رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
انتشرت مؤخرا ظاهرة التسريبات الإعلامية، سواء في الأنظمة التي لا تتيح قنوات شرعية للمشاركة السياسية، أو تلك التي توفر مثل هذه القنوات ولكنها تمارس من السياسات ما لا تطلع عليه شعوبها، حتى أصبحت التسريبات جزءا لا يتجزأ من الخطاب المقاوم للاستبداد والساعي لكشف زيف العديد من الديمقراطيات في الوقت نفسه.ويمكن أن نؤرخ لبداية الاهتمام بهذه الظاهرة بفترة الاحتلال الأمريكي للعراق، فخلال هذه الفترة انتشرت التسريبات التي تدين السلوك الأمريكي وتحاول فضح النفاق السياسي للإدارة الأمريكية، وإظهار مدى تعارض ما تنادي به من قيم مع ما تمارسه من انتهاكات. وكانت صور التعذيب بسجن أبو غريب هي أشهر تلك التسريبات على الإطلاق، حين ظهر موظفون تابعون للجيش الأمريكي وهم يرتكبون انتهاكات إنسانية وأخلاقية بحق المسجونين العراقيين. وقد حاولت إدارة الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن وقتها أن تقلل من تأثير هذه التسريبات ووصفها بأنها أعمال فردية لا تمثل سياسة الولايات المتحدة. ولكن جاء تسريب حادثة القتل التي نفذتها طائرة الأباتشي الأمريكية ضد مجموعة من المدنيين والمعروفة بالـ Collateral Murder، ليكشف زيف هذا الادعاء ويؤكد أن ثمة خللا أخلاقيا في أداء الجنود الأمريكيين، والأهم ليؤكد على شرعية ظاهرة التسريبات التي تكشف ما لا يكشفه الإعلام التقليدي. من خلال هذا التسريب اتضح أن أفعال الدول — بما فيها الديمقراطية — ليست دائما بالرشادة التي يفترضها الناس، حيث أظهر التسريب تفاصيل عملية استهداف لمجموعة من المدنيين لا لشيء إلا للاشتباه بأنهم يحملون أسلحة، وفي خلفية الفيديو جرت محادثة بين الجنود المنفذين لعملية القتل أظهرت مدى استهانتهم بأرواح الآخرين. الجدير بالذكر أن هذا التسريب أظهر في الوقت نفسه القوة الناعمة التي يتمتع بها المجتمع الافتراضي وقدرته على مشاكسة الأنظمة السياسية في أكثر جوانب أمنها حساسية؛ ألا وهي أمنها المعلوماتي.وهكذا تم تدشين ظاهرة جديدة يمكن أن نطلق عليها اسم حق التدخل المعلوماتي، وذلك قياسا على الظاهرة الأشهر المعروفة باسم حق التدخل الإنساني، والتي تشير إلى "الحق" الذي تتذرع به بعض الدول لكي تتدخل في شؤون دول أخرى لأغراض تتعلق بتدهور الأوضاع الإنسانية فيها. ولكن يختلف التدخل "المعلوماتي" عن النمط "الإنساني" للتدخل في أكثر من زاوية، أولها أنه تدخل يقوم به الأفراد وليس الحكومات، وثانيها أن التدخل هنا لا يشترط أن يكون في شؤون دول أخرى ولكن ربما يقوم به الأفراد في شؤون دولهم أنفسهم، وثالثها أن التدخل هنا لا يتعلق فقط بتدهور الأوضاع الإنسانية أو ممارسة العنف ضد المدنيين، ولكنه يتعلق بقائمة طويلة من الأسباب التي تتراوح بين فضح الدبلوماسية السرية لدولة معينة وبين نقد موقفها من حرية التداول المعلوماتي.ويمكن أن نرجع بظاهرة التسريب المعلوماتي إلى تاريخ أقدم بطبيعة الحال من غزو العراق، إذ ترتبط فكرة حروب المعلومات بفترة ازدهار الاتجاهات الراديكالية في مطلع القرن الماضي، وبخاصة في محاولة الشيوعيين الروس كشف انتهاكات الحقبة القيصرية، وفضح أساليب الدبلوماسية السرية التي تتعلق بالتوسع الإمبريالي، وقد انكشفت للعالم العربي وثائق التفاهم المعروفة باتفاقية سايكس بيكو في إطار عملية التسريب التي قام بها البلاشفة في هذا الإطار عقب نجاح ثورتهم عام 1917.وبشكل عام فإن الغرض من التسريبات عادة ما يكون محاولة تخطي السلطة السياسية، أو مزاحمتها فيما تحتكره من مصادر للقوة. كما يتضمن هذا السلوك محاولة إثبات أن السيادة مازالت في يد الشعوب التي تملك إدانة سلوك صاحب السلطة وفضح وسائله التي يستخدمها للبقاء في الحكم. وبشكل أكثر عمومية يمكن القول إن هذه الظاهرة تمثل محاولة لتخطى الفجوة بين ضخامة قدرات الأنظمة وضآلة قدرات الأفراد. ففي إطار ثقافة التسريبات تبدو العلاقة بين المواطن والسلطة معكوسة فبدلاً من أن تراقب السلطة الأفراد، فإن الأفراد هم من يراقبون السلطة، وينشرون أخبارها، ليس بهدف التجسس عليها، ولكن لموازنة قوتها، أو توجيه نوع من الضربات العكسية ضد استبدادها.ويشير انتشار هذه الظاهرة إلى بروز مستويات جديدة للفعل السياسي، فالقرارات المتعلقة بالمشاركة السياسية، لم تعد تتم فقط في إطار لجان الانتخاب أو مقرات الأحزاب، ولكن في مقاهي الإنترنت، والمنتديات الافتراضية أيضا. كما ظهرت مبادئ تنظيمية جديدة للواقع السياسي. حيث أصبح الفرد وليس السلطة، هو من يحدد شكل المشاركة السياسية، والإطار الذي تتم فيه حيث تقوم قوة المعلومات في مواجهة قوة السلاح. وبطبيعة الحال لا يمكن أن تحظى التسريبات بمشروعية سياسية في أى نظام سياسي، فمن العسير على أي دولة أن تقبل الاعتراف بحق الأفراد أو المنظمات في التدخل في شؤونها المعلوماتية. كما أنه من الطبيعي أن تنظر هذه الأنظمة إلى هذه الأفعال على أنها انتهاك لسيادتها، حيث تتعارض مباشرة مع ما تصفه بأمنها القومي، خاصة أن معظم الدول تحتفظ بحدود مرنة لما تعتبره أمنا قوميا، وذلك حتى تشمل بداخلها أيا من الأفعال التي تتعارض مع استقرارها.ويطرح كل ما سبق تساؤلات حول قدرة التسريبات أن تقض عروش الاستبداد، أو أن تغير المعادلات السياسية القائمة في الأنظمة الموصوفة بالديمقراطية، وهذا ما سنحاول بحثه في مقال لاحق إن شاء الله.
501
| 21 يناير 2015
منذ الثامن والعشرين من ديسمبر الفائت، تاريخ إلقاء "الرئيس المصري" لخطاب الاحتفال بالمولد النبوي الشريف، والذي دعا فيه لثورة دينية لتنقية نصوص التراث الإسلامي من المواد المحرضة على الكراهية، والإعلام العالمي يمارس طقوسا احتفائية بهذا الخطاب. وقد تصاعد هذا الاحتفاء بعد أحداث فرنسا الأخيرة، حيث بدأ الكثيرون يشيرون إلى المعاني التي تضمنها الخطاب على أنها مفتاح التخلص من الأصولية وتطهير العالم من الإرهاب، لاسيما وهي تأتي على لسان "رئيس" أكبر دولة إسلامية في الشرق الأوسط.وكان "الرئيس المصري" قد تحدث أمام علماء وشيوخ مؤسستي الأزهر والأوقاف، عن ضرورة التخلص من أفكار ونصوص، تم تقديسها على مدى قرون، وباتت مصدر قلق للعالم أجمع، وقال في كلمته: إنه "ليس معقولا أن يكون الفكر الذي نقدسه على مدار مئات السنين يدفع الأمة بكاملها للقلق والخطر والقتل والتدمير في الدنيا كلها"، داعيا إلى تنقية التراث من النصوص التي تدعو إلى كراهية الآخر، أو تضع المسلمين في مواجهة الجميع. كما دعا علماء المسلمين أن يتخلوا عن عقليتهم القديمة، وينظروا إلى الموضوع بتجرد لكي يروا الأزمة على حقيقتها. وقد احتفت العديد من صحف العالم الغربي بهذا التصريح، واعتبرت أنه يمثل بداية لحملة داخل العالم الإسلامي لعزل التطرف والمتطرفين، وتجفيف المنابع التي يستقون منها إرهابهم. ورغم أن معظم الصحف العالمية التي تناولت هذا التصريح أشارت في صدر تعريفها بالرئيس المصري إلى الطريقة التي وصل من خلالها إلى الحكم والخلفية التي ينتمي إليها في إطار عبارات سلبية، إلا أنها كانت تنتهي إلى الإشادة به، معتبرة أن من شأن دعوته أن تحمل أملاً بالقضاء على الإرهاب الذي تؤمن العديد من الدوائر الغربية بأنه ينبع من داخل النصوص الإسلامية نفسها، وليس فقط من سلوك بعض المنتمين إليها، كما يتم ترديد ذلك في المناسبات الدبلوماسية.وإذا كانت الكلمات لا تعني الكثير بالنسبة للبعض، فإن قيام "الرئيس المصري" بنفسه في أعقاب كلماته هذه بحضور قداس عيد الميلاد في الكاتدرائية القبطية كأول رئيس مصري يشهد احتفالات غير المسلمين بأعيادهم، قد مثَّلَ، من وجهة نظر المراقبين، ترجمة للطريقة التي يريد أن يفعل بها أفكاره حول مواجهة التطرف. كما أن المواجهات العنيفة التي اصطدم من خلالها مع قوى الإسلام السياسي داخليا أعطت انطباعا أنه لا يردد مجرد تعبيرات خطابية حول خطر الإرهاب وضرورة التصدي له، وإنما يمارس في سبيل ذلك أفعالا ملموسة!.من ناحية أخرى اعتبرت هذه الدوائر أن الخلفية العسكرية للرئيس المصري، وإن كانت تحول بينه وبين لعب دور المصلح الديني أو مارتن لوثر الإسلام، فإنها تؤهله رغم ذلك للعب دور مناظر لما قام به مصطفى أتاتورك في تركيا، حيث قام الأخير بإدخال تركيا إلى عالم الحداثة الغربية من خلال عزل القيم الدينية عن المجال العام، واستبعاد كافة مظاهر الحكم الديني.