رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
تثير التطورات التي يشهدها العالم العربي حاليا الكثير من التأمل بشأن طبيعة الخريطة السياسية التي ستفصح عنها الأحداث، فمعادلات القوة الحالية تبدو أعقد من أي فترة مضت على العالم العربي، والذي كان منذ حصول دوله على الاستقلال، يتمتع دائما بوجود مركز وثقل واضح، أو دولة - قطب، تدور بقية أقطار العالم العربي في فلكها أو على الأقل تعترف لها صراحة أو ضمنا بامتلاك مفاتيح التأثير في المنظومة.فأيًّا ما كان التقييم النهائي لتجربته، فلا غرو أن نظام حكم الرئيس جمال عبد الناصر قد جعل من مصر قطبا فاعلاً في السياسة الإقليمية، دارت بقية دول العالم العربي في فلكه. ففي خمسينيات وستينيات القرن العشرين، آمن العرب إيمانًا راسخًا بسياسات القومية العربية، وكانت مصر في موقع الصدارة بالنسبة لهذه الدعوة، وقد استخدمها النظام المصري بفاعلية لمواجهة القوى الغربية ولتصفية التركة الاستعمارية الثقيلة في مصر والدول العربية، وفي حشد الجماهير العربية خلف قيادته. ولكن بتوالي الهزائم العربية أمام إسرائيل، وانهيار الحلم القومي بتفكك الوحدة بين مصر وسوريا، ضعفت مصداقية القيادة المصرية، بحيث لم ينته عقد الستينيات إلا وقد تراجع الدور المصري وما يمثله من ثقل قومي، وبدأ المد الإسلامي يحتل مكان الأفكار القومية. وكان من الوارد أن تتصدر مصر المشهد الجديد أيضا، نظرا لمحوريتها ومكانتها الدينية، خاصة أن حقبة الستينيات شهدت تبلورا لمشاريع فكرية مميزة مهدت للصحوة الدينية اللاحقة، كان من أبرزها المشروع الجهادي الذي صاغ ملامحه المفكر المصري البارز "سيد قطب"، ولكن برزت تغيرات نقلت مركز الثقل العربي من مصر إلى دول الخليج، ليستقر فيها طوال عقد السبعينيات.ما ساعد على هذه النقلة أنه في خلال هذه المرحلة بدأ ميزان القوى في العالم العربي يتشكل على أساس من النفط، حيث استخدمت الدول الخليجية مواردها النفطية لزيادة نفوذها السياسي والديني على الساحة الإقليمية، مستفيدة من الزيادة الهائلة في الطلب على النفط، ومن الارتفاع في أسعاره في أعقاب الأزمة التي تلت حرب أكتوبر، وهكذا وعلى مدار عقد السبعينيات انتزعت الدول النفطية الهيمنة، وأصبحت نقاطا جاذبة للهجرة العربية، الأمر الذي أسهم في ازدياد انحسار الدور المصري.صحيح أن حرب أكتوبر مثلت نجاحا للدبلوماسية والعسكرية المصريتين، إذ أثبت الرئيس السادات أنه يملك تهديد إسرائيل على نحو فعال، إلا أن القرارات المصرية اللاحقة كانت عكسية على نحو كبير، حيث قام الرئيس السادات بتوقيع اتفاقية سلام منفردة مع إسرائيل، أدخلت الدبلوماسية المصرية في عقد كامل من العزلة، ووضعت مصر في مواجهة عداء عربي واسع النطاق، "فبعد أن خاضت مصر خمس حروب ضد إسرائيل، أغمدت سيفها وخرجت من دائرة الصراع العربي الإسرائيلي فعلياً، ليصبح على الفلسطينيين وبقية الشعوب العربية تحقيق تطلعاتهم بمعزل عن الدور المصري". وقد تأكد التراجع في الدور المصري خلال عقد الثمانينيات، حيث بدا واضحا أن نظام مبارك، لا يملك مقومات الزعامة، ولا يحبذ التدخل في الملفات الخارجية، إلا إذا تلقى ضوءا أخضر من حلفائه الأمريكيين، ومن هنا فقد جاء رد الفعل المصري متواضعا على الاجتياح الإسرائيلي للجنوب اللبناني في مطلع الثمانينيات، وهو الاجتياح الذي أعادت إسرائيل من خلاله تشكيل الملامح السياسية للمنطقة، في ظل عزوف مصري كامل عن المشاركة بأي درجة من درجات التأثير.الانزواء المصري جعل الأنظار تتحرك باتجاه قطب جديد كان قد بدأ يظهر على مسرح الأحداث تمثل في النظام العراقي، فبعد الانقلاب الناعم الذي نفذه صدام حسين داخليا، بدأ في تلقي مساعدات ضخمة من الإدارة الأمريكية، اقتصاديا واستخباراتيا، للوقوف في وجه إيران، التي أثارت مخاوف جيرانها بعد نجاح ثورتها. وقد لفتت الحرب العراقية الإيرانية الأنظار إلى النظام العراقي، ونقلت مركز الثقل العربي إلى بلاد الرافدين، ولكن الطموح العراقي تصاعد ليصل إلى حد الجنون بقيام الرئيس العراقي باجتياح الحدود مع جارته الكويت، واحتلالها كاملة في مطلع التسعينيات، ما أدى إلى التعجيل بنهايته كقطب عربي محتمل. ومنذ الغزو العراقي للكويت عام ١٩٩٠، دخل النظام العربي في مرحلة أزمة مستمرة، فقد أدى غزو دولة عربية لدولة عربية أخرى إلى حالة من التفكك الداخلي، بحيث أصبحت شؤون المنطقة تدار على نحو كلي من خارجها، وفي هذا الإطار برزت الولايات المتحدة كقطب أوحد على المستوى الدولي، وبشكل أوضح على مستوى ما كان يعرف بالنظام العربي. وتأكد الحضور الأمريكي من خلال ملفات متعددة، أبرزها حصار نظام صدام في العراق، وإدارة عملية السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين، ومتابعة الأوضاع في لبنان، ثم التدخل في الصومال، وغير ذلك من الملفات التي كان الطرف العربي فيها منفعلاً لا فاعلا، وفاقدا أي قدرة على التأثير.والغريب أن الأنظمة العربية قد استمرأت هذه الحالة من عدم الفاعلية، بل أظهرت تململها من التراجع الذي أظهرته الإدارة الأمريكية في عهد بوش الابن تجاه المنطقة، بل ودعته صراحة للتدخل بشكل أكبر في شؤونها. إلا أن التدخل الأمريكي المنتظر أثر بالسلب على المنطقة، وهو التأثير الذي تفاقمت تبعاته بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وبداية الحرب على الإرهاب، ثم غزو وتدمير البنية التحتية للعراق. في هذا الإطار مثلت فترة إدارة أوباما، ذات النهج غير التدخلي، فرصة لدول النظام العربي المتآكل لكي تعيد ترتيب أوراقها وتستعيد قدرا من فاعليتها، ولكنها استمرت على نفس أدائها السلبي، وبدا العالم العربي في حالة من السيولة المطلقة التي مهدت السبيل لانطلاق شرارة ثورات الربيع العربي، التي علق الكثيرون آمالاً عراضا عليها في نقل مركز الثقل والتأثير من الأنظمة الفاشلة إلى الشعوب المتطلعة إلى الحرية. ولكن عادت الأنظمة العربية من الموت في محاولة للإمساك بزمام الأمور من جديد، لتدخل المنطقة في إطار معادلات غامضة لا يمكن توقع مآلاتها على وجه اليقين.
468
| 22 أبريل 2015
أعادت الدعوة التي وجهها أحد الرؤساء العرب للقيام بثورة دينية وكتابة فقه جديد، أعادت إلى الأذهان التجربة الأتاتوركية في الحكم، حيث يفترض الكثير من المحللين أن ثمة اقتباسا يتم على نحو واضح لخصائص هذه التجربة، على الرغم من أنها تراجعت بشكل واضح في الدولة التي شهدت ظهورها وتبلورها. وسواء أكان هذا الاقتباس اقتباسا واعيا مرده استشعار هذه القيادات أن السياق الذي أفرز التجربة الأتاتوركية فى تركيا يبدو متحققا لديها بشكل ما، على اعتبار أنه كما كانت تركيا فى أعقاب الحرب العالمية الأولى تواجه خطر التقسيم والتفكك، فإن دولها هي الأخرى يهددها شبح التقسيم ومؤامرات الإفشال والفوضى. أو كان اقتباسا غير واعٍ مرده الرغبة في التأكيد على شرعية وقوة الدولة في مواجهة المجتمع، ونسخ الأثر الذي أحدثته ثورات الربيع العربي، تماما مثلما حاولت التجربة الكمالية تأكيد شرعيتها في مواجهة السلطان الديني للخليفة بانتهاج شكل علماني للدولة التركية الحديثة، فإن استعراض بقية عناصر النموذج الأتاتوركي في الحكم، سيظهر أن الاقتباس العربي لها يكاد يكون حرفيا.فقد أرسى النموذج الأتاتوركي ملامح نمط من أشد أنماط العلمانية فجاجة، حيث افترض أن المواطن المتدين لا تصح مواطنته على نحو كامل، وأنه تشوب ولاءه للدولة شوائب غير مقبولة. ومن ثم لم تكن العلمانية في التطبيق الأتاتوركي تشير إلى مجرد فصل الدين عن الدولة، ولا حياد الدولة تجاه الدين؛ ولكن إخضاع الدين ومؤسساته ومصادره على نحو كامل من قبل الدولة، كما أصبحت العلمانية في النموذج الأتاتوركي مبررا لاستبعاد الدين من المجال العام، بعد أن تم استغلاله وتوظيفه لفترة وجيزة في بدايات التجربة الكمالية في الحكم (وصف أتاتورك نفسه بوصف الغازي في أثناء حرب التحرير، ولاحقا كان يصف المعارضين لتجربته السياسية باسم "المرتدين"). بهذا المعنى لم يتم التبرؤ من الإسلام على نحو كامل في النموذج الأتاتوركي ولكن جرى تأميمه، بحيث صار حكرا على الدولة، تفسره بالطريقة التي تتراءى لها وتخدم أغراضها وتتماشى مع أهدافها، مع التأكيد على عدم السماح لرجال الدين إلا بتأثير هامشي ومحدود.وفي النموذج الأتاتوركي خلقت الدولة صورة لعدو داخلي، ممثلاً في الإسلاميين (والأكراد)، وصورتهم على أنهم يعملون ضد وحدة الدولة ويحاولون تقسيمها، فحاربتهم بكافة أشكال العنف، وسخرت أجهزة إعلامها لتصويرهم على أنهم أعداء أزليون للدولة، واستخدمت كافة أجهزتها وكافة الوسائل الممكنة والمتاحة لها لإلزام سائر المواطنين بالطاعة وعدم معارضة النظام. وفي إطار النموذج الأتاتوركي تنازل مؤسسو الجمهورية عن الديموقراطية والحريات، بزعم حماية مشروعهم الوطنى من الأخطار، كما نجح هذا النموذج في تطوير مفهوم "دولة الأمن القومي" التي تؤكد أن أمنها القومي ومن ثم "وجودها" فى حالة تهديد مستمر، وتخلق حالة من الأزمات والإحساس بالخطر تقنع المواطن أنه لا غنى له عنها.