رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

Al-sharq

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

الشرق

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

"ربع الساعة الأخير" في سوريا وحساسية الدور الخليجي

بصراحةٍ مطلوبة في إطار الاعتراف بالحقائق والبحث عن وسائل التعامل معها، كتب عبد الرحمن الراشد، الإعلامي السعودي المعروف، مقالاً تضمن العبارة التالية: "طالما أن المشروع الروسي يقوم على فرض حل سياسي بالقوة، بتنصيب الأسد وتسليم إيران المنطقة، فإن واجب دول المنطقة على الجانب الآخر تغيير مفهوم دعمها للمعارضة، برفع مستوى تسليحها، الذي ظل دائماً محدوداً نتيجة الاشتراطات الدولية، وعلى أمل التوصل إلى حل سياسي يجمع كل الفئات السورية في مشروع حكم واحد. رفع دعم المعارضة قد يكون الطريق الوحيد لتحقيق التوازن على طاولة التفاوض. دون ذلك من الأفضل توفير الوقت، بتسليم الإيرانيين المهمة، ونقل المفاوضات إلى طهران، وتكليف جماعتها بحكم سوريا. وفي نفس الوقت على دول المنطقة، وأوروبا، نتيجة لذلك استقبال المزيد من ملايين الهاربين من سوريا والعراق، لأن المنطقة لن تستقر".ثمة مؤشرات عديدة تؤكد بأن القضية السورية تواجه لحظةً حاسمة في الأسابيع القليلة القادمة. وحين نأخذ بالاعتبار حجم الجهد السياسي الذي تبذله السعودية، وغيرها من دول الخليج، لدعم موقف الشعب السوري ومعارضته، وطبيعة الاستحقاقات التي تتحملها في سبيل ذلك، سياسياً وأمنياً واقتصادياً، يُضحي الحديث طبيعياً عن جملةٍ من الإجراءات والقرارات التي قد تُعتبر (تكميلية)، مقارنةً بكل ذلك الجهد الكبير، لكنها في غاية الضرورة لضمان عائد الاستثمار المُكلف، بكل الحسابات، في هذا المسار.أن تجتمع كل الفصائل السياسية والعسكرية المؤثرة للمعارضة السورية في الرياض، وأن توافق مجتمعةً على مسارٍ للحل السياسي من خلال وثيقةٍ مكتوبةٍ وقعَ عليها الجميع. وأن يحصل هذا بجهد السعودية وإشرافها، ويتم في إطار التزامها برؤيةٍ توافقت عليها، في فيينا، كل الأطراف المؤثرة في الوضع السوري. هذا المشهد، بكل عناصره، إنجازٌ إستراتيجيٌ يجب أن يعتبره الجميع اختراقاً حاسماً في المسألة السورية. ومن الهزلِ في مقام الجد أن يَنظر إليه البعض باستخفاف، كأنه مجرد عمليةٍ استعراضية، أو أسوأ من هذا، على أنه (توظيفٌ) للسعودية لخلق واقعٍ يسمح بتمرير اتفاقات جانبية، ترمي لتحقيق أهداف تتعرض كلياً مع أهداف السعودية في هذا الموضوع.نفهم الملابسات المعقدة المُحيطة بالقضية السورية، والتغيرات المتسارعة المتعلقة بها، والتشابك الهائل في خيوط المصالح الإقليمية والعالمية، العاجلة والآجلة، وما ينبني عليها من توازنات في التحالفات والعلاقات. والواضح أن السياسة السعودية تدرك الحقائق المذكورة، أكثر من غيرها، وتتعامل معها بدرجةٍ عالية من المهارة السياسية التي تُولِّدُ مشاريع وممارسات مُبتكرة وخلاقة، يمكن القول إنها غير مسبوقة في الواقع السياسي العربي المعاصر.. وهي إذ تُصيب البعض بالدوار، وهذا أمرٌ محمودٌ أحياناً، فإنها تزرع، بهدوءٍ وتدرجٍ وشمول، الركائز والأسس المطلوبة لمرحلةٍ قادمة من الصراع السياسي على المنطقة، وربما فيها، بشكلٍ يأخذ بعين الاعتبار تجهيز كل أدوات ذلك الصراع ومقومات إثبات الوجود والتأثير فيه..من هنا، تجدر الإشارة إلى أن الحديث، هنا، عن (ربع الساعة الأخير) في مسار القضية السورية، لا يَغفل عن احتمال كون هذه المرحلة، بكل ما يجري فيها، تمهيداً لشيءٍ آخر، ولا عن مقتضيات التخطيط الإستراتيجي طويل المدى للموضوع، بالطريقة التي تعمل وفقها الرؤية السعودية.بكلامٍ آخر، رغم أهمية المسار الحالي المُعلن المتعلق بمفاوضات قادمة بين المعارضة السورية والنظام، واحتمالات حصوله فعلاً، إلا أن بدهيات التفكير السياسي توحي بإمكانية أن هناك أطرافاً تريد لهذا المسار أن يكون مجرد ساتر دخاني لشراء الوقت، في حين تعمل هي على خلق وقائع ميدانية وسياسية، محلية وإقليمية ودولية، يختلف هدفُها عن الهدف المُعلن للمفاوضات بشكلٍ جذري.لكن هذا لا يتضارب، بالتفكير السياسي نفسه، مع الانتباه إلى ما تحدثنا عنه من إجراءات عملية تساعد على تكامل الأدوار وصولاً لتحقيق الأهداف المشتركة. وإذ تُدرك المعارضة السورية، خاصةً في إطارها الراهن، أبعادَ الصورة المذكورة أعلاه، غير أن واجبها يتمثل في التحضير الكامل والمحترف للمفاوضات وكأنها ستحصل دون شك، وفي تأمين جاهزيتها القصوى للدخول في مُعتركها الحساس. فرغم عملها الحثيث في هذا الإطار بكل قدراتها المتوفرة، وهذا أمرٌ نؤكدهُ من باب العِلم بالوقائع، غير أنه يحتاج إلى درجةٍ أكبر من الدعم اللوجستي والتقني في المجالات ذات العلاقة. ويصبﱡ في هذا المجال، من مدخلٍ آخر، ما أشار إليه الراشد في أول المقال من دعمٍ لقوى المعارضة العسكرية يتم من خلاله الحفاظ على حدٍ أدنى من التوازن الميداني المهم جداً كورقةٍ تفاوضية إن سارت عملية التفاوض، أو كواقعٍ يُبنى عليه إيجابياً إن مضت الأمور في اتجاهٍ آخر.صحيحٌ أن تعدد المسارات هو من ثوابت السياسة الدولية، وأن توازنات القوى هي التي تؤثر في المسار النهائي الذي سيتم اعتماده نهايةَ المطاف. لكن من ثوابتها أيضاً أن ثمة (أوراقاً) محددة يمكن استخدامها بحيث لا تبقى، فقط، مفيدةً مهما كان ذلك المسار، بل ربما ساعدت أصحابها على التأثير بقوة في تحديد وُجهتهِ وطبيعته.

