رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
هل من الطبيعي أن ترى شباباً مسلمين من الجنسين وفي بلاد المسلمين، تسألهم عن عدد ركعات صلاة المغرب، فيتلعثم البعض، ويتردد آخر، ويخطئ الباقي؟! هل من الطبيعي أن لا يدري كثير من المسلمين، لاسيما الجيل الشاب، عدد أركان الإسلام؟ هل من الطبيعي ألا يعرف الناس أسماء الأنبياء؟ هل من الطبيعي ألا يشعر كثير من المسلمين عن معاناة مسلمين آخرين في مشارق الأرض ومغاربها ؟ هل من الطبيعي أن يعيش جيل مسلم شاب على تفاهات الأشياء والأولويات في فوضى عارمة عنده؟ هل وصلنا إلى مرحلة غربة الإسلام أو صار الإسلام غريبا؟ هل نعيش زمن اختفاء الإسلام بحيث لا يبقى منه سوى كلمة التوحيد؟ الأسئلة لا تنتهي .. * نعم، الأسئلة لا تنتهي ولكن الأمر لا شك أنه مؤلم أولاً، ومن ثم مخيف ومحبط في الوقت نفسه ثانياً، ويدعو بالتالي إلى كثير تأمل وتدبر ثالثاً، ثم رابعاً وأخيراً، أهمية أن يتحول ذلكم التأمل والتدبر إلى برامج وخطط عملية واقعية، تصحح تلك المشاهد وتعيدها إلى طبيعتها، عبر آليات ووسائل وجهات رسمية تنفذها وأخرى شعبية تعاونها. شخصياً لا أريد ولا أتمنى أن يكون هذا الزمن الذي نعيشه هو ما حدّث به الصحابي الكريم حذيفة بن اليمان، رضي الله عنه، عن الرسول الكريم، صلى الله عليه وسلم، وهو يصف مشهداً مؤلماً وغريباً في الوقت نفسه وسيصل إليه المسلمون حتماً في زمن ما، حيث لا يعرف الناس حينها ما الإسلام، فضلاً عن معرفة أحكامه وشرائعه وتفاصيل أخرى ! فماذا قال حذيفة في رواية له عن الرسول الكريم، صلى الله عليه وسلم؟ قال :» يُدْرَسُ الإسلامُ، كما يُدْرَسُ وشْيُ الثوب، حتى لا يُدْرَى ما صيامٌ ؟ ولا صلاة ولا نُسك ولا صدقة، ويُسْرَى على كتاب الله في ليلة، فلا يبقى في الأرض منه آية، وتبقى طوائف من الناس، الشيخُ الكبيرُ، والعجوزُ يقولون: أدركْنا آباءَنا على هذه الكلمة، يقولون : لا إله إلا الله، فنحن نقولها ..» إلى آخر الحديث. أي أن الإسلام سوف يُدْرسُ كما يُدْرسُ وشْيُ الثوب، أي تنمحي آثاره وتعاليمه كما تنمحي نقوش الثوب مع الزمن وتختفي. * الشاهد من الموضوع أن التساؤلات المطروحة في مقدمة المقال، لا يمنع مانع من ربطها بهذا الحديث، واعتبارها مؤشرات على أننا ربما نعيش فعلاً هذا الزمن الذي تحدث عنه الرسول الكريم، أو ربما نكون في بدايات تشكّل هذا الزمن أو العهد الذي ستنمحي آثار وتعاليم الإسلام فيه. التقنية في خدمة الإسلام حرفياً لا شيء يمنع أن يكون هذا الزمن هو المعني في الحديث، ولكن سيكون غريباً بعض الشيء. وجه الاستغراب يأتى من كيفية وصول مسلم إلى مستوى معرفي هابط لا يدري فيه عن الدين سوى لا إله إلا الله، بل ربما لا يدري إن كان مسلماً أو ماذا يعني أن يكون مسلماً، في وقت نشهد طفرة علمية معرفية وتقنية غير مسبوقة في تاريخ البشرية، والمرشحة لأن تتطور سريعاً سريعاً في قادم العقود وليست القرون، وبشكل لا يعلم مداها إلا الله. اليوم مثلاً، ومن بعد ثورتي التقنيات والمعلومات اللتين بدأتا منذ أكثر من عشرين عاماً، صار أمر التعليم والتعلم أكثر يسراً وسهولة، والبحث عن المعلومة لا تأخذ منك جهداً كالذي كان قبل ثلاثة أو أربعة عقود مثلاً، وتطبيقات الذكاء الاصطناعي أبرز مؤشرات هذا التطور المتسارع.. فكيف والحال المعرفي والتقني هكذا، ويحدث للمسلمين ما يحدث من جهل بالدين وحقائقه وأساسياته ؟ كيف لمسلم أن يصل إلى ذلكم الفقر المعرفي فيما يتعلق بدينه، واليوم بفضل الله ثم التقنيات المعلوماتية والتواصلية، صار جُل العالم يعرف عن الإسلام والمسلمين أكثر مما مضى، وصار أمر البحث أو الوصول إلى معرفة الإسلام غاية في السهولة، ويحصل الباحث على مبتغاه في أي زمان وأي مكان؟ لقد اهتدى الآلاف إلى هذا الدين بفضل التقدم العلمي والمعرفي الذي نعيشه الآن، ثم صارت تتعلم وتتفقه ذاتياً في الدين عبر هذه الوسائل، دون حاجة للتواصل البشري مع أساتذة وعلماء وفقهاء وغيرهم ممن لهم علم ودراية بالدين وتفاصيله، إلا بعد حين من الزمن. المسلمون يجهلون دينهم أيُعقل بعد كل هذا وفي ظل هذا التقدم المعرفي المذهل أن يجهل المسلم أبسط أساسيات دينه؟ نعم، يمكن أن يصل المسلمون إلى هذا المستوى الهابط في معرفة دينهم، والرسول الكريم لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحيٌ يوحى. ولا شيء يمنع حدوث ما أخبرنا به صلى الله عليه وسلم، وإن كان في اعتقادي رغم ذلك، يحتاج الأمر لبعض الوقت، لكن لا أظنه طويلا ! لو تتأمل معي وتمعن النظر في تلك الجهود المستمرة النشطة، والخطط المحكمة، التي تُبذل هنا وهناك لسلخ المسلمين عن دينهم وعقيدتهم وثقافتهم في مواقع جغرافية شتى، لاسيما العربية منها، وإغراقهم بشتى الملذات والملهيات أو المنغصات والمشكلات، حتى رأينا فعلياً مسلمين لا يدري أحدهم عن دينه سوى لا إله إلا الله في مثل هذا الوقت من التقدم العلمي والمعرفي والتقني البشري الهائل، لوجدت أن من كُنّا نعتقدهم المقصودين في أحاديث آخر الزمان والذين سيأتون بعد قرون عدة أو آلاف السنين من الآن، ما هم إلا نحن مسلمي اليوم ! ماذا يعني هذا؟ يعني أهمية التنبه لخطر مشهد يُراد له أن يتجسد على أرض الواقع، وقد بدأت آثاره بالظهور فعلياً، ومن المحتمل أن تتعمق أكثر فأكثر ما لم نتدارك هذا المشهد ونصححه. نحن اليوم في خطر اتساع دائرة الجهل بالدين، رغم التقدم العلمي والمعرفي والتقني الهائل، والتي من المفترض أن تزيد مستخدميها علماً ونوراً وفهماً، لكن الواقع الحالي للمسلمين يقول غير هذا. علماء وفقهاء الدين توزعت بهم السبل ما بين اتجاه البعض للانزواء والبحث عن الأمان، أو تورط قسم آخر مع القصور ودواوين السلاطين، أو قسم ثالث أراد الإصلاح، فوجد نفسه في غياهب السجون والمعتقلات، وقسم رابع أخير صار ضررهم أكثر من نفعهم. بينما في الوقت ذاته ينتشر دعاة على أبواب جهنم، وتنتشر وتتراكم الأفكار الفاسدة والفلسفات والملهيات هنا وهناك، عن أيماننا وشمائلنا، ومن فوقنا وتحتنا، بل من كل اتجاهات أرضنا ! فاللهم قنا شر الفتن، ما ظهر منها وما بطن. وعلّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علما.