وفي النموذج الأتاتوركي يعتقد القادة العسكريون أنهم من أنقذوا الدولة وحافظوا عليها من مؤامرات الداخل والخارج، وأنهم بهذه الكيفية يمثلون إرادة الشعب ويملكون الحق في قيادته بدون مشاركة أو مراقبة من قبل ممثلي الشعب المنتخبين. كما يؤكد العسكريون أنهم يمثلون أعلى الفضائل الإنسانية، فهم يتميزون بالانضباط، والوطنية، والطاعة، والقدرة على الإنجاز، إلى جانب الكفاءة والسلامة. وأنهم بحكم حيازتهم لكل هذه الصفات يحق لهم أن يصيروا أوصياء على الشعب، وأن يتدخلوا عندما يرون أن ما عهد إليهم في خطر (حقيقي أو محتمل)، أو عند وجود تهديدات بمراجعة ثوابت إرث الأتاتوركية.وإذا كانت المؤسسة العسكرية في إطار هذا النموذج تؤكد باستمرار أن دورها ينحصر في حماية الاستقرار، عن طريق مواجهة الأعداء الخارجيين والداخليين للدولة، فإنها تحت هذا البند الضيق تدخلت في كافة أشكال الحياة السياسية على نحو متكرر. فعادة ما كانت توضع مجموعة من النصوص القانونية والدستورية رهن تصرف الجيش بحيث يمكنه إقالة الحكومة، أو تمرير توصياته إلى السياسيين، على نحو لا يملكون إلا الانصياع له.وفي إطار النموذج الأتاتوركي وقف القضاء دائما إلى جوار المؤسسة العسكرية، لحماية الدولة من مواطنيها، وذلك عن طريق تفسير الدستور والقوانين بطريقة ساعدت المؤسسة العسكرية على القضاء على منافسيها من السياسيين المعارضين. ومن مفرزات هذا النموذج، أن صارت الدولة والحكومة شيئا واحدا، حتى إن الانتخابات التشريعية كان يتم مراقبتها من قبل أجهزة الدولة وذلك لمتابعة ما إذا كانت الأحزاب المنتخبة ستحيد عن مصلحة الدولة وعقيدتها السياسية، أم لا. وحين يبدو أي انحراف عن عقيدة الدولة كان يتم الإطاحة بالمسار السياسي، وإحلاله بمسار جديد من صنع الدولة وأجهزتها المركزية.وكما يظهر العرض السابق فإن خصائص النموذج الأتاتوركي تبدو متحققة بدرجة كبيرة فى العديد من الأنظمة العربية الحالية، وهو ما يدفع إلى التنبؤ بأن هذه الأنظمة مرشحة لمواجهة نفس أنواع المشاكل التي اعترضت التجربة الكمالية، وربما مرشحة أيضا لمواجهة نفس حالة التراجع الذي شهدته الأخيرة أمام التيار الذي ناصبته العداء باستمرار وهو تيار الإسلام السياسي. المرجع الأساسي: راينر هيرمان، تركيا بين الدولة الدينية والدولة المدنية: الصراع الثقافي في تركيا.
420
| 15 أبريل 2015
يعلق البعض أمالا على دور أمريكي أكثر نشاطا في المنطقة في مرحلة ما بعد أوباما (والتي بدأ التحضير لها داخل الولايات المتحدة منذ فترة)، على اعتبار أنه إذا كانت الإدارات الديموقراطية يغلب عليها بشكل عام طابع الإحجام والتردد والنزعة الانسحابية، فإن الجمهوريين، الذين يتوقع الكثيرون أنهم سيخلفون أوباما فى البيت الأبيض، لابد وأنهم سيتبعون نهجا أكثر تدخلية، يخرج المنطقة عن جمودها، ويقلق أنظمة الوضع الراهن التي تستثمر في ملف الإرهاب للإبقاء على الدعم الأمريكي الموجه لها. ولكن على العكس مما يتخيل الكثيرون ليست الإدارة الديموقراطية وحدها هي من يتبنى نموذج الاستقرار، وليست وحدها من ينتهج سياسات الحفاظ على الأوضاع الراهنة، فهناك من الدوائر القريبة من المعسكر الجمهوري، وتحديدا من داخل التيار المحافظ من يؤيدون نهج العزلة، وبدرجة أكبر مما تفعل الإدارة الحالية التي يتهمها البعض بمهادنة الأنظمة المستبدة في المنطقة العربية.فثمة تيار عريض من المحافظين يرى أن الولايات المتحدة عليها أن تحجم عن التدخل في كافة الصراعات العالمية. فالحفاظ على الهيمنة الأمريكية يستلزم من وجهة نظرهم تدخلاً أقل وليس تدخلاً أكثر في شئون العالم، على اعتبار أن إنفاق المزيد من الأموال واستنزاف المزيد من القوة نادرا ما أسهم في تحقيق المصلحة القومية الأمريكية وإنما على العكس أضر بها في الكثير من الأحيان. وعليه فإن الولايات المتحدة وفقا لهم عليها أن تلتزم استراتيجيات دفاعية في المقام الأول وألا تتورط في المزيد من الصراعات غير المجدية. من أهم رموز هذا التيار باتريك بوكانان، المسؤول السابق في إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق ريتشارد نيكسون، فضلاً عن طيف واسع من السياسيين يطلق عليهم اسم المحافظين التقليديين أو الـ Paleoconservatives. ومن أشهر المحسوبين على هذا التيار أيضا الأكاديمي الشهير "صامويل هانتنجتون، صاحب كتاب صراع الحضارات، والذي سعى لتحديد خطوط التماس بين الحضارات، منعا للانخراط في مشاكلها أو الصراع معها وتركيزا على الشأن الأمريكي الداخلي، ولذا كان من اللافت أن يأتي الكتاب الأخير لهانتنجتون قبل وفاته مباشرة تحت عنوان "من نحن؟".هذا ويقف المحافظون التقليديون موقف المعارضة والنقد من "الـمحافظين الجدد"، المشهورين في العالم العربي منذ فترة حكم ريجان بنزعتهم التدخلية، والذين يسعون من وجهة نظر ناقديهم إلى بناء إمبراطورية أمريكية عبر شن الحروب والتدخل في شئون الآخرين، في الوقت الذي يحدد المحافظون التقليديون لأنفسهم دورا أقل انفتاحا على العالم يتمثل في الحفاظ على قيم الجمهورية، والتأكد من تحقيق التمازج بين قيم المسيحية والثقافة الأمريكية، من خلال معارضة التعدد الثقافي، حفاظا على التقاليد والشخصية الدينية الأمريكية. المدهش أن "المحافظين غير الجدد" هؤلاء هم المطورون الأساسيون لنظرية "حروب الجيل الرابع" التي أضحت شهيرة في عالمنا العربي بعد انحسار ربيع الثورات، وقد ابتدعوها بدافع من حرصهم على تحذير الإدارات الأمريكية من مغبة التدخل في شؤون الغير، وبخاصة في الشرق الأوسط، الذي يرون أن معظم الإخفاقات التي حلت بالولايات المتحدة منذ نهاية الحرب الباردة حدثت نتيجة تدخلها في شؤونه، ومن أبرز هذه الإخفاقات من وجهة نظرهم أحداث 11 سبتمبر، ثم الفشل الأمريكي في كل من أفغانستان والعراق، وأخيرا التعثر الأمريكي الواضح في مواجهة تنظيم الدولة الإسلامية، وبناء عليه فقد جاء تطويرهم لنظرية حروب الجيل الرابع لتأكيد موقفهم غير التدخلي. (ولكن المدهش أن مقتبسي النظرية، من الساسة والإعلاميين العرب، قد أغفلوا هذا السياق، واعتبروا أن نظرية "حروب الجيل الرابع" إنما تم تطويرها لكي تعبر عن الخطط الأمريكية للتدخل في شؤون المنطقة لتفكيك دولها ودفعها إلى حافة الهاوية والفوضى.) مراجعة مقولات "المحافظين غير الجدد"، تظهر أيضا رفضهم لسياسات فرض الديموقراطية، التي يرون أن الكثير من شعوب الشرق الأوسط غير مؤهلين لممارستها، ومن ثم فإنهم يرون عبث محاولة فرضها عليهم بالقوة كما يؤمن نظراؤهم من المحافظين الجدد، ولكنهم في ذلك الوقت لا يحبذون دعم الأنظمة المستبدة، على اعتبار أن مثل هذه الأنظمة هي التي تدفع الأفراد إلى التمرد والإرهاب، ومن ثم تجعل منهم خطرا يتهدد المصالح الأمريكية عبر العالم.أما فيما يتعلق بالموقف من إسرائيل، يدين المحافظين التقليديين موقف نظرائهم من "المحافظين الجدد" الذي يصل في درجة موالاته للدولة العبرية إلى حد اعتبار "تل أبيب" عاصمة للولايات المتحدة وليس لإسرائيل. كما أن كثيرا من هؤلاء المحافظين (غير الجدد) يعتبرون أن الدعم غير المشروط الذي تقدمه الإدارات الأمريكية المتعاقبة لإسرائيل مسؤول بدرجة كبيرة عن معظم الهجمات "الإرهابية" التي تعرضت لها أمريكا، كما يتحدثون بكل وضوح عن أن المحافظين الجدد إنما يدفعون أمريكا باتجاه الحرب دفاعا عن إسرائيل وليس عن المصالح الأمريكية بالخارج.وفيما يتعلق بموقف هذا التيار من الإسلام، فإنه يعتبر أن ثمة عقدة تاريخية وتكوينية تحول بينه وبين الانفتاح عليه، فالمحافظون التقليديون يرون أن الإسلام يمتلك كافة مقومات الصراع مع الغرب، وهذا لا يقتصر على النسخة السياسية منه وإنما أيضاً على النسخة الثقافية، فالإسلام الثقافي وفقا لهم لا يبدو متوافقا مع قيم الحضارة الحديثة، ويستحسن أن يظل داخل حدوده، ولا يتمدد داخل الأراضي الأمريكية بأى شكل، وهم يعتبرون أن الثقافة الإسلامية تشكل المعين الذين تغترف منه معظم حركات الاحتجاج السياسي من غير الدول، مثل القاعدة وطالبان وحماس وحزب الله وتنظيم الدولة الإسلامية، وهم يعتبرون أن هذه الحالة من المواجهة لن تتوقف، فطالما أن الشكل الحالي للدولة الحديثة شكل علماني، فسيظل مجال الحركة الأساسي أمام الإسلاميين هو المقاومة غير النظامية والتي ستشكل التهديد الأساسي للغرب والولايات المتحدة في المستقبل.الشاهد من استعراض خصائص ومقولات تيار المحافظين "غير الجدد" التأكيد على أن التعويل على أمريكا بكافة أطيافها السياسية لا يحمل في طياته حلا من أي نوع لأزمات ومشاكل المنطقة، فقط مبادرات الداخل وحراك الداخل وسياسات الداخل هي ما يمكن أن يحمل أملا للمنطقة للخروج من حالة الانغلاق التي تعيشها. وأيا ما كانت التوجهات السياسية لساكنى البيت الأبيض المقبلين، وسواء كان نهجهم انسحابيا أو تدخليا، فإن هذا شأن يخص الداخل الأمريكي ويستهدف تحقيق المصلحة الأمريكية وليس مصلحة المنطقة العربية والإسلامية بأي حال. مسلمات لا بأس من التذكير بها من حين لآخر.
