رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
من المفارقات الغريبة أن يسأل البعضُ عن سبب التركيز على نقد الإسلاميين بشكل عام، والسوريين منهم تحديداً، بشكل أكبر من غيرهم، والواضح أن غيرهم هنا تشمل كل من يُمكن أن يندرج في خانة (العلمانيين).فَهم الموضوع بهذه الطريقة إشكالي وقاصر، لأن أول أبجديات التفكير المنطقي تؤكد أن الجرعة الأقوى من المُساءلة والاهتمام من قبل الباحثين والنقاد المهتمين بالقضايا العامة يجب أن تكون دائماً لأكثر الشرائح تأثيراً في تلك القضايا. هكذا، بكل بساطة، يجب تأكيد حقيقة مفادها أن من ينقد الإسلاميين ويطلب منهم مراجعة رؤيتهم ودورهم وأساليبهم في التفكير والحركة (يعترفُ)، بممارسته، أنهم أكثرُ الشرائح تأثيراً في الواقع، خاصة في معرض الحديث عن الثورة السورية.ينطبق هذا على شريحة واسعة ممن يمارس النقد غيرة على سوريا وعلى الإسلام، لكن الطريف في الموضوع أنه ينطبق أيضاً على غيرهم ممن يمارسون نقد الإسلاميين. فمتابعة هذا النقد وتحليله تُظهر أنه إما أن يأتي تعبيراً عن منطلقات أيديولوجية عُصابية، أو عن شوفينيةٍ ممزوجةٍ بمشاعر الإقصاء والديكتاتورية، أو بحثاً عن مصالح فردية وجماعية تتعلق بالسلطة والمال والنفوذ، أو صدوراً عن خوفٍ كامنٍ في الأعماق من الإسلاميين، أو عن كل تلك الأسباب مجتمعة. لكن كل هذا يعني أنهم (مهووسون) بالإسلاميين، والسبب هو أن هؤلاء هم الأكثر تأثيراً على الواقع في نهاية المطاف.فمن البدهي أن النقاد لن يتركوا هؤلاء ويهمتموا بمن يكون تأثيره هامشياً أو معدوماً.بهذا التحليل، يبدو الإسلاميون أنفسهم، برفضهم المتكرر للنقد الموجه إليهم، واقعين في تناقضٍ منهجي متعدد الأبعاد. فإما أنهم لا يعتبرون أنفسهم الأكثر تأثيراً في الواقع، مع أن كلﱠ ممارساتهم العملية وتصريحاتهم تؤكد عكسَ ذلك. أو أنهم مؤمنون بدرجة تأثيرهم الحقيقية، لكنهم فعلاً يرفضون النقد لمجرد رفضه أياً كان مصدره، ولأسباب فصلنا الحديث عنها في مقالٍ سابق.ثمة مفهومان هنا يحتاجان لتوضيح، فالحديث عن درجة تأثير الإسلاميين السوريين في واقع الثورة لا يعني بالضرورة أن هذا التأثير إيجابي، وإلا لما كان للنقد معنى.ثم إن استخدامنا لمصطلح الإسلاميين، وتحديداً في الوضع السوري، يستهدف تلك التجمعات والتنظيمات والأحزاب التي تكاثرت كالفطر في المجالات السياسية والعسكرية والدعوية، وهي تؤكد، بلسان الحال وبلسان المقال، تصديها لقيادة الثورة وتمثيلها وتمثيل السوريين.ولا يدخل في نقدنا لمن نَصِفهم (إسلاميين) ملايين السوريين المسلمين بالتأكيد. كما لا تدخل فيه شريحةٌ واسعةٌ، لكنها ليست مؤطرةً في أي هيكلٍ تنظيمي، من السوريين الكتاب والمفكرين والنشطاء والمثقفين، الذين ينطلقون في تفكيرهم وحركتهم من مرجعيةٍ إسلامية بشكلٍ أو بآخر.بل إن الغالبية العظمى من هؤلاء يطرحون، على المستوى الفكري، ويقدمون نماذج عملية، هي بمجموعها أقرب لتمثل قيم الإسلام ومقاصده الحضارية الكبرى. وكثير منهم يمارس ابتداءً نقدَ الفهم الإسلامي التقليدي السائد، ويدعون للمراجعات، ويرفضون كثيراً من دعاوى احتكار الإسلام من قبل أي جماعة أو حزب أو فصيل.أهمﱡ من هذا، ثمة احتمال كبير بأن اجتماع هؤلاء في تيارٍ فكري وثقافي أكثر تنظيماً، وتزايد درجة تواصلهم وتنسيقهم، وصولاً إلى تجميع عطائهم وإيصاله إلى السوريين بشكلٍ مؤسسي أكثر فعالية، يمكن أن يكون أحد مداخل حلول التعامل الفعال مع الإشكاليات التي يُسبِّبُها (الإسلاميون) بمعنى المصطلح المذكور أعلاه.وإذا كان لنا أن نستخدم، تجاوزاً، المدخل الفقهي في هذا المقام، فقد ينقلبُ مثلُ هذا النشاط في حقِّهم (فرضَ عين) للمرابطة في ثغرٍ لم يعد يمكن تغطيته بمداخل (فروض الكفاية).إن (غياب التراكم المعرفي) يُعتبر مشكلة المشاكل في حياتنا الثقافية والفكرية. فمثل هذا التراكم يُعتبر عِمادَ عمليات التغيير والتطوير الكبرى في المجتمعات التي تتحكم أنظمتها السياسية والاقتصادية بمفاصل النظام العالمي المعاصر، وذلك من خلال استفادة هذه الأنظمة من التراكم المذكور وما يضخُّه فيها من مُعطيات وأدوات وأفكار.بالمقابل، تطغى الفردية الصارخة على عمل المثقفين والمفكرين والباحثين والكتاب العرب عموماً، لكن الفردية هذه واضحةٌ جداً فيما يتعلق بعطاء وإنتاج الشريحة التي نتحدث عنها من السوريين غير الحزبيين ولا المنظمين، ممن يفكر ويكتب ويتحرك بخلفيةٍ إسلامية.إذ يندر في مثل هذه الظروف الحساسة أن تجد تعاوناً جدياً بين أفرادهم، ولا أعتقد مثلاً بوجود بحثٍ أو كتابٍ أو ورقةٍ اجتمع على العمل فيها باحثان منهم، وتتعلق بواحدةٍ من المسائل العديدة المتعلقة بالثورة، وإن كان يُعالجُها، جميعها تقريباً، كل واحدٌ منهم بمفرده، عبر كتابٍ أو مقالٍ أو مشاركةٍ (فيسبوكية) أو تغريدة..وإذا كان هذا مقبولاً بحكم أمرٍ واقعٍ له ظروفه وملابساته قبل الثورة، فإنه يُصبح أمراً متناقضاً مع كل منهجيةٍ تَحكُمُ عمل المثقفين من جهة، وتنبثق من فهمٍ أصيل لقيم الإسلام من جهةٍ أخرى، خاصة بعد أكثر من ثلاث سنوات من عمر الثورة، باتَ واضحاً فيها لهم أين تكمن المشكلة ومن أين تبدأ مسيرة البحث عن الحلول.لا تبدو ثمة حلول ناجعة لدى (الإسلاميين) بتوصيفهم المذكور أعلاه. ولا تبدو الغالبيةُ العظمى من العلمانيين، السوريين تحديداً، في مقام القدرة على تقديم مثل تلك الحلول. وإذا كنا قد فصَّلنا الحديث عن الشريحة الأولى في أكثر من مقال سابق، فإن قلة تركيزنا على الشريحة الثانية تأتي انسجاماً مع المقولة الرئيسية الواردة في أول المقال، فهم الأقل تأثيراً فيما يجري على أرض الواقع، والطريفُ أن شكوى بعضهم المستمرة من الإسلاميين تحمل مؤشراً على تناقضٍ آخر قد يكون أسوأ من ذاك الذي يعيشه الإسلاميون.وإذا كانوا يتهمون الإسلاميين بأنهم يغسلون أدمغة السوريين بالغيبيات ويشترون ولاءهم بالعواطف والشعارات، فإن هذا يستدعي ملاحظتين. الأولى تتمثل في شبهة إلقاء التبعة واللوم على الشعب السوري الذي كثيراً ما يتغنون بوعيه ووطنيته، في حين أن كلامهم يحمل شبهة نظرة دونية لشعب تلك صفاته. ثم إن هناك سؤالاً كبيراً قد يدل على حالة من الإفلاس الثقافي والفكري والتنظيمي لديهم، لأن عليهم أن يسألوا أنفسهم أين ذهب زادهم الفكري ومؤونتهم المعرفية التي كان يجب أن تجتذب عقول وقلوب السوريين، الأمر الذي يعني في نهاية المطاف نوعاً من الهروب الكامل.ثمة من ينظر إلى الموضوع، في صفوف من يُصنفون علمانيين، ويحاول معالجته بمقاربة مختلفة تماما. وقد يكون في طروحات هؤلاء، وفي تعاونهم مع شريحة المثقفين والباحثين المستقلين من خلفية إسلامية، مدخل لفتح نافذة لتصحيح مسار الثورة.. هذا ما سيكون موضوع كلام قادم.
984
| 08 يونيو 2014
يُحبُّ الإسلاميون كثيراً ترديد رواية "أصابت امرأة وأخطأ عمر". يُكررون الحديث عن تصويب الله لرسوله أكثرَ من مرة، وعن ورود تلك الحقيقة في القرآنِ نفسه واضحة جلية. يَفخرون بخطبة أبي بكر عندما تولى الخلافة وقال فيها: "أما بعد، أيها الناس، فإني قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني، الصدق أمانة، والكذب خيانة". يتكلمون دائماً عن معاني التواضع، والتجرُد، والاعتراف بالخطأ، والعودة إلى الصواب، والنصيحة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقبول الرأي الآخر. يَنفون وجود العِصمة لدى بني البشر ويُعلُون من شأن التوبة والاستغفار، باعتبار أن "كل ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون".لكنهم رغم كل هذا، وفي الغالبية العُظمى من الحالات، يرفضون النقد.تتكرر هذه الظاهرةُ لدى الإسلاميين العرب بشكلٍ عام، لكنها تنطبق بشكلٍ لافت على الإسلاميين السوريين، خاصة منهم المُنتظمون في مؤسسات أو تجمعات سياسية أو عسكرية أو دَعَوية.فلسببٍ أو آخر، يقرأ هؤلاء كل نقدٍ على أنه هجومٌ وطعن، ويَرون في كل محاولة للإشارة إلى أخطائهم تَجنّياً وتشكيكاً، ويُرجِعون، بسرعةٍ وحسم، كل طلبٍ للمراجعة إلى أحد سببين: انحرافُ صاحب الطلب أو مشاركتهُ في مؤامرةٍ ما عليهم.ومن النادر أن يظهر في ردود أفعال الإسلاميين (حُسنُ الظن)، مع أن هذا يُعتبرُ أيضاً من المعاني التي يتغنونَ بها في أدبياتهم. وأكثرُ نُدرةً أن تجدَ القابلية عندهم للحوار مع الأفكار، ومحاولةَ قراءتها بدرجةٍ من الحياد، والتفكيرَ في دلالتها بشيءٍ من الموضوعية. أما أن تسمع عبارةً فيها اعترافٌ واضحٌ وصريحٌ بالخطأ، فهذا أمرٌ بعيد الاحتمال.لماذا تستمر هذه الظاهرة وتترسخ في أوساط الإسلاميين السوريين إلى درجةٍ غريبة؟ ثمة أكثر من تفسيرٍ ممكن، وأولُها يكمن في أن هناك بالفعل نوعاً من التماهي الكبير لديهم، بينهم وبين الإسلام. فرغم أن هناك فارقاً، بأدنى درجات المنطق، بين الإسلام كدين، وبين (التديُّن) كفعلٍ بشري يُمارسه الإنسان على طريق محاولة تمثُّل قيم الدين وتحقيق مقاصده، إلا أن الواقع العملي، لمن ينشطون باسم الإسلام تحديداً، يُظهرُ بأن لديهم على الدوام لَبساً بين الأمرين.هذا ليس (اكتشافاً)، وقد كَثُر الحديثُ عنه والكتابةُ فيه في السنوات الأخيرة، بل إن هناك كتباً تبحثُ فيه، منها كتابٌ لمُنظﱢري الحركة الإسلامية التونسية من جزأين بعنوان (في فقه الدين فَهماً وتنزيلاً) يحاول أن يُسلط الضوء على الموضوع بشيءٍ من التفصيل. نُشر الكتاب منذ قرابة ثلاثين عاماً، ومن يومها، يتحدث فيه كتابٌ ومُفكرون وباحثون، لكن واقع الإسلاميين على مستوى الحَركات والمؤسسات لا يزال يعيش حالة إنكارٍ مستمرة تتعلق به على صعيد المُمارسات العملية، بغض النظر عن المقولات النظرية.