دينية-إثنية محتقرة, لكنه انحط بذلك التنميط إلى درجة نزع الإنسانية عن اليهود بالمطلق واعتبارهم إن كأفراد أم مجموعة أقل مرتبة من مرتبة البشر الآخرين.. الحقبة النازية عمقت “التنميط” الأوروبي لليهود في المخيال الجمعي الألماني وانتقلت به إلى مرحلة متقدمة وهي تجذير اللامبالاة الجماعية بالمصير الكارثي الذي كان ينتظر اليهود في الهولوكست.. ذلك أنه عندما أطلق النازيون برنامج الإبادة والمحرقة ضد اليهود كانوا يقومون بذلك ضد مجموعة ليست محتقرة وفقط, بحسب النظرة شبه العامة عن اليهود في الوسط الألماني, بل ضد مجموعة لا تنتمي للجنس البشري المُكتمل, وهو ما جذره الاختزال والتنميط المتواصل والمكثف.. وهنا بالضبط تكمن النتيجة الكارثية والمدمرة لآليات التنميط في السياقات الصراعية حيث يتم “شيطنة” و"حيونة” “الآخر” ونزع سمة الانتماء الإنساني عنه بما يسهل من عملية قمعه وإبادته وتحييد الجمهور العريض الذي يعترض على ذات عملية القمع والإبادة لو تمت بحق مجموعة لم تتعرض لتنميط مماثل. ويقدم لنا تتبع أثر آليات الاختزال والتنميط و"الشيطنة" في الصراع الدولي على فلسطين وضد الفلسطينيين أصحاب الأرض الأصليين حالة "نموذجية" في كارثيتها وفي تحويرها للحقائق والوقائع.يعود تاريخ التنميط السلبي للفلسطينيين إلى حقبة ما قبل قيام إسرائيل، وقد أسس جزء كبير منه في العصر الحديث انطلاقا من كتابات الرحالة الغربيين, وخاصة الأمريكيين, إلى الأراضي المقدسة ووصفهم لأهلها والسكان فيها بكونهم, بحسب الرحالة العنصري مارك توين, “قذرون بالطبيعة, أو بالفطرة, أو بالتعلم”! ولم يستحق أولئك السكان في حقب لاحقة, تحت حكم الاستعمار البريطاني, أن يعاملوا بنفس الطريقة ”المدنية” التي عُومل بها اليهود “المتحضرون” المهاجرون القادمون من أوروبا “المتحضرة”. فمثلا, لم تحتو مناهج التعليم البريطانية في المدارس الفلسطينية آنذاك والمُسيرة من قبل الإدارة البريطانية على مساق تعليم الموسيقى وهو المساق التي تضمنه نفس المنهج المُطبق في المستعمرات اليهودية.. ليس هناك من تفسير لهذا سوى اعتقاد المسؤولين البريطانيين أن الفلسطينيين أدنى مستوى من اليهود, وأنهم غير جديرين بتعلم الموسيقى التي ترتبط ذهنيا وتصوريا بالرقي والمدنية..ورث المشروع الصهيوني وخطاباته العنصرية والاحتقارية ضد عرب فلسطين التنميط الذي كان قد أسسه ورسخه البريطانيون, وأضاف عليه أبعادا جديدة. فاليهود الهاربون من عنصرية أوروبا والمعبؤون بمشاعر الاضطهاد الجمعي والضحية وجدوا في الفلسطينيين عدوا سهلا, أقرب إلى الفريسة, لتفريغ نزعات الانتقام فيه, ولإثبات الذات والثورة على سمة الضعف والاستضعاف التاريخي التي لاحقت اليهود في التاريخ والعالم بحسب السردية المركزية للخطاب الصهيوني.. بعد جريمة الهولوكوست ثم قيام إسرائيل أصبح الفلسطينيون هم المحطة الأولى والأقرب لتطبيق شعار “لن يحدث مرة ثانية”, في إشارة مباشرة إلى الهولوكست, لكن في تضمين مرمز وعميق يحيل إلى التصميم المطلق والمطبق على الانتفاض على حقبة الاستضعاف،. وضمن سياق هذا الشعور الانتفاضي والذي تهيأت له ظافرية نادرة بسبب قيام الدولة فإن مقاومة الفلسطينيين لمشروع اغتصاب أرضهم