رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
جائحة كورونا "كوفيد-19" - التي اجتاحت العالم واخترقت الحدود والفئات والطبقات - من الوقائع التي ستسجل إلى جانب وقائع أخرى عرفها القرن العشرون من قبيل الحربين العالميتين، وكذا الأزمة الاقتصادية لسنة 1929، وانهيار المعسكر الشرقي، وسقوط جدار برلين، وظهور ما يسمى بالنظام العالمي الجديد الأحادي القطب، وما ترتب على ذلك من حروب قادتها الولايات المتحدة الأمريكية في أفغانستان والعراق. ستكون الجائحة موضوع بحوث ودراسات وندوات وتحاليل علمية لمراكز البحوث ولقادة الفكر الإستراتيجي، من الزوايا الاقتصادية والاجتماعية والنفسية والجيوسياسية، من أجل بيان التحولات المحتملة على النظام العالمي وعلاقات القوة وتوازناتها وانتقالات مركزها، ومنذ الآن بدأت تتناسل القراءات والتحاليل في المستويات المشار إليها. لكننا في هذا المقال اخترنا أن نثير باختصار بعض الملاحظات حول التحولات الطارئة أو المحتملة لهذه الأزمة على مستوى منظومة القيم بأبعادها المختلفة، وهذه بعضها: أولا: العودة القوية للمعتقد الديني: من الطبيعي أن يتعمق الشعور الديني باعتباره شعورا يقوم على الإيمان بوجود قوة إلهية خارقة، يلجأ إليها الإنسان حين يرجع إلى حقيقته ككائن ضعيف، مهما أحس بالتميز والمركزية في الكون. ومع كورونا ينبعث هذا الشعور حتى عند الغافلين أو المنكرين أو المستهترين بالدين، ويتجدد عند المتدينين. ففي الأزمات - التي تتجاوز قدرة الإنسان وتتحداه - يحس الناس بالحاجة إلى القوة الإلهية المحيطة بكل شيء، ولا يزيد التقدمُ العلمي الإنساني هذه الحقيقةَ إلا تأكيداً. ذلك أن طريقة انتشار كورونا واستخدامه للإنسان، والانتقال عبره متخذا جسمَ الإنسان حاضنا وناقلا؛ يجعله أشد على شعور البشر من الكوارث الطبيعية. إن الأمر هنا مرتبط بعدوّ مستتر أشد فتكاً في هذه الحالة من الكوارث الطبيعية التي طور العلم وسائل تقنية لرصدها وتوقعها، في حين ما زال العلماء - في مختبراتهم العلمية - يبحثون عن أدوية ولقاحات مضادة للفيروس القاتل "كوفيد-19". غير أن هذه العودة تحمل في طياتها بعض الانزلاقات والمخاطر، في ظل غياب وعي ديني مستنير بحقيقة الدين والعلم في نفس الوقت؛ فالشعور الديني غير المؤطَّر بفهم روح الدين ومقاصده قد يكون كارثة، وهو ما يفسر حالات جماعية من الوجد "الديني" الجماعي التي تتنافى مع أحكام الدين نفسه، ليس فقط فيما يتعلق بكل ما له صلة بحفظ النفس، بل أيضا في الأحكام الناظمة لشعائره التعبدية، من قبيل الدعاء الذي من سننه التضرع خيفة ودون الجهر من القول ومناجاة الله وعدم مناداته بصوت مرتفع، لأننا - كما ورد في الحديث النبوي - لا ننادي أصم أبكم، وإنما ندعو من هو أقرب إلينا من حبل الوريد. ومن قبيل ذلك إصرارُ بعض المسلمين على عدم ترك صلاة الجماعة والجمعة، وهو أمر من جوهر الدين إذا خيف على النفس من حصول الضرر، حيث إن حفظ النفس مقدم على حفظ الدين في هذه الحالة. وكذلك تألِّي بعضهم على الله وادّعاؤهم أن هذا الوباء انتشر بسبب المعاصي، وأنه "عقاب" من الله ضد السلطات الصينية بسبب اضطهادها لأقلية مسلمي الإيغور في