رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

Al-sharq

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

الشرق

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

الربيع العربي حتمية تاريخية

لم يكن ثمة مجالٌ للتاريخ سوى أن يولد الربيعُ العربي، نؤكد هذه المقولة في ذكرى قدوم الربيع المذكور لأن كل دروس التاريخ والاجتماع البشري تؤكدها من أكثر من مدخل.وإذ تكثر التفسيرات عن أسباب قدوم هذا الربيع، وتشيع فيها التفسيرات التآمرية، ينسى أصحاب هذه المقولات أن الواقع العربي السابق لهذا التاريخ كان يحمل في طياته كثيراً من المؤشرات التي توحي بحتمية حصول ما حصل. فسنن التاريخ وقوانين الاجتماع البشري لا تحابي أحداً، وهي من القوة بحيث لا يمكن إعاقتها بأي قوة، أمنية كانت أو سياسية أو مالية.لا يحتاج الأمر إلى قراءة الغيب، وإنما يكفي الاستقراء المنهجي لتلك السنن والقوانين، والنظر في الواقع العربي وإمكانية تطبيقه عليها. ولتأكيد تلك القاعدة فقط، ننقل فيما يلي جملة اقتباسات من مقالات نشرها كاتب هذه الكلمات على مدى أكثر من عشر سنوات ماضية فيها ما يشير إلى ما هو قادم، وإلى ما أصبح أمراً واقعاً في نهاية المطاف.ففي مقال بعنوان (لماذا نخاف من الإصلاح) جاءت الفقرة التالية: "والبعض يخشى من الإصلاح خوفاً من أن يكون طريقاً للفوضى، وقلب الأمور رأساً على عقب.. والحقيقة أن ذلك ليس من الضرورة بمكان على الإطلاق. لأن من الممكن جداً الوصول إلى عقدٍ اجتماعي وسياسي يأخذ بعين الاعتبار خصوصية الثقافة السياسية العربية، وخصوصية النظام السياسي العربي، وخصوصية العلاقة التاريخية والمعاصرة بين الحاكم والمحكوم في البيئة العربية، وخصوصية ومميزات هياكل وأطر العلاقة بينهما، وهي كلُّها خصوصيات لم يعد بالإمكان تجاهلها إذا أردنا حقاً أن نخرج من المأزق المستحكم الذي يمكن ملاحظته في كثير من البلاد العربية".وفي مقال آخر بعنوان (هل اقتربت نهاية زمن الاستحقاق العربي) ورد هذا الكلام: "إلا أن التغييرات الجذرية التي بدأت تتفاعل على الساحة العالمية ثقافياً واقتصادياً وسياسياً منذ بداية التسعينيات الميلادية تراكمت مع بداية الألفية الجديدة، بشكلٍ بدأ فيه النظام السياسي العربي يفقد الأدوات الأساسية التي كانت تمكنه من الحفاظ على تماسكه. فمع سقوط زمن الأيديولوجيات التي كانت تضفي بعض مشروعيةٍ هنا وهناك، ومع تغير خرائط التحالفات السياسية والاقتصادية والعسكرية في كثير من أنحاء العالم، ومع تزايد مدِّ ثورة الإعلام والاتصالات التي اكتسحت العالم فكشفت المستور وسمحت بالممنوع وعرَّفت بالمجهول، ومع شيوع موضة الحريات والديمقراطية وحقوق الإنسان في العالم، وما رافقها من انحسار موضة الحكم بواسطة الأمن والمخابرات والبوليس السري، ومع تـغوّل العولمة الاقتصادية وازدياد جشع الشركات متعددة الجنسيات للأسواق البكر والأيادي العاملة والمواد الخام الرخيصة، صار من الصعوبة بمكان الحفاظ على تلك القشرة التي تحدثنا عنها، والحفاظ على ما تحتها، في معزلٍ عن جميع هذه التطورات الحاسمة التي غيرت بشكل استثنائي حياة الإنسان على وجه الكرة الأرضية".أما المقال بعنوان (علاقة المعارضة بالسلطة) فقد انتهى بالفقرة التالية:"لابد من صياغة معادلة جديدة للعلاقة بين السلطة والمعارضة في العالم العربي.. بغض النظر عن طريقة الإخراج.. ففي معزلٍ عن ذلك الاتفاق سيظل الحوار حوار طرشان. ومابين فقدان الثقة بالآخر والاعتماد على الأوهام، لن تكون النتيجة سوى المزيد من الحسابات الخاطئة، بكل ما يترتب عليها من كوارث وإخفاقات".ثم كان مقال (التغيير من أجل الاستقرار) والذي جاء فيه: "إن التغيير في العالم العربي مطلوبٌ اليوم، ومطلوبٌ بشدّة، في كل مجال وعلى كل صعيد. وليس هذا فقط قناعةً شخصيةً من كاتب هذه الكلمات، وإنما هو نداءٌ سمعتُهُ، ورغبةٌ كانت تُعبّر عن نفسها بشكلٍ مباشرٍ أو غير مباشر، في كل اللقاءات التي أسعفني الحظ بالوجود فيها، سواء على المستوى الخاص أو العام، والتي جَمَعَت في مجموعها أطيافاً متنوعةً من شرائح النخبة سياسيين وصحفيين ورجال أعمال وأكاديميين ومثقفين وعلماء في الدين والشريعة.. الأمر الذي يعني أن التغيير المطلوب والمنتظر يتعلق بشكلٍ أو بآخر بالسياسة والإعلام والاقتصاد والتعليم والثقافة والدين.. هذا فضلاً عن كثيرٍ من مظاهر الشكوى والتذمر السائدة بين عامة الناس خارج دوائر تلك النخبة، والتي تكتمل من خلال الوعي بدلالاتها دائرة الإجماع على الحاجة للتغيير في واقعنا العربي المعاصر. وهذا كلُّه إن كان يعني شيئاً، فإنما يعني أنه لم يعد هناك مجالٌ اليوم للخوف من التغيير، أو للنظر إليه على أنه قد يُهدّدُ الاستقرار، وهو يعني أن الأوان قد آن للإقدام على التغيير دون حذرٍ مُبالغٍ فيه، بعيداً عن الحسابات التقليدية، لأنه أصبح المدخل الأكيد، وربما الوحيد، إلى ذلك الاستقرار".وفي مقال (التنمية والمشروعية ومستقبل العالم العربي) جاء الختام كما يلي: "خلاصة القول معروفة، فعملية التنمية العربية الحقيقية تكاد تُراوح في مكانها، ووجهة الاقتصاد العربي على المدى المتوسط والبعيد لا تبشّر بالخير. لهذا، آن الأوان للتفكير بشكلٍ استراتيجي فيما يمكن أن ينتج عن تلك الخلاصة في المجالات الاجتماعية والسياسية والأمنية في العالم العربي بشكل عام، وعلى صعيد المشروعية السياسية تحديداً. نحن نتحدث هنا عن قوانين للاجتماع البشري لا يمكن التعامل معها بالتأجيل والتسويف والتجاهل. لا توجد حلول وسط لهذه القضية، ولابدّ من واقعيةٍ شديدة في تفكير النخبة، تؤدي إلى تنازلاتٍ تقوم بها، وتحفظ الجميع من السقوط في الهاوية. أما من يهمس في الآذان بغير ذلك، فإنما يبحثُ عن مصلحةٍ فردية آنيةٍ له، وليس له علاقةٌ من قريب أو بعيد لا بمصلحة العرب، ولا بمصلحة النظام العربي، ولا حتى بمصلحة من له مصالح إستراتيجية في بلاد العرب".أما مقال (زمن سقوط المحرمات) فقد بدء بالفقرة التالية: "تتساقط المُحرَّمات في الواقع العربي واحدةً تلو أخرى، يحزن البعض ويفرح آخرون ويختار البعض الثالث موقف الإنكار، ولكن المحرمات تظل تتساقط كأوراق الشجر في خريفٍ شديد الرياح". وانتهى بما يلي: "ومع سبتمبر الأول في الألفية الجديدة تحطمت جميع الموازنات والترتيبات وتغيرت كل الحسابات دخل العرب الواقع العالمي المعقّد من بوابة سبتمبر بنفس سرعة الطائرات التي اقتحمت الأبراج، وبدأ العالم بالمقابل يدخل في كل ذرةٍ من نسيج العالم العربي. وفجأة، تداخلت القضايا، تشابكت المصالح، تنوعت الاهتمامات، تناقضت الأولويات. ومرة أخرى، جاءت النتيجة منسجمةً مع مقدمتها، تسارعت وتيرة انهيار المنظومة القديمة من كل ناحية، أضحى كل مسكوت عنه مجالا للنقد والتحليل والمراجعة بل وللاتهام والهجوم، لم يعد هناك حصانة من أي نوع لا سياسياً ولا دينياً ولا اجتماعياً. بقي البعض يؤمن بمراجع أيديولوجية أو سياسية، شخصية أو نظرية. ولكن عقلية (المرجعية) بدأت تتآكل بشكل ظاهر. لم تعد هناك جهة أو جماعة أو حزب أو فرد فوق نقدٍ يأتي من طرف من الأطراف. وفي حين كان يمكن كتابة مجلد عن (المسلّمات) في العالم العربي من سنوات، لم تبق هناك فكرة لا تقبل النقاش أو الجدل أو التشكيك في الزمن الراهن. إن لم يكن في الواقع ففي الصحف. وإن لم يكن في الصحف والمجلات فمن خلال رسائل الهواتف النقالة، وإلا فعلى الفضائيات، وإن لم يكن عليها فعلى الإنترنت. وهكذا دواليك. والذي لا يعرف هذه الحقائق بالشواهد والأمثلة لا يعرف شيئا عن الواقع العربي المعاصر. باختصار، بدأت رحلة سقوط المحرمات وأصبح صعباً أن تتوقف على المدى المنظور".ليس السؤال إذاً: لماذا جاء الربيع العربي؟ بل قد يكون: لماذا جاء متأخراً؟

