رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

Al-sharq

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

الشرق

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

العرب وإيران في (عقيدة) أوباما (2)

ذكَرنا في مقالٍ سبق مقابلة الرئيس الأمريكي مع توماس فريدمان، المخصص لإيصال رسائل خاصة للعرب والإيرانيين، إن واقعية الرئيس الأمريكي باراك أوباما، ومعها صراحتهُ، قد تكونان خيراً على حاضر العرب ومستقبلهم، إذا عرف هؤلاء كيف يتعاملون مع تلك الحقيقة. وأكدنا أننا اليوم بإزاء رئيسٍ أمريكي يواجهنا كعرب، ربما لأول مرة، بحقيقة أفكاره تجاه المنطقة وأهلها. والواضح أن كلام أوباما في المقابلة يؤكد هذا التوصيف إلى درجةٍ كبيرة. فحين يتحدث الرجل عن العرب، نَجدهُ يوجه حديثه لدول الخليج في لفتةٍ ذات دلالة.. وبعيداً عن منطق الحديث والذم، يبدو أن جزءاً من واقعية الرئيس الأمريكي في رؤيته للمنطقة تتمثل في أن هذه الدول هي التي بقيت، بشكلٍ أو بآخر، أبعد الدول العربية عن الفوضى التي عمَّت وتَعُمﱡ المنطقة. فالدول العربية الكبرى الأخرى، من العراق إلى مصر، مروراً بسوريا، غارقةٌ، كلٌ بطريقتها في مشاكل قزمت دورها الإقليمي. أما دول المغرب العربي الأكبر فتبدو في حالة ترقبٍ وانتظار، وهي أقرب لدور المُتابِع والمُشاهد، إرادياً، منها لدور الفاعل المؤثر.من هنا، تُفهم الرمزية في أن يخص أوباما دول الخليج تحديداً في كلامه عن العرب. ونجدهُ يقولُ مايلي:"الحوار الذي أريد القيام به مع الدول الخليجية يتضمن، أولاً وقبل كل شيء، [الإجابة على سؤال] كيف يمكن لهم بناء قدراتٍ دفاعية أفضل؟ أعتقد، عندما تنظر إلى مايجري في سوريا، على سبيل المثال، كانت هناك دائماً رغبةٌ قوية في أن تقوم الولايات المتحدة بالدخول إلى هناك والقيام بشىءٍ ما. لكن السؤال هنا: ماذا يعني ألا نستطيع رؤية العرب يقاتلون [ضد] انتهاكات حقوق الإنسان الفظيعة التي تم ارتكابها؟ أو يقاتلون ضد مافعله الأسد؟ يمكنني أيضاً أن أرسل لهم رسالةً تتعلق بالتزام الولايات المتحدة بالعمل معهم والوصول إلى درجة اليقين بعدم إمكانية غزوهم من الخارج. وربما سيخفف هذا شيئاً من قلقهم ويسمح لهم بحوارٍ أكثر فاعليةً مع الإيرانيين. مالاأستطيع أن أفعله، رغم هذا، هو الالتزام بالتعامل مع بعض القضايا الداخلية الموجودة لديهم، بدون أن يقوموا هم ببعض التغييرات التي تكون أكثر انسجاماً مع طلبات ورغبات شعوبهم. إحدى الطرق للتفكير في هذا تتمثل في أنه عندما يتعلق الأمر بالعدوان الخارجي، أعتقد أننا سنكون متواجدين لمساعدة أصدقائنا العرب، وأنا أرغب في رؤية كيفية الوصول لهذا التعاون بشكل رسميٍ أكثر مما هو الوضع عليه الآن. ويمكن أيضاً المساعدة في بناء إمكاناتهم بحيث يكونون أكثر ثقة بقدرتهم على حماية أنفسهم من العدوان الخارجي. لكن أكبر التهديدات التي يواجهونها قد لاتكون تلك الناتجة عن غزوٍ إيراني. وإنما سيكون [ذلك التهديد] ناتجاً عن الاستياء وعدم الرضا داخل بلادهم. ولكن، كيف يمكن فك الاشتباك بين هذا الأمر وبين تهديد النشاطات الإرهابية داخل بلدانهم؟ وكيف يكون لنا دورٌ في التعاون على مواجهة الإرهاب، وهو أمرٌ هام لأمننا، دون أن نُعطي المشروعية الأوتوماتيكية لأي ممارسات تعسفية قد يقومون بها؟ أعتقد أن هذا الحوارَ صعب، لكنه حوارٌ يجب أن يحصل".نلحظ بوضوح في الكلام المترجم بدقة انتقال أوباما في الحديث عن (العرب) وعن (دول الخليج) بطريقة توحي بأنه يعتبر هذه الدول ممثلةً، في الواقع الحالي، للعرب بأسرهم بدرجةٍ معينة. وهو من البداية إلى النهاية يؤكد، بأكثر من طريقة، أن أي (غزوٍ خارجي) لتلك الدول هو خطٌ أحمر. وإذ يعرفُ الجميع أن هذا لايأتي كما يقول المثل لـ (سواد عيون أهلها)، وإنما انطلاقاً من المصالح المشتركة، فإن مدخل المصالح ذاته يجب أن يكون بوابة الخليجيين، ومعهم العرب، للتأكيد والتذكير، بأن مصالحهم لاتتحقق بمجرد حفظ حدودهم من العدوان الخارجي، وأن من السذاجة أو الاستغباء الإيحاء بأن هذا الأمر وحده يحمي بلادهم في غياب توازنٍ إقليمي حقيقي مع إيران.لكن المفارقة أن جزءاً من مُقتضيات هذا الأمر مُتضمنٌ في كلام أوباما نفسه بوضوح، وذلك في معرض حديثه عن سوريا وعما يجري فيها على يد الأسد. فالرجل يقول بكل صراحة: إذا كان العرب يعتقدون أن التوسع الإيراني يُهدد أمنهم القومي، وإذا كانوا يعرفون أن الوضع السوري الراهن، بممارسات الأسد الذي يعرف الجميع سيطرة إيران الكاملة عليه، يمثل جزءاً رئيساً من هذا التهديد، فماذا ينتظرون؟قد يحسب البعض أن هذا يمثل نوعاً من (التوريط) للعرب. لكن هذا لايكون صحيحاً إلا إذا جاء التدخل العربي في سوريا فجاً وفوضوياً وغير مدروس من لحظة الدخول إلى سياسة الخروج Exit Strategy. أما إذا جاء التدخل مدروس الجوانب والأبعاد فإنه يدخل في إطار التقرير الذي صدر منذ أسبوعين عن (معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى) الأمريكي، والذي كتبه الباحث في الشؤون العربية مايكل نايتس في معرض تحليله لعملية (عاصفة الحزم)، حيث يقول أن "التعبئة العسكرية لتسع دول مســلمة، تشـــير إلى الهدف الاستراتيجي الأوسع للحملة، ما ينشئ نقطة حشد للعرب لمواجهة النشاط العسكري الإيراني المتزايد في المنطقة"، ثم يضيف قائلاً، وهنا النقطة الأهم: "تجد واشنطن نفسها الآن في موقفٍ غير معتاد، إذ أنها تدعم من دون ضجة ائتلافاً كبيراً متعدد الجنسيات يتألّف من دول إقليمية، وهذا هو على وجه التحديد نوع تقاسم الأعباء الذي لطالما حلمت الإدارات الأميركية المتعاقبة بتعزيزه"..(تقاسمُ الأعباء) إذاً بعيداً عن الاعتماد الكامل. تلك هي (كلمة السر) التي لاينتظرها أوباما فقط، بل كانت بعض الإدارات الأمريكية الأخرى تترقبها، لكيلا نُبالغ في الحديث عن كل الإدارات باختلاف رؤيتها السياسية. ولو أتقن العرب فهم توازنات هذا القانون لكان الوضع العربي مختلفاً عما هو عليه الآن.إضافةً إلى هذا العنصر الواضح في مايتعلق بالعرب من (عقيدة أوباما)، نجد الرجل يتحدث، مرةً أخرى بكل مباشرة ووضوح، عن مسؤولية العرب، والمقصود هنا الحكومات بطبيعة الحال، في رفع درجة الجاهزية والقوة والاستقرار لبلادهم. ولكن هذه المرة من مدخل الانسجام مع مطالب الشعوب العربية، من المشاركة إلى الشفافية، مروراً بالعدل في توزيع الثروة وترسيخ عمليات التنمية. هذه ليست معادلةً سحريةً نحتاج إلى سماعها من أحد، إلا أن اضطرار رئيس الولايات المتحدة بنفسه إلى لَفظها والحديث عنها يدل من ناحيةٍ على دورها الأساسي، ومن ناحيةٍ أخرى على حجم التقصير في القيام بها.لابديل عن فهم (عقيدة أوباما) والتعامل معها بعقلانية وفاعلية. هذا إذا كان ثمة نيةٌ حقيقية لتوظيف (نافذة الفرصة) التي فتحتها المتغيرات الراهنة في المنطقة بما فيه مصلحة العرب شعوباً وحكومات.

699

| 26 أبريل 2015

العرب وإيران في (عقيدة) أوباما (1)

