رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

Al-sharq

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

الشرق

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

في الحاجة لرد استراتيجي عربي على الاتفاق الاستراتيجي بين أمريكا وإيران

لا يمكن التعامل مع الصفقات الإستراتيجية الكبرى إلا من خلال صفقات شاملة مقابلة تحمل أيضاً الصفة الإستراتيجية.ولا يمكن استيعاب الاختراقات غير المألوفة، والكامنة في الاتفاقات الإستراتيجية التي تستهدف مصالح العرب، وربما وجودهم، إلا باستحداث اختراقات غير مألوفة أيضاً في الصف العربي الداخلي على كثيرٍ من المستويات.منذ أسبوعين، أجرى جيفري غولدبيرغ، الصحفي في مجلة The Atlantic الأمريكية، لقاءً مطولاً مع الرئيس الأمريكي باراك أوباما لم يأخذ حظه المطلوب من الدراسة والتحليل لجهة استقراء ومعرفة المحددات الإستراتيجية للموقف الأمريكي من إيران تحديداً، ولسياستها في المنطقة بأسرها تبعاً لذلك.ولئن كان التقصير الإعلامي العربي مألوفاً في مثل هذه القضايا، فإن على أصحاب القرار والجهات الرسمية ذات العلاقة في العالم العربي إجمالاً، وفي الخليج العربي تحديداً، أن تأخذ الإشارات الواردة في اللقاء بكثيرٍ من الاعتبار في مجال تفكيرها بالحاضر والمستقبل. لأنها يجب أن تكون عنصراً أساسياً في الفكر السياسي الذي يهدف للتعامل مع الواقع الراهن، وفي طبيعة القرارات السياسية والدبلوماسية التي يجب أن تؤخذ لتحقيق مصالح المنطقة وأهلها.كانت ثمة مؤشرات في المرحلة الماضية على أن الإدارة الأمريكية تستخدم موضوع النووي الإيراني بشكلٍ عام، وتهديده لإسرائيل تحديداً، كعاملٍ أساسي وراء الحراك السياسي العالمي الذي تقوده الإدارة الأمريكية تجاه إيران بكل أنواعه وتجلياته. لكن المقابلة المذكورة تريد أن توحي بأن ذلك الموضوع بات العنصر الثابت في تشكيل سياسة الإدارة تجاه المنطقة بأسرها. أما كل شيءٍ آخر فقد صار بمثابة تفاصيل ومتغيرات يمكن التعامل معها تكتيكياً، بما في هذا المصالح العربية على اختلافها وتضاربها الظاهري في بعض الأحيان.ورغم أن إسرائيل نفسها لا تزال تُشكك في أن سياسات الإدارة الأمريكية تجاه إيران تتمحور حول هذا الهدف، إلا أن الإدارة تستند عليه كأرضيةٍ قوية لوضع وتنفيذ رؤيةٍ أكثر شموليةً للمنطقة، من المرجح أن تحتوي على محاولات جدية لإعادة رسم الخرائط والتحالفات وطبيعة النزاعات والتناقضات بما يحقق مصالح إستراتيجية كبرى لها في كثيرٍ من المجالات.كان واضحاً في اللقاء أن أوباما يضع جميع النقاط على الحروف فيما يتعلق بالموضوع. وجاء هذا بصراحة ووضوح. فمن ناحية نفى بشكلٍ قاطع كل الدعاوى التي تتحدث عن قدرة أمريكا على التعامل بنجاح مع إيران نووية.ومن ناحية أخرى، أظهر درجةً عالية من الفهم للنظام الإيراني وطبيعة تفكيره حين قال: "بدون أي درجة من الوهم تجاه طبيعة النوايا الإيرانية، وبعيداً عن امتلاك أي نظرة ساذجة لطبيعة النظام، ينبغي القول إنهم أصحاب مصالح".كان هذا مدخلاً بعد ذلك لسلسلة من التصريحات المتتالية التي تؤكد على تلك الجملة الأخيرة كمدخلٍ رئيسي لما يبدو اتفاقاً استراتيجياً مع إيران.فعندما سأله الصحفي عن تصريحات مارتِن ديمبسي، رئيس هيئة الأركان المشتركة للقوات الأمريكية، والتي وصف فيها قادة النظام الإيراني مؤخراً بأنهم "عقلانيون"، تحدث أوباما قليلاً عن دكتاتورية النظام وقمعه لشعبه. لكن هذا لا يأتي بطبيعة الحال في أولويات عناصر صناعة السياسة. من هنا، تابع قائلاً بعدها: "أظن، وهذا ما أعتقد أن الجنرال ديمبسي قصده، أنه لو أننا نظرنا كيف يعملون وإلى القرارات التي اتخذوها خلال السنوات الثلاث الماضية، فإننا نجد أنهم يهتمون بنجاة واستمرار دولتهم. إنهم حساسون لآراء الناس كما أنهم منزعجون من العزلة التي يواجهونها. إن لديهم قدرة على أخذ قرارات على أرضيةٍ تجنبهم المآلات السيئة من وجهة نظرهم. لهذا، فإنهم إذا ما وُجِهوا بخيارات يمكن أن تسبب لهم الكثير من الألم، أو يكون فيها مسارٌ أفضل، فإنه ليس من المستبعد أن يأخذوا القرار الصحيح".وفي إجابة على سؤال آخر، وبعد الحديث عن العصا المتمثلة في العقوبات والمقاطعة الدولية لإيران وكيف قادتها أمريكا بقوة، تحدث أوباما عن ضرورة المحاولة للوصول إلى حلٍ دائم وليس مؤقت مع الإيرانيين، فقال: "إن من الممكن إدارة اندماجهم، فإذا أمكن لهم أن يتغيروا في الحقيقة، كنتيجةٍ لصفقة مقابل برنامجهم النووي، فإن اقتصادهم يصبح مندمجاً أكثر في المجتمع الدولي، وسيكون هناك المزيد من السفر والكثير من الانفتاح. وسيكون هذا بكل تأكيد نتيجةً يجب أن نسعى إليها جميعاً".ربما يكفي هذا لدفع أصحاب العلاقة إلى إعادة النظر في كثيرٍ من السياسات الراهنة في المنطقة، وإلى العمل من جديد على إحداث اختراقات بينية في الوضع السياسي الإقليمي.لكن محتوى المقابلة يحمل المزيد من مؤشرات الخطر التي يصبح التغاضي عنها وعن دلالاتها نوعاً من الانتحار. ففي لفتةٍ فارقة، يسأل الصحفي الرئيس الأمريكي عن رأيه فيما إذا كان يرى خطورةً أكبر في التطرف السني أو التطرف الشيعي.هنا يطرح أوباما وجهة نظر لا يمكن الهروب أبداً من دلالاتها الإستراتيجية الخطيرة على مستوى الرؤية السياسية وعلى مستوى القرارات العملية التي يمكن أن تُبنى عليها. ذلك أن الرجل تهرب من الإجابة المباشرة على السؤال، لكنه أجاب عليه بطريقة معبرةٍ جداً أثارت حتى انتباه الصحفي في تعليقه الذي كتبه عن المقابلة. إذ يقول أوباما: "ما سأقوله هو أنك إذا نظرت إلى السلوكيات الإيرانية فستجد أنها إستراتيجية، ولا تأتي على شكل ردود الأفعال. إن لديهم رؤية متكاملة للعالم، وهم يدركون مصالحهم، ويستجيبون لمعادلة الأرباح والخسائر.. إنهم دولة كبيرة وقوية ترى نفسها كلاعب مهم على المسرح العالمي، ولا أعتقد أن لديهم أمنيات انتحارية، وهم يستجيبون للحوافز".هل كان أوباما بحاجةٍ لأن يجيب بشكلٍ مباشر عن السؤال أعلاه؟ الجواب هو النفي بالتأكيد لأن إجابته أبلغ بكثير من أي إجابةٍ مباشرة.تحدث أوباما في المقال المُعبر عن الكثير. تحدث مرات عن عقلانية الإيرانيين وبراغماتيتهم، وتحدث عن "خلق توازن بين السنة والشيعة"، وعن حاجة دول المنطقة للتعايش مع سياساته والاعتياد عليها، وعن غير ذلك من القضايا الحساسة والخطيرة.وإذ يأتي كثيرٌ من الحديث في صيغة الحاضر والمستقبل، إلا أن الواضح من استقراء الأحداث أن ما يمكن أن نسميه صفقةً إستراتيجية كبرى تمت أو في طريقها للاكتمال بين النظام الإيراني والإدارة الأمريكية.وليس مستبعداً على الإطلاق أن يتمثل أحد عناصر الصفقة في تقديم إيران لضمانات محددة تتعلق بأمن إسرائيل من ناحية، وفي تأمين المصالح الأمريكية من ناحية أخرى.نعم، الإيرانيون براغماتيون جداً، والذي يعرف طريقة تفكيرهم ومداخل سياستهم الداخلية يمكن أن يستقرئ أن قادة إيران أقنعوا أنفسهم بتقديم هذه الضمانات حفاظاً على دولتهم ومصالحها. وفي منطق الحسابات، سيقولون لشعبهم إنه تم تأجيل نصف (المشروع الإيراني) المتعلق بدعاوى المقاومة ومحاربة الشيطان الأكبر إلى المستقبل، في مقابل تحقيق نصفه الآخر المتعلق بالهيمنة على المنطقة في هذه المرحلة.كيف يقرأ أصحاب العلاقة هذا المشهد الاستراتيجي الحساس وكيف يتعاملون معه؟ من الواضح أن القراءة الراهنة، وما ينتج عنها من سياسات، لا تكفي إطلاقاً لاستجابةٍ فعالة للقادم الخطير. لا مفر إذاً من مراجعةٍ خلاقة وجذرية تحرص على توظيف كل الأوراق الممكنة في مواجهة هذا التحدي الخطير، ولو اقتضى الأمر اختراقات قد تكون غير مألوفة في عالمنا العربي، لكنها اختراقاتٌ لا يُستغنى عنها في السياسة الدولية، وهاهي إيران وأمريكا تُقدم لنا نموذجاً عنها هذه الأيام.