953

| 03 يناير 2016

في (قوة) الموقف التفاوضي للمعارضة السورية

"عندما تُكثرُ التفكيرَ بمحدودية قدراتِك، تأكد أنها ستكونُ كذلك". هذه قاعدة شائعة في علم المفاوضات، وعالمها، يجدر بالمعارضة السورية التأمل فيها بشكلٍ كبير. الأرجح أن عملية المفاوضات في سوريا بدأت منذ زمنٍ بعيد، لكن المؤكد أن انطلاقها ترسخَ مع مؤتمر فيينا منذ أشهر. لابد من إدراك هذه الحقيقة لفهم كل ماجرى ويجري من يومها على إنه جمعٌ لأوراق تفاوضية، وهو مايقوم به النظام وحلفاؤه بمختلف الوسائل. وفي حين يُشكك البعض في قدرة المعارضة السورية على الدخول في هذا الاستحقاق الصعب، تغيب عن بال هؤلاء، وآخرين من المعارضة نفسها أحياناً، جملة تصريحات ومواقف وأحداث تصب في تدعيم الموقف التفاوضي لها، إذا رأتها بتلك العين أولاً، وعرفت كيف تستثمرها بعد ذلك.نطرح في هذا المقام بضعة أمثلة من أحداث الأسبوعين الأخيرين فقط.فيوم الأربعاء قبل الماضي، 16 ديسمبر، تحدثت كلٌ من المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، ومندوبة واشنطن الدائمة لدى الأمم المتحدة سامنثا باور على أن "التوصل إلى حل طويل الأجل لا يشمل بشار الأسد".وفي نفس اليوم أيضاً، اعتبرت منظمة "هيومن رايتس ووتش" في تقرير جديد لها أن آلاف الصور التي تم تسريبها عن معتقلين قضوا تحت التعذيب داخل سجون نظام الأسد تشكل "أدلة دامغة" على ارتكاب جرائم ضد الإنسانية.في اليوم التالي، الخميس، وافق مجلس النواب الأمريكي على مسودة قرار طرحت للتصويت، تتعلق بفرض عقوبات مالية جديدة على ميليشيا حزب الله، بموافقة 422 نائباً على القرار، دون اعتراض أي نائب. ثم جاء يوم الجمعة يحمل تأكيد الرئيس الأمريكي باراك أوباما أن بشار الأسد فقد شرعيته ويتعين أن يرحل عن السلطة ليفتح الباب أمام إنهاء "إراقة الدماء" هناك. وفي نفس السياق، شدّد كل من وزير الخارجية الفرنسي لوران فابيوس والبريطاني فيليب هاموند في الأمم المتحدة على ضرورة رحيل الأسد. وأضاف فابيوس إن المحادثات بين النظام والمعارضة لن تنجح إلا إذا كانت هناك ضمانات موثوق بها بشأن رحيل الأسد.بعدها بيوم، أكدت وزارة الخارجية التركية على أن تركيا تدعم الحل القائم على تنحي بشار الأسد من منصبه بعد تسليم كافة صلاحياته لهيئة الحكم الانتقالية خلال مرحلة الانتقال السياسي، وذلك تعليقاً على قرار مجلس الأمن الدولي 2254 حول سوريا.ويوم الأحد الماضي أكدت منظمة (هيومن رايتس ووتش) في تقرير أصدرته أنها وثقت "أكثر من 20 حالة استخدام للقنابل العنقودية" منذ بدء الاحتلال الروسي عدوانه في 30 سبتمبر الماضي. واعتبرت المنظمة في تقريرها أن استخدام القنابل العنقودية "يشكل انتهاكاُ للقرار الدولي 2139 الصادر عن مجلس الأمن في 22 (فبراير) 2014 والذي دعا نظام الأسد إلى وضع حد للاستخدام العشوائي للأسلحة (البراميل المتفجرة) في المناطق المأهولة بالسكان".