واعتبر المراقبون أن "الرئيس المصري" قد فعل من خلال هذه التصريحات ما لم يستطع الغرب منذ أحداث 11 سبتمبر 2001 أن يفعله، بشأن المجاهرة بحاجة النصوص الإسلامية إلى مراجعة!، كما ذهبت بعض الدوائر خطوة أبعد من مجرد الإشادة، تمثلت في الدعوة صراحة إلى احتضان تجربته الإصلاحية.وقد صرح أحد مساعدي الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش الابن، دوجلاس فيث، بإمكانية تبني الولايات المتحدة نفسها لمشروعه، عبر القيام بحملة علاقات عامة عبر العالم الإسلامي لإقناع المسلمين بأن استهداف الأصولية لن يمس معتقداتهم في شيء، وأن محاربة "الإرهاب الإسلامي" ليست نوعا من الحرب العقائدية ضد الإسلام نفسه!.اللافت أن حملة الترحيب الأمريكية بتصريحات "الرئيس" كانت أوضح ضمن المعسكر المحافظ، والذي كان الداعم الرئيسي للرئيس الأمريكي بوش في حربه في أفغانستان والعراق. حيث يرى هذا المعسكر أن "النظام المصري" بهذه التصريحات قد وضع نفسه في المكان الصحيح، فرغم الحملة التي يشنها المحافظون ضد الأنظمة الاستبدادية عبر العالم، فإن ثمة استثناء محجوزا للأنظمة التي تعلن مشاركة الولايات المتحدة حربها ضد "الإرهاب"، وتؤيد في الوقت ذاته التعاون مع إسرائيل لنفس الغرض. وقد تحقق من وجهة نظرهم في النظام المصري الحالي الشرطان معاً. أما داخليا فقد تجاوب رجال الإعلام المصري بنشاط مع تصريحات "الرئيس" وبدأوا لأول مرة تقريبا في توجيه انتقادات مباشرة للمؤسسة الدينية الأكبر والأقدم في مصر، وممثلة الإسلام السني في العالم الإسلامي بأكمله، الأزهر الشريف، متشجعين على ما يبدو بالانتقادات الصريحة التي حملها خطاب "الرئيس" لممثلي الإسلام الرسمي، والذي يظهر أن الدولة لم تعد مقتنعة بجدوى الاعتماد عليهم أو الاستثمار في مؤسستهم.أغرب ما في الموضوع أن أصواتا غربية بدأت تتساءل عن إمكانية منح الرئيس المصري جائزة نوبل للسلام، معتبرة أن دعوته الشجاعة وتوقيت إطلاقها، مؤهلات كافية لمنحه هذه الجائزة. كما تشهد القاهرة نشاطا دبلوماسيا غير معتاد في استقبال الوفود التي تأتي إلى مصر لتعلن مباركتها للحملة الإصلاحية المزمع انطلاقها منها!.وأيا ما كان التوصيف الدقيق لما يجري في مصر، وسواء أكانت الحملة التي تشهدها لوثرية أو أتاتوركية، فإن المؤكد أن استدعاء التراث الإسلامي ووصفه بهذه الطريقة الصادمة سوف يفتح الباب أمام العديد من التطورات التي لن تصب في المجمل في صالح استقرار البلاد أو حمايتها، مما يوصف بالإرهاب.
342
| 14 يناير 2015
يستدعي حديث البعض عن ثنائية "الدولة" و"النظام"، والادعاء بأنه لا يوجد ما يسمى بالنظام السياسي أصلاً وإنما هناك فقط الدولة، يستدعي مراجعة الفرق النظري بين كلا المفهومين، كما صاغه علماء السياسة المعاصرون، للوقوف على حجم الحقيقة من الزيف في هذا الادعاء.يتفق جل علماء السياسة على أن مفهوم الدولة أوسع من مفهوم النظام السياسي، فالدولة هي ذلك الكيان الذي ينبثق إلى حيز الوجود من اجتماع عناصر الأفراد والإقليم والنظام السياسي. أما الأخير فهو ذلك المكون من مكونات الدولة الذي يعبر عن "السلطة الإلزامية التي تحدد لوائح السلوك الاجتماعي، وتشمل الهيئات المختلفة التي تندمج في كيان واحد للنهوض بأهداف المجتمع السياسية والاقتصادية والثقافية والدينية، والتي تتمتع في الوقت نفسه بوضع قانوني متميز عن سائر التنظيمات والهيئات الأخرى".صحيح أن البعض يذهب إلى أن التفرقة بين الدولة والنظام السياسي هي تفرقة نظرية وليست عملية، ذلك أن كل عمل يقوم به النظام السياسي ينسب في النهاية للدولة، "فعندما نقول إن الدولة (أ) دخلت في حرب أو وقعت اتفاق سلام مع الدولة (ب)، فإن النظام السياسي الحاكم في الدولة (أ) هو الذي شن هذه الحرب أو أبرم هذا الاتفاق مع النظام السياسي في الدولة (ب)، وعندما نقول إن الدولة (س) قد اعتنقت المذهب الاشتراكي أو الرأسمالي، فإن نظامها السياسي في الواقع هو الذي فعل ذلك لكي يحقق أهدافا معينة، ولم تعتنق الدولة نفسها أي مذهب، فالدولة بذاتها لا تأتي بأي تصرف في الواقع الملموس، وإنما النظام السياسي الممثل لها هو من ينهض بهذه الأفعال".إلا أن هذا الاستخدام المتساهل للمصطلحات لا يبرر اعتبار أن النظام السياسي مرادف للدولة أو اعتبار أنه لا يوجد أصلا ما يسمى بالنظام السياسي. فرغم سطوة النظام السياسي وقدرته على التدخل في حياة المواطنين حتى أدق تفاصيلها فإن هذا لا يكفي لكي يصير هو نفسه "الدولة"، فالنظام السياسي في التحليل الأخير ما هو إلا مجموعة من الأفراد الذين يمارسون السلطة باسم الدولة، ومن ثم فإن مساءلته عن أفعاله تبدو أمرا معقولا ومقبولا، وذلك على العكس من مساءلة الدولة، فالدولة كيان مجرد، أما النظام السياسي فكيان مشخصن، تمكن طاعة أفراده أو عصيانهم، كما يمكن تأييدهم أو معارضتهم، والواقع أن فكرة تمييز النظام السياسي عن الدولة بما يتيحه هذا من محاسبة الأول عن أفعاله هي الفكرة الرئيسية في أي دولة تتمتع بنظام حكم شرعي، وذلك على العكس من أنظمة الحكم الاستبدادية، التي تستهجن فكرة محاسبة الناس لها على أفعالها، وذلك انطلاقا من استشعارها أنها تمثل الدولة وتتطابق معها.بهذا المعنى فإن الغرض من التمييز بين الدولة والنظام السياسي هو تأكيد حدود سلطة الأخير على الأفراد، وتأكيد مراعاته للهدف أو الأهداف التي من أجلها قامت الدولة، "والواقع أن وسائل الحد من سلطة الأنظمة الحاكمة كالدساتير المكتوبة، وقوانين حقوق الأفراد، ومبدأ الفصل بين السلطات، ما هي إلا أساليب أوحت بها الخبرة التاريخية للحيلولة دون النظام وبين إساءة استخدامه لسلطاته، فالأفراد الذي يتكون منهم أي نظام سياسي ليسوا معصومين من الخطأ، إذ قد يتعمدون استغلال سلطتهم في سبيل تحقيق أهدافهم الخاصة، كما أنهم قد يدعون أن المصلحة الخاصة لهيئة أو مؤسسة من مؤسسات الدولة هي في مصلحة المجتمع ككل وهي ليست كذلك".كما أن القيمة الأكبر للتفرقة بين الدولة والنظام هي الإمكانية التي يتيحها هذا التمييز لتغيير النظام عندما لا يستطيع التحمل بالمسؤوليات التي يقتضيها منه كونه وكيلا أو ممثلا للدولة. والأمر المهم هنا أن هذه التفرقة تبين "أن الأفراد حينما يطيعون النظام السياسي، فإنهم لا يفعلون هذا تمجيدا للسلطة لذاتها، وإنما من أجل تحقيق أهداف يعتقدون أنها ستتحقق عندما تؤدي هذه السلطة عملها، فهم يخضعون للأوامر على ضوء الرضا الذي يسعون إلى تحقيقه في هذه الحياة، وعليه يصبح من حقهم أن يرفضوا هذه الأوامر عندما تحرمهم من تحقيق أهدافهم".كما أن ممارسة السلطة مشروطة بالتزامها باللوائح والقوانين، وتحقيق ما يعتبره المواطنون أهدافا أساسية، فالنظام السياسي تتحدد قيمته لدى المواطن عن طريق ما يقوم به من أعمال، ولا يمكن لنظام سياسي فاشل أو عاجز أن يثني الأفراد عن تقييمه أو محاسبته بحجة أنه يمثل الدولة، أو أن يقنع الناس أن مطالبتهم برحيله أو سقوطه تعني أنهم يجترئون على الدولة نفسها ويطالبون بسقوطها. فمبرر السلطة الإلزامية التي يتمتع بها أي نظام سياسي هو سد حاجات الأفراد، ولا معنى لوجود نظام يدعي أنه يحافظ على الدولة فيما هو يهدر حاجات الأفراد أو لا يقيم لها وزنا.ولما كانت الولايات المتحدة هي قبلة الأنظمة السياسية في العصر الحديث، فإن مراجعة إعلان استقلالها تفيد في تبيان هذه الفروق بوضوح، إذ ينص على أن الحكومات لم تنشأ إلا لتحفظ حق الناس في الحياة والحرية والمساواة والسعي لنيل السعادة، وهي قبل ذلك تستمد سلطانها العادل من رضا الشعب المحكوم. فإذا قامت أي حكومة لتقضي على هذه الغايات، أصبح من حق الشعب أن يستبدلها أو يلغيها وأن يقيم مكانها حكومة جديدة تعتمد على أسس من المبادئ والأنظمة التي يراها أجدى وأصلح في صون سلامته وسعادته. ثم يقول الإعلان: "إنه على الرغم من أن الحكمة تقضي ألا يستند الناس على أسباب واهية وعرضية ليغيروا حكومات طال استقرارها، وكذلك أثبتت الخبرة أن بني الإنسان يفضلون أن يتحملوا ما يمكن تحمله من المعاناة، على أن يطيحوا بما تعودوه من النظم، ولكن إذا ما تعدد سوء استعمال السلطة واغتصابها، وتبين أن الغرض الذي ترمي إليه الحكومة من ذلك هو وضع الشعب تحت نير الاستبداد فمن حق الشعب، بل من واجبه، أن يسقط مثل هذه الحكومة وأن يستعيض عنها بطرق جديدة لتأمين مستقبله".يراجع في هذا الصدد: هارولد لاسكي: الدولة نظريا وعملياً، طبعة الهيئة العامة لقصور الثقافة، 2012.