664

| 16 مارس 2014

السياسة أهمﱡ بكثير من أن تُترك للساسة وحدهم

لا مفر من التفكير مراراً وتكراراً بهذه المقولة. والأهم، في هذه المرحلة تحديداً من عمر الثورة السورية، إعادة النظر في تعريف (السياسة) و(الساسة) وفي علاقة المُصطَلَحَين بالثقافة والمثقفين.ثمة وهمٌ حاولَ، ولا يزال، ارتداءَ لَبوسَ الحقيقة في أوساط الثورة يتمثل في حصر تعريف السياسة بممارسات معينة. حتى أصبحت تعني عند الكثيرين المهارة في المناورات التنظيمية والحزبية، والقدرة على (حَبكِ) الصفقات الداخلية والخارجية، و(الشطارة) على حشد الأتباع والمريدين، والذكاء في استقراء الرأي العام الشعبي، أو الهمس الخارجي، والعمل بمقتضى أحدهما أو كلاهما. إلى غير ذلك من قضايا مشابهة، قد يفرض واقعنا الراهن أن تكون جزءاً من عالم السياسة، لكنها بالتأكيد ليست إلا كما هي عليه: (جزء جانبي) منها لا أكثر.يقفزُ الوهم المذكور فوق حقيقةٍ كبرى تتمثل في ضرورة ارتكاز السياسة إلى رؤيةٍ ثقافية متماسكة وشاملة قادرة على قراءة واقع الاجتماع البشري السوري والإقليمي والعالمي بكل مكوناته في هذه المرحلة، تستحضرُ في الوقت نفسه، تجارب الدول والحضارات عبر التاريخ. رؤيةٍ تمتلك الأدوات الذهنية والعلمية المطلوبة لصياغة أطر التعامل مع ذلك الواقع وفق جدول محسوبٍ وواقعي للحاجات والأولويات، وبمرونةٍ تحمل طيفاً من البدائل والخيارات.باختصار، تغفل (السياسة) بمعناها السائد في أوساط الثورة أن الرؤية الثقافية هي الحامل وهي المصدر لأي رؤية سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية يمكن لها أن تحقق أهداف الثورة.لا حاجة هنا لكثيرٍ من التنظير، وإنما يكفي العودة لأمثلةٍ عملية قامت فيها دولٌ وحضارات على عاتق قادةٍ امتزج في شخصياتهم (السياسي) بـ (الثقافي) بشكلٍ لا يكاد المرء يميز فيه الحدودَ بين الصفتين.ثمة اختلافٌ في الأساليب والوسائل والغايات، لكن قيام الدول والحضارات اعتمد في النهاية على تزاوجٍ وثيقٍ بين الأمرين.لا حاجة لنعود لألفيات البشرية القديمة، وإنما يكفي النظر في تجربة البشرية من الآباء المؤسسين لدولة المدينة المنورة إلى الآباء المؤسسين للتجربة الأمريكية.ثمة أسئلةٌ كبرى تواجه الثورة السورية لا يمكن أن يُجيب عليها من يتصدون للعمل السياسي بالمفهوم السائد. لا يمكن لهم أن يفعلوا ذلك وحدَهم في أقل الأحوال.وإذ تمر الثورة بمرحلةٍ انتقاليةٍ حضارية في غاية الحساسية، فإن تحديها الأكبر يكمن في الحفاظ على التوازنات النظرية والعملية المطلوبة لعبورها بسلام. لكن هذا لم ولن يحصل بسهولة؛ لأننا، كسوريين، نَتعلّم في هذه الأيام، ولأول مرةٍ في تاريخنا المعاصر، ألف باء فقه الموازنات والأولويات.فنحن نحاول أن نعمل على هدم منظومةٍ سياسية وثقافيةٍ واجتماعيةٍ قديمة، وبناء منظومةٍ أخرى مكانها في الوقت نفسه.نحن نحاول أن نوائم بين أفكارنا السابقة والمستجدة في الوقت نفسه.نحن نحاول أن نستجيب لنداء العاطفة ومقتضيات العقل في الوقت نفسه.نحن نحاول أن نأخذ بعين الاعتبار خصوصية واقعنا وعالمية الأحداث والأفكار والمواقف من حولنا في الوقت نفسه.نحن نحاول أن ننطلق من الرؤية الشرعية ومن الرؤية السياسية ومن الرؤية العقلية العلمية المعاصرة في الوقت نفسه.نحن نحاول أن نعيش مع الجماهير فلا ننعزل في أبراج التنظير العاجية، دون أن نزهد في أهمية الفكر والكلمة والثقافة.باختصار، نحن نحاول كسوريين، بعد زمنٍ طويل من السُّبات، أن نعاود الدخول في تاريخٍ كنّا نعيش على هامشه.لكن التحدي والفرصة أن هذا يحدث وسط ضجيج أزمةٍ عالميةٍ معاصرة هي الأكبر منذ الحرب العالمية الثانية. أي أننا نحاول هذا وسط ظروف غير مثاليةٍ على الإطلاق، لا مجال فيها لأن نأخذ ما نحتاج من الوقت، ونُسخّر ما نتمنى وجوده مثالياً من الجهود والإمكانات والطاقات بشكلٍ يساعدنا على حركةٍ تتوافرُ فيها ضمانات أكبر لتحقيق الأهداف.ولا يخفى على أحد أن محاولة الدخول في التاريخ في وسط هذه الظروف ستكون من أشق المحاولات وأكثرها صعوبة وتعقيداً، وسيغلب عليها التجربة وتكرار المحاولات والتناوب بين الخطأ والصواب من قِبل الجميع وفي مختلف المجالات.لكن وجه الحديث عن (الفرصة) في الموضوع هو أن تلك الظروف والأحداث تساعد كثيراً على رؤية الإشكالات الحقيقية بشكلٍ واضح وشفاف ومُباشر. كما أن فيها فرصةً لطيّ المسافات، وتجاوز صور التغيير الروتينية البطيئة جداً، دون أن يعني هذا بطبيعة الحال حرق المراحل، أو الوقوع في استعجالٍ كثيراً ما يؤدي إلى الخُسران والندامة. وهو ما يعود بنا مرةً أخرى إلى استحضار مسألة الموازنات والتوازنات التي يبدو أنها يجب أن تكون شعار المرحلة في كل مجال وعلى كل صعيد.هنا يأتي دور المثقف السياسي ودور السياسي المثقف.لا مجال هنا لليأس والإحباط، ولا للزهد والتواضع، ولا للتكبر والنُخبوية والاستعلاء.لكن هذا الدور يجب أن يستفيد أيضاً من تجارب قلةٍ من المثقفين دخلوا تجربة السياسة بوضعها الراهن، والأملُ أنهم خرجوا منها بدروس تُفيد الجميع في عمليات التصويب والإصلاح.ليست المسألة مسألة منافسة على زعامةٍ سياسية شخصية أو مؤسسية. ولا المطلوب هنا تشكيل جسمٍ آخر يكون بديلاً للائتلاف الوطني أو غيره. وإنما التفكير بشكلٍ خلاقٍ وعملي لتجاوز الجمود الكبير الواضح في المسار السياسي، وهو جمودٌ يحصل فقط في غياب الفكر السياسي المحترف. فضلاً عن الحاجة لوقف الاهتراء والمظاهر الشاذة في مشهد المعارضة السياسية والعسكرية بشكلٍ عام. ثمة حاجةٌ لرؤيةٍ جديدة تحقق هذه الأهداف. وليس كثيراً على السوريين أن يصلوا إليها، خاصةً إذا عملوا لتصحيح معادلة السياسي والثقافي، وأعادوا تحريرها بالشكل المطلوب.

1082

| 09 مارس 2014

أخطر أعداء الثورة السورية.. السلبية والحياد

"عندما يقول لك أحدهم: لا، فهذا لا يعني أنك لا تستطيع إنجاز مشروعك، وإنما يعني أنك ستنجزهُ من دونه".تَصدقُ هذه المقولة للروائية الأمريكية كارين ميلر على ملابسات الثورة السورية وطريقة تعامل بعض السوريين معها إلى حدٍ كبير.بكل مقاييس الحضارة والإنسانية، أثبتَ النظام السوري للعالم بأسره أنه (قزم). لكن هذه الحقيقة لن تصل بالثورة السورية إلى النصر إلا عندما يُخرج الشعب السوري كمونهُ الحضاري الحقيقي الذي يُظهر كم هو (عملاق).لهذا تحديداً، تحتاج سوريا اليوم إلى كل أبنائها، بعيداً عن أي معنى من معاني (السلبية) أو (الحياد) التي يمكن أن تتلبس بعض السوريين، فتكون أخطرَ على ثورتهم من كل عنصر قوة يملكهُ النظام.تتعدد أسباب السلبية والحياد، لكن النتيجة تظل دائماً واحدة.. خسارة الثورة لطاقات كان يمكن أن تُرشدها، وخسارةُ الطاقاتِ لثورةٍ قد تكونُ فرصةَ حياتِها لتُعبر من خلالها عن أشواقها وتطلعاتها، إبداعاً وابتكاراً، بمختلف الطرق وعلى جميع المستويات.وأياً كانت خلفيتك وطريقة تفكيرك، ثمة ألف سبب وسبب تُعطيك أيها السلبي وأيها المحايد مشروعيةً لمُمَارستك.خيبةُ الأمل ممن تصدر لتمثيل الثورة في المجال السياسي.التنازعُ والشقاق والاقتتال بين الفصائل العسكرية.النفاقُ في إنصاف الثورة على المستوى الدولي بداعي العجز والفيتو الروسي والمحاذير القانونية والدبلوماسية، ومئات التبريرات الكاذبة الأخرى.(أسلمةُ) الثورة.اختطاف الجهاديين والقاعدة للثورة.الخوف من القادم المجهول.ما أسهل أن يجد السوري اليوم سبباً للاستقالة من ثورة بلاده! ليس المقامُ هنا مقامَ مناقشة صواب هذه الأسباب أو خطئها، وإنما التساؤل عما يمكن أن تفعله بخصوصها. أنت. أنت السوري الذي لا يستطيع أن يَخلعَ جِلدَهُ أو يأخذ إجازةً من انتمائه للوطن.أين ذلك الشاب المثقف النبيه الذي صار نواة أديبٍ وفيلسوفٍ قادم؟ أين سوريا وثورتها من عطائه وإبداعه وكتاباته المتألقة؟أين تلك الشابة المتخصصة في حقل الإعلام والعلاقات العامة، والتي بلغت مراتب عليا في أكبر الشركات بذكائها وتميزها الباهر؟أين ذلك المثقف الكبير الذي كان إلى حين شاهداً على قدرة المثقف على أداء دوره الحقيقي؟أين؟ وأين؟ وأين؟ أمثلةٌ تعرفُها بالأسماء والوجوه، وتفتقدُ حضورها في أجواء الثورة؟ثمة شبهةٌ (خبيثةٌ) هنا تحتاج إلى توضيح. فالبعضُ يلجأ إلى مقولة أن ما يفعلهُ ويُقدمه، في حقل الفكر والأدب والثقافة والإعلام مثلاً، وبعيداً عن أوساط الثورة، يصب في خدمة الصالح العام. وأن الثورة السورية هي جزءٌ من صيرورةٍ حضاريةٍ كبرى تشمل المنطقة كلها، وربما العالم بأسره. من هنا، فإن عطاءهم يصبﱡ في النهاية في خدمة الثورة بشكلٍ غير مباشر.قد تكون هذه أكبرَ كلمة حقٍ يُراد بها باطل، دون قصدٍ من غالبية أصحابها بكل تأكيد.ويصدقُ هذا بالذات على المتميزين والفاعلين وذوي المواهب والإمكانات المتقدمة منهم. لماذا؟ ببساطة، لأنه لا يوجد أي تضاربٍ بين العمل الفعلي في المسارين. إذ لا يعدمُ هؤلاء تحديداً إيجاد الوقت والطريقة ليصب عطاؤهم في المسارين. كل ما يحتاجهُ الأمر شيءٌ من الإبداع والابتكار في العمل والإخراج.بل ربما كان الأمر على العكس من تلك النظرة. ربما كان العملُ المحترفُ المدروسُ للثورة السورية، وصولاً لنصرها وإقامة دولتها الجديدة، هو المدخلَ إلى التأثير الفعال في (الصورة الكبرى) التي يعمل البعضُ لها.نُدرك أن كثيراً من الناس ليسوا قادرين على إبداع مسارات ومؤسسات تستوعب عملهم وعطاءهم، وتضعه في إطارٍ أوسع بحيث يكون فعالاً ومؤثراً بشكلٍ حقيقي.هنا يأتي الدور الحساس لمجتمع المال والأعمال، بحيث يبادر إلى التنسيق مع القادرين على التفكير والتخطيط الاستراتيجي لإبداع مثل تلك الأطر والمؤسسات.لكن هذا لا يُعفي الجميع من مسؤوليتهم في بذل المُستطاع. وإذ يجمعُ الإنسان بين التجرد والإخلاص، والبحث والسؤال، والتفكير والحركة، يفتح الله له أبواباً لم يكن يراها، ويُيسر مداخل للعمل لم يحلم بوجودها ابتداءً.عَجزَ الرسول الكريم عن توفير ما يحملُ بعض أصحابه إلى أرض الجهاد، فلم يملك هؤلاء إلا أن يقدموا (دمعةً) يذرفونها على حالهم. لكن القرآن الكريم قدم درساً بليغاً في المسألة، حين حَرصَ على تخليد هذا العطاء بأجمل وصفٍ ممكن إلى يوم الدين.هذه هي الوسطية التي تتمحور حول الأخذ بعالم الأسباب وبقوانين الاجتماع البشري في هذه الحياة.ليس في الأمر (غرقٌ في أوهام الغيبيات) يُشرعهُ بعض المثقفين سيفاً للسخرية والاستهزاء من مثل هذه المعاني. وإنما هي وسطيةٌ تغرق في العمل والتخطيط، وهي تؤمن أن هذا لا يضيع في دنيا ولا في آخرة.يجدر الانتباه هنا إلى أن الحياد والسلبية درجات. فالأمر ليس قاصراً على الذين سلموا أمر الثورة وسوريا لله والتاريخ، واستقالوا من العمل لهما بأي طريقة.فربما يدخل في هذا التوصيف، بشكلٍ أو بآخر، من قرر الابتعاد عن الاهتمام بالتيار العام للثورة، وانبرى ينشغل ببرنامجٍ خاصٍ لجماعته وحزبه على سبيل (التحضير للمستقبل).. ولسانُ حال هؤلاء يقول: "اذهبوا أنتم وقاتلوا النظام وتقاتلوا حتى يفرجها الله بطريقةٍ ما، وعندها أكون جاهزاً أنا وحزبي وجماعتي لاستلام البلد وبناء ماخربتموه"!.ثمة أقدارٌ من التعالي واللامسؤولية في هذا التصرف ربما تكون أسوأ بتأثيرها من السلبية المُطلقة والحياد الكامل.فهذا الفعلُ يوحي بأن لدى هؤلاء ما يقدمونه، ولو على سبيل الفكر والمقترح، لكنهم يزهدون به على سوريا وثورتها، ويحتفظون به لما يعتقدون أنه مستقبلُها، غافلين عن استحالة وصولنا جميعاً لذلك المستقبل ما لم تصب في الثورة كل الطاقات.واليوم، قد يمضي السوريون من أهل الثورة مؤمنين بمقولة الروائية أعلاه حول إنجاز (المشروع) دون السلبيين والمحايدين إذا كان هذا خيارهم. إلا أنهم لا يملكون إلا السير في دربهم بعلامة استفهامٍ كبرى في عقولهم، وغصةٍ لا تُغادرُ قلوبهم، عن ذلك الخيار.