909
| 08 أبريل 2015
بتصريح "الرئيس المصري" لصحيفة الوول ستريت بأن نظامه "حريص على العلاقة الاستراتيجية مع الولايات المتحدة فوق كل شيء آخر"، وأنه "لن يدير ظهره للولايات المتحدة إطلاقًا حتى لو أدارت الأخيرة ظهرها لنظامه"، وتصريحه بأن "نظامه لن يكون مؤذيا في علاقته الثنائية مع أمريكا"، وأنه "لن يتعامل بحماقة إطلاقًا مع أمريكا"، وتصريحه بأنه "لا يمكنه نهائيًا تقليل علاقاته مع الولايات المتحدة بسبب أنظمة الأسلحة"، بهذه التصريحات تكون العديد من صفحات المواجهة المفتعلة والأزمات الوهمية قد انطوت بين البلدين.الصفحة الأولى التي انطوت بعد التصريحات الأخيرة هي صفحة "المؤامرة الأمريكية الإخوانية". ففي وقت مبكر جدا بعد أحداث 3/7، اشتعل الإعلام الرسمي والفضائي بالحديث عن علاقة التحالف السرية بين الإدارة الأمريكية ونظام الدكتور محمد مرسي. هذه الدعوى اتهمت أمريكا بأنها الداعم الأكبر لنظام الإخوان المسلمين، وأن دعمها لهم تجاوز التأييد السياسي، ليأخذ شكل المساعدات المادية والتنسيق الاستخباراتي. وأن الانقلاب على نظام الدكتور مرسي كان بهذا المعنى هزيمة للمشروع الأمريكي، لأنه أطاح بحلفاء أمريكا وقضى على فرصة استمرارهم في الحكم. وقتها تراوحت الأدلة التي قدمها أنصار هذا الاتهام بين وجود صفقة بين الإخوان وبين الإدارة الأمريكية؛ يتنازل الإخوان بموجبها عن سيناء (لتهجير الفلسطينيين من إسرائيل إليها) في مقابل قيام الولايات المتحدة وإسرائيل بتمكين نظامهم، وبين وجود اختراق إخواني في أعلى مراتب الإدارة الأمريكية، وصل إلى حد اتهام الرئيس أوباما نفسه بأنه عضو فى التنظيم الدولي للإخوان المسلمين.الآن بات من المفهوم أنه لو كان لهذا الحلف أي أساس من الواقع لما قبل النظام المصري الحالي، والذي أطاح بالإخوان من الحكم، أن يقيم علاقة طبيعية مع أعدائه أو حلفاء أعدائه، ولكن تبين أن كل الحديث عن التحالف الأمريكي الإخواني كان ضجيجا بلا طحن، فالنظام الذي ادعى أنصاره أنه لن يحمل أى ود للإدارة الأمريكية ولن ينفتح في علاقته معها بأى درجة يصرح بكل وضوح أنه لن يعطيها ظهره حتى لو فعلت هي ذلك.الملف الثاني الذي انطوى بعد التصريحات الأخيرة هو الرواية المصرية لنظرية"حروب الجيل الرابع"، والتي افترض أصحابها انضواء الولايات المتحدة فى مؤامرة كبرى بهدف تفتيت المنطقة والقضاء على دولها وترك أنظمتها فريسة للتآكل الداخلي، وذلك لكي تستمر (أمريكا) في زعامتها للعالم من دون معوقات من جانب، ولكي تحمى ربيبتها إسرائيل من وجود أنظمة ممانعة بجوارها من جانب آخر. وأنها في سبيل تحقيق هذا الغرض استخدمت تقنيات خفية حينا وظاهرة حيناً آخر، مثل الحركات الثورية والجماعات الفوضوية (وعلى رأسها جماعة الإخوان المسلمين بطبيعة الحال!)، فضلاً عن الوسائل التكنولوجية والمعلوماتية والآليات النفسية مثل بث الشائعات، وإثارة الحساسيات العرقية، وتعبئة الشباب بأفكار سلبية ضد الدول ومؤسساتها، ونشر البلبلة والتشكيك في مشروعاتها القومية، وتوظيف الجماعات الدينية، فضلا عن استخدام الأساليب السياسية مثل المظاهرات والإضرابات.الآن تبدو الرواية الأمريكية هي الأقرب للتصديق، ففي مقابل الرواية المصرية ذات المنحى التآمري، تبنى الاستراتيجيون الأمريكيون رواية عكسية تنص على أن حروب الجيل الرابع هي نمط الحروب التي يتعين على الولايات المتحدة أن تواجهه في زمن القطبية الأحادية، على اعتبار أن قيام أى دولة بشن حرب على الولايات المتحدة حاليا يبدو أمرا مستبعداً، والأقرب إلى التخيل أن تنهض بهذه المهمة الجماعات المقاتلة من غير الدول، وبالفعل فإن النسخة الأمريكية من النظرية انطبقت بشكل كبير على المواجهات التي خاضتها الإدارات الأمريكية خلال العقدين الماضيين، وذلك في مواجهة تنظيمات مثل القاعدة، وتنظيم الدولة الإسلامية المعروف بداعش، ويتهم الساسة الأمريكيون الأنظمة الفاشلة والمتعثرة في المنطقة بالمساعدة على ازدهار مثل تلك التنظيمات، وذلك ردا على الاتهامات التي تتهم الأمريكيين بأنهم المسؤولون عن تكوينها (وسوف نخصص مقالة منفردة لمناقشة تفاصيل هذه الرواية الأمريكية).وأخيرا فإن من الصفحات التي يتعين أن تطوى كذلك صفحة التعاون المصري الروسي، تلك الصفحة التي صاحبها صخب كثيف وصف التقارب بين البلدين في حينه بعبارات على غرار "الصفعة المصرية الموجهة للولايات المتحدة"، و"نهاية التبعية للولايات المتحدة"، و"القاهرة تضع حدا للقوى التي تسعى للتدخل فى شؤونها الداخلية" (والمقصود الولايات المتحدة بطبيعة الحال). وقتها انتقد المحللون الجادون هذا التقارب، على اعتبار أنه لم يكن وليد رؤية إستراتيجية للعلاقة بين البلدين، وإنما مجرد رد فعل كيدي اتخذه النظام المصري إزاء قرار إدارة أوباما إيقاف جزء من المساعدات العسكرية المقررة لمصر بموجب اتفاقية السلام، وهو ما يفسر السرعة التي اتخذ بها القرار، كما يفسر قيام النظام الذي كان وقتها في مرحلة انتقالية (لم تكن قد أجريت انتخابات الرئاسة) بإبرام اتفاقات طويلة الأجل، تكبل السياسة المصرية لأجيال قادمة. ولكن المهللين رفضوا هذه الانتقادات واعتبروا أن التقارب المصري الروسي حتى لو كان يفتقر إلى الرؤية إلا أنه يكفي أنه قد سبب إحراجا للولايات المتحدة. عودة الود بين القاهرة وواشنطن، وفق العبارات الحارة التي استهل بها هذا المقال، يبين أن خطوة التقارب المصري الروسي لم تكن لا صفعة ولا نهاية للتبعية، وأن النظام المصري لا يملك رفاهية الاستغناء عن تحالفه مع واشنطن طالما أنه يعمل داخل ترتيبات كامب ديفيد، التي تجعل خياراته فيما يتعلق بتحالفاته الدولية محدودة أو شبه منعدمة.طي الصفحات السابقة، والتي تشير إلى أزمات مفتعلة أراد بها أصحابها تدعيم شرعية النظام القائم من خلال إظهاره على أنه في مواجهة مع أكبر دولة فى العالم، وذلك من دون أن يكون لهذه الأزمات أى أساس حقيقي، وفي نفس الوقت من دون محاسبة المسؤولين عن شَغل الرأى العام بها، يشير إلى الطريقة التي يتم بها إلهاء المواطنين عن القضايا الهامة، عبر إغراقهم في حالة من الصخب الفارغ الذي أصبح سمة مميزة للوضع السياسي المصري في هذه المرحلة.
