رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

Al-sharq

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

الشرق

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

في حتمية المُراجعات.. الحديث النبوي مثالاً

هذا واحدٌ من تلك المقالات التي يجب أن يتابعها القارئ إلى النهاية، وإلا فسيكون الأجدى ألا يقرأها على الإطلاق."إن الله احتجزَ التوبة عن صاحبِ كل بدعة"، "يجيء يوم القيامة ناسٌ من المسلمين بذنوب أمثال الجبال، يغفرها الله لهم، ويضعها على اليهود"، "ما صلَّت امرأةٌ من صلاة أحبﱠ إلى الله من أشد بيتٍ في مكانها ظُلمة"، "تكون إبلٌ للشياطين، وبيوتٌ للشياطين"، "اتقوا الله فإن أَخوَنَكم عندنا مَن طلبَ العمل".الأحاديث السابقة هي من الأحاديث التي قرر الراحل الشيخ ناصر الدين الألباني أنها (صحيحة). والذي يقرأ الأحاديث المذكورة يجد فيها (تعاليم) تتعلق بطريقة حياة الإنسان وطريقة تعامله مع الله ومع نفسه ومع أخيه الإنسان، ومن المؤكد أن هذه التعاليم أثرت في ملايين المسلمين على مدى سنوات طويلة. فالحديثُ الأول مثلاً يمكن أن يكون سبباً ليأس (صاحب البدعة) بشكلٍ نهائي في رحمة الله، وفي إعراضه عن التوبة وغرقه في (معاصيه) التي قد يكون فيها كثيرٌ من الإفساد في الأرض. أما الثاني، فيوحي بأنه يمكن للمسلمين أن يرتكبوا ذنوباً لا حدﱠ لها على هذه الأرض، ويكون في هذا ما فيه من فسادٍ وإفسادٍ عليها، ثم إن الله لا يغفر لهم كل ذلك فقط، لأنهم مسلمون بالاسم، بل ويُحوﱢل رصيد الذنوب فيُلقيه سبحانه وتعالى على اليهود، فقط لأنهم يهود. وهكذا، توحي الأحاديث الأخرى بتعاليم تؤثر جذرياً في كيفية تفكير المسلمين بالقضايا المتعلقة بمضمونها، وبالتالي في طريقة حياتهم في كثيرٍ من المجالات، بشكلٍ مباشر أو غير مباشر.هناك أيضاً مجموعة أخرى من الأحاديث التي ذكر الشيخ الألباني أنها (ضعيفة)، من المفيد الاطلاع عليها في هذا المقام، وهي كالتالي:"أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بحدﱢ الشفار، وأن تُوارَى عن البهائم، وقال: إذا ذبحَ أحدكم فليُجهز"، "لا تُشدﱢدوا على أنفسكم فيُشددَ عليكم، فإن قوماً شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم، فتلك بقاياهم في الصوامع والديار"، "أفضلُ الصدقة إصلاحُ ذات البين"، "لا تكرهوا البنات، فإنهن المؤنسات الغاليات"، "اتقوا الله، واعدلوا بين أولادكم، كما تحبون أن يبرﱡوكم"، "لقد تاب توبةً لو تابها صاحبُ مُكس (أي أرض)، لقُبلت منه (يعني ماعزاً)"، "إذا أديت زكاة مالك فقد أذهبتَ عنك شره".الأحاديث السابقة أيضاً تحوي تعاليم تتعلق بحياة الإنسان فيما يتعلق مثلاً برحمة البهائم عند ذبحها، وبالأثر السلبي للتشدد في الحياة، وتقدير عملية التوفيق بين الناس لدرجة تشبيهها بأفضل الصدقة، والقيمة الإيجابية للبنات لدى الأهل، وضرورة أن يعدل هؤلاء الأهل بين الأبناء بشكلٍ عام، وبسعةِ رحمة الله فيما يتعلق بالتوبة، وقيمة الزكاة ومعناها الحقيقي.والمؤكد أن (تضعيف) هذه الأحاديث جعل كثيراً من المسلمين يزهدون في المعاني والتعاليم الموجودة فيها، بشكلٍ أثرَ كثيراً، ليس فقط في حياتهم الشخصية، بل وفي حياة أسرهم وأبنائهم، والعالم من حولهم بشكلٍ عام.ماذا نقصد من العرض السابق؟نقصد أن (دزينة) أحاديث، هي مجمل الأحاديث الواردة أعلاه، يمكن أن تُشكِّل منظومة حياة وتفكير لدى عشرات الملايين من المسلمين الذين اطلعوا عليها بشكلٍ أو بآخر. ومن الطبيعي لتلك المنظومة أن تكون قد خلقت واقعاً عملياً، في العديد من مُجتمعات المسلمين، له الكثير من الخصائص الاجتماعية والفكرية والاقتصادية والتربوية.هذا استنتاج طبيعي فيما نعتقد، ولا نظن أحداً من القراء الأكارم يجادلون فيه.ثمة أمرٌ واحد نريد ذكره قبل الاستطراد في المقال: إن الشيخ الألباني رَاجعَ على مدى سنوات رَأيهُ في الأحاديث السابقة، ثم إنه قام بـ (تضعيف) كل الأحاديث التي كان يعتبرها (صحيحة)، والواردة في المجموعة الأولى أعلاه. كما أنه قام بـ(تصحيح) كل الأحاديث التي كان يعتبرها (ضعيفة)، والواردة في المجموعة الثانية.حسناً، من المؤكد أن طريقة الحياة والتفكير، لدى ملايين المسلمين، ستختلف كثيراً بين الحالتين، بمعنى أن قبولهم بصحة وضعف الأحاديث، قبل المراجعات، سيؤدي لطريقة تفكيرٍ وحياة معينة، هي أبعد عن روح القرآن وتعاليمه. في حين أن قبولهم بصحة وضعف الأحاديث نفسها، بعد المراجعات، سيؤدي لطريقة تفكيرٍ وحياةٍ مُختلفة إلى حدٍ كبير، هي أقرب إلى روح القرآن وتعاليمه.ماذا إن كان التغيير المذكور في الحكم بـ(الصحة) و(الضعف) ينطبق على عدد أكبر بكثير من الأحاديث؟ هذا هو الواقع فعلاً.في كتابه (تراجع العلامة الألباني فيما نص عليه تصحيحاً وتضعيفا)، من نشر مكتبة المعارف في الرياض، أجرى المؤلف (أبو الحسن محمد حسن عبد الحميد الشيخ) دراسة للموضوع، أحصى فيها ما يُسمى في أوساط علم الحديث (تراجعات الألباني). وعلى مدى جزءين، بحث الرجل بشكلٍ شامل في الموضوع، وعرض عشرات الأحاديث التي تحدث الشيخ الألباني أنه غَيَّرَ حكمه فيها. لكن المؤلف بحث بشكلٍ إضافي، فزادَ في الجزء الثاني أحاديث وجدَ أن الشيخ غير أيضاً حكمه فيها في كتبه، لكن الفرصة لم تسنح له للنص على ذلك لسببٍ أو لآخر.وفي الجملة، وجد المؤلف أن مجموع ما تراجع عنه الشيخ من التصحيح إلى التضعيف يبلغ 44 حديثاً، في حين بلغ مجموع ما تراجع عنه من التضعيف إلى التصحيح 247 حديثاً. يجب التنبيه هنا إلى أن جُهد المؤلف علمي بحت، وهو لم يأتِ في مجال النقد أو الاعتراض بأي شكلٍ من الأشكال، وإنما في إطار (خدمة السنة والحديث). علماً بأن هناك أكثر من كتاب في هذا الموضوع.قد تُرعب الحقيقة الواردة أعلاه، بمعانيها ودلالاتها، بعض المسلمين، فيسارعوا إلى اعتبارها نوعاً من التشكيك في الحديث والإساءة إلى الإسلام بشكلٍ عام. والحقيقة أن التعامل مع الإسلام (الكبير) بمثل ردود الأفعال العاطفية المذكورة هو ما يُسيء بشكلٍ جوهريٍ إلى الإسلام، وهو ما يجعلهم يعملون على (تصغيره) ليُصبح على مقاس فكرهم المحدود.كل ما في الأمر أن ما نذكره في هذا المقال يُبينُ إشكاليةً واضحة، نشكُ في إمكانية الجدال فيها. وهي لا تؤثر فقط في فهم المسلمين للإسلام، وإنما في مجمل منظوماتهم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية. وهو بالتالي يُظهر حجم الجهد العلمي المطلوب من أهل الاختصاص، وقبل ذلك درجة القوة النفسية لديهم، للاعتراف بوجود الإشكالية، ثم ابتكار طرق التعامل معها بالشكل الصحيح.لن ينفع الهروب من مواجهة الحقائق الواضحة في شيء. لن ينفع في إصلاحِ واقعنا والتعامل مع مشكلاتنا المتراكمة، ولن ينفع بالتأكيد في الحفاظ على الإسلام، الذي لم يوجد أصلاً إلا لِمَا فيه نَفعُنا، ومصلحةُ البشرية جمعاء.