992

| 01 مارس 2014

لاتجعلوا الائتلاف الوطني لعنةً على سوريا

"أهم شي.. أوعكُن تساووا مجلس أو ائتلاف وطني".هذه واحدةٌ من النصائح الواردة على صفحةٍ أبدَعها السوريون بعنوان (وجه نصيحةً لثوار أوكرانيا).معنى الرسالة ومغزاها واضحٌ بطبيعة الحال حتى لو كانت باللهجة العامية. والصفحةُ بمجملها تحملُ دلالات على إبداع أهل الثورة السورية، وعلى وعيٍ سياسي متصاعد، ممزوجٍ بروح الفكاهة والدعابة، يزيد من قناعة المرء بإصرار الشعب السوري على الحياة، وبقدرته على انتزاع الابتسامة من أنياب الألم والمعاناة.لاتوجد لدى غالبية السوريين قناعةٌ بالائتلاف الوطني وأدائه، لكن هذا لايتضارب مع واقعية كثيرٍ منهم حين يتعلق الأمر بوجود الائتلاف ودوره، حتى الآن على الأقل.غير أن هذه الواقعية لايجب أن تكون بمثابة مُخدﱢرٍ يعتقد الائتلاف أن السوريين سيستمرون في تعاطيه إلى مالا نهاية. بل المفترضُ فيها أن تكون دافعاً لمزيدٍ من الشعور بالمسؤولية من قبل أعضائه جميعاً، بقيادته ومكوناته وشخصياته على جميع المستويات.لاتوجد ملائكةٌ تمشي على الأرض في هذه الدنيا، فلاتخطىء في حسابٍ أو تحتاج لمراجعة موقف أو إعادة النظر في رؤيةٍ مُحددة أو سياسةٍ بعينها. لايوجد هذا في العالم من حولنا، ولا في منطقتنا العربية، ولا في سوريا، ولا في الائتلاف الوطني بالتأكيد. يسري هذا على الأفراد والجماعات والشعوب كما يسري على الدول والحكومات. فنحن بشكلٍ عام نعيش في عالمٍ معقّد يتميز بمتغيراته المتسارعة التي لايكاد يستطيع أحدٌ ملاحقتَها وأخذها بعين الاعتبار في حساباته بشكلٍ كامل. ونحن كسوريين تحديداً نعيش ظاهرةً ربما كان تكرارها في التاريخ ماضياً وحاضراً ومستقبلاً، بالصورة التي نراها، من الأمور النادرة في حياة البشر.من الطبيعي إذاً لأي جماعة أو فرد أو هيئةٍ أن تُخطىء أو يخطىء في الحسابات أو في السياسات أو في المواقف، أو في ذلك كله. وهذا يصدقُ على الائتلاف في زمننا الراهن كما لايصدق على جهةٍ أخرى مسؤولةٍ أمام شعبها وبلادها.هذه حقائقُ تعرفها جميع الأطراف، ومن مصلحة السوريين جميعاً أن يبني عليها أصحابُ العلاقة داخل الائتلاف، وخارجه في أوساط الثورة والمعارضة، أساساً لنقلةٍ جديدة في عمل الائتلاف خلال المرحلة القادمة.هذا ليس واجباً سياسياً وأخلاقياً فقط، وإنما هو أيضاً دليلُ نضجٍ سياسيٍ وثقافيٍ للسوريين، خاصةً لمن منهم تصدى لمواقع المسؤولية.لامجال هنا لتجنب المراجعات المستمرة وللبحث عن الأخطاء وتصحيحها بأي شكل من الأشكال، ولامعنى للهروب من تأكيد معاني الشفافية والمحاسبة والمشاركة بأي داعٍ أو تحت أي شعار. لكن هذا لايعني أيضاً أن يغرق الائتلاف فيما هو أشبه بـ (حوار طرشان) حول ماجرى سابقاً إلى نهاية الدهر.بكلام آخر. ليست المشكلة أن نخطىء في الحسابات أو السياسات أو المواقف. وإنما تكمن المشكلة الكبرى في الإصرار على تجنب أي مراجعات، والوقوع في عقلية المكابرة والعناد التي توحي بلسان الحال بأننا قومٌ لا نخطىء، بغض النظر عن أي شعارات نُطلقها بلسان المقال. ذلك أن الوقوع في هذا الفخ هو الخطوة الأولى في سلسةٍ من الأخطاء ليس لها نهاية. وهذا قانونٌ من قوانين الاجتماع البشري يسري علينا كما يسري على العالم أجمع.لاهروب من الماضي ودروسه للجميع إذاً. لكن الغرق في هذا الماضي إلى استشهادِ آخر سوري مرفوضٌ أيضاً.اجتهدَ البعضُ في الائتلاف، وقرر حضور جنيف.واجتهدَ البعضُ الآخر وقرر مقاطعة جنيف.بنى الطرفان اجتهادهما، علنياً على الأقل، على نفس القاعدة: أن القرار المُتخذ كان خطوةً على طريقٍ طويل لمحاولة تحقيق أهداف الثورة.لامجال هنا للخوض في النيات، فهذا ترفٌ لاتحتمله المرحلة الراهنة، ولايحتمله بالتأكيد المستقبل القادم. خاصةً في ظل المشهد الذي رآه الجميع خلال جولتي جنيف، وفي ظل الواقع الذي نتج عنهما. وهو واقعٌ يقول، بواقعيةٍ أيضاً، أن وفد الائتلاف لم يُقدِم على (التنازلات) التي كان يخشى فريقٌ منها. لكنه في نفس الوقت لم يُحقق تلك (الانتصارات) التي لايزال فريقٌ آخر يتحدث عنها.ثمة حاجةٌ لدرجةٍ عاليةٍ جداً من الواقعية المسؤولة في هذا المقام. وهي تنبعُ من قراءةٍ دقيقةٍ لما حصلَ كما حصل، وليس كما توقع البعض حصوله أو تمنى البعضُ الآخر حصوله.لامجال هنا لإصرار أعضاء الائتلاف على الحياة في الأوهام أو التفكير الرغائبي أو التفسيرات الخاصة للحدث. فهذا أيضاً نوعٌ آخر من الترف السياسي لايحتمله المقام.نعلم أن هناك تعقيدات سياسية ونفسية وعملية أمام المطلوب من الائتلاف الآن، وهو ببساطةٍ ووضوح حدٌ أدنى من وِحدة الصف والتنسيق الشامل داخلياً أولاً، ثم مع كل أطراف الخارج من السوريين وغير السوريين. لكننا لانؤمن، في نفس الوقت أن هذه المهمة مستحيلة.ومسؤولية القيادة في هذا المجال هي أكبر من مسؤولية الآخرين، تحديداً لأنها في موقع القيادة.والوضع السوري لايحتمل على الإطلاق أن يدخل الائتلاف في نفق المناورات ومحاولات كسر العظم من قبل أي طرفٍ على طرفٍ آخر.من هنا، قد يكون مطلوباً زيادة جرعة الرقابة الشعبية الخارجية على الائتلاف بأشكال مختلفة. ليس فقط من قبل الإعلاميين والمثقفين والساسة من خارج الائتلاف، وإنما أيضاً من السوريين جميعاً، لأنهم أصحاب الحق قبل غيرهم في طرح الأسئلة والحصول على الإجابات.فالإنسان العادي هو أول من يتأثر بالسلبيات والآلام والكوارث التي تنجم عن الخطأ في الحسابات وفي السياسات. من هنا، يبقى هو صاحب الحق الأول في أن يكون له رأي في الموضوع، وفي أن تُفتح له مداخل وأبواب طرح ذلك الرأي عبر كل القنوات والمنابر الإعلامية والسياسية والثقافية. فالإنسان الذي لايُمنح ذلك الحق لن يشعر يوماً بالانتماء والولاء الحقيقيين مهما صرّح وتغنّى بعكسِ ذلك. لأنه سيدرك ببساطةٍ في أوقات الشدّة بأنه مدعوٌ ليدفع ثمن خطأٍ لم يكن سبباً فيه. وبأن وجوده في بلده إنما يُعتبر (تكملة عدد) وليس وجودَ مواطنةٍ حقيقية بكل ماتقتضيه من حقوقٍ وواجبات."السياسة أهم بكثير من أن تُترك للساسة وحدهم".ليس من الواقعية الحديثُ اليومَ في جسمٍ سياسي جديد يمثل الثورة السورية. لكن المقولة السابقة المعروفة في عالم السياسة تفرض على كل من يهمه حاضر سوريا ومستقبلها الابتعادَ عن السلبية تجاه هذا (الأمر الواقع) الذي يُسمى الائتلاف الوطني، وتجنبَ الزهد في شؤونه، ولو كان ذلك بداعي الحياد من جهة، أو فقدان الأمل من جهةٍ أخرى.ولن تعدمَ ثورةٌ أظهرت إبداعَ أهلها في كثيرٍ من المجالات القدرةَ على ابتكار إطارٍ لرقابةٍ شعبيةٍ عامة على الائتلاف تُصحح مساره، ليؤدي دوره المطلوب ولا يُصبح لعنةً عليها في نهاية المطاف.

904

| 23 فبراير 2014

من جنيف.. دعوةٌ للتفاؤل والمراجعة

أما العزيزُ فهو شعب هذه الثورة وأهلها الذين قدموا، ولا يزالون، للعالم دروساً في التضحية والعطاء وحب الوطن قلﱠ نظيرُها في التاريخ. لا بأس في هذا المقام أن يَصف بعض (المثقفين) هذا الكلام بـ (العاطفي)، مع أننا نؤكد عليه انطلاقاً من قراءة قوانين وسُنن الاجتماع البشري. وحين نستخدمُ الكلمات المكتوبة أعلاه بشكلٍ يبدو فيه تكرارٌ لها، فلأن اللغة نفسَها باتت تعجز عن رفد المرء بمصطلحات تفي بالمقام. لا مُشاحة هنا أيضاً في استذكار كل الأخطاء والمشكلات التي مرت وتمرﱡ بها الثورةُ وأهلها. لأن هذه الثورة تحديداً تُمثل بشكلٍ عام تجربةً بشريةً غير مسبوقة في التاريخ المعاصر على الأقل. نقول (بشكلٍ عام) لأن ثمة استثناءً وحيداً في الظاهرة، وهو استثناءٌ أقرب للمفارقة، ويتمثل في أن السوريين (البشر) يواجهون نظاماً يبدو أن نصيبه من البشرية، بمعناها الإيجابي، لا يتجاوز الوصف الاسمي. يكفي القول إن الثورة أخرجت من السوريين في بداياتها أسمى ما يمكن أن يخرج من البشر، لكن هذا أخرجَ من النظام وأزلامه أخسﱠ ما يمكن أن يخرج من البشر. كانت ممارسات السوريين في الأشهر الأولى من الثورة أقرب لممارسات الملائكة. ثم إنهم واجهوا، مما باتت الناسُ تعرفهُ، ما لا يُطيقهُ البشر ابتداءً. فكان طبيعياً جداً، ومتوقعاً جداً أن يعود السوريون ليكونوا بشراً. لا تسكنُ الأرضَ ملائكة، ولا يقوم هؤلاء بثورات. وإنما يسكنُها البشر، وهؤلاء البشر هم من يجب أن يكملوا ثورتهم، حاملين على أكتافهم كل ما في البشر من ضعفٍ وقصورٍ من ناحية، وكل ما فيهم من قوةٍ وعزيمةٍ وقدرة على المراجعة والاستعادة والفعل وصناعة التاريخ من ناحيةٍ ثانية. هذه هي العزﱠةُ الإنسانية في معناها الحقيقي، وهي العزة التي تكون دائماً مدخلاً للنصر، خاصةً حين يكون الخصم ذليلاً. نعرفُ الكثير عن الذل الذي يتلبس أتباع النظام، نقرأ عن هذا ونشاهده ونسمعه في كل يومٍ بألف طريقةٍ وطريقة. لكن هزيمة الذل القادمة قلما تكون واضحةً وصريحة كما هي الحال حين تعرفُ ممارسات وفد النظام في أجواء مؤتمر جنيف2. ومن هنا تحديداً. تقرأ مُعطيات المؤتمر بكل ملابساتها المُعلنة والخفية، فلا تملك إلا أن تشعر بالتفاؤل. لا يتعلق الأمر بمهارة وفد الائتلاف الوطني المعارض، مع الاحترام لجهوده. فقد أشرنا وأشار غيرنا لثغراتٍ كبيرةٍ في التحضير والأداء. وهي ثغراتٌ تتعلق بتقصيرٍ يعترف به بعض أعضاء الوفد بصراحةٍ ووضوح. والمرحلة القادمة تحتاج إلى مراجعات يحتاج إليها الائتلاف، كما تحتاج إليها كل القوى الفاعلة في الثورة. ربما نحتاج لرؤية الصورة من زاويةٍ أخرى لفهمها وإدراك دلالاتها. فنحن من ناحية بإزاء ثورةٍ طليقةٍ من كل قيد، فلا أسرَ لبطلٍ مُلهم، ولا اصطفاف وراء زعامةٍ تاريخية، ولا تقديس لرمزٍ لا يمسهُ النقد، ولا طاعة عمياء لقائدٍ لا يخطئ، ولا تأليه لإنسانٍ يحتاج في نهاية اليوم إلى إخراج فضلاته. هذه هي ثورتنا اليوم، وهذا هو إنجازنا الكبير الذي سنرى نتائجه استراتيجياً رغم كل التضحيات والآلام الراهنة. وهذا هو وفدُ الائتلاف، الذي اعترف به العالم ممثلاً للثورة، عرضةً لكل ألوان النقد والتوبيخ والاعتراض، بل والاتهام والتخوين. ما من سوريٍ واحد، صغيرٍ أو كبير، يخشى اليوم من ممارسة النقد والتصريح برأيه في هذا المجال. في مقابل هذا، ترى وفد النظام نموذجاً مثالياً على ذُلﱢ الإنسان في أبشع تجلياته. كيف لا وكل فردٍ فيه يؤمن بأنه مأسورٌ لبطلٍ مُلهَم، يصطف جندياً مذعوراً وراء زعامةٍ تاريخية، ويُقدس رمزاً لا يجب أن يمسه النقد، ويُطيع بشكلٍ أعمى قائداً لا يمكن أن يخطئ، ويُؤلهُ فوق كل هذا إنسان جاء من التراب وسيعود إليه. لهذا، يتحدث الجعفري رئيس الوفد خلال الجلسات وهو يحسب كلماته ورنة صوته خوفاً من (الإله) الذي يسمع كل ما يجري على الطرف الآخر من خط الهاتف.. فلا تخرج من فمه إلا البذاءة بمختلف أشكالها. لا يملك مثل هذا الإنسان فسحةً للتفكير بمحاذير ما يمكن أن يحصل تدريجياً وهو يحاول إضاعة الوقت بتوجيه الإهانات وكيل الاتهامات غالباً لوفد الائتلاف، وأحياناً للإبراهيمي. ولهذا أيضاً، يجلس أعضاء وفد النظام كالأصنام دون أن يجرؤ واحدٌ منهم على الكلام. صحيحٌ أن قوانين الجلسات تنص على أن يكون الحديث للإبراهيمي ورئيس الوفدين يوجهان الخطاب إليه، لكن من حق رئيس الوفد أن يُعطي الكلمة لأي عضو. وفي حين يحصلُ هذا بين أعضاء وفد الائتلاف، لا يجرؤ الجعفري على ممارسة ذلك خوفاً من زلة لسانٍ قد تودي به وبصاحبها إلى مجاهل النسيان. وهذا الذلﱡ هو الذي يدفع الوفد لعدم الإطالة في المباحثات خوفاً من هفوةٍ ما، ومن (إلهه) الذي تجب العودة إليه مراراً وتكراراً كل يوم. وهو الذي يجعل الحضور يرون أكثر من مرة المقداد وغيره يُنصتون بخوفٍ ورعب لهمسات أشخاص مجهولين يرافقونهم على الدوام. وبما أن الذل كثيراً ما يأتي في لَبوس الكِبر، فقد كان من (بركات الثورة) وتوفيق المقادير أن يتكبر وليد المعلم على رئاسة الوفد، ليرأسها أكثرهم غلظةً وفظاظةً وبذاءةً في اللسان والتصرفات. في محفلٍ دولي يجب أن يكون حضورهُ أمثلةً للتهذيب والاحترام. لن تتوقف روسيا في محاولاتها لكسب الوقت والتلاعب بالمسار السياسي بكل الطرق الممكنة. ولا تبدو في الأفق علاماتٌ أكيدة على جدية موقف (أصدقاء سوريا)، خاصة الإدارة الأمريكية في البحث عن مخرجٍ بديل. بل إن أعضاء الوفد الأمريكي أنفسهم يُعبرون في جلسات خاصة عن تبرمهم وضيقهم من موقف الإدارة، وثمة أقاويل بأن روبرت فورد رئيس الوفد سيستقيل عن قريب، ربما ليقينه بأنه لن يتمكن من إنهاء خدمته الدبلوماسية بشكلٍ إيجابي. لكن الدروس العامة من أجواء جنيف تدعو إلى تفاؤلٍ حذر، يمكن أن يكون كبيراً في حال توافر بضعة شروط تتعلق كلها بالسوريين الذين يجب أن تكون الأوراق القوية بأيديهم في نهاية المطاف. فالائتلاف الوطني مُطالبٌ بالقيام بمراجعات كبيرة لا تقف عند الأداء في جنيف والتحضيرات له ولما قد يليه في المسار السياسي، بل وتتجاوز ذلك إلى تعزيز لُحمته الداخلية عبر مزيدٍ من المشاركة والشفافية والشراكة الحقيقية بين مختلف مكوناته. وأهم ما في الموضوع أن الأوان آن لإبداع تصورٍ سياسي يكون فيه اعتبارٌ حقيقي وكبير لفصائل الثورة العسكرية الفاعلة على الأرض السورية. فهؤلاء الرابضون على الثغور ليسوا بدورهم ملائكةً منزهين، لكن ممارساتهم العملية والفكرية المتطورة باستمرار تُثبت تمسكهم بقيم الثورة الأصيلة وأهدافها، وتؤكد بالتالي الحاجة الماسة لترتيبات سياسية وعملية يكون لرأيهم ورؤيتهم فيها وزنٌ مُعتبر.

