رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

Al-sharq

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

الشرق

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

الذكاء الاصطناعي 2027.. بين وهم النبوءة واحتمال الانفجار الذكي

يشهد العالم في الأعوام الأخيرة نقاشًا متسارعًا حول مستقبل الذكاء الاصطناعي، حيث لم يعد الأمر مقتصرًا على قدرات هذه النماذج في الترجمة أو توليد النصوص أو تحليل البيانات، بل تجاوز ذلك إلى سؤال محوري: هل يمكن أن تصبح هذه الأنظمة قادرة على تطوير نفسها بنفسها، وبوتيرة تفوق قدرة البشر على المتابعة؟ هذا السؤال اكتسب زخمًا خاصًا بعد صدور تقرير مثير للجدل عُرف باسم AI 2027، والذي حظي بتغطية واسعة في وسائل الإعلام العالمية مثل The New Yorker وVox وThe Week. التقرير قدّم سيناريو تفصيليًا يتوقع أنه بحلول عام 2027 ستتمكن أنظمة الذكاء الاصطناعي من أداء دور أشبه بـ “مهندس أبحاث ذكاء اصطناعي”، أي أنها ستشارك بفاعلية في تطوير نماذج جديدة وتحسين بنيتها الداخلية وابتكار خوارزميات أكثر تطورًا. وبذلك، تدخل هذه الأنظمة في حلقة تسريع ذاتي، بحيث يصبح كل جيل من النماذج قادرًا على تطوير جيل أكثر قوة، وهو ما يُعرف بمفهوم الانفجار الذكي (Intelligence Explosion). لكن هل هذه التوقعات واقعية؟ أم أنها مجرد إنذار مبكر صيغ بطريقة مثيرة للانتباه؟ في مقالة نشرتها مجلة The New Yorker تحت عنوان “Two Paths for A.I.”، جرى عرض هذا السيناريو كواحد من مسارين متناقضين: الأول يقود إلى تسارع غير مسبوق قد يفضي إلى ظهور ذكاء فائق يتجاوز الإنسان في معظم المجالات، والثاني أكثر حذرًا ويعتمد على قيود تنظيمية ومحدودية الموارد التي قد تُبطئ وتيرة التطور. وفي مقالة أخرى في Vox، جرى توصيف هذه التوقعات بأنها “محملة بالجدلية”، لكنها في الوقت نفسه تمثل دعوة للنقاش العام وصياغة استراتيجيات استباقية للتعامل مع التحولات المحتملة. أما مجلة The Week فقد ذهبت إلى حد التساؤل عما إذا كان عام 2027 قد يشهد بالفعل “نهاية العالم عبر الذكاء الاصطناعي”، لكنها أشارت إلى أن غالبية الخبراء يعتبرون هذا التوقيت قريبًا جدًا من الواقع. ورغم المبالغات المحتملة، إلا أن ما يمنح هذه التوقعات بعض المصداقية هو الأدلة الأولية التي بدأت تظهر في الأبحاث الأكاديمية. ففي دراسات نُشرت على موقع ArXiv عامي 2024 و2025، تبيّن أن بعض النماذج قادرة على تكرار نفسها، بل وأظهرت سلوكًا أقرب إلى “التفلت” من الأوامر، الأمر الذي يشير إلى بدايات ما يمكن أن نسميه بالقدرة على التطوير شبه المستقل. هذه النتائج وإن كانت محدودة، فإنها تكفي لتغذية المخاوف من أن يصبح التسريع الذاتي واقعًا في المستقبل القريب. لكن من جهة أخرى، لا يزال الطريق طويلًا قبل أن نصل إلى ذكاء عام فائق مستقل بالكامل عن البشر. فحتى أكثر النماذج تقدمًا اليوم تعتمد على بنية تحتية بشرية معقدة: ملايين المعالجات المتقدمة، شبكات الطاقة، مجموعات بيانات هائلة، ومهندسين يشرفون على كل خطوة. أي أن ما نملكه الآن أقرب إلى أنظمة قوية لكن محكومة، لا إلى كائنات مستقلة بذاتها. وحتى لو تمكنت هذه الأنظمة من تحسين بنيتها الداخلية، فإنها ستظل بحاجة إلى سلسلة طويلة من المدخلات البشرية والموارد المادية التي لا يمكن الاستغناء عنها بسهولة. في تقديري الشخصي، لا أستبعد أن نشهد بحلول عام 2027 نماذج قادرة على تسريع تطويرها بطرق شبه مستقلة، كأن تقوم بكتابة شيفرات جديدة أو إعادة تصميم بنيتها الداخلية بشكل يخفف من اعتمادها على المبرمج البشري. هذا التطور سيكون بحد ذاته كفيلًا بإحداث تحول عميق في مجالات متعددة، من البحث العلمي إلى الصناعة إلى السياسات الدولية. ومع ذلك، فإن الوصول إلى ذكاء عام فائق مستقل عن البشر تمامًا لا يزال يحتاج إلى وقفة نقدية. فالحديث عن أن 2027 يمثل نقطة التحول الكبرى قد يكون مبالغًا فيه، لكنه يلفت النظر إلى حقيقة أكثر أهمية: وتيرة التطور تتسارع على نحو متزايد، وإذا لم يتم وضع ضوابط واضحة فقد نجد أنفسنا أمام وضع يصعب التحكم فيه، إن جوهر النقاش إذن ليس في السؤال عمّا إذا كان عام 2027 سيكون لحظة الانفجار الذكي، بل في إدراك أن التسارع قائم بالفعل، وأنه كلما تقدمت هذه النماذج خطوة نحو الاستقلالية، ازدادت صعوبة السيطرة على اتجاهها. ولذلك فإن الحاجة باتت ملحة إلى حوكمة صارمة للذكاء الاصطناعي، تشمل أطرًا تنظيمية دولية وقواعد واضحة للسلامة التقنية والشفافية. فغياب هذه الضوابط قد يعني أن ما يُطرح الآن كسيناريو محتمل قد يتحول إلى واقع غير مرغوب فيه. ما يجب أن نفهمه أن الخطر ليس في السنة المحددة، بل في الدينامية التي تحكم التطور. فالأنظمة التي نستخدمها اليوم في الترجمة أو توليد النصوص أو التحليل قد تتحول غدًا إلى أنظمة قادرة على إعادة برمجة ذاتها، وبعد غد ربما إلى أدوات تتخذ قرارات استراتيجية دون إشراف بشري مباشر. عند تلك النقطة لن يكون السؤال عن “متى” فحسب، بل عن “كيف” يمكن للبشرية أن تحافظ على موقعها كعنصر فاعل ومسيطر على ما صنعته. لا ينبغي تفسير الجدل المحتدم في وسائل الإعلام العالمية- من تحليلات مجلة «ذا نيويوركر» المتعمقة إلى تقارير «فوكس» التفسيرية وخلاصات «ذا ويك»- بمفرده، ولا حتى قراءة الأدلة البحثية الأولية المنشورة على منصة (arXiv)، على أنه مجرد نقاش أكاديمي نخبوي. في جوهره، يمثل هذا الضجيج الفكري والإعلامي مؤشرًا بالغ الأهمية على حقيقة مفادها أن وتيرة التحولات التقنية المقبلة قد تفوق كل تقديراتنا وتتخطى حدود توقعاتنا الأكثر جرأة. وبالتالي، حتى لو لم يثبت أن عام 2027 هو الموعد الحتمي والفعلي لظهور «الذكاء الفائق الخارق» (Artificial Superintelligence)، فإنه يظل «جرس الإنذار» المدوّي الذي يهزنا من سباتنا الجماعي. إنه يذكرنا، بقوة وبشكل لا لبس فيه، بأن ذلك المستقبل الذي طالما تعاملنا معه كخيال علمي بعيد المنال، قد بدأ بالفعل يطرق بابنا، متقدمًا نحونا بسرعة مذهلة لم تشهدها البشرية من قبل في أي منعطف تاريخي آخر.

495

| 21 أغسطس 2025

الاستخدام المكثف للتطبيقات.. فخ الوجود الرقمي

يشير عالم الاجتماع زيجمونت باومان إلى أن الحداثة السائلة حوّلت الهوية من «مُعطى ثابت» إلى «مهمة مستمرة»، لكن الرقمنة دفعت بهذه الفكرة إلى حدودها القصوى، فالهوية لم تعد مهمة يُعاد بناؤها ببطء، بل أصبحت سلسلة من اللحظات المنفصلة، كلٌّ منها يتطلّب أداءً مُختلفًا. الفتاة التي تلتقط صورة «سيلفي» بعد عشر دقائق من البكاء، والمراهق الذي يكتب تغريدة ساخرة بينما يعاني من عزلة عميقة، هما نموذجان لانفصام جديد: انفصال التجربة الداخلية عن التمثيل الخارجي، حيث يصبح الأداء الرقمي غايةً بذاته، لا تعبيرًا عن حالة وجدانية. في هذا السياق، تُظهر أبحاث علم الأعصاب أن الاستخدام المكثف للتطبيقات متعددة المهام يُضعف الروابط العصبية المسؤولة عن تكوين الذاكرة الطويلة الأمد. بمعنى آخر، كلما زاد عدد «النسخ الرقمية» للذات، قلّت قدرة الدماغ على نسج سردية متماسكة عن الذات. هذه ليست مجرد أزمة هوية، بل أزمة وجودية، فبدون سردية داخلية، يفقد الإنسان إحساسه بالاستمرارية، ويصبح مجموعة من اللحظات المنفصلة التي لا يجمعها خيط روائي أو معنى شامل. العبودية الطوعية: اقتصاد الانكشاف والمراقبة الذاتية اللافت في هذا التحول أنه لا يُفرض من الخارج، بل ينبع من ديناميكية الرغبة. فالمستخدم لا يُجبر على المشاركة، بل يُحفَّز عليها عبر آليات الإعجاب والتعليقات التي تُشبع حاجة نفسية عميقة إلى الاعتراف الاجتماعي. لكن هذه الرغبة في «الوجود الرقمي» تتحول إلى فخ، فكلما زاد الانكشاف، زادت الحاجة إلى المزيد منه، في حلقة مفرغة تُذيب الحدود بين «الرغبة في الظهور» و»الضرورة الوجودية للظهور». كما يصفه الفيلسوف الكوري الجنوبي بيونغ-تشول هان، نحن أمام «مجتمع الشفافية» حيث المراقبة الذاتية تصبح أداةَ قمعٍ أكثر فاعلية من أيّ نظام بوليسي. هذه الديناميكية تُنتج نوعًا جديدًا من الاغتراب، فالإنسان يعيش تجربته من خلال عيون الآخرين، لا من خلال حسه الذاتي. الصورة التي يختارها للعرض، التغريدة التي يحرص على صياغتها، وحتى المشاعر التي يعبّر عنها، كلها تُفلتر عبر عدسة «القابلية للنشر». وهكذا، تتحول الذات إلى «علامة تجارية» تُصنع وفقًا لمعايير السوق الرمزي، لا وفقًا لعمق التجربة الإنسانية. من التشكُّل العضوي إلى التكوين الخوارزمي الأمر لا يتوقف عند جيل الألفية أو جيل Z، بل يصل ذروته مع جيل ألفا، الذي يتعرف على العالم أولًا عبر الشاشات قبل أن يلمس العشب أو يشعر بدفء حضن الأم. هؤلاء الأطفال يتعلمون أن «الأنا» شيء يُصنع عبر الإيماءات والفلترات، لا عبر التفاعل العضوي مع العالم. الدراسات تشير إلى أن تعرُّض الأطفال المكثف للشاشات يُغيّر بنية الدماغ، ويُضعف القدرة على التعاطف والتأمل. لكن الخطر الأعمق هو أنهم قد ينشؤون دون أن يختبروا أبدًا تلك اللحظات القديمة التي كانت تُشكّل الهوية: لحظات الملل الطويلة، الأحاديث الهادئة مع الذات، أو الاكتشاف البطيء للعالم دون وساطة رقمية. إنّ الخروج من مأزق التفتت الرقمي لا يكمن في الانكفاء عن التكنولوجيا أو رفضها، بل في إعادة تعريف العلاقة معها، على نحو يعيد للذات تماسكها وللوجود عمقه. فبدلاً من الذوبان في منطق «الأداء» والتمثيل الدائم للذات، نحتاج إلى التمهّل والتمييز بين التعبير الأصيل وبين العرض المُفبرك. إلى استعادة الزمن البطيء كمساحة لصياغة المعنى، بعيدًا عن منطق النشر الفوري والتفاعل اللحظي. نحتاج كذلك إلى تربية رقمية نقدية تُمكّن الأجيال الجديدة من التعامل مع الخوارزميات كأدوات، لا كإطار وجودي يُعيد تشكيلهم دون وعي. الفيلسوف مارتن هايدغر يعبّر هنا بعمق، عندما يقول «الخطر لا يكمن في التكنولوجيا ذاتها، بل في افتراضنا أنها محايدة». فالذات الموزعة ليست مصيرًا لا فكاك منه، بل نتيجة لاختيارات ثقافية واقتصادية يمكن نقدها وإعادة تشكيلها. والسؤال الأهم لم يعد: كم نسخة رقمية لي؟، بل: أين «أنا الحقيقية» بين كل هذه النسخ؟.