14285
| 07 يناير 2015
يستنزف الخطاب العلماني جزءا كبيرا من طاقته هذه الأيام في انتقاد الممارسات التي يصفها بالمتزمتة أخلاقيا للأنظمة السياسية العربية، صارفا جهده في التنديد بعدد من الممارسات الجزئية، بدلا من أن يركز على نقد الاستبداد كظاهرة منافية للحرية التي يفترض أنه يعرف نفسه من خلالها.إذ تحفل المواقع العلمانية بانتقادات مكثفة تتوجه بها لأنظمة الاستبداد، ليس بسبب اعتداء الأخيرة على المسار السياسي السلمي الذي حاولت الشعوب أن تسلكه في أعقاب ثورات الربيع العربي، وإنما بسبب التدخلات التي تمارسها هذه الأنظمة في الموضوعات ذات الطبيعة الأخلاقية، مثل الحملات التي تشنها عدد من الحكومات لمقاومة الإلحاد والمثلية الجنسية وعبادة الشيطان وغيرها. هذه الموضوعات على هامشيتها وعلى ضآلة من يهتمون بها أو يتضررون بسببها، تحظى باهتمام كبير من قبل التيارات العلمانية، التي التزمت الصمت بالمقابل إزاء العديد من الممارسات الاستبدادية الأخطر خلال الفترة الماضية.ورغم أن أنظمة الاستبداد لا تشن حملاتها الأخلاقية لحيثيات دينية، وإنما لأغراض تتعلق بتأكيد صورتها المحافظة أمام الرأي العام، أو لأغراض تعويضية تبتغي بها صرف الأنظار عن تدهور الأوضاع الاقتصادية، أو عدم قدرتها على تحقيق الأمن، أو بسبب تورطها في فضائح فساد، أو بسبب احتياج هذه الأنظمة إلى غلالة دينية تضفي بها قدرا من الشرعية على طريقة وصولها أو بقائها في السلطة، إلا أن الأصوات العلمانية ترفض كل هذه الحيثيات وتعتبر أن التملق الديني من شأنه أن يستدعي خطاب المرجعيات الذي جاهدت في سبيل استبعاده وقبلت الاصطفاف مع قوى الاستبداد من أجل مواجهته.وأيا ما كانت الأسباب التي تدفع أنظمة الاستبداد لشن هذه الحملات فإن اهتمامها بهذا النوع من القضايا الأخلاقية يثير نوعا من التناقض الذاتي، نظرا لكون فعل الاستبداد نفسه فعلا غير أخلاقي، إذ يقوم على اضطهاد الخصوم واستباحتهم بالسجن والتعذيب والقتل، إلا أن الأصوات العلمانية لم يحركها هذا التناقض، ولا غيره من المشاكل التي ينضوي عليها، وتحركت فقط لكون هذه التدخلات تمثل تضييقا على المثليين والملحدين، معتبرة أن هذه الممارسات وحرية القيام بها هي التعبير الأساسي عن التسامح والتحرر الاجتماعي.بطبيعة الحال لم تظهر القوى العلمانية قلقا مماثلاً عندما تم استهداف العشرات أو المئات من المنتمين للتيارات الإسلامية على قربان استعادة الاستقرار ومواجهة خطط الفوضى الخلاقة ومقاومة تغيير هوية البلاد. فملاحقة المثليين والملحدين بالوصم والتمييز الاجتماعي أمر لا يغتفر، أما ملاحقة الإسلاميين بتهم الإرهاب والعنف فتبدو من وجهة نظرهم أمرا مقبولا. بعبارة أخرى قبلت النخبة العلمانية بانتهاك المجال العام لقطاعات واسعة من الشعوب، فقط لانتمائهم إلى المعسكر الأيدلوجي المنافس، فيما هبت منتفضة أمام انتهاك المجال الخاص لبعض الأفراد ممن ينتمون بشكل أو بآخر لمعسكرهم. والسؤال هو كيف يمكن تفسير هذا القلق العلماني من هذه الحملات "التجميلية أو التعويضية"، التي تقوم بها أنظمة الاستبداد والتي من المفهوم أنها تقوم بها لأغراض محض براجماتية، أحد الأسباب المحتملة أن هذه النخب قد وضعت جل رهاناتها على عزل الإسلام السياسي بهدف تمهيد الطريق لترسيخ أقدام العلمانية، وقد تورطت في سبيل ذلك في تحالفات انتهازية مع أنظمة الاستبداد، وكون الأخيرة تمارس الآن هذه الممارسات التجميلية، التي تقترب من ممارسات الإسلاميين فإن هذا يهدد بضياع الصفقة بأكملها من أيدي النخبة العلمانية، وفقدانهم لكل شيء، فهم لم يضحوا بالتحرر السياسي، في مقابل أن يتصدر اتجاه يأتي بنفس أفعال الإسلاميين الذين انقلب العلمانيون بسببهم على التجربة الديمقراطية. ولكن من الظلم أن نحصر الانتهازية السياسية في النخب العلمانية فقط، فهناك أصوات داخل التيارات الإسلامية تمارس انتهازية موازية، حيث تردد نفس الانتقادات العلمانية، لتؤكد على أنها لم تكن لتسلك نفس مسلك الأنظمة السلطوية فيما يخص الحريات الشخصية لو كانت في الحكم، بل ربما تباهت بعض هذه الأصوات بأنها خلال وجود أحد ممثليها في الحكم (جماعة الإخوان في مصر)، لم يحدث أن تدخلوا في الحياة الشخصية للأفراد بالطريقة التي تتدخل بها الأنظمة التي انقلبت على الإسلاميين.هذه الانتهازية تهدد بفقدان تيار الإسلام السياسي البقية الباقية من شعبيته، فمحاولته الاصطفاف مع النخب العلمانية مرة أخرى من أجل إحراز مكسب سياسي، عن طريق الاستفادة من زخم انتقاد أنظمة الاستبداد، يعني أنه لم يتعلم الدرس، إذ لا يتصور أن يتفاخر أي من الإسلاميين بأنه لم يسع لفرض الإطار الأخلاقي المستمَد من المعايير الإسلامية، في الوقت الذي كان هذا السلوك التهادني أحد أسباب فقدان الكثير من الناس ثقتهم في تجربة الإسلام السياسي برمتها.أما الأصوات العلمانية فلن يضيرها بطبيعة الحال أن تفقد التعاطف الشعبي من خلال دفاعها عن هذه الموضوعات، فرهان هذه الأصوات يكون دائما على قوى الخارج، وليس على الرأي العام الداخلي، الذي لا يحتل الدفاع عن الإلحاد والشذوذ موقعا متقدما في أولوياته بطبيعة الحال، الأمر الذي يجعل كفاح القوى العلمانية من أجل هذه الموضوعات الثانوية أشبه بمقاتلة طواحين الهواء.