456
| 25 مارس 2015
عندما يتجاهل السياسيون مبادئ علم الاقتصاد تتحول برامجهم إلى كوارث، فلكي يتخذ مسؤول ما قرارات فيما يتعلق بالمسائل السياسية المهمة، فإن عليه أن يتعلّم أساسيات علم الاقتصاد. ومن ذلك أن يفهم النظريات العلمية المعروفة في هذا المجال ويطبقها على نحو متسق ومنطقي. وإذا كانت النظريات الاقتصادية تميز بسهولة بين الأنظمة الرأسمالية التنافسية وبين أنظمة التخطيط المركزي الاشتراكية، فإن الورطة التي يقع فيها بعض السياسيين أنهم يحاولون الدمج بطريقة غير منهاجية بين النوعين، على نحو يوحي بأنهم لا يفهمون أيا منها.فالكثير من "الأنظمة الفردية" تخطط لمشاريع التنمية على نحو مركزي، ولكنها تفعل ذلك لمرة واحدة فقط، إذ هي تخطط مركزيا لصالح تسليم مقدرات البلاد لمستثمر رأسمالي، فتسن القوانين التي تسهل الاستثمار وتحصن المستثمرين وتيسر لهم التحلل من التزاماتهم، وتخفف القيود على الأصول العامة التي يتم تسليمها إليهم بلا مقابل، وتمكن الشركات الأجنبية من تقليل العمالة الوطنية بدون توقيع عقوبة عليها، وتجهز البنية التحتية خدمة لأغراض المستثمرين، وتخفض الضرائب، وتحد من قدرة العمال على الإضراب، وتجرم احتجاجاتهم بكافة أشكالها، بحيث يتكون في النهاية نظام اقتصادي يقوده الاستثمار الخارجي بمباركة القوى الدولتية، التي تسخر قدراتها البيروقراطية والتنفيذية تحقيقا لمصالح لا تمتد آثارها إلى خارج دوائر النخبة الضيقة (من الدولتيين والمستثمرين) إلى عموم الشعب المستهدف افتراضيا بهذه التنمية.وكما هو واضح فإن السمة الأساسية لهذا النظام الاقتصادي الهجين هي غياب المنافسة، فإذا كانت المنافسة تشكل مخرجا للكثير من أزمات الاقتصاد الحر وتهذيبا للكثير من انحرافاته، حيث تضمن أن المستثمر لن يراوغ أو يخادع، لأنه يعلم أنه في منافسة مع آخرين معنيين مثله بتحقيق الربح، فإن الآفة الأساسية للاقتصادات المهجنة هي تخصيصها المشاريع لمستثمرين بعينهم بالأمر المباشر، على نحو يعفيهم من عبء المنافسة مع غيرهم ويرفع عن كاهلهم عبء تجويد أدائهم الاقتصادي.وكما يغيب التنافس بين المستثمرين يغيب التنافس بين الإرادات السياسية المختلفة، وذلك إما بغياب الكيانات السياسية التي تملك موازنة السلطة التنفيذية، مثل البرلمان، ومؤسسات المجتمع المدني، والإعلام الحر، وإما بتسييس هذه المؤسسات على نحو يفقدها الفاعلية والتأثير، ما يُبقي القرارات المركزية (التي تتضمن تخصيص مليارات الدولارات) بدون مراقبة أو محاسبة. إن الأنظمة الاقتصادية الهجينة تجمع أسوأ ما في النظامين الاشتراكي والرأسمالي، فمن ناحية فإنها عادة ما تسلم الطبقات الفقيرة لجشع المستثمرين، الذين يفضلون في الغالب أنماط الإنتاج كثيفة الآلات ومنخفضة الأيدي العاملة، ومن ناحية أخرى فإنها تستبعد المواطنين من عملية اتخاذ القرارات المهمة، على افتراض أنها وكيلة عنهم في تحديد الأصوب والأنفع لهم. وإذا كانت عيوب الليبرالية الاقتصادية أوضح من أن تشرح، فإن الأمر ليس كذلك فيما يتعلق بالتخطيط المركزي، الذي يرى البعض أنه ضروري لتحقيق التنمية في الدول الآخذة في النمو. والحقيقة أن التوجيه المركزي في غيبة كافة مؤسسات الدولة بخلاف السلطة التنفيذية لا يعد ضمانا لتحقيق النمو الاقتصادي. ومن أشهر المفكرين المعاصرين الذين ناقشوا منظومة التخطيط المركزي وأبرزوا عيوبها، الاقتصادي النمساوي فريدريك فون هايك، الذي يؤكد أن التخطيط الذي تقوده إرادة منفردة عادة ما يشكل بيئة خصبة لنمو الأفكار الشمولية. فالمخطط يعشق السلطة التي تعني إجبار الناس على تبني خياراته، والديمقراطية عادة ما تقف عائقاً بينه وبين ذلك، ولذا تكون أولى خطوات المخطط المركزي أن يقضي على الديمقراطية أو أن يفرغها من كافة معانيها. من ناحية أخرى يؤكد هايك أن المخطط المركزي عادة ما يصل إلى عكس ما يرمي إليه، إذ تنتهي خططه الطموحة لتحقيق التنمية الشاملة إلى مجموعة من الإنجازات الجزئية والعشوائية. ويذهب هايك إلى أن العوامل التي تؤدي إلى نشوء الأفكار الشمولية المتطرفة في الأنظمة مركزية التخطيط تتمثل في التبجيل المتزايد للدولة، والقبول القدري بالاتجاهات الحتمية، والتحمس للتخطيط المركزي (الذي تقوم به الدولة بالنيابة عن المجتمع).ومن جمله المأثورة في هذا الصدد: "إن السلطة التي يتمتع بها المليونير الذي أعمل لديه هي أقل بكثير من السلطة التي يمتلكها أصغر بيروقراطي يفرض سلطة الدولة الإجبارية أو القسرية". وبالعودة إلى الأنظمة الهجينة كتلك الموجودة في عالمنا العربي نجد أن هذه المشكلة تتضاعف، إذ تجتمع على المواطن السلطتان، سلطة الدولة عبر بيروقراطيتها العقيمة، وسلطة الرأسماليين الذي تختصهم الدولة بالمزايا الاستثمارية والفرص التي لا تتيحها للآخرين على نحو متساو.مشكلة أخرى تواجه التخطيط المركزي أن الدولة تحتفظ لنفسها بكافة المعلومات، فيما تبقي المواطنين على درجة عالية من الجهل. وعليه إذا كانت ثمة مشكلة في تقييم الأداء أو الآراء الاقتصادية بشكل عام، فإن ثمة مشكلة أكبر في تقييم التخطيط المركزي، وذلك لأنه إما ألا يتيح للناس أي معلومات على الإطلاق، أو أنه يتيح المعلومات التي تظهر إيجابياته دون سلبياته، ومرة أخرى تتفاقم هذه المشكلة في الأنظمة الهجينة، حيث يتحول التخطيط إلى مناسبة للحشد السياسي، ومن ثم تعرض خطط التنمية على الناس في إطار من البروباجندا السياسية، وذلك بتصوير كل ما يتم القيام به من قبل تحالف النظام والمستثمرين على أنه حكيم وحتمي. غير أن هذه الأفكار - وفقا لهايك - هي بالضبط ما ينبغي اجتنابه في المجتمع الاقتصادي الرشيد، الذي يؤمن أفراده بأن من حقهم أن يعلموا وأن يناقشوا وأن يقرروا بأنفسهم ما يتم اتخاذه من قرارات، وأولى خطوات ذلك هي الاقتناع بأن ما يقوم به الغير بالنيابة عنهم هو رمز للفشل والحماقة والبعد عن الرشادة الاقتصادية.
3535
| 18 مارس 2015
يتفق المختصون على أن الجذر اللغوي لكلمة دولة في اللغات الأوروبية “estate” وكلمة “دولة” في اللغة العربية متناقضان على نحو تام، ففيما يشير الأول إلى الاستقرار والاستمرارية، فإن الثاني يشير إلى تقلب الأوضاع وتغيرها.لهذا فإن الترجمة الصحيحة لما يسميه الغرب بلغته “دولة” هو باللغة العربية “أمة” (حيث القصد والغاية وليس التقلب والتغير). وما يدفع باتجاه هذه الترجمة أنه “في إطار المعنى الديني والثقافي في التقليد الإسلامي يعد مفهوم الأمة أرسخ من مفهوم الدولة”، فالأمة مفهوم عضوي جامع، يفترض هدفا موحدا للجسد السياسي، يجمع أطرافه إلى بعضها البعض، ويمنعها من التحلل والانقسام. وكما لاحظ نزيه الأيوبي فإن مفهوم الأمة كان هو “المفهوم المركزي في الخلفية العربية والإسلامية، فيما لم تكن الدولة جزءا أساسيا من تفكير معظم المفكرين الذين ناقشوا قضايا الإصلاح والنهضة، ولم يكونوا معنيين على نحو كبير بدراسة الدولة كفكرة غربية أخذت مكانها وسط مفردات الواقع السياسي بقوة الأمر الواقع”.وحتى عندما تم الاعتراف بالدولة “الحديثة” كأمر واقع فإن مفهوما مشتقا من “الأمة الإسلامية” نازعها الانتشار في الخطاب السياسي والفكري، وهو المفهوم المتعلق بالأمة العربية أو القومية العربية. فيما ظلت الدولة القُطرية دوما على هامش الاهتمام، حيث كان ينظر إليها على أنها تصنيف إداري أكثر منها مناط للهوية والانتماء.ومن أبرز من نظروا لفكرة الأمة — الدولة في عالمنا العربي الدكتور حامد ربيع؛ عالم السياسة والمفكر القومي الشهير، والذي مثل استثناء هاما في تأكيده على مركزية الأمة / الدين كأساس للتكوين السياسي في العالم العربي، في وقت كانت معظم الاتجاهات القومية إما علمانية معادية أو مهمشة للدين في أحسن تقدير.والأمة عند ربيع تشير إلى معنى الجماعية، وفي إطارها تتراجع الثنائيات الحدية التي تجعل الفرد في مواجهة الدولة، والمدني في مواجهة الديني، والمَصلحي في مواجهة الأخلاقي، فالترابط هو الأساس، والعلاقة العضوية هي كلمة السر في التكوين السياسي. وإذا كانت الروح الفردية الراغبة في التحرر من سلطان الكنيسة، هي التي أفرزت الدولة الغربية الحديثة، فإن معنى الترابط والروح الجماعية (التي صنعها الجامع أو المسجد) هو الذي انبثقت من خلاله الأمة الإسلامية. وإذا كان مفهوم الأمة قد تراجع لصالح مفهوم الدولة فليس أقل من محاولة إصلاح “الدولة” على أساس من مفاهيم وقيم الأمة، وذلك بأن تصبح الدولة كيانا ذا عقيدة، تمثل الدعوة قلبها النابض، هدفها ليس زيادة الثروة، وليس تحقيق الهيمنة المادية، وليس فرض نمط اقتصادي أو استهلاكي معين على العالم، ولكن الدعوة ونشر النمط الأخلاقي والسلوكي الذي بعثت من أجله إلى العالم. والدولة الإسلامية، عند ربيع، تستخدم قوتها كأداة لتبليغ الرسالة وتحقيق الأهداف الثقافية والأخلاقية. ولا ينحصر دورها الحضاري في إطار وظيفتها السياسية، وإنما هي تدمج المثل الأخلاقية مع الأهداف المصلحية، بحيث تكون وظائفها ذات طبيعة كفاحية وتدافعية، بمعنى أنها ليست دولة الوضع الراهن، وليست دولة التوازنات الأبدية. وإنما هي تتحرك بشكل إيجابي وفاعل لتحقيق أهدافها الحضارية. أما على المستوى الداخلي فإن التوازن بالدولة الإسلامية يتحقق بالأساس من خلال الرقابة المجتمعية المتبادلة (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)، وليس من خلال قوى القهر أو المؤسسات التي تحتكر استخدام العنف.وفى إطار النموذج الإسلامي يستقل التقدم السياسي عن التقدم الاقتصادي، فلا توجد علاقة شرطية بين الأول وبين الثاني، ولا ينظر إلى التقدم الاقتصادي لأمة ما على أنه دليل على رقيها أو تحضرها، وإنما لابد من النظر إلى موضع القيم والأخلاق من تكويناتها السياسية.وإذا كان النموذج الحضاري الغربي للدولة قد قدم فكرة شديدة التجريد بالمعنى الأخلاقي أو الثقافي بحيث تبدو فيه الدولة منعزلة عن واقعها الثقافي وعن قيم مجتمعها، فإن الدولة الإسلامية هي في ذاتها تعبير عن مثل أعلى أخلاقي يمثله الإسلام نفسه، فالإسلام حتى وإن لم يتطابق مع نموذج سياسي معين، إلا أنه مثل أخلاقي متكامل، يوفر آليات الضبط الاجتماعي على المستوى الفردي والجماعي.وإذا كان الشكل الحديث للدولة يضمن لها استقرارا سياسيا إلا أنه لا يضمن لها الاستقرار الاجتماعي. كما أن لجوء الدولة للعنف لتحقيق الاستقرار يعد اختيارا غير عقلاني ففضلاً عن كون العنف ليس سوى مؤشر على ضعفها وهشاشتها، فإن العنف المبالغ فيه دليل على افتقار الدولة للدعم الأخلاقي والتربوي. وعلى العكس فإن الشكل السياسي للأمة الإسلامية، يفترض ربيع أنه يجسد المثاليات الأخلاقية والقيمية، ويضمن استقرارا سياسيا واجتماعيا في الوقت نفسه.يمكن إذن أن نلخص دعوة حامد ربيع إلى محاولته رد “الدولة الحديثة” ونظامها السياسي إلى حجمهما الطبيعي فالدولة ليست إلها يعبد من دون الله، ولكنها الإطار الذي يمكن من خلاله عبادة الله، ولكي تكون إطارا فاعلا يقترح ربيع أن تتطابق حدودها وحدود الأمة لكي يتسنى لها القيام بوظيفتيها الخارجية الموجهة للعالم أجمع، (قيادته والارتقاء بأخلاقه وقيمه)، والداخلية المتمثلة في إقامة العدل وتحصين المجتمع من الوقوع في براثن الاستبداد.