تُحيلُ الظاهرة أعلاهُ إلى مدخلٍ آخر لتفسير ظاهرة تَشنُّج الإسلاميين من النقد تتعلق بمقولة (الخوف على الإسلام). إذ يبدو هذا الخوف، إلى درجة الهوس أحياناً، مُحرِّكاً لكثيرٍ من المواقف الصادرة عنهم، خاصةً في ظروف الأزمات. المفارقةُ أن هذا يتضاربُ بقوة مع منهج القرآن نفسه حين يُطلقُ أجواء ثقةٍ كبيرة بالنفس في مجال التعامل مع ما قد يكونُ حقيقة تهجماً وتشكيكاً، كما هو الحالُ مثلاً في تعامله مع الصفات التي أطلقها مُشركو قريش لوصف الرسول: معلمٌ مجنون، ساحر، كذاب، مسكونٌ بالجنّ. هذه بعضُ الأوصاف التي أطلقها على رسول الإسلام أولئك الذين لم يؤمنوا برسالته. حدثَ الأمر قبل أكثر من أربعة عشر قرناً. وكان يمكن بسهولةٍ وبَساطة أن يطوي التاريخ هذه الأوصاف ويسكتَ عن الموقف، وأن تموت معهُ تلك الاتهامات، خاصة أن (المُتَّهم) انتصر على خصومه المذكورين بطريقةٍ أو بأخرى، ونحن نعرف أن التاريخ يكتبه المنتصرون كما يحلو لهم في أغلب الأحيان.مع هذا، لم يُبدِ القرآن أي حرصٍ على إخفاء الأوصاف، رغم كل ما تحمله من تحد وهجوم. لم يحاول قطّ أن يطمسها في عالم النسيان، مع أنه كان يستطيع ذلك دون أن يخطر في بال أحد أن يتساءل عن السبب، لم يخشَ من تأثيرها على مقام النبي الذي جاء بالرسالة في عيون أتباعه، وفي عيون الناس من ورائهم إلى يوم الدين. لم يرَ في إيرادها وتكرارها والتفصيل في الإخبار عنها طعناً جوهرياً في شخص الرسول الكريم، ولا مَساً حقيقياً بكرامته وسمعته.لم يحصل ذلك كله وإنما حصل العكس. خط القرآن في موقفه من المسألة درساً في الممارسة الحضارية كان لابدّ أن يُسجّلَ في تاريخ الإنسانية. وذلك حين ضَمِنَ لتلك الاتهامات الحفظَ إلى يوم القيامة من خلال خلوده، وتَركَ المجال مفتوحاً لقراءتها واستعراضها ومعرفة خلفياتها وأبعادها ودلالاتها. ويمكن القول بأنه اعتبرها بِلُغة هذا العصر (رأياً آخر) يستحق أن يبقى وأن يَسمعه الناس في كل زمانٍ ومكان.بل تجاوز القرآن كل ما سبق وقام بعَرضها في إطار أسلوبه الأنيق بكل ما فيه من بلاغةٍ وبيان، وجمالياتٍ في الألفاظ والجمل والتراكيب يتذوقُها من يعرف شيئاً عن اللغة العربية.بالمقابل، يعيشُ كثيرٌ من الإسلاميين، في حقيقة الأمر، بنفسية الإنسان المذعور في هذه الدنيا ومنها، حتى لو كانوا يدﱠعون غير ذلك بحديثهم النظري عن (عزة الإسلام)، أو ببعض المظاهر العسكرية في حالة الثورة السورية. هنا تَظهرُ المشكلةُ مركبةً، ففي حين أن الإسلام كبير، يجعله البعضُ صغيراً حين يُصرﱢون على التماهي الكامل فيه، ويُضفون عليه، دون أن يدروا، كل ما فيهم هم من ضعفٍ ومَحدودية.يظلمُ الإسلاميون عامةً، والسوريون تحديداً، الإسلام كثيراً، ويظلمون معه المسلمين والعالم بأسره. يظلمونه أكثر من أي جهةٍ أخرى يعتقدون أنها تُعادي الإسلام وتُشكلُ خطراً عليه.يُقزﱢمونه بدعوى الخوفِ عليه، خاصة حين يرفضون النقد ويُصرُّون بشكلٍ غريب على تجنب المُراجعات. فالواقع الراهن مليء بالتحديات والأسئلة الصعبة التي تحتاج إلى مواجهتها بشكلٍ واضحٍ وشجاع وبكل شفافيةٍ وجرأة، بعيداً عن خوفٍ كاذبٍ على الدين يخنق في نهاية المطاف روحه الأصيلة، ويُحاصر كمونه الهائل. وهو كمونٌ لا تُحفظُ في غيابهِ أمةٌ ولا هوية.وإذا كانوا يخافون من الفوضى، فإن رفض النقد وغياب المراجعات هو الذي يؤدي إلى الفوضى وسيؤدي إلى المزيد منها على جميع المستويات، لأن هذا يترك المجال مفتوحاً أمام عمليات اختطاف الإسلام التي تهدف إما لتمييعه بحيث يفقد ملامحه الأصيلة، أو لتوظيفه بحيث يُصبح خادماً للواقع ومبرراً لسلبياته، أو لتجميده بحيث يضحى منظومةً بائسةً من المظاهر والطقوس والرموز والأشكال.
2860
| 01 يونيو 2014
لم يُنشر الجزء الأول من هذا المقال الأسبوعَ الماضي إلا والسوريون يشهدون صِدقيِّة أول فكرةٍ وردت فيه. دعت الفكرة المذكورة إلى فكّ الارتباط بشكلٍ نهائي بين الحديث عن (الإسلاميين) والحديث عن (الإسلام)، وإلى رفض دعوى الاقتران الماهوي بين الاثنين. وبَرَّرَت ضرورة ذلك بكثرة التجمعات والمنظمات والأحزاب التي تدَّعي تمثيلَ الإسلام بشكلٍ مباشر أو غير مباشر، وبوجود فهمٍ متفاوت، وأحياناً متفاوت جداً، في فهمها للإسلام وفي كيفية تنزيله على الواقع.قبل نشر المقال بيوم صدر (ميثاق الشرف الثوري) الذي يُمثل طرحاً مُتقدماً في خطاب الفصائل الإسلامية العسكرية السورية. لن نناقش هنا حقيقةَ أن هذا الخطاب يمثل الحدَّ الأدنى من ملامح الخطاب الوطني السوري المطلوب، ولا الحاجة للتأمل في أن (إنجاز) الوصول إليه تطلَّب أكثر من عامين، عاد فيهما ذلك الخطابُ إلى الوراء كثيراً. وإنما تكفي الإشارة إلى النقد الجذري الذي صدر عن جبهة النصرة لهذا الميثاق بعد صدوره بثلاثة أيام فقط.لم يحتج الأمر أكثرَ من هذه الأيام ليظهر، واضحاً وجلياً، التناقضُ الجذري والشامل بين خطابين (إسلاميين) فيما يتعلق بالنظرة إلى الدين والنظرة إلى الوطن والمواطن والنظرة إلى الثورة. يحتاجُ تحليل الظاهرة إلى مقامٍ آخر، لكن المؤكد أنها خلقت علامة استفهامٍ كبرى تركت المَعنيين في حيرةٍ لا نعلم كيف يُعالجونها نظرياً وعملياً في قادم الأيام. والأرجحُ أنها ستُظهرُ حقيقةَ وُجودِ أكثر من خِطابين إسلاميين."الثقافة هي الجهد المبذول لتقديم مجموعةٍ متماسكة من الإجابات عن المآزق المحيرة التي تواجه المجتمعات البشرية في مجرى حياتها، أي هي المواجهة المتكررة مع تلك القضايا الجذرية والأساسية التي تتم الإجابة عنها عبر مجموعة من الرموز، فتشكل بذلك مركباً كلياً متكامل المعنى، متماسك الوجود، قابلاً للحياة".هذا أحد تعريفات الثقافة التي أوردناها سابقاً، والسؤال الذي يطرح نفسه على كل السوريين هنا هو التالي: هل يستطيع إنسان أن يزعم وجود ما لهُ علاقة بهذا التعريف في طروحات وخطاب وممارسات الإسلاميين السوريين على اختلافها وتنوعها؟ السؤال مطروحٌ بقوةٍ ووضوحٍ وصراحة، مع التذكير مرةً أخرى أن الحديث هنا يتعلق بالتكوينات المؤسسية على اختلاف مجالاتها ومُسمياتها، وعلى أعضاء هذه التكوينات. ومع الإقرار، أيضاً، بوجود أفراد قد يصفون أنفسهم (إسلاميينَ) بمعنى من المعاني، ممن تصالحوا مع الثقافة، ولا يرون في هذه المصالحة أي تهديدٍ للدين.لا تكفي في هذا الإطار الشعارات، ومنها شعار (الإسلام هو الحل) بتلويناته المختلفة. ولا يكفي برنامجٌ سياسي نظري تطرحه هذه الجماعةُ أو ذلك الفصيل، حاملاً عناوين فخمة، في حين أن مضمونه أقرب بكثير لعمليات القصّ واللصق، فضلاً عن (الفِصام النَّكِد) بين ذلك المضمون وممارسات أصحابه في كل مجال. ولا تكفي، بطبيعة الحال، المدونةُ الفقهية الممتلئة بأحكام وفتاوى غالبيتُها العظمى تُحيل إلى محاولاتٍ تاريخية لتنزيل الدين على وقائع ذلك التاريخ، هدفُها في أحسن الأحوال تحقيقُ مقاصده بما يُلائمُ ظروف زمانٍ مختلف.من المهم جداً إعادة التأكيد هنا على أننا لا نُغادر ظرفَ الثورة وملابساتها، لأن من السهولة بمكان خلطَ الأوراق و(اتهام) هذه الرؤية بكونها دعوة، في غيرِ وقتها، للترف الفكري. فعلى العكس من ذلك تماماً، يحمل الكلام دعوة لمُمارسةٍ تُوسِّعُ مفهوم الثورة وإطارَها، تنبثق من تقويم عمل الإسلاميين السوريين وطروحاتهم مِنْ قُرْب على مدى أكثر من سنتين من عمرها، بحثاً عن فهمٍ مُختلفٍ للإسلام، يكون أقدرَ على تحقيق مقاصده الكبرى وتحقيق أهداف الثورة، دون تضاربٍ موهومٍ بين الهدفين.أين تكمنُ الصعوبةُ في إدراك حقيقةٍ بسيطة يؤكدها الواقع بوضوحٍ وجلاء: إن خطاب الإسلاميين السوريين وطُرُقَ تفكيرهم وعملهم خلال الفترة السابقة لم تكن قادرة على (إدارة) ثورة، وهي، بوضعها الراهن، ليست قادرةً حتماً على تقديم جديدٍ للثورة في الحاضر والمُستقبل. من يمكن له أن يُجادل في هذه الحقيقة؟ وما هي مؤشراتُ خطئها ومُجانَبتها للصواب؟مُعيبٌ جداً الهروبُ من الاعتراف بهذه الحقيقة باستخدام مقولة وحشية النظام، وعَون أصدقائه الكثيف له، وخُذلان السوريين من قِبل (أصدقائهم) مالياً وسياسياً وعسكرياً، وغير ذلك من حقائق معروفة، لكنها بحدِّ ذاتها الحقائقُ التي تُعيدُ وضع المسؤولية الكبرى والأساسية على من (يدَّعي) التصدي لقيادة الثورة، كائناً من كان.كل ما نقوله إننا وصلنا إلى هذا الواقع، وأنه سيستمر، مادامت الخصومة قائمة ومستمرة بين الإسلاميين السوريين وبين الثقافة. الثقافة، نُعيد ونكرر، بمعنى "تقديم مجموعةٍ متماسكة من الإجابات عن المآزق المحيرة التي تواجه المجتمعات البشرية في مجرى حياتها".صدرَ عن هؤلاء الكثيرُ من الأقوال والأفعال خلال الفترة الماضية، وقدمَ بعضهم كثيراً من التضحيات في مجالات مختلفة. ولئن كان فيما فعلوه أيضاً الكثير من المشكلات، لكن المشكلة الأكبر كانت فيما لم يفعلوه. إذ لم يكتفوا بعدم تقديم إجاباتٍ عن المآزق التي تواجه الثورة وسوريا، بينما يتغيرُ مجرى حياة السوريين جذرياً، بل إنهم لم يُفكروا بطرح الأسئلة الصحيحة ابتداء.لم نصل بعدُ إلى الجزء الآخر من تعريف الثقافة: "المواجهةُ المتكررة مع تلك القضايا الجذرية والأساسية التي تتم الإجابة عنها عبر مجموعة من الرموز، فتُشكل بذلك مركباً كلياً متكامل المعنى، متماسك الوجود، قابلاً للحياة". إذ، كيف تظهر الحيوية الهائلة الكامنة في هذا الإنسان، وكيف تتكرر المواجهة مع القضايا الجذرية والأساسية، إذا لم تحصل تلك المواجهة للمرة الأولى أصلاً؟يتحركُ الإسلاميون السوريون كثيراً، ويتحدثون كثيراً، ويمارسون المناورات كثيراً، ويُقدمُ بعضُهم على الطريق كثيراً من التضحيات. ألا يجب أن يلفتَ انتباهَهُم وانتباهَ السوريين أن كلَّ هذا قادَنا إلى الوضع الراهن للثورة؟! كيف لا يُثير هذا الحال سؤالاً كبيراً يتعلق بما (لا يفعلونه)؟ ومن أين ينبعُ هذا الإصرار العجيب على إنكار الواقع ورفض كل ما له علاقة بالمراجعات؟مرةً أخرى، قد تكون البُشرى الوحيدة في الموضوع أن هذه الممارسات وتلك الأساليب في العمل والتفكير ستكون بنفسها عائقاً في وجه (أسلمة) الثورة بالفهم السلبي الشائع. لكنها ستكون، أيضاً، سبباً لإعادة نظر واسعة وعميقة في طريقة فهم الإسلام وتنزيله على أرض الواقع، وسيحصل هذا بشكلٍ يقلب الموضوع من (أسلمةٍ) للثورة في سوريا إلى ثورةٍ في إسلامها، نهاية المطاف.