أما يوم الثلاثاء فقد قالت وزارة الخارجية النرويجية إنها تراقب بقلق شديد الحشد العسكري الروسي في سورية، موضحة أن التقارير التي تخرج حول قصف الطيران الروسي الذي يستهدف أهدافاً أخرى غير تنظيم داعش تُعقِّد الجهود الرامية لإيجاد حل سياسي. وأوضحت الخارجية أن القاعدة الأساسية التي يستند عليها المجتمع الدولي لمثل هكذا حل هو بيان جنيف.في اليوم التالي، الأربعاء، أعلنت منظمة العفو الدولية أن القصف الجوي الذي تشنه طائرات الاحتلال الروسي في سورية قد يرقى إلى جريمة حرب، بسبب عدد المدنيين الذين قتلتهم الضربات الجوية، والتي ذكرت المنظمة الحقوقية أنها تظهر أدلة على انتهاك القانون الإنساني.وخلال اليوم نفسه، أكد العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز، في افتتاح جلسة مجلس الشورى السعودي، على ضرورة الانتقال السياسي في سوريا، والذي "يتضمن وحدة السوريين وخروج القوات الأجنبية والتنظيمات الإرهابية، التي ما كان لها أن تجد أرضاً خصبة في سوريا لولا سياسات نظام الأسد التي أدت إلى إبادة مئات الآلاف من السوريين وتشريد الملايين".يوم الخميس أصدر مجلس الأمن الدولي بالإجماع قراراً لتسهيل نقل المساعدات الإنسانية إلى ملايين السوريين، من دون موافقة مسبقة من نظام الأسد، لإغاثة مئات آلاف المدنيين، لا سيما في المناطق الخارجة عن سيطرة نظام الأسد. وأدان مجلس الأمن "استمرار وجود العراقيل أمام نقل المساعدات الإنسانية عبر خطوط القتال وتكاثرها" متهماً نظام الأسد "بمنح تصاريح لعدد قليل من القوافل فقط".في نفس اليوم اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة القرار المقدم من السعودية والإمارات وقطر عن حال حقوق الإنسان في سوريا. وجدد مشروع القرار تأكيد الالتزام بإيجاد حل سياسي للأزمة وتطبيق بيان جنيف وإطلاق عملية سياسية بقيادة سورية تؤدي إلى تحول سياسي يلبي التطلعات المشروعة للشعب السوري من خلال هيئة حكم انتقالية شاملة ذات صلاحيات تنفيذية كاملة، وبما يضمن استمرارية المؤسسات الحكومية. وأدان بشدة جميع انتهاكات وتجاوزات القانون الدولي لحقوق الإنسان وجميع انتهاكات القانون الدولي الإنساني المرتكبة ضد السكان المدنيين، ولا سيما جميع الهجمات العشوائية، بما في ذلك استخدام البراميل المتفجرة في مناطق مدنية وضد البنية التحتية المدنية.هذه التصريحات والتقارير والمواقف والقرارات كلها عناصر قوة في الموقف التفاوضي للمعارضة السورية، وكل عنصرٍ منها يحتمل التوظيف والاستثمار بطريقةٍ خلاقةٍ ومؤثرة. لهذا، لاينبغي مرورها كـ (أخبار) يومية مثلما هو حالُها بالنسبة لبقية الناس. هنا يكمن المعنى الحقيقي للسياسة باعتبارها (فن المُمكن). فهذا (الممكن) لدى البعض مُستحيلٌ لدى آخرين، في حين أنه (أقلﱠ الممكن) لفريقٍ ثالث يجب أن تعمل المعارضة كل ماتستطيع لتكون جزءاً منه في أقرب الآجال.