ثمة حاجةٌ ماسة، على مدى الأسابيع القادمة، لفهم طريقة تفكير الرئيس الأمريكي باراك أوباما، خاصةً فيما يتعلق برؤيته لمحددات وثوابت علاقة الولايات المتحدة مع كلٍ من إيران والعرب. لاتهدف مثل هذه العملية الحساسة لـ (التأقلم) مع مايريده الرجل، كما يعتقد البعض بسطحيةٍ تتلبس مسوح الواقعية. على العكس من ذلك، تبدو المرحلة الحالية بامتياز، أمريكياً ودولياً وإقليمياً، المرحلة التي يمكن فيها للعرب التعامل بدرجةٍ من الندية مع أمريكا لم تحدث من قبل.هناك شيءٌ يتبلور يمكن تسميته بـ (عقيدة أوباما)، بمعنى الرؤية الاستراتيجية التي تحكم طريقة صناعة السياسة لديه وفي أوساط إدارته، وفهمُ هذه العقيدة بشمولٍ ودقة هو الذي سيمُكِّنُ العرب من التعامل معها ومع صاحبها بما يحقق مصالحهم.شاعت الانتقائية من لقاء أوباما الشهير مع توماس فريدمان، وهو يُعتبر بحق مادةً ثريةً تحتاج إلى الكثير من التحليل في هذا المجال. ولتجنب التشويه وتلك الانتقائية ننقل فيما يلي ترجمةً حرفية لإجابةٍ على سؤال يتعلق بإيران تحديداً، يجب الاطلاع عليه كاملاً لمن يحاول الفهم. حيث قال أوباما:"إيران لاتحتاج إلى قدرات نووية لتُصبح قوة كبرى في المنطقة.. وأقول للشعب الإيراني: إيران لاتحتاج إلى أن تكون ضد السامية أو ضد إسرائيل أو ضد السنة لتصبح قوةً مُعتبرة. إيران لديها المقومات والكمون لو أنها كانت لاعباً دولياً مسؤولاً، ولو أنها لم تدخل في حالة من الخطاب العدائي ضد جيرانها، ولو أنها لم تعبر عن معانٍ معادية للسامية واليهودية، ولو أنها حافظت على قوةٍ عسكرية لتحمي نفسها، لالتتدخل في حروب بالوكالة في المنطقة. فقط بمقاييس بحجمها ومصادرها وشعبها، ستكون قوة إقليمية كبيرة جداً. وأملي هو أن يدرك الشعب الإيراني هذه الحقائق. من الواضح أن جزءاً من السيكولوجية السائدة في إيران متجذرٌ في التجارب الماضية. في الشعور بأن بلدهم كان يُنظر إليه دونياً، وأن الولايات المتحدة والغرب تورطوا، أولاً في ديمقراطيتهم [في إشارة لتجربة مصدق]، ثم في دعم الشاه، ثم في دعم العراق وصدام خلال تلك الحرب الوحشية. وهكذا، تحاورت مع فريقي بأن علينا أن نفرق بين إيران الهجومية بمنطلقات أيديولوجية، وبين إيران الدفاعية التي تشعر بدرجة من الضعف والامتهان، وهم يتصرفون بهذه الطريقة لأنهم يحسبون أنها الوحيدة التي يمكن معها تجنب تكرار ماحدث في الماضي. إذا استطعنا المضي قدماً في هذا الاتفاق، وأريد التأكيد هنا بأننا لم ننتهِ من الموضوع، فهناك الكثير من التفاصيل، والكثير من التراجعات، والكثير من المنزلقات والصعوبات السياسية في إيران وهنا في أمريكا. ولكن، إذا تمكنا من الاتفاق، فإن مايمكن أن يحدث، وأنا لا أعتمد على ذلك، هو أن هناك قوىً في إيران ستقول: إننا لانحتاج لأن نرى أنفسنا كلياً من خلال منظور آلتنا الحربية. فلنتقدم في حقول العلوم والتكنولوجيا وخلق فرص العمل وتنمية أبناء شعبنا. و[في حال الاتفاق فإن] من يفكر بهذه الطريقة سيصبحون أكثر قوة. لكنني أقول هذا مع التأكيد بأن الاتفاق الذي نعمل عليه ليس قائماً على فكرة تغيير النظام. إنه اتفاقٌ جيد حتى لو لم تتغير إيران أبداً. حتى لو كنتَ مقتنعاً، مثل نتنياهو مثلاً، بأنه لافرق بين هذا الفريق أو ذاك.. نحن أقوياء بشكلٍ كافٍ بحيث يمكننا الحكم على مثل هذه القضايا [والتصرف حيالها] دون أن نصل إلى مرحلة المخاطرة.. وحين نرى أنها لاتقود إلى مُخرجات أفضل فإن بإمكاننا على الدوام تعديل سياساتنا.. من يعلم، فقد تتغير إيران. ولكن إن لم يحصل هذا فقوتنا وإمكاناتنا العسكرية باقية ومعروفة.."يمكن أن نمارس هجاء السياسة الأمريكية إلى يوم الدين، لكن هذا لن ينفع في تغيير التوصيف (الطبيعي) الذي يراه أوباما لموقع إيران في المنطقة، ولمحددات السياسة المطلوبة منها لـ (يُفسحَ) لها المجال بحيث تحتله، وهي محدداتٌ واضحةٌ ومُفصَّلة. وفي الحقيقة، يمارس الرجل السياسة بطريقةٍ شمولية تتجاوز النظرات الجزئية السائدة أحياناً في المنطقة.يستعمل أوباما كل الأوراق الموجودة بيده سوياً، دون أن يعتمد على واحدةٍ أو اثنتين منها فقط. يُغري الشعب بمنافع (التغيير) في عقلية السلطة وفكرها السياسي، لكنه يُطمئن هذه الأخيرة بأنه لايهدف لإسقاطها. يؤكد على (السياسة) ومكتسباتها ويُشير إلى (السلاح) وإمكاناته. يحاول ضبط الحاضر بإكراهاته العاجلة وعينهُ على المستقبل بكمون التغيير الوارد فيه.كأن الرئيس الأمريكي يقول للإيرانيين شعباً وحكومة: "أنا فهمتكم". هذه مقولةٌ باتت مشهورةً في تاريخ العرب المعاصر، لكن الفارق الكبير يكمنُ فيمن يقولها. أعرف حجمكم ووزنكم في المنطقة، يقول أوباما. أعرف تاريخنا معكم، يُتابعُ قائلاً. تصرفوا بعقلٍ ولاداعي لخطابٍ متهور يؤثر سلبياً على وزنكم وعلى طريقة تعاملنا معكم، يختم حديثهُ لهم.هو نوعٌ من (توازن الرعب) ممزوجٌ بمحاولةٍ لـ (العَقلنة) يطرحهُ رئيس القوة الكبرى في العالم، خياراً مُختلفاً، على قوةٍ إقليمية تبدو (مُستعجلةً) لتحقيق طموحاتها السياسية المخلوطة بالأيديولوجيا. وقد تثبتُ الأيام أن إيران التي ينصحُ الرجلُ الإيرانيينَ بملامحها قد تكون أخطرَ، استراتيجياً، من إيران الحالية.لكن مايهم العرب في الموضوع يتمثل في الثوابت التي ينطلق منها أوباما في رؤيته لإيران والإيرانيين وتعامله معهما. وهذا موضوعُ مقالٍ آخر.

541

| 19 أبريل 2015

في ملابسات "الحوار الصعب" مع أوباما

"الوقائع كائنات مقدسة، تُمارس انتقاماً بشعاً من الباحث الذي يتظاهر أنها غير موجودة". لا تنطبق هذه المقولة التي تُنسب لأحد مؤرخي اليونان القديمة على الباحثين فقط، وإنما يصدقُ مضمونها، بدرجةٍ أكبر، على صانع القرار السياسي. بعيداً عن التحليلات التقليدية، قد تكون "واقعية" الرئيس الأمريكي باراك أوباما، ومعها صراحتهُ، خيراً على حاضر العرب ومستقبلهم، إذا عرف هؤلاء كيف يتعاملون مع تلك الحقيقة.نحن اليوم بإزاء رئيسٍ أمريكي يواجهنا كعرب، ربما لأول مرة، بحقيقة أفكاره تجاه المنطقة وأهلها. ليس هذا فقط، بل إنه ماضٍ في طريقه فعلياً، كالبلدوزر، لتنزيل أفكاره، بحيث تصنع السياسات العملية على الأرض.لا ينفع التعامل مع هذا الواقع "الجديد" بمنطق المناكفة الإعلامية، ولا يجدي فيه بالتأكيد مدخل الشتيمة والهجاء والاستنكار. فالرجل يعمل لتحقيق المصالح القومية الأمريكية كما يراها هو وفريقه من المستشارين والخبراء والساسة. وبغض النظر عن تقويمنا لدرجة النجاح والفشل في ذلك من وجهة نظرنا كعرب، فإن من الواضح أن المقياس الأول والأخير الذي تستخدمه الإدارة الأمريكية الحالية في تعاملها مع المنطقة يتمثل فيما تُظهرهُ كل دولة فيها من قوتها الإقليمية، سياسياً وعسكرياً واقتصادياً، وفي كل مجالٍ آخر.في هذا الإطار، تنبغي قراءة "الاتفاق" النووي الأخير مع إيران بطريقةٍ مختلفة. فرغم التهليل الدعائي والإعلامي الذي شجعته الحكومة الإيرانية داخل إيران وفي المنطقة عن "انتصارها" في المفاوضات، يَطرح تحليل الموضوع بدقة استنتاجاً آخر.تُمكن العودة، كمثال، لما كتبه حسين شريعتمداري، مستشار المرشد خامنئي، في صحيفة (كيهان) الإيرانية منذ أيام، فالرجل تحدث عن تخفيض أجهزة الطرد من 20 ألفاً إلى 5 آلاف، وعن إجبار إيران على العودة لأقدم نموذجٍ منها، وعن تخفيض حجم المخزون من اليورانيوم المخصب من قرابة 10 آلاف كيلو جرام إلى 300 كيلو جرام فقط! وعن تعهدات إيران في الاتفاق التي وصفها بأنها "تعهدات واضحة وشفافة لا يمكن التنصّل منها"، بينما بالمقابل "لم يلتزم الجانب الغربي بأي شيء"، مع الإشارة أخيراً إلى أن "اتفاق لوزان لم يتحدث عن إلغاء العقوبات، بل عن تعليقها، ناهيك عن أن التعليق يقتصر على بعض العقوبات فحسب، وهذا الإجراء يُنفذ خلال 10-15 عاماً على وقع تقويم (سلوك) إيران". ليتساءل بعد ذلك: "هل يمكن اعتبار ما حصل في لوزان إنجازاً نفتخر به؟". أكثر من هذا، اعتبر شريعتمداري خلال مقابلة مع وكالة أنباء "فارس" أن "هذا الاتفاق يعني أننا سلمنا الحصان واستلمنا عنانه فقط".واضحٌ إذاً أن أمريكا حصلت على ما تريده تحديداً، وأنها اصطادت ثلاثة عصافير بحجرٍ واحد: تحييد إيران "نووياً" إلى عقدٍ من الزمن على الأقل، و"تقنين" موضوع الرقابة عليها ليُصبح تدريجياً أمراً طبيعياً كما حدث مع عِراق صدام، وفتحُ "حنفية" الاقتصاد لها قليلاً ليستمر دورُها في استنزاف وإنهاك المنطقة، وهي تجري خلف أوهامها الإمبراطورية المجنونة. لا يجب أن ننسى هنا أمرين: إمكانية إلغاء المعاهدة على الدوام من قبل أي إدارةٍ أمريكية ترى ذلك، وفي أي وقت. والإمكانية الدائمة لعمليةٍ عسكرية تقوم بها إسرائيل حين ترى خطراً حقيقياً في أي تطور.رغم كل هذا، ستضطر إيران لقبول الاتفاق مُرغمةً لتحقيق هدف رفع العقوبات، وهو الأمر الوحيد الذي سينقذ السلطة الإيرانية، بِمَلاليها وسَاسَتها، من الفشل الكامل. فهذا الرفع سيُنعش الاقتصاد الإيراني لدرجةٍ معينة، ويغطي شيئاً من تكاليف التدخل في سوريا والعراق ولبنان واليمن وغيرها. وهذا ما لا تُمانع به أمريكا، بمنهجها السياسي البراجماتي.تلك هي المعادلة التي سيضطر العرب للتعامل معها. والمطلوب في التحضيرات للحوار الصعب الذي تحدث أوباما عنه مع الحلفاء الخليجيين رفع السقف إلى أقصاه. كانت "عاصفة الحزم" الخطوة الأولى في الموضوع، لكن الخطوة الثانية يمكن أن تحصل في سوريا، حيث يمكن قطع شرايين التدخل الإيراني في المنطقة بشكلٍ حاسم. وهو، للمفارقة، ما أشار إليه أوباما نفسه حين ذكر، في مقابلته الشهيرة الأسبوع الفائت في صحيفة نيويورك تايمز، أن دول الخليج يتعين عليها أن تكون أكثر فعاليةً في معالجة الأزمات الإقليمية، وبعد حديثه عن إمكانية قيام أمريكا بـ"القيام بشيء" فيما يخص الموضوع السوري، أكمل قائلاً: "ولكن السؤال هو: "لماذا لا نرى عرباً يحاربون الانتهاكات الفظيعة التي ترتكب ضد حقوق الإنسان أو يقاتلون ضد ما يفعله الأسد؟".إلى هذا، واصل الرئيس الأمريكي صراحته مع العرب مؤكداً: "إن أكبر خطر يتهددهم ليس التعرض لهجوم محتمل من إيران، وإنما السخط داخل بلادهم بما في ذلك سخط الشبان الغاضبين والعاطلين والإحساس بعدم وجود مخرج سياسي لمظالمهم". فهل يمكن، كما ذكرنا سابقاً، توظيف الفرصة التاريخية التي ظهرت مع انطلاق "عاصفة الحزم"، والتي مثلت درجة غير مسبوقة من "الالتحام" الرسمي / الشعبي، وحملت معها إمكانية تجاوز مأزق الصراع بين الحاكم والمحكوم؟ وذلك من خلال رؤيةٍ سياسية داخليةٍ عربية جديدة ، وتُطلق عمليات تنمية حقيقية.ثمة تحدٍ آخر يواجهه العرب، ويتمثل في التنسيق الخفي والمُعلن الروسي الإيراني. فخلال الأسبوع الماضي، أطلقت كل من روسيا وإيران والعراق ثلاث "مبادرات" تتعلق بالوضع في اليمن، من الواضح أنها تهدف لشراء الوقت ووقف زخم وإنجازات "عاصفة الحزم" أكثر من أي شيءٍ آخر. لهذا، كان طبيعياً أن يعلن السفير السعودي لدى الأمم المتحدة، عبد الله المعلمي، أن بلاده لا ترى ضرورة لمشروع قرار روسي بشأن اليمن، وأن هذا القرار جاء "للتشويش" على القرار العربي في المجلس.أخيراً، تبقى، بالمقابل، إشكالية افتقاد التماسك الحقيقي القوي في صف التحالف العربي مع كل من تركيا وباكستان. فالصف المذكور نفسهُ يُعاني من خلخلةٍ، يعرف أصحاب القرار وجودها، ولا يكفي في التعامل معها تجاهُلها إعلامياً، بل تحتاج إلى معالجةٍ سياسية تقوم على مصارحات جذرية. وعلى نفس الخلفية يأتي موقف البرلمان الباكستاني من "عاصفة الحزم"، ومحاولات جر تركيا إلى التركيز على ما يُسمى بـ "حلٍ سياسي" في اليمن، يرمي في الحقيقة إلى إعادة الزمن إلى الوراء، وإزالة آثار "الاختراق" العربي الذي بدأ بـ"عاصفة الحزم" في الإقليم بأسره.لقد أكد الصحفي توماس فريدمان، الذي أجرى المقابلة مع أوباما، أنها حصلت بناءً على دعوة الرئيس. وهذا يعني أن الرجل أراد إرسال رسائل صريحة وعلنية وقوية للعرب جميعاً، وللخليجيين تحديداً، مع تصاعد احتمال تصديهم لتوجيه دفة الأحداث في المنطقة، بقيادةٍ سعودية. فكيف يكون الرد على تلك الرسائل؟.هل يحصل "الحوار الصعب" مع أوباما وقد سجل العرب جملةً من النقاط الجديدة والقوية لمصلحتهم تتعلق بالتحديات السابقة؟ هذا هو السؤال الكبير الذي ستُحدد الإجابة عنه مصير العرب إلى أمدٍ قادم.