779
| 31 ديسمبر 2014
تابعنا في المقالات السابقة كيف أن النظرية التي نشأت في أحضان مراكز الأبحاث الأمريكية لتفسير الصعوبات التي تواجهها القوات الأمريكية وحلفاؤها في التصدي لحركات المقاومة التي يصفونها بالإرهابية، تلقفتها أطراف عربية لتتهم من خلالها أمريكا نفسها بالوقوف وراء الفوضى التي عمت العالم العربي إبان ثورات ما كان يوصف بالربيع العربي، وذلك بزعم رغبة الأخيرة في تفكيك الدول العربية وإفشالها كمقدمة لإحكام سيطرتها عليها. لتصير للنظرية روايتان مختلفتان حول طبيعة التهديد الذي يمثله هذا النمط من الحروب وحول الطرف الذي يقف وراءها، وانتهينا إلى أنه رغم هذا الاختلاف فإن ثمة نقاط تتقاطع فيها الرواية العربية مع الرواية الأمريكية حول مفهوم حروب الجيل الرابع، نستعرضها فيما يلي.نقطة التقاطع الأولى تتمثل في انطلاق كلتا الروايتين من محاولة لتبرير الفشل وعدم إمكانية التنبؤ به أو التعامل معه. تفعل هذا الرواية الأمريكية لتبرير عجزها عن مواجهة والتصدي لأزمات كان يفترض بفعل فارق القوة أن تكون محسومة لصالح الطرف الأمريكي، مثل توقع ودرء أحداث 11 سبتمبر، ومثل القضاء على حركة طالبان وتنظيم القاعدة، ومثل عجزها عن تزويد حلفائها بالمعلومات والقدرات التي تمكنهم من مواجهة أطراف أضعف، مثل فشلها في حماية إسرائيل من ضربات المقاومة الفلسطينية رغم أساليبها البدائية. الأطراف العربية التي توظف النظرية تستخدمها تقريبا لنفس الأسباب، أي لتبرير فشلها في مواجهة ما تسميه الإرهاب. فالنظرية وفقا للرواية العربية تصور "العدو" على أنه ذو قدرات يصعب التغلب عليها، فهو يستخدم تقنيات الحرب الذكية والحرب النفسية وحرب العصابات، وأي نمط آخر من التقنيات غير النظامية، التي لا يمكن توقعها أو التعامل معها، وكيف لا؟ وهو عدو يعمل في إطار الجيل الرابع، متخطيا ثلاثة أجيال من الحروب التي صنعت معاناة البشرية على مدار التاريخ، وبفعل هذه القدرات الخارقة يصور العجز عن القضاء على هذا العدو ليس على أنه فشل، ولكن فقط تأخر في إحراز النصر. نقطة التقاطع الثانية تتمثل في تبرير استخدام العنف المبالغ فيه، ففي إطار حروب الجيل الرابع، وبفعل الطبيعة الشريرة والماكرة للعدو وأعوانه، لابد من الاستخدام المفرط للقوة، ولابد من سقوط أعداد كبيرة من الضحايا (من بينهم أبرياء). فعلت هذا الإدارة الأمريكية وهي تواجه المقاومة العراقية والأفغانية عبر استخدامها للقوة غير المتكافئة، وفعلته أيضا الأنظمة العربية المعادية لثورات الربيع العربي، وهي تواجه القوى المعارضة. مقولة حروب الجيل الرابع أعطت مسوغا وشرعية لهذه الأطراف لكي تبالغ في استخدام العنف بكافة صورة (العقوبات المادية والقانونية والسياسية)، على اعتبار أن الطبيعة الخاصة للعدو في إطار حروب هذا الجيل تبرر مثل هذا العنف وتضفي عليه شرعية وقبولا لدى العامة، الذين ربما طالبوا بالمزيد منه، لحسم هذه الحرب التي تتهدد وجودهم وأوطانهم.البعد التآمري أيضا يبدو كامنا في كلا الروايتين، فالطرف الأمريكي يتحدث عن مؤامرة إسلامية بعرض العالم، لاستعادة أمجاد الخلافة، وهزيمة الغرب المسيحي، من خلال هدم شرعية الأنظمة السياسية الموجودة حالياً، وبناء شرعية جديدة قائمة على توحيد المسلمين في إطار كيان سياسي جديد. الرواية العربية تتبنى أيضا التفسير التآمري وتتفق مع الرواية الأولى في مقولاتها حول الخطر الإسلامي وخوفها من مشاريع الوحدة الإسلامية، ولكنها لا تتوجه بمخاوفها هذه للداخل، بقدر ما تتوجه بها للخارج (الذي يفترض أصحاب هذه النظرية أنه منبع هذه التهديدات!). فالداخل المسلم لا يناسبه في الغالب حديث التحذير من الخطر الإسلامي وحلم عودة الخلافة، ولكن يناسبه أكثر التحذير من خطر تفكك الدولة والقضاء على ريادتها وأهميتها.. إلخ. إذن الحديث عن المؤامرة موجود عند الطرفين، وبه ثمة تقاطعات ولكنه غير متطابق، فالطرف العربي يتهم الطرف الأمريكي بأنه ضالع في المؤامرة التي تتهدده، فيما الطرف الأمريكي يحمل الأنظمة السياسية للدول العربية قدرا كبيرا من المسؤولية عن ظهور الجماعات المتمردة التي تهدد مصالحه في المنطقة. ولكن مؤخرا بدأت لهجة الاتهام تخفت وربما تزول تماما، واستعادت الأطراف التقليدية مواقفها التقليدية، وحدث نوع من التلاقي في المصالح بين الأنظمة العربية المعارضة للربيع العربي والولايات المتحدة. فبعد فاصل من الاتهامات التي وجهتها الأولى للثانية بالتسبب في فوضى الشرق الأوسط، والرغبة في اقتطاع أجزاء من أقاليمه، وإرهاق دوله وتمزيقها، إذا بالعلاقات تتحسن وتنتظم لتصبح أفضل مما كانت عليه قبل نشوب ثورات الربيع العربي، فالمساعدات يتم استئنافها، والسفراء يرجعون إلى ممارسة أعمالهم الطبيعية، والوفود الرسمية تتحرك بسلاسة بين الدول العربية وأمريكا، وكأن شيئا لم يكن. يبقى القول إنه على الرغم مما تعانيه نظرية حروب الجيل الرابع من عيوب كثيرة، إلا أنها تلفت إلى نقاط مهمة أبرزها تصاعد درجة "الفوضى" في إطار ما يوصف بـ"النظام" العالمي الحالي، وتدق ناقوس تحذير بخصوص فشل الطرق التقليدية للتخطيط الإستراتيجي في التعامل مع أزمات الواقع الجديد. هذه النقاط تبدو غائبة عن معظم من يحذرون من هذه الحروب في عالمنا العربي ممن يتصورون إمكانية مواجهة ما ترصده النظرية من تعقد في ظاهرة الحرب بالحديث عن المؤامرة السرية التي يمكن كشفها وإحباط مساعي القائمين بها، في إطار تصور طفولي ساذج عن إمكانات الأنظمة السياسية العربية التي تستطيع أن تتصدى لحركة التاريخ وأن تحارب العالم المتآمر بها من كل صوب.
476
| 24 ديسمبر 2014
عندما تستخدم أطراف مختلفة نفس المقولات لتبرير مواقف متناقضة، يلحق الشك صحة هذه المقولات أو نوايا من يستخدمونها. ويسري هذا بوضوح على مقولات حروب الجيل الرابع، فرغم أنها نشأت في أحضان مراكز الأبحاث الأمريكية، لتفسير أو تبرير الصعوبات التي تواجهها القوات الأمريكية وحلفاؤها عند محاولة تصديها للحركات المقاومة (التي يصفونها بالإرهابية)، إلا أن العديد من الأطراف الأخرى (العربية بالأساس) شرعت في استخدام نفس النظرية لأغراض مختلفة، وصلت في تعارضها مع المقولات الأصلية حد إلصاق تهمة التسبب في ظهور هذا النمط من الحروب بالإدارة الأمريكية نفسها، وذلك بزعم رغبة الأخيرة في تفكيك الدول وإفشالها كمقدمة لإحكام سيطرتها عليها.وبشكل عام لا تختلف الرواية العربية مع الرواية الأمريكية حول توصيف طبيعة حروب الجيل الرابع من حيث كونها حروبا غير نمطية تعتمد على التقدم التكنولوجي والقوة الذكية. كما تقر الرواية العربية بكون هذه الحروب طويلة المدى، وأنها تنشب بين الدول وبين مجموعات قتالية صغيرة الحجم، مرنة التنظيم، محدودة الإمكانيات البشرية والمادية، تستخدم تكتيكات حروب العصابات لتحقيق أهدافها.ما تختلف فيه الرواية العربية عن الرواية الأمريكية يتعلق بالفاعل الرئيسي والهدف النهائي لهذه الحروب، فإذا كان الفاعل وفقا للرواية الأمريكية هو الجماعات المتمردة التي لا تلتزم الطرق التقليدية في القتال، ولا تعترف بشرعية الدولة كتنظيم سياسي، وتهدد الهيمنة الغربية المسيحية على العالم، تفترض الرواية العربية أن الفاعل الأساسي في إطار حروب الجيل الرابع هو الدول والتنظيمات الكبرى، وذلك في إطار سعي الأخيرة نشر الفوضى في المنطقة العربية، بحيث تستمر في زعامتها للعالم من دون معوقات. صحيح أن هذه الدول وفقا للرواية العربية تستخدم وتوظف الجماعات المسلحة والحركات الثورية والجماعات الفوضوية، ولكن كل هذه لا تعدو أن تكون مجرد أدوات في أيدي الفاعلين الأصليين. وتعبير الأنظمة العالمية الذي تستخدمه الرواية العربية هو بمثابة يافطة عريضة تضم تحتها كل من يمكن تخيلهم من القوى العالمية، فواحد ممن يوصفون بالخبراء الاستراتيجيين المصريين اعتبر أن البلاد في حالة حرب حقيقية مع كل من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة وتركيا وإسرائيل وإيران، معتبرا أن ثمة خيطا يربط بين كل هذه الكيانات، وأن ثمة هدفا نهائيا يجمعهم يتمثل في نشر الفوضى الإقليمية، عبر تنظيمات وسيطة (تضم جماعة الإخوان، حماس، حزب الله، داعش، وغيرها من التنظيمات الإرهابية على حد قوله).