863

| 15 فبراير 2014

الثورة السورية.. المُراجعات أو الطوفان

كل شيءٍ في سوريا الثورة يحتاج اليوم إلى مراجعات، كل المواقف والأفكار والممارسات والمشاريع وأساليب التخطيط والإدارة والعمل تحتاج إلى مراجعة.فرغم قصص العطاء والتضحية الكثيرة والمذهلة بشكل يبعث على الأمل، ورغم الكمون الهائل الموجود لدى شرائح الشعب السوري مما لا يعلم حقيقته إلا المتابع القريب، ومع كل اليقين المبني على استقراء سنن الاجتماع البشري وقوانينه بحتمية انتصار الثورة.مع كل ما سبق، لا يمكن التهرب من حقيقة وصول الثورة إلى حال من الفوضى العارمة على كل المستويات، بحيث افتقدت المبادرة إلى درجة كبيرة، وأصبح مسارُها العام سلسلةً من ردود الأفعال السياسية والعسكرية والإعلامية والإغاثية.ثمة شبهاتٌ أساسية لابد من تحرير القول فيها حين تُعرض هذه القضية.فالمراجعات بمعناها العلمي المطلوب ليست مسؤولية جماهير المواطنين من أهل الثورة الذين بذلوا، ولا يزالون، ما يستطيعون لدعمها واستمرارها، كلٌ في مجاله وحسب قدرته. والفوضى التي نتحدث عنها ليست مسؤوليتهم على الإطلاق. بل الأمر على العكس من ذلك تماماً، فإذا كان ثمة إنجازات وتَقدُمٌ للثورة، وهي موجودةٌ وكثيرة، فإنها ناتجةٌ قبل كل شيء عن العبقرية الجَمعية للسوريين من جميع الشرائح. فهذه العبقرية هي التي أطلقت الثورة ابتداءً، وهي التي فجرت مواقف وإبداعات جعلتها ظاهرةً فريدة من ظواهر التاريخ والحياة بشكلٍ عام.ثم إن ما يُسمى عُرفاً بـ (النُخب) السياسية والعسكرية التحقت بعد ذلك بمسيرة الثورة، وصار لها بِحُكم طبائع الأمور في زمننا التأثيرُ الأكبر في مسار الثورة ومصيرها.من هنا تحديداً، نتحدث عن مسؤولية هذه (النخب) التي تصدت لـ (إدارة الثورة) بلسان الحال وبلسان المقال، وعن ضرورة مسارعتها بعملية المراجعات، لاستعادة روح المبادرة وروح الإبداع وروح التنظيم التي ميزت بدايات الثورة، وكانت الشاهد على العبقرية الجمعية التي نتحدث عنها.هناك فرصةٌ هنا أيضاً لاستعادة المعنى الحقيقي لكلمة (مسؤول)، من الآن، في حياتنا السياسية وفكرنا السياسي، تمهيداً لترسيخها في ثقافة سوريا الجديدة ونظامها. فدلالة (المسؤول) تعني أنه (يُسأل) عن عمله، وعن أدائه لواجبه من الناس في الدنيا، قبل أن يُسأل عنها في الآخرة. فـ(مسؤول) لا تعني أن يشعر صاحبها أنه أصبح زعيماً يجب أن يُطاع ويُبجّل، ولا يُسأل عما يفعل. وإنما تُلخص صفة المسؤول بوضوحٍ ودون كثير تنظير مقولة الفاروق عمر: "لو عثَرت بغلةٌ في العراق لخشيتُ أن يسألني الله لماذا لم تُمهّد لها الطريق يا عمر".أما الشبهة الثانية فتتمثل في أن مثل هذه المراجعات تشغل الناس عن المهمة الأساسية المتمثلة في مقاومة النظام. ورغم إمكانية حدوث هذا إذا كانت النياتُ سيئةً، أو طريقة التفكير في المراجعات وتنفيذها تقليدية وفوضوية. إلا أن الحقيقة هي عكس ذلك تماماً إذا أردنا التفكير بطريقة علمية. فضلاً عن أن ممارسات وتجارب الأمم والدول عبر التاريخ تُثبت تلك الحقيقة عملياً.فالنظام يعتاشُ عملياً، وبشكل تدريجي متصاعد، على أخطاء الأطراف السياسية والعسكرية، ربما بنفس الدرجة أو أكثر من جهوده الذاتية والمساعدات التي تأتيه من الخارج. ويصدق في هذا ما كان ينقله الشيخ محمد الغزالي رحمه الله من الأمثال والحِكَم العربية حين كان يُكرر: "إن البُغاثَ بأرضِنا يِستنسر" و"استأسدَ الحمَلُ لما استنوق الجملُ".لا مفر هنا من التركيز قبل كل شيء على العناصر الرئيسية المتعلقة بالموضوع في ثقافتنا الأصيلة. فقد تكررت في صدر الإسلام المواقف التي يُصوﱢبُ فيها الوحي الرسول الكريم رغم مقامه المعروف، كما هو الحال مثلاً في قصة عبدالله بن أم مكتوم وغيرها، وجاء هذا التصويب وقتَ حدوث الأخطاء دون أي تأخير. ورغم احتمال استغلال (الآخر) لمثل هذا الموقف لإثارة البلبلة والتشويش بين الناس المُستهدفين بالدعوة، بقيت القاعدةُ تؤكد أن الاستمرار في الخطأ أخطرُ بكثير من أي ملابساتٍ أخرى يمكن التعامل معها بحكمة. وقد وعى الرسولُ نفسه هذا الدرس فعبرَ عنه في كثيرٍ من الوقائع لنَقلِ الدرس إلى أصحابه والناس أجمعين بشكلٍ عملي.فقد وردت في الصحيح من السيرة النبوية الرواية التالية: "كان سواد بن عزيّة يوم غزوة أحد واقفاً في وسط الجيش، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للجيش: استووا، استقيموا. فينظر النبي فيرى سوادا لم ينضبط، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: استو يا سواد، فقال سواد: نعم يا رسول الله ووقف ولكنه لم ينضبط، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم بسواكه ونغز سوادا في بطنه قال: استو يا سواد، فقال سواد: أوجعتني يا رسول الله، وقد بعثك الله بالحق فأقِدني فكشف النبي عن بطنه وقال: اقتص يا سواد. فانكب سواد على بطن النبي يقبلها. يقول هذا ما أردت، يا رسول الله أظن أن هذا اليوم يوم شهادة فأحببت أن يكون آخر العهد بك أن يمس جلدي جلدك".يغلبُ أن تُروى هذه الرواية في الثقافة التقليدية السائدة بطريقةٍ مُبتذلة كدليلٍ على طلب البركة، في حين أن معانيها الأصيلة، التي تتجاوز الغاية الشخصية لفرد، أكبرُ بكثير من ذلك، وتدخل في باب تحقيق المصالح العامة الكبرى. فنحن أمام نبيٍ قائد يقوم بنفسه بقيادة معركته مع جنوده، وهو قائدٌ يدرك تماماً معنى تسوية الصفوف (بدلالاتها الميدانية والنفسية في المعارك) فيقوم بذلك بنفسه. وهذا القائد لا يتسرع حتى في استخدام الحد الأدنى الرمزي من ممارسة التأديب، فيطلب من الجندي الاستواء أكثر من مرة، لكنه يلجأ لذلك التأديب الرمزي أخيراً. فيحصل ما حصل من الجندي، ويُسرع القائد لتنفيذ حكم قَصاص الجندي منه في خضم التحضير للمعركة، ودون أي تأخير، لأنه يعلم المُستتبعات العملية والمعنوية والنفسية، ليس فقط على ذلك الفرد، وإنما على الجيش بأسره، ويُدرك تأثيرها الحساس في المعركة.ولنا فقط أن نتخيل ملابسات مثل هذا الموقف بين جنديٍ وقائد في واقعنا المعاصر إن كان هناك مجالٌ أصلاً لتخيله.ثمة توازناتٌ ينبغي ويمكن أخذُها بعين الاعتبار طبعاً، لكن المرفوض هو تغييب آليات المراجعة والشفافية الحقيقية، والتعتيم على الأخطاء في هذه المرحلة بدعاوي (الظروف الحرجة) و(حساسية الموقف) و(وحدة الصف الوطني) وما إليها من الشعارات التي كثيراً ما تكون كلمات حقٍ يُرادُ بها باطل.ويأتي سؤالٌ هنا: لمن يوجه النقد وعلى من تجب المراجعة؟ يُوجه طبعاً للأطراف المؤثرة ويجب عليها بطبيعة الحال. من هنا مثلاً، جاءت بعض مقالاتنا السابقة تحاول فتح ملف المراجعات، وتنتقد أداء أطراف مؤثرة مثل الائتلاف، والإخوان، والمثقفين العلمانيين السلبيين، وأصحاب الفكر التقليدي الإسلامي، وأهل الغلو والتطرف. لم يكن هذا على سبيل التخوين والمناكفة السياسية التي لا تجدي في شيء لا تنفع سوريا وثورتها، ولا من باب (تصفية الحسابات الشخصية) كما اتهمنا البعض، ولا شيئاً من ذلك كله.كل ما يتعلق بالثورة السورية إذاً يحتاج إلى مراجعة. ولكن كيف تكون؟ ومن يقوم بها؟ وما هي ملابساتها المختلفة؟ هذه أسئلة تحتاج إلى مزيدٍ من العرض والحوار.