1030

| 27 ديسمبر 2015

هل ينحصر دور النخبة السورية في نقد معارضتها؟

نعم، الثورة السورية تمر اليوم في (منعطفٍ) تاريخي، حتى لو كان الوصف مُستَهلكاً ويدخلُ، لدى بعض النخبة السورية، في إطار (الكلام الخشبي) القديم. نعم أيضاً، لحقيقة أن (النقد) يُعتبر ممارسةً سهلةً في آخر المطاف. لا يعني هذا أنه ليس مطلوباً وضرورياً، ولا يتضارب مع إلحاحِ استمراره ووجودهِ على الدوام، لكن ثمة حداً أدنى من التوازنات فيما يتعلق بطبيعته ودوره يجب أخذُها بعين الاعتبار.فنقدُ المعارضة يكون بناءً ومثمراً ويؤدي دورهُ الأصيل حين لا يترك القارئ، والسوريين بشكلٍ عام، معلقين في أجواء التشاؤم والسلبية والهجاء والسوداوية المُطلقة، ثم ينصرفَ عنهم ولسانُ حاله يقول لهم: عملتُ ما عليَّ، و(دبروا) أنتم أنفسكم، وابحثوا عن حلٍّ لمشاكل ثورتكم..لا يمكن لثورةٍ أن تتقدم لتحقيق أهدافها و(نُخبتُها) المثقفة غارقةٌ في النقد بشكلٍ تطغى عليه الأجواء المذكورة أعلاه، خاصةً في المراحل المصيرية الحساسة كما هو عليه الحالُ الآن. لا يتضاربُ هذا، في الفكر السياسي المناضل، والمحترف، مع الإقرار بكل ما حصل في المراحل السابقة من اختلافات، وخلافات، عميقة وجذرية، بين حاملي لواء الثورة في كل مجال، شخصياً، ومصلحياً، ومبدئياً، وأيديولوجياً، وحزبياً، ومناطقياً.. ولا مع (إمكانية) استمرارها في المستقبل.نعم أيضاً وأيضاً، ما حصلَ يتضمنُ ظواهرَ، مذهلة وغرائبية أحياناً، تحتاج إلى الكثير من الدراسة والتحليل لمعرفة جذورها الثقافية. وهذا أمرٌ لا مانع أن يقوم به (المختصون) الآن، وأن يستمر في المستقبل.ولا مشاحة في الاعتراف بأن المعارضة السورية، بجميع أطيافها ومكوناتها، لم تكن مستعدةً لأداء مهمةٍ بحجم المهمة التي باتت، فجأةً، مسؤولةً عن أدائها. فكلنا يعلم طبيعة الظروف التي كانت تعمل فيها على مدى العقود الماضية. وثمة فارقٌ كبير بين القيام بدور (المعارض) على الطريقة التي كانت سائدةً في سوريا ما قبل الثورة، وبين دور القيادة لثورةٍ فرضت نفسها كواحدةٍ من أعظم ثورات التاريخ. ولا نبالغ إذا قلنا إن الدور الذي نتحدث عنه من أصعب الأدوار التي يُطلب أداؤها على مستوى العمل العام.لكن (كل) ما حصل، لا يمثل (لعنةً) تاريخيةً نهائيةً أصابت سوريا وشعبها وثورتها، كأنها قدرٌ لا فكاك من آثاره التدميرية، بالطريقة التي يفكر بها سوريون كُثُر.. وبالطريقة التي يوحي بها بعض نقدٍ يصدر عن مثقفين متميزين..