684
| 17 أبريل 2025
بادئ ذي بدء، يمكن القول وفق حساباتنا البشرية، إن ما يحدث من صمود وقدرة المقاومة الإسلامية في غزة على البقاء فاعلاً مؤثراً ميدانياً وسياسياً إلى يوم الناس هذا، على رغم قوة العدو المادية والفارق الهائل بين الطرفين في العدد والعتاد، والدعم الغربي اللامحدود، إلا التسليم والإيمان بأن هناك أمراً ما، يجعل هذه الفئة القليلة المؤمنة ثابتة صامدة، رغم كل الأذى الذي لحق بها وبحاضنتها الشعبية، بل إضافة إلى الصمود، تقارع العدو وتلحق الكثير من الأذى به وبشكل غير مسبوق في تاريخهما. لابد أن هناك بعد كل ما جرى حتى اليوم، أمراً ما في الطريق لأن يحدث ويقع لا محالة.. لن تكون كل هذه التضحيات بلا مشهد قادم يسر المؤمنين، ويكون في الوقت نفسه حسرة على الكافرين ومن معهم من منافقين ومخذلين ومرجفين. إنك حين ترى تحرك قوى رسمية وشعبية، على شكل دول ومؤسسات ومنظمات وجماهير من خارج الملة والإقليم تناصر الحق الفلسطيني، على رغم أن ما يجري قد جرى عشرات المرات، لابد وأن تتساءل عن السر في هذا، ولماذا لم يهدأ العالم؟ الجواب بكل اختصار، أن تدبيراً إلهياً للأحداث جار تفعيله، وهذا التدبير الإلهي هو من يدير هذه الحراكات والحشود، لا يريد لها أن تقف، وفي الوقت نفسه، يدبّرُ أمور المقاومين، ويخلخل صفوف الأعداء والمساندين لهم، ليقضي الله أمراً كان مفعولا، ولا يعلم جنود ربك إلا هو. موجة الإرجاف والتخذيل ما دفعني للحديث عن موضوع اليوم، على رغم كل ما يحدث في العالم من حراك وتفاعل إيجابي مع الحاصل في غزة، وضد الصهيونية وجرائمها، والمجرمين المساندين لها على شكل أفراد وأحزاب ودول، على رغم كل ذلك، أخذت تتصاعد وبشكل فاجر وقح، موجة صهينة غير مسبوقة في عالمنا العربي تحديداً، أو إن صح التعبير، موجة نفاق وتخذيل وإرجاف في الأرض. بدأت رموز متصهينة، كانت إلى تجنب الظهور الكاشف أقرب وإلى زمن قريب، لكن مع تصاعد العدوان على غزة، وبدلاً من أن يتخافت ويختفي صوت أولئك المتصهينين أكثر، وجدناهم يخرجون من جحورهم في جرأة بالغة، يثرثرون هنا وهناك، ينشرون أراجيف وأكاذيب، وصاروا إلى تأييد العدوان ودعمه أقرب. وليت الأمر وقف عند هؤلاء المرجفين والمخذلين من المفكرين والمثقفين بحسب زعمهم، بل بدأ في المنافسة آخرون. حيث دخل هذا النطاق، مشتغلون بالدين على اختلاف درجاتهم وهيئاتهم ووظائفهم ومذاهبهم، فصاروا أشد تشويشاً وتخويفاً وإرجافاً. إن ما يقوم به بعض أولئك المشتغلين بالدين، واستخدام مصطلحات شرعية في غير محلها ووقتها، إنما يأتي في وقت حرج أمست المقاومة بأشد الحاجة إلى كل جهد بشري من المسلمين قبل غيرهم في صدهم لهذا العدوان الصهيوني المتوحش. فما يقوم به بعض علماء الأمة هنا وهناك من جهود لصالح المقاومة، وإن كانت لا ترقى للمستوى المطلوب، إلا أنه رغم ذلك، تجد كثيراً من أولئك المشتغلين بالدين المرجفين والمخذلين، قد زاد نشاطهم في التصدي لتلك الجهود المتواضعة وكأنهم مأمورون بالدفاع عن الصهاينة وتخذيل المقاومة، حتى لم يعد المتابع يفرق بينهم وبين كوهين أو أفيخاي ومردخاي!. هذه الأصوات النشاز، وإن صدرت من ملتحين أو أصحاب عمائم قبل غيرهم من المتصهينين العرب، لابد من التعامل الجاد والحازم معها، فلم يعد الوقت مناسباً للمداراة والمداهنة، فالحق أحق أن يُتّبع. نقول للمرجف والمخذّل، وإن كان ذا قامة علمية أو غيرها، أنت مخطئ وأنك إلى التخذيل والإرجاف أقرب، إن لم تكن أنت منهم. خذوا الحكمة من يهود لا وقت للمجاملات والدبلوماسيات الكاذبة. لابد أن يتكاتف جمهور الحق ضد هؤلاء، أسوة باليهود الصهاينة في هذا المجال، حيث تلاحظ أن المنظمات واللوبيات الصهيونية لا تهدأ ولا تستكين في سبيل كتم وقمع الأصوات المخالفة لروايتها ورؤاها وبكل الطرق والوسائل.. لابد إذن أن نواجه كل أولئك المرجفين والمخذّلين بحملات مماثلة، نكشف فساد توجهاتهم، وسوء فهمهم، ولا يمنع كذلك أن نغلظ القول فيهم، فقد بلغ السيل الزبى. إنّ حكمة اليهود المتصهينين - إن صح وجاز لنا وصف أعمالهم بالحكمة - هدفها الأسمى تبنّي العالم لروايتهم المزيفة، وردع كل من توسوس له نفسه أن يحيد عن النهج الذي مضوا عقوداً في رسمه والتخطيط له. تلك الحكمة، مطلوب أن نتبناها في مجتمعاتنا كذلك، والبدء ببناء وصناعة أوراق من الضغط كثيرة ضد كل متصهين أو من يتوسم فيه التصهين، أو كل مخذّل ومرجف، كائناً من كان، بحيث تكون تلكم الأوراق رادعة لهم أن يبثوا الأراجيف والشائعات ضد قيم الأمة وأهدافها الكبرى، أو المساهمة بأقوال وأفعال التخاذل والتخوين والإرجاف، وملاحقتهم بكل الوسائل وكشفهم للعلن. * لم يعد الوقت يسمح بأكثر من هذا الهدوء في التعامل مع ثلة المتصهينين والمرجفين والمخذّلين، فالأمة تجرعت بما فيه الكفاية من الآلام، وأصابها من المصائب الكثير الكثير، وقد كان المرجفون والمتخاذلون والمدلسون والمتصهينون من أبرز الأسباب، ومرجع ذلك في ظني، عدم الأخذ على أيديهم وردعهم من جانب الأمة عبر مؤسساتها المتنوعة، الشعبية قبل الرسمية، في الوقت المناسب، الأمر الذي دعاهم إلى التعمق في أراجيفهم وأكاذيبهم وتدليساتهم، دون أدنى حياء، أو اعتبار لدين، أو قيم، أو أعراف. صدق من وصف غزة بأنها كاشفة فاضحة، فقد كشفت حرفياً أعداء الأمة من الداخل قبل الخارج، وعرفنا الصادق والأمين من الكاذب واللئيم. وأحسب أن كل هذا الحاصل الآن إنما بفضل من الله، ثم الإخوة المجاهدين في غزة، أصحاب الطوفان الجارف، وحاضنتهم الشعبية الصامدة الأبية، التي نسأل الله لهم صبراً وجبراً وقوة، وأن ينصرهم على عدو الله وعدوهم، ويرينا في مغول العصر، يوماً أسود كيوم عاد وثمود، يشفي به صدور قوم مؤمنين. قولوا اللهم آمين.
426
| 10 أبريل 2025
الشيخ عبدالقادر الجيلاني الذي قال عنه ابن تيمية رحمه الله أنه من أعظم مشايخ زمانه أمراً بالتزام الشرع، والأمر والنهي، وتقديمه على الذوق والقدر، ومن أعظم المشايخ أمراً بترك الهوى والإرادة النفسية، لعب دوراً مهماً هو وشيخه الإمام أبو حامد الغزالي رحمهما الله، في تهيئة جيل كامل سيكون على يديه تحويل مسار الأمة من مسار الذلة والهزيمة، إلى مسار النصر والعزة.. وبما أن الجميع مسلم، يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فما الفكرة إذن من تضييع الأوقات والجهود سدى على خلافات مذهبية أو فكرية، وهناك أراض إسلامية محتلة، وعلى رأسها الأقصى المبارك، يعيث فيها الأعداء فساداً؟ هكذا كان الهم عند الغزالي والجيلاني ومن بعدهما الكثير من المصلحين والمجددين.. * واصل الشيخ الجيلاني السير على خطى شيخه الإمام الغزالي إذن لتوحيد الجهود وضبط البوصلة الإسلامية لتتجه نحو الأقصى، حيث استمر في انشاء وتعزيز مدارس تعلم الدين تحت شعار ( لكل مذهبه الفقهي والفكري، والهدف الأسمى هو تحرير القدس من الصليبيين ) حتى إذا ما انتهى المسلمون من تحقيق الهدف الأسمى، واستقرت الأمور، يمكن فتح المجال حينها لمناقشات فكرية وفقهية وغيرها، إن كان الهدف منها الوصول إلى مشتركات وتفاهمات. أما وأراضي المسلمين مغتصبة، فالانشغال عن تحريرها، لاشك هو منكر عظيم لابد من وضع حد له وتغييره بكل الوسائل الممكنة. عبر تلك العقلية أو النهج، نشأ جيل كامل تربى على تلك المفاهيم في مدارس الغزالي والجيلاني، بعد أن انتشرت في حواضر المسلمين الرئيسية مثل بغداد ودمشق والقاهرة، حتى كان أغلب جند ووزراء ومستشاري الملك العادل نور الدين زنكي من خريجي تلك المدارس، حتى بدا أن الجيل يقترب إلى الجاهزية المطلوبة لتحقيق الأهداف الكبرى للأمة، لكنه يحتاج إلى قائد تربى على النهج نفسه يكمل بهم المسير، فكان هو القائد صلاح الدين الأيوبي، الذي تربى على يد القائد الرباني نور الدين زنكي، فكان النصر وتحرير الأرض بفضل من الله. العدو القديم المتجدد * تدور الأيام ويتفرق المسلمون من جديد، وتضيع نفس الأرض، وتغير العدو هذه المرة. فبعد بعد أن كانت تعيش البؤس والظلم تحت حكم الصليبيين الضالين، تضيع الأمانة بعد سبعة قرون بفعل فاعلين، ومؤامرات متآمرين من غرب وشرق، وتراخ وتخاذل وتهاون من أهل الديار من المسلمين، ليظهر عدو قديم متجدد، اليهود الصهاينة، يكملوا مسير الضالين.. تبدأ فوراً محاولات جهادية مقاومة للعدو اليهودي المتصهين، لكن لم تكن بالمستوى المؤهل لتحرير الأرض، فقد كانت بين مد وجزر، فيما العدو يشتد عدداً وعدة. يأكل من الأرض ما يستطيع بين الحين والحين، حتى تعملق وسيطر وتجبّر.. فكان لزاماً العودة مجدداً لإحياء المفهوم القديم الذي نشره الإمام الغزالي ومن بعده الإمام الجيلاني، والذي على نهجهم سار مجددون كُثُر ومنهم الإمام البنّا، ثم بعدهم يتولى الأمر الشيخ أحمد ياسين، رحمهم الله جميعاً، والذي تتلمذ على منهج الإخوان المسلمين الذي أسسه الإمام حسن البنا، وكلهم طلاب مدرسة محمد صلى الله عليه وسلم. * لعب الإخوان