691

| 12 أبريل 2015

"عاصفة الحزم" من التكتيك إلى الاستراتيجيا

بعد أكثر من عشرة أيام على انطلاق (عاصفة الحزم) كعمليةٍ عسكرية شاملة تهدف إلى إنقاذ اليمن من التفكك، ودعم الشرعية فيها، وإنقاذها من الفوضى، آن الأوان للحديث عنها بمقاربةٍ أخرى نعتقد أنها في غاية الحساسية. فمن المؤكد أن العالم عاش في القرن الماضي، على الأقل، تجارب مشابهة لهذا الحدث لأسباب مختلفة. لسنا هنا في معرض الحديث عن الأسباب وإنما النتائج. فقد تراوحت نتائج تلك التجارب بين ثلاثة احتمالات: فإما أنها حققت الهدف المباشر المُراد منها حصراً دون زيادة أو نقصان، أو أنها طَالَت لأمدٍ غير مرغوب بشكلٍ بات يحمل شيئاً من العبء والاستنزاف، أو أنها أصبحت نواة منظومةٍ إقليمية، وأحياناً عالمية، جديدة على المستوى الاستراتيجي.ثمة احتمالٌ قوي على أن من خطط لـ (العاصفة) أخذ هذه الاحتمالات بعين الاعتبار. والمؤشرات متوافرة على إرادة الوصول إلى تحقيق النتيجة الثالثة. لكن هذا لايلغي ضرورة شرح المسألة بدرجةٍ من التفصيل ليُدرك القارىء العربي الدلالات بعيدة المدى للموضوع، ولايسقط في فخ انتظار نتائج سحرية سريعة. والأهم، ألا يقع فريسةً لآلة الدعاية الإعلامية للحوثيين ومَن وراءهم، من خلال البحث بأي طريقة عن (انتصارات إعلامية) لها أثرها النفسي، ومن ثم العملي، على الجميع سلباً وإيجاباً.هذا أمرٌ في غاية الأهمية لأن هناك زخماً شعبياً عربياً متزايداً، على المستويات النفسية والفكرية والعملية، ينتظر ويترقب بلهفة، في اللاوعي أغلب الأحيان، نقلةً استراتيجيةً كبرى تترتب على (العاصفة).. وخطورةُ هذا العامل تتمثل بدورها في أن الزخم المذكور سيكون هو (الحاملة) الجماهيرية الكبرى المطلوبة للترتيبات القادمة التي تهدف لـ (تصحيح) أوضاع المنطقة تدريجياً على مختلف المستويات..إذ لم يحدث أن نالَ قرارٌ (رسمي) عربي هذا القدر من الشعبية الجماهيرية منذ أمدٍ طويل، هذا إن حصلَ مثلُ ذلك أصلاً. بمعنى أن ثمة فرصةً، استراتيجيةً أيضاً، لردم فجوةٍ في غاية الخطورة لم تفتأ تتسع بين الحكام والشعوب في عالمنا العربي منذ مرحلة الاستقلال عن (الاستعمار).من هنا، ينبغي، أولاً، وضعُ الإنسان العربي في صورة الحدث بمراحله وأبعاده ومقتضياته المُعقدة. فضلاً عن تأكيد العناصر المطلوبة لانتقال (عاصفة الحزم) من كونها تكتيكاً عسكرياً محدد الأهداف، إلى أن تُصبح (نواة) المنظومة الإقليمية الجديدة التي تعيد تغليب المصلحة العربية، في وجهِ ماكان، ولايزالُ، يُرادُ لها من تغييبٍ وإلغاء.فعلى الصعيد الداخلي في اليمن، تمتد دائرة العمل المطلوب لتشمل تنظيم صفوف الشرعية السياسية والعسكرية بكل أنواعها، بمختلف السبل والوسائل المعروفة في عالم السياسة.. وبحيث يتم، وفق جدولٍ زمنيٍ محدد، إضعاف قوة الحوثيين العسكرية، وكسر تحالفاتهم السياسية والقبلية، وإيقاف كل سبل إمدادهم الداخلي والخارجي، وهزيمتهم في الحرب الإعلامية النفسية، وصولاً إلى محاصرتهم شيئاً فشيئاً بحيث يدركون، دون تردد، أن خيارهم البديل للإلغاء الكامل، في حال إصرارهم على ممارساتهم المرفوضة كلياً، ينحصر في القبول النهائي والموثق للحل السياسي الذي يُبقي لهم دوراً يقتصر علي تمثيل حجمهم كجزء من اليمن الموحد، بعيداً عن أوهام السيطرة وأحلامها.أما على الصعيد الإقليمي، فمن الواضح تماماً، باستقراء الأحداث والمعطيات الدقيقة.. أن القيادة السعودية تُمارس درجةً عالية من الحكمة وضبط النفس تجاه قرارات وتصرفات غير مدروسة قصيرة المدى في حساباتها من قبل بعض الأطراف. رغم هذا، يبدو أن أهمية الموضوع تدفع المعنيين في تلك القيادة لإرسال رسائل، غير مباشرة، تتعلق بأهمية وحساسية (ضبط) الصف الإقليمي وانسجام مواقفه.. أولاً وقبل كل شيء، لأن هذا يحقق مصالح الجميع استراتيجياً على المدى المتوسط والبعيد، وهي مصالح ستتأثر سلباً حالَ الإصرار على الحسابات القصيرة. هذا أمرٌ بات يجب أن يُفهم، وأن تأتي القرارات والممارسات بجميع مستوياتها وأنواعها مستجيبةً لمقتضياته.هناك، بعد هذا، عنصرٌ هام لتأمين النقلة التي نتحدث عنها، تتمثل في العمل الحثيث، سياسياً، وثقافياً وإعلامياً واقتصادياً واجتماعياً، لاستغلال فرصة (الالتحام) الرسمي / الشعبي الراهنة، عبر رسم سياسات مُبتكرة ومُبدِعة جديدة، تتمحور حول توسيع فرص المشاركة الشعبية في صناعة القرار السياسي، وإشاعة معاني الشفافية والمسؤولية، والتوزيع العادل للثروة، وتأكيد العمل الفعال والحقيقي في مجال التنمية الشاملة للأوطان. فالواضحُ بالاستقراء السياسي، أن ثمة (نافذة فرصة) أخرى فَتَحتَها التطورات في هذا المجال. وأصبح ممكناً جداً، في حال وجود الإرادة السياسية والإبداع في الفكر السياسي، تجاوزُ مأزق المفارقة النهائية بين الحاكم والمحكوم وحتمية الصراع بينهما. وتلك فرصةٌ قد يُثبت التاريخ أن تضييعها، فيما لو حدث، يمكن أن يكون أكبر خطيئةٍ في تاريخ العرب المعاصر المعقد، والذي لاتوجد كثير احتمالات لنوافذَ فرص استراتيجية فيه.أخيراً، وعلى الصعيد الدولي، تبدو لحظة (عاصفة الحزم) تاريخيةً بكل المعاني. إذ تتزامن مع الحديث المتصاعد عن اتفاقٍ، بغض النظر عن تفاصيله، مع إيران. إلا أن من الواضح أنه يبقى استمراراً لـ (قرارٍ) من بعض القوى الدولية باعتمادها (الشريك) الأساسي في المنطقة، بما يبدو أنها قدمتهُ من ضمانات لمقومات شراكتها، من تدفق النفط إلى حفظ أمن إسرائيل. مروراً، وهذا الأهمﱡ حضارياً، بضمان المساهمة في تمزيق المنطقة سياسياً واجتماعياً وثقافياً، وبالتالي، إضعافها بشكلٍ مُقدﱠر وطويل المدى. وذلك بناءً على ماذكرنا سابقاً أنه قناعةٌ من تلك القوى بأن (الاختراقات) الإيرانية الأخيرة هي دليلُ قوةٍ إقليمية حقيقية لها، وبأن (إنجازاتها) علامةٌ نهائية على خروج العرب من اللعبة، على أساس فقدانهم الكامل للقدرة على المبادرة.لامفر من أن تصبح (عاصفة الحزم) نواة منظومةٍ إقليمية جديدة. وإذا كان ثمة مؤشرات تدل على أن أصحاب العلاقة يعملون لتحقيق ذلك، فإن من واجب كل من يهمه الأمر المساهمة، بكل طريقة ممكنة، لترسيخ مقومات النقلة المطلوبة، وفرضِها لتصبح أمراً واقعاً على جميع المستويات، وفي أسرع وقتٍ ممكن.