909

| 08 فبراير 2015

إلى متى تنتظر سوريا ليدرك البعض أن مدرسة التطرف واحدة؟

لا نضرب بـ (المندل)، ولا نعرف الغيب، ويمكن جداً أن نخطئ ونصيب، لكننا نحاول قراءة الحاضر واستقراء المستقبل بشيءٍ من المنهجية، مع استصحاب تجربة التاريخ ودروسه.منذ أكثر من عام، نشرنا في هذه الصفحة مقالاً بعنوان (الجولاني: خطابٌ لا يليق بسوريا وحضارتها)، بدأ بالفقرة التالية: "حريٌّ بأبي محمد الجولاني أن يتواضع كثيراً وهو يتحدث عن حاضر الشام ومستقبلها، وعما يريده أهلُها ولا يريدونه. وأكثرَ من ذلك، حريٌّ به أن يراجع كلامه ألف مرة ومرة عندما يتصدى للحديث عن مشروع الجهاد في الإسلام، والذي قال إنه مشروع جبهة النصرة التي يترأسها، وهو مشروعٌ حسب قوله: (ليس وليد اللحظة، بل نتاج تاريخ طويل من الجهاد، يعود إلى زمن الرسول محمد صلى الله عليه وسلم وصحابته، فهم ينتظرون من ذلك الوقت هذه اللحظة ومن بعد سقوط الدولة العثمانية لإعادة سلطان الله على الأرض)!أكد المقال المذكور أن (الإسلام) الذي يريد الجولاني وجبهته (النصرة) لا يمت بِصِلةٍ إلى (الإسلام) الوسطي المعتدل الذي يؤمن به السوريون، من المسلمين وغيرهم. وبالتالي، خلص المقال إلى أنه لا مكان في سوريا المستقبل لمثل تلك الرؤية المختزلة للدين باسم (الإسلام).لا حاجة للتفصيل في حجم وطبيعة التهجم الذي لاقاهُ المقال المذكور، وصاحبه، فقد بات هذا تكراراً لا يفيد في شرح جانبٍ من الأزمة.لكن ما يستحق التأمل هو تصاعد الانتقادات في الأيام والأسابيع الماضية لـ(النصرة)، بسبب ممارساتها المُسيئة باضطراد، وتحديداً من قِبل شخصيات وجهات سياسية ودينية، بل وبعض النشطاء، ممن كانوا يؤكدون، بحسمٍ وقوة، على الفوارق الكبيرة بينها وبين (داعش)، وممن كانوا يعتبرون نقدها، وقتذاك، وكالعادة في تأويلاتهم، إما نوعاً من (التخذيل)، أو بحثاً عن مصالح خاصة، ونتيجة طبيعية للعمالة والتآمر على (الثوار الحقيقيين). وكان من هؤلاء، طبعاً، من لم يُقصروا في استهداف المقال المذكور وكاتبه.لا مشكلة أبداً، على الصعيد الشخصي، في مواجهة ذلك الاستهداف لمن رضي أن يتصدى للعمل العام وأن يعبر عن رأيه باستقلالية وشفافية. بل المفارقة أن مثل هذه الظواهر تُثبت مع الأيام صدقية المرء، وأهمّ من هذا، صدقية الخلفية العلمية والثقافية التي يُبنى عليها النظرُ والتحليل.لكن الموضوع يتجاوز الأفراد، لأنه يتعلق ببلدٍ لم يعد يليق به وبتضحيات أهله أن يستمر ساحةً للتجارب النظرية والعملية.ما معنى أن تنتبه اليوم شخصياتٌ رمزية، ومعها هيئاتٌ دينية وسياسية، في مقدمتها الائتلاف الوطني، إلى "التصرفات والتجاوزات التي صدرت وتصدر عن جبهة النصرة"، وأن بعضها يمثل "تجاوزاً خطيراً يذكر السوريين بالتصرفات الإجرامية التي قام بها تنظيم الدولة الإرهابي ومن قبله نظام الأسد". كما بين الائتلاف على لسان ناطقه الرسمي.المأساة أن بعض التصريحات المذكورة لا تزال تُشير إلى الموضوع باستحياء، رغم قصدها الواضح بانتقاد (النصرة).والمأساة الأكبر أن فيها، أحياناً، تلميحاً إلى إمكانية عودة (النصرة) إلى (جادة المنهج).لكن المأساة تبلغ قمتها حين نعلم أن شخصيات وجهات شرعية (مُعتبَرة) لا تزال تلتزم الصمت تجاه الموضوع، حتى الآن!يجري كل هذا فيما تريد الغالبية الكبرى من هذه الجهات التصدر لقيادة الثورة، بلسان الحال وبلسان المقال، وباسم احتكار (الإسلام). ويجري بينما (النصرة) تعمل على الأرض بشكلٍ حثيث وجدي لإلغاء كل القوى الأخرى، بأعذار مختلفة، تمهيداً لإقامة (إمارتها) في الشام، سيراً على طريق (داعش)، عدوها اللدود.تُفكرُ بكل الأوصاف التي يمكن أن تُطلق على الظاهرة بمجملها، فلا تجد أنسب من وصفها بـ(المهزلة). لهذا يبدو طبيعياً أن تصل إلى درجةٍ لم تعد تستحق معها كثيراً من التحليل، ولم يبقَ فعلاً إلا انتظار التطورات التي ستذهب بها إلى هوامش التاريخ، وتتحقق معها عملية (الاستبدال) التي يصنعها الله على عينه، وفق سننه وقوانينه.لا يبقى إلا أن نستميح القارئ الكريم العذر في ختم الحديث هنا ببعض ما ذكرناه في ذلك المقال. "ثمة كثيرٌ يمكن نقده ونقضه في حديث الجولاني ومقولاته لقناة الجزيرة مما لا يتسع له هذا المقام. والمُفارقةُ تكمن في حقيقة أن أي طالب علمٍ جدﱢي يمكن له أن يقوم بتلك المهمة، وبسهولة. لكن المُفارقة تبلغ حد المأساة حين ندرك أن الجولاني يضع نفسه رغم ذلك عملياً، وبغض النظر عن كل شعارات التواضع، في مقامٍ أكبر منه بكثير، لأنه بمنطق القوة يؤثر بشكلٍ أو بآخر في مصير بلدٍ كامل، ليس كأي بلد، هو سوريا.والمقابلة بأسرها تبين بجلاء أن رجلاً يضع مستقبل بلاده على المحك لا يرقى لأن يكون تلميذاً للأعلام الذين صنعوا تاريخ سوريا وحضارتها.نعلم أن هناك دائماً فرقاً بين الإخلاص والصواب. وهاتان صفتان لا تجتمعان بالضرورة لدى كثيرٍ من الناس، لكن المأساة تظهر، مرةً أخرى، حين يكون هذا حال إنسانٍ يضع نفسه في موقعٍ يؤثر في البلاد والعباد، وهو يجهل تلك الحقيقة.من هنا، نقوم بواجبنا، ونؤكد على أن الصواب يُجانبُ الجولاني إلى درجة كبيرة، وكبيرةٍ جداً. وعلى أنه يرتقي مركباً صعباً، ويضع نفسه أمام مسؤولية نؤكد أمام الله والتاريخ أنه لا يعرف حجمها. كما نُشهد الله والسوريين على هذا الكلام".

682

| 01 فبراير 2015

الأزمة مع الدانمارك وهولندا.. صورةٌ مصغّرة

(وقالوا يا أيها الذي أُنزل إليه الذكر إنك لمجنون)، (وقال الكافرون هذا ساحرٌ كذاب)، (ويقولون أئنا لتاركوا آلهتنا لشاعرٍ مجنون)، (أم يقولون به جِنّة)، (قال الكافرون إن هذا لساحرٌ مبين)، (ثم تولوا عنه وقالوا معلّمٌ مجنون).معلمٌ مجنون، ساحر، كذاب، مسكونٌ بالجنّ.. هذه بعضُ الأوصاف التي أطلقها على رسول الإسلام أولئك الذين لم يؤمنوا برسالته. حدثَ الأمر قبل أكثر من أربعة عشر قرناً. كان يمكن بسهولةٍ وبَساطة أن يطوي التاريخ هذا النوع من التصرفات ويسكتَ عن الموقف، وأن تموت معهُ تلك الاتهامات، خاصة أن (المُتَّهم) انتصر على خصومه المذكورين بطريقةٍ أو بأخرى. ونحن نعرف أن التاريخ يكتبه المنتصرون كما يحلو لهم في أغلب الأحيان.مع هذا، لم يُبدِ القرآن أي حرصٍ على إخفاء الأوصاف، رغم كل ما تحمله من تحدٍ وهجوم. لم يحاول قطّ أن يطمسها في عالم النسيان، مع أنه كان يستطيع ذلك دون أن يخطر في بال أحد أن يتساءل عن السبب. لم يخشَ من تأثيرها على مقام النبي الذي جاء بالرسالة في عيون أتباعه، وفي عيون الناس من ورائهم إلى يوم الدين. لم يرَ في إيرادها وتكرارها والتفصيل في الإخبار عنها طعناً جوهرياً في شخص الرسول الكريم، ولا مَساً حقيقياً بكرامته وسمعته.لم يحصل ذلك كله وإنما حصل العكس، خطَّ القرآن في موقفه من المسألة درساً في الممارسة الحضارية كان لابدّ أن يُسجّلَ في تاريخ الإنسانية. وذلك حين ضَمِنَ لتلك الاتهامات الحفظَ إلى يوم القيامة من خلال خلوده. وتَركَ المجال مفتوحاً لقراءتها واستعراضها ومعرفة خلفياتها وأبعادها ودلالاتها. ويمكن القول بأنه اعتبرها بِلُغة هذا العصر (رأياً آخر) يستحق أن يبقى وأن يَسمعه الناس في كل زمانٍ ومكان.بل تجاوز القرآن كل ما سبق وقام بعَرضها في إطار أسلوبه الأنيق بكل ما فيه من بلاغةٍ وبيان، وجمالياتٍ في الألفاظ والجمل والتراكيب يتذوقُها من يعرف شيئاً عن اللغة العربية، مسلماً كان أو غير مسلم.لم يحدث هذا عبثاً..لم تأتِ هذه المعالجة للموضوع خطأ أو سهواً!كان القرآن فيما نحسب يريد أن يضبط التصورات والمفاهيم في قضيةٍ حساسة وخطيرة تؤثر على الوجود البشري في هذه الأرض على الدوام. كان ولا يزال يهدف إلى تحرير الإنسان من تقديس الإنسان. حتى لو كان الأمر يتعلق بصاحب الرسالة الأخيرة، وبالرجل الذي تعتبرهُ الرسالةُ نفسها خيرَ بني البشر، الرجل الذي يؤكدُ القرآنُ أن الله وملائكته يُصلّون عليه.. وهي منزلةٌ ليس كمثلها منزلة في مقاييس الرسالة.كان القرآن ولا يزال يهدف عندما عالج الموضوع بتلك الطريقة إلى ضبط التوازنات في العلاقة بين الإنسان والفكرة، وإلى التأكيد بأن الهدف النهائي والأكبر يتمثل في ربط الناس بفكرةٍ ترمي لتأكيد قيم الحق والعدل والحرية والجمال في حياة البشرية على هذه الأرض.من هنا، لم يرَ القرآنُ أن مكمن الخطر على الفكرة يتمثل في تحدّي حاملها، ولا في الإساءة إلى شخصه، ولا في التهجم عليه، ولا في توجيه الاتهامات إليه، حتى ولو كان يرى في مثل تلك التصرفات درجةً من الافتراء.لكن البعض أصرّ ويصرُّ على أن يتعامل مع القضية بالمقلوب.قد ترضى قلةٌ من المسلمين القول بأنها تُقدّس شخص الرسول، لكن لسانَ الحال أبلغُ من لسان المقال، كما قالت العرب قديماً.. فالملايين من المسلمين التي تهجر الإسلام في تجلياته الإنسانية، وتتجاهلُ دلالاته الحضارية الكبرى، وتُعرض عن الالتزام بتعاليمه الأصيلة، وتتجاوز ما لا يُحصى من مقتضياته الحساسة، هي نفسها الملايين التي تُشهر أمضى سيوف الغضب المعنوي والمادي حين يتعرض شخصُ من أتى بالفكرة للهجوم والاتهام.. والتناقضُ في المسألة واضحٌ بحيث لا يحتاج لشرحٍ وتفصيل.لا يدعو هذا الكلام بطبيعة الحال لفتح أبواب الإساءة لرسول الإسلام، ولا لغيره من الرسل والأنبياء، ولا لمخلوقٍ على هذه الأرض. وربطُ الأمور بهذه الطريقة مدخلٌ للتسطيح والانتقائية لا يستحق النقاش. فالحقيقة أن قصة رسوم الكارتون الفرنسية، وقبلها الدانماركية، باتا نموذجاً مثالياً يُعبّر عن أزمةٍ إنسانية لا تختص بالإسلام ولا بالمسلمين، ولا بالعرب، ولا بشعبٍ من الشعوب أو بديانةٍ من الديانات.وتلك هي الأزمة التي كان القرآن يحرص على ألا تقع فيها البشرية. فحين يخرقُ البشر التوازنات المطلوبة في العلاقة بين الإنسان والفكرة، يُصبح من السهل حشرُهم في نفق التعصب والكراهية والعدوان. ويُصبح التافهون والهامشيون قادرين على جرّ مئات الملايين إلى الكوارث. لا فرق أن يتسبب هؤلاء في المأزق عن غباءٍ وجهل أو عن سوء نيةٍ وطويّة. فالنتيجة في النهاية واحدة. ربما كان الحفاظُ على تلك التوازنات مفتاح الحلّ لو أن أحداً امتلكَ قوة الصبر ونظرَ إلى الموضوع بالمنظار الذي تعاملَ به القرآن مع المسألة قبل أربعة عشر قرناً.. لكن الإنسان (المتحضّر) في عصر (الحداثة) لا يبدو جاهزاً لمثل تلك الممارسة.. يستوي في هذا الغاضبون في الطرفين.. من هنا، لم تعد تلك المسألة مهمةً بعد أن وضعَ كل طرفٍ نفسه في الزاوية، بحيث لم يعد ممكناً التراجع عن مواقفه (المبدئية).رغم هذا، يبقى مطلوباً أن يأتي ردُّ الفعل العربي والإسلامي على (الإساءات) من منظور إستراتيجي، يضع الحدث الراهن في إطارٍ من الفهم الأشمل للواقع العالمي. وهو ما يساعد بعد ذلك على التعامل معه بفعالية حقيقية. فالإنسان العربي والمسلم الذي يستصعبُ أداء الأدوار الحضارية التي تعيد إليه كرامته وكرامة ثقافته وحضارته يمكن أن يلجأ إلى (الاستسهال) لإشعار نفسه بالرضا والطمأنينة.. وإذا كان اللجوء للعنف أو المظاهرات الصاخبة الغاضبة هو في حقيقته الحل للمشكلة، فإن هذا يحتاج إلى وقفةٍ كبرى للمراجعة والتأمل.من السهل طبعاً استغلال العواطف والمشاعر الهيّاجة لإساءة فهم مثل هذا التحليل، بل والإساءة إلى أصحابه. لكن هذا لن يعدو كونه دليلاً إضافياً على عمق الأزمة التي تعيشها الثقافة العربية والإسلامية. وعلى طبيعة التناقضات العميقة والفوضى السائدة في تلك الثقافة.قد تُظهرُ مثل هذه الأحداث درجة الانتماء (الشعوري) الموجود في أعماق الإنسان العادي العربي والمسلم لهويته وثقافته وحضارته، وهو انتماءٌ يحمل كموناً إيجابياً هائلاً لو أمكن استثماره على الوجه الأمثل.لكن المؤكد أن ما جرى ويجري في فرنسا وغيرها سيقودنا إلى تحديات أخرى أكبر. وأن طريقة الاستجابة لتلك التحديات ستكون مفرق طريق في حاضر ومستقبل العرب والمسلمين في كل مكان.