1018
| 25 مايو 2014
الإسلاميون السوريون والفصلُ بين (الدين) و(الثقافة) (1)لابد، أولاً، من تحرير القول في التطابق الموهوم بين الحديث عن (الإسلام) والحديث عن (الإسلاميين). وهو تطابقٌ يبدو أن الإسلاميين يحرصون على إشاعته والإحالة إليه. يجري هذا بقصدٍ أو بغير قصد، حين يجدون دائماً في أي نقدٍ يُوجهُ لحركاتهم وأحزابهم ومؤسساتهم مساربَ لتحويل اتجاه النقد بحيث يُظهرونَ أنه للإسلام، وليس لِفِقههِم له ولِقُدرتهم على تمثُّل مقتضياته. وفي كثيرٍ من الأحيان، لفشلهم المخيف في المجالين.وفي خِضمّ الفوضى الثقافية والسياسية السائدة، تُساهمُ هذه العملية في نشر الانطباع المتعلق بالتطابق الموهوم، المذكور أعلاه، بين كثيرٍ من المسلمين، من غير الإسلاميين. في حين أن مثل هذا الاقتران المُتعسِّف يجب أن يزول بشكلٍ شاملٍ ونهائيٍ وناجز.هذا مطلوبٌ كي لا نُغلق بسيف الإرهاب الفكري نوافذ المراجعة والتفكير بشأنٍ مؤثرٍ في حياتنا. والأهم من ذلك، كي لا نظلم الإسلام نفسه، فلا نسمح لأحدٍ، خاصةً بين شرائح الحركيين السياسيين ورجال الدين، بأن يدَّعي نوعاً من الاحتكار للإسلام عبر التماهي فيه، بما يُحيل إلى وضعٍ يُشبه فكرة ديغول عن فرنسا تجعلهم يقولون بلسان الحال: "أنا الإسلامُ والإسلامُ أنا".. نتحدثُ عن لسان الحال هنا لأن ثمة (تورعاً) لدى غالبيتهم يمنعهم من إعلان ذلك بلسان المقال. فالأمر يندرج في خانة ما وصفهُ العرب حين قالوا إن "لسان الحال أبلغُ من لسان المقال".أكثر من هذا، يفرض الواقع السوريُ المعاصر تحديداً، والعربي والإسلامي عموماً، تأكيدَ وترسيخ عملية الفصل بين الإسلام والإسلاميين. فدرجةُ التشظي والانقسام في الهياكل التي تتحدث باسم الإسلام، وكثيراً ما تدعي تمثيله وتمثيل (الأمة)، تجاوزت وِحدة العَشَرات وربما باتت تدخل في خانة المِئات. وهي هياكلُ تحمل صفةً سياسية أو عسكرية أو دينية بحتة، وأحياناً أكثرَ من صفتين. وتختلفُ في رؤيتها لكثيرٍ من مجالات فقه الإسلام وتنزيله على الواقع. هذا واضحٌ بِحُكم المُعطيات المُعلنة التي يراها كل السوريين، وإن حاوَلَت أن تُداريَ بَعضَها حين يتطلبُ الوضع، وأن تسُارع إلى الإعلان عما يجمعُها ببيانٍ هنا وتصريحٍ هناك. لكن المفارقة المهمة أن أكثريتها الساحقة تؤكد، بلسان المقال والحال هذه المرة، أنها تتحدث باسم الإسلام وتُمثلُه وتُمثلُ أهله.أفلا تكون المفارقة أعلاه سبباً يدفع كل غيورٍ على الإسلام لفك الارتباط (الماهوي) بين الإسلام والإسلاميين؟ نستغرب أن يرفض البعضُ البديهة المنطقية في هذا الطرح، وندعوهم على الأقل للتفكير فيها بمزيدٍ من الهدوء والتجرد.نعود بعد هذا التوضيح المطلوب إلى قصة الإسلاميين، خاصة السوريين مع الثقافة. بل ربما إلى (قصتهم المفقودة) معها.لن ندخل في بحثٍ أكاديمي عن معنى الثقافة وتعريفها المقصود هنا، بل سنقتصر على ثلاثة أمثلة أحدها عربي والآخران غربيا المصدر، ونريد استعمالها ببساطة بعيداً عن أي تعقيدٍ نُخبوي.فالمعاجم تذكر أن الثقافة في اللغة العربية هي أساس الحَذقُ والتمكُّن، وثَقَفَ الرمح أي قومَهُ وسوﱠاه. ويُستعار بها للبشر فيكون الشخص مهذباً ومتعلماً ومتمكناَ من العلوم والفنون والآداب. ويُقال ثَقِفَ الشيء إذا أدركه وحذقه ومهر فيه، والثقيف هو الفطين، وثقف الكلام فهمه بسرعة. فكلما زاد نشاط الفرد ومطالعته واكتسابه الخبرة في الحياة زاد معدل الوعي الثقافي لديه، وأصبح عنصراً بناءً في المجتمع.أما العالم البريطاني من أصلٍ بولندي برونسيلاف مالينوفسكي فيعرﱡفها قائلاً: "الثقافة هي جهازٌ فعال ينتقل بالإنسان إلى وضعٍ أفضل، وضع يواكب المشاكل والطروح الخاصة التي تواجه الإنسان في هذا المجتمع أو ذاك في بيئته وفي سياق تلبيته لحاجاته الأساسية".هناك تعريفٌ آخر مهم للمستشرق النمساوي غوستان فون غرونبوم يقول إن: "الثقافة هي الجهد المبذول لتقديم مجموعةٍ متماسكة من الإجابات على المآزق المحيرة التي تواجه المجتمعات البشرية في مجرى حياتها، أي هي المواجهة المتكررة مع تلك القضايا الجذرية والأساسية التي تتم الإجابة عنها عبر مجموعة من الرموز، فتشكل بذلك مركباً كلياً متكامل المعنى، متماسك الوجود، قابلاً للحياة".بكل المعاني الواردة في التعريفات المذكورة أعلاه، هناك خصومةٌ تاريخية، تكاد تكون شاملةً، بين الإسلاميين السوريين وبين الثقافة.لا ينحصر الجهد المطلوب لتقديم الإجابات على المآزق الإنسانية في تضخيم المَلزمة الفقهية والإحاطة بها طبعاً، وهذا أمرٌ سنعود لتفصيله في الجزء الثاني من المقال. ولكن نعيد التذكير هنا أن الحديث عن الظاهرة يتعلق بالتكوينات المؤسسية على اختلاف مجالاتها ومُسمياتها، وعلى أفراد هذه التكوينات. إذ يوجد بالتأكيد أفرادٌ، ربما يصفون أنفسهم بأنهم إسلاميون بمعنى من المعاني، ممن لم يتصالحوا فقط مع الثقافة، وإنما حاولوا ويحاولون مصالحتها مع الدين. بل ربما نقول، يحاولون استعادة علاقتها الطبيعية مع الدين.ثمة مفارقةٌ عمليةٌ عايشها كاتبُ الكلمات صغيراً دون أن يُدرك دلالاتها الحقيقية في ذلك العُمر المُبكر. ففي خضم مُعايشة بعض شرائح الإسلاميين في دمشق السبعينيات المتأخرة، لفَتَت الانتباه ظاهرةُ اختفاءٍ متكرر لبعض (الشباب) الأكثر تنوراً وعقلانيةً وانفتاحاً وموضوعيةً، ممن كان المرء ينجذبُإليهم في تلك الشرائح. ثم إن أحد الأصدقاء، من العارفين بدواخل ذلك المجتمع فسَّر الظاهرة بعد ذلك بفترة، في معرض تقويم تلك المرحلة، حين ذكرَ ما معناهُ أن بعض النابهين والمتميزين كانوا "إذ يتخرجون من الجامعة يتخرجون معها من الجماعة".وفي نفس الإطار، تعددت القصص الواقعية عن حالاتٍ كان فيها أفرادٌ (يُمنعون) من حضور دروس شيخٍ معين، وآخرون (يُحرمون) من (البيعة) والانضمام رسمياً لبعض الحركات والتنظيمات، فقط لأنهم كانوا يحاولون، دون أن يدروا، تمثُّل التعريفات الواردة أعلاه للثقافة. وإنما كانت (مشكلتهم) لدى رافضيهم تتلخصُ في خروجهم على القوانين الصارمة السائدة، وإن لم تكن مكتوبة، في تلك التكوينات، ومُخالفتهم لتقاليدها وأعرافها، إن كان على صعيد مجالات قراءاتهم واهتماماتهم وصداقاتهم، أو على بعض سلوكهم وهندامهم أحياناً (أعرف شخصياً مَن هو ممتنٌ اليوم لهذا "الحرمان" الذي طالهُ، لأنه كان يقرأ كتباً "غير إسلامية" ويُصادِق مِن غير الإسلاميين ويسمع الموسيقى!).بهذا المعنى المُعبِّر، لم تحمل التكوينات الإسلامية خصومةً عميقة للثقافة فقط، بل كانت، ولا تزال، تفتقد القدرة على مجرد استيعاب من يبحثُ عنها وفيها، وبشكلٍ قاطعٍ يوحي كأنه كان يمثل تهديداً وجودياً لها على كثير من المستويات.