وتفترض الرواية العربية أن حروب الجيل الرابع تمر عبر 3 مراحل رئيسية، الأولى هي زعزعة استقرار الدولة المستهدفة، والمرحلة الثانية جعلها دولة فاشلة، وأخيرا المرحلة الثالثة تفكيكها وخلق واقع جديد على الأرض يخدم مصالح الأنظمة المتدخلة. وتذهب الرواية العربية أن هذا النوع من الحروب تم تطبيقه بنجاح في العديد من الحالات مثل السودان وسوريا والعراق فضلاً عن أفغانستان زمن الاحتلال السوفيتي، حيث تم تصوير المقاومة وقتها على أنها نوع من الجهاد ضد المحتل السوفيتي بمساعدة الولايات المتحدة، بينما كان الأمر في حقيقته عبارة عن خطة أمريكية لتحطيم الاتحاد السوفيتي، وإعداد جيل من الجهاديين لنشرهم في كل أنحاء العالم، واستغلالهم في الحروب الأمريكية التالية على العالم العربي والإسلامي. وهو ما يجري- وفقا للرواية العربية- أمر مشابه له الآن من خلال الدفع بتنظيم مثل داعش في سوريا والعراق ودعمه سرا للضغط على الأنظمة في المنطقة.أما عن الوسائل التي تستخدمها أمريكا وحلفاؤها لتنفيذ هذا المخطط- وفقا للنسخة العربية- فتشمل وسائل التواصل الاجتماعي والميديا الجديدة من الإعلام الفضائي والإلكتروني، ومؤسسات المجتمع المدني التي تعمل وفق الأجندات الغربية من أجل إعداد دراسات وبحوث وكتابة تقارير عن المجتمعات العربية والأوضاع الداخلية بها تمهيدا لاختراقها وتفكيكها.كما تستخدم في إطار هذا النوع من الحروب الآليات النفسية مثل بث الشائعات، ونشر مشاعر الإحباط والغضب على نطاق واسع، واستثارة الأقليات، وإثارة الحساسيات العرقية والدينية، وتعبئة الشباب بأفكار سلبية ضد الدول العربية ومؤسساتها، ونشر البلبلة والتشكيك في المشروعات القومية، كما يتم توظيف الجماعات الدينية من خلال إشعال حروب الفتاوى فيما بينها، فضلا عن استخدام العملاء من النشطاء السياسيين وتسليط الأضواء عليهم في المؤتمرات والفعاليات العالمية. بالإضافة إلى ما سبق تركز الرواية العربية على استخدام الأساليب السياسية في إطار هذه الحروب، معتبرة المظاهرات والمسيرات والإضرابات تكنيكات جديدة في إطار الجيل الرابع، ولا يقتصر الأمر على الوسائل السياسية إذ يتوجه مخططو هذه الحروب للأفراد بهدف السيطرة على عقولهم وقلوبهم، وجذبهم إلى ثقافات ومجتمعات الدول المعادية. وتفترض الرواية العربية أن الهدف النهائي من وراء هذا المشروع هو التقسيم الداخلي للدول المستهدفة، وتفكيكها وإفشالها، وتدعو من ثم المواطنين إلى التكتل خلف قياداتهم السياسية لكسر وإفشال هذه السيناريوهات عبر التصدي لممثليها في الداخل وعلى رأسها جماعة الإخوان وما يتفرع عنها من تنظيمات "إرهابية" أخرى!للوهلة الأولى يبدو أن تشويها كاملاً مارسته الرواية العربية لنظرية حروب الجيل الرابع، فقد عكست مقولاتها الأساسية، وجعلت من الدول الكبرى مستفيدا من نشر الفوضى وليس ضحية لها كما في النسخة الأصلية، ورغم ذلك فإن هناك عناصر تتقاطع فيها الروايتان. هذه العناصر سنناقشها في المقال القادم إن شاء الله. يراجع التقرير الذي نشرته صحيفة الأهرام المصرية بعنوان: "الأهرام" تكشف مخططات الإخوان في استخدام حروب الجيل الرابع لإثارة الفوضى وإنهاك المجتمع بالمظاهرات ونشر الشائعات والحرب النفسية لهدم مؤسسات الدولة: http://www.ahram.org.eg/NewsQ/341738.aspx
696
| 17 ديسمبر 2014
قبل استئناف الحديث عما يسمى بحروب الجيل الرابع، تنبغي الإشارة إلى ملحوظة مهمة تتعلق بكون النظريات التي توظف هذا المفهوم لا تتمتع باحترام كبير في الأوساط الأكاديمية الغربية، وللتقريب يمكن تشبيه القبول الذي تتمتع به بالقبول الذي يتمتع به المؤلف الشهير المعروف بـ"بروتكولات حكماء صهيون"، والذي هو في التحليل الأخير مجرد مجموعة من المقولات الشعبية ذائعة الصيت من دون أن يكون لها أي حجية أكاديمية معتبرة.هذا وقد ظهر مفهوم حروب الجيل الرابع في أواخر ثمانينات القرن الفائت، بمناسبة تفكير معاهد الأبحاث الغربية في طرق مواجهة الجماعات المقاتلة غير النظامية (مثل حزب الله وحماس)، ولكنه اكتسب شهرته مع مطلع التسعينيات بسبب التداعيات التي أثارتها حرب العراق، وما تزامن معها من هجمات وصفت بالإرهابية في العديد من دول العالم.وقد عرضنا في المقالة السابقة للمراحل الثلاث التي تفترض النظرية أن الحروب قد مرت خلالها، وتوقفنا عند المرحلة الرابعة، والتي تسمت النظرية باسمها، أي مرحلة الجيل الرابع من الحروب، وأهم ما تتسم به هذه المرحلة هو ظهور أشكال من القتال غير النظامي، القائم على إنهاك الخصم بطرق غير تقليدية. وتؤكد النظرية على فكرة أن الدولة، في المرحلة الحالية، لم تعد فاعلاً مركزيا فيما يتعلق باتخاذ قرار الحرب. فالجيوش النظامية للدول على امتداد العالم تقف منذ فترة ليست بالقصيرة وجها لوجه أمام جماعات مقاتلة لا تنتمي بالضرورة لدول مناظرة ولا تستخدم التقنيات التقليدية للجيوش النظامية.ويعكس هذا استخلاصا أهم، ألا وهو أن المتغير الحاكم في إطار الجيل الرابع لم يعد الانتماء إلى دولة وإنما إلى ثقافة. ويصرح منظرو حروب الجيل الرابع بوضوح أن الثقافة المعادية الرئيسة للعالم الغربي حاليا هي تلك التي يمثلها للإسلام. فالإسلام وفقا لهؤلاء بعد أن كمن في وضع دفاعي لمدة ثلاثة قرون، منذ فشل العثمانيين في حصارهم لفيينا 1683، يعاود الهجوم من جديد للتوسع على حساب العالم الغربي، ولكن هذه المرة من خلال تكنيكات جديدة، تسعى لتغيير المجتمع الغربي من داخله عبر التأثير على منظومة قيمه، ومن خارجه عبر شن حرب استنزاف بعرض العالم ضده لإقناع الساسة الغربيين باستحالة هزيمة الإسلام أو مهاجمته في عقر داره. ويعتبر منظرو حروب الجيل الرابع أن أزمة الدولة القومية هي كلمة السر وراء انتشار هذا النوع من الحروب، فهذه الأزمة هي التي دفعت الأفراد إلى البحث عن هويات بديلة، وعلى رأسها الهوية الثقافية، ولذا فإن أحد العوامل التي تمهد الطريق أمام هذا النوع من الحروب وفقا لأنصار هذه النظرية هو تلك الحالة من التعددية الثقافية التي تفتخر بها المجتمعات الغربية، والتي يمكن أن تنتهي بهذه الدول إلى حالة من الفوضى الكاملة. والحل الذي يقدمه منظرو حروب الجيل الرابع يكمن في التأكيد على النقاء الثقافي، وذلك بالانغلاق في وجه كافة الثقافات وعلى رأسها الثقافة الإسلامية التي تهدد كيان الدولة والمجتمع في الغرب.وبخلاف الانغلاق الثقافي في الداخل يتوجه منظرو حروب الجيل الرابع بعدد من النصائح إلى صناع القرار في الولايات المتحدة والعالم الغربي ياتي على رأسها إعادة التأكيد على أهمية المناورات باستخدام القوات الخفيفة، فحروب الجيل الرابع لا يمكن حسمها باستخدام الطائرات أو المدرعات أو أسلحة الدمار الشامل، ويلمح هؤلاء إلى أن أحد أسباب فشل القوات الغربية في تحقيق نصر حاسم في أفغانستان يرجع لعدم استيعاب هذه القوات للمفاهيم الجديدة للحروب، وإصرارها على مواجهة الجماعات غير النظامية بقوة النيران الهائلة والضربات الجوية، وذلك وفقا لمفاهيم الحرب التقليدية القائمة على التوسع على الأرض والتقدم دائما نحو الأمام. كما ينصح منظرو حروب الجيل الرابع القيادات العالمية الحالية، بإيجاد همزة وصل مع السكان المحليين، في الحالات التي تتضمن تدخلا عسكريا في بلدانهم، مع ما يتضمنه هذا من تقليل التعويل على الأنظمة الرسمية التي تتآكل شرعيتها بتآكل شرعية مفهوم الدولة الحديثة نفسه، ويحذرون في المقابل من أن الاستمرار في توظيف القوة الصريحة سوف يدفع بالمزيد من الأفراد إلى الارتماء في أحضان الجماعات غير الرسمية. ويؤكد هؤلاء على أنه حتى لو ترتب على ذلك النهج خسائر بالمفهوم التقليدي، كأن يفسر مسلك القوى الكبرى في هذه الحالة على أنه انسحابي أو تهادني أو حتى متخازل، فإن النتائج على المستوى الاستراتيجي أو على المدى البعيد تبرر مثل هذه الخسائر، خاصة أنه في إطار حروب الجيل الرابع فإن ميزان القوة ليس في صالح الدول الكبرى كما هو متصور ولا يقاس على أساس ما تمتلكه من قوة النيران فقط.من ناحية أخرى فإن التدخل العنيف عادة ما يساهم في تدمير الدول التي تتعرض لهذا النوع من التدخل، وهو ما يصب في مصلحة الجماعات غير الرسمية بطريقة مباشرة، حيث يساعدها على حشد قوتها ويكسبها المزيد من الشرعية في مقاومة القوات الغازية.ويظهر من العرض السابق لمقولات نظرية حروب الجيل الرابع أن المحتوى الأيدولوجي بها يفوق المحتوى التفسيري. فثمة أفكار مسبقة حول أهمية الثقافي على السياسي وحول الدور السلبي الذي تلعبه الجماعات الدينية تشوش قدرتها على التفسير، ولكن ليس هذا أسوأ أو أغرب ما فيها، فالغريب بحق أن من يتبنون هذه المقولات هم أطراف متضادة على نحو كامل، لدرجة أن البعض يفترض أن أبطالها هم الجماعات غير الرسمية من غير الدول كداعش وحزب الله على سبيل المثال (كما في الخطاب الغربي المتبني لهذه النظرية)، في حين أن آخرين يدعون أن مخططي هذه الحروب هم القوى الغربية الشريرة التي تستخدم الجماعات من غير الدول لخلق واقع جديد على الأرض (كما في القوى المعادية للربيع العربي في بلداننا)، على نحو ما سنعرض في مقال لاحق.