360

| 25 يناير 2015

برسم صانع القرار العربي في خضم الأزمة

من الأرجح أن المواطن العربي العادي لا يعرف أن فلاديمير بوتين يُمولُ حزب الجبهة الوطنية الفرنسي اليميني المتطرف، لكننا نرجو أن يكون صانع القرار العربي مُدركاً لهذه الحقيقة. الخبر ليس إشاعةً، فقد أقرت به رئيسة الحزب مارين لوبان. لا يقتصر الأمر على الحزب المذكور فقط، وإنما يمثل حلقةً من عمليةٍ إستراتيجية تقوم بها روسيا لإقامة علاقات وثيقة مع أكبر عدد ممكن من الأحزاب المتطرفة، يميناً ويساراً، دون تفريق. يتضمن هذا زيارات متبادلة وتنسيقاً ولقاءات على مختلف المستويات، وبطبيعة الحال، تمويلا متنوع الوسائل.وقد أصبح الأمر ظاهرةً بدأت التقارير الإعلامية والاستخبارية الغربية تتحدث عنها، مع تفاصيل خطيرة عن تلك النشاطات والمشاركين فيها من مختلف الدول الأوروبية، خاصةً مع وصول تلك الأحزاب للسيطرة على أكثر من خُمس مقاعد البرلمان الأوروبي الحالي.لسنا هنا في معرض توظيف الحقيقة المذكورة، والمقال بأسره، للحديث العاطفي الذي يندرج في التعليقات السائدة عن أحداث فرنسا بأسبابها وطبيعتها ومستتبعاتها. ولا لنفي مأزق العرب والمسلمين فيما يتعلق بفهم الإسلام المشوه السائد، وعلاقة هذا الفهم بالتطرف والإرهاب. وإنما يتمثل الهدف في الإشارة من خلالها إلى الصورة الإستراتيجية الكبيرة لما يجري في هذا العالم، خاصةً من حيث مستتبعاته الخطيرة المتوقعة على منطقتنا، شعوباً وحكومات. قد يكون مُبرﱠراً للمواطن العربي العادي، خاصةً في الظروف الاستثنائية التي تمر بها حياتهُ ومجتمعاته، أن يفهم ما يجري من حوله بمحدودية رؤيته لشكل "قمة جبل الجليد" الذي يراه. لكن من المخيف، كي لا نقول أمراً آخر، أن ينطبق هذا على صانع القرار العربي.لماذا نقول هذا ونحن نُدرك أن الأخير يرى بالتأكيد أكثرَ بكثير من تلك القمة الصغيرة؟ ببساطة، لأن كثيراً من القرارات والممارسات والسياسات تبدو، في نهاية المطاف، وكأنها تنبع من التركيز على تلك القمة التي تُخفي تحتها كماً هائلاً من التعقيد، وتتطلب سياقاً مختلفاً تماماً عما هو سائد، إن لجهة الرصد والمتابعة والتحليل والفهم، أو لجهة ابتكار سياسات تستوعب المعطيات الناتجة عن الرصد والتحليل، وتُحقق الحد الأدنى لمصلحة، وبقاء، الدول وللشعوب.ثمة مثالٌ واحدٌ على التعقيد الذي ينبغي الانتباه إليه، تضرب روسيا عدة عصافير بحجرٍ واحد من ممارستها المذكور أعلاه، فتستقطبُ أطرافاً أوروبية في صراعها الإستراتيجي مع أوروبا، ثم تُشجع هذه الأطراف على تصعيد تَطرﱡفها تجاه المسلمين في أوروبا، بما يُعمق مأزق الأوروبيين والمسلمين سوياً. هل يمكن عزل هذا السيناريو بأسره عن موقف روسيا من دول الخليج تحديداً، وتحالفها مع إيران، فيما يتعلق بالقضايا الإستراتيجية في المنطقة من النفط إلى قضايا سوريا والعراق ولبنان واليمن؟ أسئلةٌ متداخلة الخيوط نحسبُ أنها تستحق التفكير.ثمة صراعٌ سياسيٌ إستراتيجي عنيف يجري تحت قمة جبل الجليد اليوم في العالم. وهو صراعٌ متعدد الأطراف والمواضيع والساحات. وفي حين تُوجَّهُ الأنظار، بحشدٍ سياسي وإعلامي غير مسبوق، إلى "الإرهاب" اليوم، بوصفه "أمﱠ المشاكل"، وبلسان حالٍ يوحي أن حل أزمته ستُحيلُ العالم إلى واحة أمنٍ وتعايشٍ وأمنٍ وسلام، يفتحُ هذا الأمر المجال لاستمرار الصراع المذكور أعلاه بدرجةٍ من "الهدوء" و"التفرغ"، بعيداً عن الصخب والضجيج، وبما يكفل الانشغال بها في مساراتٍ مختلفة تضمن "السيطرة" على توازناتها في نهاية المطاف.فوق هذا، يمكن، مع وضع "الإرهاب" في خانةٍ وحدهُ على قمة اهتمام العالم كمشكلةٍ كونية، تصريفُ طاقة الحقوقيين والإعلاميين والمثقفين والنشطاء، في الغرب تحديداً، في ذلك الإطار، وشَغلهم عن مشكلات الانهيار الاقتصادي والبطالة وسوء توزيع الثروة، إلى غير ذلك من قضايا بات لزاماً أن تأخذ أولويةً ثانية وثالثة في سلم الاهتمامات. ولا بأس أن يمتد هذا لزمنٍ طويل ما دام الساسة يبشرون الشعوب، بوتيرةٍ متكررة ومُعبرة، أن الصراع مع "الإرهاب" سيكون طويلاً، وطويلاً جداً.لهذا، ستكون مظاهرة باريس السابقة واجتماع أمريكا القادم مناسبةً لإظهار عملية "تضامن قادة العالم"، وهي عمليةٌ لابد من تأكيد وترسيخ "الصورة الذهنية" لها بين الآونة والأخرى في ذاكرة الناس. لكن، ما لم يُطرح، ولن يُطرح، في أمثال هذه المناسبة يتمثل في الصراعات الأخرى، مثل حقيقة أن الحرب في أوكرانيا، وهي ساحةُ صراع إستراتيجي بين روسيا والغرب بمكونيه على جانبي الأطلسي، تصاعدت بشكلٍ غير مسبوق وتحديداً منذ أيام، وخلال تضامن بوتين مع فرنسا. كما لن يُطرح مثلاً موضوع ومُستتبعات الرفض الكاسح، الذي أعلن نتيجة استطلاع منذ أيام في أوروبا، لمشروع عملاق بعنوان (الشراكة الأطلسية للتجارة والاستثمار)، وبين طرفي الأطلسي تحديداً، وهي ساحة أخرى لصراعٍ إستراتيجي بينهما بخلفياتٍ اقتصادية وثقافية.الأمثلة، رغم خطورتها ودلالاتها، أكثر من أن يستوعبها مقالٌ صحفي. وهذا يعيدنا إلى النقطة الرئيسية في الموضوع.من الطبيعي والمطلوب، ألا يتجاهل صانع القرار العربي نصيب ثقافته من الأزمة العالمية المتعلقة بالإرهاب، وأن يشارك في حلها عملياً، وأن يكون جزءاً من (البروفايل) العالمي المتعلق بها إعلامياً..رغم هذا، ثمة توازنات إستراتيجية دقيقة وحساسة يجدر الانتباه إليها حين يتعلق الأمر بالسياسات والقرارات.. وهو ما يقتضي كثيراً من التأني وعدم الاستعجال في (تنزيل) الأولويات التي يضعها النظام الدولي على الواقع والمجتمع العربيين بشكلٍ انفعالي، وبعيداً عن دراسة خصوصيات هذا المجتمع وذلك الواقع.فبقراءة دقيقة لهما بعد أحداث فرنسا، يبدو هذا المجتمع، لأول مرة بهذه الدرجة، غارقاً في عمليات فرزٍ وتصنيفٍ حدية تزيد درجات الاحتقان والانقسام، وبشكلٍ قد يؤدي إلى انفجارات قد تبدو معها الأحداث الراهنة، على هَولها، لَعِبَ أطفال.. وستطال الجميع دون تمييز.ما يزيد المشكلة اتساعاً أن يوجد في واقعنا العربي "مثقفون" و"إعلاميون"، بل و"مستشارون" يساهمون في دفع الجميع للهاوية. وبين الجهل الإستراتيجي والتمحور حول المصالح الفردية الخاصة، لن يأبه هؤلاء في النهاية بما يحصل، وستجدهم أول القافزين من أي سفينةٍ غارقة.بعد أحداث باريس، يُرجح المراقبون فوز ماري لوبان برئاسة فرنسا. والذي يتوقع أن تجعلها (السلطة) عاقلةً فيما يتعلق بموقفها من المسلمين، شعوباً وحكومات، وأن تنسى (معروف) صديقها بوتين ودَينه، لا يعرف تلك المرأة، ولا يعرف مَنطق التطرف، ويبدو أنه لا يعرف السياسة.

495

| 18 يناير 2015

بين (أسلمة سوريا) و(الثورة في إسلامها).. ملاحظات منهجية (11)

طرحنا السؤال في المقال الماضي عن صورة الإسلام الذي نستقرئ أن يولدَ على الأرض السورية من مخاض ثورتها؟ ونُكمل فيما يلي طرح بعض ملامحه الرئيسية.إنه إسلام متصالح بشكلٍ كبير مع الحياة. متصالح مع قيم ومعاني التجديد والإبداع والابتكار، على كل مستوى وفي كل مجال. لا مكان فيه لمن يتعامل مع العالم بعقلية الخوف من كل جديد، والحذر من كل طارئ، والرهبة من كل مختلف. لا يوجد فيه ذلك الرعبُ السائدُ عند البعض من الخلط بين الإبداع والابتداع. ومدخلُ (سدّ الذرائع) ليس أبداً مدخله الرئيسي للتفكير في شؤون الحياة. والقيودُ والشروطُ والموانعُ ليست هي الأصل، وإنما الأصلُ الإباحة. لا تتمحور حياة المسلمين فيه إلى حدّ الهوس حول التفكير بالمُحرَّمات، ولا يجعلون هذا التفكير المدخل الأساسي لعلاقتهم بالإسلام، ولا مقياساً لتديُّنهم، ولا تنشغل عقولهم وكتبهم ونشاطاتهم الثقافية والاجتماعية بالوهم الذي يوحي بأن فعاليات الحياة البشرية المختلفة إنما هي مصائدُ شيطانيةُ كبرى، لا يمكن للإنسان أن يتعايش معها إلا بوجود واستمرار أقصى مشاعر التوجُّس والحذر والشك والخوف والريبة، في النفس وفي الآخرين، وفي متغيرات الواقع وأحداثه.إسلام متصالح مع المرأة، يجعلها حاضرة بقوة في كل مجال من مجالات الحياة. لا يُكتفى فيه برفع الشعارات التي تتحدث عن ضمان حقوق المرأة، ولا يَخاف من صياغة قوانين خاصة تحفظ تلك الحقوق، وتخلق الظروف المناسبة لتطوير مكانتها ودورها في الحياة بشكلٍ مباشرٍ وواضحٍ وصريحٍ ومستمر. يتجاوز التناقضات الموهومة ويفتح الأبواب لها مُشرعةً للمشاركة في بناء المجتمع وإعمار الحياة، دون أن يعني هذا فقدانها لخصوصيتها وهويتها والتزامها، أو يكون سبباً لشيوع الفساد والرذيلة، أو مدخلاً لتفكك الأسرة وضياعها.إسلامٌ متصالح مع الابتسام والبهجة والفرح. لا يخاصمُ هذه المعاني ولا يرتعب من وجودها على تدينِ أهله، ولا من تَبعات ذلك في الدنيا ولا في الآخرة. ويمنحُ حامليه سماحةً كبيرة تؤكد أنهم يستحقون موقعاً مميزاً في الحياة المعاصرة، لأنهم يعرفون معنى هذه الحياة (الحاضرة) وقيمتها، ويؤكدون على ضرورة العيش فيها، وليس في التاريخ أو في عالم الغيب.إسلامٌ يدركُ أهلُهُ معنى أن يكون الهدفُ الأساسي من إرسال نبيه (رحمةً للعالمين). بحيث يكون هاجسهم إظهار مقتضيات تلك الرحمة لكل الناس، وفي كل مجالٍ من مجالات الحياة.إسلامٌ ينفي كل دلالات الاصطفاء والتمييز القائمة على العِرق أو الجنس أو اللون أو الانتماء الاسمي المُجرد، في الدنيا وفي الآخرة. يُعلِّمُ معتنقيه أنهم لن يكونوا مُصطفين أخياراً لمجرد أنهم تسموا باسمه، وترتبط فيه الكرامة عند الله بدرجة التقوى والعِلم والعمل والنفع للناس.إسلامٌ يرفض ثقافة الاسترخاء والسكونية والتقليد والآبائية والكسل الذهني. فلا يحتفي بالمنع وسيلةً للحفاظ على القيم، ولا تختلط فيه مقاصد الشرع بأفهام البشر بالعادات والتقاليد دون ضابط. يحترمُ العقل ويؤكد على مركزيته في كرامة الإنسان وقيمته، ويدفع لاستعماله على الدوام تفاعلاً مع النص وفَهماً للدنيا، وصولاً إلى تقديم أوعيةٍ متجددة لتنزيل النص على الواقع بما يُحقق القيم والمقاصد، دون تواكلٍ دائم على الهياكل والقوالب التاريخية. إسلام يؤكد على المعاني الثورية الكامنة في أن يبدأ وجودَهُ ومسيرته بكلمة (اقرأ). يحض على التفكير والتدبر والنظر والسؤال، ويحترم الثقافة والتخصص والعودة لأهل الذكر في كل المجالات، طريقاً لصناعة القرارات. إسلامٌ يدعو أتباعه، قبل الآخرين، إلى مواجهة التحدي الأخلاقي بالتواضع والإخلاص والصدق في القول والعمل. يؤكدُ على تجنب كل معاني ومظاهر الغرور والكبرياء والعُجب والاستعلاء على الآخرين، خاصةً حين يحصل هذا بدعوى الانتماء إليه. ويرفض أن تنقلب السياسة إلى براجماتية بأسوأ تجلياتها، يجوز معها الكذب والخداع والمكرُ ونكث العهود وشراءُ الولاءات والذمم، خاصةً حين يُمارسُ هذا بدعوى إعلاء كلمته في الأرض.إسلام لا يحاصر نفسه وأتباعه في فهمٍ طَهوري جهادي يُبسِّط دوره في الأرض، ويضعه بين احتمالين: فإما إقامة دولةٍ على صورة دولة الخلافة الأولى، وبكل التبسيط الكامن في ذهن أصحابها عن تلك الصورة، أو تقديم الروح رخيصةً دون ذلك.إسلامٌ تنضبط فيه العلاقة بين العاملين في السياسة باسمه وبين الجماهير. لا تسير الجماهير فيه خلف (قيادةٍ مُلهَمة) لديها كل الإجابات تقودُ الفِعلَ وتوجهه، ويكون هذا السير وفق قراءة تلك القيادة وفهمها للدين وللعصر على حدّ سواء. بمعنى ألا يقتصر فيه دور الجماهير، من الفعل البشري، على التبعية الاستجابة والالتزام، لأنه يرفض الوهم بأن الأسلمة تبلغُ أوجَها وتصلُ إلى تَمَامِها حين تتحقق تلك التبعية في أعلى درجاتها. إسلامٌ يدرك العاملون في السياسة باسمه أنهم يتطلعون، في أحسن الأحول، لأن يكونوا جزءاً من (إدارة) للمجتمع تسعى لتمكينه من صناعة حاضره ومستقبله. لكنها إدارةٌ تدرك أن أسئلة الواقع كثيرةٌ وكبيرة، وأن من المستحيل الإجابة عنها إلا من خلال الفعل التراكمي للمجتمع بجميع مكوناته وشرائحه. تماماً كما تستحيل الإجابة عنها في غياب قيم الحرية والعدل والمساواة وسيادة القانون، وفي غياب منظومةٍ إدارية وقانونية تسمح بالحلم والطموح، وتفسح المجال لممارسة فعلٍ بشري، ولوجود تجربةٍ إنسانية تسعى لتحقيق الحلم والطموح، مهما كانت احتمالات الخطأ والصواب في تلك التجربة.هذا الإسلام الذي نتحدثُ عن ملامحه موجودٌ في القرآن وفي الصحيح من السنة النبوية، بل ويمكن استقراء أمثلة عليه في طيات التراث. وفي بلدٍ مثل سوريا، كان الأمر يحتاج لثورةٍ تُظهر ملامحه الأصيلة، وتمسح عن جبهته ما كان البعض يعتقد أنه غبارٌ تاريخي، ثم جاءت الثورة بكل ملابساتها لتُظهر أنه عملية (اختطاف) و(تغييب) كاملة الأركان.