1210

| 09 فبراير 2014

الائتلاف وجنيف 2.. ماذا بعد؟

"الدبلوماسيون مفيدون فقط في الأجواء الصحوة، ولكنها ما إن تُمطر حتى تجدهم يغرقون في كل قطرة". قد لا تنطبق هذه المقولة للرئيس الفرنسي السابق شارل ديغول على كل الدبلوماسيين وكل من فاوضوا باسم بلادهم في ساحة السياسة الدولية. لكنها تنطبق، حتى الآن على الأقل، على وفد الائتلاف السوري في مفاوضات جنيف2 إلى درجة كبيرة.لا مجال اليوم للحديث العاطفي عن ضرورة جمع الصفوف وتناسي الفروقات والاختلافات في الرأي، والدعوات الحماسية للوقوف صفاً واحداً خلف وفد الائتلاف في المفاوضات المذكورة.ولو كان ممكناً للسوريين أن يقبلوا بمثل تلك المقولات قبل الأسبوع الماضي، وقد فعل ذلك الكثيرون، إلا أن الأداء الهزيل للوفد بعد أسبوع من المباحثات لم يعد يترك مجالاً لمجرد التفكير بالاستجابة لمثل تلك الدعوات.فالأمر يتعلق بمستقبل سوريا ومصير شعبها الذي قدم تضحيات باتت الكلمات المكتوبة عاجزة عن التعبير عنها وعن دلالاتها.وبهذه النظرة الجدية والصارمة المطلوبة، نجد أن كل شيء قام به الائتلاف سواء في مرحلة التحضير للمفاوضات أو أثنائها كان قاصراً عما هو مطلوب إلى أبعد الدرجات.من المعروف في العلاقات الدولية أن المفاوضات إنما هي في الحقيقة "استمرار للحرب بشكل آخر"، ويذكر المناضل الفلسطيني المخضرم شفيق الحوت أن المعارك الدبلوماسية يمكن أن تكون أحياناً أكثر شراسة بكثير من المعارك العسكرية.فهل كان الائتلاف جاهزاً نفسياً وفكرياً وتنظيمياً وعلمياً لمثل هذه المجازفة؟لا مكان هنا للدعاوى السطحية عن الانقسامات التي أصابت الائتلاف، ولا للتبرير بأنها كانت سبباً من أسباب هذا الفشل الذي يرى الشعب السوري دلالاته أمامه بكل بساطة.لسنا في معرض الدفاع عن أعضاء الائتلاف الذين انسحبوا فهم قادرون على الدفاع عن موقفهم وأنفسهم، وقد يكون ثمة ملاحظات على طريقة تعاملهم مع الوضع، لكن هذا لا يمنع من الإشارة إلى وجاهة السبب الذي أعلنوه كسبب لانسحابهم حين قالوا إنهم لا يرفضون المؤتمر أو المسار السياسي من جهة المبدأ، وإنما يرون ضرورة وجود حد أدنى من شروط نجاح المؤتمر ودرجة متقدمة من التحضير له.لقد كان وفد النظام مضطراً تماماً لحضور المؤتمر في نهاية المطاف. من هنا، كان المطلوب وجود فكر سياسي يهيئ أوراقاً تفاوضية تضعه في الزاوية من البداية. وكما قال الرئيس الأمريكي الأسبق جون كينيدي: "إذا كانت النتيجة النهائية المتوقعة من التفاوض هي تقديم بعض التنازلات، فإن من البديهي لك أن تبدأها من سقف مرتفع".لا مكان هنا لخرافة بدء مفاوضات بدون شروط مسبقة أو جدول زمني أو ضمانات لتنفيذ المضمون الحقيقي لرسالة الدعوة إلى المؤتمر. فمثل هذه التنازلات المبدئية لا تمر تاريخياً إلا في حال القبول بالتنازل عنها، وبسبب فقدان تفكير سياسي يُتقن المناورة ولا يحاصر نفسه بين خياري رفض الحضور كلياً إلا بشروط من جهة، أو حضورها بشكل منبطح بدون أي شروط من جهة أخرى.ثمة خيارات أخرى بين هذين الخيارين، وعلى سبيل المثال، لم ترفض القوى الثورية العسكرية الفاعلة على الأرض المؤتمر بشكل كامل وبغض النظر عن كل شيء آخر. من هنا، كان يمكن الاستقواء بخطابها وموقفها والضغط على رعاة المؤتمر لفرض بعض الشروط مع التأكيد القاطع على الالتزام بحضور المؤتمر، وربما تكون الوسيلة تأجيله لبضعة أسابيع يتم خلالها التحضير له بشكل أفضل.ولو حصل هذا وامتلك الوفد بعض الأوراق مسبقاً، لوجدنا زخماً شعبياً عاماً، ودعماً من القوى الثورية العسكرية، تساهم في تقوية الوفد معنوياً وإعلامياً وسياسياً ودبلوماسياً، أمام النظام وأمام رعاة المؤتمر خاصة أمريكا وروسيا.ولما أمكن أن يتكرر مثلاً التساؤل الذي يُشكك بتمثيل الوفد للثورة وقدرته على تنفيذ ما يُتفق عليه من قبل وفد النظام وإعلامييه. علماً أن السؤال أصبح مشروعاً من وجهة نظر منطقية سياسية محايدة في الوضع الحالي.لقد رضي الائتلاف تحمل مسؤولية الذهاب إلى المؤتمر في نهاية المطاف، فأصبح لزاماً عليه وعليه وحده أن يتحمل تبعات تلك المسؤولية.ثمة مائة تعريف وتعريف للمفاوضات ومنها أنها "الفن" الذي يُمكِنكَ من توجيه الخصم إلى الطريق الذي تريده"، وأنها "الفن" الذي يمكنك من خلاله أن تطلب من الآخر أن يذهب إلى الجحيم، ولكن بطريقة يطلبُ فيها منك معلومات الطريق إلى هناك!". فهل كان الائتلاف جاهزاً لمثل هذا المستوى من الأداء السياسي ـ الدبلوماسي؟لم نستعجل الحكم على الموضوع قبل بدء المفاوضات، لكن كل مؤشرات الأسبوع الذي مضى تؤكد بأنه لم يكن جاهزاً على الإطلاق.فمن جهة، كان الفشل الإعلامي واضحاً بدرجة لم تخف على البسطاء من الناس، فضلاً عن الإعلاميين السوريين الذين كتبوا عن الموضوع وشواهده ما لا يحتاج إلى إعادة. والكل يعلم حساسية الوظيفة الإعلامية في مثل هذه المواقف، وأنها يمكن أحياناً أن تقلب الطاولة رأساً على عقب، ويعلم بوجود إعلاميين سوريين يستطيعون إيفاءها حقها المطلوب. فما الذي كان يمنع وجود وفد إعلامي كبير ومحترف يخدم وفد المعارضة؟ لا يتعلق الأمر بالتمويل يقيناً، وبالتالي فإن الإجابة الوحيدة الممكنة تتراوح بين افتقاد الجدية وافتقاد القدرة على التفكير حتى على تأمين شرط أساسي كهذا الشرط.ثم إن التحضير التقني اقتصر إلى درجة كبيرة على مجموعة من دورات فن التفاوض حضرها بعض أعضاء الائتلاف اعتباطياً هنا وهناك لبضعة أيام، فجاءت تشكيلة الوفد إجمالاً بشكل جعل بضاعتها مُزجاة بدرجة واضحة، خاصة حين يتعلق الأمر بهذه المهمة الصعبة.بالمقابل، يجب على من يتصدى لمثل هذه المهمة أن تكون لديه قدرات ومهارات وخبرات وكفاءات على أرفع المستويات. يجب أن يكون لديه خبراء يمتد اختصاصهم من علوم التفاوض والتواصل البشري إلى علوم النفس والتاريخ واللغة والجغرافيا والاقتصاد والقانون الدولي والجنائي وغيرها.يجب أن يكون مُحيطاً بأدق التفاصيل المتعلقة بكل التجارب السابقة في مثل هذه المجالات. يجب أن يكون قادراً على وضع البدائل والخيارات التي يمكن من خلالها تحقيق هدفه الثابت عبر التعامل مع المعطيات المتغيرة واستيعابها.يجب أن يكون مُستحضراً مُسبقاً لكل الطروحات والحجج والمُعطيات التي سيسوقها الخصم وجاهزاً لتقديم إجابات مُفحمة لها وقت طرحها.يجب أن يكون قادراً على استفزاز الوفد المقابل نفسياً وعملياً وإعلامياً بمختلف الأساليب، وعلى سحبه ليقع في أفخاخ مُحكمة أمام العالم من ناحية، وأمام السيد الذي لا يغفر له الخطأ من ناحية أخرى.يجب أن يكون قادراً على استغلال كل معطى جديد خلال المفاوضات وعلى الأرض ليُعيد خلط الأوراق في وجه الخصم ويُشتت تفكيره ويحاصره ويُنهكه نفسياً وفكرياً وسياسياً.لسنا هنا في مقام الحكم على النيات أو الأشخاص، لكن التساؤل مشروع جداً عن مدى جدية قيادة الائتلاف وهي تدخل في مثل هذه المهمة، وعن درجة إدراكها لخطورتها وحساسيتها التاريخية بكل المعاني وعلى كل المستويات.ورغم الدلالات السلبية لموضوع تجميد المفاوضات والقبول المُسبق باستئنافها بعد عشرة أيام في ظل تزايد همجية النظام، ووسط أنباء عن شحنات روسية جديدة من الأسلحة إليه، إلا أن هذه الفترة يمكن أن تكون حاسمة لتصحيح الأوضاع بدءاً من ضبط الأداء الإعلامي، مروراً بتغيير تشكيلة الوفد لتضم شريحة أكبر من الخبراء الحقيقيين ومن الممثلين للقوى الثورية، وانتهاء بوضع مطالب واضحة ومحددة تؤكد جدوى استمرار التفاوض وفق جدول زمني لا يسمح بإدخال العملية في نفق يصبح فيه التفاوض هو الهدف والغاية بأي شكل من الأشكال.

798

| 02 فبراير 2014

في المعاني الكبرى للمواجهة مع "داعش" في سوريا

بنظرةٍ شاملةٍ وطويلة المدى، قد تكون مواجهات الفصائل الثورية السورية العسكرية مع داعش مفرق طريقٍ إستراتيجيا فيما يتعلق بإنهاء كل ما له علاقة بالفهم الإسلامي المتطرف وتنظيماته في المنطقة، وإلى عقود قادمة.فعلى العكس تماماً من كل التكهنات السابقة المتعلقة بتحول سوريا إلى بقعة جذب، أو مغناطيس كما وصفها وزير الخارجية الأمريكي كيري، للمتطرفين، أو من يُدعون في الثقافة الإسلامية أهلَ الغُلو والإفراط، يبدو أن سوريا ستكون نقطة الانطلاق الجغرافية والثقافية لاسترداد الوسطية الإسلامية والاعتدال في فهم الدين وتطبيقه. وهو أمرٌ سيؤثر دون شك في طبيعة المنظومات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي ستنبثق إلى درجة كبيرة من تلك العملية.مرة أخرى، نتحدث هنا عن نظرة إستراتيجية لا تحكمُ على الظواهر بتسطيحٍ واستعجال ينبثقان من الغرق في اللحظة الراهنة. لهذا، لا نتوقف طويلاً عند المرحلة الحالية من تطور الفكر الشرعي والسياسي للقوى العسكرية الإسلامية، ولو كانت عليه بعض الملاحظات. وهي ملاحظات باتت غالبية القوى المذكورة تتفاعلمعها إيجابياً بالحوار والبحث والدراسة، ولا ترفضها بشكلٍ مطلق بحسمٍ وصرامة، وبعقلٍ مغلقٍ متشنجٍ ومتصلب.يكفي، ببساطة، أن ننظر لكيفية تطور الأمور في الأشهر الماضية على أكثر من مستوى لنرى ملامح التغيير في الظاهرة ولنستقرئ ملامح الواقع الإستراتيجي الجديد الذي نتوقع حصوله.فمنذ أشهر قليلة، كانت هذه الفصائل عينُها تنظر إلى تنظيم (داعش) على أنه فصيل إسلامي يشترك معها في كثيرٍ من المقدمات والأهداف. وبغض النظر عن تفسير البعض لتلك النظرة، إلا أن من الطبيعي تفسيرها من وجهة نظر الفصائل بعدمرغبتها في (الحكم على النيات)، وبتغليب (إحسان الظن)، وبمحاولة تجنب أي اقتتالٍ داخلي والتركيز بدلاً من ذلك على مواجهة النظام دون غيره.لكن ممارسات داعش الوحشية مع المواطنين والتي لا تمتﱡ إلى تعاليم الإسلام بصلة من جهة، وظهور تفرغها للسيطرة على المناطق المحررة من جهة ثانية، ثم هجومها على مناطق تواجد الفصائل العسكرية من جهة ثالثة، وأخيراً تهديدها بالانسحاب منمناطق المواجهة مع النظام وتنفيذ هذا التهديد عملياً، أسهمت كلها في كشف أي غطاءٍ عنها، الأمر الذي رفع عن القوى الثورية الحقيقية كل حرجٍ في مواجهتها وبحسم، سيراً على نهج قتال البُغاة والخوارج كما ورد في التصريحات والفتاوى المتعلقة بالموضوع من الهيئات والروابط الشرعية في سوريا.ثمة نقلة أخرى واضحة تمت خلال الأشهر القليلة الماضية، وهذه المرة في خطاب الفصائل الذي بات يحوي مفردات ومفاهيم لم تكن موجودة في السابق، وهي في الحقيقة أقرب بشكل مضطرد إلى روح الإسلام الوسطي الذي يؤمن به أهل الثورة السورية، ومن أجله خرجوا في ثورتهم منذ اللحظة الأولى.وقد يكفي هنا على سبيل المثال دراسة البيان المشترك الأخير الصادر عن القوى الكبرى وهي (الجبهة الإسلامية والاتحاد الإسلامي لأجناد الشام وجيش المجاهدين)، فيما يتعلق بمؤتمر جنيف. فالفقرة الأولى من البيان تقول ما يلي:"من الواضح أن الثورة السورية تمر الآن في منعطف خطير، فلا بد من التدقيق في تبعات كل خطوة من خطوات العمل ومخرجاتها. وبما أن ثورتنا قد انطلقت للمطالبة بالحرية والكرامة للشعب السوري وليس رغبة في القتال وقد اضطرت لحمل السلاح للدفاع عن المتظاهرين الذين تعرضوا للقمع الوحشي، وهي تؤمن بأن حمل السلاح ليس هدفاً بذاته، بل الهدف استرداد حقوق شعبنا المسلوبة، الدينية والإنسانية".تبدأ الفقرة بالإشارة إلى ضرورة دراسة كل خطوة "من خطوات العمل ومخرجاتها"، ويأتي هذا انطلاقاً من الشعور بأن الثورة السورية "تمر الآن في منعطف خطير".لا كلامَ هنا بلهجة المطلقات الأيديولوجية الحاسمة التي تتعامل مع الأمور بأحكام مُسبقة نظرية وطهورية، وإنما الحديث عن ضرورة دراسة متأنية لكل خطوة من خطوات "العمل" وليس فقط "الجهاد ومناجزة الأعداء".ثم تؤكد العبارة الثانية أن "ثورتنا قد انطلقت للمطالبة بالحرية والكرامة للشعب السوري وليس رغبة في القتال". فالحديث هنا بكل وضوحٍ وصراحة، عن "ثورة" وليس عن "غزوة جهادية" مثلاً. وبما أن هناك تماهياً متزايداً مع الشعب الثوري فإن الكلمة تُصبح "ثورتنا". أما طبيعتُها فإنها بكل وضوحٍ وصراحة ليست عملية قتالٍعبثي من أجل القتال، وإنما انطلقت، أيضاً بوضوحٍ وصراحة، "للمطالبة بالحرية والكرامة للشعب السوري"، لا لهدفٍ آخر.أما حملُ السلاح فلم يكن هو الأصل والقاعدة، بدلالة الكلام الجلية والواضحة وإنما "اضطرت لحمل السلاح للدفاع عن المتظاهرين الذين تعرضوا للقمع الوحشي".ولمزيدٍ من التوضيح بشكلٍ لا يقبل تأويلاً أو تفسيراً آخر، يؤكد البيان أن الثورة، ومن أصدر البيان ضمنياً، يؤمنان "بأن حمل السلاح ليس هدفاً بذاته، بل الهدف استرداد حقوق شعبنا المسلوبة، الدينية والإنسانية".ثم إن البيان ينتقل إلى طلباتٍ يجب تحقيقها "لنجاح الحل السياسي"، هي طلبات كل السوريين، بما فيها الطلبات المعلنة للائتلاف الوطني السوري، ليختم بشرطين أخيرين ونداءٍ تلفت صياغتُها ومفرداتُها النظر وتستحق الكثير من التأمل والدراسة. ويأتي الشرطان والنداء على الشكل التالي: "عدم التدخل في شكل الدولة المستقبلية بعد النظام، ولا فرض أي أمر ينافي الهوية الإسلامية لعامة شعبنا،والتي لا تمنع أي فئة من فئات المجتمع من حقوقها. رد الحقوق التي استلبت خلال سنوات الثورة السورية لأهلها، لهذا كله فإننا ندعو كافة جهات المعارضة السورية الشريفة إلى حشد الصف وراء شعبنا الثائر ومطالبه المشروعة وسعيه للحرية والكرامة ونيل حقوقه الدينية والإنسانية".ثمة دقة كبيرة مقصودة في انتقاء الكلمات في هذا البيان.. فهو ليس صادراً عن مجموعةٍ هامشية من المقاتلين، وإنما عن أكبر مجموعات ثورية عسكرية في سوريا اليوم، لها مكاتبها السياسية، ومرجعياتها العلمية، فضلاً عن تواصلها الوثيق والمتزايد مع علماء الشام الوسطيين الثقاة في أغلب أمورها وقضاياها.ليس في البيان "دوغما" دينية أو أيديولوجية بأي شكلٍ من الأشكال.ليس فيه شعارات جوفاء تخلق مفاصلةً مع الشعب السوري، ولا مع تطلعاته ومطالبهوثقافته وهويته، وإنما على العكس تماماً، يدخل البيان بأصحابه في روح الثورة وهويتها ومفرداتها، ويتبنى شعاراتها ومطالبها.ما من شكٍ أن الكمال لله وحده، لكن مثل هذه التطورات ستكون علامةً فارقة ومؤشراً على إنجازٍ جديد تُنجزه الثورة السورية، إضافة إلى تحقيق أهدافها الأصلية، وربما لم يكن في وارد أحد، فلا تكون سوريا القادمة فقط بلد الحرية والكرامة والتنمية والحياة والمواطنة التي "لا تمنع أي فئةٍ من فئات المجتمع من حقوقها"، وتعطي "شعبنا الثائر مطالبه المشروعة... وحقوقه الدينية والإنسانية"، بل تكون سوريا أيضاً الوطن الذي تنكسر على حدوده مسيرة الغلووالتطرف والإرهاب المعاصرة، تماماً كما انكسرت عليها تاريخياً موجات الإرهاب الصليبي والتتاري والمغولي، لتعود للبشرية سيرتُها الطبيعية، خدمة للإنسان وبناء للدول والحضارات.