إقليم تركستان الشرقية (شنغيانغ). والواقع أن الفيروس قد أصاب دولا إسلامية كماليزيا، بل إن بعضا من الجيل الأول من المسلمين ممن كانوا على عهد قريب من النبوة ماتوا بسبب الطاعون، كما أن الهدي النبوي كان سبّاقا لإقرار قواعد الحجر الصحي، ونفّذه عمر بن الخطاب حين ابتُلي المسلمون بطاعون عمواس. ثانيا: كورونا والسؤال القيمي الأخلاقي: يكشف انتشار فيروس كورونا عن الهاوية التي تقف على سفحها البشرية، كما يقول سيد قطب في مقدمة كتابه "معالم في الطريق"، حيث ورد فيها: "تقف البشرية اليوم على حافة الهاوية، لا بسبب الفناء المعلق على رأسها.. فهذا عارض من أعراض المرض؛ ولكن بسبب إفلاسها في عالم القيم". وهو ما تجلى في مواقف عدد من المسؤولين الغربيين، ومنهم مثلا الرئيس دونالد ترامب وعدد من الجمهوريين، الذين أكدوا إعطاء الأولوية للشباب في مقاومة كورونا، وللاقتصاد والحفاظ على فرص الشغل على حساب المسنين؛ حيث أطلقوا شعار: "العلاج أسوأ من المرض"، وهو ما يفسر تأخر الولايات المتحدة في فرض إجراءات الحجر الصحي لأن الكارتيلات الصناعية والمالية والاقتصادية لا تتحمل طويلا مثل هذه الإجراءات. ثالثا: إفلاس النظام الرأسمالي وعجز النموذج الديمقراطي الاجتماعي عن التصدي للأزمة: نجحت الصين -على ما يبدو- في مواجهة واحتواء جائحة كورونا، في حين عجزت عن ذلك الرأسمالية في صيغتها الأكثر تطرفا ممثلة بالولايات المتحدة، والأنظمة الديمقراطية الاجتماعية المبنية على الحرية الفردية، والتي يتمرد فيها الفرد -بسبب تكوينه الثقافي- على التحكم السلطوي، مما أدى إلى نوع من التهاون في التعامل مع الجائحة؛ فكانت الكارثة، ولم تستعد السلطة المركزية دورها إلا بعد خراب البصرة؛ كما يقال. كما تُطرح هنا بشدة إشكالية انهيار منظومات الحماية الصحية والاجتماعية، ونموذج دولة الرفاه الاجتماعي في دول كان يُضرب بها المثل في ذلك؛ حتى إننا لم نعد نميز بين هشاشة تلك المنظومة في هذه الدول ونظائرها في بعض دول الجنوب. وقد اكتشفت دول غربية -متأخرةً وبعد أن نخرها فيروس كورونا- أهمية التضامن العالمي، فجاء اجتماع قمة دول العشرين الافتراضي وتعهدت فيه بضخ خمسة تريليونات دولار، دون أن تصدر قرارات عملية للتعاون أو التضامن مع الدول والشعوب الأكثر فقراً. رابعا: انهزام قيم الفردانية وانبعاث قيم التضامن الاجتماعي والإنساني: لقد قامت فلسفة النهضة على إعادة الاعتبار للإنسان في بعده الفردي، وعلى تمجيد العقلانية المجردة التي ترى الإنسانَ الفردَ مقياسا لكل شيء، أما الجماعة والدولة فليستا إلا فضاء لممارسة الفرد لحريته المطلقة ما لم تمس بالآخرين. غير أن أزمة كورونا أحيت -حتى في المجتمعات المتخمة بفردانية الحداثة- قيم التضامن والتضحية ونكران الذات لدى بعض الفئات المجتمعية، من قبيل الأطباء والممرضين وغيرهم، وربما يكون ذلك بداية لعودة الشعور بالحاجة إلى الانتماء الاجتماعي والتضامن الإنساني العالمي. فبالقدر الذي كشفت به هذه الجائحة عن إفلاس عدد من الدول التي تقدم نفسها على أنها مهد لقيم الحرية والديمقراطية، بل وعن إفلاس منظوماتها الصحية والاجتماعية التضامنية؛ فإنها كشفت عن وجه آخر