رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
ثم: من الترتيب اللغوي إلى التسويف الاجتماعي: كلمة «ثم» في اللغة العربية ليست مجرد أداة عطف عابرة، بل هي علامة دقيقة على التسلسل الزمني والمنطقي للأحداث. تُستخدم للإشارة إلى أن ما يلي الكلام الأول يحدث بعده، مع إحساس بالمسافة الزمنية أو التدرج المنطقي. مثال: «ذهبت إلى السوق، ثم عدت إلى المنزل». هنا، «ثم» لا تنقل مجرد ترتيب الأحداث، بل ترسم الخط الزمني في ذهن القارئ، وتخلق إحساساً بالاستمرارية والتتابع المنهجي. النحاة والبلاغيون يرون في «ثم» أداة لضبط تدفق الخطاب، فهي تمنع القارئ أو المستمع من القفز مباشرة إلى النتيجة، وتجعل الأحداث تتكشف تدريجياً بطريقة متسقة، ما يُسهم في فهم المعنى واستيعابه. التحوّل الاجتماعي – من ترتيب إلى تسويف: مع مرور الزمن، تحوّل استخدام «ثم» أحياناً من وظيفة الترتيب إلى رمز للتأجيل والتسويف. مثال: «سأبدأ بالمشروع، ثم…». هنا تصبح «ثم» أداة لتجميل المماطلة، وإخفاء البطء خلف ترتيب زمني مزيف. في الخطاب الاجتماعي والجماعي، تتحوّل «ثم» إلى وسيلة لإيهام الآخرين بالترتيب والتنظيم، بينما الواقع يحمل التسويف والتأجيل المستمر. سلبيات هذا التحوّل: *تجميل التسويف: تُحوّل الالتزام الفعلي إلى كلام مؤجل، ما يخلق شعوراً باللامسؤولية. *إضعاف المبادرة الفردية والجماعية: يؤجل الأفراد المشاريع المهمة، ويصبح الفعل لاحقاً غير مضمون. *تشويه الثقة: كثرة استخدام «ثم» تجعل الطرف الآخر يترقب ولا يثق بجدية الوعود. *ثقافة المماطلة الجماعية: تصبح عادة اجتماعية متوارثة، وتؤثر على الأداء المؤسساتي. إيجابيات هذا التحوّل: *التخطيط الزمني المنظم: أحياناً يُستخدم «ثم» لتنظيم الأولويات وتوضيح التسلسل الزمني للأحداث. *إتاحة المجال للتفكير: التأجيل المؤقت يمنح فرصة لمراجعة القرار قبل التنفيذ. *مرونة الخطاب: «ثم» تُسهل على المتلقي استيعاب الخط الزمني للأحداث والفهم التدريجي للمعنى. توصيات إعادة ثم إلى وظيفتها الأصلية: *التوعية اللغوية: تعليم الفرق بين الترتيب الزمني الحقيقي والتأجيل المزيف. *جدولة الأفعال المرتبطة بـ «ثم»: ربط الكلمة بأفعال ملموسة لضمان الالتزام بالخطوات. *تشجيع التنفيذ الفوري: تحويل «ثم» من أداة تأجيل إلى أداة تنظيم للخطوات الواقعية. *النقد الاجتماعي للخطاب المؤجل: إعلامياً ومجتمعياً، لتغيير الثقافة الجمعيّة نحو الفعل الحقيقي. *ترسيخ البدائل الفعلية: استغلال «ثم» لتقديم خطوات لاحقة واضحة بدل التسويف. ختامًا: «ثم» ليست مجرد كلمة؛ إنها جسر بين ما كان وما سيكون، بين الماضي والحاضر والمستقبل. حين تُستعمل بوعي، تصبح أداة ترتيب وبناء، وحين تُستغل للتأجيل، تتحوّل إلى جدار يعيق الحلم والفعل. وهكذا تظل «ثم» واقفةً عند مفترق الزمن؛ تارةً تُرتّب الأحداث بسلاسة، وتارةً تُحبس الفعل خلف ستار التسويف… كأنها حارسة للوقت، تفتح البوابة فقط للذي يملك نية صادقة. إن أجمل ما في «ثم» أنّها تُذكّرنا بأنّ الزمن ليس مجرد كلمات، بل أفعال تتتابع بدقة، وأن الكلمة الواحدة قد تكون مفتاحاً للتحقيق أو حاجزاً للتأجيل… فإذا أعدناها لوظيفتها الأصلية، صارت نافذة على الفعل والإنجاز، لا قيداً على الحلم. «ثم» كلمة قصيرة، لكنها تكشف سرّ الإنسان: مخلوق يحلم ويخطط، أحياناً يضع بين خطواته قيداً صغيراً اسمه «ثم»… فهل آن لنا أن نحرّر الفعل ونترك الزمن ينساب كما خُطط له؟