832

| 11 يناير 2015

بين (أسلمة سوريا) و(الثورة في إسلامها).. ملاحظات منهجية (10)

ما هي صورة الإسلام الذي نستقرئ أن يولدَ على الأرض السورية من مخاض ثورتها؟ ثمة ملامح لهذا الإسلام ستفرض نفسها على الواقع، تدريجياً، وهي ملامحُ إسلامٍ مُختلف، لا يشبه، في قليلٍ أو كثير، ملامح الدين الذي يُقالُ للسوريين اليوم إن (أسلمة) سوريا ستتمُ وفقاً له. إنه إسلامٌ لا تُحاصرُ فيه معاني الحرية. ولا يجري فيه تضييق معاني الاستقلالية والاختيار الشخصي، ولا يتوقف معه الإبداع في مجالات الفكر والثقافة والأدب والفن وغيرها من مناشط الحياة البشرية.إسلامٌ لا يوصفُ فيه كل إبداع بأنه ابتداع، ولا يُتهمُ فيه كل تجديد بأنه طعنٌ للأصالة، ولا يُوصمُ معه أيُّ خروجٍ على المألوف بأنه منكرٌ وخطيئة، وكلُّ رأي آخر بأنه مخالفٌ للإجماع.إسلامٌ لا تتوسعُ فيه دوائر المحرﱠمات والمُقدﱠسات بشكلٍ سرطاني حتى تُصبحَ هي الأصلَ في الدين، وتصيرَ محورَ تنزيله على حياة الناس وواقعهم، من خلال ممارسات الضبط والمنع والقهر والعسف والإجبار.إسلامٌ يعرف أهلهُ دلالات الإشارات الكامنة وراء حرصه الشديد على تجنّب التقديس للأشخاص وللأماكن وللمظاهر.إسلامٌ يتذكرُ أتباعهُ أن نبيهم يُوصف عندما يُذكرُ بالـ(كريم) وليس بـ(المُقدﱠس)، ولا يتجاوزون حقيقة أن الكعبة (مُشرّفة) وليست (مقدّسة)، ولا يقفزون فوق المعاني الكامنة وراء عدم إمكانية استخدام تصريف (القدُّوس) إلا للإشارة إلى الخالق.إسلامٌ يُدرك الملتزمون به أن كتاب عقيدتهم يُوصف، أيضاً، عندما يُذكر بالـ(كريم) وليس بـ(المُقدّس). ولا يغفلون أن ذلك الكتاب لا يدعو الناس إلى (تقديسه)، وإنما يدعو بدلاً من ذلك إلى النظر والتفكُّر والتدبر والسَّعي والعمل والوسطية والرحمة.إسلامٌ يقوم على الإيمان الفطري الطبيعي بالحلال البيّن والحرام البيّن، بعيداً عن التشدد والعنت والقسوة والغلاظة التي تريد أن تفرض نفسها على تأويله الأصيل، وعلى الناس.إسلامٌ يرفض تقزيم العقل وتقييده ومنعه من التحليق بقوةٍ وعزيمة في آيات الأنفس والآفاق بدعوى إجلال الله. ويرفض ممارسات الكبت والتحريم وملاحقة البشر وضمائرهم، ويرفض العودة إلى شرعة الإصر والأغلال بعد أن حرّر اللهُ الناسَ منها، ومن الرهبانية المبتدعة والمرفوضة في أي شكلٍ من أشكالها.إسلامٌ يرفض كل المبالغات التي تؤدي إلى الشلل العقلي والنفسي والعملي الذي يحاصر كثيراً من الناطقين باسمه اليوم، ويؤدي إلى افتقاد القدرة على العمل والحركة الفعلية بغرض تحرير الأرض والإنسان من كل القيود.إسلامٌ لا يكون فيه الشرعي أو رجل الدين (البطل) العالم بالدين والسياسة والاقتصاد والعسكرة والقانون الدولي وعلوم الاجتماع، ويتعامل مع كل مسألةٍ في هذه المجالات بناءً على مبلغ علمه من الرصيد الشرعي (النقلي البحت في أغلب الحالات)، ومبلغ علمه عن الدنيا الذي يُحصلهُ من مقتطفاتٍ من الأخبار والنقولات.إسلامٌ لا ينحصرُ فَهمهُ وتمثيلهُ في جماعةٍ محددة، شرعية أو سياسية أو حزبية أو عسكرية، تنطلق من ظروفها الخاصة وأحوالها المُعيّنة، وتتحرك بناءً على حدود علمها التي كثيراً ما تكون في غاية القصور، لتقوم بأفعال وتصرفات، وتصنع قرارات ومخططات، تتجاوز بكثيرٍ قدرتها على الإحاطة، وينتج عنها مستتبعاتٌ تؤثر في مصير السوريين جميعاً، دون امتلاك المقومات والشروط المطلوبة لإصدارها بما يحقق المصالح العامة.إسلامٌ لا يسمح بأن يطغى على المجتمعات أنصافُ متعلمين ينطلقون في (معاركهم) من بضاعةٍ مزجاةٍ في العلم، شرعياً كان أو غير ذلك، ولا شخصياتٌ مريضة تُنفس عن مآزقها العقلية والنفسية بلباس الحماسة والغيرة على الدين.إسلامٌ يعيش فيه أهلهُ حالة (حُسن الظن) بالناس وبـ(الآخر)، ولديهم القابلية للحوار مع الأفكار، ومحاولةَ قراءتها بحياد، والتفكيرَ في دلالتها بموضوعية، وعندهم القدرة على الاعتراف الواضح والصريح بالخطأ، وعلى ممارسة المراجعات، دوماً، دون خوفٍ موهومٍ على الإسلام، أو احتكارٍ لفهمهِ وتنزيله، أو توظيفٍ له للحفاظ على مواقع النفوذ والقوة والسلطة.إسلامٌ يتجنبُ معتنقوهُ عقلية التماهي العميق والمستمر بينهم وبينه. ويدركون الفارق بينه كدين، وبين (التديُّن) كفعلٍ بشري يُمارسه الإنسان على طريق محاولة تمثُّل قيم الدين وتحقيق مقاصده.إسلامٌ يكون مرادفاً آخر لمفهوم (الإصلاح) و(البناء) الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والثقافي، بشكلٍ يؤكد على (العودة) إلى العصر والدخول في الزمن الراهن للعيش في (الحاضر) بدلاً من المحاولات المستمرة للهروب منه، إما إلى الماضي، أو إلى مستقبلٍ بعيد في (الآخرة)، بداعي كون الحياة بكل مكوناتها (ابتلاءً) و(فتنةً) ما من سبيل للتعامل معهما إلا بشكلٍ عابر، تمهيداً لـ(خَلاصٍ) لن يأتي بغير انتهاء الوجود البشري الشخصي أو العام.إسلامٌ يحض على العلم والتخطيط والتنمية والإدارة والتنظيم، وعلى فهم العالم والاهتمام بالشأن العام وقراءة سنن وقوانين إعمار الأرض، وعلى التركيز على الحاضر والمستقبل.إسلامٌ لا يحرصُ بِهَوَسٍ على تجميد الزمن، وعلى محاصرة وتنميط الفعل البشري في قوالب محدّدة ومحدودة من الممارسات، وإنما يتمحور حول التعامل مع حاجات الناس وهمومهم وتطلعاتهم وتحقيق نفعهم ومصالحهم، ويدفع لحصول ذلك بلغة العصر وأدواته، آخذاً بعين الاعتبار كل ما في الواقع الإنساني من حيويةٍ وتعقيد وتغيير واختلاف وتناقض وتوازنات، بعيداً عن شعارات (المفاصلة) مع هذا الواقع وإنكار حقائقه ومكوناته.إسلامٌ لا يغرق في تبرير الواقع القائم بقصدٍ أو دون قصد. وتُربى فيه الأجيال على أن واقع الظلم والفساد والتخريب الممنهج في كل مجالات الحياة، والممارسات التي تقف وراء ذلك الواقع، هي في حقيقتها أكبرُ انتهاكٍ لتعاليم الدين، وأعظمُ في تأثيرها السلبي من انتهاك بعض أوامره ونواهيه على المستوى الفردي.إسلام حقيقي كبير لا يخاف من انتماء أتباعه إلى (شعبٍ) و(وطن)، فضلاً عن استحالة خوفه من مجرد ذكر هذه الكلمات، حتى لو كان من تلك الشعوب وفي تلك الأوطان من لا ينتمي للإسلام، ويؤكد على وجوب التعامل مع هؤلاء كإخوةٍ في الوطن والإنسانية، خاصةً إذا كانوا من العاملين لتحقيق معاني الكرامة والحرية الإنسانية بأي شكلٍ وطريقة.إسلامٌ يُعلِّم أهله أن الاختلاف سنّة الكون والحياة. وأنه سبيلٌ للتنوّع والتكامل والثراء والتطور الثقافي والاجتماعي والاقتصادي. ويُبصرهم بضرورة وإمكانية تجاوز مشاعر الطفولة الإنسانية المتمحورة حول (الأنا)، وبكيفية الارتفاع عليها عملياً. ويربيهم على أن (الاختلاف) ليس مدعاةً لـ(الخلاف)، وأن قبوله لا يعني بالضرورة السقوط في أفخاخ الذوبان الثقافي والدونية والتبعية، كما يتوهّم الكثيرون.