من الصورة، وما صور التضامن مع الشعب الإيطالي وإيفاد عدد من الأطباء والمعدات إلا وجه من هذه الصورة المضيئة، هذا فضلا عن صور الكفاح والمرابطة التي أظهرتها الأطقم الطبية وغيرها، إلى درجة تعريض أفرادها أنفسَهم لمخاطرة من درجة عالية. خامسا: تجسير العلاقة بين المجتمع والدولة وعودة الحياة إلى مؤسسات الوساطة: ينبغي الاعتراف بأنه من السابق لأوانه الجزم النهائي بهذه الخلاصة، غير أن مؤشرات التعامل الشعبي والمجتمعي مع مؤسسات الدولة -بمختلف مستوياتها- تشير إلى إمكانات واعدة بهذا الخصوص، وهي مرهونة بتعزيز حالة التعبئة الوطنية هذه. ومن المؤشرات المواقف التي عبرت عنها مكونات سياسية واجتماعية في عدد من الدول بإصدارها خطابات إيجابية، وهي مكونات كانت تصنَّف تقليديا في خانة الرفض، وكان البعض يتوقع أن تنتهز فرصة هذه الجائحة لكي توجه سهام نقدها للدولة والمؤسسات وتشمت في الجميع، وهناك أمل في أن يكون عهد ما بعد جائحة كورونا مختلفا عن عهد ما قبلها، وأن نقول ونحن نتحدث بلغة الذكرى المفزعة: رُبَّ ضارة نافعة. إن هذه الجائحة مناسبة لاستدعاء كل تقاليد ومخزون القيم الدينية والاجتماعية في مجال التضامن الاجتماعي، وخاصة التضامن الأسري والعائلي والقبلي، فضلا عن تحفيز المواطنين لإخراج الزكاة، ولِمَ لا يتم تفعيل الأشكال الرسمية لجمع وتنظيم توزيع هذه الزكاة، هذا فضلا عن تثمين مبادرات المجتمع الأهلي والسياسي في مجالات التضامن دون هواجس أو حساسيات، وأن يتم كل ذلك في نطاق القانون وبتنسيق وإشراف من السلطات المعنية.
1580
| 15 أبريل 2020
اليسار يعتبرالإصلاح فرصة لترقيع النظام الاستبدادي المفهومالسياسي للإصلاح وقتي ومتغير وفقا للأهداف الإصلاح في الإسلام أكثر شمولاًوعمقاً ومعالجة للإخفاقات يجب تحديد مفهوم "الإصلاح" بحمولاته المختلفة انطلاقا من المرجعية الإسلامية، وتمييزه عن مفهوم الإصلاح كما يُستخدم اليوم في القاموس السياسي السائد، فحين يتم الحديث عن الأحزاب الإصلاحية واليسار الإصلاحي اليوم مثلا في دولة مثل المغرب؛ فإنه يطلق للدلالة على الأحزاب المندمجة في المؤسسات السياسية القائمة، والتي تسعى لإصلاحها وللإصلاح من داخلها، وهو تعريف يحمل طابعا قدحيا في قاموس اليسار الجذري. فـ"الإصلاح" في هذه الحالة -عند اليسار الجذري- ليس سوى محاولة "ترقيعية" وتجميلا لصورة الأنظمة الاستبدادية وإضفاء للشرعية عليها، ومن ثم فإن الطريق الأسلم بالنسبة إليه هو الدعوة إلى تغيير قواعد اللعبة من أساسها، والدعوة إلى تغيير جوهري في بنية النظام السياسي برمته. وذلك بغض النظر عن أسلوب هذا التغيير ووسائله، سواء كان مدّا ثوريا شعبيا مدنيا أو حراكا مسلحا، أو كان عبر تغيير دستوري شامل ينتهي في حالة الأنظمة الملكية بإقرار ملكية برلمانية على غرار الملكيات الأوروبية. وبالنسبة لحركات جذرية أخرى؛ فإن الإصلاح يعني الدعوة إلى ميثاق تأسيسي يعيد تأسيس قواعد الاجتماعي السياسي، ويتعاقد الجميع وفقه على طبيعة النظام السياسي الذي سيحكمهم. وحيث إن المصطلحات ليست بريئة وينبغي -على العكس من ذلك- الوقوف عند حمولتها الفكرية والثقافية وخلفيتها القيمية وتفكيكها، وحيث