1653

| 31 أغسطس 2014

الغرب والرسائل الخاطئة مرة أخرى.. قضية جيمس فولي

أيﱡ رسالةٍ تُرسلها أمريكا، والغرب بشكلٍ عام، للعرب والمسلمين، حين ننظر في ردود الأفعال على مقتل الصحفي الأمريكي على يد (داعش) بطريقتها الوحشية المعروفة؟مرةً تلو أخرى، تضعُنا ممارساتُ مَن يُفترض بهم أن يكونوا (عالَماً أكثر إنسانيةً)، لكي لا نقول بابتذال (أكثرَ تقدماً).. تضعُنا وجهاً لوجه، لا أمام نفاقهم وانتهازيتهم وازدواجية معاييرهم فقط، بل أمام مأزقٍ بشري يبدون، بأفعالهم، مصممين على ترسيخه وتعقيده على جميع المستويات، حتى لو أدى، في نهاية المطاف إلى انفجار عالمي، من الواضح أن غرور القوة يوهمهم باستحالة حصوله.كل شيءٍ نتج عن الغدر بهذا الإنسان البريء يمكن أن يصبَّ في خيرٍ ما للإنسانية، إلا المعاني الخسيسة الكامنة في الموقف السياسي لأمريكا وأوروبا من هذه القضية، فهي تؤدي إلى عكس ذلك بالتأكيد.فبعد وفاته، جاءت كلمات والدته لتعبر عن مشاعر عفوية، فيها الكثير من تلك (الإنسانية) التي نبحث عنها، عندما قالت: ‫‫"لم نكن فخورين بـ (جيمس) أكثر من فخرنا به اليوم. لقد وهب حياته ساعياً لإطلاع العالم على معاناة الشعب السوري. نرجو من الخاطفين أن يحفظوا أرواح الرهائن الباقين. هم مثل جيمس أبرياء. ليس لديهم القدرة على التحكم بالسياسة الأمريكية الخارجية في العراق وسوريا وأي مكان في العالم. ممتنون لجيمس للسعادة التي وهبنا إياها. حقاً كان ابناً وأخاً وصحفياً وشخصاً استثنائياً".هكذا، بينما دفع جيمس حياته ثمناً "لإطلاع العالم على معاناة الشعب السوري"، جلست الحكومات، في أمريكا وأوروبا، تتفرج على هذه المعاناة قرابة أربع سنوات الآن، بغض النظر عن كل الشعارات والوعود الكاذبة، وكل الممارسات السياسية التي لا تدخل إلا في إطار (التهريج) تجاه الشعب السوري في مأساته.قبل مقتل فولي بقليل، لم يطرف جفن لأمريكا وأوروبا حين قررت الأولى، ولَحِقتها الثانية، تسليح حكومة كردستان، وضرب داعش جوياً، وإرسال المستشارين العسكريين إلى العراق، وإلقاء شحنات مساعدة جوية إلى المهجرين والمتضررين.حصل هذا بسهولةٍ لا تُصدﱠق، فقط لأن داعش اقتربت من خطوط حمراء حقيقية تتعلق بالمصالح الأمريكية..لم يحتج الأمر لا إلى اجتماعات مجلس أمن، ولا لمؤتمرات دولية، ولا لتشكيل جماعة أصدقاء.. ولم يتطلب استخدام الكذب والنفاق والمناورات السياسية وتوزيع الأدوار بخصوص التعنت الروسي والرفض الصيني، و..(التعقيدات) الداخلية في أمريكا وأوروبا.وبعد مقتل الرجل، أمكن بسرعةٍ قياسية عقدُ اجتماعٍ لمجلس الأمن تبنَّى في جلسةٍ واحدة، دون كثيرٍ من الجدال، وبالإجماع، وتحت الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة الذي يتيح استخدام القوة لتنفيذه "نزع سلاح وتفكيك داعش وجبهة النصرة.. بشكل فوري ووقف الأعمال الإرهابية"!..ينظرُ الشعب السوري، الذي قدم أكثر من مائتي ألف شهيد على مذبح الحرية، وعلى يد نظامٍ رسمي إرهابي، إلى هذا المشهد السوريالي وهو لايكاد يُصدق ما ترى عيناه.أيﱡ رسالةٍ يُرسلها هذا المشهد، بكل مفارقاته وتناقضاته مع الحد الأدنى من مقتضيات الأخلاق والقانون، ليس فقط إلى الشعب السوري، بل وإلى جميع شعوب العالم؟"نحن لا نتحرك إلا عندما تُمس شعرةٌ في رأسنا، أما غير ذلك فلتذهب الشعوب الباحثة عن الحرية إلى الجحيم، ومعها كل شعاراتنا عن الديمقراطية والمساواة وحقوق الإنسان. هكذا كانت القاعدة دائماً، وهكذا هي الآن، وهكذا ستكون. افهموها أيها الأغبياء". هذا، بكل اختصار ووضوح، مضمون الرسالة الكامنة فيما يجري من مهزلةٍ تُسمى "سياسة دولية" في منطقتنا العربية.كيف يمكن لأحدٍ، بعد هذا، أن يحارب التطرف في المنطقة بشكلٍ حقيقي؟ كيف يمكن لكل المعتدلين الإسلاميين، ومعهم المعتدلون الليبراليون والعلمانيون والديمقراطيون و و.. أن يُقنعوا ملايين العرب والمسلمين بأن قَدَرهم مع الغرب، تحديداً، والعالم بشكلٍ عام، ليس الخصومة والحرب والصراع؟ كيف يمكن، في ظل هذه المهزلة العالمية القميئة، أن يُركِّز هؤلاء، وأي مُصلحٍ كان، على إصلاح الفكر التقليدي السائد، دينياً كان أو غير ذلك، وفي تبيان إشكالاته والإشارة إلى جذور ظاهرة التطرف والإرهاب فيه؟لسنا هنا في معرض الشكوى أو استجداء الحلول ممن كانوا ولا يزالون جزءاً كبيراً من المشكلة: حكومات وساسة أمريكا وأوروبا. وسيظل من يحاولون الإصلاح من أهل المنطقة، أياً كانت خلفيتهم وانتماؤهم، يبذلون ما يستطيعون من جهد على طريق الإصلاح.لكن المطلوب في هذا المقام يتجاوز ذلك إلى أمرٍ، قد يبدو مثالياً، لكنه بالتأكيد أحد الخيارات القليلة المتاحة: التحالفُ مع الضمير الأخلاقي والحقوقي والإنساني في أوروبا وأمريكا، والعالم، والذي تُمثله كلمات والدة جيمس فولي والمعاني الكامنة فيها.فغرورُ القوة، لدى تلك الحكومات وهؤلاء الساسة، كبيرٌ فعلاً إلى درجةٍ تُعمي أعينهم عن المأزق (الأخلاقي) العالمي الذي يسحبونَ البشرية بأسرِها إليه. ومن الطبيعي، تبعاً لذلك، افتقادُ القدرة لديهم على رؤية احتمالات تحول ذلك المأزق إلى مأزقٍ سياسي وأمني عابرٍ للقارات، في ظل عولمةٍ غابت معها الحدودُ والموانع، وأصبحت أدواتُها مُتاحةً لكل إنسان وجماعة.يغفل هؤلاء، تحت ضغط غرورهم بالقدرة على التحكم بالظواهر البشرية، وعلى ضبطها واستيعابها، أنﱠ الاجتماع البشري مُعقدٌ إلى درجةٍ تجعله، في ظروف معينة، طليقاً جداً من كل القيود. وأن الضغط المستمر، خاصةً حين يحصلُ بوقاحةٍ وصفاقةٍ ليس لها نظير، يمكن أن يُفجِّر في ذلك الاجتماع البشري طاقةً هائلةً تخرج في شكل رد فعلٍ على ذلك الضغط. وأن هذا قابلٌ للحصول بتسارعٍ وقوةٍ يكونان خارج أي حسابات.. حصل هذا عشرات المرات في تاريخ البشرية، ويمكن له أن يحصل على الدوام.ثمة ضمير أخلاقي وحقوقي وإنساني كبيرٌ في هذا العالم الواسع يجب التفكير في التواصل معه بجدية، وهذا الضمير موجودٌ في أوروبا وأمريكا رغم كل الظواهر، فكما كتب أحد الأصدقاء: "التعليقات الغربية، التي جاوزت ستة آلاف تعليق، على صفحة الحرية لجيمس فولي كانت تتمحور حول التعاطف مع الشعب السوري والصلاة لروح جيمس. نادراً ما تجد غضباً أو انفعالاً يتعلق بوصف الإسلام بأنه شرير. ربما تكون استفاقةً مهمة في الوعي الغربي العام ضد التنميط الذي تجذر لعقود".ذكرنا من قبل أن كل شيءٍ نتج عن الغدر بهذا الإنسان البريء يمكن أن يصبَّ في خيرٍ ما للإنسانية. لم لا نحاول إذاً أن نصل إلى ذلك الضمير العالمي، ونتحالف معه، كأحد الخيارات القليلة المُتاحة أمام الجميع؟

1265

| 24 أغسطس 2014

ماذا تنتظر الفصائل الإسلامية السورية؟

ثمة حديثٌ نبويٌ ترد فيه العبارة التالية: "ولن يُغلب اثنا عشرَ ألفاً من قِلَّة".. الحديث واردٌ لدى ابن ماجة والترمذي فيما أعتقد، وهناك درجةٌ من الاتفاق على صِحَّته.ولكن، بغض النظر عن الدخول في جدلٍ حول صحة الحديث أوضعفه، يبدو، في واقعنا السوري الراهن على الأقل، أن اجتماعَ قلوب وعقول اثنى عشر ألف مقاتلٍ سوري، بشكلٍ حقيقي وشامل، على كلمةٍ واحدة، لابد أن يؤثر في أحداث سوريا بشكلٍ واضحٍ وكبير.لماذا يستحيلُ حتى الآن حصولُ هذا في الداخل السوري؟لو فكرنا قليلاً في الموضوع، سيكون هذا بالتأكيد أكثر سؤالٍ يحرقُ قلوب السوريين ويُحيُّرُ ألبابهم وأفئدتهم.سيقول البعض إن أعداد المقاتلين لم تعُد على ما كانت عليه، وأن بعضهم ذهب إلى (داعش)، وآخرين انسحبوا من الميدان، وغير ذلك من المقولات.. لن نتساءل هنا: لماذا لم يجتمع اثنا عشر ألفاً، بمعنى (الاجتماع) المقصود في الحديث، عندما كان هناك أكثر من مائتي ألف مقاتل غالبيتهم الساحقة تتحرك بخلفيةٍ (إسلامية)؟ سنتجاوز كل علامات الاستفهام والتعجب حول الوضع في تلك الأيام، ونؤكد أن بضعة عشرات الآلاف لايزالون يحملون السلاح اليوم، وأن هؤلاء يتحركون بهوية (الإسلام) وشعاراته، وأننا لا نُدرج أتباع (داعش) بينهم، لكن سؤال السوريين الحارق لايزال يطرح نفسه عليهم، وعلى قادتهم وأصحاب القرار فيهم، وبقوة.ولاجواب.لدينا تفسيرُنا الخاص للظاهرة، وهو مكتوبٌ في ثنايا مجموعةٍ من المقالات نُشرت خلال الشهور الماضية، ويتلخصُ في وجودِ إشكاليةٍ كُبرى وجذرية في فهم الإسلام وتنزيله على الواقع.. ونحن نعتقدُ أن المشكلة لاتزال موجودةً، وأن الحوارات والمُدارَسات والنصائح التي جَرَت وتجري.. لاتزال تحوم حول (الأعراض) ولاتدخلُ في (الجوهر).. وهذا يجعلنا على يقينٍ مُحزِن بأن القضية لن تجد حلاً على المدى المنظور، ونتحدى بأنه (لن يجتمع اثنا عشرَ ألفاً) من الإسلاميين السوريين على قلب وكلمةٍ رجلٍ واحد في هذا المدى، بالمعنى الشامل لكلمة (الاجتماع)، والذي تعرفه نظرياً جميع الفصائل الإسلامية، ويعرفهُ كل العلماء والشرعيين الذين لهم علاقة بالموضوع بشكلٍ أو بآخر.لكننا لن نلقي بالاً في هذا المقام لذلك التفسير الخاص، وسنتجاهلهُ بكل تفاصيله، لنتحدث حصراً بِمَنطِق ولُغة ومفاهيم أصحاب العلاقة..والحقيقة أن الحديث في الموضوع بذلك المنطق وتلك اللغة والمفاهيم يمكن أن يجعل سؤال السوريين الحارق أقربَ لأن يُصبح مدعاةً للجنون.فهؤلاء يسألون بكل بساطة: هل تجهل الفصائل، بقادتها وشرعييها، واحدةً من أوضح وأسهل القواعد الأساسية المندرجة في أسباب النصر بالمفهوم الإسلامي؟ والمتمثلة في ضرورة الوحدة و(الاجتماع)، وبالتالي ضرورة تجنب الفرقة والتنازع اللذين يؤديان بالضرورة إلى (الفشل وذهاب الريح). إذا كانت هذه الفصائل لا تُدرك فعلاً أهمية هذه القاعدة، فتلك مصيبةٌ تُلقي ظلالاً كبيرةً من الشك على مُجمل دورهم في مجال حركتهم وسبب وجودهم أصلاً، لأنه لا يُتصورُ أن يمتلك أهليةَ العمل فيه من توجد فيه مظنةُ الجهل بتلك القاعدة الواضحة والسهلة.. أما إذا كانت الفصائل تُدركها لكنها لا تستطيع العمل بها فالمصيبة أكبر، ويصبح الكلام عاجزاً عن وصفها.. فلا يبقى إلا سؤال كبيرٌ يصرخ به السوريون في وجوه أصحاب العلاقة: لماذا لا تستطيعون العمل بتلك القاعدة؟يكاد الموضوع يُصيبك، كسوري، بالسكتة القلبية حين تتحدث في الموضوع بمنطق ولغة ومفاهيم الفصائل الإسلامية نفسها! وتشعر أنك تريد أن تضرب رأسك بالحائط، حين تتذكر أننا نتحدث عن فصائل توجد بينها تقاطعات ومُشتركات واسعة جداً فيما يتعلق برؤيتها الإسلامية، بل إن بعضها يكاد يكون نُسخاً متكررة عن بعضها الآخر! ورغم هذا، (لايزالون مُختلِفين).كيف يستطيع قادة الفصائل والألوية التي لاتزال قائمةً تفسيرَ هذه الظاهرة شرعاً أو ديناً أو عقلاً؟أين يجدون المبررات التي تسمح بوجود هذا الواقع وترسيخه في ظل مايجري لأهلهم وإخوتهم من أبناء سوريا؟كيف يبقى الوضعُ كما هو عليه، ويظل الحال هو الحال؟ بعد كل المصائب والدروس والتطورات التي حصلت خلال عامٍ واحدٍ فقط.نتجاهلُ كل منطق، ونجبرُ أنفسنا على القول بأننا (نتفهم) أن يكون وضعُ (الفُرقة) سائداً حين كانت الفصائل تتوزع السيطرة على مناطق واسعة من سوريا، وحين كانت هناك وفرةٌ لابأس بها من الذخيرة والسلاح، وحين كان كل فصيل يشعر أنه قويٌ بنفسه أو في طريقه لأن يصبح أقوى فصيل، وحين كان كل فصيل يشعر أنه (مدعومٌ) من هذه الجهة أو تلك، وحين كان السادة في المجتمع الدولي يضحكون علينا بأنهم (أصدقاء)، وحين كان النظام منكمشاً، وكانت إيران وحزب الله تبحثان عن إستراتيجية، وكانت (داعش) مُجرد ظاهرةٍ صوتية..أما وقد انقلبَ كلﱡ ذلك رأساً على عقب، فكيف يمكن أن تبرر الفصائل استمرار انقسامها، بل وزيادته بالتصدعات التي حَصَلت وتحصلُ حتى في (الجبهات) التي اتَّحدت باسمها، ولو بشكلٍ إعلامي وظاهري؟وبمنطق ولغة ومفاهيم الفصائل نفسها يكون السؤال مشروعاً جداً: كيف يستطيع قادتها وشرعيوها أن تنام أعينهم لحظةً واحدة من ليلٍ أو نهار؟دع عنك، للمفارقة، استعادة النظام وحلفائه الغُزاة للمبادرة في بعض المناطق.. هذه (داعش) تكاد تأكل الشمال السوري (المُحرر) بأسره بعد أن أكلت الشرق وبدأت تتمدد في الجنوب.. وهي تبتلع مناطق وجود الفصائل، والفصائلَ نفسَها، لقمةً لقمة.. فماذا ينتظر السادة القادة والعلماء ليتَّحِدوا؟ ماذا ينتظرون بحق الله وباسم كل الأنبياء والشهداء؟منذ يومين، كتب عضوٌ في المجلس الوطني السوري على صفحة المجلس النداء التالي: "رسالة وصلتني من حلب أضعها بين أيديكم: السلام عليكم دكتور الله يخليك إذا إلك تواصل مع شرفاء المعارضة البارزين خليهم يتحركو.. يطلعو يحكو.. احكو.. اعملو ضجة.. اعملو كل شيء.. بلكي الله بفرجها وبساعدونا.. الوضع زفت.. المجازر فظيعة.. والقادم أفظع.. لهلأ ماطلع حدا وقال شو صار بالريف الشمالي.. اتحركو.. اجعلوها لألله".وفي إجابةٍ ساخرة كأنها سيفٌ ينغرس في الأحشاء، أجابه عضوٌ آخر: "ولايهمُّو وَصل.. هسَّع بنزِّل بيان.. حسبنا الله ونعم الوكيل". كأني بهذا الرجل أرادَ البكاء كالأطفال، لكنَّهُ، وقد جفَّت مآقيه، لم يستطع إلا أن يكتب تعليقه بدلَ ذلك.ويلٌ لكل من يستطيع أن يفعل شيئاً في هذا المجال، ثم يزهد في ذلك.. ويلٌ لهُ في الدنيا والآخرة.