964

| 04 يناير 2015

بين (أسلمة سوريا) و(الثورة في إسلامها).. ملاحظات منهجية (9)

ما هي المقدماتُ النفسية والفكرية والعملية لإحداث النقلة المُنتظرة الواردة في عنوان هذه السلسلة من المقالات؟ وما هي ملامح الإسلام الجديد الذي سيولدُ على الأرض السورية من مخاض ثورتها؟ ثمة إضاءات نقدمها على إجابات السؤالين في آخر حلقتين من حلقات السلسلة، اليوم وفي الأسبوع المقبل. والبداية مع المقدمات.. تتمثل الخطوة الأولى في فتح المجال واسعاً أمام السوريين بشكلٍ عام، والباحثين والمثقفين والمتخصصين والكتاب منهم تحديداً، للبحث في كل ممارسات الإسلاميين السوريين بشكلٍ عام، وعلى مدى السنوات الأربع الماضية تحديداً، خاصةً فيما يتعلق بالشرائح الثلاث ذات العلاقة: الساسة والعسكر والشرعيين، نقداً وتحليلاً ومراجعةً وحواراً، بموضوعية واحترام، ولكن بشفافية وصراحة، ودون حدود وممنوعات.من المحبذ جداً أن يقوم الإسلاميون بالمبادرة لمثل هذه العملية، وسيكون هذا تطوراً يُحسب لهم من جانب، ويصب في تطوير أدائهم من جانب آخر. لكن قرارهم، المُتوقع، بالإعراض عن هذه المهمة يبقى شأناً خاصاً بهم، ورغم أنه سيكون من المُعيب جداً، أخلاقياً وشرعياً ومنهجياً، أن يحاولوا إعاقة مثل هذه العملية أو منعها، بأي ذرائع، إلا أن هذا لا يمنعنا من التأكيد هنا بأنها ستنطلق وتستمر، رَضيَ من رضي وكَرِهَ مَن كَره، ببساطة، لأنها نتيجةٌ طبيعيةٌ لقوانين الاجتماع البشري وسُننه.وإذا كنا جديين في التعامل مع موضوع بحجم الثورة في سوريا، ودور الإسلام فيها تأثراً وتأثيراً، فالتذكير واجب بأن السؤال والنقد سيوجه أولَ ما يُوجه للأطراف المؤثرة في القضية أكثر من غيرها، وأن المراجعة، الداخلية والخارجية، يجب أن تتعلق بهم قبل أي طرفٍ آخر. وللتوضيح، لا يكفي أن هؤلاء تصدوا بملء إرادتهم، وبكل وضوح وعلنيةٍ للشأن السوري العام، بل إنهم فَرضوا أنفسهم في ذلك الموقع باسم الإسلام. لهذا، سيكون طبيعياً، بكل المقاييس، أن يقوموا بمراجعات جذرية ومجردة وصادقة وشاملة لتقويم رؤيتهم وممارساتهم وأدائهم خلال المرحلة الماضية.ما أشد حاجة الإسلاميين السوريين للتواضع الحقيقي والعميق في مثل هذه اللحظة التاريخية!، ما أحوجهم إلى قوةٍ نفسية وعقلية وعملية كبرى تُخرجهم من حصار قناعاتهم التي تضعهم، وتضع إسلامهم وبلدهم وأهلهم، في بؤرة الأزمة، وهم يرون أنفسهم (الحل)، وليس جزءاً منه فقط!.ما أعظم افتقارهم إلى إبصار (من البصيرة وليس فقط البصر) الجانب المأساوي من الواقع السوري اليوم، وإلى رؤية دورهم الأساسي في الوصول إليه!.أما إن كان خيارُهم التجاهل والقفز فوق كل الحقائق، فلا مهرب من أن يكونوا جاهزون للمساءلة بكل معانيها، لأن المفترض بهم أن يعرفوا تبعات الوجود الإرادي في هذه المواقع، ويدركوا طبيعة ومستتبعات المسؤولية الملقاة عليهم، وفي مقدمتها النقد والمساءلة والمتابعة. لا داعي هنا، فيما نحسب، لتذكيرهم بكل المعاني المتعلقة بمفهوم (المسؤولية) في الإسلام. بمعنى أن التهرب منه سيخصم، أمام الله والشعب والتاريخ، كل ما يمكن أن يتبقى لهم من صدقية، حتى للحديث باسم الإسلام.ثم إن مثل هذه العمليات يجب أن تحصل، كما ذكرنا سابقاً، في العلن. إذ ليس مقبولاً على الإطلاق في مقام التعامل مع قضيةٍ وطنيةٍ عامة، لها أبعاد ثقافية وحضارية وسياسية إقليمية ودولية، التعلل بشعارات تتحدث عن (المناصحة بالسر) و(العمل على الإصلاح من الداخل) و(الخوف من التخذيل ومن كشف الخصوصيات) وما إلى ذلك من المبررات.فمن ناحية، لم يعد ثمة سرٌ مستور عن المعارضة السورية، وفي مقدمتها الإسلامية منها، أما التخذيل فحاصلٌ منذ زمن بسبب الفشل المتتالي عملياً في كل مجال، وما صاحَبهُ من خيبات. ومن ناحية ثانية، آن الأوان للانتقال مع الإسلاميين، برضاهم أو من دونه، من عقلية وطُرُق معالجة الأوضاع في الجماعة والحزب والتنظيم، إلى منهجية التعامل مع قضية وطنٍ وشعب بالجدية والموضوعية والشفافية المطلوبة.لا مجال أيضاً للالتفاف على المسألة بدعوى الحديث عن (التكالب) على ثورة سوريا من قِبَل النظام الدولي. فهذا حديثٌ مهمٌ ومشروع، والكثيرون، بمن فيهم كاتب هذه الكلمات، يُقاربونه باستمرار، لكنه موضوعٌ آخر. والخطوة الأولى والحاسمة في التعامل معه تكمن فيما ندعو إليه من مراجعةٍ وتصحيح جذري في الرؤية والممارسة.وكخطوةٍ أساسية، ستكون مقولة (الخوف على الإسلام) من المراجعات مرفوضةً بشكلٍ مُطلق. فالخوف الأكبر عليه لا ينبع من ممارستها، لأن المراجعات عمليةٌ جوهرية، يؤمن بها، منطقياً، كل من يؤمن بحفظ (الذكر) وصلاحيته لكل زمان ومكان، كآليةٍ أساسية لإثبات تلك الصلاحية، في حين يَزرعُ رفضُها الشك بقوةِ إيمانِ الرافض.وإنما ينبع ذلك الخوف على الإسلام، قبل كل شيء، من التماهي فيه، بمعنى (أنا الإسلامُ والإسلامُ أنا)، حتى لو لم يُنطق ذلك بلسان المقال، وعدم انتباه من يفعلون ذلك إلى أنهم يجعلون الإسلام الكبير صغيراً، حين يُضفُون عليه، دون أن يدروا، كل ما فيهم هُم من ضعفٍ ومَحدودية وقصور.أما مجال البحث والدراسة والمراجعة فلا مفر من أن يبدأ من طريقة فهم الإسلام وتنزيله على حياة الناس كما كان سائداً في الواقع السوري على مدى العقود الماضية في أقل تقدير، مع ربط ذلك بجذوره في تاريخ المسلمين وواقعهم العام. وصولاً إلى طرح كل الإشكاليات التي نجمت عن ذلك في منهج تفكير وحركة الإسلاميين السوريين في أعوام الثورة، مروراً بالظواهر التي يعتبرونها (خارجية)، رغم ارتباطاتها الواضحة والكثيفة مع الفهم السائد للمدونة التراثية والفقهية، كما هو الحال مثلاً في موضوع (داعش).يبقى سؤالٌ هام: من يَعمل في هذا المشروع الخطير والحساس؟ إن استقراء الواقع يؤكد وجود شريحةٍ من السوريين باتت تُركز على الإنتاج فيه، والاهتمام المتصاعد والكثيف به بين عموم السوريين واضحٌ ويحمل دلالات هامة، ولئن كان هذا الاهتمام العام وتلك الجهود الفردية المتفرقة مفيدةً وضرورية، بل وطبيعية حتى الآن، إلا أن جدية المسألة تفرض ظهور نقلة في خدمتها باتجاه المأسسة، بكل ما فيها من معاني التنظيم والتخطيط.ستمضي العملية قُدُماً بزخمٍ متصاعد في كل الأحوال، لكن المرء يتساءل: لو أن مثل هذه العملية تمت بتنسيق وتعاون بين الإسلاميين، أو شريحة مؤثرة منهم، وبين باحثين ومتخصصين محايدين، فكم سيكون هذا مفيداً لجميع الأطراف، وقبل ذلك وبعده، لسوريا وثورتها وإسلامها في نهاية المطاف؟

555

| 28 ديسمبر 2014

بين (أسلمة سوريا) و(الثورة في إسلامها).. ملاحظات منهجية (8)

يحتفل الشرعيون دائماً، بمن فيهم السوريون، بالمقولة التي تتحدث عن تغيير الإمام الشافعي لآرائه الفقهية بعد انتقاله من العراق إلى مصر. ورغم أن ثمة أقوالاً تنفي حصول التغيير المذكور لاختلاف البيئة والظرف، إلا أن من النادر أن تجد في رجال الدين المعاصرين من لا يحتفي، نظرياً، بقضية المرونة الكامنة في تنزيل أحكام الإسلام على الواقع الإنساني.يشيعُ هذا الاحتفاء، نظرياً مرةً أخرى، بناءً على أقوال علماء لهم وزنهم في التاريخ الإسلامي، قد يكون من أشهرها ما ذكره ابن القيم في كتاب (إعلام الموقعين) تحت فصل (في تغير الفتوى واختلافها بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد) حين قال: "هذا فصل عظيم النفع جداً، وَقعَ بسبب الجهل به غلطٌ عظيمٌ على الشريعة أوجب من الحرج والمشقّة وتكليف ما لا سبيل إليه ما يعلم أن الشريعة الباهرة التي في أعلى رتب المصالح لا تأتي به. فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحِكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد. وهي عدلٌ كلها، ورحمةٌ كلها، ومصالحُ كلها، وحكمةٌ كلها. فكل مسألةٍ خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة وإن أُدخلت فيها بالتأويل".لكننا أكَّدنا أكثر مرة، أعلاهُ، على الصفة النظرية للاحتفاء، لأن الناظر إلى تاريخ المسلمين بشكلٍ عام، وفي سوريا التي نحاول أن تكون موضوع البحث تحديداً، لا يجد تغييراً يُذكرُ على مستوى المدونة الفقهية التقليدية المُعتمَدة على مدى العقود، بل القرون، الماضية.لا نتحدث هنا عن جُملة فتاوى فردية تُقدم للبعض بين آونةٍ وأخرى للتيسير أو التبرير. وإنما عن مجتمعٍ، مسلمٍ في غالبيته، مرﱠ، خلال القرن الماضي على الأقل، بتغييرات تكاد تكون جذرية فيما يتعلق بواقعه الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والفكري، وتَقلبَ في ظروف دولية شهدت حروباً عالمية وثورة صناعية ثم معلوماتية وسقوط منظومات أيديولوجية وسياسية ضخمة، وبروز منظومات عالمية، سياسية واقتصادية وإعلامية وثقافية عابرة للقارات، تغيرت معها ملامح الحياة الإنسانية في مجتمعات الأرض دون استثناء.رغم كل هذا، بقيت المدونة الفقهية صامدة في مجملها، ما خلا بعض اجتهادات حاولت تركيب مفاهيم تتعلق بـ(بنوك إسلامية) هنا، وبإنشاء (إعلامٍ إسلامي) هناك ثمة، بشكلٍ عام يتجاوز الحالات الفردية، جمودٌ كامل على الغالبية العُظمى من (أقوال الرجال) التي حاول أصحابُها تحقيق مقاصد الإسلام من خلال اجتهاداتهم منذ مئات السنين، محاولةً منهم لقراءة النص وفهمه وتنزيله على واقع الناس وحياتهم العملية. وبدلاً من اتباع منهج هؤلاء في عملهم، والعودة إلى النص لمحاولة فهمه وتنزيله ليحقق، في هذا العصر، حاجات الناس ومصالحهم بما ينسجم مع القيم والمقاصد الكبرى للإسلام، أبقى الشرعيون المجتمعات عالةً على ما أنتجه الرواد الأوائل، ممن نحسبُ، باستقراء منهجهم، أنهم كانوا سيقومون، قبل غيرهم، بثورةٍ في رؤيتهم، لو أنهم كانوا ممن عاش التحولات الكبرى التي نتحدث عنها.يسري هذا التحليل على سوريا كما هو الحال في غيرها. لكن المشكلة تبدو أكبر حين ننتقل من ظروف وبيئة وأولويات ما قبل الثورة السورية إلى تلك المتعلقة بالواقع السوري خلال السنوات القليلة الماضية. ففي هذه الحالة أيضاً، لم تستطع الرؤية الشرعية أن تواكب الانقلاب الهائل الذي أصبح سِمة المجتمع السوري، في الداخل وفي المهجر.ومن البداية، كان واضحاً وجود ارتباكٍ كامل في العلاقة بين المؤسسة الشرعية التقليدية، وبين العاملين في المسارين السياسي والعسكري، إسلاميين كانوا أو غير ذلك. إذ كان العسكريون في البداية لا يعترفون للشرعيين، السوريين، بأي صفةٍ مرجعيةٍ عملياً، بغض النظر عن المجاملات. ثم إن هؤلاء، عندما تطورت العلاقة بعد ذلك، لم يستطيعوا حتى الضغط على العسكر باتجاه تحقيق هدفٍ مهمٍ ووحيد يتمثل في توحيد صفوفهم. أما بالنسبة للعاملين في المجال السياسي فقد تراوحت العلاقة بين مدٍ وجذر، من التخويف من أولئك العاملين ومن هياكلهم في البداية وصولاً إلى قبولها بعد ذلك. وقد انحصر الأمر أصلاً في علاقات بين أفراد من الطرفين، ولا يمكن القول إنه كانت هناك مؤسسات تعمل ابتداءً.قد يكون الارتباك مفهوماً في حالة اختلاف مرجعية وهوية وتطلعات الأطراف الثلاثة بشكلٍ كامل. أما في واقعٍ يُفترض أن توجد فيه دوائر مشتركة كثيرة للمرجعية والهوية والتطلعات، فإن مثل ذاك الارتباك يُعتبر ظاهرةً شاذةً وفي غاية الغرابة. ولا يمكن تفسيره إلا بحقيقة وجود ارتباك في فهم الإسلام وفي طريقة تنزيله على واقعٍ جديد في غاية التعقيد.ثمة مثالٌ مُعبر يتمثل في فكرةٍ طُرحت مبكراً تتعلق بتدريب فِرَق عمل من شباب سوريين متخصصين في الشريعة، وإرسالهم إلى مختلف الجبهات، لنشر الوعي المعتدل بالإسلام في صفوف المقاتلين وإيقاف مد الغلو والتطرف داخل سوريا، لكن الفكرة بقيت بين أفراد، وحِبراً على ورق، بعد تجربةٍ أولية بسيطة. ولو تم تنفيذ هذا المشروع فقط، بتكامل جهود الإسلاميين في المسارات الثلاثة، لربما كان الواقع السوري مختلفاً اليوم.بهذا، ورغم العرض المختصر في هذا المقال وما قبله، يتضافرُ واقع الفصائل العسكرية الإسلامية وواقع الجسم السياسي الإسلامي وواقع المؤسسة الشرعية التقليدية، وواقعُ العلاقة بين الأطراف الثلاثة، ليُبين بشكلٍ واضح حجم الأزمة التي نتحدث عنها في هذه السلسلة.