533
| 10 ديسمبر 2014
تعد مقولة "حروب الجيل الرابع" من أكثر المقولات التي يلوكها إعلام أنظمة الاستبداد هذه الأيام، وذلك في سياق حديثه التحريضي الأوسع عن "نظرية المؤامرة" و"الفوضى الخلاقة" و"اليد الخفية" التي تبتغي تفكيك دول المنطقة من داخلها ودفعها إلى هاوية التآكل. فما حقيقة هذه النظرية، وهل ولدت ثورات الربيع العربي بالفعل من رحم هذا النوع من الحروب، ومن عساه المستفيد من تفكيك الدول القائمة، وهل لدى الدول الكبرى، التي تشرف على سيناريو التفكيك - وفق هذه النظرية، أي سيناريوهات بديلة لملأ الفراغ الذي سيحدثه اختفاء هذه الدول؟ هذه الأسئلة وغيرها سنحاول الإجابة عنها في سلسلة مقالات حول هذا الموضوع، ولكننا نخصص هذا المقال لعرض أهم مقولات النظرية الأصلية وذلك وفق أحد أهم من كتبوا فيها وهو "ويلايام إس ليند"، وذلك في مقالة الشهير "Understanding Fourth Generation War"، والذي نشره عام 2004 في مجلة Military Review.ملخص النظرية أن الحرب الحديثة قد تطورت من استخدام القوة البشرية المكثفة، إلى استخدام قوة النيران، إلى استخدام المناورات، وأخيرا إلى استخدام الشبكات السياسية والاقتصادية والاجتماعية لإقناع الخصم أن أهدافه إما غير قابلة للتحقيق أو مكلفة للغاية.وتفترض النظرية أن نقطة بداية الحرب الحديثة تمثلت في صلح ويستفاليا 1648، والذي أسس لنظام الدولة القومية، وأنهى حرب الثلاثين عاما التي نشبت لأسباب دينية، فمنذ ذلك التاريخ احتكرت الدولة القومية الحرب، واعتبرتها إحدى أدواتها السياسية، مقررة أنه من غير المسموح أن تنشب لأي أسباب أخرى، أو بين أي أطراف من غير الدول؛ كأن تنشب بين المدن والقبائل والعائلات أو بين أصحاب الديانات المختلفة. وانطلاقا من هذا الاحتكار تحركت الحروب عبر أربعة أجيال.حروب الجيل الأول: في إطار حروب هذا الجيل كانت المعارك تتم وفقا لأسلوب المواجهة المباشرة والمنظمة، حيث يتم تخطيط ميدان القتال بطريقة هندسية، يصطف في إطارها الجنود من الطرفين المتقاتلين في مواجهة بعضهم البعض في صفوف متوازية. وتنبع أهمية هذه المرحلة من ارتباط الحرب فيها بمعنى النظام، فطريقة إعداد أرض المعركة وطريقة اصطفاف الجنود كانت تعكس تصورا منظما للحرب، وهو نفس التصور الذي يفرق بين التقاليد العسكرية والحياة المدنية، حيث الأولى توصف بأنها نموذج للنظام في أقصى صوره، فيما الثانية توصف بأنها مثال للعشوائية وغياب التخطيط. حتى صار التناقض بين الحياة العسكرية والحياة المدنية عادة ما يلخص في مقولة الانتظام في مواجهة الفوضى. ولكن بدأت المشاكل تواجه هذا النمط المنظم من أنماط الحروب منذ منتصف القرن التاسع عشر، فمع تطور الأسلحة النارية، صار اصطفاف الجنود في مواجهة بعضهم البعض نوعا من الانتحار، وأصبحت الطريقة التقليدية لتنظيم ساحات المعارك غير متوافقة مع التطور الذي لحق أدوات الحرب، وهذا ما دفع مخططو الحروب إلى إعادة التفكير بشأنها، إيذانا ببداية الجيل الثاني. الجيل الثاني من الحروب: بدأت حروب الجيل الثاني عندما بدأ التفكير في محاولة حل التناقض بين ثقافة النظام العسكري وبين الشكل الجديد لساحة المعارك الحربية. وينسب المؤرخون العسكريون الفضل للجيش الفرنسي في التوصل إلى هذا النمط من الحروب وذلك أثناء وبعد الحرب العالمية الأولى، عبر استخدام قوة النيران المجمعة، حيث كان الهدف المباشر من ذلك هو استنزاف قوة الخصم. وقد لخص العسكريون الفرنسيون هذه الاستراتيجية في مقولة "المدفعية تكتسح، والمشاة يحتلون المواقع". وكان التنسيق المركزي أساس في إطار هذا النمط من الحروب. وفي إطار الجيل الثاني من الحروب تمت إعادة ترتيب ساحة المعارك من خلال تقديم المدرعات والقطع الحربية على البشر، ولكن لم يتم استبدال مفهوم النظام نفسه، فقد ظل التركيز على الشكل أو الطريقة التي تدار بها المعركة، وجرى التأكيد على ضرورة ألا تخالف الاعتبارات الجديدة المعايير الصارمة للمؤسسات العسكرية، فالانضباط وتدرج الأوامر من أعلى إلى أسفل ظل هو العنصر الحاسم في إدارة العمليات العسكرية. وحتى عندما حل الطيران محل المدرعات، كمصدر للقوة العسكرية الحاسمة، لم يتغير الأمر كثيرا إذ ظلت مفاهيم النظام هي سيدة الموقف، فالطيران يضرب من السماء، والمدرعات تتقدم على الأرض، والجنود يتحركون تحت حمايتهما في ظل توجيه مركزي صارم. الجيل الثالث من الحروب: باستهلال الجيل الثالث من الحروب، والتي ينسب الفضل في ابتكارها إلى القوات المسلحة الألمانية، تم تطوير تكتيك جديد للمناورات، فلم تعد قوة النيران هي العنصر الحاسم، ولكن السرعة والقدرة على المناورة، فالطرف المهاجم في إطار هذه الحروب يسعى للوصول إلى نقاط العدو الخلفية ومهاجمتها، فيما يسعى الطرف المدافع إلى استدراج العدو وقطع خطوط إمداده. بعبارة أخرى فإن التخطيط العسكري في إطار حروب هذا الجيل لم يعد يستهدف مجرد محاولة التقدم إلى الأمام، أو كسب الأرض على نحو مستمر، ولكن تطويق العدو، وإيقاع الهزيمة به عبر نقاطه الضعيفة. وفي إطار حروب هذا الجيل حدث قدر من التحرر من مفاهيم الانضباط التقليدية، لصالح التركيز بشكل أكبر على النتائج، ففي بعض الأحيان قد يتطلب النجاح على الأرض مخالفة تعليمات القيادة، بل إن الطريقة التي تصاغ بها الأوامر نفسها قد تغيرت، فلم تعد تحدد الأسلوب بقدر ما أصبحت تركز على الهدف المتوخي تحقيقه، وهنا أصبح للمبادرات أهمية أكبر من مجرد طاعة الأوامر والالتزام الحرفي بها. حروب الجيل الرابع: ورثت حروب هذا الجيل العديد من صفات الجيل الذي سبقها مثل اللامركزية وأولوية المبادرة على الطاعة العمياء، ولكنها اتصفت في الوقت نفسه بعدد من الخصائص الإضافية الحاسمة التي سنعرض لها في المقال القادم إن شاء الله.
2241
| 26 نوفمبر 2014
تقول الحكمة السياسية "ليس معنى أن لديك أفضل مطرقة، أن كل مشكلة تواجهها يمكن أن تنظر إليها كمسمار"، فطبيعة المشكلة هي ما يحدد أسلوب الحل، وليس العكس، وكون الدولة الحديثة تحتكر استخدام القوة فإن هذا لا ينبغي أن يدفعها إلى استخدامها بداع وبدون داع. ولا يتوقف التحذير على الاستخدام الفعلي، فمجرد استعراض القوة لا يؤدي في كثير من الأحيان إلى نتيجته المباشرة، وهي إرهاب المخالفين، وإنما إلى استفزازهم وتشجيعهم على التحرش بمصدر هذه القوة، خاصة في إطار الجماعات التي يشعر أفرادها بالغبن وعدم المساواة مع غيرهم. ومن ناحية أخلاقية فإن مجرد امتلاك القوة الباطشة لا يعطي الدولة الحق في استخدامها في أي وقت وبالطريقة التي تريدها، وإنما لابد من النظر إلى الشروط التي بموجبها وافق المجتمع على احتكار الدولة للعنف، فإذا كان التعاقد بين الدولة والمجتمع قد خول لبعض مؤسساتها امتلاك واستخدام أدوات القوة في مقابل التزام هذه المؤسسات بتوفير الأمن للمواطنين، فإنه قد نظم هذه العلاقة في إطار القانون، ولم يجعل استخدام القوة حقا مطلقا.صحيح أنه قد يحدث في بعض الدول التي حققت مستويات معينة من الرفاه الاقتصادي أن يتقبل الناس المنطق الأمني بدرجة معينة، ولكن مستوى القبول الاجتماعي للحلول الأمنية يقل أو ينعدم في الدول التي تسجل فشلا اقتصاديا وعجزا في مجال الرعاية الاجتماعية، ففي مثل هذه الحالات تؤدي المبالغة في استخدام الحلول الأمنية ومنطق القبضة الغليظة إلى نتائج عكسية.فالجماعات التي تعاني من مظالم اجتماعية وسياسية بفعل قصور الدولة عن أداء أدوارها تكون عادة أقل تسامحا إزاء الاستخدام المفرط للقوة بحقها. ومن الطبيعي أن يقفز النموذج الجزائري إلى الذهن في هذا السياق، حيث عانت الجزائر جراء السيناريو الأمني الذي اتبعه قادة المؤسسة العسكرية هناك من سرطان اجتماعي هاجمت فيه خلايا المجتمع بعضها البعض، وتوقفت أجهزتها المناعية عن العمل، حتى أصبح جسد الدولة مشلولاً وعاجزا عن أن يسترد عافيته. في مثل هذه الحالة وغيرها لم يؤدي الاستخدام المفرط للقوة إلى إخضاع التمرد والمتمردين، ولكن إلى تعميق إحساسهم بالظلم ورغبتهم في الانتقام، حيث يسود بينهم منطق "وهل سنخسر أكثر مما خسرناه؟ فإذا ما تواجد، بالإضافة إلى هذه المظالم، الإطار الفكري الذي يبرر التشدد والعنف (مثل أفكار التكفير)، حينها يتحول العنف إلى عنف أيدولوجي، ويكتسب وقودا مضاعفاً، حيث يزداد اقتناع معتنقوه بعدالة قضيتهم، وينسون الأسباب الحقيقية لغضبهم وتمردهم، ويدخلون في إطار متتابعة فكرية تبدأ بالاضطرار إلى العنف، ثم تبرير العنف، وانتهاء بإضافة مسحة من القداسة عليه، بوصفه نوعا من الجهاد، وليس شكلا من أشكال الاحتجاج على مظالم اجتماعية وسياسية.بدورها عندما لا تعي الدولة طبيعة هذه المتتابعة الفكرية، ولا تتعامل معها بالحكمة اللازمة، وتقرر فقط مواجهتها بعنف مضاد، فإنها تتحول من ضابط للإيقاع السياسي والأمني إلى مجرد طرف في صراع، كل فضيلته أنه يمكنه تبرير أفعاله للجماهير على نحو أكبر، ولكن هذه الميزة لا تضع حدا للمواجهات، ولا تحمل أملا في تحقيق نصر حاسم.فمن غير الوارد أن تنجح أي دولة في القضاء المبرم على جزء من تركيبتها البشرية، حتى لو كانت تصنفهم في خانة الإرهاب والإرهابيين. ورغم أهمية السؤال الأخلاقي حول مشروعية انتهاج سياسات استئصالية بحق مواطنين أيا كان توصيفهم، يظل التساؤل الأهم هو هل هناك بالفعل إمكانية عملية لبتر أجزاء من الجسد السياسي؟ توضح الخبرة التاريخية والمعاصرة أن مثل هذا القرار لم ينجح في أي من الحالات التي تم اتخاذه فيها. فلا المستكشفون الأوروبيون نجحوا في استئصال الهنود الحمر بشكل كامل، ولا إسرائيل نجحت في اقتلاع العرب، ولا روسيا استطاعت محو التهديد الشيشاني، ولا إسبانيا قضت على تهديد حركة ايتا، بل إن مكونا غريبا عن الجسد السياسي المصري في مرحلة تاريخية سابقة ممثلاً في المماليك، لم ينجح نظام بقوة وبطش "محمد على باشا" في استئصاله، رغم كل ما يردده المؤرخون من انه قد قضى عليهم تماما بعد مذبحة القلعة الشهيرة، وإلا فلماذا نقرأ في نفس كتب التاريخ أن احد أسباب قيام عرابي باشا بثورته هو تمتع الضباط الشراكسة بامتيازات أكبر من أقرانهم المصريين في الجيش المصري. إن الخلافات السياسية لا يمكن التعامل معها بمنطق القبضة الغليظة، والحل يكمن في إيجاد طريقة للتعايش بين المختلفين وليس البحث عن سبل للاستئصال. أما التصعيد الإعلامي، واستخدام أوصاف الإرهاب والتشدد لعزل المخالفين فلا يحمل في ذاته حلولاً سحرية لمواجهة أزمات تحتاج إلى منطق سياسي وليس أمني لحلها.