7538
| 11 مارس 2015
الأسطورة كما يعرفها البعض، تشير إلى تلك الوقائع الموغلة في القدم، التي تكتسب قيمتها من تكرار روايتها لا من تحققها الفعلي، فالنمط الذي تشير إليه الأسطورة يكون غير ذي زمن محدد، وهذا ما يجعل بالإمكان استدعاؤه في أي سياق. من ناحية أخرى تمثل الأسطورة وسيلة فعالة للتعايش مع التناقضات، على اعتبار أنها تحوي تفسيرات لجميع المواقف المتضاربة، وأخيرا فإن الأسطورة لا تكتسب معنى خاصا بها إلا من خلال الطريقة التي يتم تركيب عناصرها بها من أجل استخلاص معاني معينة منها، وعادة ما تقف الأسطورة في مواجهة النظرية العلمية، فهي كالحلم في مواجهة الواقع.ولسبب ما يتقولب الجدل حول مفهوم الدولة في عالمنا العربي في إطار معنى الأسطورة السابق، يستوي في ذلك الخطاب الذي يتبنى حل "الدولة الإسلامية"، والخطاب المقابل الذي لا يقبل بأقل من "علمنة الدولة". فكلا الطرفين يتحدث عما يتمناه، أكثر مما يمكن تحقيقه فعليا على الأرض، كما أنه في طرحه لنموذجه، يغبش على عدد من التناقضات التي تحتاج إلى معالجة بأكثر مما تحتاج إلى إخفاء، وأخيرا فإن كلا الطرفين يحدد معنى نموذجه على نحو توفيقي، وعلى حسب الجدل الذي يضطر لخوضه، ولا يلتزم بتصور محدد لما يتبناه أو يدعو إليه.فالخطاب الأول يقدم الدولة الإسلامية بوصفها حلما ليس له ملامح محددة، وحلا شاملا لكافة المشكلات غير المعرّفة بدقة، وتصورا ذا طبيعة مثالية لا ينتمي لعالم الأرض، تكمن قوته في مشاعر أفراده وعاطفتهم المشوبة بالرغبة في التضحية، وليس في كفاءتهم وخبرتهم العلمية والعملية، وفي إطار هذا الكيان تسقط النظريات وترتفع الأيديولوجيات، ويضحى بالتفاصيل لصالح الشعارات، ويتراجع العلم وتتقدم المعجزات، ففي إطار الدولة الأسطورة لا يقف ضعف القدرات أو غياب الإمكانات عائقا أمام تحقيق الإنجازات، (فيما يبدو كخرق لسنن الله الماضية في الخلق.)وفي إطار هذا الشكل الأسطوري تبدو الدولة المنتظرة على غير وفاق مع عالم المحسوسات، أي ما يمكن الوصول إليه من خلال الحواس، فوسائلها حزمة مما يتخيل أفرادها أنها يمكن أن تكونه، فصفة الإسلامية هنا هي الضامن لاجتياز العقبات، حتى لو كان هناك أقل القليل مما هو معلوم عن طبيعة هذه العقبات وأفضل الأساليب للتعامل معها.وبدوره فإن الخطاب الذي يروج للدولة العلمانية يقدمها على شكل أسطورة مضادة، فهي وإن لم تتحقق في الماضي في عالمنا العربي، فإنه يتم الرهان باستمرار على إمكانية تحققها في المستقبل. فهي تمثل الحداثة، والتنوير والتطور وكافة المفاهيم الإيجابية الأخرى (بشرط ألا تتضمن غيبا من أي نوع)، وهي دولة تتيح للناس أن يعيشوا بشرا من أجل مصالحهم، لا ملائكة من أجل مبادئهم. وهي دولة العالم المادي، الذي يمكن أن يرى ويحس ويستمتع به، وهي دولة العقل والمعلومات والتغلب على المشكلات، ليس فقط التي تنتمي لعالمها، ولكن التي تنتمي لعالم الغارقين في أحلام الحل الديني، وذلك عبر إعادة تأهيلهم ودمجهم بداخل العالم الموضوعي الذي لا مكان فيه للقيم أو المبادئ المفارقة، والذي لا يتحيز للخير ضد الشر، على اعتبار أن الخير والشر مفهومان نسبيان تصنعهما خبرات البشر واختلافاتهم الثقافية. وقد كان الانفصام بين الأسطورتين عاملاً مساعدا لكلاهما على التطور، لأنه من خلال هذا الانفصام استطاع كل طرف أن يستمر في تأكيد خصائصه المضادة لخصائص الآخر، وقد تفاقم ذلك بعد نشوب ثورات الربيع العربي حيث كان الكثيرون من أنصار الحل العلماني يخشون من نجاح الإسلام السياسي في تحقيق مشروعه، لأنه سيخرجهم من عالم الدولة الحداثية إلى عالم الدولة الرجعية على حد زعمهم. ومن ناحية أخرى كان أنصار الحل الإسلامي محبطين من أن التجارب التي خاضوها في أعقاب الثورات لم تسفر عن نمط الدولة التي كانوا يحلمون بها ويرسمونها في مخيلتهم، ما أتاح لنموذج العلمنة أن يظل في الصدارة.الشاهد أن منطق الأسطورة ظل مهيمنا على أذهان كلا الطرفين على حد سواء، رغم أن أيا من الأسطورتين لم يتح له التحقق فعليا على الأرض، ما أتاح لقوى الوضع الراهن أن تعيد تأكيد سطوتها وتستعيد سيطرتها. والسؤال هو هل يمكن التخلص من منطق الأسطورة، لصالح البحث فيما ينبغي أن تكونه الدولة (أو ذلك المجتمع السياسي العادل أيا ما كان اسمه) عمليا، وهل يمكن أن تلتقي الأسطورتان في بعض الزوايا، أم أن عناصر التنافر بينهما أكبر من عناصر الالتقاء؟المبشر أن أقلاما شابة كثيرة بدأت في مناقشة هذه التفاصيل على نحو تفاعلي وجاد، على مواقع التواصل الاجتماعي ومنتديات شبكة المعلومات الدولية، ولكن يعيبها عدم استفادتها من الأدبيات المهمة التي أنتجت بالفعل تحت هذا العنوان، لمفكرين كبار مثل حامد ربيع وسيف عبد الفتاح ومحمد عابد الجابري ونزيه الأيوبي، وهم من سنتناول أبرز مقولاتهم في مقالات تالية إن شاء الله.