دوراً في الحفاظ على ما تبقى من فلسطين، ومنه قطاع غزة. لكن تكرار محنتهم في مصر عام 1954 ساهم في إضعاف الوجود المصري العسكري في غزة ليحتلها اليهود الصهاينة، ما جعل فكرة المقاومة المسلحة تنضج من جديد في غزة في سبتمبر 1967، وكان من أبرز المنادين بفكرة التجمع وتأسيس حركة مناهضة مسلحة للاحتلال، هو الشيخ أحمد ياسين رحمه الله، بعد أن كان مفهوم مواجهة العدو المتغطرس وتحرير الأرض لا يمكن أن تتم إلا بالقوة، واضحة له وضوح الشمس في رابعة النهار. كان الشيخ ياسين رحمه الله يدرك أن أمر المقاومة المسلحة لعدو كافر متجبر متغطرس، تتطلب تربية إيمانية جهادية وصناعة رجال مؤمنين صادقين، كما كانت المدارس الغزالية والجيلانية ومدارس علماء ربانيين مجاهدين من بعدهما. هذا المفهوم الواضح عند الشيخ ياسين، الذي كان مصاباً بالشلل الرباعي، هو الذي صنع فكرة مقاومة العدو بقوة الساعد والسلاح، بعد التوكل على الله واتخاذ ما يلزم من أسباب القوة، والعمل على تمهيد المسار لتحرير الأرض، حيث اهتم الإخوان في غزة بقيادة الشيخ أحمد ياسين بالبناء التربوي، وفي الوقت نفسه بالبناء الجهادي المادي والمعنوي، بانتظار اللحظة المناسبة التي كانت يوم التاسع من ديسمبر 1987 حين وقعت حادثة دهس متعمدة لأربعة عمال فلسطينيين، فكانت شرارة الانتفاضة الفلسطينية الأولى، والتي أدت إلى أن تشهد الأراضي الفلسطينية غلياناً مشهوداً، ثم يبلغ التوتر حداً أنذر بانفجار أو وقوع حدث ما سيكون له تأثيرٌ بعيد المدى.. فكان ذلكم الحدث هو ولادة حماس، الذي ستلعب دور صلاح الدين الأيوبي بإذن الله. حرب غزة هي البداية لم يمض عامان ونصف العام حتى شكلت حماس جناحها العسكري ليحل محل كتائب « المجاهدون الفلسطينيون» وتم تسمية الكتائب الجديدة تحت مسمى كتائب عز الدين القسام، تيمناً وتقديراً للمجاهد السوري الأصل، عز الدين القسام الذي بذر البذور الأولى لفكرة الجهاد المسلح ضد المحتل، وكان من أشعل فتيل الثورة الفلسطينية الأولى ضد المحتلين عام 1935. الجيل المجاهد في غزة الذي نشأ خلال العقود الثلاثة الماضية على يد الشيخ أحمد ياسين، قضى الآلاف منهم شهداء في مقاومة العدو اليهودي المتصهين، لكن ما زالت هناك آلاف مؤلفة من ذلك الجيل، الذي تربى على حب الجهاد والاستشهاد ينتظر دوره، وآلاف مؤلفة أخرى تنتظر دخول تلك المدارس الإيمانية.. ومع ذلك، فإن تحرير الأقصى وكل فلسطين، بحاجة لآلاف أخرى من أقطار مسلمة تتربى في تلك المدارس وعلى ذلك النهج، تكون جيشاً مؤمناً ربانياً ينتظر قائدا ربانيا على غرار صلاح الدين، أو سيف الدين قطز أو محمد الفاتح وأمثالهم، يقودون هذا الجيش لتحرير الأرض التي بارك الله حولها. استسلام حماس ضمن سياق الحديث عن غزة وأحداثها، لابد من الإشارة إلى طرفة من طرائف المطبعين المتخاذلين، طرحهم فكرة استسلام حماس والتخلي عن أسلحتها، كأبرز شروط عودة الهدوء إلى القطاع ووقف العدوان، لأجل العيش في سلام وإخاء ونماء، والتحول إلى مقاومة سلمية كدويلة أوسلو العباسية، بدلاً من مقاومة مسلحة لا تنفع بل تضر، أو هكذا الزعم وهكذا الدعاية الإعلامية المضادة. لكن لم يدر بخلد كل أولئك أن هذا الجيل لا يرى ما يرون، ولا يفهم ما يفهمون. ولعل هذا يكشف لك سر التكاتف الصهيوصليبي مع الهندوسي مع بعض العربي المتخاذل ضد غزة، أو حماس تحديداً، باعتبارها آخر حركة مقاومة سنيّة في العالم الإسلامي، وشعلة جهادية نشطة من الممكن أن تكون هادية لكل الأمة النائمة أو المنوّمة، لتزيد من مشاعلها الجهادية، وهذا بالتالي دفع كل أولئك الذئاب اللئام للتكاتف من أجل اطفاء هذه الشعلة وبكل الطرق والوسائل، من قبل أن تنير العالم المسلم المظلم.. * خلاصة الحديث، أن المفهوم واضح، والمنهج أوضح، والمدارس الربانية اشتغلت فعلياً في غزة طوال ثلاثة عقود مضت، والمطلوب المزيد منها حول غزة فالأبعد ثم الأبعد، فقد حان أوان مقاومة الظلم والظلام اليهودي المتصهين وكل من يقف في صفه أو يدور في فلكه، بكل الوسائل الممكنة، وقوة السلاح بالطبع على رأس تلك الوسائل. إنّ ما جرى في غزة منذ السابع من أكتوبر الفائت، نعتقد أنها كانت البداية الفعلية لتجسيد دروس التربية الإيمانية الجهادية ومقاومة الظلم على أرض الواقع، وإنه مهما فجر وتجبّر هذا العدو ومن معه، فإن فجورهم وتجبرهم الآن أشبه بالتحركات الأخيرة اليائسة للغريق. نعم إن هذا العدو يغرق، وسيغرق كثيرون معه بإذن الله، وإن بدا للعيان أنه منتصر متفوق، فالعبرة دوماً بالخواتيم. وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.
906
| 03 أبريل 2025
هذه واحدة من الآيات العظيمة في سورة يونس، تصور لك مشهداً من مشاهد القيامة تجعلك تحتقر هذه العاجلة الفانية مرات ومرات. فانية يتقاتل بنو آدم عليها وهي في الحقيقة لا تساوي عند الله جناح بعوضة، ولا تدوم طويلاً مهما بلغ عمرها، ومهما عاش فيها بنو آدم سنوات عديدة وأزمنة مديدة. الحياة الدنيا في حقيقتها ما هي إلا ساعة من نهار، مقارنة بما يراه البشر يوم القيامة. حيث سيدرك بنو آدم متأخرين جداً هذه الحقيقة حين يحشرهم ربهم يوم القيامة، وهم في ذهول من أمرهم، يتساءلون عن سرعة ما جرى لهم وبينهم في الحياة الدنيا ( كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار يتعارفون بينهم. قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله وما كانوا مهتدين ). * إنها صدمة من صدمات يوم القيامة للذين كانت الدنيا أكبر همهم ومبلغ علمهم.. المحشورون مأخوذون بالمفاجأة - كما يقول سيد قطب في تفسير ظلال القرآن - شاعرون أن رحلتهم الدنيوية كانت قصيرة قصيرة، حتى لكأنها ساعة من نهار قضوها في التعارف، ثم أسدل الستار. إنهم يجيئون ويذهبون وما يكاد أحدهم ينتهي من التعرف إلى الآخرين، وما تكاد الجماعة فيهم تنتهي من التعرف إلى الجماعات الأخرى، ثم يذهبون. إنه تشبيه لتمثيل قصر الحياة الدنيا، ولكنه يصور حقيقة أعمق فيما يكون بين الناس في هذه الحياة، ثم يرحلون ! * لاحظ في آيات كثيرة أن البشر يوم القيامة، حين يتساءلون بينهم أو يسألهم سائلا كم كانت مدة لبثهم في الحياة الدنيا، وإن كان قد عاش أحدهم مئات السنين، ستراه يقول: يوماً أو بعض يوم ( قال كم لبثتم في الأرض عدد سنين قالوا لبثنا يوماً أو بعض يوم فاسأل العادين)، وفي مواضع أخرى تقل المدة لتصل إلى ساعة من نهار ( كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار ). هل يعني هذا أن البشر سيدركون متأخرين معنى الوقت، وما هي قيمة الحياة الدنيا إلى جانب الحياة الآخرة ؟ أم أن النوم بالنسبة للنائم ومثله الموت بالنسبة للميت، هو دخول للإنسان إلى حالة يمكن تسميتها بحالة اللا زمن، بحيث لا يدري ولا يشعر النائم أو الميت بالمدة التي قضاها الأول في نومه، والثاني في قبره؟ وبغض النظر عن ماهية الإجابات، إلا أننا هاهنا لسنا في محاولة لفهم فلسفة الوقت أو الزمن ومعناه، بقدر ما هي محاولة للفت النظر إلى نعمة الوقت، أو النعمة المغبون فيها كثير من الناس كما في الحديث الصحيح ( نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة، والفراغ) والفراغ المقصود في الحديث ها هنا يتمثل في إضاعة الوقت سدى، أو في غير ما فائدة تعود على الإنسان، وخاصة إذا علمنا أننا نعيش في دنيا فانية عاجلة، لا تساوي ساعة من نهار، أو يوماً أو بعض يوم مقارنة بالحياة الحقيقية في الآخرة. * حين تتأمل قوله تعالى ( وإن يوماً عند ربك كألف سنة مما تعدون ) وقوله تعالى ( تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ) وهو طول مدة يوم القيامة، لا أشك أن هذه الأرقام ستجعلك أو المفترض أن تجعلك تحتقر الحياة الدنيا مرات ومرات، كما أسلفنا، وبالتالي تجعلك تخفف من التعلق بها أو بشيء فيها، فإن أقصى ما يمكن أن يعيشه الإنسان منا، ولو بلغ أكثر من مائة عام، فإنها فترة لا تساوي ساعة من نهار !! *هل تتخيل معنى هذا؟ الحياة مدتها ساعة من نهار يجهد الإنسان نفسه، وتمضي الساعات والأيام من عمره يفنيها فيما لا يعود عليه بنفع في حياة حقيقية أخروية تنتظره؟ أ لمثل هذه الحياة القصيرة يترك حياة أخروية تنتظره ؟ حياة بلا ساعات وبلا أيام أو بلا زمن؟ لاشك أن الأمر بحاجة إلى مزيد تأمل، وعميق فهم، وإعادة نظر في قيمة الحياة الحقيقية المنتظرة، التي تستحق أن يبذل الإنسان كل دقيقة وثانية من واقعه الدنيوي في بناء مستقبله الأخروي. *خلاصة الحديث إن العبرة ليست فقط في فهم حقيقة قصر مدة الحياة الدنيا، إن كانت ساعة من نهار أو أكثر فحسب، بل ماذا يقدم المرء منا في هذه الساعة القصيرة، لحياة أبدية طويلة، أو بلا نهاية لها؟ هذا ما يجب تأمله طويلاً وعميقاً، وخاصة ونحن في أواخر شهر التأمل، شهر القرآن. عسى الله أن يتقبل منا ومنكم صلاتنا وصيامنا وقيامنا ودعاءنا وصالح أعمالنا. إنه سميع عليم مجيب الدعوات.