322
| 19 نوفمبر 2014
"كانت الساعة قد قاربت الحادية عشرة في دائرة السجلات، فأخذ الموظفون يجرّون المقاعد من مكاتبهم ويصفونها في وسط القاعة المواجهة لشاشة الرصد استعدادا لبدء فعاليات دقيقتي الكراهية""وكما جرت العادة في إطار برنامج الكراهية ما إن يظهر على الشاشة وجه إيمانويل جولدشتاين، عدو الشعب، حتى تتعالى صيحات الاستهجان من كافة أنحاء القاعة. فجولدشتاين هذا هو ذلك الخائن المرتد، الذي تآمر على الدولة، وتورط في نشاطات معادية للثورة، فحكم عليه بالموت، ولكنه تمكن من الهرب في ظروف غامضة واختفى عن الأنظار". "وكان برنامج الكراهية يتنوع من يوم إلى يوم، ولكن لم يكن هناك برنامج إلا وجولدشتاين هو محوره الرئيس، إذ كان أول من خان الثورة، وأول من سعى لتشويه الصورة المشرقة للحزب. فكل الجرائم في حق الحزب، وكل الأعمال التخريبية والهرطقة والانحراف عن مبادئ الحزب كانت نتيجة مباشرة لتعاليمه. وهو مازال يعيش في مكان ما يدبر المكائد، تحت رعاية أسياده الأجانب، الذين يقدمون له التمويل اللازم". "كان هجوم جولدشتاين على مبادئ الحزب ضارياً ومليئا بالتحامل والمبالغات، إلا أنه كان مع ذلك معقولاً، وكان مما يثير الفزع أن هنالك أناسا بسطاء وأقل إدراكا لحقائق الأمور قد ينخدعون بها، إذ كان يستنكر ديكتاتورية الحزب، ويطالب بحرية التعبير، وحرية الصحافة، وحرية عقد الاجتماعات، وحرية الفكر"."وفي أثناء خطبه، وللحيلولة دون انخداع البعض بأكاذيبه المستترة وراء حديثه المنمق، كانت تظهر على الشاشة وراء رأس جولدشتاين صفوف متراصة من الرجال ذوي الوجوه الكالحة، وكتائب متلاحقة من جنود العدو، ما إن تختفي واحدة إلا وتظهر أخرى أكثر وحشية وهمجية. فتتعالى الصرخات الغاضبة المنفجرة من الحضور في القاعة. وسرعان ما يتصاعد غضبهم حتى يصير سعارا، ويروح الناس يثبون إلى الأعلى من مقاعدهم، وهم يصيحون، حتى يطغى صوتهم على الصوت الصادر عن الشاشة أمامهم"."وأفظع ما في فعاليات الكراهية أن المرء ليس مجبرا على تمثيل دور ما، إذ من المستحيل تجنب الانخراط فيها، ففي غضون ثلاثين ثانية فقط من هذه الفعاليات تتملك حالة من الرغبة في القتل والانتقام والتعذيب وتهشيم الرؤوس الحضور، وتسري في أوصالهم، وكأنها تيار كهربائي يدفع بالمرء رغما عنه للصراخ والصياح كمن أصابه مس من الجنون. وكان الغضب الذي يشعر به المرء آنذاك انفعالاً طائشاً، وغير محدد الوجهة ومن الممكن تحويله من وجهة إلى أخرى مثل لسان لهب متصاعد"."وتبلغ الكراهية ذروتها عندما يتحول وجه جولدشتاين إلى وجه مسخ، ثم لا يلبث أن يتلاشى ليحل محله وجه جندي من جنود الأعداء، يندفع ممسكا في يده ببندقية آلية تهدر، حتى يبدو وكأنه سيثب من الشاشة، حتى إن بعض المشاهدين في المقاعد الأمامية يجفلون للوراء، لكن وفي هذه اللحظة، يتنفس الجميع الصعداء، إذ تتلاشى هذه الصورة، وتحل محلها صورة الأخ الكبير، بشعر رأسه الأسود وشاربه الكث ورزانته الغامضة وقوته الفياضة، ويكون وجهه من الضخامة بحيث يملأ الشاشة كلها كحامي الحمى الجسور الذي لا يقهر"."لم يكن ثمة من يسمع ما يقوله الأخ الكبير، فقد كانت كلماته لا يمكن تمييزها، بيد أنها كانت تعيد الثقة إلى النفوس بمجرد أن يتلفظ بها. ثم يتلاشى وجه الأخ الكبير، وتظهر على الشاشة شعارات الحزب الثلاثة بأحرف كبيرة بارزة: الحرية هي العبودية، الحرب هي السلام، الجهل هو القوة"."وفي تلك اللحظة ينخرط جميع الحاضرين في ترديد إيقاعي لترنيمة "الكبير... الكبير"، ويرددونها ببطء ووضوح، ويتوقفون بين المرة والأخرى، بحيث يكون صوتهم ثقيلاً ومفعما بشيء من البربرية، ومن خلفيته ينبعث صوت وقع أقدام عارية أو دقات طبول بعيدة، تحدث حالة تشبه التنويم المغناطيسي أو غياب الوعي". "الغريب أن جولدشتاين هذا وبرغم أن مقولاته تتعرض في كل يوم وفي كل لحظة للدحض والنقد على صفحات الصحف والكتب وشاشة الرصد ومنابر الحزب، كما تُقدم للرأي العام باعتبارها هراء محض، رغم كل هذا فإن تأثيره لا يضعف، فهناك دائما أغرار ينخدعون به، فلا يكاد يمر يوم إلا وتلقى "شرطة الفكر" القبض على جواسيس ومخربين يعملون تحت إمرته. حتى أصبح جولدشتاين رغم العزلة المفروضة عليه وحالة العجز التي يعيشها، يبدو مثل ساحر شرير، قادر بقوة صوته فقط أن يقوض بنيان الإنجازات التي يحققها الأخ الأكبر".من رواية جورج أوريل "1984"
537
| 12 نوفمبر 2014
لا غرابة في أن يغري التعثر الذي تعاني منه ثورات الربيع العربي التي انطلقت من رحم الواقع الافتراضي، البعض بالقول إن ظاهرة المجتمعات الافتراضية قد رفعت الراية البيضاء أمام أبنية السلطة التقليدية، وإن معركة التغيير قد حسمتها مفاهيم القوة التقليدية الصلبة، على حساب مفاهيم قوة الشبكات الاجتماعية الناعمة.ولكن يبدو هذا الحكم متعجلاً وغير دقيق، متعجلا لأن العالم الافتراضي الذي أنشأته أدوات التواصل الاجتماعي وثورة المعلومات لم يأخذ فرصته كاملة بعد، وقد يكون التعثر الذي يعاني منه تعثرا مرحليا فقط. وغير دقيق، لأنه لم يزعم أحد أن مجرد شيوع قنوات التواصل الاجتماعي في مجتمع ما سيؤدي لنجاح الثورات فيه بالضرورة، غاية ما راهن عليه المتفائلون أن أدوات التواصل الاجتماعي تحمل إمكانات بحدوث تغيرات سياسية واجتماعية واسعة.ويمكن فهم مغزى هذا الرهان من خلال استقراء المثل التاريخي الخاص بالعلاقة بين اختراع الطابعة وانتشار البروتستاتنية، ففي إطار هذه العلاقة لا يكاد يزعم أحد بأن اختراع الطابعة قد أدى مباشرة لنجاح حركة الإصلاح الديني، ولكن يمكن القول إن الإصلاح الديني لم يكن له أن ينتشر بهذا المستوى لولا وجود وسائل معينة من بينها الطابعة التي أتاحت نشر تعليقات واحتجاجات مارتن لوثر وأقرانه على الممارسات التي كانت تقوم بها الكنائس الكاثوليكية في عهدهم، إذن يرتبط الحديث عن العالم الافتراضي بحجم الفرص التي تطرحها الأدوات الجديد، ولا يتعلق الأمر بعلاقة سببية ساذجة بين هذه الأدوات ونجاح الثورات.من ناحية أخرى يمكن القول إن العلاقات الحدية ليست أفضل إطار لفهم العلاقة بين الواقع المادي والواقع الافتراضي، فوجود العالم الافتراضي لا يعني انتهاء أو تهاوي أو تراجع أهمية أبنية السلطة التقليدية، ولكن ما يعنيه هو ظهور مكون هام لا تستطيع هذه الأبنية في ظله أن تستمر في التغافل عن الأصوات المعارضة أو ألا تعتد بوجودها أو بقدرتها على التأثير (كما كان الحال دائما قبل تطوير تقنيات التواصل الاجتماعي)، بعبارة أخرى لم يعد اتجاه التأثير من أعلى لأسفل فقط، من الحاكم إلى المحكوم، وإنما أصبحت ثمة اتجاهات أخرى للتأثير من أسفل إلى أعلى. أما زعم البعض بأن أبنية السلطة التقليدية هي القادرة وحدها على تحقيق الاستقرار والانتظام وأن بديلها هو الفوضى، فهو قول ينبني على تصور جامد للاستقرار، تصور يرادف بينه وبين غياب التغيرات، ولا يلتفت إلى أهمية امتلاك المقدرة على التعافي من هذه التغيرات. وبشكل عام لا يوجد في التنظيمات الهرمية ما يضمن حيازتها لهذه المقدرة، ولتقريب الصورة يمكن الإشارة إلى أن الولايات المتحدة لم تتغلب على تحديات ما بعد 11 سبتمبر من خلال بنية هرمية جامدة، ولكن من خلال الدور الفعال الذي اضطلعت به شبكاتها الإدارية والتنفيذية، بل إن فكرة اتخاذ قرار تشابكي في حالة خلو موقع القيادة كانت هي الأصل الذي استدعى التفكير في اختراع شبكة الإنترنت.