1483
| 04 مارس 2015
ناقشنا في المقالات السابقة وجهة النظر التي تطالب الإسلاميين بإعادة الاستثمار في المجتمع لحين التوصل إلى صيغة معينة لشكل الدولة التي يرومونها. وفي الحقيقة فإن مشكلة الإسلاميين مع الدولة الحديثة تتعدى مجرد صياغة تصور للدولة إلى ضرورة التفكير في إعادة اختراع مفهوم الدولة نفسه، فالدولة القومية في التطبيق العربي لا يمكن الحصول منها على أكثر مما أتاحته بالفعل، وهو ما كان سببا في تعثر معظم تجارب الربيع العربي، خصوصا في الحالات التي كان الإسلام السياسي فيها في الحكم أو قريبا منه.وفي هذا الصدد فإن إعادة الاختراع تعني معالجة العيوب الهيكلية التي نتجت عن التعارض بين قيم الدولة الغربية وبين الوسط الثقافي والاجتماعي الذي غرست في إطاره في المشرق العربي. هذه العيوب الهيكلية لم يكن الإسلاميون ولن يكونوا قادرين على تجاوزها ما لم تتم دراستها وفهمها على نحو هاديء. ومن الدراسات القيمة في هذا الصدد، كتاب الدكتور نزيه الأيوبي: "تضخيم الدولة العربية: السياسة والمجتمع في الشرق الأوسط" والذي حلل الكثير من مظاهر العوار بالدولة العربية المعاصرة على نحو تجدر الاستفادة منه إذا ما أريد صياغة تصور جديد يتخلص من المشكلات التكوينية للدولة العربية والتي منها:أن الدولة في نسختها العربية لا تخضع لأي قواعد أو معايير يمكن تصنيفها على أساسها، فهي ليست دولاً جماعية، يعكس نظامها السياسي مصالح طبقة مسيطرة، وفي الوقت نفسه ليست دولة فردية وفق التعريف الليبرالي، وإنما هي خليط صاغته النخب العربية المتغربة على نحو انتقائي، تم في إطاره تقليد الغرب في شق السلطة ومخالفته في شق المسؤولية. بحيث أصبحت السلطة في الدولة العربية المعاصرة تعني احتكار القوة واستخدام العنف، ولكن دون التحمل بالمسؤوليات الموازية لهذه السلطة، و دون السعي لتبرير هذا الاحتكار بالحديث عن أي نوع من أنواع الشرعية، فالشرعية في إطار النموذج العربي هي مجرد وجه آخر للقوة ولا مكان فيها للرضاء الشعبي.وإذا كانت الدولة في التكوين الغربي تمتلك أساسا قانونيا يكسبها الشخصية الاعتبارية والوجود الشرعي، فإنها تملك — قبل هذا الأساس القانوني— تراثا اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا صاحَب نشأتها وتطور بها إلى أن صارت دولا حقيقية. أما الدول في التطبيق العربي فقد اكتسبت — غالبا — وجودها القانوني قبل أن تشهد التطور الاجتماعي والسياسي والاقتصادي الذي يؤهلها لتصير دولا معتبرة. بهذا المعنى "فإن كثيرا من الدول في المشرق العربي هي دول على الورق، نشأت بفعل صياغات قانونية ارتبطت بالانفصال عن المستعمر، ولكنها لم تنشأ كنتيجة لتطورات سياسية واجتماعية واقتصادية". و"الغريب أن هذا الأساس الشكلي تحول مع الوقت إلى عائق أمام تطور هذه الدول إلى دول حقيقية، فكثير من هذه الدول اكتفت بكونها دولاً ذات أساس قانوني من دون أن تسعى لتأكيد هذا الوجود من خلال اكتساب المقومات الضرورية للدولة القائمة على أسس اقتصادية واجتماعية وثقافية وإدارية صلبة".ورغم كونها دولا ذات مبرر قانوني فقط، تعاني معظم الدول العربية من مشكلات واضحة فيما يتعلق بتجسيد مفهوم "دولة القانون"، فعندما تم تطبيق هذا المفهوم في السياق العربي لم يتم الالتزام بمتضمناته الأساسية وهو المساواة بين المواطنين أمام القانون، "فالأفراد تتحدد أهميتهم على أساس من علاقاتهم بدوائر السلطة المختلفة، وليس على أساس من تساوى مراكزهم القانونية".تعاني أيضا الدولة في العالم العربي من الطبيعة غير المتوازنة، "فقد شهدت هذه الدول نموا في مجالات وقصورا في مجالات أخرى، وكان من أكبر المجالات التي شهدت نموا مفرطا البيروقراطيات، والتي شهدت تضخما أثناء فترات التواجد الاستعماري لخدمة أغراض الاستعمار، ولما كان جزء كبير من نشاط هذه البيروقراطيات معزولا عن المصالح الوطنية، فقد تمتعت هذه البيروقراطيات بالاستقلال النسبي حتى بعد خروج المستعمر من البلاد العربية. والغريب أن أبرز البيروقراطيات التي عكست هذه الخصائص هي البيروقراطيات العسكرية"، الأمر الذي منحها استقلالية، ثم نفوذا متزايدا في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.غير أن معضلات دولة ما بعد الاستعمار في العالم العربي لا ترجع إلى حقيقة كونها مجرد دول قانونية غير مكتملة، أو دول متضخمة فأبرز مشكلات الدولة العربية المعاصرة تكمن في خروجها عن وظيفتها كوسيط وحكم بين القوى المكونة للمجتمع وتقلصها إلى مجموعة من النخب الحاكمة الراغبة في الدفاع عن مصالحها، التي توصف في هذه الحالة بمصالح الدولة. فالأصل أن الدولة جهاز مستقل عن المجتمع، وليس له مصلحة مختلفة أو مستقلة عن مصلحة الجماعات والأفراد الذين تتكون منهم، وأنها تلعب دور الوسيط أو بين هذه القوى حال تنازعها لتحقيق الصالح العام. ولكن بتقلص مفهوم الدولة إلى مجرد جماعة مصالح، ودخولها إلى حلبة التنافس السياسي والاقتصادي للدفاع عن مصالحها، وذلك في ضوء امتلاكها من القدرات ما يجعل المنافسة محسومة لصالحها منذ البداية، ثم استغلالها جهازها الإعلامي لإقناع الأفراد أنها تعكس مصلحتهم، عند هذا الحد، والذي وصلت إليه معظم الدول العربية للأسف، تخرج الدولة عن أي تعريف عقلاني، وتصبح بالفعل بحاجة إلى إعادة الاختراع من جديد. المرجع الأساسي: نزيه الأيوبي: تضخيم الدولة العربية، المنظمة العربية للترجمة
1420
| 25 فبراير 2015
تعرضنا في المقال السابق لوجهة النظر التي تذهب إلى أن حركات الإسلام السياسي لم يعد بمقدورها لا إصلاح ولا التصالح مع الدولة الحديثة، وأن فشل التلاقي بين قوى الإسلام السياسي والدولة في أعقاب الموجة الأولى من موجات الربيع العربي لم يكن فقط بفعل مؤامرات الدولة العميقة، ولا ضغوط القوى العلمانية، ولا يرجع إلى الدور الخارجي، الذي يرى في وصول الإسلاميين إلى الحكم تهديدا لمصالحه، كما لم يكن الانقلاب العسكري هو الخطر الأهم، ولكن كان الأخطر من كل ما سبق هو فشل قوى الإسلام السياسي في كسب المجتمع إلى جانبها. ونستكمل في هذا المقال هذه الرؤية التي تركز على المجتمع، وتنتقد تجربة الإسلام السياسي لكونها فقدت بوصلتها حينما ركزت على الدولة أكثر من المجتمع، فدخلت لعبة السياسة من البوابة الخطأ.فمع التسليم بتأثير كافة العناصر السابقة، يرى أصحاب هذه الرؤية أنه لابد من الاعتراف بأن قوى الإسلام السياسي كانت تعاني مشكلات حقيقية في التعاطي مع فكرة الدولة. وكان طوق النجاة الذي يمكن أن تتعلق به لحين تسوية هذه المشكلات هو المجتمع، ولكنها لم ترغب في الاستثمار فيه على نحو حقيقي، وظلت على محاولتها اللاهثة للتشبث بأهداب المشروع العلماني للدولة، ما جعل منها بديلا غير مقنع في أعين مناصريها قبل منافسيها.لقد حاول الإسلاميون مرارا وتكرارا أن يظهروا انفتاحهم على مفاهيم الدولة الحديثة وتقبلهم لمؤسساتها وقواعدها. وفي هذا الصدد أصدرت جماعة الإخوان المسلمين، كبرى حركات الإسلام السياسي، بيانا اعتبرت فيه أن "الدولة المدنية" لا تتعارض مع الإسلام، "فالدولة الحديثة بما فيها من آليات ونظم وقوانين وأجهزة، إذا لم يكن فيها ما يتعارض مع ثوابت الإسلام القطعية، فلا يوجد ما يمنع من تطويرها والاستفادة منها، كمنتج إنساني عام".والسؤال الذي يطرح نفسه هو: هل استطاع الإسلاميون تطويع مؤسسات الدولة الحديثة، دون أن ينحرفوا إلى عكس ما يستهدفونه. تبدو الإجابة عن هذا السؤال أقرب إلى النفي، فمن الواضح أن الدولة الحديثة قد فرضت قواعدها، فلم تنجح أيّ من الأنظمة الموصوفة بالإسلامية في أن تنتج نسخة منقحة من نظام الدولة العلمانية، و"ظلت الدولة الحديثة هي القالب المفضل عند الإسلاميين بكافة أطيافهم"، ولم ينجحوا في الانتقال بها إلى الشكل النموذجي الذي كانوا يعدون به، كما لم ينجحوا - وهذا هو الأهم - في إقناع مجتمعاتهم بأنهم قادرون على فعل ذلك.ومتى تم التسليم بهذه الحقائق يصبح الأولى - من وجهة نظر الإصلاحيين المعاصرين - هو التوجه إلى المجتمع لإنتاج الدولة من داخله، وليس التوجه إلى الدولة لإصلاح المجتمع من خلالها، وذلك من خلال إعادة بناء الأساس القيمي للمجتمع، وإقناع أفراده بجدوى الطرح الإسلامي، وإبراز آفات الحداثة وآفات منتوجاتها العلمانية. من المهم أيضا، وفقا لهؤلاء، العمل على "إعادة بناء التصورات الاجتماعية الخاصة بالحرية الشخصية، وانتزاع عقلية الوهن والقبول بالاستبداد من الشعوب التي عاشرت الظلم لفترات طويلة، واستبطنت ذلك في نُظمها الثقافية وتنظيماتها الاجتماعية والمجتمعية والحركية، بل والعلمية". ويؤكد هؤلاء على أن التركيز على الاجتماعي ليس انصرافا عن السياسي أو هروبا منه ولكنه البديل الأوقع لإعادة إنتاج الدولة من أسفل إلى أعلى، بدلاً من الإصرار على الحلول الفوقية ذات الضريبة المرتفعة.من ناحية أخرى فإن قوة المجتمع لا تمثل خصما من قوة الدولة ولكن إضافة لها، خاصة أنها تجعل الدولة كيانا مركبا لا يمكن التحكم فيه فقط من خلال التحكم في قمة هرمه السياسي. ويؤكد المصلحون المعاصرون أن استقلالية المجتمع في الخبرة الإسلامية كانت تصعب مهمة أي معتد أو محتل، حيث كان عليه في هذه الحالة أن يسيطر على مجتمع مركب وليس مجرد نظام سياسي محدود. ويطرحون في هذا الصدد مثال الحملة الفرنسية على مصر 1898، فهذه لم تدم لأكثر من ثلاث سنوات بفعل الحيوية التي كان عليها المجتمع، والذي جعلته في حالة ثورة مستمرة على المحتل، الذي انتهى به الحال إلى الانسحاب السريع نسبياً أمام المجتمع الثائر.ولكن بتعاظم قوة الدولة أثناء حكم الأسرة العلوية (محمد علي وأبنائه)، تقلصت قدرات المجتمع على نحو هائل، وأصبحت السلطة السياسية هي مركز القوة الوحيد، بحيث إن الإطاحة بها أو السيطرة عليها، كان يعني إخضاع الدولة بأكملها. وهذا هو ما حدث عام 1882، عندما احتلت بريطانيا مصر بسهولة بفعل نجاحها في احتواء نظامها السياسي، في الوقت الذي لم يكن المجتمع فيه في أحسن أحواله، ما أدى إلى أن يستمر الاحتلال هذه المرة لسبعين سنة.ما الذي يعنيه ذلك، يعني ذلك أن تيارات الإسلام السياسي عليها أن تعيد توجيه بوصلتها ناحية المجتمع، لإيجاد الحاضنة الطبيعية لها، فوفقا لمبدأ الميزة النسبية لآدم سميث، فإن على الإسلاميين أن يستثمروا فيما يجيدونه وما يتميزون فيه، أي في المساحة الدينية، وهذه جمهورها الرئيسي هو المجتمع، لكن إذا انصرفوا عما يجيدونه إلى ما لا يجيدونه، أي الدولة، فقد يخسرون الدولة والمجتمع معا. للمزيد يراجع كتاب، وائل حلاق، الدولة المستحيلة، ودراسات هبة رؤوف عزت، من الدولة إلى التجديد.