849

| 21 ديسمبر 2014

بين (أسلمة سوريا) و(الثورة في إسلامها).. ملاحظات منهجية (7)

لم يقتصر العجز عن استلهام قيم الإسلام الأصيلة وتنزيلها على الواقع، فقط على الإسلاميين السوريين العاملين في مسار السياسة، وإنما امتدت المشكلة، وآثارُها، لتشمل الغالبية العظمى من العاملين في المسارين الآخرين من المسارات الثلاثة التي تصدى أهلها لقيادة الثورة، باسم الإسلام، بشكلٍ أو بآخر. ثمة حاجة للتذكير أن المُراد لا يكمن في (نقد) من نتحدث عنهم في هذه السلسة من المقالات، وإن كان هذا طبيعياً، بل ومطلوباً، في مقامات أخرى. كما ينبغي التأكيد، مرةً أخرى، أننا أبعدُ ما نكون عن الحكم على النيات، فهذا مجال خارج إطار العلم البشري، بالنسبة لنا، ونتركه للعليم به، الخبير بمكنوناته.وإنما المطلوبُ، بناءً على منهج البحث في الموضوع، استخدامُ المثال العملي الصارخ لتبيان إشكالية الفهم السائد للإسلام، في سوريا تحديداً، وبالتالي، لإظهار المشكلات الكبرى التي تتشكلُ، وتصبح جزءاً من الأزمة، بدل أن تكون جزءاً من الحل. وذلك حين يحاول الناطقون باسم هذا الإسلام تنزيل الفهم المذكور على واقع سوريا في ميدان السياسة، كما عرَضنا في الحلقة الماضية، أو في ميداني العمل العسكري والشرعي كما سيتلو في هذا المقال والذي يليه، ولو باختصارٍ سيجري تفصيله لاحقاً في كتاب.تكثرُ، في الحقيقة، المشكلات التي نتحدث عنها في الميدان العسكري، لكننا سنكتفي بظاهرتين من أخطر الظواهر، وأسوئها تأثيراً في الثورة السورية، فضلاً عن دلالاتها في إيضاح التشويه العميق في فقه الدين، بغض النظر عن النيات والمُبررات.فمنذ بداية غلبة المظاهر الإسلامية على العمل المقاوم المُسلح، كان مُعبِّراً ولادةُ مئات الفصائل العسكرية التي تندرج في خانة الوصف بأنها إسلامية. والأغرب أن الظاهرة استمرت من تلك الأيام المبكرة إلى نهاية عام 2013م تقريباً، حين دخلت (داعش) على الخط وأكلت معظم الفصائل الصغيرة أو شتتتها، لكن الغريب أنه حتى هذا الحدَث لم يدفع الفصائل الكبيرة للوحدة.هل غفل الإسلاميون المقاتلون أن الفرقة والتنازع سيؤديان إلى (الفشل وذهاب الريح)؟ هذه مصيبةٌ تُلقي ظلالاً كبيرةً من الشك على فهمهم للإسلام في مجالٍ يتعلق بنشاطهم تحديداً، ولا يمتلكُ أهليةَ العمل فيه من تُوجد فيه مظنةُ الجهل بتلك القاعدة.لا داعي للحديث هنا، فيما نحسب عن (التجارب) التي صاحبها ضجيجٌ إعلامي وشعاراتٌ كبيرة، ولا عن الخيبات التي نتجت عن فَشَلها المتكرر، بين السوريين، وعن الآثار المدمرة المعنوية والنفسية والعملياتية التي سبَّبَها ذلك الفشل، وهي آثار سلبيةٌ جداً بمقاييس العلوم الاجتماعية والإنسانية، ولها نتائجُ ليست فقط أَمنيةً قصيرة المدى على المجتمع حولها، بل ومستتبعات إستراتيجية تؤثر في مصير سوريا، بحيث لا يمكن أن نتجاهل وجودها، ولا نحسب أن أهل (التجارب) في وارد التفكير بها للأسف.يتوزع تفسير هذه الظاهرة بين التنافس على المواقع والنفوذ والقوة، أو الطاعة العمياء لمصادر التمويل، أو في احتكار كلٍ من هذه الفصائل لـ"إسلامٍ" يختلف عن الإسلام الذي ينطلق منه الآخر، وكل منها يحسبُ أن (إسلامه) هو الإسلام الصحيح دون غيره.والتفسيراتُ الثلاثة المطروحة أعلاه تقذف، مُنفردةً أو مجتمعة، في وجوهنا جميعاً، أسئلةً تُعيد إحالتنا إلى الأزمة التي نتحدث عنها فيما يتعلق بفهم الإسلام.في جميع الأحوال، يبدو واضحاً أننا أمام حالة، إما أنها لا تُدرك ترتيب الأولويات في مجالات العلاقة بين المصالح العامة المتعلقة بالبلاد والعباد، والمصالح الخاصة المتعلقة بالفصيل وقياداته. أو أنها تُدرك ضرورةَ تغليب معاني التجرد والإخلاص في هذا المجال الحساس تحديداً، لكنها لا ترتقي إلى مستوى المسؤولية من خلال العمل بمقتضى تلك المعاني بدرجاتٍ عالية من الجدية والصدق والعزيمة.أما الظاهرة الثانية في مجال فقه الإسلام وتنزيله على واقع سوريا، وثورتها، فيتمثل فيما مارسه غالبية العاملين في الميدان العسكري، باسم الإسلام، من زراعة البذور المبكرة لـ(دَعشَنة) أجواء الثورة، ثم أشخاصها وأحداثها. حصلَ هذا بدرجات متفاوتة، والمؤكد أنه بدأ عند الكثيرين بـ (نيةٍ طيبة)، لكن جزءاً كبيراً من المشكلة يتمثل في هذا الأمر، لأنه يعني (الإخلاص) في تنزيل الإسلام، غير أن الحديث هو عن (إسلامِ) مَن يُطبِّقُهُ، وهؤلاء كُثر، واختلافهم أكثر.هنا اختلط الحابل بالنابل، فإما أن يحصل التطبيق في كثيرٍ من الأحيان على يد من يفتقرون لأي درجةٍ من العلم، وأحياناً الالتزام، بالإسلام. أو أن يكون على يد (هيئات شرعية) بدأت تظهر بعد ذلك، لكنها تحملُ رؤيةً حرفية تقليديةً للدين، هي في كثيرٍ من ملامحها (مستوردة) من بيئاتٍ أخرى، كان تأثيرها واضحاً ومعروفاً جداً في أوساط المطلعين في البداية، ثم لدى أغلب السوريين بعد ذلك.نعم، أفلحت جهاتٌ معدودة في ضبط الأمن ومحاربة المجرمين والمتسلقين على الثورة في بعض المناطق، وعملت على تقديم بعض الخدمات للسكان هنا وهناك، لكننا لم نقل أبداً إن كل ما صدر عن الإسلاميين السوريين شرٌ مُطلق ليست فيه بقعةٌ بيضاء (وقد سبق أن تحدثنا عن إيجابيات بعض الفصائل في مقالات سابقة). رغم هذا، لا يمكن التعامل مع مثل هذه الظواهر الاجتماعية والثقافية الكبرى إلا بحسابات كبرى بِدَورِها، تتعلق بمصالح الناس وبلدهم على المستوى الإستراتيجي، وبصورةٍ أكثر تعقيداً من أن يمكن اختزالها في تلك الممارسات (الجيدة).من هنا، تمثلت المشكلات الكبرى التي نتحدث عنها في مظاهر كثيرة، بدءاً من الانتشار التدريجي لممارسات التحريم والمنع والإجبار وملاحقة الناس وضمائرهم ومصادرة حقوقهم. وتمّت محاصرة معاني الحرية شيئاً فشيئاً. وجرى تضييق معاني الاستقلالية والاختيار الشخصي، وحورب الإبداع في مجالات الفكر والثقافة والأدب والفن، حتى لو كان لخدمة الثورة.فوق هذا، تصاعد الحديث عن دويلات وإمارات إسلامية، وساد (تطبيق الشريعة) في مناطقَ مقطعة الأوصال بشكلٍ عشوائي، وفي ظروف استثنائية غلبَ فيها، فوق الفوضى الأمنية والاجتماعية والاقتصادية، الفوضى العلمية والشرعية، التي لا يمكن لها أن تُعتبر بمجملها ظروفاً تسمح بذلك التطبيق حتى بمقاييس الشريعة السائدة نفسها. وغُيبت معاني الوطن والمواطنة، أحياناً إلى درجة التحريم. وتم تكفير المعارضين الآخرين من السياسيين وغيرهم، أفراداً ومنظمات، أو مقاطَعتُهم بالكامل، في أحسن تقدير، بدعاوى التخوين والعمالة.بعدها، جاءت (داعش)، فهادَنتها كل الفصائل في البداية باسم (أُخُوَّة المنهج)، وكان هذا طبيعياً جداً، لأن كل ما سبق كان فعلاً، منهجاً مُشتركاً. لكن (داعش) بادرت في سحب الممارسات السابقة إلى نهايتها الطبيعية، ثم كان ما كان بعد ذلك على الأرض السورية.يؤلمُ هذا التحليلُ الكثيرين، ويمكن أن يتعاملوا معه بالقفز على منطقه المحدد إلى الحديث عن تضحيات بعض الفصائل وزهد بعض قياداتها، ووجود معاني التجرد والإخلاص فيها، لكن هذا لا يغير، للأسف، شيئاً من الحقائق المذكورة أعلاه، والتي تصرخ بالحاجة إلى مراجعاتٍ جذرية، وإلى فهمٍ جديدٍ للإسلام في سوريا الثورة.