321

| 12 أغسطس 2025

تشظّي الأنا.. صراع الهوية في عصر «الخوارزميات الرقمية»

لم تعد الهوية الإنسانية -في خضم الثورة الرقمية الجارفة- تمثل كتلة صلبة متجانسة، بل تحولت إلى كيان سائل متحول، يتشكل ويتبدل عبر تفاعلات لا تنقطع مع فضاءات رقمية متداخلة. لم يعد توسع المنصات الرقمية ينتج مجرد تمثيلات افتراضية للذات، بل أنشأ واقعاً موازياً تتوزع فيه الهوية إلى أشباح متعددة، تتنقل بين الواقع المادي والعالم الرقمي في حالة من التشظي والتجزؤ المستمر. هذا التكاثر الهوياتي، بعيداً عن كونه تعبيراً عن ثراء داخلي، يثير إشكاليات عميقة حول وحدة الوعي وتماسك الشخصية، في عصر أصبحت فيه الخوارزميات هي المتحكم الأول بجدول ظهورنا واختفائنا، وبالتالي بوجودنا الرمزي. تاريخيًا، كانت الهوية تُبنى من الداخل، بالتأمل، والتجربة، والتراكم الشخصي. أما في السياق الرقمي، فقد أصبحت الذات تُنتَج من الخارج، وفق منطق الصورة، والتفاعل، وعدد المتابعين. لم يعد الإنسان يعرف نفسه بوصفه كينونةً متفردة، بل بوصفه واجهة مرئية تُراقب وتُقيَّم. في هذا السياق، تنزاح مقولة ديكارت “أنا أفكر، إذن أنا موجود” لتحلّ محلّها سرديات جديدة: “أنا أظهر”، “أنا أُشاهَد”، «أنا أتفاعل». أبحاث متعددة تشير إلى أن عملية بناء الهوية الرقمية لا تُترك للفرد بصورة حرة، بل تُوجّه عبر بنى رقمية وخوارزميات تحدّد معايير النجاح والظهور. فالفرد يعيد تشكيل صورته بما يتلاءم مع شروط المنصة: جاذبية بصرية، قابلية للاختزال، كثافة في التفاعل. وبهذا المعنى، تصبح الهوية مشروعًا تسويقيًا يتطلب صيانة مستمرة، وإنتاجًا دائمًا للرمزية، خوفًا من السقوط في هوامش النسيان الرقمي أو التعليق أو الحذف. لا يمكن اليوم الحديث عن «ذات واحدة» في الفضاء السيبراني؛ بل نعيش حالة من الذات الموزعة، حيث يمتلك الفرد تمثيلات متباينة في كل منصة: شخصية مرئية على إنستغرام، أُخرى تفاعلية في بيئة الألعاب، نسخة مهنية على لينكد إن، وأخرى مختصرة في تيك توك. كل تمثيل من هذه النسخ يخضع لخطاب خاص، وجمهور مختلف، وقواعد أداء مستقلة. هذا التعدد، وإن بدا أحيانًا شكلًا من الحرية التعبيرية، إلا أنه قد يفضي إلى تشوش هويّاتي واضطراب نفسي، لا سيما في المراحل العمرية الحساسة مثل المراهقة. وقد أظهرت الباحثة شيري توركل ببحث لها أن المراهقين في البيئات الرقمية الكثيفة يعانون من صعوبة في التمييز بين «الذات الأصيلة» و»الذات المؤداة»، مما يؤدي إلى اضطرابات في تقدير الذات، وشعور متزايد بالاغتراب. وثمة دراسة حديثة أظهرت أن تعدّد الحسابات النشطة يرتبط بارتفاع معدلات القلق الاجتماعي، وزيادة التشتت الذهني، وضغط نفسي غير مرئي لإرضاء جماهير متعددة ومتقلبة، مما ينتج تمزقًا هوياتيًا يصعب على الفرد احتواؤه. السمة الأبرز للذات الرقمية في جيل Z وجيل ألفا ليست فقط في تعددها، بل في سطحيتها التمثيلية. فالذات لم تعد تتشكل من الداخل، بل صارت مُصمَّمة للخارج؛ تُبنى من خلال الصورة المُفلترة، والتعليق القصير، والمقطع السريع. هذا النمط من البناء الهوياتي ينتج ذاتًا “حاضرة دائمًا” في الفضاء الرقمي، لكنها حضور مشروط بمدى التفاعل، لا بعمق التجربة أو اتساق المعنى. إننا أمام لحظة مفصلية لا يُعاد فيها تشكيل الأدوات فحسب، بل إعادة صياغة الإنسان ذاته. الهوية لم تعد تُبنى داخل الأسرة والمدرسة والحيّ فقط، بل في التطبيقات والمنصات وتحت أعين جماهير افتراضية لا تنام. والمراهق اليوم لا يواجه فقط قلق “من أكون؟” بل قلق “أي نسخة منّي يجب أن أكون اليوم؟”. فجيل Z وجيل ألفا ليسا فقط امتدادًا زمنيًا للأجيال السابقة، بل يمثلان قطيعة بنيوية في بنية الذات والوعي والعلاقة مع الآخر. فجيل Z عاش الانتقال من الواقعي إلى الرقمي، بينما وُلد جيل ألفا داخل الشاشات وتفاعل أولًا مع الخوارزميات. وكلا الجيلين يعيشان تجربة إنسانية جديدة تُعيد تعريف الإدراك، والانفعال، والانتماء. إنّ التحدي الأكبر في عصرنا ليس تطوير التقنيات أو تحسين الأدوات، بل هو تحدٍ وجودي وأخلاقي عميق: كيف نحافظ على إنسانيتنا في عالم يختزل القيمة في الإنجاز والكفاءة؟ كيف نعيد بناء الذوات في زمن أصبحت فيه الهوية تُقاس بعدد المتابعين وحجم التفاعلات الرقمية؟ الأسئلة الحقيقية التي تواجهنا اليوم ليست تقنية، بل هي أسئلة عن المعنى والغاية: كيف نربّي أبناءً قادرين على أن يكونوا أنفسهم بصدق، لا مجرد حسابات نشطة تلهث وراء الرضا الآني؟ كيف نعلّمهم فنّ التأمل في عالم يرفض التوقف، وقيمة البطء في ثقافة تُقدّس السرعة، وأهمية العمق في زمن السطحية؟ المعضلة الحقيقية تكمن في أننا نواجه نظامًا يعيد تشكيل الوعي البشري وفق قواعد الأداء والاستهلاك. فلم يعد التعليم مجرد نقل للمعرفة، بل أصبح تدريبًا على المنافسة في سوق لا يعترف إلا بالأرقام. ولم تعد العلاقات الإنسانية تعكس العمق العاطفي، بل تحوّلت إلى سلسلة من التفاعلات المؤقتة. أمام هذا الواقع، يصبح السؤال الأخلاقي ملحًّا: كيف نصنع مساحات مقاومة لهذا التيار؟ كيف نخلق بيئات تسمح للأبناء بالنمو دون أن يفقدوا أنفسهم في زحام التوقعات؟ الجواب لا يكمن في رفض التكنولوجيا، بل في توظيفها لخدمة إنسانية أكثر اتساعًا، حيث يكون للوجود معنى يتجاوز الأداء، وللحياة قيمة لا تُقاس بعدد الإشعارات. هذا ورغم هذا التحدي الجذري، فإن مستقبل الإنسان الرقمي لا يُحسم بالخوارزميات، بل بـ الوعي النقدي. فالتحول الرقمي ليس قدرًا، بل مجال للتفكير، والمساءلة، وإعادة التمركز. ما نحتاجه اليوم ليس فقط تنظيم «وقت الشاشة» بل إعادة تصوّر علاقتنا بالوجود في زمن تذوب فيه الذات الأصيلة داخل صور متعددة.

426

| 04 أغسطس 2025

الخوارزميات القاتلة!