إنه في حالة الحركات التي تستلهم المرجعية الإسلامية يجب تحرير هذا المصطلح من حمولات أخرى ناتجة عن التأثر بمناهج في التغيير لها مرجعيات أخرى؛ فمن اللازم العودة إلى تحرير مفهوم الإصلاح في ظل المرجعية الإسلامية وبعده الثقافي والحضاري الأصيل. وبالرجوع بمصطلحيْ "الإصلاح" و"التغيير" إلى سياقهما في القرآن والسنة النبوية واستخدامهما فيهما؛ نستطيع الخروج بالخلاصات التالية: ـ إن مصطلح التغيير قد يطلق للدلالة على الفعل الإصلاحي الساعي إلى إقرار المعروف وإزالة المنكر من الأوضاع والتصرفات، وهو ما يتضح في الحديث الصحيح: " من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان". إذ يتضح من سياق الحديث أن التغيير هنا هو تغيير نحو الأحسن، ومقاومة للمنكر والفساد كي يحل محله المعروف والصلاح، فالتغيير هنا مرادف للإصلاح. ـ كل إصلاح هو تغيير لكن ليس كل تغيير بالضرورة إصلاحا، فالتغيير قد يكون عملا سلبيا وإفسادا في الأرض، يبدأ بفساد الفكر والمنهج وفساد الإرادة؛ فتكون نتيجة هذا التغيير الذي يبدأ بذات الإنسان مدخلا لاضطراب الأوضاع الاجتماعية والسياسية. ولعل ذلك مما يشير إليه قوله تعالى (ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَىٰ قَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ۙ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (سورة الأنفال/ آية: 53). ـ الإصلاح في المنظور القرآني -تبعا لذلك- ليس ترقيعا أو مهادنة مع الفساد، بل هو مقاومة له حتى وأنت تخالطه وتتعايش معه اجتماعيا وسياسيا؛ فالمخالطة والعيش المشترك داخل مجتمع هما ضرورة إنسانية وعمرانية، لا غنى عنها ما دامت هناك إمكانية لهذا العيش وحرية في التعبير والدعوة إلى الإصلاح والتنظيم من أجل ذلك. وتلك الضرورة لا تعفي من مقاومة الفساد والتصدي له بكافة الوسائل الممكنة والمشروعة حسب الوسع والطاقة والاستطاعة، كل بحسب موقعه ومسؤوليته؛ كما في الحديث المشار إليه أعلاه: "من رأى منكم منكرا فليغيره...". ـ العمل السلمي المدني هو الأصل في الإصلاح بالنسبة للفرد والجماعة المدنية، أي التي لا توجد في السلطة السياسية ولا تتحمل مسؤوليتها، في حين أن مسؤولية التغيير بـ"اليد" -في غالب ما ذهب إليه أهل السنة والجماعة- هي مسؤولية الحاكم. إن جدلية الصلاح والفساد والحاجة المتواصلة للتدافع بينهما معطى أساسي وضروري في فهم منهج الإصلاح وطبيعته، ودور الإنسان فيه فردا وجماعة؛ فلا توجد حالة صلاح كاملة ونهائية سواء على صعيد الفرد أو على صعيد الجماعة، وإنما هي حالة مراوحة ومدافعة وجهاد ومجاهدة واجتهاد. وهي حالة المراوحة التي نبه عليها القرآنُ المسلمين -في البدايات الأولى لتشكل المجتمع المسلم الأول في المدينة- بقوله تعالى: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ ۖ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ، اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)؛ (سورة الحديد/ آية: 16-17). وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه؛ قال: "ما كان ما بين إسلامنا وبين أن عوتبنا بهذه الآية إلا أربع سنين، فجعل ينظر بَعضُنَا إلى بعض ويقول: ما أحدثنا؟"