874

| 26 يناير 2014

العلمانيون إذ يُرسخون (العلمانوفوبيا)

غالباً ما يشعر الكاتب في مثل هذا الموضوع بنوعٍ من (التردد) النفسي والفكري. فالتسطيحُ البالغ في الخطاب السائد، حتى بين كثيرٍ من المثقفين الذين يعتبرون أنفسهم (تقدميين) بمعنى أو آخر، يضع الكاتب وكلماته في خانة التصنيف منذ اللحظة الأولى لقراءة العنوان."آها.." يقول هؤلاء في أنفسهم. "ها قد أمسكناهُ بالجُرم المشهود، وحَكَمنا عليه بأنه مُعادٍ للعلمانية" والأغلب أن يُضيفوا "ومُعادٍ لليبرالية". لا فرق أن يحصل هذا بلسان المقال أو أن يكون بلسان الحال.والحقيقة أن التردد المذكور أعلاه لا ينبع من رهبةٍ قد تصيب البعض بسبب هذا الموقف على المستوى الشخصي، فالتعامل مع هذه القضايا لا يأتي "رغَباً أو رَهَباً"، والمرءُ لا يبحث في هذا المقام عن رضا أحدٍ أو سخطه فيما يطرح، فهذا أهونُ من أن يكون مقياساً للحسابات في الرأي والعمل.وإنما ينبثق التردد من خوفٍ يصيب المرء من المساهمة في خلط الأوراق، وزيادة الفوضى الفكرية التي تملأ ساحتنا، العربية عموماً، والسورية تحديداً، خاصةً بسبب التسطيح الذي نتحدث عنه. وأكثر من هذا، بسبب عمليات الفرز والتصنيف الحادة السائدة في ثقافتنا الراهنة، والتي تتمحور بشكلٍ كبير حول الموقف من الإسلام ودوره في الحياة.فمنذ سنوات طويلة، أشهر عزيز العظمة سيف الترهيب بالوقوع في عقلية النزعات التوفيقية أو التلفيقية على كل من حاول أن يجد لـ (التراث) مكاناً في واقع العرب ومستقبلهم. وحتى ندرك حجم المفارقة، يجب أن نتذكر أن السيف المذكور لم يطل (إسلاميين) بالمعنى المألوف لهذا التوصيف، وإنما مثقفين من أمثال الجابري وزكي نجيب محمود وحسن حنفي وحتى غالي شكري!لقد كتبنا مقالاً سابقاً بعنوان (الثورة السورية إذ تكشف المستور). والحقيقة أن هذه الثورة تبقى في جوهرها عملية تعريةٍ هائلة لكل عيوب المجتمع السوري وثقافته، ربما قبل أن تكون حركة انعتاقٍ من الطغيان السياسي. والواقع أن في هذا خيراً كبيراً، لأن تحطيم أغلال الطغيان الثقافي بكل ألوانه ومصادره هو في النهاية الطريق الوحيد لامتلاك الحرية والكرامة، وإزالة منظومة الطاغوت السياسية مرةً واحدة وإلى الأبد.ونحن حين نتحدث عن الطغيان الثقافي هنا فإن معانيه لاتنحصر في الظلم العملي المباشر، وإنما تمتد لتشمل محاولات القفز على كل ما له علاقة بالهوية الحضارية الإسلامية التاريخية للمجتمع السوري، وخاصةً حين يحصل هذا من قبل مثقفين (تنويريين) ليبراليين وعلمانيين يُفترض بهم أن يكونوا طليعة المجتمع ووعيهُ المتقدﱢم.والواضح أن مآلات الثورة، و(شُبهة أسلَمتها) تحديداً، وضعت الغالبية العظمى من هؤلاء في موقفٍ حرج ثقافياً وسياسياً. ونحن إذ نتأمل حالهم مع نهايات العام الثالث للثورة فإننا نرى كيف يُصبحون بشكلٍ مضطرد جزءاً من المشكلة بدل أن يكونوا جزءاً من الحل.ما من شكٍ أن الثورة كشفت عوار الفكر الإسلامي التقليدي بأشكاله المتنوعة. لكننا نعترف فوق ذلك، وهذا رأيُنا على الأقل، أن الإسلاميين في سوريا كانوا فقراء قبل الثورة في صنعة الثقافة، وأنهم لم يكونوا قادرين على تقديم رموز ثقافية بالمعنى الأصيل للكلمة. من هنا، بقيت ساحة الثقافة حكراً (حلالاً) على من عمل فيها ممن كانوا يوصفون عادةً علمانيين أو ليبراليين.لكن هذه الحقيقة بحد ذاتها تضع على هؤلاء مسؤوليةً كبيرة.فلئن كان الزهدُ في استيعاب الرؤية الإسلامية وتأثيرها في المجتمع السوري ترفاً ممكناً قبل الثورة. إلا أن استمرار تلك الممارسة في واقعها الراهن يعني في أقل الأحوال تجاهلاً مُعيباً للدور الطليعي للمثقف. أسوأ من هذا أن يصبح هاجسُ بعضهم، خاصةً ممن انتقلوا إلى عالم السياسة، معارضةً وموالاة، العملَ بكل طريقةٍ ممكنة لمحاصرة أي صفةٍ إسلامية للثورة.ليس غريباً إذاً أن نرى كيف يُكرسُ العلمانيون أنفسهم ظاهرة العلمانوفوبيا.وها نحن اليوم بإزاء ظاهرةٍ فريدة في سوريا، حيث خسرت الثقافة بعضاً من كبار رموزها دون أن تربحهم السياسة.ثمة مائة مأخذٍ ومأخذ على ممارسات كثيرٍ من الإسلاميين الذين أصبحوا القوة الأكبر في الواقع السوري. وعندنا أن هذه المآخذ تنبثق من رؤيةٍ شموليةٍ للإسلام نفسه قبل أن تكون صادرةً عن أي رؤيةٍ أخرى.لكن طريقة تعامل الغالبية العظمى من المثقفين العلمانيين والليبراليين مع الموضوع بأسره يبقى غريباً وغير مفهوم، إذا أخذنا بعين الاعتبار مقتضيات دور المثقف الحقيقي في عدم إنكار الواقع أولاً، ثم في فهمه بدقة، والإحاطة بمتغيراته، وصولاً إلى امتلاك اليقين بالقدرة على التأثير فيه إذا توفرت شروط العدل والموضوعية في القراءة والتحليل.الأرجح أن الأمل بات مفقوداً فيمن اقتحم ساحة السياسة ودهاليزها من أولئك المثقفين، ولئن كان هناك بصيص أملٍ في قلةٍ كان يبدو أنها تحاول إلى أمدٍ قريب، إلا أن بعض الوقائع تجعل المرء يخشى من فقدان الأمل نهائياً بدورهم أيضاً. وهذه أزمةٌ مؤلمة لسوريا، فضلاً عن كونها مؤلمة على غياب الكمون المأمول لهم ولمنظوماتهم الفكرية في تقوية منظومة التعددية الثقافية والاجتماعية والسياسية لسوريا المستقبل.أخشى ما نخشاه أن يصدُقَ في زملائنا تحليل المثقف السعودي الليبرالي تركي الحمد منذ سنوات حين قال: ".. بوضوحٍ أكبر، يمكن القول أن الليبرالية هي ايديولوجيا واعية بذاتها الأيديولوجية، وهنا تكمن قوتها من حيث وعي القائلين بها أن كل شيء ممكن. وبإيجاز العبارة، فإن الليبرالية في النهاية هي تحرير الأيديولوجيا من الأيديولوجيا، وهذا ليس تلاعباً بالألفاظ بقدر ما هو تقرير حالةٍ تاريخية معينة بأقل قدرٍ من الإسهاب. نقطة الضعف الرئيسية في الأيديولوجيا الليبرالية لا تكمن في نسقها المفتوح، ولا في أفكارها الفلسفية، بقدر ما تكمن في المعبرين عنها، دولاً أو أفراداً أوجماعات، حين يمنحون مفاهيمها معاني مطلقة وفق ظروفهم ومحيطهم هم دون غيرهم، وبذلك يُغلقون ما هو مفتوحٌ أصلاً، ويزعزعون فكرة التعددية والتسامح والتعايش التي لا ليبرالية دونها. بمثل هذا الفعل، تتحول الليبرالية إلى أيديولوجيا بنصٍ مُغلق، مثلها مثل غيرها من أيديولوجيات، ويغيب الوعي عن معتنقيها من أنهم يُمارسون فعلاً أيديولوجيا في النهاية مهما بلغ عمق الإيمان بالمقولات المطروحة، وبذلك تحكم على نفسها بالفناء في النهاية".