1312

| 17 أغسطس 2014

في فهم الإسلام وتنزيله على الواقع سوريًّا.. دروسٌ من ماليزيا (2)

لا يوجد في الثقافة الإسلامية الماليزية ذلك الرعبُ السائدُ عند الآخرين من الخلط بين الإبداع والابتداع، ومدخلُ (سدّ الذرائع) ليس أبداً المدخل الرئيسي للتفكير في شؤون الحياة، والقيودُ والشروطُ والموانعُ ليست هي الأصل، وإنما الأصلُ الإباحة. لهذا كله، لا تتمحور حياة المسلمين الماليزيين إلى حدّ الهوس حول التفكير بالمُحرَّمات، ولا يجعلون هذا التفكير المدخل الأساسي لعلاقتهم بالإسلام، ولا مقياساً لتديُّنهم، ولا تنشغل عقولهم وكتبهم ونشاطاتهم الثقافية والاجتماعية بالوهم الذي يوحي بأن فعاليات الحياة البشرية المختلفة إنما هي مصائدُ شيطانيةُ كبرى، لا يمكن للإنسان أن يتعايش معها إلا بوجود واستمرار أقصى مشاعر التوجُّس والحذر والشك والخوف والريبة، في النفس وفي الآخرين، وفي متغيرات الواقع وأحداثه.كثيرةٌ هي مظاهر التجديد والابتكار في الحياة الماليزية، ولا يمكن حصرها في مثل هذا المقام، ويمكن لكل مهتم أن يقرأ عنها، لأن الكثير مكتوب عن التجربة الماليزية بمختلف اللغات، تكفينا هنا الإشارة إلى أن التجربة بأسرها تبدو معجونة بقيم الإبداع والابتكار والانفتاح والمرونة والوعي والشجاعة.ومن جوانب المصالحة مع الحياة في الفهم الماليزي للإسلام، المصالحةُ مع الابتسام والبهجة والفرح، ففي مقابل ثقافة العبوس والتجهم والحزن السائدة في كثير من بلاد المسلمين، سريعاً ما يكتشف المرء أن أهل ماليزيا عرفوا منذ زمن أنه لا توجد خصومةٌ بين الإسلام وبين الفرح والابتسام، فالبسمة الماليزية الجميلة تطالعك في كل مكان وتدعوك للحياة. والسماحة السائدة بين الناس تجعلك تدرك دون كثيرِ عَناء أن مثل هؤلاء البشر يستحقون موقعاً مميزاً في الحياة المعاصرة، لأنهم يعرفون معنى هذه الحياة (الحاضرة) وقيمتها، ويؤكدون على ضرورة العيش فيها، وليس في التاريخ أو في عالم الغيب، أكثرَ من معرفتهم بأي شيءٍ آخر وتأكيدهم عليه.وفي إطار مصالحة الثقافة الإسلامية مع الحياة تأتي المصالحة الواضحة في ماليزيا مع المرأة، فالمرأة الماليزية ليست الحاضر الغائب في المجتمع الماليزي، وإنما هي حاضرةٌ بقوة في كل مجال من مجالات الحياة، فمنذ بداية التجربة المعاصرة، حرصت الحكومات الماليزية المتعاقبة، ولا تزال، على وضع قوانين تحفظ حقوق المرأة وتخلق الظروف المناسبة لتطوير مكانتها ودورها في الحياة بشكلٍ مباشرٍ وواضحٍ وصريح.لم تقف ثقافة المجتمع الماليزي عند تلك النقطة التي يقفُ عندها البعض، حين يرفعون الشعارات بأنه لا ضرورة لصياغة مثل تلك القوانين الخاصة، بدعوى أن وجود الإسلام في حد ذاته يكفي لضمان حقوق المرأة. يُؤمن أهل ماليزيا بصواب النظرية، لكنهم يعرفون أن ذلك لا يعني بالضرورة صواب التطبيق الاجتماعي العفوي لها. هنا أيضا تنتفي التناقضات الموهومة على أكثر من مستوى، ففتحُ الباب للمرأة للمشاركة في بناء المجتمع وإعمار الحياة لا يعني بالضرورة فقدانها لخصوصيتها وهويتها والتزامها، وحركةُ المرأة في المجتمع ليست سبباً لشيوع الفساد والرذيلة، ومساهمة المرأة في العمل العام لا يجب أن تكون لزاماً سبباً لتفكك الأسرة وضياعها. ولكن، مرةً أخرى، في وجود الابتكار والشمولية في التخطيط الثقافي والسياسي والاقتصادي والاجتماعي..والحقيقة أن من أهم ما يميز التجربة الماليزية تلك الشمولية في التخطيط، فنحن هنا بإزاء محاولةٍ جدية لبناء منظومة متكاملة من السياسات في كل مجال، وهذا في غاية الحساسية، لأن التركيز على جانبٍ واحد من جوانب البناء والتطوير والتغيير في أي مجتمع أو دولة لا يحل المشكلات القائمة راهناً، ولا يزرع بذور نهضة مستقبلية حقيقية. أدركت السلطة في ماليزيا هذا مبكراً، أدركت أنها لا تستطيع أن تطلب من المواطنين التعايش والانفتاح على الآخر ما لم يتم زرع بذور تلك الممارسة ثقافياً في مناهج التعليم والإعلام، وما لم يتم وضع سياسات تسمح بالتعايش وتُشجع عليه عملياً.وأدركت أنها لا تستطيع أن تتوقع للمرأة دوراً فعالاً في المجتمع يحقق الإيجابيات ويتجنب السلبيات، ما لم تقم أيضا بتخطيطٍ ثقافي واجتماعي وقانوني يساعد على ذلك.وأدركت أنها لا تستطيع أن تطلب من أفراد المجتمع استعمال المواصلات العامة، ما لم تؤمّن لهم وسائل نقل عام نظيفة وسريعة ورخيصة، وقُل مثلَ هذا في كثير من حقول الحياة.باختصار، أدركت السلطة أنها لا تستطيع أن تطلب من المجتمع التضحية في بعض المجالات، وهي تضحيةٌ مطلوبة في مراحل بناء الدول والحضارات، ما لم يشعر ذلك المجتمع بأن تلك السلطة جديةٌ في رؤيتها وفي ممارساتها وفي سياساتها. وبأنها تقوم بكل ذلك على أسس من العدل والمساواة، ووفقَ مفاهيم التخطيط العلمي ومقاييسه على جميع المستويات.لا يعني هذا أن ماليزيا أصبحت (المدينة الفاضلة) وأنها حلَّت كل المشكلات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية التي تواجهها، فهي لا تزال تعيش الكثير من التحديات في كل تلك المجالات. لكن هذه النقطة تُظهرُ، بذاتِها، وجهاً آخر من وجوه المصالحة مع الحياة، تحاول ماليزيا الاحتفاظ به يتمثل في المصالحة مع عملية المراجعات والنقد والذاتي.لهذا، يبدو طبيعياً استمرارُ التقدم في كثيرٍ من الحقول، رغم التحديات والمشاكل، ففي دراسةٍ دولية لتصنيف العواصم الرئيسية في جميع أنحاء العالم من حيث مدى النجاح المتمثل في كونها مصدراً لجذب الزائرين وإمكانية العيش والنجاح فيها هذا العام، جاءت كوالالمبور، العاصمة الماليزية، في المركز الـ 17 من أصل 30 مدينة رئيسية في العالم، لتنافس مدناً مثل لندن وباريس وشيكاغو ونيويورك وسيدني.ولهذا أيضاً، لا يبدو غريباً أن تُسجل ماليزيا أداء قوياً للتجارة خلال النصف الأول من عام 2014م مع ارتفاع حجمها بنسبة 9.9%، مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي، وأن تُسجل الصادرات الماليزية نمواً بمقدار 12.5% هذه السنة.ولهذا، كانت ماليزيا الدولة التي اقترحت إنشاء صندوق للابتكار والإبداع في اجتماعات البنك الإسلامي للتنمية منذ أسابيع، وذلك لمعالجة قضية ارتفاع معدل بطالة الشباب في الدول الأعضاء بشكل إستراتيجي.ما علاقة الاقتصاد والتجارة والأرقام والمدن والشباب والبطالة والتخطيط والقوانين والابتسام والمرأة بفهم الإسلام وتنزيله على الواقع؟ وما علاقة الموضوع كله بسوريا وثورتها ابتداءً؟نعم.. هناك من سيفكر بهذه الأسئلة وهناك من سيطرحها بكل جدﱢية، وهو لا يشعر فقط أنه يعيشُ الإسلام بكل معانيه، بل إنه يُمثلهُ ويُمثلُ المسلمين في كل زمانٍ ومكان.