وما حصلَ لا يجب أن يكون، أبداً، مدعاةً لـ(الاستقالة) من الثورة، وما أسهل أن يجد السوري اليوم سبباً للاستقالة من ثورة بلاده. ولا ينبغي أن يدفع للتركيز، ولو بدون قصد، على إشاعة مثل تلك الأجواء، فهذه طريقةٌ في التفكير ليست، فقط، مدخلاً لليأس والإحباط والسلبية في أعلى درجاتها، وإنما هي أيضاً، مع الاعتذار، نوعٌ من التفكير الطفولي الذي لا يليق بشعبٍ بدأ ثورةً من أعظم ثورات التاريخ. هكذا كانت وهكذا ستبقى.. والتاريخُ نفسه سيكون الحَكَم.نحن، في سوريا، نعيش (نصيبنا) من قصة البشرية على هذه الأرض، بكل ما فيها من صراعٍ وتضحيات وآلام عاشت المجتمعات مثلها، وستعيش، في يومٍ من الأيام، هذا كل ما في الأمر.ومفرق الطريق يكمن في قدرة السوريين اليوم على توظيف الظروف الراهنة لاستعادة شيءٍ من زمام المبادرة، تماماً كما فعلت شعوب كثيرة.بكلامٍ أوضح، مهما كانت ملاحظات البعض على واقع المعارضة وممارساتها قبل وأثناء وبعد مؤتمر الرياض، نحن اليوم، كسوريين، أمام مرحلةٍ جديدة فيها من المخاطر والمزالق مثلما كان عليه الحالُ على مدى خمس سنوات. لكن فيها، بالمقابل، كموناً لم يكن موجوداً قبل ذلك. وإذا كنا نعتقد أن أداء المعارضة لن يكون أفضل، فهذا أدعى لأن يساهم الجميع بشكلٍ إيجابي في تحسين ذلك الأداء.هل يبدو فعلاً أن البعض / الكثيرين تعلموا من دروس التجربة السابقة؟ لا ندري على وجه الدقة، فهذه ليست غاية المنى، والكلام لا يحمل دعوةً للأحلام والتوهم بأن ما يجري هو عينُ الكمال.لكن ما يجري حتى الآن جيد، إذا كنا واقعيين، وحاولنا أن نفهم منطق التاريخ وآليات التطور الثقافي لدى الشعوب. وعلى جميع السوريين أن يلتقطوا خيط الأمل هذا، وينسجوا منه، تدريجياً، ثوب النجاح.ما حصل، بتفاصيله المعروفة، من اجتماع أكبر حجمٍ ممكن لممثلي المعارضة السياسية والعسكرية، يمثل خطوةً على الطريق الصحيح، أخيراً. وعلى السوريين ألا يزهدوا في دلالاتها وكُمُونها، مهما كانت ملاحظاتهم مشروعةً على المعارضة، ومهما كان عَتبُهم كبيراً عليها.آن للسوريين ألا يُحاصروا أنفسهم، وشعبهم، وثورتهم، ووَطنَهم، في مقولات تقليدية مختلفة مؤداها في النهاية أن "كل هذا عبث، وكلام فاضٍ، ولن ينتج عنه شيء".لم يكن المجلس الوطني ولا الائتلاف، في نهاية المطاف، مُلكاً للأعضاء، ولا (الهيئة العليا للتفاوض) ملكٌ لفلان أو علان اليوم. وإنما هي جميعاً مُلكٌ لسوريا وثورتها ونُشطائها وأهلها. وإذا كان هذا الكلام، في نظر البعض مثالياً وطوباوياً، فإن هذا لا يغير الحقيقة المذكورة، وإنما يُعبر عن (رجعيةٍ) تعود بنا للوقوع في فخ ثقافة السلبية واليأس التي يُفترض أن الثورة قامت عليها، قبلَ أي شيءٍ آخر.