1273
| 18 مايو 2014
لا عيب في البحث عن الاستقرار، لكن من الضرورة بمكان أن ندرك المداخل الحقيقية لتحقيقه، ومنها بالتأكيد تحرير القول في مسألة (التقديس) لكثيرٍ من ملامح واقعنا الاجتماعي والثقافي والسياسي. وربما وجب أن يدفعنا لذلك تكاثر أمثلة سقوط المحرمات في واقعنا. والذي يدركُ ملامح هذا العصر يعرف أن هذا كله ليس سوى أول الغيث، وأن القادم أعظم. وإذا كان البعض مصرين على تعريف المحرمات بشكله السائد، فلا يمكن إلا تبشيرهم بأن توالي سقوط المحرمات أصبح قدراً لا فكاك منه. لهذا، يجب أن يبقى هذا الملف مفتوحاً ولو كان في الأمر بعض تكرار.كيف نفهم هذه الظاهرة ونفسرها بشكل أوضح؟ كيف نتعامل معها؟ وكيف يكون هذا التعامل طريقاً للاستقرار بدل الفوضى؟ ثمة عامل أساسي ينبغي الحديث فيه بصراحة ووضوح: إعادة تعريف المحرّمات، إعادة تحرير القول فيما هو (مُحرَّم) و(مُقدَّس) في الثقافة العربية الإسلامية.ففي ثقافة تؤثر السلامة والكسل الذهني وتحتفي بالمنع وسيلة للحفاظ على القيم. وفي ثقافة اختلطت فيها مقاصد الشرع بأفهام البشر بالعادات والتقاليد. وفي ثقافة شكّلت جزءاً كبيراً منها مصالح أفراد أقوياء أو جماعات قوية، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً. توسّعت دائرة المحرّمات، وتكاثرت أنواع المقدّسات.كان كل شيء مضبوطاً في واقع العرب إلا شيئاً واحداً كان عصياً على الضبط. ذلك هو الإفراط في الضبط. ففي مجال الدين كما في مجال السياسة، وفي مجال الفكر والثقافة كما في مجال الاجتماع البشري، وفي مجال الأدب كما في مجال الفن. كان يوجد باستمرار من يقول بضرورة الحفاظ على القيم، والمحافظة على الأصالة، وتأكيد الاستقرار. وكان المدخل السهل دائماً، والمقبول دائماً، هو مدخل المنع والضبط والتحريم.كانت (الظروف) العربية استثنائيةً على الدوام. وكنا دوماً أمام (منعطف) تاريخي. فأضحت مقتضيات فكرة (الحفاظ) و(المحافظة) قوية، بحيث كان نادراً وجود من يريد أن يُتهم بخرقها. وكانت وسائل وأساليب الخرق ضعيفة، بحيث كان عبثياً التفكيرُ بذلك أصلاً.أصبح الإسهامُ في التحريم، والإبداع في الضبط، والتفننُ في المنع، وظيفةً وإنجازاً وطريقاً للمناصب المعنوية والمادية. اشتعلت المنافسة، واحتدم السباق. وفي كل مجال، صار هناك ملكيون أكثر من الملك.لم يعد التحريم في الدين موقوفاً على عالم دين. بل شارك فيه كل من تعلم آيةً وحديثين. لم يعد المنع في السياسة قاصراً على حاكم أو سلطان. وإنما أصَّلَهُ وفصَّلَهُ الانتهازيون وأصحاب المصالح. لم يعد التنظيم الاجتماعي والثقافي والأخلاقي والأدبي والفني محصوراً في دائرة أهل الاختصاص. فتجاوزهم إلى كل من هبّ ودبّ.وكانت أول خطوة، وأسهل خطوة، وأقوى خطوة: توسيع دائرة المحرمات في كل مجال من تلك المجالات. ومع توسيع دائرة المحرمات. تتضخم بشكل سرطاني أنواع المقدسات والممنوعات. ويتضاعف بشكلٍ مضطرد عدد القضايا والأفكار والمقامات التي لا يمكن مسُّها أو النقاش فيها أو مجرد الإشارة إليها.نسي البعض أن كتاب عقيدتهم يُوصف عندما يُذكر بالـ (كريم) وليس بالمقدّس. وأن نبيهم أيضاً يوصف عندما يُذكر بالـ (كريم) وليس بالمقدس. لم ينتبهوا إلى دلالات الفرق المعرفي والفلسفي العميق بين استخدام وصف (المقدس) للإشارة إلى الكتاب والأنبياء في اللغات الأخرى. غفلوا أن ذلك الكتاب لا يدعو الناس إلى (تقديسه). وأنه يدعو بدلاً من ذلك إلى النظر والتفكر والتدبر والسعي والعمل. تجاوزوا حقيقة أن الكعبة (مُشرّفة) وليست (مقدّسة). قفزوا فوق المعاني الكامنة وراء عدم إمكانية استخدام تصريف (القدُّوس) إلا للإشارة إلى الخالق. لم يدركوا الإشارات الكامنة وراء الحرص الشديد الذي كان مطلوباً على تجنّب التقديس للأشخاص وللأماكن وللمظاهر. حصل هذا في فهم الدين. وحصل مثله في المجالات الأخرى.امتلأ قاموس السياسة بالمحرمات حُكماً وعُرفاً. ووصلنا إلى درجةٍ تشبه ما قصده الشاعر حين قال (حمارُ الزعيمِ زعيمُ الحمير). فبات الناس يخشون حتى من الحديث عن ذلك الحمار. ومابين تحريم الحديث عن الزعيم وتجريم الحديث عن حماره، تكاثرت مواضيع التحريم ومواضعه كالأرانب.عَمَرَ قاموس الأخلاق والعادات الاجتماعية بجميع مصطلحات ومشتقات العيب والحرام. اختفت معاني وقيم الصدق والصراحة والنصيحة والوضوح. وأصبح النفاق الاجتماعي السمة الغالبة على المجتمعات.تمّت محاصرة معاني الحرية. وجرى تضييق معاني الاستقلالية والاختيار الشخصي. أضحى الإنسان العربي في مرحلةٍ من المراحل لا يختلف عن الآلة سوى في قدرته على الطعام والشراب والإنجاب.توقف الإبداع في الفكر والثقافة والأدب والفن. صار سهلاً وصفُ كل إبداع بأنه ابتداع. واتهام كل تجديدٍ بأنه طعنٌ للأصالة. وكل خروجٍ على المألوف بأنه منكرٌ وخطيئة. وكل رأيٍ آخر بأنه مخالفٌ للإجماع.لم ينتبه الناس في زحمة الحياة بأن توسيع دائرة المحرمات بشكل سرطاني هو الوصفة المثالية لقتل عقلية المحرمات عندما تأتي ظروف ملائمة. لكن النسيان وعدم الانتباه ليست أعذاراً مقبولة على طريق صناعة مستقبل الجماعات البشرية.وسرعان ما جاءت تلك الظروف في العالم العربي في السنوات القليلة الماضية. فبدأ الانتقال تدريجياً من النقيض إلى النقيض. وشيئاً فشيئا أصبح (التغيير) هو كلمة السر. بات الناس يبحثون عن التغيير وينتظرونه ويتوقعونه ويتلهفون إليه في كل مجال. وبعد سنوات من الضبط والمنع والتحريم والنمطية والتقليد. بدا وكأن التغيير في حد ذاته أصبح هدفاً. ولاح وكأن العرب يريدون تجربة هذا الشيء الذي كان محرماً عليهم، بأي طريقة وبأي ثمن. ثم جاءت ثورة الاتصالات والمعلومات. تيسرت طرق خرق الضبط والنظام. أضحت أساليبُ تحدي المألوف والخروج على السائد في متناول الجميع. وصار ما صار من تساقطٍ للمحرمات.وفي حين تنهار (محرماتٌ) لم يكن يجب ابتداءً أن تكون محرمات. وبينما تُنتهك (مقدسات) ربما لا تكون حقا في عداد المقدسات. يظهر وكأننا مقبلون على مرحلة تطال كل محرّم ومقدّس، إذا ما استمرت الفوضى الراهنة.وما من خطوةٍ تبدو معقولة لوقف ذلك الانهيار سوى إعادة تحرير ماهية المحرمات الحقيقية. ومراجعة القول فيما هو مقدس وما هو غير ذلك. في الدين وفي السياسة. في الأخلاق وفي الاجتماع. في الثقافة والفكر والفن والأدب.وبدون ذلك، ستبقى الأمور مختلطة. وستضيع، في خضم الفوضى التي تصاحب كل تغيير، جميع المقاييس التي يعرف من خلالها الناس ماذا يجب أن يتغير، وماذا يجب أن يبقى على مرور الأيام وتغير الظروف والأحوال.
1843
| 11 مايو 2014
يتساءل المرء عما سيكون عليه موقف عالم الشريعة فيما إذا سُئل اليوم سؤال واحد فقط عن بعض القضايا المعقّدة المتعلقة بالثورة السورية، من موقف أمريكا وروسيا تجاه الثورة إلى ما أحدثتهُ من تغييرات في التركيبة الاجتماعية والديمغرافية والثقافية للمجتمع السوري. ومن تأثير الاقتصاد العالمي في مصير الثورة ومآلها إلى الشكل الإداري والقانوني والسياسي لسوريا المستقبل؟كم من المتخصصين يجب على هذا العالِم أن يسأل؟ وفي كم حقلٍ معرفي ينبغي عليه أن يبحث، إذا أراد أن يُجيب بطريقةٍ منهجية؟سيحتاج على الأقل إلى متخصصين في العلاقات الدولية وفي الاقتصاد وفي علوم السياسة لمعرفة الدور الخطير للاقتصاد وللمنظمات العالمية والشركات العابرة للقارات في رسم صورة الاقتصاد العالمي، وللعلاقة المعقّدة بين السياسة والاقتصاد محلياً وإقليمياً ودولياً. وسيحتاج إلى خبراء في التاريخ والسياسة الداخلية الأمريكية وعلاقتها بالسياسة الخارجية لمعرفة درجة وطبيعة تداخل الآليات التي تُساهم في صناعة القرار عند الإدارة الأمريكية، ولمعرفة أدوار القوى المختلفة في صناعة ذلك القرار. كما أن مثل هذا العالِم سيكون في حاجة إلى إسهام خبراء في الحقل الدبلوماسي حيث تكون المعارك الدبلوماسية أحياناً أكثر شراسةً من الحروب الفعلية، إضافةً إلى متخصصين في الصراعات المسلحة والثورات وحروب الاحتلال والتحرير. دون أن نغفل علماء الاجتماع والنفس واللغويات والجغرافيا والاتصال البشري وغيرهم.وبعد أن يستمع عالمُنا المُحترم إلى جميع وجهات النظر من أولئك الخبراء والمتخصصين، أو مجموعةٍ منهم في قضيةٍ من القضايا، فإن عليه أن يكون قادراً على المقارنة والترجيح بين المصالح العامة للشعوب والمصالح الخاصة لبعض المجموعات البشرية المتنوعة فيها. وكذلك على المقارنة والترجيح بين المصالح الآنية العاجلة والمصالح الإستراتيجية الآجلة. وأهمُّ من هذا وذاك، الترجيح بين المفاسد والمصالح التي ستترتب على فتواه بشكلٍ محسوبٍ بدقة. وبعد أن يُحيط علماً بكل هذا فسيصبح بإمكانه الإجابة على سؤالٍ (واحد) من الأسئلة الكبرى التي تتعلق بمثل هذه المسائل.هنا يأتي السؤال: كيف يستطيع بعض علماء الشريعة إذاً إطلاق فتاوى تدخل فيها مجموعةٌ من القضايا المذكورة أعلاه أو جميعها؟ هل هم مستعدون لتحمل المسؤولية الخطيرة والتَّبعات الجسيمة التي يمكن أن تترتب على مثل هذه الفتاوى؟ وكم مرةً سمعنا عالماً يُسألُ حول مسألةٍ من تلك المسائل الكبرى فيكون جوابهُ: (لا أدري)؟ أو يكون جوابه أن الإفتاء في هذا السؤال يتطلب معرفة اختصاصات ليست متوفرة لديه؟ أو على الأقل، كم مرةً سمعنا عالماً يستمهلُ السائل إلى اللقاء المُقبل ليُراجع بعض الخبراء والمختصين ثم يجيبه بعد ذلك؟!لا يمثل هذا الطرح أي هجوم على العلم الشرعي وأهله، بل إن بعض أهل العلم الذين لا يزالون على منهجية علماء الإسلام المجددين المجتهدين، وهم عادةً أكثرُ صمتاً وأقلﱡ ضجيجاً، يعرفون أن الهدف من مثل هذا العرض هو الدفاع عن قيمة العلم الأصيلة، وأن الغاية هي أن يستعيد العلم الشرعي دوره في ترشيد الحياة المعاصرة بشكلٍ علميٍ ومنهجي، هو أدعى لتحقيق مقاصد الشريعة، بدلاً من استعمال الفتوى في كل مسألةٍ ونازلة من النوازل، بغض النظر عن بضاعة العالِم. وذلك في توظيفٍ خاطئ للحسﱢ الديني بين العرب والمسلمين بشكلٍ عام، وعند السوريين تحديداً، ولمقام علماء الشريعة عند كثيرٍ منهم، ولطفرة وسائل الإعلام والمعلوماتية التي فتحت أمامهم الكثير من الأبواب والنوافذ.وفي غياب المنهجية العلمية الشاملة في التعامل مع مسألة الفتوى والإفتاء فإن الأمر سيكون مدعاةً في البداية للفوضى والتضارب في الآراء، ولمزيدٍ من تشتيت السوريين، في حين كان القصدُ توحيدهم. ثم إنه قد يُصبح في النهاية سبباً في زُهد الناس وإعراضهم بشكلٍ نهائي عن أمرٍ كان حرياً به أن يكون جزءاً من الحلّ، ولكنه أصبح تدريجياً جزءاً من المشكلة في هذا الواقع المعقَّد.ثمة عنصرٌ آخر في الموضوع لابد من الإشارة إليه. إذ المفروض أن أكثر ما يميزُ الإسلام وجود الصلة المباشرة بين الإنسان وربِّه، وقدرة الأول على تلقي تعاليم إلههِ وفهمها دون وسيطٍ يتمثل في طبقة كهنوت أو رجال دين أو غير ذلك من طرق الوساطة وأشكالها.إن احترام التخصص مطلوب كقاعدة، ونحن لا نقول إن جميع الناس سيكونون علماء دين. لكننا نعملُ جميعاً على بناء ثقافة سوريا المستقبل وعلى هدم السلبي في ثقافة ما قبل الثورة. والمحظورُ هنا هو أن تَحدُث بشكلٍ تراكمي على مدى الزمان عمليةُ استقالةٍ نفسيةٍ وفكرية كاملة من قِبل الناس فيما يختص بفهم الإسلام، وأن يُوكلَ هذا الأمر كلياً إلى شريحةٍ معينة يصبح هذا الأمر، شيئاً فشيئاً منوطاً، بها حَصراً.. إلى درجةٍ يمكن أن تقتل الحيوية الذهنية والحراك الفكري الذي ينبغي أن يكون مدخل فهم الإسلام وتنزيله على الواقع، أو تدفع في المستقبل إلى زُهدٍ كامل وإعراضٍ نهائي عن الدين وتعاليمه، فيما إذا ما تحول إلى مؤسسةٍ تسيطر عليها حفنة من رجال الدين.لن ندخل هنا في دلالات قول الإمام الغزالي في (المستصفى): "إن القادر على تحصيل العلم ينبغي أن يطلب الحق بنفسه، فكيف يبني الأمر على عمايةٍ كالعميان وهو بصير"، أو رأي أبو شامة الشافعي حين قال: "فالتوصل إلى الاجتهاد بعد جمع السنن في الكتب المعتمدة إذا رُزق الإنسان الحفظ ومعرفة اللسان أسهل من قبل ذلك".. ولكن من الضرورة بمكان تحقيق معنى الوسطية فيما يتعلق بجهد كل إنسان وقدرته على فهم دينه، وتشجيع الناس على تجنب عقلية الاستسهال والاستقالة في كل ماله علاقة بالدين.ما هو الحل إذاً؟ وهل يحمل هذا الكلام دعوةً إلى ترك الأمور على ما هي عليه في انتظار حلٍ سحري؟ ليس الأمر كذلك على وجه اليقين، فهذه دعوةٌ إلى فتح الملف والتفكير فيه بجديةٍ يستحقها الموضوع. وإذا كان لابد من التفكير بمثل هذا الشكل المؤسسي، وهو مطلوبٌ فعلاً، فالموضوع يحتاج مزيداً من الجهد والتفكير، وفي أكثر من مجال.فالمجلس الإسلامي السوري مثلاً يصف نفسه بأنه (إسلاميٌ سوري). ما المانعُ إذاً من إشراك دوائر أوسع، من أهل القدرة والإخلاص للثورة وقيمها، من غير المسلمين، تحت عنوان الانتماء السوري؟ وما المانع من الاستعانة بشرائح من أهل الخبرة والدراية والاختصاص في العلوم الاجتماعية والإنسانية، ولو لم يكونوا من أهل العلم الشرعي؟أفلا يكون هذا أدعى لامتلاك درجةٍ أعلى من فقه الواقع، ولامتلاك أدوات التعامل معه فيما يحقق مصالح الثورة السورية وأهدافها؟ بل ويأخذ بعين الاعتبار المصير المشترك الذي يعلم الجميع أنهم على طريقه سائرون.. هذه أسئلةٌ تحتاج من أصحاب العلاقة إلى إجابات.