1102

| 10 أغسطس 2014

في استعادة معنى الثورة السورية

ثمة ارتباط عميق بين أفعال البشر ومواقفهم، وبين نظام المعاني التي تدلُّ عليها تلك المواقف والأفعال. ينطبق هذا على الأفراد، لكن قيمته الكبرى تظهر حين يتعلق الأمر بالجماعات البشرية.ومن المؤكد أن الثورة السورية كانت ولاتزال حالةً نموذجية في هذا المجال.فقد جاء اشتعالُها تعبيراً عن نظامٍ من المعاني الإنسانية النبيلة، على المستوى المحلي، عاشه السوريون لشهور طويلة. لكن ما لم يكن في حسبان السوريين أن نظامهم الجديد هذا يحمل في طياته خطراً حقيقياً على نظامٍ دولي وإقليمي تحكمه شبكةٌ معقدة من المصالح الأنانية التي تتمحور حول السيطرة والنفوذ والقوة والهيمنة على مختلف المستويات. وهي شبكةٌ تضم أفراداً ومؤسسات ودولاً وتنظيمات، قد يبدو أحياناً أنها مُختلفةٌ ومتصارعة، لكن وجودها، وتحقيقَ مصالحها، كان مضموناً دائماً بمنظومة توازنات مرنة، تُفسح المجال لإظهار الاختلاف والصراع أمام أعين الشعوب وعامة الناس من ناحية، لكنها تسمح، من ناحية ثانية، لمختلف الأطراف بالحفاظ على وجودها ومصالحها تحت سطح (الأخبار) وبعيداً عن عالم الإعلام.كان الأمر أشبه بمعادلةٍ دقيقة هدَّدَت حساباتها الثورة السورية، وتحديداً بنظام المعاني الذي لم تُظهر الثورة فقط إمكانية وجوده، بل إمكانية اقتباسه وتعميمه، وهنا يكمن الخطرُ الأكبر..لهذا تحديداً كان ضرورياً أن يتم (اغتيال) نظام المعاني المذكور، وأن يحصل هذا بشكلٍ ساحق، وبأسرع وقت ممكن، وباستعمال كل الوسائل والأساليب، ذلك أن المسألة أصبحت مسألة وجود بالنسبة للآخرين، ولم تعد حتى مسألة حفاظٍ على المصالح.وفي غضون أشهر من بداية الثورة، استعاد النظام بعض أنفاسه، وأدرك تلك الحقيقة التي كان الآخرون يحاولون إفهامهُ إياها منذ البداية، فبدأت العملية الكبرى والأساسية لوأد الثورة السورية من خلال قلب نظام المعاني الذي خَلَقتهُ رأساً على عقب.ومع صمود الشعب السوري، وقلةٍ من أنصار ثورته الحقيقيين، بات واضحاً أن العمل في الداخل السوري لم يعد يكفي لنجاح عملية الاغتيال المذكورة، فصار مطلوباً توسيعُ نطاقها من خلال تعميم الفوضى وخلط الأوراق في المنطقة بأسرها.يعلم هؤلاء أن الثورة لا يمكن أن تموت رغم كل الصعوبات والأخطاء إلا في حالة واحدة: حين يغيب المعنى الحقيقي لها في قلوب أهلها وعقولهم. فإذا مات المعنى هناك ماتت الثورة، ولو بقيت بعض مظاهرها، وإذا بقي المعنى بقيت الثورة واستمرت رغم كل شيء.من هنا تأتي الضرورة القصوى والأساسية لاستعادة معنى الثورة السورية بين السوريين، لأنها مفرق الطريق.هل يحصل هذا؟ نعم. لكن مَن يقوم به ليس أبداً تلك الجهات التي يجب أن تقوم بتلك المهمة، بل إن الهيئات الرسمية التي يُفترض بها أن تفعل ذلك تساهم، ولو عن غير قصد، في قتل نظام معاني الثورة السورية بممارساتها. أما (المثقفون) فقد تجد فيهم من يحاول، وهؤلاء قلائل جداً، ثم إن خطابهم (النخبوي) لا يصل إلى جمهور الثورة الواسع.تبقى النماذجُ التي أوجَدَها للمفارقة، نظام معاني الثورة السورية نفسهُ، ممن يمارسون هذا الدور بلغةٍ هي أقرب لمشاعر الناس وكلامهم. ثمة نماذج عديدة على ذلك، ولا يمكن ادعاء الكمال في نشاطها وخطابها، لكنها أقرب مثالٍ حقيقي لمن يؤدي هذه المهمة الحساسة.في السطور التالية، ونستميح العذر في نقلها كما هي وبالعامية، يُعبِّر أحد هؤلاء، زياد الصوفي، عن كل ما تحدثنا عنه أصدق تعبير:"حالة من اليأس تجتاح صفوف السوريين المؤيدين للثورة نتيجة الإحساس المتزايد يومياً بفقدان قدرتهم على التغيير.. هالشي ما اجا نتيجة لقوّة الأسد أو قدرتو على إسقاط الثورة، ولكن هالشعور اجا كنتيجة طبيعية لإحساسنا بعدم امتلاكنا أي أداة من أدوات التغيير اللازمة لإسقاط الأسد..‫يا جماعة..‫ما بحياتها كانت الثورة لاسترداد أراضٍ محتلة، أو تحرير أراضٍ وبسط السيطرة عليها.. ما خرج الشعب السوري للشوارع ونادى في بداية الثورة "الشعب يريد استرداد دمشق"، طلبنا وشعارنا كان واضحا وبسيطا "حرية وبس"..شعار الحرية خوّف الجميع، من أقرب جار إلى أبعد صديق.. حاربنا نفوسنا لتطلع كلمة الحرية من صدورنا، وواجهنا كل صنوف الحقد لاستجرار أنفاس الكرامة من قلوبنا..اللي كان معتقد انو تمن الحرية للشعب السوري رح يكون رخيص، فهاد إما إنسان رومانسي أو إنسان ما بيفهم بالسياسة، أو الاثنين معاً..خمسين سنة والنظام عم يحبك كل المؤامرات لمواجهة مطلب الحرية.. خمسين سنة والمجتمع الدولي عم يمرر أخطاء النظام الواحد بعد الآخر بحجة دعم الاستقرار في منطقة تعج بالمتناقضات.منشان حرية سوريا، شفنا المجازر والبراميل والكيماوي، وحضرنا تلاتة فيتو واجتماعين دوليين في جنيف وشهدنا على وجود حالش وداعش..منشان حرية سوريا. شفنا العراق عم يتفكك، والعسكر كيف رجعوا يحكموا مصر، واليمن كيف صار اتنين، ولبنان أربعة ومن دون رئيس..منشان حرية سوريا.، وانقلاب بعد التاني في ليبيا،منشان حرية سوريا. شهدنا ولادة الخلافة بالأنابيب، تقهقُر الأمريكان قدّام مفترق الإنسانية، وانهيار مؤسسة مجلس الأمن، وتخبّط مؤسسات الأمم المتحدة..منشان حرية سوريا. خسرنا مليون شهيد، ومتلهون معتقل ومفقود، واتشرد عشرة ملايين عن بيوتهون..منشان حرية سوريا. انهار مفهوم العروبة، وانمحت مرتكزات القومية العربية، وتعرّت المؤسسات الدينية ورجالها..منشان حرية سوريا. اكتشفنا انو في سوريين مو سوريين، وعرب مو عرب، ومسلمين ما بيتبعوا رحمة الإسلام، ومسيحيين بعيدين عن سلام المسيح..منشان حرية سوريا.. انهارت مفاهيم المقاومة، وهرّت ورقة توت الممانعة، وانتست القضية المركزية..يا ابن بلدي..لا تيأس.. فحريتك الغالية عم تحاربها كل قوى العالم، لأنهون ببساطة بيعرفوا شو يعني يكون السوري حر.. بيجوز تقلّي صارو تلات سنين ونص ولسّا النظام ما سقط، بس رح جاوبك فوراً ومن دون تردد، صارو تلات سنين ونص والعالم ما قدر يكسر إرادتنا.. حرية وبس".انتهى النقل، ويبقى مطلوباً من السوريين الذين يُعجَبون بهذا الكلام بالآلاف.. ألا يقف (فِعلُهم) عند هذا الإعجاب..

1205

| 02 أغسطس 2014

فنانو الثورة: فارس الحلو مثالاً (2)

كما تحدثنا عن رفاقه، انخرط فارس في الثورة من بداياتها بحسمٍ ودون تردد. لم يفعل ذلك بالإشارات أو التصريحات أو المشاركات (الفيسبوكية)، وإنما بالفِعل العملي والتظاهر في الشارع مع الناس. لكنه عبَّرَ عن مشاعره بعد مظاهرة الفنانين المشهورة حين كتب على صفحته الخاصة: "كنا قلة قليلة وقلقة، وما أن وصلنا حتى دُهشت من حجم المجموعة وقد كبرت.. كثر انضموا لها، صرنا في وسطها شباب وفتيات أغلبهم لا أعرفهم، فجأة صدح صوت سماوي لأحد الشجعان بهتاف البدء ولتردد وراءه الحناجر الذهبية، هي لله هي لله ما نركع غير لله.. وليعقبه بهتافات تنفي الطائفية والإثنية لصالح الحرية والمدنية".قبلها، كان فارس أحد الأمثلة على قلةٍ تمتلك (الحلم) وتجرؤ على (المبادرة)، وذلك حين جمع (تحويشة) العمر ووضعها في مشروع عزيز على قلبه لإقامة "ورشة البستان للثقافة والفنون". ورغم استغراب البعض، ورغم كونها " فكرةً جنونية، وواحدة من تهويمات هذا الممثّل القلق الذي لا يركن إلى ضفة" كما قال أحدهم. ورغم أنها لم تلقَ دعم الجهات الحكومية والأهلية، لكنه اعتبرها جزءاً من "ممارسته للمواطنة" وثابر عليها حتى نجح. "وإذا بشوارع البلدة الجبلية وساحاتها تستيقظ بعد أشهر، على مشهد آخر: تماثيل من الرخام تزيّن الأماكن المقفرة بأشكال واقعية لم يألفها النحت السوري منذ أزمنة طويلة" كما ذكر تقرير إعلامي آنذاك. ثم أقام فيه ملتقى للنحت العالمي باسم (جمال الحب).ذهب حلم فارس بعيداً، فقد كان يريد أن يتحوّل (الهنغار) الذي كان حظيرةً للأبقار، إلى فضاءٍ ثقافي لفعاليات إبداعية مغايرة، فقال يومها: "أفكر بأن نقيم أسبوعاً سينمائياً في الهواء الطلق، وأن نبني مكتبة للإعارة المجانية، وإقامة ورشات جديدة للنحت والرسم".المفارقةُ أن زبانية النظام هاجموا (البستان) بعد مواقفه المنحازة للثورة، وعندما بدأوا بتحطيم المنحوتات الموجودة فيه سألهم فارس بأسلوبه الساخر المعهود عما إذا كانوا قد أصبحوا حكومةَ طالبان، التي حطمت التماثيل التاريخية في الحادثة المعروفة منذ سنوات.تصاعدت حملات التشويه ضده مع الأيام، ذلك أن النظام كان يعرف حجم الأذى الناتج عن انحيازه للثورة لكونهِ، من ناحية، فناناً له شعبية ومُحبون، ولأنه، من ناحيةٍ ثانية، أحد أبناء المواطنين السوريين المسيحيين. فمثل هذه الصفات كانت تساهم في إلغاء قيمة ورقتين من أهم أوراق النظام: أن قطاع الفنانين والمثقفين يقف معه ضد الثورة، وأن الثورة إسلامية بحتة.المفارقة أن مثل هذه الحملات لم تكن تعمل إلا على توضيح موقفه المؤيد للثورة بشكلٍ أكثر وضوحاً. فعندما استغل البعض عدم توقيعهُ على ما سُمي (بيان الحليب) المشهور لأطفال درعا، أرسل لبعض وسائل الإعلام يشرح حقيقة موقفه الذي تلخص في العبارة التالية: "رفضت التوقيع على النداء بسبب أنه كان ضعيفا ومتباكيا ولم يرق لمستوى الفاجعة حينها، فهو لم يذكر الشهداء وقاتلهم ولم يدِن فاعل الحصار، ولم يكن غاضباً تجاه المستبد، قدر مناشدته إياه تمرير الغذاء من حصار غذائي مفروض على درعا".ثم ظهر على شبكة الإنترنت موقع سمى نفسه (أكبر تجمع مسيحي سوري على الفيسبوك) وقام بتهديده المرة تلو الأخرى، وبإطلاق أوصاف الخيانة والعمالة والارتزاق عليه. كما قامت مواقع أخرى موالية للنظام بإطلاق تهديدات تعطيه فيها المُهَل وتنذره بفضحه حول ممارسات ومغامرات مزعومة. لم يُبالِ فارس بكل ذلك الهجوم، وأصرَّ على خياره الغالي، فاضطر بعد أشهر إلى مغادرة سوريا بعد ارتفاع وتيرة التهديدات والضغوط. وعندما التقيناهُ في اسطنبول، بعد رحلة الهجرة التي قادته مع زوجته وابنتيه إلى باريس، كانت زوجتي تُلح عليه للقيام بأعمال فنية، ولو بسيطة، للثورة وأهلها، لكنه كان يتوق للقيام بعملٍ راقٍ "يليق بعظمة هذه الثورة وهذا الشعب" كما قال. لم يمنعهُ هذا بالطبع من زيارة مخيمات وأماكن وجود اللاجئين السوريين بحثاً عن فرصٍ لخدمتهم، ثم المشاركة في مشاريع صغيرة متنوعة في هذا الإطار.وأخيراً، ظهرت أصالة المعدن مرةً أخرى منذ أشهر حين عُرضت عليه المشاركة في عملٍ فني ضخم ينتج عنه عائد يعينه في رحلة الغربة الصعبة.. لكنه عرف أن فنانين من (شبيحة) النظام مشاركون فيه. فرفض بعبارةٍ واحدة: "لن أظهر في مشهدٍ واحد مع السفلة".بهذا الموقف، يُبقي الفنان الحاصل عام 2008 على جائزة أفضل ممثل في "مهرجان فالنسيا الدولي" بإسبانيا، شعلة الأمل حيةً، حين يتعلق الأمر بالحفاظ على المنظومة القيمية الأصيلة للثورة السورية.حقٌ ما قاله الصديق إياد شربجي عن فارس: "ابن الثورة المسيحي فارس الحلو، يرفض العمل مع ابن النظام السنّي مصطفى الخاني. بأمثال فارس مازال في ثورتنا خير كثير، ومازالت الثورة لكل أبنائها الشرفاء كائناً ما كانت ديانتهم وأفكارهم". يقولون إن للإنسان نصيباً من اسمه. تُفكرُ في نماذج من السوريين صارت أمثلةً على النذالة والبشاعة وتتساءل: كيف لا يكون صديقُنا مَن هو عليه واسمه: فارس الحلو.