مع التقدم المتسارع في تقنيات الذكاء الاصطناعي، لم تعد الخوارزميات مجرد أدوات لتحسين الأداء أو تسهيل الحياة، بل أصبحت في بعض الحالات قراراتها تساوي الحياة أو الموت. في ميدان الحرب الحديث، ظهرت فئة جديدة من الأسلحة تُعرف بـ «الخوارزميات القاتلة»؛ أنظمة مؤتمتة قادرة على رصد الأهداف، وتقييم التهديد، واتخاذ القرار بالقتل دون تدخل بشري مباشر. هذا التحول التكنولوجي أثار مخاوف أخلاقية وإستراتيجية، وفتح الباب أمام نمط جديد من الصراع تديره الآلة بدم بارد ودقّة تفوق قدرة الإنسان. فقد كشفت سلسلة من الاغتيالات الدقيقة التي استهدفت شخصيات محورية داخل إيران في الثالث عشر من يونيو 2025، عن نقلة نوعية في أدوات الصراع. لم تكن هذه العمليات مجرّد عمل ميداني تقليدي أو حتى ضربة استخباراتية اعتيادية، بل كانت إعلانًا عن ولادة مرحلة جديدة من الحرب، حيث تتحول الخوارزميات إلى أدوات قتل، وتُدار المعركة من قبل أنظمة ذكاء اصطناعي تحلل وتقرّر وتنفّذ. في هذه الحرب غير المعلنة أو ما بت يطلق عليها «المظلمة»، لا تُرصد الجبهات بالعين المجردة، ولا تُسمع أصوات الانفجارات. كل ما يحدث هو اختفاء هدف، واضطراب استخباراتي داخلي، ورسالة ضمنية: القاتل لم يكن فردًا، بل منظومة رقمية تعرف كل شيء عنك. من جهتها إسرائيل، التي لطالما اتبعت منهج الردع التقليدي، باتت الآن تخوض حربًا خفية داخل البنية الرقمية والمعرفية للخصم. النخب، والعقول، والمهندسون، باتوا في مرمى هذه الخوارزميات التي تتقن التعرّف على الأنماط السلوكية، ورصد التحركات، والتنبؤ بالقرارات قبل وقوعها، ولعلّ ما جرى في أيلول الماضي، حين استهدفت تفجيرات أجهزة المناداة (البيجر) عناصر من حزب الله اللبناني، يُعدّ مثالًا صارخًا على هذا النمط من الهجمات المؤتمتة التي تديرها الخوارزميات عن بُعد وبلا هوادة. خلال الأسابيع الأخيرة، تعرّض عدد من القادة العسكريين والعلماء الإيرانيين لعمليات اغتيال شديدة الدقة. ما ميّز هذه العمليات لم يكن فقط توقيتها المحسوب أو قدرتها على تجاوز أنظمة الحماية، بل حقيقة أن تنفيذها لا يمكن نسبته بسهولة إلى فرقة ميدانية أو عميل بشري. بل كانت نتيجة لتكامل شبكات الذكاء الاصطناعي التي تقرأ تفاصيل الحياة اليومية للهدف - من خطواته الأولى، إلى حركات عينيه، إلى أنماط استخدام هاتفه - وتحولها إلى إشارات إنذار متقدمة. هذه الخوارزميات لا تقتل شخصًا فقط، بل تزعزع بيئة بأكملها، وتفكك شبكات السلطة، وتزرع الخوف في كل ما هو مألوف. تعتمد إسرائيل في هذه الحرب على تحالف غير مرئي بين وحداتها الاستخباراتية، وعلى رأسها الوحدة 8200، وبين عدد من شركات التكنولوجيا الخاصة التي تطور أدوات تحليل سلوكي متقدمة، وتقنيات تعلم آلي قادرة على التكيف اللحظي مع البيئة العملياتية. الأقمار الصناعية، والتعرف على الوجه، وتحليل الصوت، وربط البيانات المفتوحة مع البيانات الاستخبارية المغلقة، كلها أدوات تنصهر في شبكة قتل لا تعتمد على السلاح التقليدي، بل على معرفة العدو أكثر مما يعرف نفسه. في السنوات الماضية، استخدمت إسرائيل أدوات مشابهة في عمليات محدودة داخل لبنان ضد قادة من حزب الله، لكن الانتقال إلى قلب المؤسسة الإيرانية - سواء عبر استهداف قادة الحرس الثوري أو العلماء المتخصصين في الطيران السيبراني - يشير إلى تحوّل نوعي في العقيدة الأمنية الإسرائيلية. لم تعد تل أبيب تنتظر التهديد كي ترد، بل تسعى اليوم إلى ما يمكن تسميته بـ «الوقاية الخوارزمية»: إستراتيجية تعتمد على استباق التهديدات وتدميرها وهي لا تزال فكرة، أو مشروعًا في طور التكوين. هذا التصعيد لا يُفهم خارج السياق الإقليمي المتغير. تراجع دور الوساطة الأمريكية التقليدية منح إسرائيل حرية أكبر في المبادرة، كما أن تسارع إيران في بناء قدرات هجومية في الفضاء السيبراني شكّل دافعًا لإسرائيل لتبني نهج هجومي استباقي أكثر جرأة. إلى جانب ذلك، يبدو أن المؤسسة العسكرية الإسرائيلية تسعى لتحويل هذه الأدوات إلى نموذج تصديري، تبيعه للعالم كسلاح جاهز للاستعمال في الحروب الحديثة، دون الحاجة إلى جيوش أو قواعد متقدمة. لكن هذه الطفرة التكنولوجية، رغم دقتها وفعاليتها، تطرح أسئلة ثقيلة في ميزان الأخلاق والقانون. ماذا لو أخطأت الخوارزمية التقدير؟ من يُحاسب على قتلٍ تم اتخاذ قراره ضمنياً داخل نظام لا يعرف الرحمة ولا يفهم السياق؟ ما هي حدود المسؤولية عندما تتحول الحرب إلى عملية حسابية باردة لا يمر عبرها الضمير؟ وهل يصبح للخصم الحق في تطوير خوارزمياته الخاصة، أم أن السباق سيكون نحو التمويه البشري والكمائن المعرفية في وجه العقل الصناعي؟ إيران، التي لطالما برعت في استخدام «الكمائن البشرية» ومهارات الميدان، قد تجد نفسها الآن أمام خيار صعب: إما اللحاق بركب الخوارزميات القاتلة، أو تطوير آليات مقاومة جديدة تعيد العنصر البشري إلى قلب المعركة. ربما ستكون المعركة القادمة معركة برمجيات ضد برمجيات، وبيانات ضد بيانات، في سباق نحو من يملك قدرة القتل الذكي الأسرع والأدق. في النهاية، نحن لا نعيش مجرد تطور في أدوات القتال، بل ثورة في مفاهيم الحرب ذاتها. لم يعد قرار القتل محصورًا في يد الجنرال، بل صار جزءًا من منظومة تستنتج وتقرّر وتضغط الزناد الرقمي. وفي هذا السياق، فإن من يتحكم بالخوارزمية، يتحكم بالمصير. الحروب المقبلة لن تُخاض فقط بالسلاح، بل بالمعرفة - والمعرفة باتت خوارزمية.

306

| 07 يوليو 2025

الاشتباك الصامت.. الصراع السيبراني بين طهران وتل أبيب

في العقود الأخيرة، أخذت الحروب شكلاً جديدًا تجاوز الميدان العسكري التقليدي إلى ساحات أكثر تعقيدًا وخفاءً. فقد أصبحت الجبهة السيبرانية إحدى أخطر جبهات الصراع بين الدول، في ظل اعتماد الأنظمة الحيوية على البنية الرقمية وترابطها العميق مع الفضاء الإلكتروني. لم تعد محطات الطاقة والمؤسسات المالية ومراكز الاتصالات أهدافًا هامشية، بل تحوّلت إلى نقاط اشتباك إستراتيجية يمكن استهدافها لتعطيل مدن، أو شلّ اقتصادات، أو إرباك حكومات بضغطة زر. وفي منطقة الشرق الأوسط، التي عرفت طويلًا الحروب التقليدية، نشهد اليوم تحولًا نوعيًا في أنماط المواجهة، تجلّى بوضوح في الحرب السيبرانية المتصاعدة بين إيران وإسرائيل، والتي تمثل نموذجًا متقدمًا لهذا الطور الجديد من الصراعات. منذ عام 2010، حين أصاب فيروس «ستاكسنت» – وهو أول سلاح سيبراني في العالم- منشأة «نطنز» النووية الإيرانية، بدأت ملامح هذه الحرب الصامتة في التبلور شيئًا فشيئًا. لم يكن الهجوم مجرد عملية اختراق عابرة، بل كان أول سلاح سيبراني يُحدث ضررًا ماديًا فعليًا في البنية التحتية لدولة ذات سيادة. وقد نُسب إلى تعاون استخباراتي بين إسرائيل والولايات المتحدة، واعتُبر إيذانًا بولادة عقيدة هجومية جديدة تُستخدم فيها التكنولوجيا لردع الخصم وإبطاء تطوره، دون إطلاق رصاصة واحدة أو إراقة نقطة دم. هكذا نشأت ما بات يُعرف بـ»العقيدة السيبرانية الإسرائيلية»، التي تمزج بين الضربات الوقائية والقدرات الاستخباراتية والعمل الميداني. ومع التصعيد العسكري في يونيو 2025، انتقل هذا الصراع إلى مرحلة غير مسبوقة، حيث نفذت إسرائيل ضربات جوية دقيقة داخل الأراضي الإيرانية، ترافقت مع هجمات سيبرانية عطّلت أنظمة الرادار والدفاع الجوي، مما سهّل اختراق الطائرات الحربية لأجواء إيران. هذا التداخل بين الهجمات المادية والرقمية عكس إستراتيجية إسرائيلية متقدمة، توظّف التكنولوجيا كذراع موازية للعمليات العسكرية التقليدية، وتستثمر التكامل بين الأمن السيبراني والمعلوماتي والعمليات الميدانية لإضعاف الخصم من الداخل. الرد الإيراني لم يتأخر، بل جاء مكثفًا ومتعدد الأبعاد. ففي غضون أيام، ارتفعت الأنشطة الخبيثة الموجهة ضد إسرائيل بنسبة فاقت 700 %، وفقًا لشركة «رادوير» للأمن السيبراني. الهجمات طالت بنوكًا ومؤسسات إعلامية ومنصات مالية واقتصادية رقمية، وأسفرت عن تسريب بيانات حساسة، وبث رسائل احتجاجية عبر قنوات رسمية، وسرقة ملايين الدولارات من أصول رقمية. هذا التصعيد أكد أن إيران بدورها باتت تمتلك ترسانة سيبرانية هجومية متقدمة، ترتكز على مجموعات قرصنة عالية التدريب تعرف باسم «مجموعات التهديد المستمر المتقدم» (APT)، أبرزها APT33 وAPT34 وAPT42، وهي فرق تابعة أو على صلة بالحرس الثوري الإيراني. لكن ما يميز الإستراتيجية الإيرانية في هذا المجال، إلى جانب القدرات التقنية، هو توظيف البعد السيبراني لأغراض نفسية وسياسية، من خلال حملات تضليل تستهدف زعزعة ثقة الإسرائيليين بحكومتهم، ونشر الذعر والتشويش في أوقات الأزمات. فقد تم رصد رسائل زائفة تفيد بنقص في الوقود، أو تحذيرات وهمية من هجمات وشيكة، مصممة لتبدو صادرة عن جهات رسمية. هذه الحملات، وإن بدت بسيطة، إلا أن آثارها النفسية والاجتماعية تتجاوز أحيانًا الخسائر المادية المباشرة. وتكشف متابعة تطور القدرات الإيرانية في المجال السيبراني عن مسار تصاعدي واضح. فبعد أن كانت الهجمات الإيرانية تقتصر على تشويش دعائي وهجمات بدائية على المواقع الإلكترونية، باتت اليوم تتسم بالدقة والسرية، باستخدام أدوات تحكم عن بُعد ووسائل تجسس متقدمة يصعب كشفها، مع استهداف ممنهج للقيادات السياسية والعسكرية والصحفيين والأكاديميين، داخل إسرائيل وخارجها. وقد كانت طهران قد أعلنت، قبيل التصعيد الأخير، امتلاكها لوثائق سرية تتعلق بالمنشآت النووية الإسرائيلية، مدعية أنها حصلت عليها إثر اختراق سيبراني استهدف مركز سوريك للأبحاث النووية. وقد عدّ خبراء الأمن في تل أبيب هذه الخطوة مؤشرًا على تطور مقلق في قدرات الفرق السيبرانية الإيرانية. ورغم التشابه الظاهري في الأهداف، إلا أن ثمة اختلافًا جوهريًا في العقيدة السيبرانية للطرفين. فإسرائيل تعتمد على وحدات رسمية تتبع الجيش أو الموساد، تُنفذ عمليات دقيقة ومحدودة، لكنها عالية التأثير وموجهة لأهداف إستراتيجية. أما إيران فتستند إلى نهج لا مركزي، يُتيح لها استخدام مجموعات مختلفة بعضها يرتبط مباشرة بالحرس الثوري، وبعضها الآخر يعمل بصورة غير رسمية، مما يمنح طهران هامشًا واسعًا للإنكار والمناورة، ويجعل تتبعها أكثر صعوبة. ويُضاف إلى هذا المشهد عنصر آخر يزيده تعقيدًا: تداخل مجموعات سيبرانية مؤيدة لإيران أو لفصائل المقاومة الفلسطينية أو من مناطق أخرى مثل روسيا وجنوب آسيا، تنشط تحت مسمى «منظومة مقاومة رقمية»، وتعمل بهويات متعددة يصعب حصرها أو تصنيفها بدقة. هذه البيئة «الضبابية» تجعل من الحرب السيبرانية ساحة مفتوحة بلا حدود جغرافية، ولا قواعد اشتباك واضحة. الحرب الصامتة الدائرة اليوم بين إيران وإسرائيل ليست مجرد منافسة رقمية، بل هي صراع شامل متعدد الأبعاد، يُعيد رسم خرائط الردع، ويكشف عن هشاشة البنى التحتية الحديثة أمام أدوات غير تقليدية. إنها حرب تُدار في الخفاء وتحت أجنحة الظلام، لكن نتائجها ملموسة: في الاقتصاد، وفي السياسة، وفي وعي الشعوب. ومع غياب أفق للحل أو التهدئة، فإن هذا الصراع المفتوح مرشح لأن يكون أحد أطول وأعقد المواجهات في الشرق الأوسط خلال العقود القادمة، خصوصًا إذا ما اتسعت رقعته، أو قررت أطراف أخرى دخول ساحة الحرب الرقمية.