674
| 18 فبراير 2015
في إطار حالة الانقلاب الإقليمي على ظاهرة الإسلام السياسي تحول الكثير من المهتمين بالظاهرة الإسلامية إلى القناعة بعدم إمكانية إصلاح الدولة أو التصالح معها على أساس ديني، ونقلوا رهانهم إلى مستوى المجتمع. فقد تبين لهؤلاء أن الدولة الحديثة التي أفرزتها التطورات الغربية، وقدمت إلى المشرق فى ركاب المستعمر الأوربي، مستعصية على الإصلاح، وأن تحقيق مشروع إسلامي فيها يبدو أصعب مما كان يتصور المصلحون الأوائل من أمثال جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، ورشيد رضا.وقبل أن نناقش مغزى الدعوة الجديدة، نناقش فى هذا المقال الحجج التي يطرحها المصلحون المعاصرون حول صعوبة الإصلاح أو التصالح مع الدولة الحديثة، فما الذي تبين لهؤلاء فيما يخص مشروع الدولة القومية وجعلهم ينقلون رهانهم الإصلاحي إلى خانة المجتمع بدلا من خانة الدولة. يسوق هؤلاء عددا من الحجج، أبرزها أن الدولة الحالية هي حصيلة تراكم فكري عكس خصوصية التجربة التاريخية الغربية وتشرب بقيمها (أو لا قيمها)، وانتصر لتصوراتها حول الإنسان والطبيعة والمجتمع، على نحو مغاير لمفاهيم الواقع الإسلامي. وعندما تم تصدير هذه "الدولة" إلى المشرق، فإنها جاءت محملة بتحيزاتها على نحو عضوي لا يمكن علاجه، ولهذا فشلت تيارات الإسلام السياسي في أعقاب الموجة الأولى من موجات الربيع العربي في الحكم، بسبب فشلها في مجاراة المنظومة القيمية للدولة الحديثة، وعجزها عن التكيف مع مؤسساتها ومفاهيمها، وعدم امتلاكها لرؤية بديلة تفعّل من خلالها تصوراتها للإصلاح السياسي المنطلق من أرضية دينية.من ناحية ثانية نجحت منظومة الدولة الحديثة في ترسيخ المفاهيم السياسية المرتبطة بها، مثل الولاء والمواطنة والسيادة، فيما جرمت كافة المفاهيم التي تمثل انحرافا عن هذا الأصل. فالتوجه بالولاء لغير كيان الدولة (للرابطة الدينية مثلا) يمثل في عرف الدولة الحديثة نوعا من الخيانة. أيضا فإن ترسيخ معنى سيادة الدولة بوصفها السلطة التي لا تعلوها سلطة، مثل نقطة هامة نجحت الدولة الحديثة فى إحرازها، فالقليلون الآن هم من يشككون في صحة هذه الفكرة، فحتى أضعف الدول على مستوى القدرات والموارد يمكنها أن تدعى أنها دول ذات سيادة، صحيح أن ترتيب الدولة ضمن هيكل النظام الدولي يحدد مكانها الحقيقي وفقا لقدراتها وليس وفقا لما تدعيه من سيادة، ولكن على المستوى الداخلي، يمكن لأي دولة أن تدعى السلطة العليا على جميع مكوناتها الداخلية، من الأفراد والجماعات والقبائل. بحيث تجعل من يغامر بتحديها موصوفا بالخروج على النظام، أو مقاومة الدستور، أو غير ذلك من تهم الخيانة العظمى. من ناحية أخرى فإن الدولة الحديثة هي جزء من نظام عالمي مستقر، لا يقبل بأي تغيير هيكلي يلحق بأحد مكوناته، فمن المهم أن تظل جميع الوحدات (بما فيها تلك المارقة) على شكلها المقبول بالنسبة للتنظيم الدولي، وهو شكل الدولة القومية، والتي يمكن تأديبها عسكريا أو اقتصاديا، أو في أسوأ الظروف احتلالها. ولكن لا يمكن قبول أن تتحول إلى شكل غير قومي، تنتقل السيادة في إطاره إلى جماعة أو جماعات غير متطابقة مع المفهوم القومي. فالكيانات من غير الدول هي عفريت النظام العالمي المعاصر، ونشير في هذا الصدد إلى الجدل الكبير الذي أثير بمناسبة ما عرف بحروب الجيل الرابع، حيث كان الهاجس الأعظم المرتبط بهذا المفهوم هو تراجع دور الدولة لصالح الجماعات من غير الدول.المركب السياسي الاقتصادي أيضاً لا يبدو أنه قابل للفصم، فالدولة الحديثة وحدة سياسية/اقتصادية في ذات الوقت، وبمجرد اعتراف ما يسمى بالمجتمع الدولي بدولة ما فإن هذا يعني أنها قد أصبحت جزءا من منظومة اقتصادية بعرض العالم، منظومة لها قيمها المغايرة بطبيعة الحال للقيم الدينية بشكل عام والقيم الإسلامية بشكل خاص. وفي الوقت الذي حاولت فيه التجارب الإسلامية أن تتجاوب مع هذه المنظومة على نحو ذرائعي، وفي نيتها أن تستقل عنها في مرحلة من المراحل، فإن الحاصل أن المركب السياسي الاقتصادي كانت له الغلبة، وكان هو من فرض شروطه وليس العكس.ولذا فإنه رغم كل ما يقال عن أزمة الدولة الحديثة، وكيف أن ظاهرة العولمة قد أدت إلى تراجع أهمية الدولة، وعن دور التكنولوجيا الحديثة في تفكيك المعنى التقليدي للسيادة، وعن بروز الجماعات من غير الدول، رغم كل ذلك تظل الدولة هي الفاعل الأبرز في كافة السياقات الإقليمية والعالمية، ومن ثم يصبح الرهان على إمكانية تغيير طبيعتها ثقافيا أو اجتماعيا أو سياسيا رهانا غير مضمون، فليس ثمة ما يؤكد أن الدولة الحديثة يمكن أن تتخلى عن شكلها التقليدي، صحيح أن هناك العديد من الظواهر التي تنافسها، أو تشكل تحديات لها، ولكن تصميم الدولة الحديثة قد أخذ فى الاعتبار أن ينزع عن كل ما ينافسها صفة الشرعية، ما يضمن لها أن تظل في الجانب الآمن في إطار أي منافسة تشهدها.لهذه الأسباب ولغيرها أيضاً بات الكثير من الإصلاحيين المعاصرين معنيين أكثر بالاستثمار في ظاهرة "المجتمع الإسلامي"، وليس "الدولة الإسلامية"، على اعتبار أن هذه الأخيرة خيار مؤجل أو حتى مستحيل على حد البعض. فما مضمون هذه الدعوة البديلة وما هي احتمالات نجاحها، هذا ما نناقشه في مقال لاحق.
632
| 11 فبراير 2015
في منتصف القرن التاسع عشر، شاعت عبارة "رجل أوروبا المريض" للإشارة إلى الإمبراطورية العثمانية في مرحلة ضعفها، حيث اعتبر الغربيون وقتها أن دولة الخلافة قد أصبحت مصدرا للمشاكل والأزمات بعد أن غرقت في الديون وتوالت عليها الهزائم العسكرية، وأنه لا حل إلا التخلص منها عبر تقسيمها بينهم.وبالفعل تفككت دولة الخلافة، ولكن سرعان ما ظهرت حركات إسلامية مستقلة في أرجاء العالم الإسلامي في محاولة لسد الفراغ الذي أحدثه غياب الرابطة السياسية بين دول المسلمين. وقد تفاوت أداء هذه الحركات صعودا وهبوطاً إلى أن وصلت إلى قمة أدائها السياسي في أعقاب الموجة الأولى من ثورات الربيع العربي عندما تمكنت من الوصول إلى سدة الحكم أو كادت، في عدد من الدول، قبل أن تزاح بالقوة من صدارة المشهد السياسي وتتوالى عليها هي الأخرى الهزائم السياسية والنكبات.وفيما يبدو أنه إعادة لمشهد تاريخي قديم، بدأ من يمثلون الامتدادات الفكرية للغرب في المشرق يتناقلون تحليلات تحمل نفس المعنى القديم، وهو أن هذه التيارات الإسلامية قد أصبحت هي الأخرى رجلا مريضا، يتعين التخلص منه والبدء في وضع التصورات المناسبة لإعلان وفاته. حملة هذه الدعوى من النخب العلمانية يدعون أن التيارات الإسلامية بحالتها الحالية أصبحت غير قابلة للدمج داخل أي نظام سياسي، وأنها غير متوافقة مع قيم الدولة الوطنية الحديثة. كما يصرحون أن تيارات الإسلام السياسي في مجملها تعاني معضلة مع فكرة الحداثة وتجلياتها المختلفة خصوصا ذات الطبيعة السياسية. أما الحل الذي تطرحه هذه النخب للتعامل مع هذا الوضع فيتطابق بدوره مع الحل الذي طرحته القوى القديمة، من ضرورة تفكيك هذه التيارات والعمل على إيجاد بدائل مستأنسة لها، يتم الاحتفاظ بها تحت مستوى معين من القوة والفاعلية.وقد مثل "رجل أوروبا المريض" قديما مشكلة لأنه رغم مرضه احتفظ بقدر كبير من عوامل قوته، الأمر الذي حال بين أعدائه وبين إمكانية القضاء المباشر عليه، ولذا كانت حالته تناقش في إطار ما كان يعرف بالمسألة الشرقية "Eastern Question". الأمر نفسه حاليا فيما يتعلق بالتيار الإسلامي حيث يوصف بأنه "أضعف من أن ينتصر ويفرض كلمته، لكنه أيضاً أقوي من أن يتم استئصاله أو تجاهله". وعناصر القوة التي ترى النخب العلمانية أن التيار الإسلامي ما زال يتمتع بها تتمثل في "جاذبية أفكاره الدينية بالنسبة لقطاعات شعبية واجتماعية معتبرة". ويرى هؤلاء أنه "طالما ظلت هذه الأفكار والاعتقادات الدينية موجودة بشكل مركزي في الثقافة والوجدان الجمعي، طالما ظلت التيارات الإسلامية هي التيارات السياسية الوحيدة القادرة علي طرح نفسها أيديولوجيا وتنظيميا". وعليه فإن قوة التيار الإسلامي من وجهة نظر خصومه، لا ترجع لنجاحه الداخلي، ولكن لأن ثمة معطيات من الفشل تحيط به وتبرر استمراره. أما عناصر ضعف أو فشل التيار الإسلامي من وجهة نظر خصومه فتتعلق بكونه يقدم أفكارا وتصورات سياسية عن الدولة (المواطنة، التعددية، وظيفة الدولة، علاقتها بالمجتمع، بنية الاقتصاد، دور المؤسسات)، تختلف مع التصورات الحداثية، الأمر الذي يعد من وجهة النظر الناقدة إفلاساً وعجزا عن التواؤم مع مشكلات العصر.ويرفض العلمانيون محاولات جمع التيارات الإسلامية بين مظاهر الحداثة وقيم التراث، فالإجابة عن مشكلات العصر وفقا لهم يجب أن تكون حدية؛ إما حداثة مطلقة، وإما لا. أما محاولة التوفيق بين مقولات الحداثة والتراث، فينظرون إليها على أنها نوع من الترقيع، وعليه فإن فكرة الدولة القومية لابد وأن تكون الصياغة الوحيدة المطروحة، أما امتلاك أي تصورات عن فكرة الخلافة والأمة فيدخل في إطار الارتباك الذي يتهم العلمانيون تيارات الإسلام السياسي به.كما تعيب الأصوات العلمانية بشدة الفكرة الأممية عند الإسلاميين، واعتبارهم أن الفكرة الدينية متجاوزة للحدود الوطنية، كما ينتقدون تأكيد الإسلاميين على فكرة أن السيادة العليا ينبغي أن تكون للشرع وليس للشعب، مثلما هو الحال مع الفكر الحداثي. ويضيف التحليل العلماني إلى ما سبق اتهامات متعددة من قبيل "افتقار الإسلاميين إلى الخيال السياسي، والصلف الذي يصور لهم دائما أنهم يمتلكون «الحقيقة»، والزهو بقوة تنظيماتهم واتساع أرضيتهم الشعبية، وإحالتهم الدائمة لتجارب قديمة، لم يُتَح اختبارها فعليا في الزمن الحالي".بطبيعة الحال لم يكن اتهام الغربيين للدولة العثمانية بأنها صارت رجلا مريضا اتهاما منشئا، ولكنه كان بدرجة كبيرة اتهاما كاشفا، صحيح أن الدول الغربية أسهمت في هذا الإضعاف، ولكن دولة الخلافة كانت قد احتوت على كل مقومات الانهيار، الذي انتظر فقط أن يعلن عنه بشكل علني. الشيء نفسه يمكن قوله فيما يخص جماعات الإسلام السياسي المعاصرة، فهذه تحتاج إلى مراجعات كثيرة لتطوير رؤية ذاتية متسقة ومتجانسة، وقادرة على العبور بهذا التيار والمنتمين إليه الأزمة التي يعيشونها في هذه المرحلة، وذلك بغض النظر عن تحامل الانتقادات العلمانية الموجهة ضدها، وبغض النظر عن حقيقة أن هذه النخب العلمانية نفسها كانت أحد العوامل التي أسهمت في فشل تجربة الإسلاميين السياسية وعدم اكتمالها. فالقضية الآن لم تعد الفوز في السجال مع التيارات الأخرى، وإنما في تحاشي ما تحاول هذه التيارات أن تدفع التيار الإسلامي إليه من مصير يشبه مصير رجل أوروبا المريض.