وتهجيرهم منها مُوضعت على الفور كأول اختبار لزمن جديد, زمن القطع مع حقب الاستضعاف.. واحتل الفلسطينيون فجأة وعلى غير رغبة منهم موقع الطرف الذي يريد اليهود الذين تجمعوا وصارت لهم دولة أن يفرغوا ثأرهم التاريخي فيه, انتقاما من الماضي, وإثباتا لذات جديدة. ومن دون أي يكون لهم أي ذنب في تطور التاريخ المأساوي لليهود وجد الفلسطينيون أنفسهم يدفعون فاتورة كل الاضطهادات التي تعرض لها اليهود في تواريخهم, وخاصة في أوروبا،. وهكذا أضيف تنميط تدميري جديد للفلسطينيين بكونهم خلاصة تجمع العداوات التاريخية لليهود بدليل أنهم لا يقبلون باليهود ولا بدولتهم ويطلقون مقاومة ضدهم.. وهذا بالطبع يخرج الفلسطينيين من مربع النضال القومي والوطني ضد محتل أجنبي, إلى مربع العداوة المتأصلة واللا سامية لليهود.. وقد تمت مؤسسة أخرى لهذا التنميط وربطه بالعدو الأكثر إرهابا في التاريخ اليهودي الحديث وهو النازية, وأصبحت الزيارة الساذجة للحاج أمين الحسيني إلى ألمانيا ولقائه بهتلر إبان الحرب العالمية الثانية, نكاية في بريطانيا وأملا بدعم ألمانيا, العمود الفقري للتاريخ الفلسطيني والدليل الدامغ ليس فقط على “لا سامية” الفلسطينيين والعرب بل وعلى امتداد مشروع إبادة اليهود من ألمانيا إلى فلسطين وتكامل الاثنين.. والمثير حقا أن الدعاية الصهيونية لم تضخم فحسب تلك الزيارة إلى مستوى تكريس “علاقة إستراتيجية” بين الوطنية الفلسطينية والنازية بل “اكتشفت” أن فكرة إبادة اليهود إنما هي أصلا فلسطينية, وقد تمكن أمين الحسيني من إقناع هتلر بتنفيذها! فمثلا يقول أحد مواقع الدعاية الصهيونية باللغة العربية (وهو يذكر بآلة الدعاية النازية التي قادها غوبلز رفيق هتلر اللصيق) ما يلي: “ … دغدغت برلين آنذاك حلم الحسيني في القضاء على اليهود, فالتقى زعيمها النازي أودلف هتلر في تشرين الثاني, نوفمبر, من العام ١٩٤١, مطالبا إياه بإبادة جميع اليهود في أرض إسرائيل والشرق الأوسط, ناجحا في انتزاع التزام من المجرم هتلر يتخلص: “هدف ألمانيا إبادة العرق اليهودي المقيم في المناطق العربية برعاية بريطانية”. والغرابة هنا تكمن في مدى وقاحة هذه الدعاية التي تضرب بعرض الحائط كل ما له علاقة بالتاريخ ورغبة هتلر وتشجيعه اليهود على الهجرة إلى فلسطين والتخلص منهم. بيد أن هذه الدعاية الرخيصة كانت وما زالت فعالة حقا ليس فقط إزاء قضية الحسيني وعلاقته بالنازية بل في تخليق أنماط وصور اختزالية للفلسطينيين تسهل على الرأي العام العالمي قبول ممارسات إسرائيل. ويمكن هنا رؤية الإستراتيجية الصهيونية والإسرائيلية ومنذ اليوم الأول لقيام إسرائيل تنطلق على مسارين: الأول الانخراط في معركة مستميتة على أرض الواقع لتغيير جغرافيا فلسطين, احتلاليا وعسكريا, من خلال خلق وقائع إستراتيجية وسياسية على الأرض, والثاني الانخراط في معركة مستميتة على مستوى الرطانة والخطاب تقوم على تنميط الفلسطينيين والعرب وتصويرهم بأنهم “النازيون الجدد” الذين يريدون إبادة إسرائيل وبالتالي لا ضير من قمعهم وإبادتهم “وقائيا”, وقد تم تفصيل ذلك في مقالة سابقة هنا عن اتهام الفلسطينيين والحاج أمين الحسيني بأنهم كانوا وراء إقناع هتلر بفكرة إبادة اليهود!