153
| 04 ديسمبر 2025
اللغة ليست مجرد نظام من القواعد النحوية والصرفية، بل هي كائن حي يتفاعل مع المجتمع، ويتأثر بتحوّلاته الثقافية والاجتماعية. ومن أبرز الأمثلة على هذا التفاعل ما جرى لحرف الواو، الذي عُرف في النحو العربي كحرف عطف يجمع بين المعاني أو يُفيد المساواة والمشاركة، غير أنّه في التداول الاجتماعي الحديث تحوّل إلى رمزٍ لمعنى آخر، ارتبط بما يُعرف بـ»الواسطة» أو «الوساطة»، وأصبح دليلاً على خلل اجتماعي يتجاوز وظيفته الأصلية في النصوص اللغوية. ففي النحو العربي، كانت الواو أداةً للربط والمساواة، تجمّع بين الأشياء دون أن تمنح أي طرف أفضلية على الآخر: جاء زيدٌ وعمرو. هنا، لا وزن للواو سوى جمع العناصر، ولا دلالة اجتماعية إلا التواصل والتناغم بين المعاني. ولكن مع مرور الزمن، تغيرت الواو. في الحياة اليومية، يقول الناس: فلان له واو، وكأن الحرف النحوي قد اكتسب حياة اجتماعية جديدة، محمّلة بالتحيز والمحاباة. الواو في وظيفتها النحوية: منذ البدايات الأولى للنحو العربي، احتلّت الواو مكانةً أساسية ضمن حروف العطف. فهي أداة للجمع دون ترتيب، كقولنا: جاء زيدٌ وعمرو، حيث تفيد المساواة في الحضور. كما تأتي الواو للاستئناف، أو للحال، أو للقَسم، وكلها وظائف دلالية ونحوية تضبط المعنى وتوضّح العلاقات بين الكلمات والجمل. لقد كانت الواو إذن أداةً تنظيمية داخل اللغة، تسعى إلى تحقيق الوصل، لا الفصل، والجمع لا التفرقة، وتسعى لإرساء التوازن بين الأجزاء اللغوية وليس العكس. التحول من النحو إلى المجتمع: مع تطوّر الحياة الاجتماعية وتغيّر القيم، انتقل حرف الواو من فضائه اللغوي المحض إلى فضاء اجتماعي جديد. فأصبح الناس يعبّرون بقولهم: «فلان له واو»، أي أنّ له شخصًا متنفّذًا يسهّل أموره ويزيل العوائق أمامه. هكذا تحوّلت الواو من رمزٍ للعطف والتكافؤ إلى رمزٍ للمحاباة والتجاوز، ومن أداة لغوية بريئة إلى دلالة اجتماعية سلبية. ولفهم هذا التحول، لا بد من التفريق بين الوساطة والواسطة: الفرق بين «الوساطة» و«الواسطة»: الوساطة: مفهوم مشروع في كثير من الحالات، يقوم على السعي للإصلاح بين طرفين أو لتيسير حلّ نزاع، وقد وردت الكلمة في التراث العربي والإسلامي بمعنى محمود، لأنها ترتبط بالصلح وتقريب وجهات النظر، كقوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} فالوساطة إذن وظيفة اجتماعية إيجابية، قائمة على العدل وإحقاق الحق. الواسطة: على العكس تمامًا، فهي استخدام النفوذ الشخصي أو القرابة أو الصداقة للحصول على مكاسب غير مستحقّة، أو لتجاوز القوانين والأنظمة. وهنا تكمن المشكلة، إذ تُضعف الواسطة قيم العدالة وتكافؤ الفرص، وتفتح بابًا للفساد والتمييز. سلبيات الواسطة