968

| 20 ديسمبر 2015

هل تستثمر المعارضة السورية نجاح مؤتمر الرياض؟

بنظرةٍ سياسية شاملة، لايمكن الحكمُ على مؤتمر الرياض للمعارضة السورية إلا بـ (النجاح). مِن السهل على مَن لايعرف تعقيدات السياسة، بشكلٍ عام، أن يملك ترفَ تقديم الملاحظات عليه. ومن السهل أكثر لمن لايدرك ملابسات الوضع السوري،الإقليمية والعالمية، أن يفعل ذلك. ومن أسهل الأمور أن يقوم بالممارسة نفسها مَن لم يعايش تجربة المعارضة وتاريخها وطريقة عملها. أما العارفون بالحقائق المتعلقة بتلك المواضيع فلاينظرون إلى ما حصلَ في الرياض خلال يومين من الاجتماعات إلا على أنه أقرب لـ (مُعجزةٍ) سياسية. فأن يجتمع كل من حضرَ من الفرقاء في قاعةٍ واحدة، وأن يُناقشوا برنامجاً محدداً، ويحصلَ توافقٌ على مضامينه، ويجري وضع هيكلٍ تنظيمي لتنفيذ رؤيته، كل هذا كان، دون أي مبالغة، أقربَ لِحلمٍ راودَ السوريين على مدى أربع سنوات. نتحدث عن الموضوع في فقرةٍ من أربعة سطور، ونحن نعلم أن السوريين يعرفون من تفاصيله مايُمكن أن يُكتب في مجلدات. فالمهم في الموضوع يُلخصهُ القول المشهور: «أن تصلَ متأخراً خيرٌ من ألا تصلَ أبدا». هي ولادةٌ جديدةٌ إذاً للمعارضة السورية بأطيافها، وبجناحيها السياسي والعسكري. أو، يجب أن تكون كذلك، وأن يتم التعاملُ معها بهذه الطريقة. وحساسية المرحلة تفرض على الجميع تجاوز حسابات الربح والخسارة على الصعيد الشخصي والحزبي والأيديولوجي، وعدم الوقوع في حوارات عقيمة حولَ مَن حضرَ ومن غاب، وماإليها من مواضيع لم يعد مجدياً، من قريبٍ أو بعيد، إضاعة الوقت والجهد فيها. كلنا فائزون في هذه القضية، وإذا كان ثمة خاسرون فإنهم ليسوا في صفوفنا، وإنما نعرفهم من أقوالهم وتصريحاتهم. والذي ينظر إلى ملامح الهوس والعُصاب الذي أصاب بعض قادة إيران وروسيا فيما يتعلق بالمؤتمر من لحظة الإعلان عن قيامه إلى نهاية أعماله يعرف عم نتحدث. نستخدم كلمة (بعض) لأننا ندرك أن هناك درجةً من الواقعية السياسية لايمكن أن تغيب كلياً في القيادتين، خاصةً في معرض حساباتها للتطورات الأخيرة، وإدراكها لحدود الممكن وغير الممكن، عملياً، بغض النظر عن دبلوماسية (رفع السقف) ومايلزمها من مواقف إعلامية.. ورغم الجهود المُعلنة والخفية التي قامت بها أطراف مختلفة وجنودٌ مجهولون في الدفع لإنجاح المؤتمر، إلا أن الواقع يؤكد استحالة تحقيق النجاح المذكور في معزلٍ عن الدور الاستثنائي الذي قامت به السعودية للوصول إليه. فبقراءةٍ شمولية، يبدو عمل وتخطيط الدبلوماسية السعودية في هذا المجال أقربَ لعزف سيمفونيةٍ مكتوبة بمهارةٍ عالية. ليس صدفةً على سبيل المثال أن يتم الإعلان عن إقامة مؤتمر المعارضة السورية منذ شهور في إطار أعمال قمةٍ خليجية في الرياض كأحد بنود البيان الختامي وقتها، وأن يتزامن انعقاد المؤتمر منذ أيام مع قمةٍ خليجية أخرى في الرياض. وإضافةً إلى الرسائل السياسية والدبلوماسية القوية الكامنة في هذا السيناريو، كان مُعبِّراً إصرار السعودية على عقد المؤتمر وسط جملةٍ من التعقيدات والمُداخلات والمناورات التي كانت وراءها دولٌ وحكومات تستعصي على العدّ. وإذا بقي لدى أي طرفٍ إقليمي أو عالمي شكٌ في ثبات السياسة السعودية بخصوص القضية السورية، أو حاول بعضهم اللجوء إلى التأويلات وسيلةً للتلاعب وخلط الأوراق، جاء المؤتمر الصحفي المشترك لوزير الخارجية السعودي والأمين العام لمجلس التعاون لدول الخليج العربية بعد انتهاء المؤتمر، والقمة الخليجية ليحمل الجواب الشافي، حيث صرح الجُبير بكل وضوح أن هدف اجتماع المعارضة تقوية صوتها وتوحيدُه، مؤكداً أن قوة الإعلان الصادر عن المؤتمر مرتبطٌ بوجود قوةٍ تُسانده. ليلغي الوزير بعدها أي مجال للظن بقوله: «بشار الأسد لديه خياران، إما أن يرحل عبر المفاوضات، وهذا الأسرع والأسهل على جميع الأطراف، أو سيترُك عبر القتال». نحن هنا بإزاء ظاهرةٍ تتداخل فيها دبلوماسية القوة بقوة الدبلوماسية كمثالٍ نادرٍ على الفكر السياسي، على الأقل في عالمنا العربي. وحين تصل مسيرة هذه القضية، بقيادة المملكة، إلى هذا النجاح، يصبح الحديث عن مسؤولية المعارضة السورية في استثماره وإكماله تحصيل حاصل. ماهو الطريق لذلك؟ هذا موضوع المقال القادم.