543

| 01 يوليو 2025

كود الردع: الصراع السيبراني بين إيران وإسرائيل

شهدت الساحة السيبرانية في يونيو 2025 تصعيدًا حادًا بين إيران وإسرائيل، عكس تحولًا جديدًا في طبيعة الاشتباك غير المعلن بين الطرفين. فقد تعرضت هواتف إسرائيلية لاختراق واسع النطاق، فيما اختُرِق البث التلفزيوني الرسمي الإيراني، تلاه إنذار عاجل بإخلاء مقري قناتي 12 و14 الإسرائيليتين. وفي هجوم آخر، شلّت عملية سيبرانية بنك «سبه» الحكومي في طهران، أعلنت مجموعة تُدعى «العصفور المفترس» مسؤوليتها عنها، مؤكدةً «تدمير كافة بيانات البنك». لا يمكن قراءة هذه الحوادث بمعزل عن السياق الأوسع لصراع طويل الأمد يتجاوز الحدود الجغرافية ويُخاض عبر كودات وشبكات خفية. هذا الصراع، الذي يُعد نموذجًا أوليًا لحروب القرن الحادي والعشرين، يختزل في جوهره ما يمكن تسميته بـ»كود الردع». يشهد الصراع السيبراني بين إسرائيل وإيران تطورًا متسارعًا يعكس تحوّلًا عميقًا في شكل النزاعات الحديثة، حيث بات الفضاء السيبراني لا مجرد ساحة خلفية للمواجهة، بل ميدانًا رئيسيًا يؤثر في ميزان القوى ويعيد تعريف مفاهيم الردع والسيادة. لم يعد اختراق البنية التحتية أو تعطيل شبكة كهرباء أو تسريب بيانات مجرد حوادث منفصلة، بل تحوّلت إلى أدوات استراتيجية تُستخدم بوعي بالغ لإعادة تشكيل قواعد الاشتباك الإقليمي، من دون اللجوء إلى الحرب التقليدية. يعتمد النموذج الإيراني في هذا الصراع على بنية مرنة ومتشعبة، تستند إلى ما يمكن وصفه بـ”اللامركزية المنظمة”، حيث تتداخل الأذرع الرسمية مع الجهات غير الرسمية في شبكة عمل منسقة تُخفي آثارها ضمن الضجيج الرقمي العالمي. الفرق الحكومية، مثل APT34 وAPT39، تؤدي أدوارًا استخباراتية طويلة المدى، تستهدف البنية المعلوماتية للخصوم، وتعمل على بناء قواعد بيانات متقدمة حول الأهداف الاستراتيجية. في الوقت ذاته، تنشط مجموعات غير رسمية ذات طابع أيديولوجي أو قومي، مثل “حنظلة” و”الشبح العربي” و”عصا موسى”، في تنفيذ عمليات اختراق علنية تتسم بالجرأة والوضوح الإعلامي. هذه المجموعات لا تحرص على الإخفاء بقدر ما تسعى إلى إرسال رسائل مباشرة، سواء عبر تلغرام أو عبر تسريبات على مواقع مفتوحة، مما يضيف بُعدًا نفسيًا للهجمات، ويخلق حالة من القلق العام داخل الدولة المستهدفة. طبيعة هذه الجماعات تُتيح لإيران هامش مناورة كبيرًا؛ فهي تنفي رسميًا علاقتها بها، لكنها في الواقع تستفيد منها سياسياً وأمنيًا، وتوظفها في حروب رمادية يصعب تتبع مصدرها بدقة. هذا النمط من الهجمات يجعل من الصعب تحميل المسؤولية لأي جهة محددة، ويفتح المجال أمام ما يشبه “الاشتباك المستدام” دون عتبة صريحة للحرب. على الجانب الآخر، تتبنى إسرائيل نهجًا شديد المركزية والانضباط، يعتمد على بنى أمنية عالية التنظيم والتقنية، تتصدرها “الوحدة 8200”، المعروفة بكونها واحدة من أرفع وحدات الاستخبارات السيبرانية عالميًا. العمليات الإسرائيلية غالبًا ما تُنفَّذ في صمت، وتُصمم لتكون دقيقة وفعّالة، وتُدار وفق أهداف استراتيجية بعيدة المدى، ليس فقط لإحباط مخططات آنية، بل لتقويض القدرة المستقبلية للخصم على العمل. الهجمات المنسوبة إلى إسرائيل عادة ما تتسم بالطابع النوعي، مثل اختراق أنظمة التحكم الصناعية، أو تعطيل الشبكات النووية، أو ضرب مراكز اتصالات حرجة في عمق الأراضي الإيرانية. تبرز “دودة ستوكسنت” بوصفها العلامة الفارقة في هذا المسار؛ فهي لم تكن مجرّد هجوم سيبراني، بل سابقة نوعية غيّرت وجه الحروب الرقمية. القدرة على إلحاق ضرر مادي ببنية نووية من خلال كود رقمي وحده، دون أي تدخل ميداني، أعادت تعريف معنى السلاح، وكسرت المعادلة التقليدية التي تربط الأثر العسكري بالقوة النارية. لقد فتحت “ستوكسنت” الباب أمام عصر جديد، يمكن فيه لدولة أن تعطل مشروعًا استراتيجيًا معاديًا وهي لا تزال خارج دائرة الاتهام الرسمي، بل وقد تظل غير مرئية بالكامل. بعد تصاعد التوتر في مناسبات متتالية، خاصة بعد عملية “الأسد الصاعد”، أصبح الصراع السيبراني أكثر جرأة واستهدافًا للبنية الداخلية للدولة. محاولات تعطيل نظام “تسوفار”، المعني بإنذار السكان في حالات الطوارئ، وكذلك استهداف البنية الإعلامية وشركات الطاقة، تشير إلى تحول نوعي في تفكير الفاعلين السيبرانيين: لم يعد الهدف فقط تجميع المعلومات أو استنزاف موارد الخصم، بل التأثير في القدرة على إدارة الدولة ذاتها في لحظات الأزمات، بما يعني أن السيبرانية أصبحت أداة لـ”تعطيل الدولة” وليس فقط إرباكها. وعلى خط موازٍ، أصبحت الحرب السيبرانية أيضًا قناة لحرب نفسية مديدة. تقوم إيران، وفق نمط متكرر، باختراق قواعد بيانات وشركات إسرائيلية، ثم تسريبها مع تعليقات دعائية تهدف إلى زعزعة ثقة الجمهور بقيادته، وإظهار هشاشة منظومته الأمنية. تستخدم في ذلك أدوات متطورة: روبوتات اجتماعية، وحملات مدفوعة بالذكاء الاصطناعي، ونشر منظم للروايات المضللة. هدفها ليس فقط التأثير الآني، بل نحت صورة نفسية طويلة الأمد مفادها أن الخصم مخترَق وضعيف، حتى وإن لم تسقط عليه قذيفة واحدة. تشهد الساحة السيبرانية حالياً سباقاً محموماً نحو تطوير «أسلحة سيبرانية جيل رابع» تعتمد على الذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي، مما يضيف طبقات جديدة من التعقيد لمعادلة الردع. كما برزت ظاهرة «الوكلاء السيبرانيين» كعنصر محوري في استراتيجية التصعيد المحدود، حيث تتيح للدول تنفيذ عمليات معقدة مع الحفاظ على قابلية الإنكار. الإشكال الأكبر الذي يُضفي على هذا الصراع بعدًا غير تقليدي، هو غياب أية قواعد دولية ناظمة. لا توجد اتفاقيات تحدد ما يشكّل “عدوانًا سيبرانيًا”، ولا آليات محاسبة فعالة، ولا خطوط حمراء مُعترف بها عالميًا. وهذا ما يجعل من الفضاء السيبراني منطقة شبه خارجة عن القانون، تُمارس فيها الدول ما تشاء، طالما لا تُمسك متلبسة. هذا الغموض القانوني يوفر غطاءً مثاليًا لكل من يريد أن يضرب خصمه دون أن يتحمل كلفة سياسية مباشرة، ويُغري بالمزيد من التصعيد التدريجي الذي يراكم التوتر دون أن يفضي بالضرورة إلى الحرب، لكنه في الوقت ذاته يقربها باستمرار. البعد السيبراني بات يضاف إلى عنصر مركزي في معادلة الردع، يكمّل القوة العسكرية، ويتجاوزها في بعض الحالات. فبينما تحتاج الصواريخ والطائرات إلى إذن سياسي وكلفة دبلوماسية، فإن الهجمات السيبرانية يمكن أن تُنفَّذ دون ضجيج، وتُحدث أثرًا بالغًا دون الحاجة إلى إعلان حالة حرب. وقد بات واضحًا أن كل طرف من الطرفين، إيران وإسرائيل، يعمل بوتيرة متسارعة على تعزيز ترسانته السيبرانية الهجومية والدفاعية، باعتبار أن الجولة القادمة من الصراع قد لا تُحسم في الجو أو البحر، بل في أعماق الكود، ومن خلال شبكات لا تُرى، لكنها تصوغ ملامح الأمن الإقليمي بعمق لا يقل عن أي معركة في الميدان. ختاماً، يشكل الصراع السيبراني بين إيران وإسرائيل نموذجاً أولياً لشكل جديد من أشكال التنافس الجيوسياسي، حيث تتحول الأصفار ولآحاد إلى عملة جديدة للقوة والنفوذ. هذا التحول لا يعيد تعريف أدوات الردع فحسب، بل يطرح إشكاليات عميقة حول طبيعة الأمن القومي في القرن الحادي والعشرين. ويعكس في الوقت ذاته نموذجاً جديداً للصراع يتسم باللامركزية والغموض وعدم التماثل، يجسد ما يمكن تسميته «كود الردع» في العلاقات الدولية المعاصرة.