798

| 05 أبريل 2015

"عاصفة الحزم" تغير قواعد المعادلة الإقليمية

من الصعوبة بمكان الاعتقاد بأن الوضع العربي، بكل ملابساته وقضاياه، سيكون بعد (عاصفة الحزم) كما كان عليه من قبلها. بهذا المعنى، لن تُصبح العملية العسكرية، بدلالاتها السياسية الإقليمية والدولية، نقلةً استراتيجية فقط في المعادلات الخاصة بالمنطقة، بل وستبقى عنصراً جديداً رئيساً يجب أن يؤخذ، وسيؤخذ قطعاً، بجديةٍ بالغة في كل مايتعلق بتلك الحسابات من الآن فصاعداً.فبقراءةٍ شمولية، ثمة رسائل عديدة في غاية الحساسية تكمن في العملية المذكورة، وهي تتجاوز بكثير الواقع العسكري الميداني ونتائجه، على أهميتها البالغة. من تلك الرسائل:أولاً. وجود الإرادة الحازمة على اتخاذ أقوى القرارات، ذاتياً، حين تتطلب المصلحة العربية ذلك. إذ لم يبقَ الآن مجالٌ للانتظار والترقب لإمكانية و (وعود) تحقيق تلك المصلحة بناءً على ما (يتبقى) لها من (فكةٍ وصرف) في حسابات ودهاليز معادلات السياسية الدولية المتعلقة بالمنطقة وترتيباتها. وإنما باتَ مطلوباً وضعُ المصلحة العربية على الطاولة بكل قوة، ومن اللحظة الأولى إلى الأخيرة.ثانياً. توافر رؤيةٍ ترفعُ أفق وفلسفة ومستوى الفكر السياسي في المنطقة العربية إلى مستوىً آخر يتناسب مع الأخطار التي تتهددها. بمعنى، أنه لم يعد هناك مجالٌ لمحاصرة النفس في ثنائيات موهومة توحي بحتمية واقع الاستقطاب والمحاور والصراعات مَنطقاً للسياسة، وكل ماينتج عنها من فوضى وخلخلة في الأمن القومي.ثالثاً. وبناءً على ماسبق. القدرة على حشد أطراف عربية وإقليمية رئيسة على الأولويات الاستراتيجية، وإظهار إمكانية تجاوز أي خلافات في وجهات النظر حول قضايا أخرى. بحيث لم يعد بعد الآن ممكناً السكوت على الفوضى في ترتيب الأولويات. وبدلاً من ذلك، يمكن بالسياسة الخلاقة التعاملُ مع الأولويات جميعاً، وُفق جدولٍ دقيق، وبمعادلات محسوبة تَضمنُ توازناتها السعودية كقوةٍ إقليمية تبادر للقرار والفعل، مع إصرارها على مشاركة الجميع، في صناعة القرار وتنفيذه، بما يضمن المصلحة الجماعية. المؤشرات كثيرةٌ ومعبرة، وهي تتحدث عن نفسها، مثلاً، حين تُشجع العملية الرئيس التركي أردوغان على انتقادٍ علني غير مسبوق لأنشطة إيران في اليمن، منددا برغبة إيران في "الهيمنة" على المنطقة.وحسب وكالة أنباء الأناضول، قال أردوغان: "نحن ندعم تدخل المملكة السعودية في اليمن"، وأضاف "أن إيران تبذل جهودا للهيمنة على المنطقة، كيف يمكن التسامح مع ذلك؟" داعياً إيران إلى "سحب كافة قواتها من اليمن وسوريا والعراق". مع التأكيد أخيراً بأن "على إيران أن تغير عقليتها، الممارسات الإيرانية في المنطقة تجاوزت حدود الصبر". رابعاً. القدرة على تنزيل الرؤية السابقة بكل عناصرها في إطارٍ من التخطيط الاستراتيجي السياسي والعسكري والدبلوماسي والإعلامي. فرغم أن (عاصفة الحزم) بدأت فجأةً، كما هو يُفترضُ أن تكون، إلا أنه من الطبيعي أن التخطيط السياسي والعسكري والدبلوماسي والإعلامي لها بدأ منذ أسابيع. وهذه سِمةٌ أخرى لاتلغي، فقط، ماكان شائعاً من قدرة العرب على الكلام وعدم قدرتهم على الفعل، وإنما تعكس تلك القاعدة حين تُظهر كلاماً قليلاً دون شعارات ينتج عنه فعلٌ استراتيجيٌ كبيرٌ ومؤثر.بهذه الرؤية السياسية المُحكمة، ومقتضياتها العملية، وَصلت الرسائل، وستصلُ بشكلٍ مطرد إلى أصحاب العلاقة.أولاً، وقبل كل شيء، إلى إيران، التي يبدو أن غرور قوتها و(انتفاشَها) في المرحلة السابقة كان، في درجةٍ كبيرةٍ منه، عائداً إلى ضبابية الرؤية، وإلى اعتقادها باستحالة قدرة العرب، على الوصول إليها، بلهَ تنفيذها عملياً. من هنا، كانت استراتيجيتها الرئيسة تتمثل في اللعب على التناقضات والدخول من شقوق الخلخلة وتعميق الفوضى العربية واستغلالها.وهكذا، بدت، هي وأدواتها، مصابةً بدرجةٍ من الذهول من اليوم الأول للحملة العسكرية. وانحسرت الحملات العنترية لها، والتي كانت تتحدث بروح امبراطورية، إلى ردود أفعال تنحصر بين طلبات التهدئة وبعض التهديدات التقليدية، وصولاً إلى مهاترات وشتائم أوكلت للصبي الحوثي في اليمن، تُعبر بكاريكاتورية عن جزعه أكثر من أي شيءٍ آخر.ثم إن الرسالة وصلت إلى القوى الدولية ذات العلاقة، والتي يبدو أنها فهمت (الاختراقات) الإيرانية على أنها، من ناحية، دليل قوةٍ إقليمية حقيقية لإيران، ثم على أنها علامةٌ نهائية على خروج العرب من اللعبة، على أساس فقدانهم الكامل للقدرة على المبادرة. ويبدو هذا واضحاً في شيء من الارتباك المبكر لمواقف تلك القوى التي يبدو أنها أصيبت أيضاً بالمفاجأة بالموقف العملي الحاسم والحازم، قبل أن تتدارك الأمر وتستوعب تدريجياً طبيعة مايجري ودلالاته العملية والسياسية، وتتصرف بناءً على ذلك.ذكَرنا منذ أسبوعين في هذه الصفحة أن الملايين يحلمون في العالم العربي بصلاح الدين، لكنهم حين يستيقظون لايأملون بأكثر ممن يتعامل مع عالمهم بشيء من الحكمة والشجاعة. من هنا، فإن تلك الملايين من العرب لن تمانع أن يقودها من هو جدير بالقيادة. يقودها للحفاظ على حدٍ أدنى من الكرامة والأرض و الهوية. وأكدنا أنه إذا كان البعض حتى الآن لايشعرون، أو لايريدون أن يشعروا، إلى أين يمضي الواقع العربي في ظل ثلاثية الانكشاف والاستفراد والسوابق، فإن في العرب من يعرف تماما نهاية هذا الطريق. وبعد الحديث عن وجود (نافذة فرصة) في مشهد الفوضى العربية انفتحت في الرياض، فقد أكدنا أن الغد العربي، استقراراً أو فوضى، لن يكون إلا صدىً لخيارات الحاضر.. وأن الخيار لن يبقى مطروحاً إلى الأبد، مع التركيز على أن "قراراً بشأنه يجب أن يتم اليوم، قبل فوات الأوان".ثم جاءت (عاصفة الحزم). وربما يُعبر عن الوضع ماكتبه رئيس تحرير هذه الصحيفة منذ يومين حين قال: "منذ عقود والعرب تائهون، وأراضيهم تقضم منها قطعة قطعة، وعواصمهم تسقط بيد أعدائهم بين فترة وأخرى، حتى بات العدو في مأمن؛ حيث إن العرب ليس لديهم سوى الخطب الرنانة، فيما الفعل على الأرض هم بعيدون عنه، إلى أن جاءت "عاصفة الحزم"، التي نأمل أن تكون حزما وعزما وحسما، لتعيد للعرب هيبتهم ومكانتهم وحضورهم الفاعل في المشهد الدولي" .يبدو فعلاً أن (عاصفة الحزم) تغير قواعد المعادلة الإقليمية. فكل الشواهد تؤشر إلى ذلك، وشرطُ نجاحها هو الاستمرار بنفس الروح ونفس الحسابات، ونفس العزيمة والإصرار.

496

| 29 مارس 2015

في عامها الخامس.. سوريا (الثورة) وسوريا (القضية) (2)

بعد شيوع الظن في أوساط السوريين أن وجود أجسام المعارضة السياسية يُمثلُ بديلا لـ (الدولة) يقوم بوظائفها ويؤدي مهامها، (استقال) الكثيرون من العمل الفعلي للثورة انتظاراً لما ستقوم به تلك الأجسام من تغطيةٍ للوظائف المطلوبة. كما سادت العشوائية في العمل في صفوف من تصدوا له خارج أطر العمل السياسي. تمثل هذا في تشتت الجهود وتكرار التجارب وبعثرة الطاقات، بشكلٍ قلَّلَ من فعالية تلك الجهود، على ماقدمته من خدمات وإنجازات، وماكان فيها من معانٍ كبيرة للبذل والعطاء. وكان أن فَقَدَت الثورة السورية من البداية سنداً مكيناً أساسياً لها يتمثل في الدعم الهائل الذي كان يمكن أن تحصل عليه لو تم العمل بشكلٍ مؤسسي محترف في المجالات المختلفة. تصاعد حجم المشكلة مع ابتعاد المئات من النشطاء ودوائر النخب السورية المتنوعة عن فكرة (إدارة الثورة). وجاء هذا انسجاماً مع ابتعادهم عن مؤسسات المعارضة السياسية التي (احتكرت)، نفسياً وعملياً، تلك الإدارة. وما إن ظهرت مشكلات الهياكل السياسية التي غرقت في واقعٍ تتضارب ملامحه مع المعاني والقيم الأصيلة التي قامت عليها الثورة، حتى أصبح تجنُّبُ العمل في تلك الهياكل، بل وتجنبُ الاقتراب منها، أمراً طبيعياً لدى كل من يحاولون تَمثُّلَ تلك القيم الأصيلة في حياتهم العامة والخاصة. بعد إذ صار الوجود فيها أو قريباً منها يعني التلوث بتهم الفساد والتبعية والانتفاع، وغيرها من الصفات.هكذا، خسرت الثورة السورية أيضاً شريحةً أساسية كان يمكن أن تكون في موقع القيادة لها. خاصةً أن هذه الشريحة كانت في معظمها هي السباقة إلى إشعال الثورة وإلى ابتكار فعالياتها ونشاطاتها الأساسية التي جعلت منها ظاهرةً من أنبل ظواهر العصر. ثم إن الأيام أظهرت أن هذه الشريحة كانت أيضاً الأكثر حرصاً على اجتناب (التربُّح) من الثورة إلى درجة معاناتها الحياتية في بعض الأحيان لتبقى نظيفة اليد والسمعة.وفي نهاية المطاف، أصبحت الثورة السورية عالةً على تلك المجاميع السياسية التي لم يعد وجودُها، بكل مافيه من ضجيج، يحمل أي طاقة إيجابية فعالة تصب في خانة تحقيق أهدافها من قريبٍ أو بعيد.ومع (الاعتراف) السياسي اللفظي بتلك المجاميع من قبل المجتمع الدولي، والرضا البالغ لهذا المجتمع عن وضعها المُشوَّه الذي يُساعد على إعفائه من القيام بمسؤولياته السياسية والأخلاقية تجاه الشعب السوري، حُوصرت الثورة السورية بشكلٍ غير مسبوق ليس فقط على المستويات العملية والسياسية، بل وعلى المستوى النفسي الذي وصلَ فيه السوريون إلى الإحساس بدرجةٍ من الشلل تُعيقهم عن المبادرة والحركة لخدمة ثورتهم، ومرةً أخرى، بشكلٍ يليق بتجارب وخبرات وإمكانات السوريين المادية والبشرية والفكرية.هكذا، وصلنا إلى واقعٍ للثورة يُصيب السوريين بدرجات متفاوتة من الحيرة واليأس. وهي، بمآلاتها وتفاصيلها الحالية، تُثير من الأسئلة أكثر مما توحي بالإجابات.وكما ذكرنا سابقاً، سنظل مُحتارين في فهم الظاهرة، فضلاً عن التعامل معها، مالم نُدرك، بعد سنوات من عمر الثورة، بعض الحقائق الصعبة، ومالم نعترف بها بكل وضوحٍ وصراحة.لم تنطلق الثورة السورية من تراكمٍ ثقافي وحضاري وصل إليه الإنسان السوري ودَفعهُ إلى الدخول الواعي والمُخطَط في عملية تغييرٍ كُبرى.ليست هذه طبيعة الثورات في جميع الأحوال.بهذا المعنى، تكون الثورة الحقيقية خروجاً من مشهدٍ للاجتماع البشري لم يعد استمرارهُ ممكناً وفق قوانين ذلك الاجتماع وسُننه التاريخية، ودخولاً في عملية بحثٍ جدﱢية عن مشهدٍ يمكن أن يستوعب المستجدات والمتغيرات الجديدة المحيطة بالمجتمع صاحب العلاقة.الثورة هنا عملية (انخلاع) جذرية من حاضرٍ صار مرفوضاً على جميع المستويات، وكلما كان الحاضرُ (يمثله النظام السوري في هذه الحالة) مُصراً على الاستمرار بأي ثمن، كانت عملية الانخلاع منه أكثر عُنفاً وصخَباً. أما الرفض الذي نتحدث عنه فهو في جوهره رفضٌ نفسيٌ عميقٌ جداً يطرح على أصحابه التساؤلات حول جدوى الوجود والحياة في ذلك الحاضر أصلاً.وعندما تصل الشعوب إلى هذه المرحلة يُصبح لديها دافعٌ قويٌ للقبول بتضحياتٍ لايمكن تفسيرُها على الإطلاق في الأوضاع العادية. فهنا، يُضحي الأمل في بديلٍ مستقبليٍ، وفي محاولة إيجاده، أكبرَ من الحرص الآني على الوجود وعلى الحياة نفسها في حاضرٍ انتهى احتمالُ وجود معنىً للحياة فيه. في حين أن هناك (احتمالاً) في أن يكون لدى البديل المنشود مايُعطي للوجود والحياة معنىً وقيمة.لهذا تكون الثورة الحقيقية طويلة. ولهذا تكون على مراحل. ولهذا تكون عنيفة.أين وصلت الثورة السورية اليوم إذاً؟ وماهي طبيعة المرحلة القادمة في مسيرتها؟ بمعناها الأكبر، أظهرت الثورة قرار الشعب بالرفض القاطع والنهائي لواقعٍ كان مفروضاً عليه، وأكَّد، عبر تضحياتٍ قياسية في تاريخ الشعوب، تصميمه على الانخلاع من ذلك الواقع والخروج منه دون عودة. لكن واقع الثورة اليوم يبدو مؤشراً على دخولها في مرحلة البحث عن البديل، أكثر من كونه دليلاً على تحقيق أهداف الثورة.المفارقة أن ملامح هذا البديل لايمكن أن تظهر في معزلٍ عن نقلةٍ معرفية في التفكير والعمل تؤمن الشروط المطلوبة للتعامل مع التحديات المذكورة، قد يمكن القول بأنها المرحلة الثانية من الثورة، والتي لامفر منها لتحقيق الأهداف الأصيلة للأولى. وستبقى تتعايش وتتفاعل حتماً مع كل مشاعر الألم تجاه مايجري، لكنها لايمكن أن تقع فريسة الضغوط العملية والنفسية الراهنة التي توحي بضرورة إيجاد حلول سريعة وعاجلة، لأن الحلول الحقيقية لن توجد إلا بالعمل التدريجي على المسار الطويل.