1653

| 07 يوليو 2014

الفلسطينيون اقترحوا على هتلر الهولوكوست!

لا تفتأ الدعاية الصهيونية إلا وتعيد نبش الملف العزيز عليها وهو الزعم بـ "تحالف الحاج أمين الحسيني مع هتلر". وفي كل مرة يُفتح فيها هذا الملف يتم إضافة أكذوبة جديدة أو مبالغات نوعية إلى أن تضخم الملف كله. مؤخراً ووصولا إلى إحدى محطات التضخيم المتواصل تدهشنا تلك الدعاية الوقحة بتصوير أمين الحسيني على أنه صاحب فكرة إبادة اليهود وهو من اقترحها على هتلر. هتلر الذي لم يكن يسمع من أحد سوى عقله المريض. والعنصري تجاه العرب والمسلمين كما كان عنصريا ضد اليهود. يصبح طفلا طيعا بين يدي المفتي الحسيني ويستمع لاقتراحاته واستراتيجياته. المفتي الذي أقرب إلى السذاجة عندما تعلق الأمر بالصراعات الدولية في تلك الحقبة يصبح المنظر الكبير الذي يصغي إليه هتلر وينفذ توصياته بحرفيتها. وهتلر الذي استبطن فكرة الإبادة منذ شبابه وخطط لها سنوات طويلة قبل لقائه اليتيم بالحسيني وقع فجأة تحت سحر تأثير المفتي ونفذ ما أشار به عليه. إذا كان تأثير الحسيني على هتلر نافذا وكبيرا إلى الدرجة التي تروجها الدعاية الصهيونية. فمعنى ذلك أنه كان في مقدور الحسيني تغيير مسار التاريخ الأوروبي كله لو أنه مثلا أشار. أو لنقل أصدر الأوامر. على هتلر بعدم غزو غرب أوروبا وصولا إلى فرنسا. أو بالأحرى لماذا لم يأمر المفتي هتلر أو يقنعه بإعلان الحرب فورا ومنذ البداية على بريطانيا مباشرة عوض التورط في حروب مع بلدان أخرى استنزفته. سيما وبريطانيا هي التي تحتل بلاد المفتي وتسهل على الحركة الصهيونية مخططها في فلسطين؟ الحقيقة التاريخية هنا والمتعلقة بزيارة المفتي إلى ألمانيا لا تستحق سوى هامش سريع على متن الصراع العربي الصهيوني. هتلر الذي كان يضع العرب والمسلمين والأفارقة والغجر واليهود وكثير من غير العنصر الآري في نفس المرتبة الدنيا من الأجناس المنحطة لن يستمع لواحد من هؤلاء "المتخلفين" وينفذ "استشاراته". كان هتلر يريد توسيع دائرة العداوة ضد دول الحلفاء. وهو ما كان يريده أيضاً المفتي الحسيني الذي كان يبحث عن أنصار للقضية الفلسطينية ضد الغطرسة البريطانية. لكن من ناحية عملية لم يرتق لقاء المفتي بهتلر ولا مساعديه إلى مستوى لقاء المصالح بالمعنى الحقيقي. ذلك أنه لم يكن لدى المفتي ما يقدمه لدولة كبرى بحجم ألمانيا تلتهم أوروبا تباعاً وتنوي السيطرة على العالم بأسره. فرضية "تطبيق هتلر لاستشارات المفتي" سواء في مسألة الإبادة أو غيرها فيها قدر مضحك من السذاجة وافتراض الغباء بل والاستهبال أيضا. فحتى لو فرضنا أن المفتي أيد إبادة اليهود ودعا هتلر إليها فإن هذا لا يؤثر في الرواية التاريخية شيئاً. لأن آراء المفتي و"استشاراته" المفترضة ما كانت لتترك أدنى أثر عند هتلر لو لم يكن قد عزم النية منذ سنوات وأسس لمشروع الإبادة الوحشية تلك. لكن السؤال الأهم لماذا هذا التركيز الهائل على هذه التفصيلة الهامشية في صراع الصهيونية ضد الفلسطينيين والعرب. وكيف نفهم خلفياته وأين نموضعه؟تقع مسألة التحالف المزعوم بين الحسيني وهتلر في سياق تخليق آليات التنميط السلبي عن العرب والفلسطينيين خلال مواجهتهم المشروع الصهيوني وإقامة دولة إسرائيل، لما يقدمه ذلك التنميط من توفير للاحتضان الدولي والغربي خصوصا لإسرائيل، والمتواصل حتى هذه اللحظة. يعود ذلك التنميط إلى حقبة ما قبل قيام إسرائيل وتأسس جزء كبير منه في العصر الحديث انطلاقاً من كتابات الرحالة الغربيين، بخاصة الأمريكيين، إلى الأراضي المقدسة ووصفهم أهلها والسكان فيها بكونهم، وفق