471

| 22 يونيو 2025

براءات الذكاء الاصطناعي.. الصين تقود والعرب يتأملون

يشهد عصرنا الحالي تحولاً جوهرياً في خريطة الابتكار العالمي، حيث أصبح الذكاء الاصطناعي محوراً أساسياً للتنافس التكنولوجي بين الدول. وتُظهر إحصائيات المنظمة العالمية للملكية الفكرية (WIPO) تفاوتاً صارخاً في هذا المجال، تتصدره الصين بلا منازع بينما يكاد يكون الحضور العربي شبه معدوم. فبين عامي 2014 و2023، نجحت الصين في حصد 38 ألف براءة اختراع في هذا الحقل المتقدم، متقدمةً على الولايات المتحدة بفارق هائل يعكس عمق الاستراتيجية الصينية وضخامة الاستثمارات الموجهة لهذا القطاع الحيوي. الهيمنة الصينية لم تكن وليدة الصدفة، بل ثمرة رؤية استباقية جعلت من الذكاء الاصطناعي أولوية وطنية، مدعومة بتمويل ضخم وتخطيط طويل الأمد. في المقابل، يكشف غياب أي دولة عربية عن قائمة الدول الرائدة عن أزمة هيكلية في منظومة الابتكار العربية، تتراوح بين ضعف الاستثمار في البحث العلمي وغياب الرؤية الاستراتيجية الموحدة لهذا القطاع الذي يُعد عصب الاقتصادات المستقبلية. في الجانب الآخر من المعادلة، نجد العالم العربي الذي يبدو غائباً تماماً عن هذا السباق المحموم. فبينما تشق دول مثل الهند وكوريا الجنوبية طريقهما بقوة في مجال الابتكار التكنولوجي، تتراجع الدول العربية إلى موقع المتلقي السلبي للتكنولوجيا. هذه الهوة الكبيرة ليست مجرد تأخر تقني عابر، بل تعكس أزمة هيكلية عميقة في منظومة البحث العلمي والابتكار في العالم العربي؛ فمعدلات الإنفاق على البحث والتطوير لا تتجاوز 0.3% من الناتج المحلي في أفضل الأحوال، وهي نسبة ضئيلة مقارنة بما تنفقه الدول الرائدة. كما أن ظاهرة هجرة العقول العربية المتميزة إلى مراكز البحث العالمية تزيد من تعميق هذه الفجوة، حيث يفقد العالم العربي سنوياً عشرات الآلاف من الكفاءات العلمية التي كان يمكن أن تشكل نواة لنهضة تكنولوجية حقيقية. ينذر الوضع الحالي بمخاطر جسيمة تتجاوز الجانب التقني لتمس الأبعاد الاستراتيجية للأمن القومي العربي. ففي عالم أصبحت فيه البيانات هي النفط الجديد، والذكاء الاصطناعي هو أداة الهيمنة الجديدة، فإن الاعتماد الكامل على حلول وتقنيات أجنبية يعني في الواقع تفويض السيادة الرقمية للآخرين. وتظهر هذه الحقيقة جلياً في القطاعات الحيوية مثل الصحة والتعليم والخدمات المالية، حيث تعتمد معظم الدول العربية على أنظمة مستوردة، دون وجود قدرة محلية على تطوير بدائل وطنية أو حتى تعديل هذه الأنظمة بما يتناسب مع الخصوصيات المحلية. لكن رغم قتامة الصورة، فإن الفرص المتاحة للعالم العربي لا تزال قائمة. فالدول العربية تمتلك مقومات مهمة يمكن البناء عليها، بدءاً من الكفاءات البشرية التي أثبتت جدارتها عندما توفرت لها البيئة المناسبة، ومروراً بـ الموارد المالية الكافية التي يمكن توجيهها نحو الاستثمار في التقنية، ووصولاً إلى سوق عربية موحدة تشكل حافزاً جاذباً للاستثمارات التكنولوجية. في السنوات الأخيرة، بدأت بوادر تحول استراتيجي في التعامل مع تحديات الذكاء الاصطناعي تظهر في بعض الدول العربية، وخاصة الخليجية منها. فالمملكة العربية السعودية أطلقت استراتيجيتها الوطنية للبيانات والذكاء الاصطناعي التي تهدف إلى بناء اقتصاد رقمي قائم على المعرفة، بينما تسعى الإمارات العربية المتحدة لأن تتحول إلى مركز عالمي رائد في هذا المجال بحلول 2031 من خلال استثمارات ضخمة في البنية التحتية الرقمية وتشجيع الابتكار. أما قطر فقد ركزت على تطوير قدرات بحثية متقدمة في الذكاء الاصطناعي من خلال مؤسسات مثل المؤسسة القطرية لدعم الابتكار والبحث العلمي ومركز قطر للابتكارات التكنولوجية وتقدم استراتيجية قطر للبحوث والتطوير والابتكار 2030 رؤية جريئة وطموحة تعمل على إحداث تغيير شامل في منظومة البحث والتطوير والابتكار وغيرها.. هذه المبادرات الطموحة تعكس إدراكاً متزايداً لأهمية الذكاء الاصطناعي في تشكيل المستقبل وصحيح أن هذه البدايات تمثل خطوة إيجابية في مسار التحول الرقمي العربي، إلا أنها تظل غير كافية لسد الفجوة التكنولوجية مع الدول الرائدة. فالتجارب الدولية الناجحة تثبت أن التقدم في مجال بهذه التعقيدات والاستثمارات الضخمة يتطلب تعاوناً إقليمياً وتكاملاً في الموارد والجهود. ولعل أهم ما يعيق هذه المساعي هو غياب الإطار المؤسسي العربي الفعال الذي يمكنه تحويل هذه الجهود الوطنية المبعثرة إلى مشروع تقني عربي مشترك. المطلوب اليوم هو نهج عربي متكامل يبدأ بإصلاح جذري لمنظومة التعليم والبحث العلمي، ويركز على بناء شراكات حقيقية بين القطاعين العام والخاص، مع العمل على استقطاب الكفاءات العربية المهاجرة وتوفير البيئة المحفزة لها. كما أن التعاون العربي المشترك في هذا المجال يمكن أن يشكل قوة دفع كبيرة، من خلال إنشاء مراكز بحثية عربية مشتركة، وتبادل الخبرات، وتوحيد الجهود، وبناء منصات مفتوحة المصدر تُعزز الاستقلالية الرقمية العربية. تُعلّمنا التجربة الصينية أن النجاح في مجال الذكاء الاصطناعي لا يتطلّب قرنًا كاملًا من التراكمات التكنولوجية، بل إرادة سياسية حقيقية واستثمارًا استراتيجيًا ذكيًا وموجّهًا. لقد استطاعت الصين، في فترة زمنية قصيرة نسبيًا، أن تنتقل من موقع المتلقّي للتكنولوجيا إلى موقع المنافس، بل والمبادر في مجالات حسّاسة كبراءات الاختراع المرتبطة بالذكاء الاصطناعي التوليدي (وهذا الأخير هو فرع من الذكاء الاصطناعي يُركّز على إنتاج محتوى جديد وابتكاري مثل النصوص أو الصور أو الأصوات، اعتمادًا على بيانات سابقة وأنماط تعلمها). إنّ هذه التجربة تطرح تساؤلات جوهرية أمام الدول النامية والعربية خصوصًا: هل يمكن تجاوز الفجوة الرقمية من خلال تبنّي سياسات وطنية جريئة؟ وهل يمكن استثمار الذكاء الاصطناعي لا فقط كأداة تقنية، بل كرافعة سيادية تُعزّز من الاستقلال العلمي والتكنولوجي؟ الواقع الصيني يُشير إلى أن الإجابة ممكنة، وأن التحوّل الرقمي ليس حكرًا على من بدأوا السباق أولاً، بل على من يُحسنون قراءته واتخاذ القرارات في لحظته المناسبة...فهل نحن فاعلون؟

336

| 18 يونيو 2025

وعيٌ في زمن الآلة.. بين متاهات الإدراك وهندسة العقل

في عالمٍ يُبَجَّل فيه «الذكاء الاصطناعي» و»التحول الرقمي» كعلاماتٍ على التقدّم، يبدو الإنسان أكثر حريةً من أي وقتٍ مضى في اختياراته. لكن الواقع يُخفي شيئًا آخر: نحن نعيش داخل منظومةٍ رقميةٍ معقّدة تُعيد تشكيل وعينا دون أن ندري. فلم يعد السؤال اليوم: «هل هناك من يتحكم بعقولنا؟» بل تحوّل إلى: «إلى أي حدٍّ نستطيع مقاومة هذا التحكم؟» صارت التكنولوجيا واجهةً للوجود المعاصر، لكنها تحمل في طيّاتها آلياتٍ خفيّة للسيطرة، تبدأ من الإعلام الموجَّه، وتمرّ عبر الخوارزميات الذكية، وتنتهي بالتلاعب العاطفي عبر منصات التواصل. يشعر الإنسان أحيانًا وكأنه يعيش داخل لعبةٍ هائلة، تُعاد كتابة قواعدها باستمرار، وتُوجَّه مساراته دون أن يدرك. في هذه اللعبة، ليست كل «الحقائق» حقيقية، وليس كل ما نسمعه صادقًا. فـ”الواقع” نفسه يُصنع رقميًّا عبر آليات السيطرة الرمزية التي يتقنها الإعلام المعاصر. وبينما يظن الفرد أنه يختار بحرية، يكون قد تمّ اختياره مسبقًا عبر تحليلات البيانات، والاستهداف السلوكي، والتلاعب النفسي. المتاهة الرقمية: حين يصبح الواقع لعبةً لا نعرف قواعدها يشعر المرء أحيانًا بأنه يدور في متاهةٍ لا نهاية لها: كلما ظنّ أنه فهم اللعبة، اكتشف أن القواعد قد تغيّرت. هذه التجربة ليست مجرد “نظرية مؤامرة”، بل هي نتاج بنية الإعلام الرقمي الحديث، الذي يجمع بين الترفيه، الهيمنة، وتشكيل الرأي العام في آنٍ واحد. وإذا كان التضليل الإعلامي قديمًا يعتمد على الأخبار المزيفة أو الخطاب التحريضي، فإنه اليوم أصبح أكثر دقةً وتخفيًا بفضل الذكاء الاصطناعي. فالخوارزميات لا تقدم لك ما «تريده» فحسب، بل تُحدّد لك ما «يجب أن تريده»، وتصنع واقعًا بديلًا يتشكّل وفق بياناتك، وميولك، وتاريخك الرقمي. إنها حربٌ ناعمة لا تُستخدم فيها الرصاصات، بل “الأسلحة الصامتة” كما وصفها المفكر نعوم تشومسكي. أسلحة الصمت: كيف يُهندس الإعلام وعي الجماهير؟ في وثيقةٍ غامضة تعود إلى الثمانينيات بعنوان “الأسلحة الصامتة لحرب هادئة”، كشف تشومسكي عن إستراتيجيات الإعلام في التحكم بالمجتمعات عبر أدواتٍ تبدو بريئة، لكنها تحمل أجنداتٍ خفيّة. ومن أبرز هذه الإستراتيجيات: 1. خلق الأزمات وفرض الحلول الجاهزة: تُصَنَّع الأزمات (اقتصادية، سياسية، صحية) لتمرير حلولٍ مسبقة التخطيط. 2. التدرّج في فرض التغييرات: تُنفّذ السياسات الاستبدادية على مراحل كي لا يشعر الناس بحدّتها. 3. تبسيط الخطاب لتمرير الأجندات: يُخاطب العامة كالأطفال لضمان استيعاب الرسائل دون تمحيص. 4. إستراتيجية الإلهاء: تُغرَق الجماهير في قضايا هامشية (فضائح، رياضة، مسلسلات) لصرف انتباههم عن القرارات المصيرية. وفي العصر الرقمي، لم تعد هذه الإستراتيجيات حكرًا على الإعلام التقليدي، بل تم تطويرها بآلياتٍ أكثر تعقيدًا: • الذكاء الاصطناعي يوجّه المحتوى حسب سلوك المستخدم لتعزيز الانحياز الفكري. • الترندات المصطنعة تُضخَّم وفق أجندات سياسية أو تجارية. • الفقاعات المعلوماتية تُغلق المستخدم في عالمٍ من الأفكار المتشابهة، مما يقتل التعددية الفكرية. لم يعد الإعلام مجرد ناقلٍ للأخبار، بل تحوّل إلى مصنعٍ للواقع، يُنتج “الحقائق” ويُشكّل الوعي الجمعي. فتحت شعار “الحرية الرقمية”، نجد أشكالًا جديدة من الرقابة الذكية: • لا أحد يمنعك من الكلام، لكن الخوارزميات تمنع صوتك من الوصول. • لا توجد رقابة صارخة، لكن هناك تضخيمًا للضوضاء لإغراق أي صوتٍ مخالف. • تُقدَّم لك “حرية الاختيار”، لكن ضمن خياراتٍ مُعدّة مسبقًا. كما قال تشومسكي: “السيطرة الحقيقية لا تُمارَس بالقوة، بل بالإقناع الخفي”. الخلاصة: لسنا ضد التكنولوجيا، ولا ضد الإعلام، لكن من الضروري إعادة النظر في علاقتنا بهما. فكلما تطوّرت أدوات التحكم، زادت الحاجة إلى اليقظة النقدية. وكلما ادّعى العالم أنه أصبح أكثر “ذكاءً”، ازدادت ضرورة التمسّك بغريزة الشكّ التي تميّز بين الحقيقة والزيف، وبين الاختيار الحرّ والخداع المُمنهج. فالسؤال اليوم لم يعد: كيف نوقف التكنولوجيا؟ بل: كيف نمنعها من استخدامنا دون أن نشعر؟