552
| 27 مارس 2025
كيف يأمن الناس أن تسير حياتهم طبيعية وهم في غواية وضلال مبين؟ كيف يهدأ لهم بال وتستقيم أمورهم أو يريدونها مستقيمة وهم في اعوجاج وبُعد عن الصراط المستقيم؟ كيف يأمن الناس أن يكونوا على الشاكلة التي كان عليها الأمم السابقة الغابرة التي اندثرت وانتهت من الوجود، دون قليل تأمل وتدبر؟ ألم يهلك الله الأولين بسبب كفرهم وجحودهم وعصيانهم ؟ فما الذي تغير وجعل الأمم اللاحقة تأمن ألا يصيبها ما أصاب أولئك الغابرين؟ لاشك أن مرضاً ما أصاب البشرية أو علة تجعلهم على طريق الغابرين يسيرون. * إنها الغفلة، لا غيرها من علل أو أمراض. الغفلة التي تعيشها البشرية بين حين وآخر بتزيين الشيطان لهم أمورهم، وبث الأمان والاطمئنان في نفوسهم، وهم ربما يكونون قاب قوسين أو أدنى من عذاب مهلك قريب قادم، قد يأتيهم وهم نائمون أو هم في قمة اليقظة. العذاب إن جاء أو نزل، لن يوقفه نوم أو حتى يقظة ( أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتاً وهم نائمون. أو أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون ). * الأمم اليوم بكل أطيافها الدينية أو العقائدية، تعيش غفلة كاملة الأركان. لم تعد أمم اليوم تفرق عن الأمم الغابرة. هي العقليات تتكرر، والنفسيات كذلك. الأمم السابقة الهالكة غفلت عن دورها في الحياة، وتناست ما لأجله خلقها الله، وكذبت الأنبياء والمرسلين، وانكرت المعجزات المختلفة التي جاء بها الرسل الكرام وهم يرونها ويسمعونها دون حواجز أو سواتر، حتى حق عليهم القول، فأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر. أمم اليوم أو هذا العصر، لا تختلف كثيراً عن أولئك الغابرين. التكذيب والجحود والنكران، فضلاً عن الاعتداء على القيم والفطرة الإنسانية، وزيادة شهوة القتل والنهب وإهلاك الحرث والنسل وغيرها من موبقات ومساوئ الأخلاق. والغرابة أن كلها تزداد مع ازدياد وانتشار العلم وسهولة الحياة، ما ينذر باحتمالية تكرار ما وقع قديماً للأمم الغابرة. فما جدوى علم لا ينفع ولا يمنع من الهلاك نهاية الأمر؟ *من كان يعتقد في قوم عاد وهم أقوى أهل الأرض يومئذ في الجسم والعلم والإمكانات، أن تنتهي حياتهم وحضارتهم وكل ما قضوا وأفنوا أعمارهم في بنائه وتشييده والتفاخر به خلال أسبوع واحد بأيامه ولياليه، حتى صاروا كأعجاز نخل منقعر، بعد أن كانت أجسامهم في الطول والعرض والقوة العضلية ما لا يمكن وصفها وتخيلها، حتى وصل الأمر بهم حيناً أن قالوا ( من أشد منا قوة ) من فرط الثقة بقواهم المختلفة، وثقتهم في الواقع كانت في محلها فعلاً، لكنها ثقة عمياء بعيدة عن الحق. *ومن كان يعتقد أن قوم ثمود وهم في القوة والإمكانات كقوم عاد، أن تنتهي قصة حياتهم بصيحة واحدة، والتي يقال إنها صوت فاق الحد الذي تستطيع الأذن البشرية تحمله، ومن شدتها رجفت الأرض من تحتهم، فانتهت كل تلكم الحضارة الثمودية في دقائق معدودات ؟ أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتاً وهم نائمون، أو أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون.. الآية الكريمة – كما جاء في التفسير الوسيط - تحذر الناس من الغفلة عن طاعة الله، وتحثهم على التيقظ والاعتبار « فقد خوفهم سبحانه بنزول العذاب بهم في الوقت الذي يكونون فيه في غاية الغفلة، وهو حال النوم بالليل، وحال الضحى بالنهار، لأنه الوقت الذي يغلب على المرء التشاغل فيه باللذات «. * الآيات نزلت بعد اشتداد مواجهات المشركين في مكة مع الفئة المؤمنة القليلة الصابرة، تقول للنبي الكريم « أفأمن يا محمد هؤلاء الذين يكذّبون الله ورسوله ويجحدون آياته - كما جاء في جامع البيان للطبري - استدراج الله إياهم بما أنعم به عليهم في دنياهم من صحة الأبدان ورخاء العيش، كما استدرج الذين قصّ عليهم قصصهم من الأمم قبلهم «. الآيات وإن كانت تنبيهاً لأهل مكة، وهم يجحدون بآيات الله ويعادون رسوله الكريم، فهي كذلك تنبيه لكل من يأتي بعدهم إلى يوم الدين. ذلك أن الغفلة أمرها عظيم، ومآلاتها خسران مبين.
321
| 20 مارس 2025
يُعلن إبليس بسبب طرده من الجنة ومن رحمة الله، الحرب على آدم وذريته، ويكشف تفاصيل المخطط الخاص بتلك الحرب التي ستقع بعد قليل ( ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين ). هكذا أعلن بكل جرأة ووضوح رؤية، لكنه إعلان اليائس الذي فقد كل أمل في أن يرجع إلى ما كان عليه، حين كان في الملأ الأعلى مكرماً مع الملائكة الكرام البررة. لكن السؤال ها هنا بعد مضي آلاف السنين: هل نجح إبليس وذريته في هذا المخطط؟ وماذا كان يعني إبليس من أن أكثر بني آدم لن يكونوا من الشاكرين لك يا رب ؟ بادئ ذي بدء، يمكن القول إن هذا التحدي أو هذا المخطط الإبليسي قديم قدم البشرية. ذلك أن معسكر الباطل والظلم والفساد في سعي مستمر، وعمل دؤوب لضرب معسكر الحق والإيمان أو معسكر الخير بشكل عام. لكن مع ذلك، لا يمكن القول إن إبليس حقق نجاحاً في هذا الأمر أو هذا المخطط أو هذا التحدي، وفي الوقت ذاته أيضاً، لا يمكن القول إنه أخفق، أو لم ينجح، أو لم يقدر على تحقيق ما أعلن عنه منذ قديم الزمن. إن نظرة على أحوال بني آدم منذ هابيل وقابيل، ستجد فعلاً أكثرهم غير شاكرين لله، غير حامدين له، غير متنبهين لألاعيب وأساليب الشيطان، بل تجد أكثر بني آدم يتبعون خطوات الشيطان، خطوة بخطوة رغم كثرة التحذيرات الإلهية.. لكن هكذا هم البشر. * تساؤل آخر قد يتبادر إلى الذهن وقبل أن نتعمق أكثر ونحن نتأمل هذا الأمر: هل كان إبليس على علم بشيء من الغيب ليقول إن بني آدم سيكون أكثرهم غير شاكرين؟ بالطبع لم يكن يعلم الغيب أو بعضاً منه. لكن كل ما بدر منه أو قاله في التحدي، كان ظناً منه، فوافق الواقع كما في قوله تعالى ( ولقد صدّق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقاً من المؤمنين ). لكن المهم في المسألة، أن إبليس – كما في تفسير الثعالبي – أخبر بأن سَعَايَتَهُ تفعل ذلك ظَنًّا منه، وتوسُّماً في خِلقة آدم حين رأى خِلقته من أشياء مختلفة، فعلم أنه ستكونُ لهم شيمٌ تقتضي طاعته، كالغلّ، والحسد، والشهوات، ونحو ذلك. عَلِم إبليس نقاط الضعف في بني آدم، وأدرك أو فهم تركيبتهم النفسية، وبالتالي أدرك أن مهمته لن تكون عسيرة في دفعهم بعيداً عن الصراط المستقيم، إن هو استطاع استغلال طبيعة بني آدم، أو تركيبتهم النفسية الطامعة الجامحة، والراغبة في كل جديد ومثير وغريب، وسهولة استثارتهم وجذبهم نحو سبيله عبر الشهوات المتنوعة المفطورين عليها. * لكن في الوقت ذاته، يدرك الشيطان أن الأمر ليس بالسهولة المأمولة، بل صعب وعسير، فليس كل بني آدم على الشاكلة التي يتمناها أو كما يتوقع. فهناك فريق من بني آدم، على رغم قلتهم مقارنة بالفريق الكبير المتبع لخطوات الشيطان، لن يكون له عليهم سلطان، مهما حاول وتفنن في أساليبه وطرق الإقناع. إنهم الذين اعتصموا بحبل الله، واتبعوا الصراط المستقيم، وأدركوا مآلات اتباع خطوات الشيطان. إن الصراع بين الخير والشر قديم، بل قصة طويلة ما بدأت لتنتهي سريعاً.. إبليس أقسم أن يجلس لبني آدم كل مجلس وكل موضع، ولا يترك منهم أحداً ( قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم ) أي " لأترصدن لآدم وبنيه على طريق الحق وسبيل النجاة، كما يترصد قطاع الطرق للسائرين فيها – كما جاء في تفسير الوسيط للطنطاوي - فأصدنهم عنها وأحاول بكل السبل أن أصرفهم عن صراطك المستقيم، ولن أتكاسل عن العمل على إفسادهم وإضلالهم". هكذا ديدن الشيطان وذريته مع بني آدم. *لكن مع ذلك كله، يأتيه الجواب الجلي الواضح من رب العالمين ( إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين ). وفي هذا الجواب تتضح معالم المعركة بين النفس البشرية والنفس الشيطانية. لكن خلاصتها أن كل إنسان منا بيده القرار أن يكون في معسكر الخير أم معسكر الشر. يكفيك حتى تتخذ قرارك وتتحدى الشيطان، أن تتأمل قوله تعالى في الآية الكريمة التي توضح لك أقصى ما يمكن لإبليس أو الأبالسة القيام به مع بني آدم ( وقال الشيطان لما قُضي الأمر: إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم ۖ وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي ۖ فلا تلوموني ولوموا أنفسكم). هكذا هو المشهد بكل وضوح. إنه يوسوس ويزين لك فقط وهو يدرك أنك خاسر نهاية الأمر إن اتبعته، وسيكون أول من يتنصل عن مسؤولية خسارتك آخرتك. سيقول لك أمام العالمين بأنه لم يجبرك على شيء، لكن عرض عليك أمراً وأمرين وثلاثة وألفين، فلم تمانع من السير خلفه في أغلب ما عرض عليك من الأمور حتى خسرت آخرتك ( فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ). *خلاصة الحديث: من يتبع خطوات الشيطان، فلا يلومن إلا نفسه. وهذا يدفعنا أن نحاول أنا وأنت وذاك وتلك في شهر التأمل هذا، شهر القرآن، أن نضع الآية الكريمة أمام ناظرينا، كي ندرك مدى قوتنا وإرادتنا في رسم النهاية السعيدة التي نطمح إليها، ونمنع الشيطان أن يرسم لنا النهاية الشقية التي يسعى إليها هو وذريته. اعلم أن القرار بأيدينا وليس بيد شيطان أو غيره.