802

| 13 ديسمبر 2015

مواعيد التاريخ والجغرافيا بين السعودية وسوريا

هل يُعقدُ مؤتمر المعارضة السورية في الرياض على سبيل المصادفة العابرة، المتعلقة ببعض الحسابات السياسية التكتيكية؟ على العكس من ذلك تماماً، كما نتوقع أن يُثبت التاريخ في يومٍ قريب. ثمة قراءةٌ، يَظهرُ منها ارتباط البلدين، يتداخلُ فيها التاريخ نفسه بالجغرافيا، ويُلمحُ فيها بوضوح دور الثقافة والدين والاقتصاد والاجتماع البشري، لتأكيد ذلك الارتباط.والحاجة ملحةٌ، وسط الظرف الراهن وإكراهاته اليومية السياسية والأمنية و.. العاجلة، إلى استحضار تلك القراءة بشكلٍ استراتيجي، وبحسٍ حضاريٍ شامل الأبعاد، بما يساعد على أن توضع كل التفاصيل في إطارها الصحيح. ففي معزلٍ عن هذه المنهجية، يمكن بسهولةٍ للقرارات والممارسات أن تحصل خارج سياقها الحضاري المُفترض. وهو سياقٌ لا تقتصر ضرورة استيعابه وأخذه بعين الاعتبار على السعوديين والسوريين فقط، بل على العرب بأسرهم، بحكم التأثير الواضح لكل ما يجري في البلدين على مصير المنطقة، حاضراً ومستقبلاً. يمكن أن نتحدث عن البلدين بشكلٍ منفصل، ثم نقرأ ما يقوله التاريخ عن العلاقة بينهما لنرى صدقية الرؤية الواردة أعلاه. نبدأ بالسعودية لنرى، بالقراءة التاريخية، كيف يظلُّ ثابتاً أن هذا البلد هو منبت (العروبة) ومهد (الإسلام)، كلمتان أصبحتا في بؤرة التاريخ المعاصر، وفي قلب صناعة الحدث العالمي الراهن.وبالقراءة الاقتصادية، يظل ثابتاً أن أرض هذا البلد تحوي الخزين الأكبر من وقود الاقتصاد العالمي المعاصر: (البترول). أما بالقراءة الدينية، فيظل ثابتاً أن في هذا البلد الحرمين الشريفين، وأنهما سيبقيان مهوى أفئدة مئات الملايين من بني البشر، بكل ما يحمله ذلك من مهماتٍ ومسؤولياتٍ وتشريف.وأخيراً، بحسابات الجغرافيا / السياسية، يظل الموقعُ الاستراتيجي للسعودية ثابتاً لا يمكن زحزحته. في قلب الشرق الأوسط. من حولها دول الخليج والعراق و(إسرائيل). على مرمى حجر من (إيران) وقناة السويس ومضيق باب المندب. تفصلها بعض الأمواج عن دول حوض وادي النيل، وهي كلها دولٌ ومناطقُ باتت معروفةً حساسيتها في السياسات الدولية، حتى بكل متغيراتها الراهنة.أما سوريا، فيبدو من الـ(الجيوبولتيكس) أو الجغرافيا السياسية المتعلقة بها، أنه بغضّ النظر عن النظام السياسي الذي يحكم هذا البلد العربي الحساس، فإن هذا النظام سيملك في يده على الدوام مجموعة أوراق تنبع، بشكلٍ بحت، من مجرد وجود البلد في موقعه على الخارطة. فسوريا تحتل مكان القلب من بقعة جغرافيةٍ حساسة تضم تركيا والعراق وإيران والخليج العربي والسعودية ولبنان والأردن وفلسطين و(إسرائيل). والذي يعرف تاريخ العلاقات بين الدول المذكورة ويعرف طبيعة التداخل و/ أو التنافر الهيكلي الموجود بين حكوماتها من جهة، وبين مكونات الموزاييك الفسيفسائي الذي تتكون منه مجتمعاتها من جهة أخرى، على مدى القرن المنصرم على الأقل، يستطيع أن يدرك استحالة تحييد دور سوريا في صناعة حاضر المنطقة ومستقبلها.