315

| 02 يونيو 2025

العمق الذي يتحكم في السطح.. كيف تعيد الكابلات البحرية تشكيل النظام العالمي؟

العالم اليوم يعتمد بشكل متزايد على الاتصال الرقمي، وتقف خلف هذا الاعتماد بنية تحتية حيوية لكنها غير مرئية تدير الإنترنت العالمي وتؤمّن تدفق البيانات والمعاملات المالية على نحو مذهل. تتمثل هذه البنية في كابلات الألياف الضوئية البحرية، التي تنقل أكثر من 95 % من حركة البيانات الدولية، وتدعم معاملات مالية تُقدَّر بحوالي 10 تريليونات دولار يوميًا. ورغم هذا الدور الجوهري، تبقى هذه الشبكة الدقيقة والهائلة في طيّ النسيان، مهملة من حيث الحماية، رغم أنها تمثل العصب الفعلي للاقتصاد الرقمي العالمي. تمتد هذه الكابلات، التي لا يتجاوز قُطرها بوصتين، لمسافات تتجاوز 1.2 مليون كيلومتر عبر المحيطات، وتتكون من ألياف ضوئية رفيعة محاطة بطبقات من النحاس والبلاستيك والفولاذ، لحمايتها من الضغوط الهائلة والتيارات المائية. وبفضل هذا التصميم، تستطيع الكابلات البحرية نقل بيانات بسرعة تصل إلى التيرابايت في الثانية، ما يجعلها الخيار المثالي لتطبيقات تتطلب زمن انتقال منخفضا مثل الخدمات السحابية، البث الحي، والتعاملات المالية، وهي بذلك تتفوق بشكل واضح على الأقمار الصناعية التي تبقى سرعتها محدودة وزمن تأخيرها أكبر. رغم التصور الشائع، فإن الاعتماد على الأقمار الصناعية في نقل البيانات الدولية لا يتجاوز بضع نسب مئوية، لأن الكابلات البحرية أكثر كفاءة وأقل تكلفة وأسرع استجابة. ويتم تثبيت هذه الكابلات عبر سفن متخصصة تُطلقها في أعماق المحيطات وفق مسارات مدروسة بعناية لتجنب مناطق الزلازل والتيارات القوية والانهيارات الأرضية. لكن المفارقة أن أكثر من 70 % من الأعطال التي تصيب هذه الكابلات سببها أنشطة بشرية مثل الصيد الجائر أو إلقاء المراسي البحرية، وليس الكوارث الطبيعية أو هجمات الحيوانات البحرية كما يُشاع. ورغم الطبيعة التقنية لهذا القطاع، فإن الجانب السياسي والأمني فيه حاضر بقوة. فالكابلات البحرية تمثل أصلًا إستراتيجيًا تمسّ الحاجة إلى حمايته في زمن التوترات الجيوسياسية. فعلى سبيل المثال، أنشأت أستراليا مناطق بحرية محمية حول مسارات الكابلات لمنع إلحاق الضرر بها، في حين تعتمد القوات المسلحة الأمريكية عليها بشكل مباشر لنقل بيانات استخباراتية بين قواعدها ومراكز القيادة. أي انقطاع في هذه الكابلات يمكن أن يؤدي إلى شلل في الخدمات، وتأخير في العمليات العسكرية، وانهيار في الأسواق المالية، ولو لساعات. تاريخيًا، لم تكن هذه الكابلات بمعزل عن الحروب، ففي عام 1959، قطعت خمسة كابلات أمريكية تحت المحيط الأطلسي في ظروف غامضة، واتهمت واشنطن آنذاك السفن السوفيتية بالقيام بعملية تخريبية متعمدة. وفي العصر الحديث، كشفت تسريبات إدوارد سنودن عن قدرة وكالة الأمن القومي الأمريكية على التنصت على البيانات العابرة من خلال نقاط التقاطع في الكابلات، وهو ما دفع بعض الدول مثل البرازيل إلى إنشاء كابلات جديدة تتفادى المرور عبر الولايات المتحدة. وفي السنوات الأخيرة، تصاعدت المخاوف من الهجمات المقصودة. ففي عام 2023 و2024، تضررت كابلات بحرية في بحر البلطيق والبحر الأحمر تحت ظروف اعتُبرت مشبوهة، ما أعاد طرح سؤال الأمن البحري في سياق الجغرافيا السياسية. هذه الحوادث، التي يبدو بعضها جزءًا من صراعات خفية، أكدت هشاشة هذه البنية الأساسية رغم قوتها التقنية. ولمواجهة هذه التحديات، لجأت شركات مثل غوغل وميتا إلى بناء كابلات خاصة بها، مثل الكابل البحري «Dunant» الذي يعبر الأطلسي وينقل 250 تيرابايت في الثانية، وهو ما يشير إلى سباق صامت بين القوى التكنولوجية العالمية لامتلاك شبكاتهم الخاصة والمحمية. ولا تقتصر أهمية هذه الكابلات على الدول المتقدمة فقط، بل تمتد إلى الدول ذات المواقع الجغرافية الحساسة. فمصر، على سبيل المثال، تمر بها أكثر من 16 كابلًا بحريًا رئيسيًا تربط بين آسيا وأوروبا، مما يمنحها موقعًا إستراتيجيًا عالي الأهمية في خريطة الاتصالات العالمية. ومع ذلك، فإن هذه الأهمية لا ترافقها دائمًا سياسات حماية أو استثمار تتناسب مع حجم الأصول «الجيوسيبرانية» التي تمتلكها. تبقى كابلات الإنترنت البحرية بمثابة شبكة الحياة الرقمية للعالم الحديث. فهي تحمل الاقتصاد العالمي، وتغذي المعاملات والمعلومات لحظة بلحظة، لكنها في الوقت نفسه تفتقر إلى الحماية الكافية، وتُدار غالبًا من قبل شركات خاصة، في غياب إطار دولي ملزم. وإذا ما استمر هذا الوضع، فإن السؤال لم يعد هل ستُستهدف هذه الكابلات، بل متى، وكيف سيؤثر ذلك على عالم يعتمد أكثر من أي وقت مضى على تدفق غير منقطع للبيانات. على ضوء ما تقدم وفي ظل تسارع التنافس الجيوسياسي والتقدم التكنولوجي، تبرز الكابلات البحرية ليس فقط كبنية تحتية رقمية، بل كأصل إستراتيجي ذي حساسية فائقة. ومع أن الاعتماد عليها سيستمر لعقود قادمة، فإن مستقبلها لن يُحدد فقط بتطور السرعات أو تحسين الطبقات العازلة، بل بمدى قدرة الدول والمنظمات الدولية على صياغة منظومات حوكمة وتأمين جماعية. فالعالم مقبل على مرحلة تصبح فيها السيطرة على البيانات، لا على الأرض، هي جوهر القوة. وفي هذا السياق، قد تتحول أعماق المحيطات إلى ساحة صراع جديدة، صامتة ولكنها شديدة التأثير. فالكابلات البحرية ليست مجرّد أنابيب بيانات، بل شرايين عالم معولم يُعاد تشكيله، حرفيًا، من تحت سطح البحر. عربيًا ما زال الحضور في مشهد حوكمة هذه البنية التحتية هامشيًا، إن لم يكن غائبًا تمامًا. فلا توجد إستراتيجية عربية موحدة لحماية هذه الكابلات، ولا رؤية واضحة للاستثمار فيها أو للمشاركة في تطوير معايير أمنها وتشغيلها. في عالم تُدار فيه القوة من خلال السيطرة على تدفق البيانات، فإن تجاهل العمق الإستراتيجي للكابلات البحرية يُعد نوعًا من القصور الإستراتيجي. فهل سيبقى العرب مجرد ممر عبور للكابلات، أم أن هناك من سيلتفت لهذا المشهد ويصبح طرفًا فاعلًا في رسم خريطة الأمن الرقمي العالمي!