1081
| 04 مايو 2014
نعم. سيكون هذا من المواضيع الحساسة. وستتراوح مواقفُ البعض تجاهه بين الاتهام والتأنيب، مروراً بالعتب المُعلن أو المكتوم. لكن جدية الموقفلا تسمح بتمييع التعامل مع مثل هذه الملفات الخطيرة التي لا يمكن أن تظل مُغلقة، خاصةً في ظل العواصف التي تمر بها الثورة السورية، وفي ضوء التأثير الأساسي لهذه المواضيع على مسيرة الثورة من ناحية، وعلى تركيبة سوريا المستقبل من ناحية ثانية.يُتوقع أن يعترض على الرأي الوارد في هذا المقال مثلاً أولئك الذين يحلمونبوجود جهةٍ إسلامية (سُنيةٍ) واحدة تكون مصدر الرأي والقرار لغالبيةالسوريين.. وسيعتقد هؤلاء أن المقال يناقض الدعوة إلى وحدة الكلمة. لكن من الممكن أيضاً أن يسيء فهم المراد من هذا الكلام بعض المثقفين والعلماء الأكثر موضوعية وحياداً. فالضغوط التي يتعرض لها السوريون من جانب، والواقع الصعب والمعقد لثورتهم من جانب آخر، كلها أسباب تزيد من العبء النفسي المتزايد على الجميع لإيجاد حلٍ ما.. ولما كانت الفرقةُ في الرأي والموقف سبباً أساسياً من أسباب هذا الواقع في نظر الكثيرين، وهذا صحيح، فإن البحث عن كل ما يجمع ولا يُفرﱢق يصبح في نظرهم مشروعاً ومطلوباً ومرغوباً فيه. من هنا يفهم الإنسان شعارات الوحدة ويتفهم الدافع لتشكيل هيئاتٍ ومنظماتٍ تجمع الكلمة، وتُوحد الرأي تجاه القضايا الأساسية التي تواجه الجميع في هذه المرحلة الحساسة.رغم ذلك، هناك فرقٌ بين الشعور بالحاجة إلى شيء وبين بناء مشروعٍ يحقق أهدافه الحقيقية. إذ لابد من القيام بجردةِ حساب إستراتيجية، من منطلقات شرعية وعلمية وواقعية، تأخذ بعين الاعتبار كلﱠ الآثار والنتائج الإيجابية والسلبية التي ستترتب على البرامج والهياكل التي تُطرح ويعتقد البعض، ببراءةٍ وإخلاصٍ أحياناً، أنها تُحقق المطلوب. خاصة عندما تُؤخذُ القرارات تحت مطارق الضغوط النفسية والعملية الهائلة. ونحن عندما نتحدث عن الصفة الإستراتيجية لجردة الحساب المطلوبة، فإن هذا يعني تحديداً امتلاكَ القدرة على رؤية الآثار بعيدة المدى لأي مشروع، بدلاً من الوقوف عند الآثار الظاهرية القريبة له.نطرح هذا الكلام تعليقاً على مشروع (المجلس الإسلامي السوري) الذي أُعلن تشكيله منذ فترة ليكون: "مرجعيةً إسلامية للشعب السوري، لتسديد مسيرته والنظر بقضاياه العامة"، كما ورد في بيان الإعلان عن المجلس.ورغم المقام المحفوظ لمن شاركَ في هذا المشروع، إلا أن هذا لا يعنيوجودَ مناعةٍ أو قدسيةٍ أو أي صفةٍ أخرى تمنع الحوارَ فيه ومناقشته على كل المستويات. وما دام المنطلق المشترك هو البحث عن المصلحة العامة، فإن المجال يصبح مفتوحاً لجميع من يريد أن يدلي بدلوهِ باحترامٍ ومنهجية وموضوعية.بناءً على هذا يمكن التصريح بأن مثل هذا المشروع، بالشكل الذي تمﱠ عليه، يمكن أن ينطوي على عدة محاذير، نعرضها هنا وفي المقال القادم. فمن جهة، يمكن أن يتحول المجلس إلى ما يشبه (الفاتيكان) السوري، بمعنى أن يتولى مهمات لا يجوز أن تنحصر في أفراده، وأن يُصدرَ توصيات وقرارات وتوجيهات تؤثر في مصير السوريين جميعاً، دون أن تمتلك تلك القرارات بالضرورة كل المقومات والشروط المطلوبة لإصدارها بما يحقق المصالح العامة.والمسألة الحساسة التي يجب الانتباه إليها هنا تتمثل في ذلك الارتباط الدقيق الذي أصبح سائداً بين الفتوى الشرعية وبين القرارات السياسية والاقتصادية والإدارية. فرغم أن المُعلن أو المُتعارف عليه أن المجلس سيختصﱡ بإصدار فتاوى شرعية، غير أن القاصي والداني يدركان أن تلك الفتاوى الشرعية تتعلق في حقيقتها، وبشكلٍ كبير، بالمسائل الكبرى السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية التي تشغل الواقع السوري المعاصر.والمشكلة هنا أن إصدار تلك الفتاوى، وهي تمثل في حقيقتها مواقفَ سياسيةوأحكاماً اقتصادية وتوجهاتٍ ثقافية، يتطلب وجود دراسات وتحليلات في غاية العمق والتنوع والشمول من جهة الاختصاص.. وحيث إن تخصص الغالبية العظمى من الشخصيات التي تعمل على هذا المشروع، إن لم يكن جميعهم، ينحصر في إطار العلوم الشرعية، فإن من الصعوبة بمكان أن تتوفر الشروط العلمية اللازمة التي تضمنُ كونَ المسألة قيدَ البحث قد فُهمت ودُرست بالشكل المطلوب. وبالتالي، فإن الفتوى أو الحكم الصادر بخصوصها سيحمل، لا محالة، درجةً من النقص والقصور. الأمر الذييمكن أن يؤدي إلى ظهور تَبعاتٍ عملية غير محمودة النتائج، هذا إذا لم يؤدِّ الأمر بمجمله إلى حصول كوارث على أكثر من صعيد.ومع الاحترام المطلوب للمتخصصين في العلوم الشرعية، غير أن الصراحة والواقعية يقتضيان التأكيد بأن عصر الموسوعات الكبرى المتمثل في بعض العلماء انتهى منذ زمن بعيد. وأصغرُ إنسانٍ يمتلك شيئا من العلم الأصيل بالدين في هذا الزمان ويحترم نفسه، يستحي أن يدعي معرفته بجوانب السياسة والاقتصاد والاجتماع والفكر والتاريخ والثقافة والأدب والعلوم.لقد آن الأوان لنأخذ بكل جدﱢية التعقيدَ البالغ الذي أصبح طابَعَ الحياةاليوم، ونُدرك الحيوية الهائلة التي صارت تميز واقعنا المعاصر، والتي بات من المستحيل إدراك أبعادُها أو التعامل معها بعيداً عن جملةٍ من الفنون والعلوم والتخصصات التي مازالت ثقافتنا الإسلامية والعربية والسورية زاهدةً فيها، وفي مقدمتها تخصصات العلوم الاجتماعية.ففي حين كانت العوامل التي تؤثر في الماضي في حياة الإنسان، وفي مصير الأمم والشعوب، محدودةً عددياً، ومحصورةً في بيئته الجغرافية وواقعه الاجتماعي والسياسي المعيّن. تزايدت تلك العوامل اليوم وتنوّعت بشكل يستعصي على الحصر.وفي حين كان العلماء فيما مضى يتّصفون بالموسوعية، فنجدُ أحدهم عالماً في الدين والاجتماع والفلك والطب والكيمياء وما إليها، صارت غايةُ المُنى لعلماء اليوم أن تكفي حياتُهم للإحاطة الشاملة الدقيقة ليس بعلمٍ واحدٍ فقط، وإنما بأمرٍ جزئي في علمٍ من العلوم.وأصبح من أهم ملامح هذا العصر أن كثيراً من تلك العمليات الحياتية العفوية التي كانت تمارسُها المجتمعات، أو التي كان الأفراد يقومون بها في الماضي، صارت اليوم علوماً تُدرّسُ في المدارس والجامعات، تُكتبُ حولها المقالات والكتب والأبحاث، وتُقام لها حلقات البحث والندوات والمؤتمرات.وفي الخلاصة، فإنه لم يعد هناك تقريباً شيءٌ من أمور البشر يُمارسُ عفوياً في هذا الزمان. وإذا كان في بلادنا من لا يزال يعتقد ذلك بلسان الحال إن لم يكن بلسان المقال، فإنما ينتج ذلك عن جهلٍ بهذا العصر وبهذا العالم، وبالإنسان الذي يعيش فيهما. وبالتالي، فإن من الطبيعي أنه لا يستطيع إنسانٌ يحمل رسالةً أو قضية أن يعيش كما يستحق أن يعيش في هذا العصر وفي هذا العالم، فضلاً عن أن يؤدي رسالته ويخدم قضيته، ما لم يدرك تلك الحقيقة الكبرى أولاً، ثم يتحرك وفقاً لمقتضياتها في واقع الحياة.