424

| 22 مارس 2015

في عامها الخامس.. سوريا (الثورة) وسوريا (القضية) (1)

من مفارقات الأقدار أن يكون هناك كتابٌ للمفكر فرانز فانون بعنوان (العام الخامس للثورة الجزائرية)، يتمحور فكرُ الكاتب الفرنسي ذي البشرة السوداء، حول قدرة شعوب العالم الثالث على فرض ذاتها وصناعة تاريخها وتقرير مصيرها. هذا الكاتب الذي كان نصيراً للثورة الجزائرية، بالكلمة والفكرة والمساهمة العملية كثائر، قال يوماً عن تلك الثورة: "النظرية القائلة بأن الناس يتغيرون في اللحظة نفسها التي يغيرون فيها العالم لم تكن يوماً بارزة في بلد آخر غير الجزائر". لا نعلم ما كان للرجل قولهُ لو كان يعيش اليوم معنا الثورة السورية وهي تدخل عامها الخامس، لكن المؤكد أن عبارتهُ تلك تنطبق اليوم على سوريا وثورتها وشعبها كما لا تنطبق على أي قضيةٍ أخرى.السوريون يتغيرون في اللحظة نفسها التي يُغيرون فيها العالم، ثمة شواهد كثيرة على أن النظام العالمي يدخل في طورٍ جديد، وأن هذه العملية تتأثر وستتأثر بما يجري في سوريا، لكن المؤكد أن السوريين يتغيرون في نفس هذه اللحظة التاريخية، وأن مستقبلهم ومستقبل ثورتهم رهينان بطبيعة ذلك التغيير.فمع دخول الثورة السورية في عامها الخامس، يَفرضُ السؤال التالي نفسه: هل هناك تضاربٌ بين استمرار (الثورة) كمفهوم وكواقع، وكصيرورةٍ طويلة المدى ومتعددة المراحل، وبين الاعتراف بأن السوريين صاروا في مواجهة واقعٍ جديد يمكن أن نسميه (القضية السورية)؟ نحسبُ أن التضارب موهوم، وأن مثل هذا الاعتراف لا يجب أن يكون أمراً سلبياً كما يظن البعض.يُحيلُ الاعتراف المذكور إلى القبول بحقيقتين: إنﱠ العمل للقضية سيكون طويل الأمد زمنياً، ثم إنه سيكون في مجالات تتجاوز بكثير المجالين السياسي والعسكري. وفي حين أن انتقال السوريين، نفسياً وفكرياً وعملياً، إلى المرحلة الجديدة بشكلٍ إراديٍ واعٍ لن تكون له إلا نتائج إيجابية راهناً وعلى المدى الاستراتيجي، فإن قائمة السلبيات يمكن أن تطول في حال رفضوا عملية الاعتراف وزهدوا في العمل بمقتضياتها.باختصار، السوريون جميعاً اليوم أمام خيارٍ حساس، فإما أن يسمحوا لهذه (القضية) أن تُصبح قضيةً (أخرى) من القضايا المعروفة في العالم العربي، وخارجه. بمعنى أن تتحكمَ فيها الظروف الخارجية واللاعبون الخارجيون بنسبةٍ كبيرة. أو يجعلوا من ثورتهم الفريدة فرصةً لتقديم نموذجٍ مُختلف لخدمة (قضيتهم)، يليق بهم وبإمكاناتهم وتاريخهم وتجاربهم، نموذجٍ يكونون هم فيه الأكثر تأثيراً في القضية وتحكُماً فيها.هذا لا يعني، بأي حال، الغفلة عن استمرار تأثير الظروف الخارجية واللاعبين الخارجيين. لكنه يعني أن يرفع السوريون قدرتهم على التأثير في قضيتهم بشكلٍ يدرك لغة العصر ويستخدم مفرداته باحتراف، ويستفيد، فعلياً، من تجربة السنوات الماضية من عمر الثورة وكل ما أفرزته من دروس.ففي ظل استمرار الثورة السورية، بكل ما قدمه الشعب السوري، ولا يزال، من تضحيات. وفي ظل افتقاد تشكيلات المعارضة السياسية السورية القدرة على القيام بالوظائف الأساسية المطلوبة لدعم الثورة وشعبها في المجالات التنموية والإغاثية والاجتماعية والإعلامية والثقافية، تبدو الحاجة ضروريةً للقيام بأعمال مؤسسية منظمة تمتلك القدرة على أداء تلك الوظائف، بعيداً عن الغرق في مماحكات العمل السياسي بشكله السائد في أوساط المعارضة السورية.وفي انتظار ما يمكن أن تُسفر عنه محاولات إصلاح الائتلاف الوطني من قبل القيادة الحالية، ثمة مفارقةٌ يجب التفكير فيها: فقد كان قيامُ الأجسام السياسية مثل المجلس الوطني والائتلاف أصلاً محاولةً لتأمين تمثيلٍ سياسي للثورة. وكان المفروض أن تتعامل هذه الأجسام بمهارة وفكر سياسي متميز مع النظام الإقليمي والدولي بما يكفل تأمين الدعم للثورة، وصولاً إلى تأمين مقومات انتصارها على نظام الأسد من خلال إدارة الصراع السياسي والعسكري بشكلٍ فعال ومنظم.ورغم أن الهدف العملي الممكن، والوحيد تقريباً، من إقامة تلك المؤسسات كان يتمثل في الوظيفة المذكورة، إلا أنها لم تستطع تحقيق ذلك الهدف بإجماعِ السوريين.لكن المشكلة الكبيرة الأخرى تمثلت في ظنِّ بعض المعارضين السوريين، وكثيرٍ من أبناء الثورة، أن قيام مثل هذه المؤسسات هو بمثابة وجود بديل لـ(الدولة) يقوم بوظائفها ويؤدي مهامها، إن في (المناطق المحررة) على الأقل، أو في كل ما يمكن الوصول إليه من مناطق سوريا الجغرافية.أدﱠى هذا من البداية إلى وجود ظاهرتين في أوساط الشعب السوري المؤيد للثورة، تتمثل الأولى في (استقالة) الكثيرين من العمل الفعلي لها بناءً على الاعتقاد السابق وانتظاراً لما ستقوم به تلك الأجسام السياسية من تغطية للوظائف المطلوبة. أما الظاهرة الثانية فتمثلت في عشوائية العمل للثورة في صفوف من تصدوا له، خارج أطر العمل السياسي، وفي تشتت الجهود وتكرار التجارب وبعثرة الطاقات، بشكلٍ قلَّلَ من فعالية تلك الجهود، على ما قدمته من خدمات وإنجازات، وما كان فيها من معاني كبيرة للبذل والعطاء.بهذا، فَقَدَت الثورة السورية من البداية سنداً مكيناً أساسياً لها يتمثل في الدعم الهائل الذي كان يمكن أن تحصل عليه لو تم العمل بشكلٍ مؤسسي محترف في المجالات المختلفة، إذا أخذنا بعين الاعتبار خبرات السوريين وإمكاناتهم المادية والبشرية الهائلة التي يمكن مُراكمتها في تجمعاتهم وأماكن وجودهم سواء داخل سوريا أو خارجها، بل إن من الممكن القول إن الثورة كان يمكن أن تكون في موقعٍ متقدم اليوم، لو تمت إدارةُ نفس الجهود التي تم بذلها وتوظيفُ نفس الميزانيات التي أنفقتها شرائح السوريين، من بداية الثورة إلى الآن، بشكلٍ مؤسسي مُحترف.

557

| 15 مارس 2015

نافذة فرصة في مشهد الفوضى العربية

المصطلح موجودٌ بشكل رسمي في علم صناعة السياسات العامة public policy وهو يعني تحديداً معنى نافذة الفرصة window of opportunity. لا أحد يعرف كيف ومتى يمكن أن تنفتح هذه النافذة، ولكنها تنفتح في كثيرٍ من الأحيان. يحصل هذا من أكبر القضايا إلى أصغرها، ومفرق الطريق يتمثل في قدرة السياسي المحنك على التقاط حقيقة وجودها ثم معرفة كمونها ثم الاستفادة منها، بما يحقق المصالح العامة، في مثالنا هنا على الأقل.وحين يتواجد في الرياض كل القادة الإقليميين والدوليين المؤثرين خلال الأسبوعين الماضيين، فلا حاجة لعبقريةٍ عند الاستنتاج بأن النافذة هناك.وفي حين أن الجميع يبحث عن (الاستقرار) في المنطقة، فثمة قانونٌ اسمه (التغيير من أجل الاستقرار) كان استخدمه الخبير الاقتصادي المصري حازم الببلاوي عنواناً لكتابٍ له منذ أكثر من عقدين.فالتغيير سنةٌ من سُنن الحياة البشرية، لا يمكن، بغيابه، استمرارُها، فضلاً عن نموّها وتطورّها. وثمة مقولة شائعة في الأوساط العلمية تقول إن "الثابت الوحيد في هذه الحياة هو التغيير". يَصدُقُ هذا على كل شيء، ويصدق بالتأكيد على السياسات. من هنا، فإن الشعور بالحاجة إلى التغيير أمرٌ طبيعيٌ جداً ابتداءً، بغضّ النظر عن أي ملابسات، أو عن أي ظروفٍ دوليةٍ أو إقليمية طارئة.. لكن وجود تلك الملابسات وهذه الظروف يُضفي مزيداً من المشروعية على الدعوة للتغيير، لأن التغيير المطلوب الذي نتحدث عنه في المنطقة العربية يجب أن يكون في حقيقته استجابةً إراديةً واعيةً لا يمكن حفظ (الاستقرار) إلا من خلالها.وكما يقول الدكتور الببلاوي: "فالتغيير ليس مناقضاً للاستقرار، بل قد يكون من أهم مقوماته. والاستقرار ليس معناه الجمود وعدم التغيير، بل معناه التلاؤم بين الظروف والأوضاع والنظم والقواعد. وكما أن الظروف والأوضاع في تغيرٍ مستمر، فكذا ينبغي أن تكون النُّظمُ والقواعد، وعدم مسايرتها لتطور هذه الظروف والأوضاع يُولّدُ المصادمات والانفجارات وبالتالي يُهدّدُ من أساس الاستقرار. فالاستقرار يتطلب توازناً مستمراً بين ظروف الحياة من ناحية والنظم والقواعد من ناحية أخرى، وهو توازنٌ لا يتحقق إلا بمتابعة هذه التطورات وأحياناً الإسراع بها وليس بالوقوف أمامها، وقل إنه توازنٌ مُتحرّك أقرب إلى توازن راكب الدراجة يستمر طالما كان متحركاً إلى الأمام، ويختلُّ وقد يسقط من فوق دراجته إذا توقف عن السير".جَرَّبت المنطقة في السنوات القليلة الماضية طريقةً في السياسة باتَ واضحاً للجميع أنها لم تحقق أهدافاً إيجابية، وللجميع أيضاً. والسياسة ليست علماً فيه قواعدُ حسابية صارمة أو معادلات كيميائية لا تتغير ولا تتبدل. على العكس، ثمة حاجةٌ للمرونة والقدرة على الاستفادة من الدروس والتلاؤم مع المتغيرات لا نهاية لها. وكما يقول عبد الخالق عبد الله أستاذ العلوم السياسية من الإمارات: "فاختيار الأهداف الصحيحة واتخاذ القرارات المناسبة وحل المشكلات المعقدة وتوزيع الأدوار والمهام والموارد وضبط العلاقات.. كل ذلك لا يتم وفق قوالب جامدة وقواعد خالدة وقوانين مقيدة ولوائح معدة سلفاً في الكتب والمؤلفات... العمل السياسي كالعمل الفني فيه الكثير من الخلق والإبداع والابتكار علاوةً على الجرأة"..كان ثمة اختلافٌ في وجهات النظر في المرحلة السابقة حول الأولويات التي تستحق الاهتمام. لكننا الآن أمام مرحلةٍ جديدة تفرض، بكل وضوح، جدولَ أولويات يمكن الاتفاق عليه بشكلٍ أكبر. هنا، تحديداً، تكمن ضرورة (التغيير) في السياسات من أجل (الاستقرار).ودون التهوين من كل القضايا الأخرى، ثمة سرطانٌ ينتشر بسرعة، ويجب التعامل معه دون ترددٍ وتسويف وحسابات قصيرة النظر، ليس فقط لأن هذا قد يُسهل عملية التعامل مع تلك القضايا، وإنما لأن السرطان يُهدد باجتياح أجزاء أخرى من الجسد العربي المُنهك، بحيث يخلق متواليةً من القضايا الجديدة التي سرعان ما ستصبح خرقاً يتسع على الراقع.وبعد تصريح وزير الخارجية السعودي الواضح والعلني بأن إيران "تشجع الإرهاب وتحتل أراضي عربية، وهذه ليست من خصال الدول".. فإن الأولوية الأولى والأساسية واضحةٌ تماماً. وستكون أهم ساحتين للتعامل مع تلك الأولوية في سوريا واليمن. بَلَدان يمكن القول إنهما باتا بشكلٍ أو بآخر تحت الاحتلال الإيراني المباشر. وهو ما يهدد الأمن العربي والإقليمي بأجمله، كما أنه، للمفارقة، العنصر الذي يفتح نافذة الفرصة التي نتحدث عنها لإعادة تجميع الصفوف، ما أمكن، حول هذه الأولوية، وبما يحقق الحد الأدنى من المصلحة العربية.لا ندعو هنا إلى عملٍ عربيٍ مشترك، ولا ننادي بتنسيقٍ عربيٍ أخوي، ولا نطالب بتعاونٍ عربيٍ فعّال. فالواقع الفاقع يؤكد لنا أن هذه الشعارات التي لم تُغنِ ولم تُسمن من جوعٍ يوماً، لن يكون لها حتماً أن تُترجم إلى واقع عملي في مثل هذه الظروف المعقدة.لقد أصبح ملايين العرب يعرفون الحقائق، بل صاروا واقعيين ويعلمون أن أي حركة ستكون في إطار ممارسة فن الممكن. لكنهم يعرفون أيضا أن دوائر هذا الممكن أوسع بكثير من الشرنقة التي يجري حصارهم فيها بذرائع لم تعد تنطلي على أحد. ورغم أن الملايين يحلمون في العالم العربي بصلاح الدين، لكنهم حين يستيقظون لا يأملون بأكثر ممن يتعامل مع عالمهم بشيء من الحكمة والشجاعة. من هنا، فإن تلك الملايين من العرب لن تمانع أن يقودها من هو جدير بالقيادة، يقودها للحفاظ على حدٍّ أدنى من الكرامة والأرض والهوية.لم يعد العرب في حاجة إلى من يشرح لهم خطورة واقعهم، وإذا كان البعض حتى الآن لا يشعرون، أو لا يريدون أن يشعروا، إلى أين يمضي ذلك الواقع في ظل ثلاثية الانكشاف والاستفراد والسوابق، فإن في العرب من يعرف تماما نهاية هذا الطريق. في آخر المطاف، لن يكون الغد العربي، استقراراً أو فوضى، إلا صدى لخيارات الحاضر، فالمسألة في النهاية مسألة خيار لا يستطيع أحدٌ أن يلزم أحداً به. غير أن الحساس في الموضوع هو أن الخيار لن يبقى مطروحاً إلى الأبد، لذلك فإن قراراً بشأنه يجب أن يتم اليوم، قبل فوات الأوان، قبل أن تختفي نافذة الفرصة التي لا تبقى عادةً، في عالم السياسة، مفتوحةً لفترةٍ طويلة.