867

| 14 ديسمبر 2014

بين (أسلمة سوريا) و(الثورة في إسلامها).. ملاحظات منهجية (6)

تحدثنا في هذه السلسلة من المقالات عن أسباب طرح الموضوع علنياً وبصراحة، وعالجنا بعض الشبهات الرئيسة التي تُقدم لعدم تفعيل ثورة في فهم الإسلام في سوريا، وفي مقدمتها الخوف على الإسلام نفسه. ثم عَرَضنا واقع الإسلام في البلد قبل الثورة، وكيف كانت طُرقُ فهمه وتنزيله على الواقع مقدمةً طبيعية لتغييب كثيرٍ من معانيه الكبرى، وضربنا مثالاً مُعبراً على تلك القضية يتمثل في الموقف التقليدي السائد من (الدنيا) في التراث وفي المدونة الفقهية التقليدية.أما اليوم، فسنبدأ بتبيان أثر ذلك التأويل التقليدي التاريخي في صناعة الواقع السوري خلال السنوات الثلاثة الماضية، وكيف ساهم هذا التأويل، تحديداً، في فشل من تصدروا للحديث باسم الإسلام، في المجالات السياسية والعسكرية والشرعية. فَشَلهم، ليس فقط بإظهار أي نموذجٍ حضاري لقيادة الثورة ينبثق من الفهم الإسلامي، بل ووقوعهم في أخطاء كبرى يمكن إضافتها لأسباب وضرورات ظهور الثورة التي نتحدث عنها في الإسلام في سوريا.ففي المجال السياسي، من المعروف أن الإسلاميين، على اختلاف تسمياتهم التنظيمية، كان لهم تأثيرٍ كبير، وأحياناً طاغٍ، في تشكيل وتسيير الهياكل العاملة في ذلك المجال، وتحديداً في المجلس الوطني ثم الائتلاف، بل يمكن التأكيد أن اليد الطولى كانت لهم على الأقل منذ تاريخ تأسيس المجلس الوطني نهاية 2011م إلى منتصف 2013م.لم يكن من هموم السياسيين الإسلاميين السوريين البحثُ، في سياق المسار الثوري، وفي تلك الفترة (الذهبية) نسبياً، عن منظومةٍ سياسية بالمعنى المنهجي للكلمة، تكون منسجمةً مع منطلقات الإسلام الكبرى، وصالحةً، في نفس الوقت، لتنظيم الحياة السياسية في بلدٍ مثل سوريا. فالمنظومةُ تلك كانت جاهزةً في القرآن، أو في الأذهان، لدى البعض. أما لدى (الإخوان المسلمين) فقد كانت موجودةً على شكل وثيقةٍ أصبحت في غاية التشويش من كثرة (القص) و(اللصق)، وبأمثلة تستعصي على الحصر، نضرب منها مثالاً واحداً تقول فيه الوثيقة: "الدولة الإسلامية هي ما نُطلق عليه الدولة (الحديثة) بالصيغة التي نقدمها في مشروعنا هذا، وليست بالدولة (الثيوقراطية) ولا هي بالدولة (العلمانية)".وبشكلٍ عام، نعرضُ تفاصيله في مقامٍ آخر، تعامل الإسلاميون مع السياسة أساساً على أنها ساحة مناورات داخلية بين العاملين في الحقل السياسي المُعارض، وأنها فضاءٌ لإقامة التحالفات وتغييرها وصولاً إلى تحقيق هدف أساسي هو السيطرة على الهياكل السياسية، بحيث أصبح هذا الهدف هو الهاجس الأكبر. وبمعزلٍ عن امتلاك القدرة على توظيف هذه الهياكل لتحقيق الأدوار الحقيقية المطلوبة منها.وحتى فيما يتعلق بالثورة ذاتها، لم يكن وضع المخططات المنهجية، التي تُمكِّن الهياكل المذكورة من خدمتها وتحقيق أهدافها، أمراً ذو أولوية، هذا فضلاً عن افتقاد القدرة على صياغة مثل تلك المخططات ابتداءً. وبهذا الفهم وتلك الأولويات، صار عادياً أن تَظهر (البراجماتية) في أكثر تجلياتها بُعداً عن القيم الإسلامية، وباتَ طبيعياً أن تُبررَ الغايةُ الوسيلةَ أياً كانت. وأن يسير العمل بنوايا يتم إقناعُ النفس، والقواعد، بها، تؤكدُ على ضرورة استمرار السيطرة والتحكم بالهياكل السياسية الحالية بأي طريقة في هذه المرحلة وإلى أن يتم إسقاط النظام، ثم يُمكن، في نظر القيادات، (استعادة) القيم الإسلامية بعد استخدام السيطرة الحالية لتأمين سيطرةٍ مستقبلية، ويمكن (استدعاؤها) آنذاك لتأكيد الصفة الإسلامية للعاملين.لا يُظهر هذا التحليل الوجه الأخلاقي السلبي لأزمة الجسم السياسي الإسلامي فقط، بل يُظهر أزمةً أخرى على مستوى الفكر السياسي الذي يختزل مفهوم السياسة وممارساتها في مثل الدوائر المذكورة أعلاه من النشاطات (مناورات داخلية – تحالفات متقلبة من النقيض إلى النقيض – شراء ولاءات). فهنا يغيب مفهوم تفكير رجال الدولة الذين يمتد اهتمامهم، عادةً، إلى إدراك المجالات الواسعة في مهمة قيادة الأمم والشعوب، ويُستفرغ جهدهم في فهم التعقيد البالغ للوضع السوري، وفي إيجاد الرؤية الإستراتيجية للتعامل معه، وبالتالي، إيجاد الآليات المطلوبة لتحقيق ذلك الهدف. وإن صحﱠ هذا في وقت السلم فإنه أولى بالاعتبار في ظرف الثورة الاستثنائي، فحجم المهمات والوظائف السياسية التي يُطلب تغطيتها يُصبح أوسع وأكثر تعقيداً، ودرجة الجهد والتخطيط والإحاطة لإيجاد الرؤى ورسم السياسات ووضع الهياكل المطلوبة تكون أكثر إلحاحاً.كيف نربط هذه الظاهرة بالتأويل التقليدي للإسلام الذي كان سائداً قبل الثورة؟ سنجد جذورها فيما تحدثنا عنه سابقاً حين ذكرنا أنه "كان نادراً جداً أن يكون الدينُ عِلماً وتخطيطاً وتنميةً وإدارةً وتنظيماً وفهماً للعالم واهتماماً بالشأن العام وتركيزاً على قراءة سنن إعمار الأرض، بينما كان شائعاً جداً أن يكون الدينُ كماً هائلاً من فتاوى ودروس ومواعظ تُركز على كل ما هو شخصي ورمزي وشعائري، بمعنى أن الجهد كان قليلاً لربط الشخصي بالعام ولربط الرمزي والشعائري بالمقصد والمناط على مستوى وجود جماعة بشرية في إطار (دولة). بل إن تلك الفتاوى والدروس والمواعظ رسَّخت في المجتمع السوري، على درجات متفاوتة، قيماً لا تمت بصلة إلى أصالة الإسلام وتعاليم القرآن، حصل هذا في مواضيع أساسية كثيرة، منها على سبيل المثال فقط: قضايا المرأة، العلاقة مع الآخر، الموقف من العقل، الموقف من العلم، حرية المعتقد، الابائية والتقليد، تحويل الإسلام إلى شريعة اصر وأغلال، تفسيرات الولاء والبراء، تقديس اجتهادات البشر، الإيحاء بأن تعظيم الخالق يزداد بتحقير الإنسان.. وجرى أثناء ذلك الخلطُ بين الكُليات والجزئيات، والأصول والفروع، والثوابت والمتغيرات".كان هذا هو (الإسلام) الذي نَزَّل الإسلاميون السوريون معانيه ومقتضياته على المسار السياسي، وكان بعضهم، على الأقل، مُخلصاً جداً، ليس فقط في إيمانه بهذا الإسلام، بل وفي قناعته بأن صالح سوريا وثورتها يكمنان فيه.ليست المسألة إذاً، عند الغالبية العظمى من الإسلاميين السوريين، مسألة نيات (خبيثة) و(أجندات) مستترة، وفي اعتقادي أنه لو كان الأمر كذلك لربما كانت المعضلة أهون، لأن المشكلة كانت ستبدو أوضحَ للكثيرين، وهذا لا يتناقض مع حديثنا عما أسميناه أعلاه "الوجه الأخلاقي السلبي لأزمة الجسم السياسي الإسلامي"، وربطه بالممارسات البراجماتية التي غلبت عليه، كما قد يلوح للوهلة الأولى.ففي ظل طغيان ذلك التأويل المشوه للإسلام وتعاليمه، ومع وجود قناعةٍ عقلية راسخةٍ بأنه يحقق مصلحة البلد والثورة، وحماسٍ نفسيٍ جارف يُصاحبُ تلك القناعة، وفي غياب أدواتٍ فكرية وثقافية تسمح بالمراجعة والنقد الذاتي والانتباه لحقيقة ما يجري، تشكل المعادلة المثالية لظهور (البراجماتية) سبيلاً رئيسياً للعمل السياسي وللوصول إلى الهدف، بكل ما يترتب عليها من مشكلات، وهذا ما حصل إلى درجة كبيرة في نهاية المطاف.

1059

| 07 ديسمبر 2014

بين (أسلمة سوريا) و(الثورة في إسلامها).. ملاحظات منهجية (5)

"اعلم أن الدنيا عدوةٌ لله ولأوليائه"، "علوُّ الهمة في ذمِّ الدنيا"، "تباً لها من دار"، "ابن آدم ابنٌ للخراب وُلِدَ للفناء"، "فصلٌ في ذم الدنيا"، "الموت تُحفة المؤمن"، "رأيتُ الدنيا في النوم عجوزاً مشوهة الخَلق حدباء"، "الدنيا جيفة فمن أراد منها شيئاً فليصبر على معاشرة الكلاب"، "الدنيا سوق الخسران ومصرع العقول ومعدن الشر ومحل الغرور ومُنيةُ الأشقياء"، "الدنيا أولها بكاء، وأوسطها عناء، وآخرها فناء. أصلُها مدر، وعَيشُها كَدَر، ونَفعُها ضرر، وروحُها شرر. دنيئة، وأدنى منها قلبُ من يُحبها".. الجملُ السابقة فيها أسماء لكتب وفصول في كتب، وعناوين خطب ومحاضرات، وعبارات واردة في كتب التفسير والفقه، وأقوال تُنسب لصحابة وتابعين وفقهاء مسلمين، وهي مجرد نموذج لا يُمثل سوى جزءٍ صغيرٍ جداً، يتعلق بموضوعٍ واحدٍ فقط، من مئات المواضيع التي (حُشرت) في التراث الإسلامي على مدى التاريخ، وهي تتشابك كالسرطان لتقتل معاني الإسلام الأصيلة ودوره في الحياة.إلى هذا، توجد أحاديث تُنسب للرسول الكريم، إن صحَّت، تم توظيفها تاريخياً بشكلٍ سلبيٍ جداً، منها على سبيل المثال: "الدنيا سجن المؤمن وجنةُ الكافر". هذا فضلاً عن آلاف المقولات في كتب التفسير، والتي تتحدث عن آيات القرآن المتعلقة بالدنيا، وغالبية تلك الطروحات تُغفل الدلالات الكلية والشمولية للطرح القرآني بخصوص (الدنيا)، والتي تهدف أصلاً لتحقيق الوسطية الإسلامية فيما يتعلق بالنظر إليها وفهمها والتعامل معها، لتمكين الإنسان من متلاك منظومةٍ فكرية وثقافية تساعده للتعامل مع الحياة بتوازنات دقيقة وحساسة، لها مستتبعات أخلاقية واجتماعية واقتصادية تُحقق إعمار الأرض وخير الإنسان، لكن التفاسير المذكورة تتعسف في استخراج معان تُحيل إلى تلك الواردة في الفقرة الأولى أعلاه.هذا الموضوع، كما ذكرنا، مثالٌ واحدٌ فقط من أمثلة المُشكلات الكبرى الواردة في المدونة الفقهية والتراثية الإسلامية. وهو في هذه الحالة يجعل، أولاً، علاقة من يؤمن بتلك الرؤية، وهم كُثُر، بالدنيا علاقة سلبيةً بكل المعاني وعلى كل المستويات. وهي، ثانياً، تُفسر كثيراً من واقع المسلمين بشكلٍ عام والسوريين في مقامنا هذا تحديداً. ثم إنها، ثالثاً، مدخلٌ رئيسي وطبيعي لمشروع (داعش) بكل تجلياته الفكرية والعملية، ولكل المشاريع (الداعشية) الظاهرة والمستترة، الراهنة والقادمة.يطول الحديث في التفصيل هنا فنؤجله لمقامٍ آخر. وننقل في معرض التحليل مقاطع لصديقٍ متخصص في الدراسات الإسلامية والقرآنية، تُلقي ضوءاً على بعض جوانب الإشكالية في القضية.يقول الصديق: "كثيراً ما يُقال لنا أن رسولنا كان فقيراً، وأن الفقر سمة تكاد تلازم المتقين والصالحين، لأنهم زاهدون في الدنيا التي لا تساوي عند الله جناح بعوضة!كان محمد صلى الله عليه وسلم تاجراً له متجر معروف في مكة قبل البعثة، وكان له شريك في تجارته هو السائب بن أبي السائب. وكان يحضر المعارض المختلفة في المواسم العديدة يعرض بضاعته فيما نسميه اليوم (ستاندات المعارض).وفي مصطلح اليوم، وظَّفت السيدة خديجة أموالها عند محمد لما رأت من أمانته، فهو لم يكن موظفاً عندها، بل مشغلًا لأموالها من ضمن تجارته، وظل عليه الصلاة والسلام يطور عمله وتجارته حتى بعد بعثته ونبوته عليه السلام، وانتقل من طور تجارة المفرق إلى تجارة الجملة ثم تجارة جملة الجملة.هذه الحقيقة موجودة في كتب التراث متناثرة متفرقة، جَمَعناها جمعاً بعد دراسة وبحث وتنقيب.ترى من يريد لهذه الحقيقة أن تُطمس وتُشوه؟ ليرسم بدلاً عنها صورة فقر وفاقة عن نبينا الكريم، وأنه كانت تمر عليه الأيام لا يجد في بيته إلا الأسودين: التمر والماء، وأنه كان يستدين من تاجر يهودي.كيف سيُطبقُ منهج الاستخلاف من لا يكاد يجد ما يسدُّ به رمقه؟ وهو الذي كان يعلمنا أن المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف!إن الله خلقنا من وفرة، وعنده خزائن السموات والأرض، وعلمنا في كتابه كيف نُسخرُها ليفتح علينا هذه الخزائن بركات من السماء والأرض.من يريد أن يضيق على الناس ويسرق آمالهم وأحلامهم وأموالهم بغير حق ويجعلهم يعيشون حياة الندرة، له مصلحةٌ في أن يرسم لنا صورة ذهنية عن نبينا الكريم أنه كان فقيراً، حتى نقنع بالقليل، بينما الموارد تنهب وتهدر، على مرأى من الناس ومسمع.كان من مصلحة كثيرٍ من السلاطين والانتهازيين وأصحاب المصالح وغيرهم عبر التاريخ الإسلامي تشجيع حركة الزهد وحركة التصوف، وذلك كي تكون متنفساً للناس تلهيهم وتشغلهم، كما يشغلهم اليوم كثيرٌ من التفاهة السائدة أحياناً باسم الإعلام والرياضة والمسابقات. لسنا ضد هذه القضايا عندما تُوظف لتأدية وظائف تساعد على نهضة المجتمع، وهذا ممكن، لكننا نتحدث عن مظاهر بعينها يعرفها الجميع.إن حركة الزهد والتصوف في جوهرها هي فصلٌ للدين عن الحياة. لقد استخلفنا الله في هذه الأرض بما فيها من أموال وموارد، وطالبنا بعبادته، أي باتباع قوانينه في عمارة الأرض وبناء الحضارة الإنسانية كي يقوم الناس بالقسط. وحضارة القسط تقوم بالعدل والإحسان، بعيداً عن القتل وسفك الدماء، والإفساد في الأرض، وبعيداً أيضاً عن الإكراه الذي هو ضد الحرية.الزهد في هذه الدنيا هو قرار انسحاب من المسؤولية والأمانة التي حملها الإنسان. إنه بمثابة استسلام، أو حتى اعتراض غير مباشر على أمر الخالق، فالزاهدون لا يستطيعون تنفيذ أوامر ربهم ومواثيقه! لقد أمرنا ربنا أن نكون ربانيين لا رهبانيين!المسلمون، الذين يعبدون الله لا يشركون به شيئاً، يجب أن يكونوا طاقة لا تهدأ ولا تيأس. يجب أن يكونوا دائماً مِثلَ كلمةٍ طيبة، تؤتي أُكُلها كل حين، في كل المجالات. ويجب أن تتجلى دلالات تلك المعاني في شركاتهم ومؤسساتهم ومزارعهم ومصانعهم ومنظماتهم وتحالفاتهم ووعودهم وعقودهم وأبحاثهم، لا أن يُحصر المعنى في مدلوله المباشر.فهذه النشاطات كلها يجب أن تكون {كزرعٍ أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه}، بمعنى أن تكون جميعاً على أرقى مستوى، بل وأن تتطور بشكل دائم. وليس بالمعنى المحصور في الزراعة والنبات فقط.المسلمون المؤمنون حقاً هم بناة حضارة. حضارة العدل والأمن والسلام واحترام الإنسان، فتتنزل عليهم بعملهم وسعيهم، ونيتهم وإخلاصهم، بركات السماء والأرض، ويحققون معنى الاستخلاف الحق، وعندها فقط، بتلك المعاني والممارسات، يمكن أن يكونوا خير أمة أخرجت للناس.هذه هي الصورة التي يرسمها لنا القرآن، وأي صورة تخالفها هي من تزيين شياطين الإنس والجن، وهي من حركات قعود الصراط المستقيم.إننا ندعو الله كل يوم في صلاتنا أن يهدينا الصراط المستقيم، الصراط الذي وعد الشيطان أن يقعده فيطمس معالمه ويجعلنا نتبع سراباً يحسبه الظمآن ماء، حين قال {لأقعدنَّ لهم صراطك المستقيم}. ولقد صدق علينا إبليس ظنه، إلا فريقاً من المؤمنين".كم يبدو الأمر مؤلماً في بديهيته، بمثالٍ واحد في مقالٍ قصير، يمكن أن ندرك ضرورة وجود ثورةٍ في فهم الإسلام وتنزيله، ونرى كيف يمكن أن تُعيد تلك العملية للإسلام دوره الأصيل.