والوساطة المنحرفة: لقد أدّت ثقافة «الواو» الاجتماعية إلى نتائج سلبية كثيرة، من أبرزها: *إضعاف الثقة في المؤسسات: حين يُقدَّم غير الكفء على الكفء بسبب «الواو»، يفقد الناس إيمانهم بعدالة النظام. *تعطيل مبدأ تكافؤ الفرص: الواسطة تُقصي أصحاب الكفاءات وتمنح الامتيازات لمن لا يستحق. *إشاعة ثقافة الاتكالية: يعتمد الأفراد على العلاقات الشخصية أكثر من اعتمادهم على الجهد والعمل. *نشر الفساد الإداري: تتحوّل المؤسسات إلى شبكات مصالح شخصية، بدلًا من أن تكون أدوات لخدمة الصالح العامة. إنّ رحلة حرف الواو من النحو إلى المجتمع تكشف عن قدرة اللغة على تجسيد الواقع وتحولاته. غير أنّ هذا التحول لم يكن بريئًا؛ إذ حمَل معه دلالات سلبية عمّقت من أزمة العدالة في المجتمعات العربية. ومن هنا فإنّ الفرق بين «الوساطة» كقيمة إصلاحية مشروعة، و»الواسطة» كأداة فساد اجتماعي، يجب أن يكون واضحًا في أذهان الناس. فالواو التي وُجدت أصلًا للجمع والتكافؤ، لا ينبغي أن تُختزل في رمز للمحاباة وإقصاء القيم النبيلة. ختامًا: إن رحلة حرف الواو من فضائه النحوي إلى معترك الواقع الاجتماعي تعلمنا درسًا مهمًّا عن العلاقة بين اللغة والمجتمع، وعن مدى قدرة الكلمات على تجسيد القيم أو تشويهها. فالواو التي وُجدت لتجمع ولا تفرق، لتوحد المعاني وتحقق المساواة بين العناصر، لا ينبغي أن تتحوّل إلى رمز للمحاباة والتفضيل، كما حدث في زمن الواسطة. إن إعادة الواو إلى وظيفتها الأصلية ليست مجرد استعادة حرف، بل استعادة لقيم العدالة والإنصاف، ومراجعة للضمير الاجتماعي الذي يسمح للكلمة أن تُعبر عن ما هي له أصلاً: رابط بين الناس لا حاجز بينهم، حضور متساوٍ للجميع، ومساواة تُكرّس المعنى لا الفساد. لنعد للواو روحها الأولى، روح التوافق، روح المشاركة والعدل، بعيدًا عن أي تحيز أو تمييز، لتكن الواو شجرة ونحن الماء الذي يطفئ عنها نار التفرقة والتمييز ويسقيها بنور الجمع الذي يحق لكل ذي حقٍ حقه.
486
| 19 نوفمبر 2025
مساحة إعلانية
بات الذكاء الاصطناعي اليوم واقعاً لا يمكن تجاهله...
2607
| 30 نوفمبر 2025
في الساعات المبكرة من صباح السبت، ومع أول...
2397
| 05 ديسمبر 2025
فجعت محافل العلم والتعليم في بلاد الحرمين الشريفين...
1581
| 04 ديسمبر 2025
في كل يوم، ينظر الإنسان إلى ما ينقصه...
1548
| 02 ديسمبر 2025
ساعات قليلة تفصلنا عن لحظة الانطلاق المنتظرة لبطولة...
1185
| 01 ديسمبر 2025
تتجه أنظار الجماهير القطرية والعربية إلى استاد خليفة...
1152
| 04 ديسمبر 2025
مواجهات مثيرة تنطلق اليوم ضمن منافسات كأس العرب،...
1143
| 03 ديسمبر 2025
لم يدخل المنتخب الفلسطيني الميدان كفريق عابر، بل...
933
| 06 ديسمبر 2025
لم تعد الدوحة مجرد مدينة عربية عادية، بل...
795
| 03 ديسمبر 2025
أحياناً نمر بأسابيع تبدو عادية جداً، نكرر فيها...
627
| 05 ديسمبر 2025
يحكي العالم الموسوعي عبد الوهاب المسيري في أحد...
618
| 30 نوفمبر 2025
في مايو 2025، قام البابا ليو الرابع عشر،...
543
| 01 ديسمبر 2025
مساحة إعلانية