1302

| 08 مارس 2015

الائتلاف الوطني السوري والواقعية السياسية

حَسناً فَعلَ الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية حين اتفق منذ أيام، في العاصمة الفرنسية، مع هيئة التنسيق لقوى التغيير الديمقراطي على "مسودة خارطة طريق للحل السياسي تشمل وثيقة المبادئ الأساسية للتسوية السياسية في سوريا، انطلاقا من الوثائق السياسية الموجودة لدى الطرفين".حسب البيان الرسمي الصادر عن الائتلاف، "تنص مسودة الوثيقة على أن مرجعية العملية السياسية هي: بيان مجموعة العمل من أجل سوريا في 30 يونيو 2012 المعروفة ببيان جنيف بكافة بنودها، وقرارات الشرعية الدولية ذات الصلة ولاسيَّما قرارات مجلس الأمن (2042 - 2043 - 2059) الصادرة في 2012، والقرار 2118 الصادر في 2013. وتنص الوثيقة أيضاً على أن الهدف الأساسي للمفاوضات مع النظام هو قيام نظام مدني ديمقراطي أساسه التداول السلمي للسلطة والتعددية السياسية وضمان حقوق وواجبات جميع السوريين على أساس المواطنة المتساوية، وأن التوافق الإقليمي والدولي ضرورة أساسية لنجاح العملية التفاوضية".ويبدو واضحاً أن العملية تُعبر عن نقلةٍ في الفكر السياسي للائتلاف، نجحت معها القيادة الحالية في (سَحب) مختلف الأطراف والمكونات إلى هذا الموقع الجديد، وإلى تجاوز عقلية الاستقطاب و(المُقَاطعة) التي كانت سائدةً إلى العام الماضي في مثل هذه الأيام تحديداً، والتي عبَّرت عن نفسها في أحداث وقرارات نأمل أن تكون قد صارت من التاريخ. هل ضاع عامٌ أو أكثر على الائتلاف؟ وبالتالي على الثورة السورية؟ بسبب الطريقة السابقة في فهم الوضع السياسي والميداني السوري والإقليمي والدولي، وما ترتب على ذلك الفهم من ممارسات؟ ثمة تحليلٌ يقول إن التوافق المبكر داخل الائتلاف من ناحية، والاتفاق مع هيئة التنسيق من ناحية أخرى، كان يمكن أن يُعطي الثورة زخماً كبيراً، سياسياً وعسكرياً، لو أن مثل هذا التوافق والاتفاق حصلا خلال العام الذي تلا تشكيل الائتلاف. وذلك بناءً على الزخم الدولي الذي كان متوفراً في ذلك الوقت. هذا فضلاً عن غياب (داعش) عن الساحة في تلك الفترة، وبالتالي قلة إمكانات التشويش على الثورة بمفهوم (الإرهاب) وملابساته التي ساعدت النظام السوري فعلاً على إحداث التشويش المذكور بعد ذلك.لا يوجد دليلٌ واضحٌ على صحة هذا التحليل من واقع استقراء حقيقة المواقف الدولية من الثورة السورية. من المؤكد أن الانقسامات الحادة داخل الائتلاف استُخدمت، بمهارةٍ شديدة، للوصول إلى نتيجةٍ، يندرُ الحديث الصريحُ فيها، وتتمثل في القول بعدم وجود بديلٍ حقيقي لنظام الأسد، الأمر الذي أدى إلى الزهد اللاحق في الائتلاف ودوره. لكن نظرةً أكثر شمولاً لما آل إليه الوضع الإقليمي بعد انفجار الثورات العربية يُظهر أن النظام الدولي كان مشغولاً باستيعاب (الصدمة) التي سببها ذلك الانفجار، أكثر بكثير من انشغاله بإنصاف الشعب السوري أو نُصرة ثورته. ورغم (الحرج) الذي كان يمكن أن يُصيب منظومة أصدقاء سوريا مثلاً لو أن الائتلاف استوعب انقساماته واتفق مع هيئة التنسيق بسرعة، إلا أن السياسات الدولية لا تعمل أبداً وفق مشاعر الحرج والحياء. ففي ظل فكرٍ سياسي دولي سائدٍ لا يبالي، عندما يريد، بأي اعتبارات أخلاقية أو مبدئية، كان بالإمكان دوماً إيجاد أسباب وأعذار للمراوغة في دعم الثورة السورية.وحين قال الرئيس الجديد للائتلاف مؤخراً في لقاءٍ تلفزيوني، حين سُئل عن الخلافات المستمرة داخله، إن الخلاف الحقيقي كان بين الدول الداعمة، فإنه كان يعترف من واقع اطلاعه الوثيق على الأمور، بصراحةٍ وواقعية، بأمرين: الأول، أن الغالبية العظمى من الداعمين كانوا مختلفين جداً على كيفية تحقيق مصالحهم وترتيب أوراقهم من خلال الأحداث في سوريا، وأن هذا الاختلاف كان يشلّ أي محاولةٍ لتقديم دعمٍ حقيقي وفعال للثورة السورية. والثاني أن الأطراف الرئيسية في الائتلاف كانت فعلاً عاجزةً عن اتخاذ قرارات مستقلة، لا يمكن تحقيق توافقٍ في معزلٍ عن امتلاك القدرة عليها.والواضح أن التعامل مع التطورات بمثل تلك الدرجة من الصراحة والواقعية هو الأمر الوحيد الذي، ربما، يسمح للائتلاف بامتلاك أوراق تجعله على الأقل أحد اللاعبين المُعتبَرين في العملية السياسية المتعلقة بحاضر سوريا ومستقبلها، خاصة أن الجميع بات يُدرك، فيما يبدو حتى الآن على الأقل، حقيقة (الأوهام) التي حاولت أطراف مختلفة بيعها لمكونات الائتلاف الرئيسية، خاصةً فيما يتعلق بالسيطرة على القوى العسكرية على الأرض. وهو ما أكَّدَ، يومها، عقلية الاستقطاب الحدي، وما نتج عنها من روح (الشعاراتية) وممارسات التحدي والمفاصلة الكاملة بين (نحن الوطنيين) و(الآخرين الخونة)، ومحاولات الكَسر والاستحواذ والإقصاء، وكل ما يمتﱡ إليها بِصِلة.هنا تبدو النقلة واضحةً من قراءة تاريخ لا يمكن محو صفحاته التي سَجلت تصريحات ومواقف وقرارات كانت تندرج تحت تلك الطريقة في التفكير. ومقارنتُها بالتصريحات والمواقف والقرارات الصادرة مؤخراً، وأحياناً من نفس الشخصيات، تُظهر ملامح النقلة التي نتحدث عنها، والتي كان الاتفاق الأخير مع هيئة التنسيق من دلالاتها الكبيرة الأخيرة.والذي يمتلك حداً أدنى من الشعور بالمسؤولية تجاه الموقع الذي اختار التصدي له لا يجد فيما جرى، بالضرورة، عيباً أو مثلبة. طالما كان التغيير في الموقف والخطاب نابعاً من وعيٍ مُتجدد ومتطور بحقيقة الوضع السوري المعقد وملابساته، وبالوسائل المناسبة للتعامل معه، وبعيداً عن كونه مجرد (تكتيكٍ) مرحلي آخر يمثل نوعاً من الانحناء المؤقت للعاصفة. من هنا، يُصبح مُلحاً عدمُ الالتفات إلى الاتهامات التي يُوجهها للائتلاف، بعد الاتفاق مع هيئة التنسيق، مَن لا يزال يعيش مرحلة (الشعاراتية)، وعدم الوقوف عند عمليات التشكيك والتخوين التي صارت هوايةً لدى بعض السوريين. فالقيادة تعني القدرة على أخذ القرارات الحساسة التي تحقق مصالح الناس. لاسيما وأن الائتلاف أوضح موقفه من وجود الأسد ونظامه في بيان علني، فضلاً عن أن وثيقة المبادئ التي تم تبنيها تؤكد أن "غاية العملية السياسية هي تغيير النظام السياسي الحالي بشكل جذري وشامل، بما في ذلك رأس النظام ورموزه وأجهزته الأمنية، وقيام نظام مدني ديمقراطي أساسه التداول السلمي للسلطة والتعددية السياسية". وهذه كلها معطياتٌ ينبغي أن تؤكدها، وتأخذها الهيئة العامة للائتلاف بعين الاعتبار، عند اتخاذ القرار النهائي.لا نعرف، ولا يعرف أحد، إن كان لا يزال للائتلاف دورٌ حقيقي يمكن أن يؤديه في مستقبل سوريا نظراً للتطورات الإقليمية والعالمية المتسارعة، ولطبيعة النظام الإقليمي الجديد الذي سيتشكل في المرحلة القادمة. لكن المؤكد أن أي دورٍ ممكن له لن يتحقق إلا عبر درجةٍ عالية من التوافق والواقعية السياسية، واتفاق باريس خطوةٌ هامةٌ في هذا المسار.