429

| 19 مايو 2025

ما بعد الجسد.. هل يمكن للوعي أن ينجو رقمياً؟

لم يعد التفكير في «تحميل الوعي» أو «العيش الرقمي» حكرًا على الخيال العلمي، بل أصبح موضوعًا يحظى باهتمام متزايد في الأوساط الأكاديمية والتقنية. فمع التقدم الهائل في علوم الأعصاب الحاسوبية، وواجهات الدماغ-الحاسوب، والذكاء الاصطناعي، باتت الفكرة تُناقش بوصفها أحد المسارات الممكنة لتطور العلاقة بين الإنسان والتكنولوجيا. تتعمق اليوم فرضية أن العقل البشري ليس سوى شبكة من الأنماط العصبية القابلة للتحليل والمحاكاة، وأن الإدراك والذاكرة والشعور بالذات يمكن – نظريًا – إعادة إنتاجها رقمياً داخل بيئات اصطناعية. في هذا الأفق، تلوح إمكانيات غير مسبوقة: أن تنتقل الحياة من الجسد إلى السحابة، وأن يعيش الإنسان، بشكل أو بآخر، بعد الموت البيولوجي في عالم رقمي محوسب. بعيدًا عن أطروحات نظرية المحاكاة، يكتسب هذا التوجه العلمي زخمًا متزايدًا، مدفوعًا بتقدم تكنولوجيا واجهات الدماغ-الحاسوب التي تسمح بقراءة الإشارات العصبية وربما إعادة إنتاجها. في مختبرات مثل «مختبر التجسيد الافتراضي» بجامعة «ساسكس»، يعمل الباحثون على بناء بيئات غامرة تُحاكي التجربة الإدراكية البشرية بكل تعقيدها، محاولة محاكاة الشعور بالهوية الذاتية والذاكرة والانفعالات داخل فضاء رقمي. وفي مراكز مرموقة مثل مركز العقول والعقول والآلات التابع لمعهد MIT، تتواصل الجهود لفهم البنية العصبية للذكاء البشري تمهيدًا لمحاكاتها خوارزميًا، الأمر الذي يغذي طموحات «العيش الرقمي» بوصفه مشروعًا علميًا قيد التشكّل. ورغم أن هذه التصورات لا تزال بعيدة عن التطبيق الكامل، فإنها تفرض تحديات فلسفية وأخلاقية عميقة حول معنى الوعي وحدوده، وحول ما إذا كان بالإمكان فعلاً نقله من بيئة عضوية إلى أخرى رقمية. هل الوعي مجرد نشاط كهربائي يمكن ترميزه؟ أم أنه يتجاوز حدود ما يمكن للآلة إدراكه؟ ماذا يحدث للروح، للنية، للشعور بالزمن والانتماء؟ في قلب هذه الأسئلة يتداخل البعد العلمي بالميتافيزيقي، ويُطرح التوتر بين محاكاة التجربة الإنسانية من جهة، وتجسيدها الحقيقي من جهة أخرى. تظهر في هذا السياق نماذج تخيّلية مثل «دماغ ماتريوشكا» – بنية افتراضية تعتمد على طاقة نجمية هائلة لإدارة حضارات رقمية بالكامل داخل طبقات حوسبة متراكبة – لتجسّد أقصى ما يمكن أن تبلغه هذه التصورات من طموح: أن تصبح الحياة ذاتها مشروطة بالبقاء في الذاكرة الرقمية، لا في الجسد، وأن تصبح «الهوية» شيئًا قابلاً للنسخ والتعديل والحفظ. ولكن هذه الرؤى – رغم إبهارها – تثير أيضاً قلقاً وجودياً مشروعاً: هل يكفي أن تُحاكى الذاكرة والسلوك لكي نقول إننا ما زلنا أحياء؟ أم أن الإنسان يتجاوز مجرد أنماط يمكن تمثيلها رقمياً؟ هنا تبرز الرؤية الدينية كخطاب موازٍ يرفض اختزال الإنسان في بيانات قابلة للترميز. في التصور الديني، لا يُختزل الوعي في تفاعلات عصبية ولا في رموز خوارزمية، بل هو متصل بنفخة إلهية، وبمصير يتجاوز الحياة المادية. الموت ليس مجرد توقف للوظائف البيولوجية، بل انتقال إلى طور آخر من الوجود لا يمكن للتكنولوجيا إدراكه أو تمثيله. وعليه، فإن كل محاولات «تحميل الوعي» تبقى، في أفضل الأحوال، محاولات لمحاكاة القشرة الظاهرة من التجربة الإنسانية، دون النفاذ إلى جوهرها الروحي. ورغم كل التقدم في أدوات المحاكاة، تظل هناك فجوة لا يمكن ردمها بسهولة بين ما يمكن للآلة أن تحققه، وما يجعل الإنسان إنسانًا حقًا: الشعور بالمعنى، القدرة على التأمل، الإيمان، الحيرة، التوق إلى الخلود بمعناه الأخلاقي والروحي، لا الرقمي فقط. صحيح أن الخوارزميات قد تتمكن من إعادة إنتاج السلوك البشري، وربما المشاعر المصطنعة، لكن هذا لا يعني أننا نقلنا «الوعي» فعلاً، بل أننا بنينا «مرآة» رقمية له، بلا ذات ولا عمق. إن التقدم الهائل في علوم الدماغ والواجهات الذكية والبيئات الافتراضية يفتح أمام البشرية أبوابًا جديدة لإعادة تعريف الذات والوجود، ليس فقط من منظور تكنولوجي، بل من منظور وجودي عميق. لم يعد الإنسان مجرد كائن بيولوجي يخضع لقوانين الفناء، بل مشروعًا مفتوحًا لإعادة التشكيل، يمكن له أن يتجاوز حدوده الجسدية ويتجسد في صور جديدة من الوجود الرقمي. ومع ازدياد الحديث عن تحميل الوعي والعيش الرقمي، يدخل الإنسان مرحلة جديدة من الحوار مع ذاته، تتجاوز الأسئلة التقليدية حول الهوية والمصير، لتطرح إشكاليات أكثر جذرية: من نحن حين نُفصل عن أجسادنا؟ هل يمكن للهوية أن تبقى متماسكة إذا ما انتُزعت من سياقها العضوي وزُرعت في بيئة صناعية؟ هل يكفي أن تبقى أنماط وعينا محفوظة في خوادم ذكية، حتى نستحق أن نُسمى «أحياء»؟ وما الذي يجعل الوعي حيًّا أصلًا: استمرارية البيانات، أم الحضور الذاتي والشعور الأخلاقي والقدرة على المعاناة والأمل؟ في هذه اللحظة، لا يواجه الإنسان فقط تحدي التكنولوجيا، بل تحدي المعنى. فالمسألة لا تتعلّق بإمكانية العيش الرقمي بوصفه إنجازًا علميًا، بل بقدرته على احتواء عمق التجربة الإنسانية بما فيها من هشاشة وغموض وشعور بالتجاوز. ربما تمنحنا هذه التقنيات امتدادات غير مسبوقة للوجود، وقد نتمكن من محاكاة جوانب من إدراكنا داخل أنظمة رقمية فائقة الذكاء. لكن ما لا يجب أن نغفله وما نؤكد عليه هو أن الإنسان، في جوهره، ليس مجرد كائن معلوماتي. الوعي ليس فقط ما نعرفه، بل ما نجهله عن أنفسنا، وما نشعر به ولا نستطيع ترجمته. وبينما تتسابق التقنيات لمحاكاة الإنسان، تذكرنا الروح بأن هناك دائمًا ما يفلت من المحاكاة وهو: المعنى.

516

| 12 مايو 2025

كيف يصنع الذكاء الاصطناعي وظائف الغد؟

في عصر الذكاء الاصطناعي، لم يَعُد مستقبل الوظائف مجرد سيناريوهات مستقبلية أو تكهنات بعيدة، بل بات واقعًا يتشكّل بسرعة تفوق التوقعات. ما كان يُعتبر ضربًا من الخيال قبل سنوات، أصبح اليوم حقيقة مدعومة بأرقام وتقارير صادرة عن كبرى المؤسسات البحثية والتقنية. ووسط هذه التحولات المتسارعة، لم تعد الوظائف الجديدة خيارًا تقنيًا نخبويًا، بل أصبحت ضرورة حتمية تفرضها موجات التغيير، وتُبرز الحاجة إلى مواكبة هذا الواقع الجديد بمرونة واستعداد دائم. فالتغيير الذي كان يستغرق عقودًا بات يحدث خلال أشهر، ومهن الأمس باتت تُستبدل بوظائف لم نسمع بها من قبل، إذ تُجمِع التقارير الحديثة الصادرة عن PwC وGartner وMcKinsey على أن الوظائف الجديدة ليست ترفًا تقنيًا، بل ضرورة استراتيجية للتكيف مع عالم سريع التغير. من أبرز هذه الوظائف، فني الصيانة التنبئِية بالذكاء الاصطناعي (AI Predictive Maintenance Technician) الذي يستخدم خوارزميات لرصد الأعطال قبل وقوعها، ما قد يُوفر على الشركات ما يصل إلى 630 مليار دولار سنويًا، بحسب Cisco Systems وكذلك مهندس سلاسل الإمداد الذكية (Smart Supply Chain Engineer)، الذي يوظف أدوات الذكاء الاصطناعي لتحسين سرعة ودقة تسليم المنتجات؛ إذ أظهرت دراسة لمؤسسة Deloitte أن هذه الوظيفة يمكن أن تقلّص وقت التسليم بنسبة 40% وتخفض الانبعاثات بنسبة 25%. إنها ليست مجرد لحظة تحول في سوق العمل، بل ثورة مهنية تقودها الخوارزميات، وتبتكر وظائف لم تُكتب فصولها بعد، وفي قلب هذه الثورة، تتزايد الحاجة إلى مواهب قادرة على فهم هذه التحولات والتفاعل معها بمرونة وكفاءة. فالسؤال لم يَعُد: «ما الوظيفة التي سأشغلها؟»، بل أصبح: «هل وظيفتي المقبلة موجودة أصلًا؟»، في وقت تشير فيه دراسة حديثة لمعهد McKinsey Global (2024) إلى أن 85% من وظائف عام 2030 لم تُخترع بعد. هذا الواقع الجديد يُحتّم على الأفراد والمؤسسات إعادة التفكير في مهاراتهم، وأنماط التعلم، ونماذج العمل، استعدادًا لسوق لا يعترف بالثبات، بل يكافئ القادرين على التكيف المستمر، والتعلم مدى الحياة. في القطاع القانوني مثلًا، يُعاد تعريف العمل المكتبي مع ظهور محلل العقود الذكية (Smart Contract Analyst)، الذي يدمج بين القانون والبرمجة لفهم وتحليل الوثائق القانونية الرقمية. أما في المجال الأخلاقي، فتبرز حاجة الشركات إلى مهندس أخلاقيات الذكاء الاصطناعي (AI Ethics Engineer) لضمان ألا تتخذ الخوارزميات قرارات متحيزة أو تمييزية، كما تنبأت Gartner بأن 30% من الشركات الكبرى ستوظف هذا الدور بحلول 2026. ضمن الرؤى الاستشرافية التي تقدمها تقنيات الذكاء الاصطناعي نفسها، تم التنبؤ بظهور خمس مهن جديدة بحلول عام 2030، تشمل: مدقق أخلاقيات الذكاء الاصطناعي (AI Ethics Auditor)، ومهندس الميتافيرس (Metaverse Engineer)، ومطور برامج الحوسبة الكمومية (Quantum Software Developer)، ومعالج نفسي مختص في الإدمان الرقمي (Digital Detox Therapist)، ومهندس التعلم (Learning Engineer). هذه الوظائف – التي لم يكن لها وجود فعلي قبل سنوات قليلة – تعكس ليس فقط التحولات التقنية، بل أيضًا التغير العميق في طبيعة المهارات المطلوبة. وهو ما يفرض على الجامعات ومراكز التدريب إعادة صياغة مناهجها لتتناسب مع هذه الاتجاهات المستقبلية، وتوفير بيئات تعليمية مرنة تُعد الطلبة لشغل أدوار لم يُخترع جزء كبير منها بعد.قصة حقيقية من كوريا الجنوبية تُجسد هذا التحول: «لي جاي هون»، مهندس ميكانيكي سابق، أعاد تأهيل نفسه ليصبح منسق التفاعل بين البشر والروبوتات (Human-Robot Interaction Facilitator)، ليقود فريقًا في تطوير تجربة العملاء داخل متاجر ذكية تستخدم مساعدين روبوتيين. بعد ستة أشهر من التدريب المتخصص، تضاعف دخله وانتقل إلى إدارة مشاريع تقنية كانت خارج نطاق تصوره المهني السابق. لكن هذا التقدم لا يتوزع بشكل عادل حول العالم. ففي حين تسارع الدول الصناعية إلى إعادة هيكلة أنظمتها التعليمية واستثماراتها في المهارات المستقبلية، تقف الدول النامية، وخاصة العربية، أمام تحديات مضاعفة. ضعف البنية التحتية الرقمية، ونقص التمويل الموجه للبحث والتطوير، يحدان من قدرة هذه الدول على مواكبة التحول. بحسب تقرير المنتدى الاقتصادي العالمي (2023)، فإن فجوة المهارات الرقمية في بعض دول الشرق الأوسط تتجاوز 60%، وهو ما يهدد بتهميشها في الاقتصاد العالمي الجديد. هنا يبرز دور الحكومات كمحرك رئيسي للجاهزية المستقبلية. فبدلاً من التركيز فقط على خلق وظائف تقليدية، عليها تبني سياسات دعم للوظائف الرقمية الجديدة، مثل تقديم حوافز للشركات التي توظف في مجالات الذكاء الاصطناعي، وإنشاء شراكات بين الجامعات ومراكز الأبحاث التكنولوجية، كما فعلت سنغافورة ورواندا بنجاح لافت.في العالم العربي، بدأت مؤسسات وشركات في دول مثل قطر والسعودية والإمارات تولي اهتمامًا متزايدًا بهذه التحولات. على سبيل المثال، أطلقت بعض الجامعات العربية برامج دراسات عليا متخصصة في الذكاء الاصطناعي، تشمل مساقات تتناول أخلاقيات الذكاء الاصطناعي وتطبيقاته في مختلف القطاعات. كما بدأت بعض الشركات الناشئة في المنطقة توظيف مختصين في تصميم واجهات تفاعلية تعتمد على الذكاء الاصطناعي، وهو ما يعكس بداية دخول العالم العربي في موجة جديدة من الابتكار الوظيفي. هذا الواقع الجديد يتطلب إعادة نظر شاملة في مفهوم المهارة. فالمهارات التقنية وحدها لم تعد كافية، بل أصبحت المهارات التحليلية والإنسانية مثل التفكير النقدي، والإبداع، والتواصل الفعال، عوامل حاسمة للنجاح في هذه المهن الناشئة. كما يُعد الاستثمار في منصات التعلم مدى الحياة خطوة ضرورية لتقليل «التآكل المهني السريع»، إذ تشير تقديرات البنك الدولي (2024) إلى أن 40% من المهارات الحالية ستصبح غير صالحة خلال خمس سنوات.