الرحالة العنصري مارك توين، «قذرين بالطبيعة، أو بالفطرة، أو بالتعلم»! لم يستحق أولئك السكان في حقب لاحقة، تحت حكم الاستعمار البريطاني، أن يعاملوا بالطريقة نفسها و»المدنية» التي عومل بها اليهود «المتحضرون» المهاجرون المقبلون من أوروبا «المتحضرة». فمثلاً، لم تحتوِ مناهج التعليم البريطانية في المدارس الفلسطينية آنذاك والمُسيرة من جانب الإدارة البريطانية على مساق تعليم الموسيقى وهو المساق الذي تضمنه المنهج المُطبق نفسه في المستعمرات اليهودية. ليس هناك من تفسير لهذا سوى اعتقاد المسؤولين البريطانيين أن الفلسطينيين أدنى مستوى من اليهود، وأنهم غير جديرين بتعلم الموسيقى وهي التي ترتبط ذهنياً وتصورياً بالرقي والمدنية. ورث المشروع الصهيوني وخطاباته العنصرية والاحتقارية ضد عرب فلسطين التنميط الذي كان قد أسسه البريطانيون ورسخوه، وأضافوا إليه أبعاداً جديدة. فاليهود الهاربون من عنصرية أوروبا والمعبئين بمشاعر الاضطهاد الجمعي والضحية وجدوا في الفلسطينيين عدواً سهلاً، أقرب إلى الفريسة، لتفريغ نزعات الانتقام فيه، ولإثبات الذات والثورة على سمة الضعف والاستضعاف التاريخي التي لاحقت اليهود في التاريخ والعالم وفق السردية المركزية للخطاب الصهيوني. بعد جريمة «الهولوكوست»، ثم قيام إسرائيل أصبح الفلسطينيون هم المحطة الأولى والأقرب لتطبيق شعار «لن يحدث مرة ثانية»، في إشارة مباشرة إلى «الهولوكوست»، لكن في تضمين مرمز وعميق يحيل إلى التصميم المطلق والمطبق على الانتفاض على حقبة الاستضعاف. وضمن سياق هذا الشعور الانتفاضي والذي تهيأت له ظافرية نادرة بسبب قيام الدولة، فإن مقاومة الفلسطينيين مشروع اغتصاب أرضهم وتهجيرهم منها، تم اعتبارها وعلى الفور كأول اختبار لزمن جديد، زمن القطع مع حقب الاستضعاف. واحتل الفلسطينيون فجأة وعلى غير رغبة منهم موقع الطرف الذي يريد اليهود الذين تجمعوا وصارت لهم دولة أن يفرغوا ثأرهم التاريخي فيه، انتقاماً من الماضي، وإثباتاً لذات جديدة. ومن دون أن يكون لهم أي ذنب في تطور التاريخ المأسوي لليهود، وجد الفلسطينيون أنفسهم يدفعون فاتورة كل الاضطهادات التي تعرض لها اليهود في تواريخهم، خصوصاً في أوروبا. هكذا، أضيف تنميط تدميري جديد للفلسطينيين بكونهم خلاصة تجمع العداوات التاريخية لليهود بدليل أنهم لا يقبلون باليهود ولا بدولتهم ويطلقون مقاومة ضدهم. وهذا بالطبع يخرج الفلسطينيين من مربع النضال القومي والوطني ضد محتل أجنبي، إلى مربع آخر يسهل تسويغ إبادتهم فيه وهو مربع العداوة المتأصلة واللاسامية لليهود. وقد تمت مأسسة أخرى لهذا التنميط وربطه بالعدو الأكثر إرهاباً في التاريخ اليهودي الحديث وهو النازية، من خلال التركيز المضخم على الزيارة الساذجة للحاج أمين الحسيني إلى ألمانيا ولقاؤه بهتلر إبان الحرب العالمية الثانية، نكاية في بريطانيا وأملاً بدعم ألمانيا. فقد أصبحت تلك الزيارة تمثل العمود الفقري للتاريخ الفلسطيني والدليل الدامغ ليس فقط على «لا سامية» الفلسطينيين والعرب، بل على امتداد مشروع إبادة اليهود من ألمانيا إلى فلسطين وتكامل الإثنين. والمثير حقاً أن الدعاية الصهيونية لم تضخم فحسب تلك الزيارة إلى مستوى تكريس «علاقة إستراتيجية» بين الوطنية الفلسطينية والنازية، بل «اكتشفت» أن فكرة إبادة اليهود إنما هي أصلاً فلسطينية، وقد تمكن أمين الحسيني من إقناع هتلر بتنفيذها! والغرابة هنا تكمن في مدى وقاحة هذه الدعاية التي تضرب بعرض الحائط كل ما له علاقة بالتاريخ ورغبة هتلر وتشجيعه اليهود على الهجرة إلى فلسطين والتخلص منهم.