782

| 01 مارس 2015

الإصلاح شرط المصالحة

لا يمكن للواقع العربي أن يتقدم خطوة إيجابية إلى الأمام دون حد أدنى من المصالحة، على الأقل، لما تبقى سليماً من أطراف النظام العربي. لكن سنن التاريخ وقوانين الاجتماع البشري تؤكدُ أنه لا مصالحة دون إصلاح. هذا إذا كنا نتحدث عن مصالحةٍ حقيقية وليس عن مظاهر خارجية وشعارات للاستهلاك. وفي الحقيقة، لا وجود ولا حاضر ولا مستقبل للعرب في غياب الإصلاح.ما من شكٍ أن للعرب بصمتهم المختلفة في كل شيء.يفعلون كل ما يفعله الآخرون، ولكن أيضاً بأسلوبهم المميز الذي لم يعرف التاريخ له مثيلاً.فهم يتقنون مثلاً صناعة التاريخ، لكنهم يصنعونه على طريقتهم الخاصة، والتاريخ الذي يصنعه العرب اليوم سيبقى إلى زمانٍ طويل تحت بند (حقوق الاختراع المحفوظة)، بإيجابياته وسلبياته.نحن نعيش في عالمٍ مليء بالتناقضات، هذه حقيقةٌ لا يماري فيها عاقل، لكن الأسئلة تطرح نفسها:لماذا يصرُّ العرب على الحياة في ظلِّ متناقضاتٍ إضافية مُختلَقة يُحاصرون أنفسهم وشعوبهم، وحاضرهم ومستقبلهم، فيها؟خنقَ العرب أنفسهم وحاضرهم وهم يتصايحون لزمنٍ طويل.لا صوت يعلو فوق صوت (المقاومة)..لا صوت يعلو فوق صوت (الكرامة)..لا صوت يعلو فوق صوت (الاستقلال)..لا صوت يعلو فوق صوت (الاعتدال)..لا صوت يعلو فوق صوت (الواقعية)..لا صوت يعلو فوق صوت (النظام الدولي)..لا صوت يعلو فوق صوت (المصلحة)..كان كل فريقٍ منهم، ولا يزال، يرى الأولوية لشعارٍ من الشعارات المرفوعة أعلاه، دون غيره، واحتدم النقاش حتى وصل إلى حد الخصام والنزاع.ولكن، من قال: إن المقاومة لا تتعايش مع الواقعية؟ من قال: إن هناك تناقضاً مُستعصياً بين الكرامة والمصلحة؟ من قال: إن صيانة الاستقلال مستحيلة في ظل النظام الدولي؟أي فكرٍ سياسي هذا الذي يفهم العالم ويتعامل معه بتلك الطريقة؟كيف يمكن أن نقلب الحقائق رأساً على عقب في عالمنا العربي إلى هذه الدرجة؟إلى متى تستمر هذه الطريقةُ في التحليل السياسي محوراً لصناعة القرار في حياتنا العربية؟متى ندرك حقائق بديهية أدركها العالم منذ زمن؟ وبدأ (جيراننا) يدركونها في السنوات الأخيرة ويستحوذون على مساحات من القوة العالمية والنفوذ الإقليمي بناءً عليها؟متى ندرك مرةً واحدةً وإلى الأبد أن تحقيق (المصلحة) لا يُمكن أصلاً إلا في ظل وجود (المقاومة الحقيقية) و(الإصرار على الكرامة) و(إرادة الاستقلال) و(منهج الاعتدال) و(مدخل الواقعية) و(احترام النظام الدولي) معاً؟متى ندرك أن مصيبتنا الرئيسية والأولى تكمنُ في عملية الفصل التي مارسناها في التعامل مع تلك المفاهيم المترابطة؟كيف يمكن للعالم بأسره في الغرب والشرق أن يرى استحالة التخطيط السياسي وإمكانية صناعة القرار في معزلٍ عن استخدام تلك العناصر مجتمعةً، في حين نرى وحدَنا دون العاقلين من الناس أنها مُتضاربة إلى درجة أن تُصبح في واقعنا سببَ الخلاف والشقاق والمهاترات والقطيعة؟!لا يمكن أن يحصل هذا إلا في غياب (المشروع العربي). في عالمٍ يزدحم بالمشاريع القديمة والناشئة.حسناً، سنكون واقعيين هنا ولن نقفز إلى المطالبة بمشروع عربي.لكن باب المصالحة العربية المفتوح باستحياء هذه الأيام يمكن أن يكون خطوةً صغيرةً أولى على طريق ظهور ذلك المشروع إلى النور، غير أنها خطوةٌ لن تقود إلى شيء إلا بالعودة إلى حديث الإصلاح، قبل أي شيءٍ آخر.وهنا أيضاً، يجب على العرب تفكيك تناقضات تُشوّشُ تفكيرهم، ويجعلونها تحديداً محور ثقافتهم السياسية ومحور صناعة القرار لديهم.فالإصلاح لا يجب أن يعني بالضرورة ثورةً تعصف بالاستقرار، والإصلاح لا يعني بالضرورة تغييراً يقف في وجه الاستمرارية، والإصلاح لا يعني بالضرورة زعزعةً للمشروعية السياسية. هذا إذا تم التعامل مع عملية الإصلاح بالجدية والتوازنات المطلوبة والممكنة.والإصلاح في نهاية المطاف يعني مصالحةً (حقيقية) مع شعوبٍ عربية باتت تتطلع إلى حياةٍ كريمةٍ تؤمن لها رزقها الحلال وما تستحقه من صحةٍ وتعليمٍ وفرصة للعمل المشرّف والمشاركة في صناعة حاضرها ومستقبلها، وفي صيانة استقرارها واستقلالها وأمنها.هذا هو الإصلاح الذي نتحدث عنه ببساطةٍ واختصار. ولا داعي لتعقيد الأمور وفلسفتها في هذا الإطار.لكنّ الخطير في الموضوع أن غياب هذا النوع من الإصلاح سيُفجّر أي مصالحةٍ عربية. وسيُفجّر بعد ذلك الواقع العربي بأسره.قد يكون مطلوباً أيضاً الحديث عما لا تعنيه المصالحة لارتباطها بالإصلاح.فقد رأى النظام السياسي العربي إلى أي مدى يُمكن للاختلاف أن يَخصم من مشروعيته السياسية. وإلى أي مدى يمكن للقطيعة أن تكون مدخلاً للاستفراد بأطرافه واحداً بعد الآخر. وإلى أي مدى يمكن للشقاق أن يستنزف من طاقات الأطراف المختلفة في زمنٍ بات شحيحاً بالطاقات والموارد.لهذا، فالمصالحة لا يجب أن تعني بالضرورة الاستتباع أو الاحتواء أو الإذعان لرأي واحد. ولا يجب أن تعني غياب الاختلاف في وجهات النظر كلياً.السياسة أدوارٌ ومصالح، ولو جرّب العرب تحصيل مصالحهم المشتركة من خلال توزيع الأدوار لرأوا العجب العُجاب. ولأبصروا بعين اليقين كيف يَظهر احترامٌ متبادل وغير مسبوق مع (النظام الدولي).. في وجود رؤيةٍ سياسية تمزج في عناصرها بمهارة (المقاومة الحقيقية) و(الإصرار على الكرامة) و(إرادة الاستقلال) و(منهج الاعتدال) و(مدخل الواقعية) معاً.والسياسة تنازلات مُتبادلة، فلو تجاوز العرب عقلية (كل شيء أو لا شيء) لحلّوا من خلافاتهم أكثر مما يتصورون، ولتبين لهم أن التعامل مع التحديات الإقليمية والعالمية من مدخل (المحاور) كان فخاً قبل أن يكون أي شيءٍ آخر.ربما تبدو معادلة المصالحة والإصلاح معقدة لدى البعض. لكن السياسة فنُّ الممكن، وقد تكون ثمة فرصة لتحقيق ذلك الممكن خلال المرحلة المقبلة في وجود قدرٍ من الإرادة السياسية، وقبلها وبعدها قدرٍ من التفكير السياسي الجديد.

977

| 22 فبراير 2015

الإصلاح شرط المصالحة

لا يمكن للواقع العربي أن يتقدم خطوة إيجابية إلى الأمام دون حد أدنى من المصالحة، على الأقل، لما تبقى سليماً من أطراف النظام العربي. لكن سنن التاريخ وقوانين الاجتماع البشري تؤكدُ أنه لا مصالحة دون إصلاح. هذا إذا كنا نتحدث عن مصالحةٍ حقيقية وليس عن مظاهر خارجية وشعارات للاستهلاك. وفي الحقيقة، لا وجود ولا حاضر ولا مستقبل للعرب في غياب الإصلاح.ما من شكٍ أن للعرب بصمتهم المختلفة في كل شيء.يفعلون كل ما يفعله الآخرون، ولكن أيضاً بأسلوبهم المميز الذي لم يعرف التاريخ له مثيلاً.فهم يتقنون مثلاً صناعة التاريخ، لكنهم يصنعونه على طريقتهم الخاصة، والتاريخ الذي يصنعه العرب اليوم سيبقى إلى زمانٍ طويل تحت بند (حقوق الاختراع المحفوظة)، بإيجابياته وسلبياته.نحن نعيش في عالمٍ مليء بالتناقضات، هذه حقيقةٌ لا يماري فيها عاقل، لكن الأسئلة تطرح نفسها:لماذا يصرُّ العرب على الحياة في ظلِّ متناقضاتٍ إضافية مُختلَقة يُحاصرون أنفسهم وشعوبهم، وحاضرهم ومستقبلهم، فيها؟خنقَ العرب أنفسهم وحاضرهم وهم يتصايحون لزمنٍ طويل.لا صوت يعلو فوق صوت (المقاومة)..لا صوت يعلو فوق صوت (الكرامة)..لا صوت يعلو فوق صوت (الاستقلال)..لا صوت يعلو فوق صوت (الاعتدال)..لا صوت يعلو فوق صوت (الواقعية)..لا صوت يعلو فوق صوت (النظام الدولي)..لا صوت يعلو فوق صوت (المصلحة)..كان كل فريقٍ منهم، ولا يزال، يرى الأولوية لشعارٍ من الشعارات المرفوعة أعلاه، دون غيره، واحتدم النقاش حتى وصل إلى حد الخصام والنزاع.ولكن، من قال: إن المقاومة لا تتعايش مع الواقعية؟ من قال: إن هناك تناقضاً مُستعصياً بين الكرامة والمصلحة؟ من قال: إن صيانة الاستقلال مستحيلة في ظل النظام الدولي؟أي فكرٍ سياسي هذا الذي يفهم العالم ويتعامل معه بتلك الطريقة؟كيف يمكن أن نقلب الحقائق رأساً على عقب في عالمنا العربي إلى هذه الدرجة؟إلى متى تستمر هذه الطريقةُ في التحليل السياسي محوراً لصناعة القرار في حياتنا العربية؟متى ندرك حقائق بديهية أدركها العالم منذ زمن؟ وبدأ (جيراننا) يدركونها في السنوات الأخيرة ويستحوذون على مساحات من القوة العالمية والنفوذ الإقليمي بناءً عليها؟متى ندرك مرةً واحدةً وإلى الأبد أن تحقيق (المصلحة) لا يُمكن أصلاً إلا في ظل وجود (المقاومة الحقيقية) و(الإصرار على الكرامة) و(إرادة الاستقلال) و(منهج الاعتدال) و(مدخل الواقعية) و(احترام النظام الدولي) معاً؟متى ندرك أن مصيبتنا الرئيسية والأولى تكمنُ في عملية الفصل التي مارسناها في التعامل مع تلك المفاهيم المترابطة؟كيف يمكن للعالم بأسره في الغرب والشرق أن يرى استحالة التخطيط السياسي وإمكانية صناعة القرار في معزلٍ عن استخدام تلك العناصر مجتمعةً، في حين نرى وحدَنا دون العاقلين من الناس أنها مُتضاربة إلى درجة أن تُصبح في واقعنا سببَ الخلاف والشقاق والمهاترات والقطيعة؟!لا يمكن أن يحصل هذا إلا في غياب (المشروع العربي). في عالمٍ يزدحم بالمشاريع القديمة والناشئة.حسناً، سنكون واقعيين هنا ولن نقفز إلى المطالبة بمشروع عربي.لكن باب المصالحة العربية المفتوح باستحياء هذه الأيام يمكن أن يكون خطوةً صغيرةً أولى على طريق ظهور ذلك المشروع إلى النور، غير أنها خطوةٌ لن تقود إلى شيء إلا بالعودة إلى حديث الإصلاح، قبل أي شيءٍ آخر.وهنا أيضاً، يجب على العرب تفكيك تناقضات تُشوّشُ تفكيرهم، ويجعلونها تحديداً محور ثقافتهم السياسية ومحور صناعة القرار لديهم.فالإصلاح لا يجب أن يعني بالضرورة ثورةً تعصف بالاستقرار، والإصلاح لا يعني بالضرورة تغييراً يقف في وجه الاستمرارية، والإصلاح لا يعني بالضرورة زعزعةً للمشروعية السياسية. هذا إذا تم التعامل مع عملية الإصلاح بالجدية والتوازنات المطلوبة والممكنة.والإصلاح في نهاية المطاف يعني مصالحةً (حقيقية) مع شعوبٍ عربية باتت تتطلع إلى حياةٍ كريمةٍ تؤمن لها رزقها الحلال وما تستحقه من صحةٍ وتعليمٍ وفرصة للعمل المشرّف والمشاركة في صناعة حاضرها ومستقبلها، وفي صيانة استقرارها واستقلالها وأمنها.هذا هو الإصلاح الذي نتحدث عنه ببساطةٍ واختصار. ولا داعي لتعقيد الأمور وفلسفتها في هذا الإطار.لكنّ الخطير في الموضوع أن غياب هذا النوع من الإصلاح سيُفجّر أي مصالحةٍ عربية. وسيُفجّر بعد ذلك الواقع العربي بأسره.قد يكون مطلوباً أيضاً الحديث عما لا تعنيه المصالحة لارتباطها بالإصلاح.فقد رأى النظام السياسي العربي إلى أي مدى يُمكن للاختلاف أن يَخصم من مشروعيته السياسية. وإلى أي مدى يمكن للقطيعة أن تكون مدخلاً للاستفراد بأطرافه واحداً بعد الآخر. وإلى أي مدى يمكن للشقاق أن يستنزف من طاقات الأطراف المختلفة في زمنٍ بات شحيحاً بالطاقات والموارد.لهذا، فالمصالحة لا يجب أن تعني بالضرورة الاستتباع أو الاحتواء أو الإذعان لرأي واحد. ولا يجب أن تعني غياب الاختلاف في وجهات النظر كلياً.السياسة أدوارٌ ومصالح، ولو جرّب العرب تحصيل مصالحهم المشتركة من خلال توزيع الأدوار لرأوا العجب العُجاب. ولأبصروا بعين اليقين كيف يَظهر احترامٌ متبادل وغير مسبوق مع (النظام الدولي).. في وجود رؤيةٍ سياسية تمزج في عناصرها بمهارة (المقاومة الحقيقية) و(الإصرار على الكرامة) و(إرادة الاستقلال) و(منهج الاعتدال) و(مدخل الواقعية) معاً.والسياسة تنازلات مُتبادلة، فلو تجاوز العرب عقلية (كل شيء أو لا شيء) لحلّوا من خلافاتهم أكثر مما يتصورون، ولتبين لهم أن التعامل مع التحديات الإقليمية والعالمية من مدخل (المحاور) كان فخاً قبل أن يكون أي شيءٍ آخر.ربما تبدو معادلة المصالحة والإصلاح معقدة لدى البعض. لكن السياسة فنُّ الممكن، وقد تكون ثمة فرصة لتحقيق ذلك الممكن خلال المرحلة المقبلة في وجود قدرٍ من الإرادة السياسية، وقبلها وبعدها قدرٍ من التفكير السياسي الجديد.