753

| 29 أبريل 2025

جيل Z وجيل ألفا: عندما تكون المعركة بين الإنسان وإنسانيته!

يشهد العالم المعاصر تحوّلاً غير مسبوق في تاريخ الوجود البشري، تقوده التكنولوجيا بصفتها القوة الأكثر تأثيراً في تشكيل ملامح الحياة الحديثة. لم تعد التكنولوجيا مجرد أدوات أو منصات مساعدة، بل أصبحت بحد ذاتها بيئةً كلية نعيش فيها، عاملًا حيويًا يُعيد صياغة مفاهيم الإنسان عن ذاته، وعن العالم، وعن الآخرين من حوله. وفي قلب هذا التحول تقف الأجيال الجديدة لا كمتلقٍّ سلبي، بل كنتاجٍ حيّ لهذا العصر الرقمي بكل تعقيداته وتناقضاته. نتحدث هنا تحديدًا عن جيل Z (المولود بين 1997 و2012) وجيل ألفا (المولود بعد 2013)، وهما جيلان نشآ في ظل تحوّل تكنولوجي عميق بدأ مع الثورة الرقمية في نهاية القرن العشرين، وتفاقم مع دخول الذكاء الاصطناعي والواقع المعزز والميتافيرس والبيانات الضخمة إلى صلب الحياة اليومية. جيل Z يمثل الجسر بين عالمين: عالم ما قبل الثورة الرقمية، وعالم أصبحت فيه الخوارزميات هي «العقل الجمعي» الجديد. لقد عاش هذا الجيل مراحل الانتقال الكبرى: من الكتب الورقية إلى الشاشات، من الاتصالات الهاتفية إلى الرسائل الفورية، من الصفوف المدرسية إلى التعليم عن بُعد. أما جيل ألفا، فهو الجيل الذي لم يعرف سوى الرقمية منذ لحظة الميلاد، إذ تفتحت حواسه الأولى على شاشة، وتكوّنت مهاراته اللغوية من خلال مساعد صوتي، وتعلّم المفاهيم الأولى عن طريق تطبيقات ذكية وخوارزميات دقيقة تستجيب لسلوك المستخدم لحظياً. إننا لا نتحدث عن تغيّر في أنماط الحياة فقط، بل عن إعادة تشكيل حقيقية للذات الإنسانية. ففي السابق، كانت الهوية تُبنى عبر التفاعل مع الأسرة، والمدرسة، والثقافة المحلية، وكانت تنشأ ضمن سياق اجتماعي واضح المعالم. أما اليوم، فالأجيال الرقمية تبني صورها الذاتية في فضاءات افتراضية عالمية، تتخطى الحواجز اللغوية والثقافية والجغرافية. إنها هوية «مُفلترة»، تُنتجها الصور والمنشورات والتفاعلات المرسومة وفق خوارزميات منصات التواصل الاجتماعي، وتُقاس بكمية «الإعجابات» والمشاهدات، لا بتجربة الذات العميقة. هذا التحول لا يخلو من مفارقات. فعلى الرغم من الكمّ الهائل من التواصل الرقمي، تشير دراسات عديدة إلى تصاعد مشاعر الوحدة والعزلة، خصوصًا بين المراهقين والشباب. وقد ربطت تقارير صحية بين الإفراط في استخدام التكنولوجيا وبين ارتفاع معدلات القلق، واضطرابات النوم، وضعف التركيز، وتراجع المهارات الاجتماعية. جيل Z، برغم إتقانه المذهل للتكنولوجيا، يواجه صعوبة متزايدة في بناء علاقات واقعية مستقرة. أما جيل ألفا، فيُظهر مبكرًا قدرة رقمية خارقة، لكنها تقترن أحيانًا بضعف في التطور اللغوي والعاطفي، وكأن المهارات الإنسانية الكلاسيكية باتت تُستبدل تدريجياً بكفاءات رقمية جديدة. هذا لا يعني أن الأجيال الرقمية «أقل إنسانية»، بل إنها مختلفة في تركيبها المعرفي والعاطفي والاجتماعي. إنها أجيال تعيش في ما يمكن تسميته «الواقع الموسّع» حيث تتداخل فيه الذات البيولوجية بالذات الرقمية، ويذوب فيه الخط الفاصل بين ما هو واقعي وما هو افتراضي. وهذه الحالة تطرح سؤالاً وجودياً جوهرياً: من أنا في عالم يُعاد فيه تشكيل الذات بواسطة أدوات لا أتحكم بها بالكامل؟ من يوجّهني فعلًا: أنا، أم البرمجية التي تختار لي ما أقرأ وأشاهد وأرغب؟ في هذا السياق، تتزايد الحاجة إلى تفكيك العلاقة بين الإنسان والتكنولوجيا من جديد. فنحن لم نعد فقط نستخدم التكنولوجيا، بل يُعاد تشكيلنا من خلالها. وقد أصبح الذكاء الاصطناعي شريكاً خفياً في اتخاذ القرارات، وتوجيه السلوك، وحتى في تكوين القيم وتصورات العالم. منصات مثل تيك توك ويوتيوب وانستغرام لم تعد وسائط ترفيهية فحسب، بل منصات لإنتاج الثقافة والهوية والسلوك الاستهلاكي. ولعل المفارقة الأكبر تكمن في أن هذه التكنولوجيا التي وُعدنا بها كوسيلة لتحرير الإنسان، باتت تخلق أشكالاً جديدة من التبعية. فمن جهة، تسهّل الحياة وتختصر الوقت، لكنها من جهة أخرى تُعيد تشكيل إدراكنا بطريقة غير مرئية. إنها «القوة الناعمة» الأشد تأثيراً في تاريخ البشرية. في ظل هذا الواقع، لا يكفي أن نُحمّل الأفراد مسؤولية التكيف. المطلوب هو تفكير جماعي لإعادة توجيه العلاقة بين الإنسان والتكنولوجيا. المؤسسات التعليمية مطالبة بأن تراجع مناهجها، لا فقط لتُدخل التقنية، بل لتُعيد التوازن بين ما هو رقمي وما هو إنساني. الأسرة، بدورها، لم تعد فقط مصدراً للقيم، بل أصبحت «ساحة مقاومة» للحفاظ على الحميمية في وجه التمدد الرقمي. أما صانعو السياسات، فعليهم مسؤولية أخلاقية وتشريعية للحدّ من تغوّل التكنولوجيا في تفاصيل الحياة اليومية، ووضع ضوابط تحمي الأجيال من فقدان الجوهر الإنساني. لا ينبغي أن يكون السؤال: كيف نُقلل من استخدام التكنولوجيا؟ بل: كيف نستخدمها بطريقة تحافظ على إنسانيتنا؟ كيف نُدرّب أبناءنا على التفكير النقدي، والقدرة على التأمل، والانفتاح العاطفي، لا فقط على البرمجة والتصميم؟. نحن نعيش لحظة مفصلية، لحظة يُعاد فيها تعريف الإنسان، لا بالمعنى البيولوجي، بل بالمعنى الوجودي. وإذا لم نُحسن إدارة هذا التحوّل، فإننا قد نخسر القدرة على أن نكون ذاتاً فاعلة حرة في عالم تتزايد فيه السيطرة غير المرئية للأنظمة الذكية. المستقبل لا تصنعه الآلات، بل الإنسان الذي يعرف كيف يتعامل معها. ولهذا، فإن المعركة الأهم ليست بين الأجيال والتكنولوجيا، بل بين الإنسان وإنسانيته.

615

| 22 أبريل 2025

alsharq
لمن ستكون الغلبة اليوم؟

يترقّب الشارع الرياضي العربي نهائي كأس العرب، الذي...

1074

| 18 ديسمبر 2025

alsharq
إليون ماسك.. بلا ماسك

لم يكن ما فعلته منصة (إكس) مؤخرًا مجرّد...

942

| 16 ديسمبر 2025

alsharq
قطر في كأس العرب.. تتفرد من جديد

يوماً بعد يوم تكبر قطر في عيون ناظريها...

696

| 15 ديسمبر 2025

alsharq
«يومنا الوطني».. احتفال قومي لكل العرب

هنا.. يرفرف العلم «الأدعم» خفاقاً، فوق سطور مقالي،...

642

| 18 ديسمبر 2025

alsharq
إنجازات على الدرب تستحق الاحتفال باليوم الوطني

إنه احتفال الثامن عشر من ديسمبر من كل...

639

| 18 ديسمبر 2025

alsharq
غفلة مؤلمة.. حين يرى الإنسان تقصيره ولا يتحرك قلبه

يُعد استشعار التقصير نقطة التحول الكبرى في حياة...

636

| 19 ديسمبر 2025

alsharq
عمق الروابط

يأتي الاحتفال باليوم الوطني هذا العام مختلفاً عن...

549

| 16 ديسمبر 2025

alsharq
التاريخ منطلقٌ وليس مهجعًا

«فنّ التّأريخ فنّ عزيز المذهب جمّ الفوائد شريف...

531

| 21 ديسمبر 2025

alsharq
قطر رفعت شعار العلم فبلغت به مصاف الدول المتقدمة

‎لقد من الله على بلادنا العزيزة بقيادات حكيمة...

504

| 18 ديسمبر 2025

alsharq
قبور مرعبة وخطيرة!

هنالك قادة ورموز عاشوا على الأرض لا يُمكن...

456

| 19 ديسمبر 2025

alsharq
كأس العرب من منظور علم الاجتماع

يُعَدّ علم الاجتماع، بوصفه علمًا معنيًا بدراسة الحياة...

444

| 15 ديسمبر 2025

alsharq
بِر الوطن

في اليوم الوطني، كثيرًا ما نتوقف عند ما...

429

| 18 ديسمبر 2025

أخبار محلية