1667

| 12 يناير 2014

هل يرتقي الائتلاف الوطني السوري إلى مستوى المسؤولية؟

مع نشر هذا المقال، تجتمع الهيئة العامة للائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية في إسطنبول فيما يمكن أن يُعتبر واحداً من أهم اجتماعات الائتلاف منذ تأسيسه. لاتنبع أهمية الاجتماع فقط من طبيعة القضايا الحساسة التي سيبحثها، وإنما من زاوية تأثيرها في مصير الثورة السورية ومستقبل سوريا.فرغم كل مايمكن أن يُقال عن الائتلاف وسلبياته، وهو كثير. ورغم الاتهامات الموجهة له بعدم قدرته على أداء دوره في تمثيل الثورة سياسياً، وهذا صحيح، يبقى الائتلاف حتى الآن الجهة السياسية الرسمية التي اعترفت بها دول العالم بشكلٍ أو بآخر.صحيحٌ أن هذا الاعتراف لم يُنتج عملياً دعماً حقيقياً للسوريين وثورتهم يُنصفهم إنسانياً على الأقل، فضلاً عن أن يساعدهم في تحقيق أهداف الثورة. وصحيحٌ أن (اعتراف) دولٍ كروسيا وإيران جاء تدريجياً كنوعٍ من الاعتراف بأمرٍ واقع، وإن بغرض احتوائه ومحاولة توظيفه عبر المناورات السياسية لمنع الثورة من تحقيق أهدافها.لكن الائتلاف بقي حتى الآن جهةً رئيسةً تحمل كموناً يجب العمل لتفعيله وصولاً إلى أداء دوره المطلوب. وهو أمرٌ لاتبدو مقدماتهُ ظاهرةً للمحلل الذي يتابع الأمور عن قرب إذا بقي الحال على ما هو عليه.لهذا تحديداً نستعمل كلمات مثل (حتى الآن) و(جهةً رئيسة) بدلاً من (الجهة الرئيسة).فمع اقتراب الموعد المُفترض لمؤتمر جنيف2، ومع المُعطيات المتجددة على الأرض السورية بشكل عام وفي المناطق المحررة تحديداً، لاتوجد ثمة إشارات بأن الائتلاف قادرٌ على أن يُحدث نقلةً في المسار السياسي الذي يتصدى للعمل فيه. وهي نقلةٌ باتت مطلوبةً بكل المقاييس.لايكفي في هذا الإطار بعض التطور الذي حصل في حقل العلاقات الخارجية، لأنه تطورٌ لايزال محصوراً في حفنةٍ من التصريحات الإيجابية التي تصدر من هنا وهناك، وتقف مسألة الدعم عندها دون أن تتجاوزها إلى الفعل. وهو لا يتناسبُ بالتأكيد مع حجم التوقعات في درجة الدعم الذي سيتلقاه الثوار يوم وصلت قيادة الائتلاف الحالية إلى موقعها الراهن في الانتخابات الماضية.وحتى في موضوع الحكومة المؤقتة الذي يُفترض فيه أن يكون مجال اهتمامٍ كبير ومتابعةٍ حثيثة من قبل الائتلاف، لاتزال الحكومة تبحث لنفسها عن دور بعد قرابة شهرين من تشكيلها والمصادقة عليها. فهي لم تضع حتى الآن خطةً واضحةً للعمل، كما أن مجرد الاقتراب من الأرض السورية يبدو أمراً صعباً عليها، وهو مايجعل مصيرها بأسره معلقاً في الهواء.والمؤكد أن هذه الحقيقة الأخيرة تعطي مؤشراً على نقطة ضعفٍ رئيسةٍ في أداء الائتلاف، تتمثل في ضعف تواصله مع الداخل السوري بشكلٍ عام، ومع القوى العسكرية الرئيسة على وجه التحديد.ورغم أن تلك القوى مُطالبةٌ بأن تتعامل مع الجهة التي يُفترض أن تكون الذراع السياسية للثورة، وتفتح معها حواراً جدياً وصريحاً ومباشراً على جميع المستويات وفي كل المجالات، إلا أن الائتلاف نفسهُ مُطالبٌ بأن يكون أكثر واقعيةً في إظهار قدرته وأهليته الفعلية على (تمثيل) الداخل الثوري. يَصدق هذا على مستوى الرؤية والخلفية الثقافية، إذ لايُعقل أن يتم تهميش الهوية الإسلامية للثورة في المسار السياسي والالتفاف عليها من خلال إظهار رموز لبعض القوى التي لاتملك رصيداً فعلياً على الأرض. كما يَصدق في مجال التمثيل الفعلي لتلك القوى، إن على مستوى الاعتراف بدورها الرئيس والمتزايد في الداخل السوري، أو حتى في تأمين وجود دورٍ لها في صناعة القرار داخل الائتلاف ومؤسساته المختلفة.والحقيقة أن مثل هذه الممارسة يجب أن تكون محوراً من محاور التفكير السياسي للائتلاف لأن هناك تقدماً ملحوظاً في طريقة تفكير القوى المذكورة عسكرياً وسياسياً، فضلاً عن التقدم في دورها العملياتي. وقد ضربنا مثالاً على هذا الواقع الجديد عند الحديث عن الجبهة الإسلامية في المقال السابق.ويأتي موقف الجبهة الجديد والعلني من تنظيم (داعش)، خاصةً بعد مقتل الطبيب حسين سليمان ليصب في خانة تعزيز دورها في الساحة السورية، وهو مايبدو أن القوى الدولية أدركته من استقراء مواقفها المُعلنة. ومع تقاطع مواقف الجبهة بشكلٍ متزايد مع مواقف القوى الإقليمية والدولية حول هذا التنظيم وفكره بشكلٍ عام، تُصبح تلك المواقف الإقليمية والدولية مفهومةً وقابلةً للتطور من الجهتين، خاصةً مع ازدياد جرعة (الواقعية) لكلا الطرفين، ولو من زوايا رؤية مختلفة.من هنا تأتي الحاجة لنقلةٍ في عمل الائتلاف ربما تصل إلى حد الانقلاب على طريقة عمله منذ إنشائه إلى يومنا الراهن. وإذا صحت الأنباء عن إمكانية ترشيح الدكتور رياض حجاب لرئاسة الائتلاف، فقد تكون هذه (ضربة معلم) على كثيرٍ من المستويات. فمن ناحية، تبدو علاقات الرجل مع القوى الإقليمية والدولية جيدة. ومن ناحية ثانية، يبدو مؤكداً أن علاقاته جيدة بالداخل السوري وقواه المختلفة. إضافةً إلى هذا، يمثل وجوده في مثل هذا الموقع رمزياً عملية استمرارية الدولة السورية وفصل هذه الاستمرارية عن مسألة إسقاط النظام بكل رموزه وأركانه. وأخيراً، فإن وجوده في هذا الموقع قد يكون حلاً لمسألة الاستقطاب الداخلي في الائتلاف، وهي مسألةٌ لاتزال سائدةً حتى الآن.وعلى عكس مايعتقده البعض، ربما يكون وجود الرجل في هذا الموقع ورقة قوية للائتلاف في حال تقرر أن مؤتمر جنيف2 يمكن أن يُسفر عن نتائج إيجابية في مصلحة الثورة. إذ لايُشترط بالضرورة أن يكون هو رئيس الوفد المفاوض، بل يكون الرئيس شخصاً آخر من المحبذ أن يكون من المعارضة في الداخل. وهذه ممارسةٌ لها دلالات رمزية وسياسية عملية، ويمكن لها أن ترفع سقف شروط المعارضة وتقوي أوراقها التفاوضية. كل هذا إذا انعقد المؤتمر أصلاً، لأن الشكوك في ذلك لاتزال قويةً لأسباب كثيرة.خلاصة الموضوع أن الائتلاف بحاجة لانتفاضة سياسية وتنظيمية تُعطيه القدرة على تحريك المسار السياسي الراكد، وعلى القيام بمبادرات تضعه في موقع صانع الحدث، وعلى إحداث اختراق سياسي وعسكري ملحوظ. وبغير هذا، لايمكن لجنيف ولا لغيرها أن تكون مفارق طريق إيجابية على طريق تحقيق أهداف الثورة.وقد تكون اجتماعات الهيئة العامة للائتلاف الفرصة الأخيرة لتأمين ذلك الاختراق.

1078

| 05 يناير 2014

هل ترتقي (الجبهة الإسلامية) في سوريا إلى مستوى المسؤولية؟

بنظرةٍ إستراتيجية، نجد أن الجبهة ومكوناتها الأصلية أخذت منذ البداية بعنصرٍ أساسي من عناصر المسؤولية المطلوبة يتمثل في أنها عملت على أن تبقى سوريةً خالصة، وأكدت على هذا الأمر بصريح العبارة في أدبياتها. وهكذا، لم تقع في الخطيئة الإستراتيجية التي وقعت فيها فصائل قليلة أخرى حين أعلنت الولاء، بل والبيعة، لجهاتٍ خارجية غريبة عن سوريا وخصوصياتها الكثيرة. وأَدخَلت تلك الفصائل بخطوتها، التي حَسِبتها (هينة)، الثورةَ السورية في مسارٍ كان من الخير ألا تُجرﱠ إليه بهذه الطريقة. تُظهرُ هذه النقطة بحد ذاتها إدراكاً من قِبل الجبهة لدرجة تعقيد الموضوع السوري، ولتشابك مُعطياته المحلية مع كثيرٍ من المعادلات الدولية السياسية والقانونية والدبلوماسية. بل إننا نعتقد أن هذا الإدراك ينبعُ من فهمٍ للإسلام أقربَ للدقة والصواب في خمسة أبواب من الفقة المطلوب في هذه المرحلة: فقه الواقع وفقه المقاصد وفقه الأولويات وفقه المراحل وفقه الحركة. وهي أبواب في غاية الأهمية بشكلٍ عام عندما نتحدث عن فهم الإسلام وتنزيله على أرض الواقع، لكنها ذات أهميةٍ استثنائية فيما يتعلق بالثورة السورية تحديداً، خاصةً لدى كل من يتحدث بخطابٍ إسلامي. وترتفع درجة الأهمية إلى أعلى مستوياتها حين يكون هؤلاء في موقع من يؤثر بمصير البلاد والعباد. والمفترض في أصحاب ذلك الخطاب أن يعرفوا من معاني هذه المسؤولية ومُتطلباتها على المستوى العَقَدي ما لا يعرفه الآخرون. الواضح إذاً أن الجبهة تُعطي أهميةً كبرى لهذا العامل الحساس، وتفهم دوره ودلالاته العملية والنظرية على جميع المستويات. وهذا مفرقُ طريقٍ أساسي لا يدرك أهميتهُ وتَبِعاته السياسية والثقافية والاجتماعية والأمنية، على المدى البعيد، بعض السوريين الذين يحكمون على الموضوع انطلاقاً من مفهوم الإخلاص. وينسون أن من غير الممكن أبداً تبرير القرارات بذلك المفهوم في مثل هذه القضايا الكبرى التي تمس حاضر ومُستقبل بلدٍ مثل سوريا. لكن الواضح أيضاً أن أطرافاً هامة في النظامين الإقليمي والدولة أدركت دلالات هذا القرار، وأنها تأخذ قراراتها السياسية والعملياتية بناءً على ذلك. وهنا تحديداً، تعود لتظهر بقوة المسؤوليةُ المُلقاة على الجبهة، والمتمثلة في الاستمرار في تطوير رؤيتها وواقعها وممارساتها في مختلف المجالات، وانطلاقاً من أبواب الفقه المذكورة أعلاه على وجه التعيين. نُدرك أن ثمة تحديات يُفرزها الواقع من جهة، وأخرى تُفرزها الثقافة السائدة. وسنضرب عليها مثلاً واضحاً بشفافيةٍ قد يهرب منها الكثيرون. فحين أعلنت أمريكا عن استعدادها للقاء الجبهة، لم تستطع الجبهة قبول اللقاء. ورغم الأهمية الكبرى لمثل هذا اللقاء، ومعرفة قيادات الجبهة ومكتبها السياسي أن اللقاء يأتي إدراكاً من أمريكا بحقيقة الواقع على الأرض، وعدم إمكانية تجاوز هذا الواقع. ومع معرفة تلك القيادات بأنه لايوجد في فقه المقاصد وفقه الواقع وفقه الحركة ما يمنع مثل هذا اللقاء، خاصةً حين تحضرهُ وأنت تعلم من أنت، وتعرف ماتريد. إلا أن اللقاء لم يحصل في نهاية المطاف. الواضح أن السبب الأكبر كان يكمن في تخوفٍ من (المزايدات) التي يمكن أن تواجهها الجبهة من قِبل فصائل أخرى، بل ومن بعض الشخصيات والأفراد الأقل علماً في صفوفها الداخلية، وحتى من قواعدها. وهذا التخوف ليس شخصياً بالضرورة، وإنما ينبع من درجة وحجم (التشويش) الذي يمكن أن ينجم عن الموضوع في إطار تحقيق المصلحة العامة، وحسابات المصالح والأضرار. فرغم الهوية الواضحة التي تُعلنها الجبهة، ورغم ممارستها التي تؤكد تلك الهوية، يَسهُل في ثقافتنا، وفي ظرفنا السوري المتعلق بهذا الموضوع، اتهامُ الجبهة بأنها أصبحت (عميلةً) للأمريكان، وبأنها ستكون مشروع (صحوات) مستقبلي، وبأنها وبأنها... كل هذا من لقاءٍ واحد!؟ المصيبة الكبرى التي يجب أن نواجهها كشعبٍ سوري، بكل صراحةٍ ووضوح، تكمن في أن مثل تلك المزايدات يمكن أن تلقى أرضاً خصبة في ثقافتنا السائدة، وفي ظل الواقع المُعقد للثورة السورية. من هنا، تأتي مسؤولية المثقفين والعلماء وصُناع الرأي العام لأداء دورهم فيما يتعلق بمثل هذه المواضيع. بل إن الوقت حانَ لحدوث نقلةٍ في طرق التفكير والتعامل معها. إذ لا مانع مثلاً أن تطرح قيادات الجبهة الموضوع على طاولة البحث لمن تثق بهم، ولتكن مهمة العلماء والمثقفين والسياسيين توضيح الموقف الشرعي والسياسي والفكري من المسألة. وإذا كان شيءٌ من المناصحة يجري بالفعل مع بعض العلماء ممن يحملون صفة الاعتدال والعلم والقُرب لروح الثورة، فليكن هناك إخراجٌ علني لهذا الموضوع يُوضح للناس الحقائق ويضع الأمور في نصابها. ولتكن هذه الممارسة خطوةً فعالة على طريق منع اختطاف سوريا وثورتها بمبررات الإخلاص، ولإزالة عقباتٍ كُبرى توضع في طريقها على المدى الطويل باسم إنجازاتٍ راهنة.. لكن جزءاً من المسؤولية يعود إلى الجبهة، لأن من المطلوب منها أن (تقود)، في مجال اختصاصها ودورها بطبيعة الحال.. بمعنى ألا تتحرك إلى (الأمام) وإلى مواقع متقدمة وهي تلتفت باستمرار إلى (الخلف) وإلى من يُصرﱡ على البقاء في مواقع متأخرة لاتتناسب مع مقتضيات الحركة والحيوية والتطور، المطلوبة جميعاً لتحقيق المصالح الكبرى لسوريا وثورتها وشعبها في ظل العواصف الدولية المُحيطة بها.. ويتعلق بهذا الموضوع عنصرٌ آخر من عناصر المسؤولية المُلقاة على عاتق الجبهة يتمثل في العمل الجدي لتأكيد كل ما يُكمل عملية الوحدة الحقيقية في داخلها تنظيمياً وفكرياً. فإنجاز هذه المهمة يقوي موقفها ويُشجعها على القيام بمبادرات جريئةٍ مسؤولة بغضﱢ النظر عن الثقافة التقليدية السائدة، وبعض المزاج الشعبي الذي لا مُشاحة في وجوده لأنه يتشكل تحت ضغط وحشية النظام وجرائمه. وأخيراً، فإننا لا نعتقد أن قيادات الجبهة تفترض في نفسها الكمال، خاصةً في مجال الفكر السياسي المطلوب في هذه المرحلة، وتُدرك الحاجة لتطويره بناءً على مُعطيات فقه الواقع وفقه المقاصد وفقه الأولويات وفقه المراحل وفقه الحركة. من هنا، تأتي مسؤوليتها الكبيرة جداً في تطوير جوانب عديدة من فكرها السياسي، وعدم التحرج من إعادة النظر في كثيرٍ من عناصره. وقد يأتي في مقدمة هذا العلاقةُ بين (السياسي) و(العسكري)، وطبيعة الدولة القادمة، وإدراك طبيعة الدور والمهمة الآن وفي المستقبل، وغير ذلك من قضايا تحتاجُ لكثيرٍ من البحث والدراسة. إبراءً للذمة أمام الله والوطن والشعب والتاريخ، وأداءً للمسؤولية من خلال استفراغ الوسع والأخذ بالأسباب.