381

| 22 فبراير 2015

تُجار النزاعات

لا ينتفع العرب بشيءٍ إذا تعاملوا مع العالم بمنطق الاستقطابات والمحاور على العكس من ذلك تماماً، يخسرونَ احترامهم، يرمون مصداقيتهم وراء ظهورهم، ويُضيّعونَ مشروعية وجودهم واستمرارهم في نظر شعوبهم قبل نظر العالم، تظلُّ هذه الحقائق تفرضُ نفسها مهما جمّلَ لهم البعض انقسامهم، ووجدوا له الأعذار والتبريرات (المنطقية)، ومهما تمّ إغراءُ طرفٍ من هنا بمكاسب آنية، وطرفٍ من هناك بجوائز ترضية تكتيكية، لا تُقدّم ولا تُؤخر في حلبة السياسة الدولية.رغم هذا، لا ينتظر المرء من جميع أطراف النظام السياسي العربي إدراك الحقائق المذكورة، فضلاً عن صناعة القرار بناءً على مُقتضاها، ولأسباب عديدة قد لا تكون ثمة حاجةٌ للتفصيل فيها، من هنا، يكفي وجود من يدرك تلك الحقائق، ويعمل لإقناع الآخرين بأن حداً أدنى من الإجماع العربي يمكن أن يحقق (المصالح)، وتحديداً حين يكون في ذلك الإجماع انسجامٌ مع الموقف الشعبي العربي، وبما يحقق طموحات الشعوب وآمالها، هكذا يتم بناء المشروعية السياسية، ومع بناء المشروعية تظهر المصداقية ويعود الاحترام، في عالمٍ لا يفهم إلا عندما تُخاطبهُ بتلك اللغة.وقد يكون من عجائب المفارقات أن يكمن وجه الاختلاف في اللغة العربية بين كلمتي (المصالحة) و(المصالح) في حرفٍ واحد!لكن مصدر التحدي الأكبر في وجه المصالحة وصانعيها سيتمثل دائماً في أصحاب المَصَالح المنتفعين من (صناعة النزاعات).في أحد الأفلام الخيالية التي تدور أحداثها خلال العقد الثامن من القرن الفائت، يقوم بعض الأبطال الخارقين بأعمال تؤدي إلى استتباب السلام والمصالحة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي بشكلٍ كامل، وكنتيجةٍ لتلك المصالحة، يسود الأمن والوئام بين شعوب العالم وتختفي الحروب والنزاعات، فنرى مدير تحرير إحدى الصحف الأمريكية يصرخ في وجه كبير المحررين قائلاً: "ما هذا الذي يجري؟! لم يعد لدينا أخبار، كل ما نراه هو شعوب العالم المختلفة وكلٌ منها يضع يده في يدِ الآخر، يبتسمون ويساعدون بعضهم إلى درجةٍ مملة، هذه ليست أخباراً، ابحث لي عن أخبار كالمعتاد بأي ثمن"!،هذه صورةٌ معبرةٌ لشريحةٍ من بني البشر تعيش على وجود الصراع في هذه الأرض، وتقتاتُ من استمرار النزاعات البشرية، هذا نموذجٌ إنسانيٌ لا يستطيع أن يكون له دورٌ في هذه الحياة بمعزلٍ عن (صناعةٍ) كبرى ومعقّدة ومتعددة الأطراف لا يسمع بها الكثيرون، اخترعَها الطمع البشري، اسمها (صناعة النزاعات).كثيرون هم المنتفعون من تلك الصناعة على مستوى الدول والمنظمات والأفراد، والرأي العام العربي يعرف غالبية هؤلاء، لكن الحقيقة، كما يوحي المشهد السينمائي المذكور، أن بعض أهل الإعلام باتوا جزءاً لا يتجزأ من تلك الصناعة، لا يسري هذا على الواقع العربي فقط طبعاً، وإنما توجد ملامحه في كل مكان من العالم، فاشتعالُ النزاعات يعني اشتعال المنافسة بين المصالح، وكلما كانت النزاعات كبيرةً وشاملة كانت المصالحُ أكبر، وكلما كبُرت المصالح ارتفع حجم المكافآت والعوائد التي يجنيها مَن يخدمون تلك المصالح، وبما أننا نعيش في عالمٍ أصبح الإعلام يُعتبر السلاح الأول في معاركه السياسية والثقافية، فإن هناك إغراءً شديداً لأهل الإعلام للاستفادة من هذا الوضع، ولتحقيق مكاسب لا يمكن تحقيق جزءٍ منها في أوقات الاستقرار والسلام.لا يمكن أن تفوتك معرفة أفراد هذه الشريحة، لأن عجزهم الحِرَفي الفاضح في زمن السلم يكشف حقيقة إمكاناتهم الإعلامية، لا يعني هذا أنهم فاشلون في استخدام اللغة أو أنهم يفتقرون للذكاء، بل ربما كان الأمر على العكس من ذلك، لكن بؤس البشرية معهم يتمثل في أن قدراتهم المذكورة لا تظهر إلا في وقت صناعة الأزمات، ويبدو الحديثُ معهم عن مهمةٍ نبيلة للإعلام تتمثل في رفع ذائقة الناس ووعيهم، وفي تأكيد معنى التعارف بينهم، يبدو بمثابة (الكليشيه) التي تثير الملل، وحين ترى مَن يختفي ويتوارى منهم في زمن السلم والاستقرار، ثم يظهر في وقت الأزمات والنزاعات ليصبح مالئ الدنيا وشاغل الناس، ولتصعد أسهمه إلى السماء بعد أن كانت في الحضيض، وليُصبح في صَدرِ الصفحات بعد أن كان ضائعاً في زاويةٍ هامشية من صفحاتها أو أبوابها الداخلية، فاعلم أنه واحدٌ من أولئك، وإذا كان لكل الحروب أثرياؤها الذين تزيد أرصدتهم وتتضاعف من دماء الشعوب، فهؤلاء يُشكّلون شريحةً منهم دون شك.لا يعلم أغلب الناس في العالم، ولا يعلم القراء والمشاهدون والمستمعون العرب على وجه التحديد مدى سهولة الانضمام إلى صناعة النزاعات بالنسبة لإعلامي ينحاز لذلك الخيار، ولا يدركون حجم المكاسب المادية والمعنوية التي تنتج عن مثل هذه الممارسة، فهناك ألف طريقة وطريقة لصبّ الزيت على النار في هذا المجال، يمكن للمراقب أن يرصدها في عشرات المقالات والتحليلات وزوايا الرأي التي تُحرّف الحقائق، وتتلاعب بالألفاظ والمصطلحات، وتُخفي ما يجب أن يعرفه الناس، وتُركّب صوراً ذهنيةً لا أصل لها، وتستعمل خلط الحقائق والأوراق، وتستخدم اللغة لاستخلاص نتائج خاطئة من مقدمات صحيحة، وتقول جزءاً من الحقيقة لتوظيفها في تركيب كذبةٍ كبيرة، وتؤكد على لغة التهويل والتخويف وإثارة الذعر، وتلجأ لأسلوب التحريض السافر حيناً والمستتر حيناً آخر.لا يمكن للمصالحة العربية أن تكتمل في يوم من الأيام دون أن تكون مُنسجمةً مع ما يُحقق مصالح الشعوب وحقوقها وطموحاتها المشروعة، لكنها لا يمكن أن تبدأ، أصلاً، قبل أن يجد العرب، حكاماً ومحكومين، طريقةً للتعامل مع تجار صناعة النزاعات.

681

| 15 فبراير 2015

alsharq
حدود العنكبوت

حينَ شقَّ الاستعمار جسدَ الأمة بخطوطٍ من حديد...

3582

| 04 نوفمبر 2025

alsharq
انخفاض معدلات المواليد في قطر.. وبعض الحلول 2-2

اطلعت على الكثير من التعليقات حول موضوع المقال...

2160

| 03 نوفمبر 2025

alsharq
العالم في قطر

8 آلاف مشارك بينهم رؤساء دولوحكومات وقادة منظمات...

2076

| 04 نوفمبر 2025

alsharq
حين يصبح النجاح ديكوراً لملتقيات فوضوية

من الطرائف العجيبة أن تجد اسمك يتصدر أجندة...

1281

| 04 نوفمبر 2025

alsharq
الكفالات البنكية... حماية ضرورية أم عبء؟

تُعدّ الكفالات البنكية بمختلف أنواعها مثل ضمان العطاء...

936

| 04 نوفمبر 2025

alsharq
نظرة على عقد إعادة الشراء

أصدر مصرف قطر المركزي في التاسع والعشرين من...

924

| 05 نوفمبر 2025

alsharq
خطاب سمو الأمير خريطة طريق للنهوض بالتنمية العالمية

مضامين ومواقف تشخص مكامن الخلل.. شكّل خطاب حضرة...

888

| 05 نوفمبر 2025

alsharq
نحو تفويض واضح للقوة الدولية في غزة

تسعى قطر جاهدة لتثبيت وقف اطلاق النار في...

876

| 03 نوفمبر 2025

alsharq
مِن أدوات الصهيونية في هدم الأسرة

ما من ريبٍ أن الحلم الصهيوني لم يكن...

843

| 02 نوفمبر 2025

alsharq
عمدة نيويورك

ليس مطلوباً منا نحن المسلمين المبالغة في مسألة...

711

| 06 نوفمبر 2025

alsharq
الانتخابات العراقية ومعركة الشرعية القادمة

تتهيأ الساحة العراقية لانتخابات تشريعية جديدة يوم 11/11/2025،...

696

| 04 نوفمبر 2025

alsharq
التعلم بالقيم قبل الكتب: التجربة اليابانية نموذجًا

لفت انتباهي مؤخرًا فيديو عن طريقة التعليم في...

675

| 05 نوفمبر 2025

أخبار محلية