، قال الحسن (البصري): "استبطأهم، وهم أحب خلقه إليه". وفي المجتمعات الإنسانية لا توجد "مدينة فاضلة" كتلك التي حلم بها أفلاطون، ولا "خلافة راشدة " بالمعنى الذي يتداوله بعض الإسلاميين؛ ذلك أن الأمر يتعلق بـ"خلفاء راشدين" وليس بـ"خلافة راشدة"، لسبب بسيط هو أنه لا يوجد نظام سياسي اسمه "الخلافة الراشدة"، وتدبير المسلمين الأوائل لقضية خلافة النبي -صلى الله عليه وسلم- كان تدبيرا بشريا، محكوما بما توصل إليه الفكر البشري آنذاك وبالثقافة الإنسانية السائدة، دون أن ننفي تأثير القيم الجديدة التي جاء بها الإسلام؛ وهذه مسألة كبيرة وعريضة تحتاج إلى معالجة خاصة. ومعنى التدافع هذا مقرر بوضوح في القرآن الكريم في قوله تعالى: (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ)؛ (سورة البقرة/ آية: 251). وهذه الجدلية ثابتة في عدد من نصوص القرآن والسنة، ومنها ما ورد في الحديث الصحيح عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَا مِنْ نَبِىٍّ بَعَثَهُ اللَّهُ فِى أُمَّةٍ قَبْلِى إِلاَّ كَانَ لَهُ مِنْ أُمَّتِهِ حَوَارِيُّونَ وَأَصْحَابٌ يَأْخُذُونَ بِسُنَّتِهِ وَيَقْتَدُونَ بِأَمْرِهِ، ثُمَّ إِنَّهَا تَخْلُفُ مِنْ بَعْدِهِمْ خُلُوفٌ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ وَيَفْعَلُونَ مَا لاَ يُؤْمَرُونَ؛ فَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِيَدِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِلِسَانِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِقَلْبِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنَ الإِيمَانِ حَبَّةُ خَرْدَلٍ"؛ (رواه مسلم). المصدر: الجزيرة
1356
| 25 يناير 2020
نحتت علوم اللغة المعاصرة مفهوماً مبدعاً هو: حركية المصطلحات أو حركيّة الدليل اللغوي؛ فالمصطلحات وحمولتها الدلالية - حسب هذا المفهوم- لا تثبت على حال بل تتغير بتغير السياق، وتلك قاعدة ثابتة ومطردة في نظام اللغة التي هي الإطار الحامل للمفاهيم. ويترتب على ذلك توافر الغنى الدلالي للمصطلحات باستمرار، مما يُظهر عبثية محاولة فرض مضمون مفاهيمي أو دلالي لمصطلح معين، من خلال الوقوف به عند لحظة من لحظات تطوره التاريخي. ثم إن أي عملية للتعامل مع المصطلحات والمفاهيم - ومن ثم مع المعرفة العلمية والإنسانية - عملية خلاقة؛ أي عملية تفكيك وإعادة بناء، أو بلغة عالم النفس السويسري جون بياجيه هي "عملية التكيف"، الذي هو حاصل علاقة جدلية تفاعلية بين الاستيعاب (التفكيك) والتلاؤم. ومن خلال توظيف هذه النظرية، أي نظرية حركيّة الدليل اللغوي والطابع الخلاق للغة والإبداع المتواصل للمصطلحات أو إغناء المصطلحات، التي تنتقل في الزمان والمكان بمفهومها ودلالتها الجديدة باستمرار؛ نتساءل: هل بالإمكان استنساخ العلمانية في العالم الإسلامي؟ وأي موقف هو الأقرب إلى الصواب من هذا المنتَج الفكري الإنساني؟ الحاصل أننا - بالتأمل في العلمانية مصطلحا ومفهوما- نلاحظ أننا إزاء موقفين غير تاريخييْن ولا جدلييْن، ولا يستحضران هذه الحقائق العلمية كما تُقرّ بها علوم اللغة وعلم النفس التكويني، وكما تؤكدها الحركة التاريخية في مجال التفاعل بين الثقافات والحضارات. أما الموقف الأول فهو موقف الذين يتبنَّوْن تصوراً شمولياً للعلمانية، وهؤلاء لا يضعون المصطلح في سياقه التاريخي، أي من حيث إنها صورة من صور العلمانية، أو مجرد مقطع تاريخي هو في حد ذاته مجرد تأويل للعلمانية كما ظهرت للمرة الأولى. فالصراع اللاحق في القرن التاسع عشر بين الإكليركيين والعلمانيين اليعقوبيين، وبين الريفيين والمدنيين، وبين الملكيين والجمهوريين؛ هو المسؤول عن إعادة بناء ما يسميه بالمر بـ"أسطورة" مليئة بـ"الغلو والشطط"، تتحدث عن أن الثورة الفرنسية قد "كانت على الوجه الأخص تهجما على المسيحية وعلى الديانات كافة". إن أصحاب الموقف الأول لا يقرأون العلمانية ويفهمونها بالوظيفة التاريخية التي اضطلعت بها، ويتعاملون معها كمنظومة عقائدية مغلقة وشاملة، تتجاوز الدعوة إلى مناهضة الحكم الثيوقراطي، والفصل بين الدين والدولة إلى الفصل بين الدين والحياة، وبين المجال العام والمجال الخاص؛ بل وتفرض رؤيتها الكونية حتى على الحياة الخاصة للناس. إن هؤلاء -رغم أن كثيرا منهم يدعي أنه يتبنى التحليل التاريخي والجدلي- بعيدون عن التحليل التاريخي، وعاجزون عن التسلح بالفكر النقدي، ومن ثم ينتهون إلى مواقف منغلقة وشمولية، بادعائهم أنه لا سبيل للنهضة في العالم الإسلامي إلا باستعارة العلمانية بحذافيرها؛ بل وباستعارة مقطع تاريخي ورؤية من بين عدة رؤى داخل العلمانية ذاتها، أي العلمانية الشاملة. وفضلا عن ذلك؛ فإنهم يتجاهلون أن مثل هذه الاستعارة القاصرة هي مستحيلة من ناحية قوانين العمران البشري، ومن ناحية أن كل استعارة لابد أن تؤول - في نهاية المطاف - إلى عملية تكيف أي إلى عملية استيعاب وتلاؤم، استيعاب يقوم على وعي تاريخي بحركية المفهوم وتحولاته، والتغيرات التي طرأت عليه خلال تاريخه الطويل. ومن ناحية أخرى؛ فإن كل عملية تكيف تفرض تلاؤماً أي نقداً للذات واستفادة من التجربة البشرية، وبالأخص مما أصبح عاما ومشتركا وقابلا كي ينتقل عبر الثقافات والحضارات، أو ما يمكن تسميته بالمشترك العابر للثقافات، أو مشترك ما بين الثقافات، وما يُعرف اليوم أيضا بالمبادئ الكونية المتعارف عليها عالميا. وللإشارة فإن التجربة الغربية قد استفادت من عدة مكاسب من الحضارة الإسلامية بعد أن أخضعت تراثها لعملية استيعاب وتلاؤم. أما أصحاب الموقف الثاني فإنهم لا يختلفون عن أصحاب الموقف الأول في منهج النظر والتعامل مع المصطلح، وإن كانوا يخلصون إلى نتيجة مخالفة - أي إلى الرفض الشامل للعلمانية - دون أن يميزوا بين العلمانية الشاملة والعلمانية الجزئية. أما من حيث المنهج؛ فإنهم يتعاملون مع العلمانية كحزمة متكاملة ولا يميزون بين مستوياتها، كما أنهم لا يستحضرون الوظيفة التاريخية التي اضطلعت بها في سياقها التاريخي، أي من حيث إنها في الجوهر سعي إلى أنْسَنَةِ الدولة وجعلها دولة الإنسان، في مقابل دولة الكهنوت المتسلط ظلما على رقاب العباد باسم الله، والذي كان يشتري بآيات الله ثمنا قليلا. ولو وقفوا عند تلك الوظيفة وذهبوا إلى جوهر العلمانية - بعيدا عن التأويلات التاريخية