2184

| 23 يونيو 2014

alsharq
شكاوى مطروحة لوزارة التربية والتعليم

ماذا يعني أن يُفاجأ أولياء أمور بقرار مدارس...

5562

| 11 نوفمبر 2025

alsharq
حدود العنكبوت

حينَ شقَّ الاستعمار جسدَ الأمة بخطوطٍ من حديد...

4053

| 04 نوفمبر 2025

alsharq
مامداني.. كيف أمداه ؟

ليش ما يمديك؟! بينما ممداني زهران، الشاب ذو...

3753

| 11 نوفمبر 2025

alsharq
عيون تترصّد نجوم الغد

تستضيف ملاعب أكاديمية أسباير بطولة كأس العالم تحت...

2346

| 11 نوفمبر 2025

alsharq
السودان.. حوار العقل العربي مع مُشعِلي الفتنة

في السودان الجريح، لا تشتعل النيران في أطراف...

2334

| 05 نوفمبر 2025

alsharq
العالم في قطر

8 آلاف مشارك بينهم رؤساء دولوحكومات وقادة منظمات...

2193

| 04 نوفمبر 2025

alsharq
الصالات المختلطة

تشهد الصالات الرياضية إقبالا متزايدا من الجمهور نظرا...

1623

| 10 نوفمبر 2025

alsharq
حين يصبح النجاح ديكوراً لملتقيات فوضوية

من الطرائف العجيبة أن تجد اسمك يتصدر أجندة...

1344

| 04 نوفمبر 2025

alsharq
كلمة من القلب.. تزرع الأمل في زمن الاضطراب

تحليل نفسي لخطاب سمو الأمير الشيخ تميم بن...

1131

| 11 نوفمبر 2025

alsharq
عندما يصبح الجدل طريقًا للشهرة

عندما صنّف المفكر خالد محمد خالد كتابه المثير...

1080

| 09 نوفمبر 2025

alsharq
الكفالات البنكية... حماية ضرورية أم عبء؟

تُعدّ الكفالات البنكية بمختلف أنواعها مثل ضمان العطاء...

1020

| 04 نوفمبر 2025

alsharq
نظرة على عقد إعادة الشراء

أصدر مصرف قطر المركزي في التاسع والعشرين من...

1005

| 05 نوفمبر 2025

أخبار محلية