بهذا المعنى يصبح افتراض أن تؤدي الشبكية إلى الفوضى افتراضا معكوساً، فالتنظيم الشبكي ظهر إلى الوجود في محاولة لدرء خطر الوقوع في الفوضى، وبخاصة في حالة غياب قمة الهرم التنفيذي والإداري لأي عارض. وقد استمر المجتمع المصري موجوداً، وكذا الدولة المصرية، رغم حالة الانكشاف التي تعرض لها الجهازان التنفيذي والأمني للبلاد خلال ثورة يناير بفضل وجود هذا النوع من الشبكية الاجتماعية (والتي كان جزء منها افتراضيا، وجزء منها ماديا) والتي نجحت في وقت قصير في تطوير مفهوم اللجان الشعبية للحيلولة دون سقوط الدولة والمجتمع في يد عصابات البلطجية والمخربين.ما تفعله المجتمعات الافتراضية إذن لا يتمثل في أنها تنهي الدور المعلوماتي لأجهزة السلطة التقليدية، ولكن في أنها تعمل على إنهاء احتكارها للمعلومات. وبانكسار هذا الاحتكار لم يعد في مكنة هذه الأجهزة التحكم في الرأي العام وتوجيهه بنفس السهولة التي كانت تقوم بها في الماضي. بعبارة أخرى يمكن الزعم أن تكوينات الشبكيات الجديدة لن تحل محل أبنية السلطة التقليدية، ولكنها ستجبرها على أن تغير من سلوكها.إن التعثر المرحلي الذي تعانيه المجتمعات الافتراضية لا يرجع إلى فشلها في المساهمة في التغيير، ولكن يرجع إلى إقبال أجيال ما قبل المعلوماتية على تفضيل أنماط وأجهزة الحكم التقليدية، واعتقادها أن الحكمة فردية تفوق الحكمة الجماعية، كما يرجع إلى قبولها التخلي طواعية عن حرياتها في مقابل وعود بأمن وبرفاه اقتصادي لا يتحقق أبداً، وهذه هي الآفة الحقيقية التي تعوق المجتمعات الشبكية من أن تحدث أثرها.من ناحية أخرى فإن استمرار أجهزة السلطة في محاربة مجتمعات المعلومات الافتراضية، يعني أن هذه المجتمعات تمثل تهديدا مبطنا لقدرة هذه الأجهزة على السيطرة، وأنها تعوق قدرتها على الوصول بمستويات الرقابة والتحكم إلى حدودها القصوى، وأن هذه المجتمعات الافتراضية مازالت توفر للأفراد هامشا من الحرية التي لا تعجب بطبيعة الحال أنظمة الاستبداد.
489
| 05 نوفمبر 2014
الدكتور فاوست هو شخصية لها وجود تاريخي حقيقي وهو الشخصية الرئيسية في الحكاية الألمانية الشعبية عن الساحر الذي يبرم عقدا مع الشيطان لكي ينال السعادة القصوى. وقد أصبحت هذه القصة أساساً لأعمال أدبية مختلفة لأدباء كثيرين حول العالم، من أشهرها مسرحية فاوست للكاتب الألماني الشهير جوته. وتدور أحداث القصة حول سعي الدكتور فاوست إلى اكتشاف الجوهر الحقيقي للحياة، وهو ما يدفعه إلى أن يبرم اتفاقا مع الشيطان يقضي بأن يقوم الأخير بخدمته طوال حياته مقابل استيلائه على روح فاوست بعد مماته. وعلى مدار القصة تتجسد مأساة فاوست في عدم قدرته على تحصيل السعادة أو الاقتراب منها، حيث تبقي فكرة خسرانه لروحه وضياع الأبدية من بين يديه مؤرقة له ومنغصة لأي سعادة يتحصل عليها، حتى إذا حانت لحظة وفاته، تبين له أنه لم ينل ما كان يرجوه من سعادة وأنه قد خسر في الوقت ذاته روحه إلى الأبد. ومن فصول هذه المأساة انبثقت عبارة "صفقة فاوست"، والتي تستخدم في معظم اللغات للإشارة إلى معنى الصفقة الخاسرة، حيث يبيع الإنسان أغلى ما يملك (روحه) مقابل سعادة لا يتحصل منها على شيء. ويبدو أن أنظمة الاستبداد تعقد مع شعوبها صفقة مماثلة، فهي تعدهم بأن توفر لهم الأمن والاستقرار، في مقابل تخليهم عن حرياتهم. ولكن كما في صفقة فاوست الخاسرة، يؤدى القبول بهذه الصيغة إلى فقدان الحرية والأمن معاً. وكما أن السعادة التي يمنحها الشيطان لفاوست في القصة تحوي دائما بذرة الشقاء بداخلها، فإن الأمن الذي تعد أنظمة الاستبداد بتوفيره لرعاياها يشتمل على نقيضه من التخويف والفزع. فأمن المستبدين هو تخويف من الإرهاب الأسود، وتخويف من المعارضة الهدامة، وتخويف من الاختلاف الذي لا تحتمله المرحلة، وتخويف من التعددية التي تهدد الدولة، وتخويف من قوى الخارج المتربصة، وتخويف من قوى الداخل المتخفية. ولهذا فإن فاتورة الشعور بالأمن في ظل الاستبداد تشمل التلبس بصفات الإذعان، والانصياع للرأي الواحد، وكراهية الآخر، والرضا بالاستبداد، والقبول بسلوك القطيع. وليس التخويف في إطار أنظمة الاستبداد مجرد حالة مؤقتة، تزول بزوال أسبابها، ولكنه أسلوب حياة، فمن المهم في أنظمة الاستبداد أن يظل الناس في حالة من القلق المستمر والخوف على وجودهم، ولهذا يتحول "الإرهاب" في إطار هذه الصفقة من خطر يفترض أن يسعى النظام المستبد للقضاء عليه، إلى شرط ضروري لاستمراره، فمن خلال مكافحة الإرهاب تتحقق للمستبد صلاحيات لا يتمتع بها في غيره، حيث تستغل أجواء الخوف لغلق كافة آفاق التعبير، وتجميد المشهد السياسي، وتأويل القوانين لخدمة الوضع السياسي، وتمديد يافطة أعداء الدولة لتشمل كل من لا يروق للنخبة المستبدة. والسؤال هو: هل يمكن أن تنجح صفقة الأمن في مقابل الحرية، وهل يمكن أن يؤدي تخلي الناس عن حرياتهم وعن حقهم في الاختلاف والمعارضة والتعبير، إلى دخولهم جنة الأمن المزعوم؟ تشهد التجارب التاريخية والمعاصرة أن الأمن لا يتحقق من خلال هذه الطريقة، فالأمن بلا حرية هو نوع من العبودية المقنعة، والاستقرار الذي يشعر الناس به في ظل الاستبداد لا يعدو أن يكون استقرارا هشا ينهار عند أول تحد حقيقي، فهو استقرار مفروض على الناس وليس نابعا منهم، استقرار معاد للتعددية، مؤسس على تكميم الأفواه، وعلى استبعاد كل من يعارض الصيغة الوحيدة المسموحة للحكم. أما الحرية فهي التي تصنع الأمن وهي التي تخلق الإحساس بالمسؤولية، والإحساس بالمسؤولية هو الذي يصنع الاستقرار. إن شعارات التخويف والإرهاب، ومحاولة إقناع الناس أن يظلوا في بوتقة القهر، وتقييد حرياتهم بدعوى ضرورات المرحلة، والتعويل على القبضة الغليظة لحل كافة المشكلات بما فيها ذات الطبيعة السياسية، كل هذا يقدم صيغة مشوهة للأمن؛ صيغة لا يستشعر الناس أي آثار إيجابية لها في الواقع الذي يعيشونه.
3686
| 29 أكتوبر 2014
مساحة إعلانية
ليس الفراغ في الأماكن، بل في الأشخاص الذين...
4803
| 20 أكتوبر 2025
لم تكنِ المأساةُ في غزّةَ بعددِ القتلى، بل...
3561
| 21 أكتوبر 2025
المعرفة التي لا تدعم بالتدريب العملي تصبح عرجاء....
2871
| 16 أكتوبر 2025
في ليلةٍ انحنت فيها الأضواء احترامًا لعزيمة الرجال،...
2736
| 16 أكتوبر 2025
يمثل صدور القانون رقم (24) لسنة 2025 في...
2643
| 21 أكتوبر 2025
تُخلّف بعض اللحظات أثرًا لا يُمحى، لأنها تزرع...
1566
| 23 أكتوبر 2025
واكبت التعديلات على مجموعة من أحكام قانون الموارد...
1461
| 21 أكتوبر 2025
في زحمة الحياة وتضخم الأسعار وضيق الموارد، تبقى...
1407
| 16 أكتوبر 2025
لم تعد مراكز الحمية، أو ما يعرف بالـ«دايت...
1041
| 20 أكتوبر 2025
1. الوجه الإيجابي • يعكس النضج وعمق التفكير...
963
| 21 أكتوبر 2025
القيمة المضافة المحلية (ICV) أداة إستراتيجية لتطوير وتمكين...
837
| 20 أكتوبر 2025
في قلب كل معلم مبدع، شعلة لا تهدأ،...
807
| 17 أكتوبر 2025
مساحة إعلانية