1046

| 30 نوفمبر 2014

بين (أسلمة سوريا) و(الثورة في إسلامها).. ملاحظات منهجية (4)

لا تقتصر الأسباب الدافعة لتبلور ثورةٍ في فهم الإسلام وتنزيله على الواقع، في سوريا وانطلاقاً منها، على المشكلات التي أظهرت (داعش) وجودَها في التراث الإسلامي كما شرحنا في أكثر من مقال. فقد أظهرت الثورةُ السورية، قبلَ ذلك، فشلَ ثلاثة أطراف إسلامية، مختلفة في وظائفها وأدوارها، في استيعاب معاني الثورة من خلال قيم الإسلام الأصيلة.حدثَ هذا مع بداية الثورة التي لم تكن (إسلاميةً) بالمعنى السائد للكلمة، إذ لم يتمكن ممثلو الإسلام الشرعي والسياسي أولاً، ثم العسكري / الجهادي بعد ذلك، من تركيب معادلةٍ يُمكنُها الجمعُ بين مطالب الثورة الأساسية (الحرية والكرامة والمساواة والتعددية والديمقراطية وسيادة القانون ومحورية مفهوم المواطَنة..)، وبين القيم والأصول، التي لا تُعطي فقط مشروعيةً لتلك المطالب، في جوهر الفهم الإسلامي، بل تمنحُها أولويةً قُصوى في عملية تنزيل الإسلام على الواقع الاجتماعي الإنساني.ولم يكن في رصيدهم الثقافي ما يُسعفُ حين يتعلق الأمر بملابسات صناعة السياسات الدولية والإقليمية، والتعقيد البالغ الذي يميزها، اللهم فيما عدا اختزال الأمر في أن (الجميع ضد الثورة، والجميع ضد سوريا، والجميع ضد الإسلام).هذا فضلاً عن الفقر المدقع فيما يتعلق بمفاهيم بناء الدولة، أو استمرارها، في هذا العصر، سواء تعلق الأمر بمقتضياتها أو هياكلها أو ثقافتها أو آليات عملها، وما يتطلبه هذا من خبرات وتخصصات وكوادر.لهذا، كان طبيعياً في الفترة اللاحقة، حين اشتعل حديثُ البعض، وأحلامُ الآخرين، عن (أسلمة) الثورة، ألا تتمكن الأطراف الثلاثة من تقديم نموذجٍ قيادي ناجحٍ للثورة، ينبثق من الإسلام، لا على مستوى الرؤية، ولا على مستوى الأفراد، ولا على مستوى الهياكل والتنظيمات.من الضرورة بمكان التأكيدُ هنا على أن هذا الكلام ليس هجاءً، وإنما هو محاولةٌ لتحليل واقع الحال، والحقيقةُ أنه، بالنظر لمرحلة ما قبل الثورة، لم يكن بالإمكان أحسنُ مما كان.فقد كنا نعيش في سوريا أزمةً كبرى في فهم الدين وفي طريقة تنزيله على الواقع، كما هو الحال مع بقية الشعوب العربية، لكن ظروف ما قبل الثورة و(القوانين) الفكرية والاجتماعية السائدة في تلك الفترة لم تكن تسمح بتداول هذه الأزمة بكل درجات الوضوح والصراحة والشمول المطلوبة لمناقشتها، فضلاً عن تقديم حلول حقيقية لها.كانت الإشكاليات كبيرةً في فهم الدين، وجاءت، بالتالي، عملية تنزيل الدين وتطبيقه على الواقع مشوهةً إلى حدٍ كبير. فقد كان نادراً جداً أن يكون الدينُ عِلماً وتخطيطاً وتنميةً وإدارةً وتنظيماً وفهماً للعالم واهتماماً بالشأن العام وتركيزاً على قراءة سنن إعمار الأرض، بينما كان شائعاً جداً أن يكون الدينُ كماً هائلاً من فتاوى ودروس ومواعظ تُركز على كل ما هو شخصي ورمزي وشعائري. بمعنى أن الجهد كان قليلاً لربط الشخصي بالعام ولربط الرمزي والشعائري بالمقصد والمناط على مستوى وجود جماعة بشرية في إطار (دولة).بل إن تلك الفتاوى والدروس والمواعظ رسَّخت في المجتمع السوري، على درجات متفاوتة، قيماً لا تمت بصلة إلى أصالة الإسلام وتعاليم القرآن. حصل هذا في مواضيع أساسية كثيرة، منها على سبيل المثال فقط: قضايا المرأة، العلاقة مع الآخر، الموقف من العقل، الموقف من العلم، حرية المعتقد، الآبائية والتقليد، تحويل الإسلام إلى شريعة إصر وأغلال، تفسيرات الولاء والبراء، تقديس اجتهادات البشر، الإيحاء بأن تعظيم الخالق يزداد بتحقير الإنسان.. وجرى أثناء ذلك الخلطُ بين الكُليات والجزئيات، والأصول والفروع، والثوابت والمتغيرات.هذا فضلاً عن توظيف الدين لتبرير الواقع القائم في كثير من الأحيان بقصدٍ أو دون قصد، إذ لم يمتدﱠ النظر والتحليل إلى واقع الظلم والفساد والتخريب الممنهج في كل مجالات الحياة، والذي كان يُمارس على البلاد بأسرها وعلى المجتمع بإجمال. لم تُربَ الأجيال في معظمها على أن هذا الواقع والممارسات التي تقف وراءه هي في حقيقتها أكبرُ انتهاكٍ لتعاليم الدين، وأعظمُ في تأثيرها السلبي من انتهاك بعض أوامره ونواهيه على المستوى الفردي.وإنما انحصر الاهتمام في الحفاظ على تركيبات اجتماعية واقتصادية محدودة، هي أشبه بمجتمعات منعزلة ومُكتفية ذاتياً داخل سوريا الوطن، تُحيط ببعض الدعاة والعلماء، وتُوفرُ الشعور بالرضا لمن فيها على اختلاف أدوارهم، وقد تُوفر في طريقها بعضاً من لقمة عيشٍ يُقدِّمها (المُحسنون)، من خلال جمعيات خيرية، لفقراء يعيشون بالصدفة على هوامش تلك المجتمعات.لا ينفعنا في شيء تلك (الهمسات) التي كانت تتم هنا وهناك، والتي تُعبر عن (استنكارٍ) تقليدي للواقع، يجري التعبير عنه في دوائر مُغلقة وضيقة للغاية، إذ لم يجرِ الربط الواعي، في أذهان الجماهير الواسعة، بين الدين ودوره الحقيقي كأداةٍ كبرى للتحرير والإعمار. من هنا، اقتصر ما يُسمى بـ (العودة) الجماعية للدين بين السوريين، مع تطور أحداث الثورة وكثرة تحدياتها، على المعاني المتعلقة بالإيمان والتوكل والتسليم والتضحية، وغابت تجليات دينٍ يتمثل جوهرهُ في امتلاك أدواتٍ تعين أصحابها على التعامل الفعال مع العالم ومع الفضاء العام، ومن مدخل عالم الأسباب والسنن.

1001

| 23 نوفمبر 2014

alsharq
شكاوى مطروحة لوزارة التربية والتعليم

ماذا يعني أن يُفاجأ أولياء أمور بقرار مدارس...

5718

| 11 نوفمبر 2025

alsharq
حدود العنكبوت

حينَ شقَّ الاستعمار جسدَ الأمة بخطوطٍ من حديد...

4062

| 04 نوفمبر 2025

alsharq
مامداني.. كيف أمداه ؟

ليش ما يمديك؟! بينما ممداني زهران، الشاب ذو...

3987

| 11 نوفمبر 2025

alsharq
عيون تترصّد نجوم الغد

تستضيف ملاعب أكاديمية أسباير بطولة كأس العالم تحت...

2379

| 11 نوفمبر 2025

alsharq
السودان.. حوار العقل العربي مع مُشعِلي الفتنة

في السودان الجريح، لا تشتعل النيران في أطراف...

2355

| 05 نوفمبر 2025

alsharq
العالم في قطر

8 آلاف مشارك بينهم رؤساء دولوحكومات وقادة منظمات...

2193

| 04 نوفمبر 2025

alsharq
الصالات المختلطة

تشهد الصالات الرياضية إقبالا متزايدا من الجمهور نظرا...

1629

| 10 نوفمبر 2025

alsharq
حين يصبح النجاح ديكوراً لملتقيات فوضوية

من الطرائف العجيبة أن تجد اسمك يتصدر أجندة...

1344

| 04 نوفمبر 2025

alsharq
كلمة من القلب.. تزرع الأمل في زمن الاضطراب

تحليل نفسي لخطاب سمو الأمير الشيخ تميم بن...

1149

| 11 نوفمبر 2025

alsharq
عندما يصبح الجدل طريقًا للشهرة

عندما صنّف المفكر خالد محمد خالد كتابه المثير...

1080

| 09 نوفمبر 2025

alsharq
الكفالات البنكية... حماية ضرورية أم عبء؟

تُعدّ الكفالات البنكية بمختلف أنواعها مثل ضمان العطاء...

1023

| 04 نوفمبر 2025

alsharq
نظرة على عقد إعادة الشراء

أصدر مصرف قطر المركزي في التاسع والعشرين من...

1005

| 05 نوفمبر 2025

أخبار محلية