826
| 04 فبراير 2015
يرجع فشل الموجة الأولى من ثورات الربيع العربي في قدر كبير منه إلى عدم حسم العلاقة بين مفهومي التحرر السياسي والعلمنة. فقد استهدفت العديد من القوى المدنية (العلمانية) التي شاركت في الثورة تحررا سياسيا وتحررا من الدين في الوقت ذاته، وبناء عليه فقد كان فوز التيار الإسلامي بنصيب الأسد في الاستحقاقات الانتخابية التي تلت الموجة الأولى من الثورات عاملاً أساسيا في انقلاب شركاء الثورة على بعضهم البعض، فمن شاركوا في الثورة امتلكوا تصورات مختلفة بخصوص الدولة المنشودة والنظام السياسي المستهدف، وكانت العلاقة بين الديني والسياسي في القلب من هذه الاختلافات، الأمر الذي انتهى بعاصفة من الاتهامات المتبادلة بين الأطراف التي جمعت بينها "الثورة على الاستبداد" ثم فرقت بينها "تصورات إدارة مجتمع ما بعد الثورة". ولا يستبعد أن تتجدد هذه الاتهامات مرة ثانية إذا ما أحرزت الموجة الحالية من الاحتجاجات الجماهيرية نجاحا، ولو جزئيا. فالأطراف العلمانية تثور وفي ذهنها تصور منبثق عن التصور الغربي، مفاده أن الدولة هي الكل، وأن الدين هو الجزء، ولا يمكن للجزء أن يسمو على الكل، بل إن بقاءه رهن ببقاء الكل. ويتم هنا تمثل العلاقة بين الجسد والأعضاء، فإذا انعدم الجسد فلا معنى من بقاء اليد أو الساق، أما إذا انعدمت اليد أو الساق فمن الممكن أن يظل الجسد قائما.والدولة وفق هذا التصور وليدة الطبيعة المادية، وهذه الطبيعة نظام منغلق على ذاته، متكامل ومتجانس، لا توجد بداخله تناقضات تستلزم استدعاء قوى خارقة للطبيعة (مثل الدين) لحلها، فالطبيعة تحوي قوانينها الملازمة لها، والتي يمكن للفكر الإنساني أن يكتشفها، ومتى كشفها أمكن له أن يستفيد منها لتحقيق سعادته الدنيوية. ولما كانت الدولة ظاهرة طبيعية، فمن المفترض ألا ينشأ بينها وبين الفرد الطبيعي أي نوع من أنواع التناقض، وإذا ما حدث مثل هذا التناقض فإنه يكون بفعل أخطاء إنسانية، كأن ينشأ الاستبداد بفعل الخروج على حكم الطبيعة وقوانينها، وليس بفعل الانحراف عن تشريع غيبي المصدر، متجاوز لحدود وقدرات عالم البشر.الدولة وفق هذا التصور الوضعي تدعي المقدرة على الكمال في ذاتها وعلى تحقيق الحياة المكتملة للأفراد بمعزل عن الدين. ولا يملك الدين وفق هذا التصور إلا أن يقبع في إطار الترتيبات الداخلية للدولة وإلا واجه خطر الاستبعاد تماماً. والتماسك السياسي وفق التصور العلماني لا يتحقق بفضل اعتناق الدولة لدين معين، ومن ثم لا يحق لأي دين أن يسعى لنشر مذهبه أو معتقده في إطار الدولة، فبعد أن كان هذا يؤدي إلى المزيد من التماسك في الماضي، أصبح ينظر إلى تمدد الظاهرة الدينية على أنه يحمل تهديدا في الوقت الحاضر.وفي إطار التصور العلماني، تنهض الدولة الحديثة على أساس من القوة المادية، ويمكنها أن توظف الدين لزيادة قوتها تلك، وعلى العكس لا يمكن للدين أن يشاركها لا في قوتها ولا في السعي لكسب قوة خاصة به، فعلى الدين أن يظل تابعاً، وأن يتأقلم مع الأوضاع التي تفرضها الدولة، بحيث تصير المؤسسة الدينية مؤسسة وطنية، تتبع الدولة وتلتزم بقواعدها السياسية. وبعيدا عن عالم الأفكار وبالرجوع إلى أرض الواقع، نجد أن الدولة وفقا للتصور العلماني قد حددت لنفسها منذ اللحظة الأولى لنشأتها موقفا صارما من الدين. فقد نص صلح وستفاليا الشهير، والذي يؤرخ به كبداية للدولة القومية الحديثة، نص على أن تمتنع الحكومات الموقعة عليه عن دعم من يدينون بدينها في النزاعات التي يخوضونها. كما ألزم الاعتراف بالسلطة الإقليمية الملوك بعدم التدخل في شؤون الآخرين، الأمر الذي مكن الدولة الحديثة من أن تستقل بشؤونها وهي في مأمن من تدخل القوى الخارجية فيها بحجج دينية. وقد نجح نظام الدولة القومية في جعل الاستقرار هو الغاية النهائية، وتمت التضحية بالأهداف الدينية، التي كانت في وقت من الأوقات المحرك الأساسي لسياسات الدول.من ناحية أخرى مكنت مفاهيم السيادة الدولة الحديثة من فرض التطابق الثقافي والسياسي على مواطنيها بطريقة أكثر فاعلية، حيث أصبح من حق الدولة سياديا أن تفرض نمطا ثقافيا وطابعا قوميا في كل زاوية من زوايا إقليمها الجغرافي. وهو ما أدى إلى تراجع قدرة الدين أو بالأحرى قدرة من يتصدون للدعوة الدينية على إحداث أي تأثير داخلي، اللهم إلا في المساحة التي تسمح لهم الدولة بها.بهذا المعنى فإن التصور العلماني لا يقبل من الدين إلا أن يتحول إلى نظير علماني، يمكن استيعابه داخل بنى ومؤسسات الدولة القومية، بحيث يصبح عاملاً من عوامل استقرار الدولة، أو دعم شرعية القائمين عليها، وذلك عن طريق تطويع أحكامه وشرائعه بما يتفق مع شرائع الدولة وأحكامها.فهل تعي وتقبل تيارات الإسلام السياسي هذه التصورات العلمانية للدولة قبل مطالبتها للقوى المدنية بإعادة الاصطفاف معها، وما هو تصور الدولة الذي تستهدفه القوى الدينية وهي تسعى لاستئناف ثوراتها من جديد؟ أسئلة سوف تخسر القوى الإسلامية الكثير إن هي لم تقدم إجابات مبكرة عنها.للاستزادة يراجع كتاب "مفهوم الدولة"، لعبد الله العروي.
2337
| 28 يناير 2015
مساحة إعلانية
 
        نعم، أصبحنا نعيش زمنًا يُتاجر فيه بالفكر كما...
6633
| 27 أكتوبر 2025
 
        في زمنٍ تتسارع فيه التكنولوجيا وتتصارع فيه المفاهيم،...
6492
| 24 أكتوبر 2025
 
        المسيرات اليوم تملأ السماء، تحلّق بأجنحةٍ معدنيةٍ تلمع...
2682
| 28 أكتوبر 2025
 
        كان المدرج في زمنٍ مضى يشبه قلبًا يخفق...
2016
| 30 أكتوبر 2025
 
        جاء لقاء حضرة صاحب السمو الشيخ تميم بن...
1698
| 26 أكتوبر 2025
 
        على مدى العقد الماضي أثبتت دولة قطر أنها...
1506
| 27 أكتوبر 2025
 
        النّهضة هي مرحلة تحوّل فكري وثقافي كبير وتمتاز...
1068
| 24 أكتوبر 2025
 
        لا بد عند الحديث عن التصوف أن نوضح...
1017
| 27 أكتوبر 2025
في زحمة الحياة اليومية، ونحن نركض خلف لقمة...
1011
| 29 أكتوبر 2025
 
        في زمنٍ تاهت فيه الحدود بين ما يُقال...
1011
| 24 أكتوبر 2025
 
        “أبو العبد” زلمة عصامي ربّى أبناءه الاثني عشر...
954
| 27 أكتوبر 2025
 
        عندما تحول العلم من وسيلة لخدمة البشرية إلى...
852
| 26 أكتوبر 2025
مساحة إعلانية