595

| 01 يناير 2014

الجولاني: خطابٌ لا يليق بسوريا وحضارتها

حريٌ بأبي محمد الجولاني أن يتواضع كثيراً وهو يتحدث عن حاضر الشام ومستقبلها، وعما يريده أهلُها ولايريدونه. وأكثرَ من ذلك، حريٌ به أن يراجع كلامه ألف مرة ومرة عندما يتصدى للحديث عن مشروع الجهاد في الإسلام، والذي قال إنه مشروع جبهة النصرة التي يترأسها، وهو مشروعٌ حسب قوله: "ليس وليد اللحظة، بل نتاج تاريخ طويل من الجهاد، يعود إلى زمن الرسول محمد صلى الله عليه وسلم وصحابته فهم ينتظرون من ذلك الوقت هذه اللحظة ومن بعد سقوط الدولة العثمانية لإعادة سلطان الله على الأرض"!لم تقم الثورة السورية إرضاءً لأحدٍ في الشرق أو الغرب، ولا نتخذ، كسوريين، مواقفنا منها ومن أحداثها وأطرافها تجنباً لغضبِ فلانٍ ورضا علانٍ كائناً من كان.من هنا، ورغم الموقف الدولي القانوني المعروف من جبهة النصرة، لم نكن نُشير في نقدنا إليها بالاسم، بل كنا نشير إلى بعض ممارساتها وممارسات أشباهها بثقافة (مابالُ أقوامٍ) النبوية الحضارية. وما ذلك إلا لتواتر أخبارٍ عنها من أرض الواقع كانت تُرجح أن كُلﱠ همها يتركز على محاربة نظام الأسد، وأنها لم ولن تتدخل من قريبٍ أو بعيد في خيارات السوريين السياسية والثقافية والاجتماعية، وأنها تتجنب الظهور الإعلامي وتسعى إلى أداء مهمتها بصمتٍ وهدوء.أما وقد خرج علينا الجولاني في لقاء تلفزيوني لمدة ساعةٍ كاملة، يجول فيها ويصول متحدثاً عن حاضر سوريا ومستقبلها، وعارضاً لما يريده أهلها ولما يرفضونه، وشارحاً لمشروع الجهاد، ومقدماً لمواقف حاسمة حول كثيرٍ من القضايا الأساسية التي تبدأ بجنيف ولاتنتهي بوضع الأقليات في المستقبل، فإن الأمر يدفعنا لوقفةٍ معه نطلب منه فيها أول مانطلب أن يحترم الشام وتاريخها وحضارتها وإنسانها، وقبل هذا وبعده، فهمها المتألق والعفوي للإسلام ولطريقة تنزيله على الواقع.لم يأتِ هذا الفهم عبثاً وإنما تكوﱠن من وجودٍ تاريخي مستمر لرموز دينية وفكرية وثقافية واجتماعية متميزة على أرض سوريا، ومن انتماء هؤلاء للحضارات والأديان الكبرى في التاريخ، ومن التفاعل المستمر بينهم من جهة، وبينهم وبين متغيرات الواقع من جهةٍ أخرى.وللتذكير، فإن سوريا مثوى لعدد كبير من الأنبياء والصحابة والأولياء الصالحين، ومن ذلك مقام نبي الله هابيل، ونبيه إبراهيم الخليل، وأهل الكهف، وأم المؤمنين السيدة (أم حبيبة) زملة بنت أبي سفيان، زوجة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، والسيدة زينب، والسيدة رقية، ابنتا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب.وذكر ابن سعد في طبقاته مايزيد على مائة رجل من الصحابة الكرام دخلوا الشام منهم: أمين الأمة أبو عبيدة عامر بن الجراح، وأحد العشرة المبشرين بالجنة سعيد بن زيد، ومؤذن الرسول الكريم بلال بن رباح، وأعلم الأمة بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وزاهد الأمة أبو الدرداء، وأحد النقباء عبادة بن الصامت، وسيف الله المسلول خالد بن الوليد، وابن عم الرسول الكريم الفضل بن العباس، وأمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان، وأبو أمامة الباهلي، وأسامة بن زيد، وزيد بن ثابت، وعمار بن ياسر، وعمرو بن عنبسة، والعرباض بن سارية، وحجر بن عدي، وخالد بن سعد، وغيرهم كثير.أما التابعون والعلماء فكان منهم مثلاً لا حصراً كعبُ الأحبار وابن قدامة المقدسي وغيره من المقادسة، والأوزاعي، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، وابن كثير، والنووي، والطبراني، والذهبي، وسلطان العلماء العز بن عبدالسلام، والفارابي، وغيرهم كثير.وبمناسبة اللقب المُعبر للجولاني والذي يسبق اسمه، بكل تواضع، وهو (الفاتح)!؟ نذكر أن ممن عاشوا في سوريا أمراء وخلفاء واستحقوا ألقابهم دون حاجةٍ للتعريف بهم وبإنجازاتهم الناصر صلاح الدين، والمظفر قطز، والظاهر بيبرس، وغيرهم كثير.والذي يبحث في سيرة وكتابات وممارسات هؤلاء الذين تكونت ثقافة سوريا وتاريخها، بناءً على عطائهم وعطاء أمثالهم من رموز الإسلام، يرى إسلاماً ينبض بالحياة والكرامة والحرية والعدالة والتسامح والمحبة والبناء، يختلف بالتأكيد عن الإسلام الذي نفهم أن الجولاني يؤمن به، ويراه الأصلح لسوريا ولأهلها، ولحاضرها ومستقبلها.ثمة كثيرٌ يمكن نقده ونقضه في حديث الجولاني ومقولاته لقناة الجزيرة مما لايتسع له هذا المقام. والمُفارقةُ تكمن في حقيقة أن أي طالب علمٍ جدﱢي يمكن له أن يقوم بتلك المهمة، وبسهولة.لكن المُفارقة تبلغ حد المأساة حين ندرك أن الجولاني يضع نفسه رغم ذلك عملياً، وبغض النظر عن كل شعارات التواضع، في مقامٍ أكبر منه بكثير، لأنه بمنطق القوة يؤثر بشكلٍ أو بآخر في مصير بلدٍ كامل، ليس كأي بلد، هو سوريا.قد يكون للجزيرة عذرٌ في بحثها عن سبقٍ صحافي يبحث عنه الإعلاميون المِهَنيون في كل مكان. وقد يكون ثمة تبريرات لدى تيسير علوني وهو يحاول أن يسند ضيفه من هنا وهناك، ويعيد عليه السؤال عشر مرات حتى يفهمه، ويحاول جاهداً توجيهه ليُعطي الإجابات التي (يجب) أن يُعطيها.لكن المقابلة بأسرها تبين بجلاء أن رجلاً يضع مستقبل بلاده على المحك لايرقى لأن يكون تلميذاً للأعلام الذين صنعوا تاريخ سوريا وحضارتها وذكرنا بعض أسمائهم أعلاه.نعلم أن هناك دائماً فرقاً بين الإخلاص والصواب. وهاتان صفتان لاتجتمعان بالضرورة لدى كثيرٍ من الناس. لكن المأساة تظهر، مرةً أخرى، حين يكون هذا حالُ إنسانٍ يضع نفسه في موقعٍ يؤثر في البلاد والعباد، وهو يجهل تلك الحقيقة.من هنا، نقوم بواجبنا، ونؤكد على أن الصواب يجانب الجولاني إلى درجة كبيرة، وكبيرةٍ جداً. وعلى أنه يرتقي مركباً صعباً، ويضع نفسه أمام مسؤولية نؤكد أمام الله والتاريخ أنه لايعرف حجمها. كما نُشهد الله والسوريين على هذا الكلام.لكن هذا لايمنعنا من أن نقول: إذا كان لدى الجولاني إخلاصٌ يشعر المرء به من طريقة كلامه ورنة صوته، فإنه مدعوٌ لأن يقوم، ببساطة، بكثيرٍ من المراجعات.وربما كان مفيداً لو بدأت هذه المراجعات بمقولة الإمام ابن القيم، تلميذ ابن تيمية، الذين كانا ممن صنع تاريخ الشام، في كتابه إعلام الموقعين تحت فصل (في تغير الفتوى واختلافها بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد): "هذا فصلٌ عظيم النفع جداً، وقع بسبب الجهل به غلطٌ عظيمٌ على الشريعة أوجب من الحرج والمشقّة وتكليف ما لاسبيل إليه ما يُعلم أن الشريعة الباهرة التي في أعلى رتب المصالح لا تأتي به. فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحِكَم ومصالح العباد في المعاش والمعاد. وهي عدلٌ كلها، ورحمةٌ كلها، ومصالحُ كلها، وحكمةٌ كلها. فكل مسألةٍ خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة وإن أُدخلت فيها بالتأويل..... فالشريعة عدل الله بين عباده، ورحمته بين خلقه، وظلّهُ في أرضه، وحكمته الدّالةُ عليه وعلى صدق رسوله صلى الله عليه وسلم أتمّ دلالةٍ وأصدقها".

1210

| 22 ديسمبر 2013

alsharq
جريمة صامتة.. الاتّجار بالمعرفة

نعم، أصبحنا نعيش زمنًا يُتاجر فيه بالفكر كما...

6540

| 27 أكتوبر 2025

alsharq
من يُعلن حالة الطوارئ المجتمعية؟

في زمنٍ تتسارع فيه التكنولوجيا وتتصارع فيه المفاهيم،...

6423

| 24 أكتوبر 2025

alsharq
غياب الروح القتالية

تُخلّف بعض اللحظات أثرًا لا يُمحى، لأنها تزرع...

3126

| 23 أكتوبر 2025

alsharq
طيورٌ من حديد

المسيرات اليوم تملأ السماء، تحلّق بأجنحةٍ معدنيةٍ تلمع...

1980

| 28 أكتوبر 2025

alsharq
النظام المروري.. قوانين متقدمة وتحديات قائمة

القضية ليست مجرد غرامات رادعة، بل وعيٌ يُبنى،...

1866

| 23 أكتوبر 2025

alsharq
الدوحة عاصمة لا غنى عنها عند قادة العالم وصُناع القرار

جاء لقاء حضرة صاحب السمو الشيخ تميم بن...

1677

| 26 أكتوبر 2025

alsharq
الدوحة عاصمة الرياضة العالمية

على مدى العقد الماضي أثبتت دولة قطر أنها...

1254

| 27 أكتوبر 2025

alsharq
منْ ملأ ليله بالمزاح فلا ينتظر الصّباح

النّهضة هي مرحلة تحوّل فكري وثقافي كبير وتمتاز...

1023

| 24 أكتوبر 2025

alsharq
كريمٌ يُميت السر.. فيُحيي المروءة

في زمنٍ تاهت فيه الحدود بين ما يُقال...

999

| 24 أكتوبر 2025

alsharq
التوظيف السياسي للتصوف

لا بد عند الحديث عن التصوف أن نوضح...

918

| 27 أكتوبر 2025

alsharq
توطين الذكاء الاصطناعي في القطاع الصحي القطري

يشهد قطاع الرعاية الصحية في قطر ثورة رقمية...

900

| 23 أكتوبر 2025

alsharq
فاتورة الهواء التي أسقطت «أبو العبد» أرضًا

“أبو العبد” زلمة عصامي ربّى أبناءه الاثني عشر...

870

| 27 أكتوبر 2025

أخبار محلية