والانزلاقات التطبيقية - لوجدوا أنها تلتقي في كثير من الجوانب مع الإسلام. انطلاقا من ذلك؛ تبدو إعادة تعريف العلمانية -بالعودة بها إلى الأصول قبل ظهور الخلاف- مسألة جوهرية، وهو التعريف الذي ينتقل بالعلمانية من نسق مذهبي مغلق إلى النظر إليها نظرة وظيفية ومقاصدية، أي تسعى للوقوف عند مقاصد العلمانية كما تبلورت في المجتمعات الغربية. ومن هذه الزاوية؛ يبدو تعريف الدكتور محمد عابد الجابري صائبا، حين رفض من جهة تعريف مصطلح العلمانية باعتباره فقط فصلا للكنيسة عن الدولة، مؤكدا عدم ملاءمته للواقع العربي الإسلامي؛ وحين ذهب -من جهة ثانية- إلى استبداله بفكرة الديمقراطية القائمة على حفظ حقوق الأفراد والجماعات، والعقلانية الضامنة للممارسة السياسية الرشيدة. فمن الواضح أن الدكتور الجابري أكد -في تعريفه- الوظيفة التاريخية لهذا المصطلح، ولم يقع أسير التعريف الشمولي للعلمانية؛ أي أنه لم ينظر إليها كنسق مغلق أو معتقَد أو مذهب ديني جديد، بل وقف -في تعريفه للعلمانية- عند مقاصدها ووظيفتها التاريخية. وإذا أردنا أن نرجع إلى السؤال الذي طرحناه، أي: هل يقبل الإسلام بالعلمانية؟ فأستطيع أن أقول إنه يرفضها بالمعنى الشمولي غير التاريخي؛ وهو معها بالمعنى الوظيفي. أي أن الإسلام مع العلمانية إذا كان يُقصد بها الديمقراطية القائمة على ضمان حقوق الأفراد والجماعات، والعقلانية الضامنة للممارسة الرشيدة، وإذا كان يُقصد بها بناء دولة الإنسان في مقابل الحكم اللاهوتي المطلق، والدولة القائمة على أساس المواطنة والإقرار بحق غير المسلمين في هذه المواطنة وما يترتب عليها من حقوق وواجبات، والدولة القائمة على سيادة الأمة. فكل ذلك لا يتعارض مع المرجعية الإسلامية للدولة، بل إن المرجعية الإسلامية نفسها هي التي تؤكد أن تكون الدولة دولة إنسان، وترفض أن تعطي للحاكم فيها أية سلطة مطلقة مستمدة من التفويض الإلهي؛ وذلك يتطلب رفع التعارض الموهوم بين فكرة السيادة وفكرة الحاكمية، وبين الطبيعة الإسلامية للدولة وفكرة المواطنة. «الجزيرة نت»
1467
| 24 ديسمبر 2019
مساحة إعلانية
في منتصف العام الدراسي، تأتي الإجازات القصيرة كاستراحة...
1614
| 24 ديسمبر 2025
في هذا اليوم المجيد من أيام الوطن، الثامن...
1113
| 22 ديسمبر 2025
«فنّ التّأريخ فنّ عزيز المذهب جمّ الفوائد شريف...
690
| 21 ديسمبر 2025
يُعد استشعار التقصير نقطة التحول الكبرى في حياة...
660
| 19 ديسمبر 2025
-قطر نظمت فأبدعت.. واستضافت فأبهرت - «كأس العرب»...
612
| 25 ديسمبر 2025
هنالك قادة ورموز عاشوا على الأرض لا يُمكن...
597
| 19 ديسمبر 2025
لماذا تقاعست دول عربية وإسلامية عن إنجاز مثل...
597
| 24 ديسمبر 2025
أرست محكمة الاستثمار والتجارة مبدأ جديدا بشأن العدالة...
588
| 24 ديسمبر 2025
-قطر تضيء شعلة اللغة العربيةلتنير مستقبل الأجيال -معجم...
582
| 23 ديسمبر 2025
انتهت الاحتفالات الرسمية باليوم الوطني بحفل عسكري رمزي...
531
| 23 ديسمبر 2025
في عالم اليوم، يعد التحول الرقمي أحد المحاور...
486
| 23 ديسمبر 2025
عندما نرى واقع الإدارة سوف نجد انها تبدأ...
420
| 22 ديسمبر 2025
مساحة إعلانية