654
| 13 مارس 2025
لا شك أن كل أحد منا معرّض للفتن، وكل أحد- تبعاً لذلك- قابل للسقوط أو الصمود. لكن وقوع العلماء، من بين كل فئات المجتمع، وقت الفتن والمحن، أشد ضررا على الأمة، وخاصة أننا في زمن الاتصالات وسرعة انتشار الخبر والمعلومة، وبالتالي الخطأ الذي يقع من شخصيات يثق العامة بها، لاسيما علماء الدين، ضرره كبير، مهما تكن محاولات التصحيح والترقيع بعده. إن كثرة الظهور الإعلامي وسيطرة شهوة نيل الشهرة والبقاء تحت الأضواء، أمر في غاية الخطورة لمن لا يحسن التعامل مع كل تلك الأمور بحكمة واعتدال، وأتحدث ها هنا عن كل النوعيات من البشر، سياسيين وفنانين ومفكرين ومعهم علماء دين أو دنيا كذلك. فإن تلك الأمور مثلما ترفع الشخص إلى مستويات ومراتب عليا، قادرة أن توقعه أسفل سافلين، فيفقد أكثر مما كسب وجمع. لقد ساعدت التقنية في الاتصالات والمعلومات اليوم على كشف الكثيرين، وساعدت على رصد كل ما كان منهم وما هو كائن الآن، وصار بالإمكان تسجيل وحصر ما كان عليه أحدهم قبل وبعد. وحديثي هاهنا تحديداً عن علماء أو مشتغلين بالدين، لأن سقوطهم كما أسلفنا، ضرره كبير، ليس عليهم فحسب، بل على الآلاف المؤلفة من العامة الذين وثقوا بهم وعلمهم في سالف الأيام، واحتمالية أن يكون هؤلاء العلماء أو المشتغلون بالدين، عامل تشكيك عند البعض في الدين نفسه، وهو الضرر الأكبر. ليس مطلوباً ولا واجباً ممن استهوتهم الشهرة الإعلامية، والظهور المستمر في المنصات الإعلامية المختلفة، التحدث في كل مجال، أو خوض بحار لا يجيدون السباحة فيها، وخصوصاً علماء الدين باعتبارهم ورثة الأنبياء، كما في حديث طويل «إن العلماء ورثة الأنبياء وإن الأنبياء لم يورِّثوا ديناراً ولا درهماً، إنَّما ورَّثوا العلم، فمن أخذَه أخذ بحظ وافر». وبالتالي يُفترض أنهم على منهج وسبيل الأنبياء يسيرون، أي الحرص كل الحرص على عدم فتح أي ثغرة يمكن أن يتسلل الشك منها إلى نفوس العامة بعدم خوض ما لا يجيدون فيه، وخاصة أننا نعيش عصر التخصص، بما في ذلك الدين. هذه نقطة أولى. النقطة الثانية أن من يقبل الظهور الإعلامي من علماء الدين والبقاء في الأضواء، رغبة في نشر العلم الشرعي وتثقيف الناس وتوعيتهم بأساسيات وفروع دينهم، ألا ينزلق في متاهات ودروب مجالات أخرى تتطلب علماً وفهماً ودراية ووعياً ومتابعة، وألا يتم استدراجه إلى مناطق يتم استنطاقه بطريقة وأخرى لأجل منفعة فئة معينة، ولو على حساب سمعته وشهرته ومستقبله. إن من يقبل الظهور الإعلامي المستمر من علماء دين أو غيرهم من الشخصيات العامة، عليه أن يكون حصيفاً ذكياً حكيماً، لا يخدعه مخادع من الإعلاميين أو المنصات الإعلامية التي تبحث عن الرواج والشهرة على حساب الآخرين. لا شيء أن يظهر أحدنا في المنصات الإعلامية، إن كان يملك فهماً ودراية بالموضوعات التي سيتحدث عنها، بشرط ألا يكون الظهور رضوخاً لضغوطات سياسية أو طمعاً في مكاسب مالية أو رغبة للتوافق والسير وفق المزاج العام السائد في المجتمع، فالكثرة لا تعني الصواب دوماً. الظهور الإعلامي له مكاسبه المتنوعة دون شك. فمن يكتسب شهرة إعلامية تجده ضيفاً دائماً على المنصات هنا وهناك، مع ما يصاحب ذلك من مكاسب مادية تزيد مع ازدياد الشهرة. لكن الخطورة هاهنا لمن لا يتنبه سريعاً لكثرة ظهوره، أن تلكم الكثرة تعني دفعه واقترابه نحو محرقة تنسف ماضيه وربما مستقبله، ما لم يقف ويهدأ حيناً من الدهر، وإلا ستبدأ شهرته فعلياً بالتآكل والضمور تدريجياً، وخاصة إن بدأت تصدر عنه آراء أو مواقف تتصادم مع المزاج العام أو تعمل على اختلاف وانشقاق الناس. * نعم للظهور الإعلامي بشرط الثبات على الحق، ومع الحق في كل زمان ومكان، مهما بدا الباطل جذاباً أو مؤثراً، وهذا أمر أجده غاية في الصعوبة نظراً لاختلاف المواقف والتوجهات بين الحين والحين، ولأنه يحتاج قوة إيمان ووضوح رؤية وثباتا على المبادئ. وقلما تجد هذه النوعية من الثابتين في زمننا هذا، لأن أحدهم إما أن يكون من النوعية التي تخاف على نفسها وأهلها ومالها، وتظن أن قول الحق سيكلفها الكثير، فاختارت الصمت، باعتبار أن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها. وإما من النوعية التي تثبت ولا تتزحزح عن الحق قيد أنملة، مهما اختلفت الظروف والمواقف والتوجهات وكانت الضغوط، وبالتالي تجدها إما أن أفواهها قد كُممت أو أقلامها كُسرت بصورة وأخرى، أو تجدها في غياهب السجون! والأمثلة عبر تاريخنا أكثر مما يمكن حصره وذكره في هذه المساحة. لكن الله غالبٌ على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
786
| 06 مارس 2025
سنّة الله في أرضه التدافع، أو صراع الخير والشر، أو الحق والباطل. حيث تقتضي هذه السنّة وجوب حركة مستمرة لفريق الحق من أجل منع الظلم أن يتغول ويتطاول وينتشر، وإلا فإن الأرض تفسد بفساد فريق الظلم والظالمين. آية التدافع أو مقاتلة أهل الشرك والظلم واضحة، وأنه لولا ما شرعه الله تعالى للأنبياء والمؤمنين من قتال الأعداء، لاستولى أهل الشرك، وعطلوا ما بناه أهل الديانات من مواضع العبادات - كما قال القرطبي في تفسيره - ولكنه دفع بأن أوجب القتال ليتفرغ أهل الدين للعبادة، فالجهاد أمر متقدم في الأمم، وبه صلحت الشرائع، واجتمعت المتعبدات، فكأنه قال: أُذن في القتال، فليقاتل المؤمنون. ثم قوّى هذا الأمر في القتال بقوله (وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس) أي: لولا الجهاد والقتال لتغلب أهل الباطل على أهل الحق في كل أمة. فالآية الكريمة تفيد أن الله تعالى قد شرع القتال لإعلاء الحق وإزهاق الباطل، ولولا ذلك لاختل هذا العالم، وانتشر فيه الفساد. ولأن حقيقة التدافع وضرورته في الحياة الدنيا تحتاج يقيناً راسخاً، انتصرت الفئة المحتسبة القليلة الصابرة التي كانت مع طالوت، ومن بعدهم انتصر المؤمنون في بدر، وهكذا الحال في كل زمان ومكان. كان ويكون. وأنه لولا اليقين الذي ترسخ عند تلكم الفئات القليلة الصابرة بأهمية وضرورة قيامهم بمجاهدة أهل الشرك والظلم الذي كان يمثله جالوت وجنوده، أو أبوجهل ومن معه من عتاة مجرمي قريش، وأنه لولا مجاهدتهم لكل أولئكم المجرمين الظالمين، لربما عاث ذاك الجالوت وجنوده في الأرض فساداً، ومن بعدهم أبوجهل وأمية بن خلف وغيرهم. ومن هنا وجبت مجاهدة أهل الباطل والظلم ودفعهم إلى أضيق الزوايا، كي لا تتاح لهم حرية التحرك والتجول هنا وهناك لإهلاك الحرث والنسل والفساد في الأرض. اليقين المطلوب هذا هو اليقين المطلوب أن يترسخ في أعماق قلوب أبناء هذه الأمة، المجاهدين منهم قبل غيرهم من العاملين في الصفوف الخلفية، أو حتى القاعدين عن الجهاد من أصحاب الأعذار، فإنه بدون ذلكم اليقين فستظل الحقوق مسلوبة، والدماء مسفوكة، والحرمات منتهكة، كما هو الواقع الذي يعيشه كثيرون من أبناء هذه الأمة في شمال الأرض وجنوبها، ومن شرقها إلى غربها. ما جرى في غزة على سبيل المثال وبحسب مصطلحات أهل الإيمان واليقين، هو السيناريو ذاته الذي جرى مع طالوت في مواجهة جالوت، أو أهل بدر في مواجهة مشركي قريش، أو ألب أرسلان في مواجهة مجرمي بيزنطة في ملاذكرد، ومثلهم السلطان قطز في مواجهة وحوش المغول في عين جالوت. مجاهدو غزة، أو الفئة القليلة المؤمنة، واجهت جيش الصهاينة المجرم، عديم الأخلاق والضمير، المدعوم أمريكياً وأوروبياً، وواجهت وتعاملت كذلك بحكمة لافتة للنظر مع خذلان غالبية أنظمة الأمة الحاكمة، وجيوشاً أخرى من المثبطين والمرجفين من النخب المثقفة المفكرة، وهي أبعد ما تكون عن الثقافة والتفكير. الحقيقة الأزلية مواجهة الفئة الغزاوية القليلة، لكل تلكم الجيوش الظالمة الباطلة المستنفرة لقمع الحق وأهله، إنما انطلق من اليقين الذي ترسخ وترعرع في وجدانهم من أن قلة العدد والعتاد ليست عائقاً دوماً نحو النصر في المواجهات الحاسمة، خاصة إن كان مع الفئة القليلة المستضعفة، إسلام وإيمان كالذي كان مع كل الفئات القليلة المستضعفة آنفة الذكر، وعلى رأسهم سيد المرسلين محمد عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام. ما جرى في غزة وما يمكن أن يجري فيها وحولها بعد قليل، سواء بعودة العدوان والهمجية الصهيونية، أو بدء سلسلة الخيانات والمؤامرات من جميع النواحي والاتجاهات والكيفية المتوقعة لتعامل غزة معها، لابد أن تكون كل تلكم الأحداث والمشاهد ضمن مناهج التربية والتعليم في المدارس والجامعات. لابد أن تكون أحداث غزة المنصرمة بكافة تفاصيلها السياسية والعسكرية والنفسية والتربوية وغيرها، مواد أو فصولاً عديدة تُدرس في مواد التاريخ والفلسفة والفكر والتنظيم والإدارة والسياسة، إلى جانب المواد العسكرية في كليات القادة والأركان. لب الحديث أن الحقيقة الأزلية التي لابد من استيعابها وهضمها تماماً، يمكن إيجازها بالقول إن هذا الكون لا يمكن للباطل أن يستقر فيه ويسيطر على مجريات الأمور. الباطل قد يكون له زمنه، يعلو فيه ويسيطر ويَفْجُر في الأرض، لكن أمده قصير مهما طال بغيه وفساده، وتعاظمت قوته ونفوذه. هذا الكون خلقه الله بالحق، ومصمم على أن يعلو فيه الحق لا الباطل، فهذا ناموس إلهي لا يتغير ولا يتبدل (ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون).