1175

| 27 يوليو 2014

فنانو الثورة: فارس الحلو مثالاً (1)

يقولون في العربية (فالضِّدُ يُظهِرُ حُسنهُ الضدﱡ).من هنا، فيما أعتقد، تَذكرتُ هذا الفنان السوري الثائر منذ بضعة أيام. قَفزَت صورة فارس وأفكاره ومواقفه إلى ذهني فجأةً وأنا أُمعنُ النظر في الوجوه الكئيبة لـ (فنانين) سوريين (صَفَّهُم) بحرص بشار الأسد في الصفوف الأولى من الحشد الذي شهد خطبته لإلقاء القسم الأسبوع الماضي.لا يُمثل الحديث عن فارس شخصَهُ فقط، بل إنه مثالٌ على شريحةٍ من الفنانين السوريين الذين أظهرت الثورة السورية معدنهم الأصيل. ومن الواضح أن الأمر كان بحاجةٍ لظاهرةٍ بحجم الثورة حتى تظهر عملية التمايز في ميدانٍ كالفن، بكل أنواعه وفروعه.ففي سوريا تحديداً، كانت التصريحات الإعلامية والموادُ التي يتم إنتاجها وبعض النشاطات والفعاليات ومضمون الأداء ومستواه للفنانين السوريين خلال العقدين الماضيين توحي بامتلاكهم لجُرعةٍ من الثقافة أكبرَ من غيرهم.. أكثرَ من هذا، ظهرَ ثمة انطباعٌ بأن الفنان السوري يحاول أن يكون (ضمير) الشعب الذي يملك قدرةً أكثرَ من غيره للتعبير عن طموحاته وأشواقه وآماله وآلامه، وإن بشكلٍ مُواربٍ ورمزيٍ وغير مباشر، بحكم موقع الفنان وأدواته وصوته الذي يُوصِلُ للفضاء العام ما لا يمكن للمواطن العادي إيصاله.ثم جاءت الثورة لتُظهر الحقائق بشكلٍ صريحٍ. وليس تبسيطاً القولُ بأنها (فَرزت) بوضوح بين مَن كان الفن لديه في نهاية المطاف (باباً للرزق والشهرة) لاأكثر ولاأقل، وبين مَن لم يتردد في الارتقاء إلى تمثل قناعته، بأنه فعلاً ضمير الشعب، إلى أعلى الدرجات وفي أصعب الظروف.لا مجال هنا للتلاعب بالحقائق، وتبرير موقف بعض الفنانين بأوضاع الثورة بعد (عسكَرتها)، ذلك أن العسكرة المذكورة بدأت بعد سنةٍ من اشتعال الثورة، في حين أن التمايز في المواقف كان واضحاً منذ البدايات.ففي حين وقفَ بعض الفنانين ضدها وبوضوح من اللحظة الأولى، وتهرﱠبت شريحةٌ ثانية من أي ظهورٍ علني تُعبر فيه عن موقفها، واختارت شريحةٌ ثالثة الإدلاء بتصريحات حمَّالة للأوجه والتفسيرات واضعةً قدماً هنا وأخرى هناك، لم يتردد فنانو الثورة عن التعبير من انتمائهم لها بالطريقة الأكثر صدقاً ومباشرةً و.. جمالاً: الانخراط في المظاهرات الشعبية.ثمة لحظاتٌ فاصلةٌ، شعورياً وفكرياً وعملياً، في مثل هذه المواقف المفصلية. فالبنسبة للفنان، قد يبدو طبيعياً، وربما مُبرراً، الخروج ببيان أو الإدلاء بتصريح أو إعلان تأييد الثورة وأهدافها نظرياً. أو حتى الانصرافُ إلى كتابة قصيدة أو رسم لوحة أو الخروج بأغنية تصب في موقف الانحياز للثورة.لكن هؤلاء اختاروا الفعل البشري الأكثر قدرةً على التعبير عن وجدانهم في تلك اللحظة الفاصلة، وشعروا أن وجودهم الشخصي في الشارع مع السوريين، يهتفون هتافاتهم، ويرددون مطالبهم، ويعيشون معهم مشاعر الترقب من هراوات الأمن التي لم تتأخر في الوصول إلى أجسادهم، ومآلات الاعتقال والإهانة والتعذيب. شعروا أن هذا التجلي لقناعتهم بأنهم (ضمير الشعب) يفوقُ في جماله ومعانيه وتأثيره أي عملٍ فني آخر.من يمكن له أن ينسى تلك المظاهرة التي خرجت في قلب دمشق وفيها مي سكاف ومحمد آل رشي وفارس الحلو وريم فليحان ويم مشهدي ونضال حسن وإياد شربجي وفادي الحسين وساشا أيوب وفادي زيدان وغيفارا نمر ومحمد وأحمد ملص وغيرهم ممن يفوتني ذكرهم، مطالبين بالحرية والكرامة وبدولة تعددية، وما تعرضوا له بعدها من اعتداء ثم سجن وتعذيب، وما تلا ذلك من تهديدٍ وملاحقات، انتهت بالبعض من فناني سوريا إلى الشهادة أو الاعتقال أو التشريد في بلاد الله الواسعة.وبغض النظر عن (الشخصنة) في هذا المقام، إلا أنني أعتقد أن الكتابة عن قصة كل واحدٍ من هؤلاء أمرٌ مطلوب في عملية التأريخ للثورة السورية. ليس هذا (تمييزاً) لهم عن أهل الثورة من عامة السوريين الذين توجدُ لكل منهم أيضاً قصةٌ تستحق أن تُروى. وإنما لاستعادة معاني قدرة المرء وإرادته على أن يعيش مبادئه، ويدفع في سبيل ذلك الكثير، خاصة حين يكون في موقع التأثير بالرأي العام. فهذا الرأي يُصبح أقوى حين يرى من يُعتبرون شريحةٌ من (النخبة) ينحازون إليه وإلى خياراته في القضايا الكبرى مهما كان الثمن.والأكثر وجوباً هو أن يعود هؤلاء، ومعهم الكتاب والمثقفون السوريون الثوار لتجميع صفوفهم في مشاريع تستعيد دورهم الأساس لاستعادة بوصلة الثورة وسط هذه الفوضى العارمة. ولن يعدموا وسيلةً لذلك إذا توفرت الإرادة..قد يستغرب البعض من كتابتنا عن الفنانين في رمضان!الحقيقة أن منابر الإعلام على اختلاف أنواعها تزخرُ بكمٍ هائلٍ من الكتابات التي يبحث عنها هؤلاء، وقد لايكون فيما سنكتبه عن الشهر الكريم إضافةٌ لما يقرؤه هؤلاء. على العكس من ذلك، يشعر المرء أن هذه قد تكون فرصةً للتذكير بالمفارقات في شهرٍ أصبح الموسم السنوي للتنافس في عرض المسلسلات التلفزيونية، وفي مشاهدتها على حدٍ سواء.وهناك كبيرُ احتمال أن من سينتقد الحديث عن الفنانين في رمضان سيعود بعد قليل إلى تقليب قنوات التلفزيون قاضياً ساعات في مشاهدة تلك المسلسلات. وإن لم يفعل هذا بعضهم، فالأرجح أن أسرهم وأبناءهم منهمكون في هذه الممارسة، عرفَ بها أم لم يعرف.وفي النهاية، رضي هؤلاء أم أنكروا، ثمة تأثيرٌ عميق للفن في حياة الناس لم يعد ينكره أحد. وثمة عملياتُ تسطيحٍ للعقول تُمارس على الغالبية العظمى من البشر، من خلال مضامين تافهة ونماذج مريضة وقدوات متقزمة ورسائل مُحرفة، تُغرس في عقول العرب، وتُغرسُ في قلوبهم وتكويناتهم غير الواعية من خلال الفن ومنتجاته. وثمة جرعةٌ كبيرةٌ من هذا يشربونها مع عصائر الإفطار في رمضان.هل يكون التعامل مع مثل هذه الظواهر بالهرب من التفكير بالموضوع ابتداءً؟ أم يكون باستعادة الفن والفنان ليؤديا مهمتهما ودورهما كضميرٍ للناس؟خيارُنا هو الثاني. ويبدأ بالحديث عن أمثلة هذا الضمير.نعود لمثال فارسنا الحلو في الجزء القادم. فثمة إضاءات في مسيرته يستحق بعضها أن يُروى، لكن استطراد الأفكار لم يسمح بها في هذا المقام.

1925

| 24 يوليو 2014

اقتراح لقيادة الائتلاف الجديدة: التقوِّي بالسوريين

بعد أربعة أيام من مداولات أعضاء الهيئة التي يُفترض فيها تمثيل الثورة السورية سياسياً، خرج الأمين العام السابق للائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية يُبشرُ السوريين بخبرٍ واحدٍ ووحيد يتمثل في انتخاب هيئةٍ رئاسية جديدة. ولأول مرةٍ في مثل هذه الاجتماعات، لم يكن هناك أي بيانٍ رسمي عن مداولات الهيئة العامة يُشير إلى أنها خرجت بقرارٍ واحد يتعلق بأي شأنٍ من شؤون الثورة السورية.حتى الجهدُ البسيط الذي كان الائتلاف يبذلهُ سابقاً، على خجل، ليُشعر السوريين بأن أمور ثورتهم تُناقش، بشكلٍ أو بآخر، في اجتماع هيئته العامة، صار شيئاً من الماضي.هكذا، تتكرر التجربة التي صارت سِمةً لعمل الائتلاف، خمسةُ أشهر من الجمود يتلوها شهرٌ من المباحثات والصفقات والمناورات الكثيفة (والشرسة أحياناً) التي تهدف فقط للوصول إلى قيادة الائتلاف مع نهاية الشهر السادس. والكل يبرر لنفسه وللآخرين أنه ما إن يصل إلى مقعد القيادة، فإنه سيعمل للسوريين وثورتهم، ثم تعود الأمور إلى الجمود.يصدق كثيراً في وصف الوضع ما قاله ياسين سويحة في مقاله منذ أسابيع: "يعيش الائتلاف، ككيان سياسوي افتراضي، في واقعٍ لا يشبه وقائع ما يجري في الداخل السوري في شيء. لا إيقاعُ تحرّكه يتناسق مع مجريات الداخل، ولا فداحة النكبات الكبرى التي وقعت على رؤوس السوريين ترتدّ في أدائه السياسي. السوريون، من يُتابع منهم أخبار الائتلاف، على موعد مع ضجيج دوري كلّما اجتمع أعضاؤه لـ«انتخاب» رئيس جديد له، ضجيج يَصدر ويُسمع في واقع سريالي، ليته كان واقعاً موازياً بأقل درجات التوازي. لا أخبار عن الائتلاف بالكاد إلا المشاحنات والخصومات والمكائد، وتغيّر اصطفافات وتحالفات أعضائه كأفراد، أو الكيانات الهُلاميّة – كي لا نسمّيها وهميّة – التي يُفترض أنها تُكوّنه. يجري كلّ هذا وسط ضبابيّة ووراء كواليس مثيرة للريبة وللغضب، على ماذا يختلفون؟ على ماذا يتفقون؟ لماذا يتحالف هذا مع ذاك اليوم؟ لماذا خاصم هذا ذاك أمس؟ وهل ستعود الخصومة غداً؟".لا يفيد في شيء تأليفُ مُعلقةٍ هجائيةٍ أخرى للائتلاف، رغم أن غالبية أعضائه لا يفهمون من أي نقدٍ سوى أنه يهدف للتهجم والاتهام، ولهذا فالأرجح ألا يمتلكوا الصبر على قراءة أي نقدٍ موجهٍ إليه، فضلاً عن إمكانية الاستفادة منه في قليلٍ أو كثير. والنتيجةُ السريعة والمباشرة هي اتهامُ كل من يُوجهُ النقد بالخصومة الشخصية وتصفية الحسابات وغير ذلك من الاتهامات الجاهزة المُعلَّبة، والاستراحةُ من عناء التفكير، والعودة للانشغال بمسيرتهم المألوفة.بغضَّ النظر عن معاني هذه الممارسة، هناك مسؤولية كبيرة جداً تقع على القيادة الجديدة للائتلاف لتواجه تحدياتٍ عديدة، بعضُها ينبع من تركيبة الائتلاف وثقافته، في حين ينبثق بعضها الآخر من الظروف التي لابست وصولها إلى موقعها القيادي.ثمة أولاً المعنى الكامن في الانقلاب الجذري في التحالفات، والذي أدى إلى النتيجة الجديدة، وهو انقلابٌ من النقيض إلى النقيض، يعرف الجميع تفاصيله الغرائبية. لن نناقش هنا دلالات هذا الموضوع فيما يتعلق بالقيم والمبادئ، إذ يبدو أن هذه الأخيرة لم تعد ذات علاقة بالفكر السياسي السائد في الائتلاف.. وإنما يكمنُ الخطر في دلالاتها العملية فيما يتعلق بالمستقبل. فحين تحدثُ مثل هذه الانقلابات لحسابات ومصالح انتخابية بحتة هذه المرة، كما في مراتٍ سابقة، فإن هذا يعني إمكانية حصولها دوماً في أول موقفٍ تتضارب فيه تلك الحسابات والمصالح. ومن المعرفة بشؤون الائتلاف، فقد يحدث هذا أقرب مما يتصور الكثيرون، الأمر الذي يُصيب أي مبادرات جدية بالشلل، ويجعل القيادة دائماً محكومةً بالحفاظ على توازناتٍ يمكن تأمينها بالسلبية وانعدام المبادرة، أكثر بكثير من ضمانها بالفعل الإيجابي المُبادر.وفي مساقٍ آخر، الواضح أن رئيس الائتلاف الجديد هو أكثر شخصيةٍ مرت في قيادات الائتلاف تمتلك حداً أدنى من الكمون الإداري والثقافي المطلوب لقيادةٍ فعالة. لكن عليه أن يتذكر دائماً كيف أن آليات العطالة والتعطيل الداخلية تحكمُ تركيبة الائتلاف وثقافته بشكلٍ يمكن لها بسهولةٍ أن تقتل ذلك الكمون.على سبيل المثال، ليس لدينا أي عاملٍ شخصي ضد أعضاء الهيئة الرئاسية الجديدة، لكن معرفتنا بهم تؤكدُ بأن تركيبة الهيئة هي أبعد ما تكون عن التجانس، على المستوى الفكري والشخصي والخلفية الثقافية والقدرات التنظيمية والإدارية. وهو تجانسٌ يُمثل الشرط الأول لإمكانية إحداث أي نقلةٍ مؤسسيةٍ، مطلوبة منذ زمن، في عمل الائتلاف.والواضح على مدى قرابة عامين من عمر الائتلاف أن ثقافة عميقة ترسخت فيه لا يمكن أن تسمح أصلاً بأي نوعٍ من أنواع العمل المؤسسي.رغم هذا، ورغم أن رئيس الائتلاف محكومٌ بشكلٍ أو بآخر بأعراف الائتلاف وتحالفاته، إلا أن ثمة أفقاً يُمكن أن يُفتح إذا ما بادر إلى الخروج، بشكلٍ مُخططٍ ومتوازنٍ ومدروس، من حصار هيكلية الائتلاف إلى فضاء المجتمع السوري الواسع المؤيد للثورة، بكل ما فيه من طاقات وخبرات وإمكانات. وهؤلاء يُعدون بالمئات على الأقل، لم يستطع الائتلاف يوماً أن يوظف طاقتهم الإيجابية، بل إن ممارساته ومواقفه عملت على تحييدها أو تحويلها إلى طاقةٍ سلبية ضده عملياً ونفسياً وإعلامياً.توجدُ حتماً وسائل كثيرة للتواصل مع تلك الشرائح على المستوى الشخصي، كما يمكن ابتكار آليات لاستيعاب جهودهم في إطار أداء وظائف الائتلاف، دون كونهم أعضاء فيه بالضرورة.التقوِّي بالسوريين إذاً.قد يكون هذا مدخلاً وحيداً يُخرج قيادة الائتلاف من الاستعصاء المتحكم بهيكلية الائتلاف وثقافته، ونحن لا نطرحُ هذا غراماً بالائتلاف، وإنما لكون هذا الجسد المترهل مفروضاً على الثورة كممثلها السياسي. وإذا كان من السهل الزهدُ فيه وفي شؤونه لدى الكثيرين، لكن هذا لا يغير من حقيقة تأثيره السلبي البالغ على الثورة في وضعه الراهن.ثمة فسحة زمنية محدودة أمام رئيس الائتلاف الجديد لإظهار ملامح تغييرٍ حقيقي فيه، وبما أن مصير الطريق القديم معروف، فقد تكون الجرأة على السير في طريقٍ جديد يلتحمُ بالسوريين سبباً لإصلاح الائتلاف، أو لإعذارٍ يحفظ المقام أمام الشعب والتاريخ.