1072
| 27 أبريل 2014
ربما كان من فضائل الثورة السورية أنها سهلت على الناس فهم السياسة الدولية من خلال مصطلح (التشبيح). فلاديمير بوتين، قيصر روسيا الجديد، شبيحٌ دوليٌ بامتياز.يشتري الولاءات، ويُحرك عملاءه في مختلف أنحاء أوكرانيا من القرم إلى دينتسك مروراً بماريوبول وغيرها من المدن والمناطق.يُصادر حق الشعب الأوكراني في تقرير مصيره السياسي، فيتحدث باسمه ليلغي شرعية الحكومة الأوكرانية بكل بساطة قائلاً: "نعتبر اليوم السلطات الأوكرانية غير شرعية، وليس بإمكانها أن تكون شرعية إذ لم تحصل على تفويض وطني شامل لإدارة البلاد".يمارس الكذب بكل وقاحة وجرأة، فيؤكد أن كل الأحاديث عن "يد موسكو" في شرق أوكرانيا وغيرها هي مجرد هراء، رافضا بشكلٍ مطلق وجود أي قوات روسية أو أجهزة خاصة أو خبراء في شرق أوكرانيا، ومؤكداً أن من يتحرك هم مجرد مواطنين محليين لا يستطيعون ترك أراضيهم ويجب إجراء الحوار معهم.هكذا، بكل بساطة، يتمكن المواطنون البسطاء من وقف رتلٍ من المدرعات الأوكرانية، ومن احتلال ثكنات عسكرية في مناطق متفرقة من البلاد، والسيطرة على مباني البلدية في مدينة ماريوبول المرفئية الصناعية ورفع أعلام روسيا وإعلان جمهورية "دونيتسك" فيها.يُطلق هذه الادعاءات في حين يعرف كل متابع قريب من الواقع أن غالبية من يتحرك هم عملياً مجموعات جنود من قوات النخبة الروسية، تماماً على غرار المجموعات التي نشطت في القرم قبل ضمها إلى روسيا الشهر الماضي.يمارس البلطجة مؤكداً أن الجزء الأكبر من سفن أسطول البحر الأسود الروسي سينقل من مدينة نوفوروسيسك إلى مدينة سيفاستوبل التي كانت من أهم مدن أوكرانيا واستولت عليها روسيا مؤخراً.يلعب لعبة توزيع الأدوار، فيطلب من وزير خارجيته عقد اتفاق مع كيري في جنيف لحل الأزمة، ويوحي لعملائه في أوكرانيا بالتنصل من الاتفاق بشكلٍ كامل بدعوى أنهم ليسوا معنيين بها ولم يوقعوا عليها.لا يكتفي الشبيح العالمي الجديد بأوكرانيا بل يتدخل في مولدوفيا ويوجه تحذيراً لحكومتها طالباً منها أن تُعطي منطقة ترانسندستريا الانفصالية فيها حق تقرير المصير.يمارس المناورات السياسية المُبتذلة، فيهدد أوروبا بقطع شريان حياتها من الغاز، ولكن باسم خلافٍ على الأسعار مع حكومة أوكرانيا.يستخدم الفاسدين لتوظيف الهياكل القضائية والتشريعية لتحقيق أهدافه، فيُحرك بعض المرتزقة من نواب (الدوما)، فيطلب هؤلاء فتح التحقيق في الأسباب التي أدت إلى تفكيك الاتحاد السوفيتي، ومعرفة الأشخاص الذي كانوا وراء ذلك!.يستعمل التهديد والوعيد فيقول في لقائه (المفتوح) مع المواطنين:"حلف شمال الأطلسي لا يخيفني.. يمكننا بأنفسنا أن نخنقهم جميعاً، لماذا أنتم خائفون؟"."آملُ ألا أضطر إلى استخدام حقي في إرسال قوات عسكرية إلى أوكرانيا".بمثل هذه العبارات يُعلن قيصر روسيا الجديد ولادة حقبةٍ جديدة في العلاقات الدولية.لا يعني هذا قدرة روسيا على السيطرة والتحكم في هذه الحقبة، فهذه درجةٌ من المبالغة والتهويل. كل ما في الأمر أنها ستتمكن أكثر من لعب دورٍ (تشبيحي) متزايد على الصعيد الدولي في هذه الحقبة. فكل المؤشرات تدل على ذلك.المفارقة الأكبر أن واقع النظام الدولي السائد هو الذي يسمح بهذه العملية، وأن ممارسات روسيا وقيصرها تكشف سوءات هذا النظام ومشكلاته العميقة سياسياً وأخلاقياً، وربما اجتماعياً وثقافياً.والذي يسمع ردود أفعال الأوروبيين والأمريكان على قرارات بوتن وتصريحاته يعتقد أن هؤلاء ينتمون لجمهوريات الموز. فعلى مدى أسابيع طويلة، ينتقل المسؤولون في القارتين من تحذيرٍ إلى تحذير بتشديد العقوبات، دون أي مصداقيةٍ لتهديداتهم المتكررة.فقد صرح دبلوماسي أمريكي رافق كيري في رحلته الأخيرة لجنيف أن الرئيس الأمريكي "كان واضحاً جداً بأنه إذا لم تغتنم روسيا هذه الفرصة لتخفيف التوتر فإن الثمن الذي سيتعين عليها دفعه سيرتفع". والحقيقة أن أوباما نفسه لم يقصر في ممارسة التهديد بالثبور وعظائم الأمور، إذ قال في مقابلة مع شبكة "سي بي سي نيوز" إنه "في كل مرة تتخذ فيها روسيا إجراءات تهدف إلى زعزعة استقرار أوكرانيا وانتهاك سيادتها ستكون هناك عواقب". المضحك المبكي أن الرجل قلل من احتمالات مواجهة عسكرية بين الولايات المتحدة وروسيا على خلفية تصاعد التوتر في أوكرانيا، ليس بسبب افتقاد الإرادة والقدرة لدى أمريكا المتراجعة، بل لأن "روسيا لا تريد أن تخوض حرباً مع الولايات المتحدة لعلمها بتفوق الجيش الأمريكي" كما قال!.أما الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند فقد (هدد) الخميس أن الاتحاد الأوروبي يبحث تشديداً لعقوباته في حال فشل محادثات جنيف. في حين أكدت كاثرين آشتون، مسؤولة الشوون الخارجية في الاتحاد الأوروبي أن النقاشات مع الروس كانت "بناءةً وصريحة".وأخيراً، لم يجد رئيس المفوضية الأوروبية ما يفعلهُ، بعد الموافقة على إجراء محادثات مع روسيا حول الغاز، أكثر من التحذير بأن "مصداقيتها كمصدرٍ للطاقة ستكون على المحك" بعد تهديدها بوقف الإمدادات.لا عجبَ، مع كل هذا التهديد والوعيد الفارغ، أن تُدرك روسيا أن تشبيحها مؤثرٌ وناجح، وأنها تتعامل فعلاً مع منظومةٍ دوليةٍ بدأت تهترء من الداخل.ثمة تحليلٌ شاملٌ ومُعبر يُفسر الظاهرة نشره منذ أسابيع الكاتب والصحفي Ben Judah في موقع Politico الإخباري الأمريكي، وهو يشرح كيف تحول المسؤولون الأوروبيون والأمريكان إلى قطط وديعة ترجو وُدﱠ الدب الروسي لأن الأمر يتعلق في نهاية المطاف بمصالح اقتصادية كبرى، خاصة وعامة، لا مجال معها للحديث في المبادئ. يكفي كمثالٍ واحد فقط تسريبُ وثيقةٍ من مقر رئاسة الوزراء في بريطانيا مفادها أن الحكومة ستحتج وتشجب، ولكنها ستتجنب أي إشارة لأي تجميد للأموال الروسية.ليس المقامُ هنا مقام الاستمتاع بهجاء الغرب، والشعور بالراحة النفسية من شتمهِ كما يحصل كثيراً في ثقافتنا العربية والإسلامية.ولاشك أن في هذا الواقع الدولي خسارةً على المدى المنظور للدول والشعوب التي تبحث عن حقها في الحياة بعزٍ وكرامة. لكن ما يجري مؤشر على أزمةٍ إنسانيةٍ كبرى لن تكون الدول الغربية نفسها بمنجى من تَبِعاتها.الأهمﱡ من ذلك، قد يمثل هذا الواقع المدخلَ الوحيد الذي يُقنع تلك الدول والشعوب بأن عملها وإنجازها هو، وهو وحدهُ، الذي سيصنع مصيرها في نهاية المطاف.
814
| 20 أبريل 2014
حدّثني أحدُ الأصدقاء في الآونة الأخيرة بالأصالة عن نفسه، وبالنيابة عن آخرين كما فهمتُ من الحديث، مُشفقاً، ومحذّراً بأن الحديث عن افتقار كثيرٍ من الإسلاميين للفكر السياسي المنهجي، يعني وُلوجاً في ساحة المحظورات السائدة في بعض أوساط مجتمعاتنا العربية بشكلٍ عام، والسوري الراهن تحديداً.. خاصة، كما قال الصديق: "وإنك تشمل أحياناً العلماء ورجال الدين في إطار الإسلاميين الذين تتحدث عنهم بشكل عام". وتابع الصديق بأن هذا يمكن أن يُفهم لدى البعض بأنه مطالبةٌ بحظر تدخّل العلماء ورجال الدين في السياسة، بل إن البعض الآخر يمكن أن يُفسّره، ودائماً حسب نقل الصديق، على أنه دعوةٌ إلى فصل الدين عن السياسة!ورغم تفهمّي لمشاعر الصديق وشكري لاهتمامه، غير أنني سارعتُ إلى التأكيد له بأن هناك طريقة في فهم الدين يجب حتماً أن تُفصل عن السياسة.. وبأن هناك أفراداً في المجتمع ربما يحملون بعض الشهادات الشرعية، وربما ينطلقون في طروحاتهم وحركتهم من (إخلاصٍ) ينسجم مع حدود فهمهم، لكن من الواجب قطعاً أن يتمّ رفض مشاركتُهم في صناعة القرار السياسي بأي شكلٍ من الأشكال. على الأقل في رأيي الذي لا أستطيع إصدار قراراتٍ عملية من خلاله، وإنما يبقى مجرد رأي.أكررُ في كتاباتي أن هناك فرقاً دقيقاً وحاسماً، آن الأوان لإدراكه والعمل بمقتضاه، فيما يختص بعلاقة الإسلاميين، ومنهم العلماء ورجال الدين، بالفكر السياسي وبصناعة السياسة. ولقد كان المقصود من الحديث سابقاً في الموضوع، ومن العرض هنا، الإشارة إلى أننا بحاجة إلى السياسي الذي يحمل همّ وطنه وشعبه والبشرية جمعاء من منطلقات حضارية إسلامية، ويفهم هذا العالم بتوازن وواقعية، ويمارس السياسة تنظيراً وتطبيقاً من خلال تلك المنطلقات.وواقعنا المُعقد ليس بحاجة إلى رجل دين يحاول أن يتعامل مع السياسة بناء على مبلغ علمه من الرصيد الشرعي (النقلي البحت في أغلب الحالات)، ومبلغ علمه عن الدنيا الذي يُحصلهُ من مقتطفات من الأخبار والنقولات.أما إذا امتلك رجل الدين خبرة وإمكانات ومعرفة تمكّنه من الحركة في ساحة السياسة بما يحقق مصالح بلاده، وبما يُظهر لأبناء شعبه درجة أهليته لتلك الحركة، فإن أحداً لا يستطيع أن يضع عليه (فيتو) فقط، لأن من صفاته كونهُ رجل دين. ثمة أمثلة في العالم العربي والإسلامي نضرب منها تاريخياً مثال الرئيس الإيراني السابق، والمعارض الإصلاحي الحالي للنظام الإيراني، محمد خاتمي.من هنا، قلت للصديق: هاتوا لنا رجل دين قرأ الفكر العالمي وتَمرّسَ بالفلسفة العالمية وعلّم ذلك في الجامعات. هاتوا لنا رجلاً كان علَماً في ميدان العلم والثقافة والفكر بكل ألوانه من واقع عمله مديراً للمكتبة العامة في عاصمة بلاده.هاتوا لنا رجلاً عايش الغرب وخَبِرَ واقعه وأدرك إيجابياته وكمونه وعرف سلبياته ونواقصه بتوازن ودقة. هاتوا لنا رجلاً عايش الوجود الإسلامي في بيئةٍ غير بيئته المحلية. ورأى بعين اليقين تلك الحيوية الكامنة في تعاليم الإسلام للتعامل مع واقعٍ مختلف ومع أولويات مغايرة. وأبصرَ قدرته على استيعاب ذلك الواقع وتلك المتغيرات. كل هذا من واقع عمله مديراً لمركز إسلامي في الغرب لمدة سنوات كما كان خاتمي.والأهم من ذلك، قلت للصديق، هاتوا لنا رجلاً يدافع عن الحريات ويثق بقوة الإسلام الكامنة، ولا يخاف عليه بكل جلاله من مقالٍ كُتب هنا أو كتابٍ صدر هناك أو قصيدةٍ أُلقيت هنالك.هاتوا لنا رجلاً يصفه، على الصعيد الفكري، الدكتور محمد سعيد العوا في تقديمه لكتاب خاتمي (الإسلام والعالم) بأنه "يمثل الفكر الوسطي المنفتح الذي يرى التعاليم الإسلامية في صورتها الحقيقية: رحمة ونعمة ورفقا بالناس، وتحريراً لهم من القيود، وإطلاقاً لطاقاتهم نحو الابتكار والإبداع، حتى في المجالات التي يرى آخرون أنها قد انتهى فيها الكلام إلى قولٍ فصلٍ لا رادّ له ولا مُعقّب عليه".ويصفهُ، على الصعيد الشخصي، الصحفي جورج ناصيف قائلاً بأنه لا يعرف "من يعلوهُ عذوبة وطفولية وخَفراً"، وبأنه "لا يُشبه جنسه، ولا يُشبه مقامهُ، ولا يُشبهُ موقعهُ" ناقلاً عن زوجته قولها بأنه "كان يساعدها في شؤون المنزل كثيراً يوم كان وزيراً ثم اضطر اليوم إلى الإقلال، لكنه لا يُحجم.. وبأنه محاورٌ دائمٌ لابنتيه الطالبتين"، ثم شارحاً كيف أن "محمد خاتمي، الرجل العذب، بكى.. بكل عنفوان، بكل كبر، بكل نبل، لأنه حنثَ بوعد أو التقى طفلاً بائساً".. وذاكراً الانطباع الذي يتركه الرجل في عيون من يلاقونه بِكَونِهِ "متحفظاً من كل ثقل، طليقاً إلا من طراوته، حراً إلا من قلبه.. متجاوزاً العمارات الفلسفية والفقهية.. وديعاً لا تأخذه عزّة ولا تفتنه غواية سلطة أو مال". ثم ليضع ناصيف كل هذه الصفات في مقابل كثيرٍ من السادة "الناطقين باسم الله كثيراً، الصارخين باسم الله كثيراً، والعابسين باسم الله كثيراً"!.وفي الختام قلت للصديق، هاتوا لنا رجلاً يتحدث عن ملابسات تنوع التركيبة السكانية للبلاد، وعن قضايا الثقافة والتعليم والأمية والفن والأدب، وعن مصادر ووسائل تحريك عجلة الاقتصاد الداخلية والخارجية، وعن مسألة اسمها التضخم وأخرى اسمها البطالة، وعن النظام الضريبي، ونظام الضمان الاجتماعي، وعن توازنات وطبيعة العلاقات الخارجية والقواعد الناظمة لها. ويتحدث عن ضرورة توجيه الجهود والطاقات للتعامل مع هذه القضايا، بالتعاون بين قطاعات الشعب والحكومة، بشعور كامل بالمسؤولية تجاه حاضر ومستقبل البلاد والعباد، دون همزٍ، ولا لمزٍ، ولا شتيمةٍ، ولا تكفير. ودون إلقاء لكامل التبعة فيما يتعلق بالمشكلات على الاستعمار وعلى المؤامرات الدولية، ودون اتهامات بالخروج عن الملة والخيانة، ودون تحريكٍ خاطئ لغرائز الشباب وحماسهم وتوجيهه في الاتجاه الخاطئ.باختصار، هاتوا لنا رجلاً مثل خاتمي فَعَلَ ويفعلُ كل هذا بعد أن وصل رصيده من العلم الشرعي مداهُ، وبلغ غايتهُ، على مدى عقودٍ من الدراسة الشرعية الدينية المتعمّقة. هاتوا لنا مثل هذا الرجل، ونحن لا نقول إنه سيكون ملاكاً لا يخطئ، أو معجزة وكأنها هبة من السماء لا تحتاج لمزيد.وإنما فقط، ابحثوا عنه، واعملوا على إيجاده، ثم قدّموه في الصفوف، وانظروا ساعتها إن كان أحدٌ سيمنعهُ، أو يستطيع أن يمنعه ابتداءً من التفكير بالسياسة والعمل بها بأي أسلوبٍ من الأساليب.