594
| 27 فبراير 2025
إن تأملت بعض الشيء في قوله تعالى (بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق) ستشعر كأن الحق جسم مادي صلب يُرمى به فيدمغ الباطل. والدمغ في اللغة هو شج الرأس حتى يبلغ الدماغ. أي أن الحق يهوي على الباطل فيشج رأسه ويزيله من الوجود. هذا التصوير القرآني البديع لمشهد قذف الحق على الباطل، إشارة إلى أن هذا الكون لا يمكن للباطل أن يستقر فيه ويسيطر على مجريات الأمور. نعم، الباطل قد يكون له زمنه، يعلو فيه ويسيطر ويفجر في الأرض، لكن أمده قصير مهما طال، فهذا هو ناموس إلهي في هذا الكون. وهذا الناموس الإلهي هو الذي يصنع يقيناً راسخاً في قلوب وأفئدة المؤمنين بنصر الله، بحيث «لا يخالجهم الشك في صدق وعده؛ وفي أصالة الحق في بناء الوجود ونظامه؛ وفي نصرة الحق الذي يقذف به على الباطل فيدمغه – كما جاء في ظلال القرآن - فإذا ابتلاهم الله بغلبة الباطل حيناً من الدهر عرفوا أنها الفتنة؛ وأدركوا أنه الابتلاء؛ وأحسوا أن ربهم يربيهم، لأن فيهم ضعفاً أو نقصاً؛ وهو يريد أن يعدهم لاستقبال الحق المنتصر، وأن يجعلهم ستار القدرة، فيدعهم يجتازون فترة البلاء يستكملون فيها النقص ويعالجون فيها الضعف. وكلما سارعوا إلى العلاج، قصّر الله عليهم فترة الابتلاء، وحقق على أيديهم ما يشاء. أما العاقبة فهي مقررة (بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق). الصهيونية باطل ينتظر الدمغ خير مثال على الباطل مدار حديثنا، هو المشروع الصهيوني الذي رعته وقامت عليه بريطانيا قبل قرن من الزمان. فإن كانت الصهيونية تعملقت وفجرت في الأرض بدعم الشرق والغرب لها طوال قرن من الزمان، فقد حان الآن موعد زوالها، ففي هذا الكون - كما أسلفنا - لا يُسمح للباطل أن يصول ويجول كيفما شاء، فإن (لكل أجل كتاب) وقد حان أجل الصهيونية. طوفان الأقصى وتوابعه هو نموذج للحق الذي قذفه الله على الباطل الصهيوني بكافة تفاصيله وشخوصه ورموزه ومخططاته وأحلامه. فلقد جاء هذا الطوفان على أم رأس الصهاينة كجلمود صخر حطه السيل من علِ. جاء الطوفان، على رغم ما أثاره الكثيرون حوله من أكاذيب ومزاعم، وما حاول كثيرون آخرون من وقف تقدمه وكبح جماحه، جاء بقدرة قادر لأجل مهمة دمغ المشروع الصهيوني الباطل، ليُكتب على يديه نهاية هذا المشروع الشيطاني الذي اقتربت نهايته بإذن الله، وهذا ليس من منظورنا نحن المؤمنين بنصر الله، ولكن أيضاً من منظورهم هم أنفسهم، الصهاينة ومن يدعمهم. ها هو أحدهم وهو المؤرخ الإسرائيلي إيلان بابيه في مقال له نشره قبل أقل من عام، يشبّه طوفان الأقصى بزلزال ضرب مبنى قديم فتصدع وتشققت جدرانه، حتى صار آيلاً للسقوط في أي وقت. فقال في ختام مقاله: «سواء رحب الناس بالفكرة أو خالفوها، فإن انهيار إسرائيل أصبح أمراً متوقعاً، وينبغي لهذا الاحتمال أن يوجه نحو حوار طويل حول مستقبل المنطقة». ويضيف قائلاً: «سوف يُفرض على جدول الأعمال عندما يدرك الناس، أن المحاولة التي دامت أكثر من قرن من الزمان بقيادة بريطانيا ثم الولايات المتحدة لفرض دولة يهودية مكان دولة عربية، تقترب ببطء من نهايتها. وسيتعين على المستوطنين الاستعداد للعيش كمواطنين متساوين في فلسطين المحررة والمتحررة من الاستعمار». الصهيونية على درب الشيوعية إن أقرب مثال أستحضره دوماً في مقالاتي للاستشهاد به حين الحديث عن الباطل، وأن هذا الباطل لا يدوم مهما طال عمره، هو المشروع الشيوعي الذي رعته دولة كانت عظمى هي الاتحاد السوفيتي منذ بدايات القرن العشرين. فقد تم تأسيس (بنيانه على جرف هار فانهار به في نار جهنم) ولم يكن ذلك المشروع إلى العدالة أو المنطق البشري ينتمي، بل متصادم مع الفطرة ومع إرادة الله في أرضه وخلقه، وما بُني على باطل فهو باطل. ما عاش المشروع ولا الدولة الراعية، بل انهارت تلكم الدولة في غضون سبعين عاماً، وتفتتت الجمهورية السوفيتية، أحد القطبين المتحكمين في العالم طوال ذاك القرن إلى خمس عشرة دولة. فقد أرسل الله إلى ذلك الباطل، الحق الذي تمثل في الجهاد الأفغاني، كي يدمغ الشر الشيوعي ويشج أم رأسه، فكان سبباً في انهيار ذلك الباطل. والصهيونية دون أدنى ريب، تسير على خطى الشيوعية في مسألة التأسيس وكذلك الزوال، الذي بات أقرب مما مضى. اليوم وقد أرسل الله الحق الفلسطيني في السابع من أكتوبر 2023 لأجل أن يدمغ باطل الصهيونية، ويشج رأس كل داعميه، حتى وإن بدا للعالم ظاهرياً غير ذلك، إلا أن الطوفان إشارة إلى أن الناموس الإلهي لا يقبل غلبة الباطل، بل الحق فقط. أما الباطل فعليه أن يزهق ويزول، عاجلاً أم آجلا. الجانب الخفي، أو الذي يُراد له أن يكون مخفياً، من كل ما جرى منذ أحداث السابع من أكتوبر قبل عام ونصف العام، هو ذلكم التصدع الذي أصاب كيان الاحتلال بصورة ليس لها مثيل، حتى صار العدو نفسه يعترف به، وإن كنت أعجب من بعض بني جلدتنا من لا يزال يحاول دعم هذا الباطل بكل صورة ممكنة، وبشكل ممجوج سخيف. لكن رغم كل محاولات الشرق والغرب في إنقاذ المشروع الصهيوني، إلا أن وعد الله قائم يمنع الباطل أن يطول أجله. ولقد حان أجل هذا المشروع الباطل عما قريب، بل ربما بزواله تزول قوى وأنظمة أخرى فعلت المستحيل لإبقاء جذوة الصهيونية مشتعلة بالمنطقة، لكن الحق أحق أن يُتّبع (وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون).