752

| 13 يوليو 2014

في الزواج النَّكِد الذي ولَّدَ داعش

ثمة حالةٌ من التجلي لقذارة النظام الدولي وافتقاده لأدنى درجات الأخلاقية تظهرُ في موقفه مما يجري على أرض سوريا والعراق اليوم. فحين تحتفل (داعش) بإقامة (خلافتها) بعرضٍ عسكري جرﱠار في فضاء الرقة المفتوح وفي وضح النهار، ويحصل هذا على مرأى ومسمع النظام السوري دون تدخل براميله المتفجرة من جهة، وعلى مرمى حجر من مطاراتٍ عراقية فيها مئات طائرات (الدرون) الأمريكية، التي تتفنن في ملاحقة وقتل أفراد يختبئون في زواريب أفغانستان واليمن وليبيا من جهةٍ أخرى، لايعودُ الأمر بحاجةٍ إلى كثيرٍ من التحليل فيما يتعلق بالنظام الدولي المذكور.آمنَّا وصدﱠقنا إذاً أن وجود داعش و (عُلُوﱠها) بهذا الشكل في هذه المرحلة أمرٌ مطلوبٌ ومرغوب، بغض النظر عن كونه مؤقتاً أو طويل الأجل، وعن إمكانية ضربها وإلغائها نهائياً فور انتهاء دورها.لكن وجود هذه الظاهرة المجنونة بكل المقاييس لم يكن له ليحصل لو اقتصر الأمر على إرادة النظام الدولي، وعلى رغبة أنظمة سوريا والعراق وإيران وغيرها.لأن ماسمح بهذا الظهور، ابتداءً، كان ولا يزال ذلك الفهم المُهترئ للإسلام، والذي قتلَ كل معانيه الأصيلة وطمس روحهُ وكل مافيه من دوافع ودعوات لوجودٍ إنساني عاقلٍ حرٍ كريم.لكننا نُخطئ إذا ألقينا تَبعةَ هذا الفهم على أهل داعش وأمثالهم فقط، وإذا تجاهلنا حقيقةَ أن هذه الطريقة في التفكير هي النتيجةُ الطبيعية لكل أشكال الفهم المشوﱠه للإسلام، والتي كانت تتوزع الأدوار في دعوى تمثيله والحديث باسمه في المجتمعات العربية، بأسماء وتفسيرات وفرق مُختلفة.فمن الإسلام الفقهي التقليدي (مثل فقه المشايخ في بلاد الشام) وصولاً إلى الإسلام الحركي، مروراً بالإسلام السلفي والصوفي، وغير ذلك من تلاوينَ وتوجهات، كانت المجتمعات المذكورة تتقبل وجود هذه التجليات وتتعايش معها.وكان هذا التعايش ممكناً لأن الغالبية العظمى من أصحاب هذه التوجهات كانوا يتعاملون مع الظروف السابقة بطروحات نظرية حمالةٍ للأوجه. لم يكن هناك داعٍ، قبل زمن الأزمات الذي نعيشه، لأن يتخذ هؤلاء مواقف (عملية) واضحة وقاطعة من قضايا كبرى وحساسة بشكلٍ يُظهر حجم الهوة بين فهمهم وبين تحقيق مقاصد الإسلام الرئيسة فيما يتعلق بحياة الإنسان على هذه الأرض، وبتأكيد قيم الحق والعدل والحرية والجمال.لم تكن المجتمعات تعرف، عملياً، ماذا سيحصل بها، وكيف ستتأثر، لو أن أصحاب هذه التوجهات امتلكوا بعضاً من زمام الأمر، أو الأمر كله، فيما يتعلق بوجودها ومعاشها، وفيما يختص بقضاياها سواء منها المصيرية الكبرى، أو تلك المتعلقة بالحياة اليومية.حتى (الجهاديون)، الذين كان يبدو أنهم يتخذون مواقف عملية واضحة أكثر من غيرهم، كانوا يُنزﱢلون طروحاتهم الغاضبة على الغرب وعلى بعض حكام العرب، ولم يكن واضحاً تحديداً كيف سيكون تعاملهم التفصيلي مع وجود تلك المجتمعات وقضاياها.لكن زمن الثورات غيَّرَ هذا الواقع بشكلٍ عام، وشاءت الأقدار أن تُصبح سوريا مثالاً عملياً واضحاً على ماسيشهده مجتمعٌ تتحكم بمصيره، بشكلٍ جزئيٍ أو شامل، مجموعاتٌ تدﱠعي تمثيل الإسلام واحتكار فهمه.وعلى مافيها من آلام وتضحيات، لم يكن ثمة بدٌ، على المستوى الحضاري، من مثل هذه التجربة الكاشفة التي أماطت اللثام عن ممارساتٍ، صدرت عن الجميع تقريباً. وظهرَ واضحاً أن غالبيتها العُظمى لاتفقد فقط الانسجام المطلوب مع تعاليم دينٍ يُعلي من قيمة الإنسان ويُكرمه، بل إنها تتناقض مع تلك التعاليم.يطول الحديث عن التفاصيل، وقد كانت موضوع مقالاتٍ سابقةٍ عديدة، لكن المحصلة تُظهر أن تجليات الإسلام المختلفة في سوريا، التقليدية والسلفية الجهادية والحركية السياسية، وصلت بوضعها الحالي إلى طريقٍ مسدود. ورغم الإشكاليات التي يمكن نِسبتُها إلى أصحابها وإلى طرق تفكيرهم وحركتهم، إلا أن الاقتصار على هذا الجانب من التحليل لايفتح لنا أبواب أي حل، ولا يجيب على الأسئلة الكبرى التي يُثيرها الواقعُ الذي أوصلوا ثورة سوريا إليه.ثمة مدخلٌ آخر ينبغي وُلُوجهُ والحفرُ من خلاله في عُمق وتركيبة المنظومات التي صاغتها هذه التوجهات على أنها (إسلامٌ) هو (الإسلام) الذي يجب أن يقبله الآخرون.هناك خيرٌ عميمٌ فيما فعلته (داعش) عبر إعلانها دولة الخلافة، لأنها أخذتنا وأخذت السوريين، بل والمسلمين جميعاً، إلى نهاية طريقٍ كانت ملامحه تُراود الكثيرين كأحلام، ولو التبس فيها عند البعض جموحُ العاطفة بمقتضيات العقل والمنطق.هل يدرك أصحاب التجليات الإسلامية المذكورة أعلاه أن ماوصلت إليه داعش كان في الحقيقة مجرد مرحلةٍ متقدمة لفكرٍ يتقاطع في كثير من دوائره مع تفكيرهم؟ سترفض غالبيتهم يقيناً هذا التحليل وتستهجنه، وثمة هروبٌ واضحٌ من مواجهة هذا الواقع عبر إقناع النفس بالشعارات والبيانات، وبإقناع النفس أن (طَرحَنا) مختلفٌ تماماً عن طرح داعش، دونما بحثٍ عن تلك الخيوط الدقيقة التي تنسج في نهاية المطاف الثوبَ نفسه.إن داعش تُعتبر مولوداً طبيعياً لزواجٍ غريب بين وحشية النظام الدولي واهتراء الفهم الراهن للإسلام. وبما أن النظام الدولي يبدو مستمراً في افتقاده إلى حدٍ أدنى من القيم الإنسانية، وبما أن هناك إصراراً على فهمٍ اختزاليٍ للإسلام يقلب كل تعاليمه ويُفرغها من مضمونها، فإن داعش ستبقى.ستبقى داعش، إن لم يكن بشكلها وتنظيمها الحالي، فبروحها وفلسفتها.ستبقى كل مولدات داعش مغروسةً في ثقافة فهم الإسلام السائدة، وستكون جاهزةً لتوليدها مرةً بعد أُخرى بألف شكلٍ ومظهر.ولن يمكن التعاملُ مع هذه الأزمة بشكلٍ حقيقي في غياب فكرٍ نقدي جذري يخرج عن النسق المعرفي الواحد الذي يحكم التوجهات الإسلامية المختلفة حتى الآن، بغض النظر عن التنويع الظاهري في اللافتات والعناوين.