2102
| 13 أبريل 2014
كان عنترة بن شداد – كما يذكرُ تراثنا العربي – عبداً من عبيد بني عبس، لكن هذا العبد الذي كانت طاقاته تُستخدم في معظم الأحيان في وظائف جانبية، كان في الوقت نفسه فارساً مغواراً شديد البأس والهمة.وفي يوم من الأيام، أغارت قبيلةٌ معاديةٌ على قبيلة أسياده بينما كان عنترة يحلب النوق، فلم يُبالِ الرجلُ كثيراً واستمرّ يقوم بمهمته ووظيفته التي دائماً ما قال الأشراف والسادة في قبيلته إنها مهمة أمثاله ووظيفتهم الوحيدة.احتدم أوار المعركة، وبدأت رياح النصر تهبﱡ في اتجاه القبيلة المغيرة. نظر الأسياد من حولهم فأبصروا ديارهم وقد صارت نهباً للمعتدي، وأهليهم وقد صاروا أقرب ما يكون إلى القتل والسبي، ومكتسباتهم وثرواتهم وقد باتت في متناول يد الغزاة الغرباء، فبدأوا يبحثون عن أي وسيلة يمكن لهم من خلالها الدفاع عن الأرض وحماية الأهلين والمحافظة على الثروات والمكتسبات.كان من هؤلاء السادة سيّدُ عنترة الذي نظر إليه نظرةً يختلط فيها الاستهجان بالعتاب وكأنه يقول له: أهذا هو الولاءُ لقومك يا عنترة؟ أهذا هو الإخلاص؟ أهكذا يكون موقفك السلبي في الوقت الذي يحتاج فيه قومك أشدّ ما يحتاجون إلى قوتك وشجاعتك وبأسك؟ أهذا هو جزاء الإحسان لمن آواك وأطعمك؟ وفوق هذا، ألا تخجل من أن يكون لديك هذا الرصيد من القوة ثم لا يكون لديك من موقفٍ غير هذا الموقف المتخاذل؟أحسّ عنترة بحرارة نظرات سيده تلسعه، وشعر أن هناك معاني جديدة في تلك النظرة لم تكن موجودة من قبل، لكنه لم يملك إلا أن يردّ عليه بدوره بنظرةٍ يختلط فيها العتاب بالغضب وكأنه يقول له: أي ولاءٍ يا سيدي وأي إخلاص؟ وهل من ولاءٍ وإخلاص للعبد أكثر من أن يقوم بمهماته التي يحددها السادة والأشراف؟ وهل رأيتُ أو شعرتُ منك في يومٍ أن لقوتي ولبأسي أي وظيفة، اللهم فيما سوى الترفيه والاستعراض؟! وما الذي تغير حتى يُقالَ لي إن لقوتي ولبأسي اليوم وظيفةً أخرى لم أسمع بها ولم أعتدْ عليها في يومٍ من الأيام؟وفوق هذا، أتعتقد يا سيدي أن توفير الطعام والمأوى في حدّ ذاته هو ما يميز الإنسان؟ أنت يا سيدي توفر الطعام والمأوى لإِبلكَ وبهائمك أيضاً، فهل يميزني هذا عنهم في شيء؟ ولو كانت إنسانيةُ الإنسان تقتصر على هذا يا سيدي لكفاني من يرزق الطيور في وكناتها، والعصافير في أعشاشها!ولكن، لكي لا أظلمك يا سيدي، أنا أعلم – يشهد الله – أن في نظراتك بريقاً جميلاً لم أعهدهُ موجوداً فيها من قبل، أو ربما لم تسنح لي الفرصة لأن أراه من قبل.. رغم ذلك، أليس محزناً إلى درجة الفجيعة أنك لست قادراً يا سيدي، بعد كل هذا الزمان، على أن تتجاوز مرحلة بريق العيون؟ لماذا لا تحدثني يا سيدي بلسانك المبين؟ لماذا لا تُخاطبني مباشرةً وتحدثني بما وراء هذا البريق الرائع من أفكار ومشاعر؟ لماذا؟ لماذا؟دار هذا الحوار الصامت عبر لغة العيون بين الرجلين لحظات، ثم أشاح عنترة بوجهه وعاد إلى عمله في زاويةٍ نائيةٍ من زوايا الديار، بينما كان لهيب المعركة في قلبها يزداد أُواراً، حيث بدأت ملامح هزيمة عبس وانكسارها تلوح في الأفق القريب.ومرةً ثانية، نظر سيدُ عنترة إلى ما يجري هناك، ثم نظر إلى عنترة وهو يفكر في الرسائل التي نقلتها نظراته، فأحسّ بمشاعر متضاربة.. لكنه تحامل على نفسه وعمل جاهداً على تحريك فكّيه ولسانه حتى خرج منهما هذا السؤال بترددٍ وتأتأة: أفلا.. تَكِرُّ.. يا.. عنترة؟سمع عنترة السؤال بأذنيه هذه المرة، وعرف أن سيده مازال يصارع بشراسة ماضياً راسخاً من التقاليد والعادات والأعراف. عرف أن سيده التقط كثيراً من الرسائل التي نقلتها نظراته الحادة قبل قليل، لكنه عرف أيضاً أن لحظة الحقيقة قد حانت، وأن هذه اللحظة باتت تتطلب حواراً فيما وراء النظرات والإيماءات المتبادلة.. فقال لسيده بصريح العبارة: العبدُ يا سيدي لا يُحسنُ الكرّ، وإنما يُحسن الحَلْبَ والصَّرّ!انفجرت الجملة الأخيرة في وجه السيد، فلم يعد يرى شيئاً مما يجري حوله على الإطلاق. وفي خلال ثوانٍ معدودات، بدأت كلمات عنترة تتغلغل في كيان الرجل وتجتاح أعماق مكنونه النفسي والفكري، كأنها موجةٌ جبارةٌ من النور تغسل ذلك الكيان من جذوره، وتمسح عنه أدران قرونٍ من الظنون والأوهام وسوء الفهم. وشعر هذا الإنسان / السيد وكأنه يولد من جديد، وهو يبصر جملةً من الحقائق التي غابت عن بصره على مدى الأيام والسنين، تتفجر بقوةٍ في وجدانه واحدةً تلو الأخرى.. عن الأوطان والديار والثروات والمكتسبات.. وعن الأصدقاء والأعداء.. وعن مسؤوليات الكبار وطفوليات الصغار.. بل وعن السادة والأشراف والعبيد.حدث هذا كله في لحظات، جاءت مثلما تأتي بين الحين والآخر على الأمم والشعوب لحظاتٌ نادرةٌ يجري فيها تصحيح مسار التاريخ وتعديل وجهته.. لحظاتٌ لم يكن بعدها من الرجل إلا أن أطلق صرخته المشهورة: كُرَّ يا عنترة، كُرَّ وأنت حر..هكذا، كما هي، دون تردد، وبعيداً عن أي كلامٍ حمّالٍ للأوجه والتفسيرات، وبأشدّ ما يمكن من القوة والصراحة والوضوح.. وبشكلٍ جعلها تخترق وجدان عنترة وتقلب كيانه رأساً على عقب، وتدفعه إلى اقتحام جحيم المعركة وتغيير معادلاتها وموازينها إلى درجة كبيرة، تماماً مثلما تفعل جمرةُ الحرية عندما تلامس مكامن الكرامة الحقيقية في قلب كلﱢ إنسان.روايةٌ مُعبرةٌ من روايات تاريخنا نسردُها، لا كما تفعل الجدﱠاتُ لينام الأطفال، بل لنستيقظ معاً على ما يقوي أوطاننا ويزيدها منَعةً وصلابةً داخلية في وجه الأعاصير التي تحيط بنا من كل مكان.
1555
| 06 أبريل 2014
في حقيقة الأمر، لا تتعلق رواية (أسلمة) الثورة السورية بممارسات (داعش) وأفكارها وأساليبها المحروقة التي لفظها المجتمع السوري، ورفضَتها تركيبتهُ الثقافية والاجتماعية. وإنما يتجاوز الأمر ذلك إلى مجمل التحديات والأسئلة الكبرى التي قذفتها الثورة وتطوراتها في وجه الإسلاميين السوريين بمختلف شرائحهم ومكوناتهم، لا فيما يتعلق بدورهم في الثورة فقط، وإنما بطريقة فهمهم للإسلام وتنزيله على الواقع السوري بخصوصياته الآنية والمستقبلية.وكما ذكرنا في المقال السابق، تتعددُ التحديات أمام هؤلاء من التحدي الثقافي إلى التحدي الأخلاقي، مروراً بالتحديات التنظيمية والسياسية والعسكرية، لتطرح سؤالاً كبيراً: أيﱡ إسلامٍ هذا الذي يريدون أن يكون له حضورٌ في سوريا الثورة وسوريا المستقبل؟نعم، لا نؤمن فقط أن حضور الإسلام في الثورة ودولتها القادمة هو من طبائع الأمور بالنسبة لبلدٍ مثل سوريا ومجتمعٍ كمجتمعها، بل إننا على قناعة أن ثمة إضافة كبرى ستنتج عن هذا الأمر، لكن مفرق الطريق يكمن في طبيعة الفهم لهذا الإسلام.والمؤكدُ أن ممارسات الغالبية العظمى من الإسلاميين السوريين تشكل، حتى الآن، عاملاً في زيادة التساؤلات أكثر من قدرتها بكثير على تقديم الإجابات.لن يحتاج إثباتُ هذه الحقيقة للبحث في قضايا معرفية وفلسفية، وإنما ستكفي الدلالات الواردة في مسائل مفهومة ومُتداولة في الفضاء العام، وستكون الإشارة حصراً إلى ما له علاقةٌ بالقرآن، تجنباً لأي شبهاتٍ أو تفسيرات.ثمة في الأدبيات الإسلامية، على سبيل المثال، مصطلحٌ يتحدث عن (أسباب النصر والهزيمة). وفي إطار تعريف هذا المصطلح وتفصيله، تندرج جملةٌ من المحددات والمنطلقات التي يكاد يعرفها كل فردٍ من الإسلاميين. لكن حجم المفارقة بين النظرية والتطبيق فيما يتعلق بها خلال العامين الماضيين، على الأقل، يفرضُ نفسه بشكلٍ يدعو إلى التساؤل في أحسن الأحوال.{ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهبَ ريحُكُم}، تقول الآية الكريمة بكل وضوح. لكن حجم الخلافات والانقسامات، بل والمؤامرات والدسائس والمكائد السياسية والتنظيمية والعسكرية، التي شهدها ويشهدها فضاء الإسلاميين السوريين، يوحي بغيابٍ كامل لأي أثرٍ يتعلق بالآية المذكورة في قواعد عملهم في مختلف المجالات. والذي يعرفُ درجة التشظي والخلاف في أوساط الإسلاميين يوقن بأن ثمة إشكالية معرفية وأخلاقية كبرى تكمن وراء هجر هذه القاعدة الواضحة والبسيطة بهذا الشكل الغريب.هل نسيَ الإسلاميون جميعاً وجود هذه الآية المفصلية التي تُحدد بأسلوبها الواضح والرشيق قانوناً من قوانين الاجتماع البشري، وتحديداً في ظرفٍ مثل ظرف الثورة؟ أم أن فيهم مشكلةً عضويةً لا تجعلهم قادرين على الأخذ بمقتضياتها؟ أياً كان الجواب فإنه، بكل بساطة، مؤشرٌ على مشكلةٍ كبيرة، وكبيرةٍ جداً، في فهم الإسلام، وفي القدرة على تطبيق أوضح تعاليمه.أما الآية الأخرى فتقول: {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة}. تتضمن (القوة) المذكورة بطبيعة الحال كل الأنواع التي تندرج في معاني اللفظ المذكور، وفي مقدمتها قوة الكلمة والفكرة والتفكير الجمعي والتخصص العلمي في الحقول ذات العلاقة بالثورة. لكن الغالبية العظمى من إسلاميي الثورة السورية يبدون أبعد الناس عن الاهتمام بهذا المعنى تحديداً، وأكثر الشرائح زهداً بها وبتأثيرها العميق في توفير كل وسائل القوة الأخرى. ويغلب أن يظهر فيهم، مرة تلو أخرى، وفي قادتهم تحديداً، من يدﱠعي، بلسان الحال إن لم يكن بلسان المقال، الفهم في كل شيء، من السياسة إلى الاقتصاد، ومن التخطيط العسكري إلى الاجتماع البشري، ومن الإدارة إلى القانون. أما القرارات فيغلب أن يتخذها القائد الفرد المُلهم، بعيداً عن (الشورى) والاستشارة ومقتضيات المأسسة، ولو كانت موجودةً على الورق في بعض الأحيان.والمؤكد أن التحدي الثقافي الذي كان يواجه الإسلاميين السوريين دائماً لم يبرز كما برز مع اشتعال الثورة واستمرارها. إذ يندرُ أن ترى مصداقاً عملياً في طرق التفكير وصناعة القرار للمعاني الثورية الكبرى في منظومةٍ بدأت بـ {اقرأ} ولا يمكن أن تكتمل إلا بها. لن تجد هنا كثيراً من الدلائل على استصحاب {لعلهم يتفكرون} أو {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون}. لن تصادف منظومة فكرٍ سياسي تفكر بطريقة رجال الدولة وتعمل بمنطق بناء الدول والحضارات. لن تقرأ أرقاماً وإحصاءات وبيانات. أكثر ما في الأمر أن تجد بعض الترتيبات الإدارية البسيطة، وشيئاً من المهارة في المناورات، وكفى الله المؤمنين شرﱠ القتال.