783
| 20 فبراير 2025
فكرة الإخوان المسلمين لم تكن قد نضجت بعد في فلسطين إلا بعد أن رأى أهلها شجاعة وحماسة واستبسال كتائب الإخوان في حرب 1948 ضد الصهاينة المحتلين، خاصة في غزة التي بقيت تحت حماية الجيش المصري، والذي كان لكتائب الإخوان دورها في الحفاظ على غـزة، بعد أن ضاعت أجزاء كثيرة من فلسطين بفعل الدعم الغربي للعصابات الصهيونية. النفوس في فلسطين بعد تلكم المعارك، بدأت تبحث عن السر الذي جعل تلك الكتائب بهذه الروح في تلك المعارك، فوجدت أنها الروح نفسها التي دفعت ابن الوليد وسعد والزبير والمقداد، ومن بعدهم صلاح الدين وقطز وألب أرسلان ومحمد الفاتح، فكانت قصص تلك الكتائب في تلك المعارك بدايات زرع فكرة الإخوان في فلسطين، حيث بدأت دعوة الشيخ البنا تصل وتنتشر تدريجياً. لكن تكرار محنة الإخوان المسلمين في مصر في عام 1954، أضعف الوجود المصري العسكري في غزة فاحتلها الصهاينة من جديد، ما جعل فكرة المقاومة المسلحة تنضج من جديد في غزة في سبتمبر 1967، وكان من أبرز الذين نادوا بفكرة التجمع وتأسيس حركة مناهضة للاحتلال، الشيخ أحمد ياسين رحمه الله. بقيت الفكرة في القلوب والأفئدة لمدة عقدين من الزمن، اهتم الإخوان خلالها بقيادة أحمد ياسين بالبناء التربوي وفي الوقت نفسه الجهادي، حتى جاء يوم التاسع من ديسمبر من عام 1987 حين وقعت حادثة دهس متعمدة لأربعة عمال فلسطينيين، فكانت شرارة الانتفاضة الفلسطينية الأولى، وأدت إلى أن تشهد الأراضي الفلسطينية غلياناً مشهوداً، ويبلغ التوتر حداً ينذر بانفجار أو وقوع حدث ما سيكون له تأثير بعيد المدى.. ويمكن القول ها هنا إن ذلكم الحدث كان ولادة حماس عبر البيان الأول لتأسيس حركة المقاومة الإسلامية حماس، والإعلان بأنها جناح للإخوان المسلمين وامتداد لهم. يقوم الشيخ أحمد ياسين الذي كان مصاباً بالشلل الرباعي، بدوره التربوي والقيادي المؤثر، رغم الإصابة، ويستمر في استلهام خطوات مؤسس الجماعة الشيخ حسن البنا في دعم وتقوية وبناء الجناح الفلسطيني أو الغزاوي لجماعة الإخوان المسلمين. ولم يمض عامان ونصف العام حتى شكلت حماس جناحها العسكري ليحل محل كتائب «المجاهدون الفلسطينيون» وتم تسمية الكتائب الجديدة تحت مسمى كتائب عز الدين القسام، تيمناً وتقديراً للمجاهد السوري الأصل، عز الدين القسام الذي بذر البذور الأولى لفكرة الجهاد المسلح ضد المحتل، وكان من أشعل فتيل الثورة الفلسطينية الأولى ضد المحتلين عام 1935. حماس مشروع أمة منذ ظهور حماس، والعدو الصهيوني فاقد لراحة باله، فالحركة لم تخضع ولم تركع لكل محاولات التدجين كما حدث مع فصائل فلسطينية أخرى، التي رأت أن تقاوم سلمياً عدواً متوحشاً لا يعترف بأغصان زيتون ولا غيرها من الأشجار الأخرى أو وسائل المقاومات السلمية، حتى باتت العنصر المؤثر في القضية الفلسطينية، والرقم الصعب، الذي أشغل كل العالم. هذا العالم أو النظام العالمي الذي ثبت بالتجارب والوقائع أنه لا يعترف ولا يتعامل إلا بالوسيلة التي هو يتعامل بها مع الآخرين. القوة لا غيرها. هذه باختصار قصة امتداد حركة الإخوان المسلمين نحو فلسطين وقصة ظهور حركة حماس من رحم هذه الجماعة، التي دخلت فلسطين منذ ثلاثينيات القرن العشرين، وإن ما يحدث الآن في فلسطين، لا سيما غزة، إنما هو امتداد لمعركة الحق والباطل. معركة الشر والخير. حركة المقاومة الإسلامية في غزة، اجتمع العالم كله، بما في ذلك العالم العربي، على سحقها ووأدها بكل الطرق والوسائل، لأن بقاءها هو ترسيخ لفكرة المقاومة والجهاد في هذا العالم، الذي سعى النظام الدولي وما زال يسعى منذ قرن من الزمان أن يسيطر على العالم ويوجه الأمور فيه كيفما شاء هو، لا كيفما يريده الآخرون، وبعد أن بذل جهده لعقود عديدة لبعثرة هذه الأمة بإلغاء ما كان يتجمع المسلمون تحت لوائها وهي الخلافة، ومن ثم تقسيم الأمة وتشتيت أمرها وقوتها، باعتبار أنها الأمة الوحيدة التي تملك القوى الكامنة اللازمة لقيادة العالم من جديد. وأحسبُ أن المقاومة المسلحة في غزة وبشكل مختصر، عبارة عن مشروع إحياء الأمة، وإنّ تركها وشأنها لن يكون في صالح النظام الدولي ومن يسير في فلكه بأي صورة من الصور، وبالتالي لابد من منع ذلك بكل الطرق، ووأد أي مشروعات من شأنها إعادة هذا الأمر أو إحياء أمل القيادة. والأيام ستثبت ذلك. حماس حركة مقاومة شرعية حماس أعلنت للعالم خلال طوفان الأقصى بأنها حركة مقاومة ضد احتلال غاشم قائم، وليست ضد أي دين أو فكر أو ثقافة أو عرق. الناس سواسية عندها كما هو واضح بيّن في ديننا الحنيف، الذي هو دين حماس، ودين الإخوان المسلمين، فلا دين لهذه الجماعة غير الإسلام الحنيف كما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم. إنها حركة مقاومة ضد احتلال. لا إرهابية كما تزعم بعض أنظمة حكم غربية وعربية. وستكون كذلك طالما بقي المحتل في غزة، سواء الصهيوني أو من يفكر في القيام بذلك، مثل التاجر المهووس بالمال ترامب، الذي يعتقد أنه بالمال يمكنه فعل ما يريد.. إنّ أي حركة مقاومة ضد محتل، جائزة في الشرائع السماوية، وجائزة في القانون الدولي الحديث أيضاً - إن كان العالم إلى الآن يعترف بمثل هذا القانون - وبالتالي لا فرد ولا مؤسسة ولا أي دولة قادرة على أن تقول عن حركة حماس إنها حركة تعمل بعيداً عن هدفها الرئيسي المشروع، وهو مقاومة احتلال بغيض دام أكثر من سبعة عقود، ومن يقول بغير ذلك، إما صهيوني أو متعاون معها، وإن كان مسلماً ! إنّ بقاء فكرة المقاومة التي أحياها الشيخ حسن البنا، مؤسس جماعة الإخوان المسلمين، أكبر الحركات الإسلامية التي ظهرت في القرن العشرين، إنما هو اقتداء بأسلافنا من القادة والزعماء، وقبلهم الأنبياء، وبالتالي هي فكرة ترعب خصوم وأعداء الأمة، ومن ضمنهم منافقيها وهم على شكل نخب فكرية ومثقفة وعلماء سلاطين باعوا دينهم بدنيا غيرهم. لقد رأوا جميعهم منذ قديم الزمن ما يفعل الإيمان في المعارك والمواجهات الحاسمة، والتاريخ سجّل ما حصل في الخندق والقادسية وملاذكرد وعين جالوت.. إنها المقاومة التي صنعها الإيمان واليقين بنصر الله سبحانه من بعد اتخاذ كافة الأسباب والوسائل، وهو الفهم الذي عليه الإخوان المسلمون ومنها حماس. الفهم الذي لا يُراد له أن ينتشر بين جموع الأمة، بل ويتم محاربته بكل الصور والأشكال (ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله ).