1007

| 06 يوليو 2014

في فهم الإسلام وتنزيله على الواقع سوريًّا.. دروسٌ من ماليزيا (1)

بعيداً عن نماذج الإسلام الذي تُقدمهُ داعش وأشباهها، وبعيداً عن التنظير البحت بحثاً عن نموذجٍ يتعلم منه السوريون، ثمة نماذج عملية متقدمة تتعلق بكيفية فهم الإسلام وتنزيله على أرض الواقع، قد يكون من أبرزها النموذج الماليزي.يمكنك أن تصف ماليزيا بما تشاء. ولكنك ستدرك في النهاية أن هذا البلد يتميز بصفةٍ مميزة تغلب كل صفةٍ أخرى: القدرة على اكتشاف المصالحة الأصيلة بين الإسلام والحياة. فمنذ ثلاثة عقود ونيف، وماليزيا تكتشف لنفسها، وتكشف للعالم من حولها جوانب تلك المصالحة.بدأت المسيرة أولى خطواتها مع تأكيد المصالحة مع الذات، مع الإنسان الماليزي. فبعد أحداث الشغب الطائفية التي راح ضحيتها مئات الماليزيين عام 1969م تعلّم الماليزيون الدرس.تمَّ التركيز في مناهج التربية والتعليم والإعلام على بناء الإنسان قبل كل شيءٍ آخر. وعلى صياغة هويةٍ مشتركة واحدة، وهذه أولوياتٌ يمكن للسوريين أن يضعوها نُصبَ أعينهم بشكلٍ عام، وأن يكتشفوا جُذورها الأصيلة في فهمهم للإسلام على وجه التحديد.آمنَ الماليزيون بإمكانية إيجاد دولةٍ قوية جديدة مزدهرة تؤمّن الرفاه في الدنيا لجميع أبنائها، دون أن يكون في هذا بالضرورة تضاربٌ مع البحث عن الفلاح في الحياة الآخرة لمن يريد ذلك. تمّ بناءُ حلمٍ (مُشترك) أكبر يشمل الجميع، وجرى رسم سياساتٍ عمليةٍ واقعية، بعيدة عن الشعارات المزيفة والأوهام والمزايدات، تهدف ليكون تحقيق ذلك الحلم الهمَّ الأوحد لأبناء الشعب من كل الأعراق.بهذا، تدرّبَ الناس عملياً على تجاوز الصغائر والمظاهر والاختلافات الجانبية المناطقية والعرقية والمذهبية. أصبح إعمارُ الدنيا هدفاً عملياً قابلاً للتحقيق. وصار النجاحُ على المستوى الشخصي جزءاً من نجاح البلد، ونجاح البلد طريقا للنجاح الشخصي. شعر الإنسان بقيمته، وبدوره، وبحريته، وباحترامه، وبتقدير مواهبه وإمكاناته. وسرعان ما بات البحث عن مكان مميزٍ لماليزيا في خريطة العالم طموحاً ممكناً قريب المنال.وفي غضون عقدٍ من الزمان، أصبحت ماليزيا مثالا للتعايش والتعاون بين ثلاث ثقافات مختلفة تُشكِّل نسيج البلاد الاجتماعي والثقافي والاقتصادي، المالاوية والصينية والهندية.تعلّم الماليزيون أن الاختلاف سنّة الكون والحياة.. وأنه سبيلٌ للتنوّع والتكامل والثراء والتطور الثقافي والاجتماعي والاقتصادي. أدركوا ضرورة وإمكانية تجاوز مشاعر الطفولة الإنسانية المتمحورة حول (الأنا)، وارتفعوا عليها عملياً.. فاكتشفوا فوراً أن الاختلاف ليس مدعاةً للخلاف. وأن قبوله لايعني بالضرورة السقوط في أفخاخ الذوبان الثقافي والدونية والتبعية، كما يتوهّم الكثيرون.. طبعاً بشرط أن تمتلك الثقافة السائدة حداً أدنى من العقلانية والذكاء والثقة بالذات وبالهوية.لاندعو للمثاليات في هذا المقام، ونُدرك عُمق الجرح الذي رسمتهُ سكينُ الطائفية في سوريا بقرار النظام وممارساته قبل كل شيءٍ آخر. لكن أخذ المعاني السابقة بعين الاعتبار يمكن أن يكون مدخلاً للبحث عن حلول خلاقة للتعامل مع الوضع السوري المُعقد.خارجياً، أخذت ماليزيا قرار الانفتاح على العالم بشكل حاسم ومتوازن ومبتكر. رفعت الحكومة مثلاً شعار (النظر شرقاً) لدعوة الماليزيين ليتعلموا من خصوصية تجربة اليابان وكوريا التي تجمع بين الانفتاح الاقتصادي والتكنولوجي من جانب، والمحافظة على قيم المجتمع الأصيلة من جانبٍ آخر.لم يكن في ذلك دعوةٌ للقطيعة مع الغرب بأي شكلٍ من الأشكال.. فالعلاقة معه واضحةٌ جلية في جميع مظاهر الحياة في ماليزيا. لكن هذا كان درساً آخر من دروس المصالحة مع الحياة، يتمثل في القدرة على نفي التضاربات الموهومة من خلال الابتكار والتخطيط وحُسن تقدير النِّسب والأولويات والتوازنات.لم يحاصر الماليزيون أنفسهم عند التعامل مع العالم، نفسياً وعملياً، في ثنائية التبعية أو المواجهة. ورغم أن الدستور ينص على أن دين الدولة الرسمي هو الإسلام، لم تُمزِّق ماليزيا نفسها بافتعال مشاعر التضارب بين انتمائها الإسلامي وانتمائها الإقليمي، كما فعل ويفعل كثيرٌ من المسلمين شعوباً وحكومات.لم تعتقد ماليزيا أن المصالحة مع العالم تعني خياراً وحيداً بين التنازل أو العنف حتى في أوقات الأزمات، كان الابتكارُ وكانت الحكمةُ على الدوام الشعارَ والوسيلة. فعندما اتخذت بريطانيا في عام 1981م مثلاً بعض القرارات الاقتصادية المجحفة بحق ماليزيا من طرف واحد، لم تلجأ الحكومة إلى المزايدات، وإنما رفعت ببساطة في الداخل الماليزي لمواطنيها شعار (اجعل شراء المصنوعات البريطانية خيارك الأخير). وعندما تمت الإساءة إلى صورة ماليزيا في بعض الأفلام الأسترالية بعد عشر سنوات، أعلنت الحكومة الماليزية نيتها رفع نفس الشعار تجاه أستراليا، فحلّت الأخيرةُ الأزمة سريعاً عبر تقديم اعتذارٍ علني ورسمي لماليزيا.لا يمكن لأي ثقافة أن تتصالحَ مع الحياة مالم تتصالح أولاً مع قيم ومعاني التجديد والإبداع والابتكار. على كل مستوىً وفي كل مجال.. لا مكان في هذا العالم لمن يتعامل معه بعقلية الخوف من كل جديد، والحذر من كل طارئ، والرهبة من كل مختلف، فالتغييرُ سِمة الحياة البشرية الكبرى، وبغيابه يفقد الوجود الإنساني أكبر معانيه وأسبابه.. من هنا، فالثقافة التي لا تعرف كيف تتعامل مع التغيير تصبح سريعا ثقافة ركودٍ وتقليدٍ وانعزال.. ثقافةً لا تصلح إلا للبقاء على هوامش الحياة في أحسن الأحوال.أدرك الماليزيون هذا. وأدركوا أن فهم الثقافة الإسلامية وتنزيلها على الواقع بتلك العقلية هو أسرع وأقصر طريق لتقزيم الثقافة نفسها ولتقزيم بلادهم في نفس الوقت، فرفضوا تلك الممارسة وانطلقوا يجوبون فضاءات الفعل البشري في كل مجال بحيويةٍ وطلاقةٍ وشجاعة. وبكثير من الثقة بالذات وبالثقافة، وبقدرتهما على استيعاب كل جديد والتعامل مع كل طارئ.وبشيء من المتابعة والتحليل، يرى المرء كيف تجاوزت تلك الثقافة كثيرا من (الألغام) الثقافية والفكرية التي تَنتجُ عنها أزمات عملية مستمرة في المواقع الأخرى. وللكلام صلة.

957

| 29 يونيو 2014

كيف يستعيد السوريون الائتلاف الوطني؟

هل يوجد بصيصُ أمل بأن يبادر أصحاب الشأن في الائتلاف الوطني لإصلاحه؟لم يعد خافياً أن الائتلاف بحاجة لانتفاضة سياسية وتنظيمية تُعطيه القدرة على تحريك المسار السياسي الراكد، وعلى القيام بمبادرات تضعه في موقع صانع الحدث، وعلى إحداث اختراق سياسي وعسكري مطلوب.نعم، لا توجد لدى غالبية السوريين قناعةٌ بالائتلاف وأدائه، لكن هذا لا يتضارب مع واقعية كثيرٍ منهم حين يتعلق الأمر بوجود الائتلاف ودوره، حتى الآن على الأقل.فرغم كل ما يمكن أن يُقال عن الائتلاف وسلبياته، وهو كثير.. ورغم الاتهامات الموجهة له بعدم قدرته على أداء دوره في تمثيل الثورة سياسياً، وهذا صحيح، يبقى الائتلاف، حتى الآن، الجهة السياسية الرسمية التي اعترفت بها دول العالم بشكلٍ أو بآخر.. ويظلﱡ الجسم الذي يحمل مسؤولية التمثيل السياسي للثورة.ربما تكون هذه الحقيقة أكبر تجليات الأزمة التي تواجه الثورة السورية، لكنها تظل حقيقةً تفرضُ نفسها على أرض الواقع.والحالُ مع هذه الظاهرة لا يتعدى خيارين.. فإما أن (تَستقيل) الشرائح المؤهلة للتأثير على الائتلاف من هذه المهمة، كما هو حاصلٌ حتى الآن، وتترك الائتلاف على حاله. أو تَخرج من وضع العطالة الراهن، وتُشكِّل (حالة ضغط) شعبية عليه وعلى أعضائه وقيادته، تكون سبباً لانطلاق عملية إصلاحٍ جذرية فيه.لقد أبدعت الثورة السورية، في مراحلها المتتالية، أشكالاً من الفعل الثوري تُحاول التعامل مع طبيعة كل مرحلة.. والواضح أن هذه المرحلة تتطلب درجةً من التنظيم والحشد اللذين يهدفان، حصراً، إلى تشكيل حالة رقابةٍ شعبية حقيقية ومؤثرة على الائتلاف.. فيكون هذا نموذجاً آخر من نماذج ذلك الفعل الثوري الجديدة.نعرف أن البعض أُصيب بالملل لمجرد الحديث في مثل هذه القضية، لكن من المُعيب أن يكون التعامل مع الأوطان وقضاياها بمثل هذه المشاعر.ثمة مئاتٌ، إن لم يكن أكثر، من النشطاء الذين أشعلوا الثورة وكانوا طليعتها الأولى، وفي هؤلاء مثقفون وكتاب وفنانون وأدباء، من الغريب ألا يكون لهم دورٌ في هذه المرحلة.. ومن غير المقبول أن يحصلَ هذا بدعوى أن الائتلاف وأهله لايريدون لهم ذلك الدور، سواء كان هذا مقصوداً أو عن تقصيرٍ وإهمال.فالائتلاف في نهاية المطاف ليس مُلكاً لأعضاء الائتلاف ولا لقيادته، وإنما هو مُلكٌ لسوريا وثورتها ونُشطائها وأهلها.. وإذا كان هذا الكلام، في نظر البعض مثالياً وطوباوياً، فإن هذا لا يغير الحقيقة المذكورة، وإنما يُعبر عن (رجعيةٍ) تعود بنا للوقوع في فخ ثقافة السلبية واليأس التي يُفترض أن الثورة قامت عليها، قبلَ أي شيءٍ آخر.لا مشاحة في الاعتراف بأن المعارضة السياسية السورية بجميع أطيافها ومكوناتها لم تكن مستعدةً لأداء مهمةٍ بحجم المهمة التي باتت، فجأةً، مسؤولةً عن أدائها. فكلنا يعلم طبيعة الظروف التي كانت تعمل فيها على مدى العقود الماضية، وثمة فارقٌ كبير بين القيام بدور (المعارض) على الطريقة التي كانت سائدةً في سوريا ماقبل الثورة، وبين دور القيادة السياسية لثورةٍ فرضت نفسها كواحدةٍ من أعظم ثورات التاريخ.ولا نبالغ إذا قلنا إن الدور الذي نتحدث عنه من أصعب الأدوار التي يُطلب أداؤها على مستوى العمل العام.من هنا، لا يكون مُعيباً إذا تواضعت المعارضة السورية واعترفت بصعوبة المهمة الملقاة على عاتقها. فهذا الاعتراف علامةٌ صحيةٌ يمكن أن تكون أول خطوةٍ فعلية في تشكيل قدرتها على أداء دورها المطلوب.. ولا حاجة للمكابرة والادّعاء في مقامٍ لا يحتاج إلى مثل هذه الممارسات.. وسيكون الشعب السوري أول من يتفهّم هذه الحقيقة، ويحترم القائلين بها، ويعود لإعطائهم المشروعية المطلوبة.هناك حاجةٌ ملحةٌ لأن يغادر جميع الساسة المعارضين السوريين اليوم، خاصةً في الائتلاف، إقطاعياتهم و(كانتوناتهم) التنظيمية والأيديولوجية.. فالسياسة بالتعريف السائد هي فنّ الممكن. والممكنُ في الواقع السياسي السوري المعاصر يفرض عليهم جميعاً الخروج من نفق المماحكات القاتلة المتعلقة بتمثيل السوريين وثورتهم، والتي تكاد تغرقهم وتُغرق الثورة إلى الأبد.لاتوجد ملائكةٌ تمشي على الأرض في هذه الدنيا، فلاتخطئ في حسابٍ أو تحتاج لمراجعة موقف أو إعادة النظر في رؤيةٍ مُحددة أو سياسةٍ بعينها. من الطبيعي إذاً لأي جماعة أو فرد أو هيئةٍ أن تُخطئ أو يخطئ في الحسابات أو في السياسات أو في المواقف، أو في ذلك كله، وهذا يصدقُ على الائتلاف في زمننا الراهن كما لايصدق على جهةٍ أخرى مسؤولةٍ أمام شعبها وبلادها.هذه حقائقُ تعرفها جميع الأطراف، ومن مصلحة السوريين جميعاً أن يبني عليها أصحابُ العلاقة داخل الائتلاف، وخارجه في أوساط الثورة والمعارضة، أساساً لنقلةٍ جديدة في عمل الائتلاف خلال المرحلة القادمة.هذا ليس واجباً سياسياً وأخلاقياً فقط، وإنما هو أيضاً دليلُ نضجٍ سياسيٍ وثقافيٍ للسوريين، خاصةً لمن منهم تصدى لمواقع المسؤولية.لم يعد المرء يعرف، حقيقةً، مَن يشعر بتلك المسؤولية في أوساط الائتلاف، ومَن يُدرك طبيعتها وحجمها وتَبِعاتها أمام الله والتاريخ والشعب والوطن.. وإذا كان هناك من يَسخر حتى من مثل هذا الحديث، فإن هذا لايُلغي حقيقة أن هؤلاء سيواجهون تلك التَبعات بشكلٍ أو بآخر.نشك حقيقةً في أن يتمكن الائتلاف من إصلاح نفسه بنفسه.. ولابد من تدخلٍ خارجيٍ يقوم به أصحاب الشأن من السوريين.. ومن هنا تحديداً تظهر الحاجة الماسة اليوم لزيادة جرعة الرقابة الشعبية على الائتلاف بأشكال مختلفة.. ليس فقط من قبل الإعلاميين والمثقفين والساسة خارج إطاره، وإنما أيضاً من السوريين جميعاً، لأنهم أصحاب الحق قبل غيرهم في طرح الأسئلة والحصول على الإجابات.لم يقم السوريون بثورتهم، ولم يقدموا كل تلك التضحيات، ليصلوا إلى مرحلةٍ يُضحي فيها الائتلاف سبباً لليأس والانسحاب والسلبية في صفوفهم.. ولن يكون كثيراً عليهم، بشيءٍ من الحكمة والتخطيط، أن يُلزموا هذا الجسد السياسي بالقيام بدوره المطلوب، أو يكنسوه من طريق الثورة مرةً واحدة وإلى الأبد.