أما التحدي الأخلاقي فمظاهره أكثر من أن تُحصى، فإذ يدعو القرآنُ المسلمين إلى التواضع والإخلاص، خاصةً في خضم ثورةٍ تبحث عن الكرامة والحرية والمساواة، فيقول: {ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطراً ورئاء الناس}، تُفرزُ الوقائع والأحداث مظاهرَ من الفخر والغرور والكبرياء والعُجب لا يمكن لها بحال أن تصلح لمجرد السير في ركاب ثورة كرامةٍ ومساواة، فضلاً عن قيادتها. وتبلغ المأساة قمتها حين تنقلب السياسة براغماتية بأسوأ تجلياتها، بحيث يجوز معها الكذب والخداع والمكرُ ونكث العهود، وبين حينٍ وآخر، شراءُ الولاءات والذمم. لينتهي الأمر بأن يُعرف الحق بالرجال بدلاً من العكس.ورغم أن الاعتراف بالخطأ والشروع في عملية المراجعات والاستمرار بها في خضم الأزمة يمثل ممارسة حضاريةً بالغة الرقي والدلالة على قوة من يمارسها وتجرّده الحقيقي. ورغم أن هذه العملية تُعتبر تطبيقاً للمنهجية القرآنية التي تريد أن تُعلّم الإنسان أن ينظر أوّلَ ما ينظر، في أوقات الابتلاء، إلى الداخل وإلى الذات يبحثُ عن أخطائها وقصورها، إلا أن الإسلاميين لا يكادون يمارسونها على الإطلاق، فعلى مدى ثلاث سنوات، لم يحدث أن سمع السوريون جهةً أو تشكيلاً أو فصيلاً من الإسلاميين يعترف بخطأ أو يُعلن عملية مُراجَعة.تغفل الغالبية العظمى من الإسلاميين السوريين أن هذه العملية ليست ضرباً من المثالية، وإنما هي تطبيقٌ منهجي لمعاني الجملة التي ينقلها القرآن باستمرار عن معلّمي البشرية من الأنبياء والرسل عند النوازل والفتن. ففي تلك اللحظات العصيبة والحساسة تحديداً ينقل عنهم القرآن مقولتهم المتكررة: {ربﱢ إني ظلمت نفسي}، مصداقاً لمنهجٍ عظيم يملك القدرة على التجّرد والمراجعة والاعتراف بالخطأ في قمّة الأزمة. ويُظهر في الوقت ذاته يقيناً عميقاً بأن ممارسة التصحيح الذاتي هي وحدها الوسيلةُ الأضمن للتعامل مع المتغيرات وصولاً إلى تصويب الطريق.ينسون أن هذه الرؤية تفرز ثقةً كبيرة بالنفس، وتدلُّ على امتلاك الإنسان لقوةٍ داخليةٍ هائلة، تجعله يوقن بأن فعله البشري هو الذي يملك أن يصنع الحدث ويؤثر فيه ويقوده بالاتجاه الذي يريد، مهما كان موقف الطرف الآخر، ومهما كانت قوته وجبروته.هذا، وغيرهُ كثير، لا يمثل من قريبٍ أو بعيد (الإسلام) الذي يجب أن يكون حاضراً في ثورة سوريا ودولتها الجديدة.المُبشرُ في القضية أن هذه الممارسات وتلك الأساليب في العمل والتفكير ستكون بنفسها عائقاً في وجه (أسلمة) الثورة بالفهم السلبي الشائع. لكنها ستكون، أيضاً، سبباً لإعادة نظر واسعة وعميقة في طريقة فهم الإسلام وتنزيله على أرض الواقع، وسيحصل هذا بشكلٍ يقلب الموضوع من (أسلمةٍ) للثورة في سوريا إلى ثورةٍ في إسلامها.
1006
| 30 مارس 2014
على مدى عامين من الزمان، ومنذ بدايات العام الثاني للثورة السورية، باتت (أسلمةُ) هذه الثورة (حلماً) لدى البعض و(كابوساً) لدى البعض الآخر.واليوم، مع بداية عامها الرابع، تعود الثورة الولاﱠدة لتفرض منطقها وبرنامجها وأجندتها الخاصة، بعيداً عما يتمناه الكثيرون. فباستقراء سنن الاجتماع البشري وقوانينه، لا يبدو أن الحلم، بشكله التقليدي، سيتحقق، ولا يلوح أن الكابوس، كما هو في ذهن أصحابه، سيزول.فكما يبدو أقرب للمستحيل إلغاء كل طابع إسلامي يتعلق بثورة سوريا ومستقبلها، يبدو أقرب للمستحيل أيضاً إلغاء تنوعها الثقافي والقومي والديني، وحشرُها في فهم محدد للإسلام ترسمهُ فئة أو مجموعة أياً كانت.بدلاً من هذا وذاك، تبدو الثورة متجهة بسوريا وأهلها نحو نقطة وَسَط بالمعنى الحضاري والإنساني، لا بمقاييس الهندسة والرياضيات. نقطة تليق بتاريخها وثقافتها وهويتها الحقيقية أكثر بكثير من الموقع الذي يريد أن يجرﱠها إليه هؤلاء وأولئك.يحدث هذا ببطء كما هي العادة في مثل هذه الظواهر، وبشكل لا يراه بَصرٌ مُستعجل ولا بصيرةٌ مشوهة. فمثل هذه التغييرات الكبرى في واقع الدول والحضارات تحدث بأثر فعل تراكمي يُدرك البشرُ في نهاية المطاف أنه كان يسير في اتجاه يعاكسُ كل ما يوحي به ضجيج الأحداث الآنية وصخبُها المُلتبس في ذاته من جانب، والذي يدعو للالتباس من جانب آخر.قد يكون الأمر في وجه منه أحد التفسيرات لتعقيد القضية السورية وطول مسيرتها وكثرة اللاعبين في شؤونها. بمعنى أنها فعلاً ظاهرةٌ حضاريةٌ كبرى سيكون لها شأنٌ في التاريخ الإنساني، وليست حدثاً عابراً فيه.من هنا يأتي الحديث عن احتمال أن تقودَ ثورةُ سوريا إلى ثورة حقيقية في فهم الإسلام وتنزيله على الواقع، أكثر من أن تؤدي إلى أسلمة يجري الحديث عن مظاهرها وتجلياتها بشكلٍ معروف اليوم، لا حاجة لتكرار التفصيل فيه.فبعيداً عن العواطف والأمنيات، بات معروفاً أن (الإسلاميين) على تنوع خلفياتهم وشرائحهم المنظمة اليوم لم يكونوا في الصفوف الأولى للثورة يوم انطلاقها، فضلاً عن أن يكونوا وراء إشعالها.نعم، يمكن القول إن الثورة استبطنت بعض قيم الإسلام الأصيلة كالعدالة والحرية والمساواة والكرامة، واستعملت رموزه من الشعارات إلى المساجد، لكن تلك القيم لم تُطرح يومها في إطارها الإسلامي، كما أن الرموز المذكورة استُعملت أيضاً في سياق إجماعٍ ثقافي واجتماعي وطني شامل. من هنا، سيكون من الإجحاف الادعاءُ بأن أي جهة من تلك الجهات الكثيرة التي تتحدث باسم الإسلام اليوم كانت، باسمها ورموزها، في فعاليات الثورة يوم انفجرت منذ ثلاث سنوات.يسري هذا على الإسلاميين الحركيين وعلى الإسلاميين التقليديين وعلى الإسلاميين الجهاديين وعلى الإسلاميين في المنفى ممن لم يكن لهم انتماءٌ محدد. لا يهدف هذا المقال إلى تأريخ الأحداث وإنما نشير هنا بشكلٍ سريع إلى بضع حقائق.إذ لم يصدر مثلاً بيان واضح في تأييد الثورة من قبل الإسلاميين الحركيين إلا في أواخر أبريل من عام 2011م، أي بعد قرابة شهر ونصف من انطلاق الثورة.أما ممثلو الإسلام التقليدي من العلماء والمشايخ فقد استغرق انخراطهم في الثورة أكثر من عام، رغم أن قلةً قليلةً منهم يعرفها الكثيرون باتت بسرعة في مقدمة الصفوف.وثمة حادثةٌ معبرة عن علاقة الإسلاميين الجهاديين بالثورة، ففي شهر ديسمبر من العام 2011م اتصل شخصٌ أطلقتهُ فجأةً السلطات السورية من السجن بأحد الزملاء ليخبرهُ بما حصل له، ويقول له إنه يخشى من حادثٍ تفتعله تلك السلطات وتُلصقه بـ (المتشددين) الإسلاميين، مؤكداً على أنه لا يعرف ما سيفعله فيما يتعلق بشخصه وبما يجري في البلاد. كان الرجل مُعتقلاً بتهمة أنه ينتمي لتلك الشريحة، وبينما أجرى تلك المكالمة، بعد أكثر من تسعة أشهر من بدء الثورة، بعفويةِ من لا علاقةَ لهُ بشيء، أصبح بعد ذلك من أكبر قادة الفصائل الإسلامية العسكرية.في حين بقي الإسلاميون في المنفى يتباحثون لأشهر، في أدبياتٍ موثقة، حول ما إذا كانت الثورة مؤامرةً خارجية مدبرة أم أنها مجرد فوضى عارمة.لا نقصد هنا التعميم ولا إصدار الحكم على الأشخاص والمجموعات بالخطأ أو الصواب، فهذا شأن التاريخ وليس شأننا، ولا هو هدف هذا المقال. وإنما نُذكرُ هنا بحقائق وأحداث تاريخية يمكن التثبت من دقتها والبحث عن شواهدها بسهولة، لاستعمالها في شرح القراءة التي نطرحها عن واقع الثورة وعلاقتها بالإسلام.رغم هذا، يمكن القول إن الإسلاميين دخلوا في مسيرة الثورة، وباتوا جزءاً رئيسياً منها بهيئاتهم التنظيمية وبشخصياتهم الفردية والمعنوية. حصل هذا بشكلٍ واضح وجلي مع بداية العام الثاني لها.وعلى مدى عامين، بدأت رواية (أسلمة الثورة) تأخذ زخماً متصاعداً بفعل وجودهم وحركتهم وممارساتهم، دون إغفال دعاية النظام التي كانت تعمل على تكريس تلك الرواية بأكثر تجلياتها الممكنة سوءاً، لتخويف السوريين والعالم.لكن ملابسات الثورة وتطوراتها وضعت الإسلاميين أمام جملةٍ من التحديات، كلٌ على اختلاف موقعه ودوره. فمن التحدي الثقافي إلى التحدي الأخلاقي، مروراً بالتحديات التنظيمية والسياسية والعسكرية، طرحت قراراتهم وممارساتهم وأساليبهم في التفكير والعمل أسئلةً كبرى وأساسية لا تتعلق بطبيعة دورهم في الثورة فقط، وإنما بطريقة الفهم للإسلام وطريقة تنزيله على مثل هذا الواقع الفريد والمُعقد.ومن هنا تحديداً سيكون مفرق الطريق. فهل يُعتبر هذا الوضع فعلاً تمهيداً لأسلمة الثورة بالطريقة التي يجري الحديث عنها؟ أم يكون مدخلاً لثورةٍ جذرية في فهم الإسلام وتنزيله على الواقع؟ هذا سؤال سنحاول الإجابة عليه في الجزء الثاني من هذا المقال.
1814
| 23 مارس 2014
مساحة إعلانية
نعم، أصبحنا نعيش زمنًا يُتاجر فيه بالفكر كما...
6684
| 27 أكتوبر 2025
المسيرات اليوم تملأ السماء، تحلّق بأجنحةٍ معدنيةٍ تلمع...
2754
| 28 أكتوبر 2025
كان المدرج في زمنٍ مضى يشبه قلبًا يخفق...
2385
| 30 أكتوبر 2025
جاء لقاء حضرة صاحب السمو الشيخ تميم بن...
1722
| 26 أكتوبر 2025
على مدى العقد الماضي أثبتت دولة قطر أنها...
1518
| 27 أكتوبر 2025
نعم… طال ليلك ونهارك أيها الحاسد. وطالت أوقاتك...
1428
| 30 أكتوبر 2025
في زحمة الحياة اليومية، ونحن نركض خلف لقمة...
1071
| 29 أكتوبر 2025
لا بد عند الحديث عن التصوف أن نوضح...
1047
| 27 أكتوبر 2025
“أبو العبد” زلمة عصامي ربّى أبناءه الاثني عشر...
978
| 27 أكتوبر 2025
عندما تحول العلم من وسيلة لخدمة البشرية إلى...
876
| 26 أكتوبر 2025
بينت إحصاءات حديثة أن دولة قطر شهدت على...
870
| 27 أكتوبر 2025
أحيانًا أسمع أولياء أمور أطفال ذوي الإعاقة يتحدثون...
729
| 30 أكتوبر 2025
مساحة إعلانية