1389
| 06 فبراير 2025
العنوان أعلاه جزء من قول مأثور للفاروق عمر - رضي الله عنه - في نقاش حازم مع أحد ملوك الغساسنة وهو جبلة بن الأيهم، بعد حادثة لطمه لرجل من عوام بني فزارة أثناء الطواف بالبيت، ما أغضب الفزاري حتى اشتكاه إلى الخليفة العادل عمر، فبعث اليه وسأله: ما دعاك يا جبلة إلى أن لطمت أخاك في الطواف فهشمت أنفه؟ قال جبلة: لستُ ممن ينكر، أو يكتم شيئاً. أنا أدَّبتُ الفتى وأدركتُ حقي بيدي ! قال عمر: أيُّ حقّ يا ابن أيهم؟ يريد أن يقول عمر لجبلة بأن مثل هذه المفاهيم لا محل لها عنده، يُقهر المستضعف أو يُظلم.. هي جاهلية وأزحناها من حياتنا يا جبلة، والكل سواسية أمام شرع الله. * حديث الفاروق لم يعجب جبلة وكان صدمة أولى له. هذا الذي عاش ملكاً قبل الإسلام، ويريد أن يكون كذلك بعد الإسلام ملكاً يعامل الآخرين كالعبيد كما كان في جاهليته. ثم كانت الصدمة الثانية حين أصدر عمر حكماً للرجل الفزاري أن يقتص من الملك، حسب قانون العين بالعين والسن بالسن.. يلطمه الرجل ويهشم أنفه. قال جبلة: كيف ذاك يا أمير المؤمنين؟ هو سوقة وأنا صاحب تاج. إنني عندك أقوى وأعز. أنا مرتد إذا أكرهتني. قال عمر: «عالمٌ نبنيه، كل صدع فيه بشبا السيف يداوى، وأعـزٌّ الناس بالعبد بالصعلوك، تساوى». لم يستوعب جبلة ما كان يعنيه عمر. لم يفهم أن الإسلام ساوى بين الناس، وأنه لا فرق بينهم إلا بالتقوى. ولم يفهم أن الارتداد عن الدين يستوجب حداً شرعياً إن هو أقدم عليه.. فما كان من جبلة إلا أن طلب من عمر أن يمهله إلى الغد. حتى إذا انتصف الليل هرب نحو القسطنطينية حيث هرقل الروم، مرتداً عن دينه ! فلما أصبح الناس، طلبه الفاروق، فعلم أنه فر إلى حيث إمبراطور الروم. لكن عمر لم يهتم به ولا مسألة ارتداده عن الإسلام، حتى وإن كان ملكاً من ملوك العرب، واحتمالية ارتداده عن الدين أن تؤثر على ردة ألوف من قومه معه. * الفاروق رضي الله عنه يدرك ويوقن تمام اليقين أنه في فترة تأسيس وترسيخ قواعد العدالة في دولة فتية، وإن أي تهاون في ذلك أو تأجيل هدم قيم الجاهلية غير المتوافقة مع الدين الجديد، ومنها تعطيل العدالة لصالح كبراء وعلية القوم وإضاعة حقوق ضعاف المسلمين، إنما يعني بناء الدولة على أسس هشة غير صلبة، أو أشبه بتأسيس بنيان على جرف هار يوشك أن ينهار بالبنيان في أي لحظة. الدول تبقى وتستمر بالعدالة، بغض النظر عن دين أهلها ومعتقداتهم. يروى عن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قال:» الناس لم يتنازعوا في أن عاقبة الظلم وخيمة، وعاقبة العدل كريمة، والله ينصر الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا ينصر الدولة الظالمة وإن كانت مؤمنة «. الدول تنهار حين يتم الإساءة إلى قيمة العدالة بالتهاون أو التغييب، والتي تعني فتح الباب واسعاً أمام تغول الظلم وانتشاره، مع ضمور تدريجي للقيم الفاضلة بالمجتمع، ولعل ما سمع العالم به قبل أيام من قيام الرئيس الأمريكي الصهيوني بايدن بإصدار عفو رئاسي عن خمسة أفراد من عائلته، رغم ثبوت قيامهم بجرائم مختلفة، هو نموذج للتلاعب بقيم العدالة، حيث أراد حمايتهم من أن يصبحوا هدفاً لتحقيقات اعتبرها ذات دوافع سياسية، وهو تبرير أقبح من الذنب، رغم وجود آخرين كثيرين أصابهم الظلم وهم أحق بالعفو. * ولمزيد من تأكيد التلاعب بالعدالة، أصدر قرارات بالعفو عن جميع المشرعين الذين كانوا أعضاء في لجنة الكونغرس المعنية بالتحقيق في اقتحام مبنى الكونغرس من جانب مؤيدي ترامب بعد خسارته السباق الرئاسي في 2021 ، خشية أن يلاحقهم الرئيس الجديد الذي ثار معلقاً على القرار بأنه مخز، وأن كثيرين من المستفيدين منه ارتكبوا جرائم كبرى، لكن الطريف أن ترامب نفسه وقّع في اليوم الأول من حكمه على عفو رئاسي عن أولئك المشاركين في اقتحام مقر الكونغرس، ما يشير إلى أن العدالة فعلياً بدت ضائعة، وخرج المحققون والمتهمون من القصة وضاعت القضية الأساسية في خضم هذا التلاعب، إلى جانب كثير من القيم التي كانت الولايات المتحدة تتفاخر بها على العالم، ضاعت أيضاً خلال العدوان على غزة دون كثير شروحات وتفصيلات، فالعالم رأى وعاين وشاهد، والأدلة متوفرة في كل مكان. * الشاهد من الحديث أن ما قام به الفاروق وهو يسير على درب حبيبه المصطفى – صلى الله عليه وسلم – وشدته في الاقتصاص للمظلوم من ظالمه، كان يريد أن يرسّخ في الأذهان وإلى يوم الدين، معنى أن يعيش الناس أحراراً آمنين مطمئنين، لا يظلمون ولا يُظلمون، وأنه لا ذات مصونة أمام القضاء أو الشرع. الكل أمام الشرع سواسية. لا يوجد أي سبب يدعو للتفاضل بين الناس في مسألة العدالة. لا منصب، ولا مال، ولا جاه، ولا حسب أو نسب. وهذا يفسر لك لماذا يخاف كثيرون أن يحكم الإسلام كما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، سواء كان الخائفون من أمة محمد أو من هم خارجها..
702
| 23 يناير 2025
إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم. حقيقة حياتية لا ريب فيها. والآية الكريمة إشارة واضحة إلى أن تغيير واقع ما نحو الأفضل، إنما يتطلب أولاً أن يقع التغيير في الذين يقومون على أمر ذلك الواقع، سواء كانوا على شكل أفراد أو على هيئة كيانات سياسية، إدارية، مالية أو غيرها. وبصورة أكثر وضوحاً، على شكل شركات، وزارات، دول، أمم وغيرها. يحكى أن ملكاً كان يحكم دولة واسعة جداً، وأراد هذا الملك القيام برحلة برية طويلة ذات يوم. وبعد أن قطع شوطاً في الرحلة، بدأ في رحلة الرجوع، وخلال العودة وجد أن قدميه تورمتا بسبب كثرة المشي في الطرق الوعرة، فأصدر أمراً يقضي بتغطية كل شوارع المملكة بالجلد ! لكن أحد المستشارين حوله، أشار عليه برأي آخر وجده أفضل مما ذكره الملك نفسه، وهو صناعة قطعة جلد صغيرة تكون تحت قدمي الملك فقط تمنع تورم قدميه. فارتاح الملك وأراح من كان حوله من عمل ضخم بلا جدوى، فكانت تلك الفكرة أيضاً بداية صناعة الأحذية - أعزكم الله. العبرة من القصة أنه إذا ما أردت أن تعيش سعيداً في هذه الحياة، فلا تحاول تغيير كل الحياة أو كل العالم، بل ابدأ مشروع التغيير في نفسك أولاً، وابذل جهدك عليه، ومن ثم ابدأ في تغيير ما حولك من بشر وحياة بقدر ما تستطيع. إن أراد نفرٌ تغيير واقع شركة مفلسة مثلاً، أو وزارة فوضوية أو حتى دولة متدهورة أحوالها، فلا بد أن يحدث التغيير أولاً فيمن سيقومون على أمر التغيير. سواء كان على شكل إعادة تأهيلهم وتدريبهم، أو حتى ابعادهم عن مواقع الإدارة والمسؤولية. ومن ثم يتم بعد ذلك تغيير الأنظمة والإجراءات والقوانين في تلك الكيانات. وهكذا، يكون أولئك النفر قد بدأوا الخطوات الأولى في تجسيد الآية أو أحد أبرز قوانين التغيير الحياتية ( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ). تغيير الكيانات البشرية إلى الأفضل حسب هذا القانون، يتطلب أن تطول عمليات التغيير كل الفاسدين والظلمة، والمرجفين والمنافقين، وكذلك المستفيدين من أوضاع التردي وأشباههم كثير كثير. إن مثل هذه التغييرات لا يمكن تحقيقها بالأماني والأحلام. بل بعمل صحيح ووفق رؤى سليمة بعيدة، وعلى أيدٍ مخلصة أمينة، ترى التغيير هو الحل الأنجع والأنجح في تغيير واقع سلبي محبط كئيب، إلى واقع آخر مشرق إيجابي سعيد. التغيير لا يمكنه أن يكون فاعلاً واقعاً ذا تأثير عميق ما لم يكن ناتجاً عن رغبة عارمة جازمة حازمة، وفيما غير ذلك لن يكون القيام بالعملية التغييرية بالصورة المثالية من تلك التي ترى أثرها إيجابياً على الواقع المراد تغييره. إذن واحدة من شروط التغيير الأساسية أن يكون بناء على رغبة عارمة في إحداث التغيير. وكلمة عارمة تفيد هذا المعنى. أي أن تتكون لدى راغبي التغيير، نهمٌ وشغف بتغيير ما يرغبون في تغييره، بحيث لا يمكن أن يحول بينهم وبين التغيير حائل، أو يمنعهم مانع. بهذه الروح وبهذا التصميم وذاك الحزم، ستتغير الأمور والوقائع، لأن هذا هو المنطق السليم في التغيير كما بينته الآية الكريمة. نقطة البداية تكون من الداخل، سواء كانت على شكل أفراد أو لوائح وإجراءات أو أخلاقيات وقيم أو غيرها من عوامل التدهور والواقع السيء الذي عليه الكيان المراد تغييره، وتغيير ما يحيط به. ثم بعد ذلك ينتقل التغيير تدريجياً نحو الخارج أو المحيط.. ولنا في رسولنا الكريم الأسوة والقدوة الحسنة. لاحظ وبتوجيه إلهي، كيف بدأ تغيير واقع متكلس جاهل غارق في الظلم والفوضى، ونقله إلى واقع آخر بشكل مختلف تماماً. فهو صلى الله عليه وسلم بدأ بعملية التغيير من الداخل أولاً، فأنذر عشيرته الأقربين، وشرح لهم دعوته. هكذا بدأ بهم ثم توسع تدريجياً في اختيار من سيكون لهم أدوارهم المؤثرة قريباً في عملية تغيير واسعة شاملة، وهكذا تدريجياً خلال سنوات ثلاث حتى اكتملت العملية بفضل من الله، لتتواصل عمليات التغيير يوماً بعد آخر وتكتمل خلال ثلاثة وعشرين عاماً حافلة، ليأتي عليه الصلاة والسلام ويقرأ على أصحابه ( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ). والله سبحانه كفيلٌ بكل جميل، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
606
| 16 يناير 2025
مساحة إعلانية
ليش ما يمديك؟! بينما ممداني زهران، الشاب ذو...
16383
| 11 نوفمبر 2025
ماذا يعني أن يُفاجأ أولياء أمور بقرار مدارس...
7473
| 11 نوفمبر 2025
العلاقة العضوية بين الحلم الإسرائيلي والحلم الأمريكي تجعل...
3798
| 10 نوفمبر 2025
تستضيف ملاعب أكاديمية أسباير بطولة كأس العالم تحت...
2967
| 11 نوفمبر 2025
على مدى أكثر من ستة عقود، تستثمر الدولة...
2115
| 11 نوفمبر 2025
تشهد الصالات الرياضية إقبالا متزايدا من الجمهور نظرا...
1893
| 10 نوفمبر 2025
تحليل نفسي لخطاب سمو الأمير الشيخ تميم بن...
1533
| 11 نوفمبر 2025
عندما صنّف المفكر خالد محمد خالد كتابه المثير...
1122
| 09 نوفمبر 2025
يبدو أن البحر المتوسط على موعد جديد مع...
1038
| 12 نوفمبر 2025
في عالم تتسابق فيه الدول لجذب رؤوس الأموال...
1014
| 13 نوفمبر 2025
شكّلت استضافة دولة قطر المؤتمر العالمي الثاني للتنمية...
978
| 09 نوفمبر 2025
يشهد العالم اليوم تحولاً جذريًا في أساليب الحوكمة...
891
| 10 نوفمبر 2025
مساحة إعلانية