821

| 22 يونيو 2014

بين نقد الإسلاميين ونقد العلمانيين (2)

نادرون هم الذين يمارسون نقد الذات ونقد (الآخر) بموضوعية في صفوف الإسلاميين، وليس أكثر نُدرةً منهم إلا العلمانيون الذين ينقدون العلمانية نفسها وينقدون الإسلاميين بموضوعية.رغم هذا، ثمة أمثلة، قد تكون قليلة، لكنها مُعبرة في رمزيتها، وغنية بكمونها الثقافي في مَن يُصنفون وفق عالم التصنيفات الشائع كـ (علمانيين)، ويمارسون تلك الممارسة بشكلٍ منهجي.قد يكون أبرز هؤلاء في الواقع السوري المعاصر الكاتب ياسين الحاج صالح، فرغم (غضبة) بعض الإسلاميين عليه، ينظر إليه علمانيون سوريون أحياناً على أنه (اعتذاري) للإسلاميين في إنتاجه الثقافي بشكلٍ عام. لكن كتابه الأخير (أساطير الآخرين: نقد الإسلام المعاصر ونقدُ نَقدهِ) يُعتبر محاولةً مُتقدمةً جداً لتقديم نقدٍ عميق وموضوعي للتفسير المعاصر للإسلام من قبل الإسلاميين، مع الحرص في الوقت نفسه ليس فقط على نقد من أصبح نقدُ الإسلام والإسلاميين كِلاهما صناعة لهم في السنوات الأخيرة، بل وعلى نقد الغرب الذي أنتج العلمانية نفسها.سيكون الاقتباس في هذا المقال، على طوله النسبي، ظالماً لأفكار كتابٍ استثنائي تُعتبر قراءته بشكلٍ جدي ضرورة لكل مهتمٍ بموضوعه الإسلام المعاصر والإسلاميين، وبالواقع العربي بشكلٍ عام. لكن الأمل أن تُسلط الفقرات التالية المنقولة منه الضوء على منهجٍ متميزٍ في النقد يجب أن يشيع في جميع الأوساط.في فصلٍ بعنوان (الـ "لا" الإسلامية النافية للعالم كأساس للأخلاقية) يقول الحاج صالح: "...والحالُ أن العالم المعاصر فاسدٌ فعلاً، وإن يَكُن فساده، مثل صلاحه، تاريخياً ونسبياً ومُتغيراً، لا جوهرياً ومُطلقاً وثابتاً. في هذه النقطة، فساد العالم، الإسلاميون على حق أكثرَ من تيارات سياسية وفكرية أخرى قد تنسبُ نفسها إلى (الحداثة)، وترى في تنظيمات الغرب المعاصرة معياراً نهائياً للصلاح العالمي... إن الصفة المحافظة، كيلا نقول الرجعية، للحداثة العربية في ربع القرن الأخير، تنبع من هنا بالضبط، خاصة من دعوتها إلى تَمثُّلِ عالم يزداد جوراً، بل واعتبارها هذا العالم مثلاً أعلى، يَكتسب كلﱡ فكر وكل عمل قيمتهما من السعي إلى التطابق معه. بل تسليمها غير النقدي بضربٍ من (نهاية التاريخ)، مُجسدة في الغرب المعاصر. هذا أكثرُ من استسلامٍ سياسي، إنه مسلكٌ امتثالي وغيرُ عقلاني. وعقيم فكرياً وثقافياً أيضاً، ولعلهُ ليس إلا الوجهَ الآخر لاستسلام الحداثية للعداء للإسلامية، وتكريس ذاتِها للتعبئة والنضال ضدها. من أجل التعبئة يجب أن يكون المثال الحداثي كاملاً ومُوحداً وفوق النقد، وأن تجري أبلسة الإسلامية قدر الإمكان. إن الحداثية العربية غيرُ صراعية جوهرياً، إلا ضد الإسلاميين. ولذلك تندرج بسهولة في خطط القوة الغربية المُهيمنة، وفي خطط نُخب السلطة في بلداننا. وفوق ذلك، لا تملك أي مناعة حيال التوظيف الطائفي".وفي سياق البحث المباشر في عنوان الفصل المذكور أعلاه يتساءل الكاتب: "السؤال اليوم هو: كيف يمكن للطاقة الهائلة التي تحوزُها الـ (لا) الإسلامية أن تتحول من طاقةٍ تدميرية لتكون أساساً صلباً لأخلاقيةٍ، يحتاجها المسلمون، ويمكن أن تُثري العالم؟ وما هو المضمون المحتمل للأخلاقية هذه؟ بدايةً، هذا شأنٌ لا يمكن لأحدٍ إنجازه غير المسلمين أنفسهم. أما الغرب بالذات فهو جزء من المشكلة. وفي أساس ذاك تعصبهُ وتصورُ ذاتهِ معياراً لكل صلاحٍ ونورٍ في العالم. وحيثما أراد أن يلعب دوراً إصلاحياً مباشراً تسبب في فسادٍ عميم، على نحو ما يبرهن الحال في أفغانستان، وأكثر في العراق بعد احتلاله عام 2003، وعلى نحو ما تُظهر أمثلةٌ رثةٌ مدعومةٌ من جهاتٍ غربية لتطوير الإسلام أو تحديثه".الكتاب غني بأفكار تحفرُ بشكلٍ مُبدع في نقد الإسلام المعاصر ونَقد ناقديه السطحيين، وفي الفصل الأخير بعنوان (المرضُ بالإسلام) يختم الحاج صالح الكتاب بقوله: "ويتظاهر (المرضُ بالإسلام) عبر مجموعتين متمايزتين من الممارسات والأفعال التكرارية. ممارسات تقديسية، ترفع الإسلام فوق كل ما هو إنساني، وتُنكر اندراجه في أي مقولات عامة تشمله مع غيره.. لكن عبارة (المرض بالإسلام) تنطبقُ أكثر على ممارسات تأثيمية، تتمثل خاصةً في أَبلسة وتشرير وكراهية، يجعل الإسلام منبعاً أولياً وأصلياً ودائماً لكل ما هو متدهورٌ وجامدٌ في عالمنا، مرضَنا الدائم أو عاهتنا الخَلْقية المتوارَثة. يتعلق الأمر هنا بضربٍ من التثبت النفسي المفرط حول مُدرك (الإسلام). والمثابرة على تسفيهه صراحةً أو مُداورة، مع الحرص أيضاً على إفراده عن غيره وعدم إدراجه في مقولةٍ عامة، منطقية أو تاريخية... واللافتُ في الصيغة التشريرية أو التأثيمية من المرض بالإسلام أنها دخلت السوق بقوة في هذه العشرية المُنقضية من القرن، وأنها شملت عدداً غير قليل من مثقفين معروفين، وصارت تعودُ بالشعبية والشُهرة المضمونة على بعض المُشتغلين بها. الواقع أنها دعوةٌ شعبويةٌ هي ذاتها مُنفعلة وخَطابية ومُتيقنة من عقيدتها، مثل كل الدعوات الشعبوية... وليس القناع المُفضل لهذا الضرب الرائج من الشعبوية إلا نقد الشعبوية، لكن مع تعريف الشعب ثقافياً (وفي الواقع دينياً)". وأخيراً، يحرص الكاتب على إحالة قارئه إلى قواعد منهجية تتعلق بعملية النقد حين يقول: "بَيدَ أنه يتعين هنا التمييز بين النقد الضروري للإسلام والشأن الإسلامي من جهة، وبين عُصاب الإسلام والعداء الموتور له من جهة ثانية. يَتَّسمُ هذا الشكلُ المَرَضي بِحِدة الانفعال والنضالية والغضب من جهة، وبالتكرار اللامتناهي للأشياء والمواقف نفسها من جهةٍ ثانية... من المهم قولُ ذلك بغرض قطع الطريق على من قد ينتحلُ نقدَ الدين للتغطية على ممارسةٍ عِصابية موتورة، وكذلك على من قد يعتبر نقد الشأن الإسلامي مَسلكاً عُصابياً لمجرد أن هناك أشكالاً موتورة وقهرية من عُصاب الإسلام. ومثلما أن أبلسة الغرب لم تُثمر نقداً ثقافياً وفكرياً ذا قيمة للغرب، فإن مشكلة العداء الموتور للإسلام أنه يفشل في أن يطور نقداً جدياً بدوره". ليس ضرورياً ولا مطلوباً أن يوافق القارئ على كل أفكار الكتاب، بل إن الحوار فيها هو الهدف الرئيسي والمُعلن من كتابته ونشره. لكن أهمية الموضوع تكمن في كونه نموذجاً نادراً على النقد الموضوعي للإسلاميين ولناقديهم المُفترين على حدٍ سواء. وكما ذكرنا سابقاً، قد تكون في مثل هذه الطروحات، وفي تعاون أصحابها مع شريحة المثقفين والباحثين المستقلين من خلفية إسلامية، فرصة نادرة لفتح نافذةٍ لتصحيح مسار الثورة السورية من المدخل الصحيح، المدخل الثقافي.

1531

| 15 يونيو 2014

alsharq
مامداني.. كيف أمداه ؟

ليش ما يمديك؟! بينما ممداني زهران، الشاب ذو...

16806

| 11 نوفمبر 2025

alsharq
شكاوى مطروحة لوزارة التربية والتعليم

ماذا يعني أن يُفاجأ أولياء أمور بقرار مدارس...

7713

| 11 نوفمبر 2025

alsharq
الطوفان يحطم الأحلام

العلاقة العضوية بين الحلم الإسرائيلي والحلم الأمريكي تجعل...

5058

| 10 نوفمبر 2025

alsharq
الإقامة للتملك لغير القطريين

في عالم تتسابق فيه الدول لجذب رؤوس الأموال...

4695

| 13 نوفمبر 2025

alsharq
عيون تترصّد نجوم الغد

تستضيف ملاعب أكاديمية أسباير بطولة كأس العالم تحت...

3492

| 11 نوفمبر 2025

alsharq
الوأد المهني

على مدى أكثر من ستة عقود، تستثمر الدولة...

2853

| 11 نوفمبر 2025

alsharq
الصالات المختلطة

تشهد الصالات الرياضية إقبالا متزايدا من الجمهور نظرا...

1947

| 10 نوفمبر 2025

alsharq
كلمة من القلب.. تزرع الأمل في زمن الاضطراب

تحليل نفسي لخطاب سمو الأمير الشيخ تميم بن...

1539

| 11 نوفمبر 2025

alsharq
عندما يصبح الجدل طريقًا للشهرة

عندما صنّف المفكر خالد محمد خالد كتابه المثير...

1131

| 09 نوفمبر 2025

alsharq
من مشروع عقاري إلى رؤية عربية

يبدو أن البحر المتوسط على موعد جديد مع...

1050

| 12 نوفمبر 2025

alsharq
رسائل استضافة قطر للقمة العالمية للتنمية الاجتماعية

شكّلت استضافة دولة قطر المؤتمر العالمي الثاني للتنمية...

1020

| 09 نوفمبر 2025

alsharq
الذكاء الاصطناعي وحماية المال العام

يشهد العالم اليوم تحولاً جذريًا في أساليب الحوكمة...

891

| 10 نوفمبر 2025

أخبار محلية