وإذا أخذنا بعين الاعتبار الحدود المشتركة لسوريا مع الغالبية العظمى من تلك الدول، وإذا وضعنا في الحساب حقيقة التداخل السكاني والعشائري المعقّد لشعب سوريا مع كل مجتمعٍ من تلك المجتمعات. فإن هذين الأمرين يوفران باستمرار لمن يحكم الشام أدوات هامة للتدخل في كل شأن إقليمي. لا يعني هذا التحليل أن سوريا هي الأقدر على قيادة الاستقرار في المنطقة، لكنها على وجه التأكيد الأقدر على زعزعته، بإرادتها، أو بأي فوضى تحكمُها. وربما يكون بديهياً الآن تعميمُ مقولةٍ قديمة وُصف بها البلد حين قيل في معرض الحديث عن الصراع العربي الإسرائيلي: "لا حرب من دون مصر ولا سلام من دون سوريا"، بحيث يمكن القول إنه لا استقرار في المنطقة من دون استقرار سوريا. والظاهر من تطورات الأحداث في السنوات القليلة الماضية أن اللاعبين الإقليمين والعالميين لم يكونوا في وارد استصحاب الحقيقة المذكورة عندما تم اتخاذ معظم القرارات السياسية التي كان يُراد لها أن ترسم الصورة الجديدة للمنطقة، وتُحدّد مجالات الحركة فيها، وتُعيد تشكيل خرائطها السياسية والجغرافية والإثنية.. لكن تطور الأوضاع في المنطقة، بأشكاله المعروفة، أثبت أن تجاهلَ تلك الحقيقة وصلَ بها في نهاية الأمر إلى حالٍ باتت تُهدد استقرار وأمنَ العالم بأسره.إلى هذا، يُبين لنا التاريخ، مرةً تلو أخرى، كيف كان إحساس إنسان الجزيرة العربية أن الشام هي بوابتهُ إلى العالم، بمعناه الجغرافي، وبمعناه الحضاري المتضمن ثقافةً واقتصاداً واجتماعاً بشرياً. حصلَ هذا قبل الإسلام، من خلال رحلة الصيف التي وثقها القرآن نفسه، وأعطاها أبعادها الحساسة في معرض الإشارة إلى "إيلاف قريش"، وإلى كونها وسيلةً إلى "الإطعام من جوعٍ والأمن من خوف".ثم إن فضاء الشام كان أول ما ارتاده إنسان الجزيرة بعد الإسلام، مَدخلاً إلى العالَم والعالَمية، واستمر الأمر بشكلٍ أو آخر، يعرفه المؤرخون إلى الماضي القريب. ورغم تقلب العهود والأنظمة والحكام في سوريا خلال قرنٍ مضى من الزمان، كانت الدولة السعودية تحاول دائماً أن تستوعب هذا الواقع وتتعامل معه، إدراكاً منها للسياق الاستراتيجي المذكور.هذه، بما يسمح به المقام، ملامح مواعيد التاريخ والجغرافيا بين البلدين. وإذ نرى المنطقة مقبلةً على مستقبلٍ سيحصل فيه الحديث عما "قبل مؤتمر الرياض وما بعدها"، فإن هذا يُظهر الضرورة الاستثنائية لوضع كل ما يتعلق بهذا الحدث في سياق مقتضيات تلك المواعيد.

906

| 06 ديسمبر 2015

مؤتمر المعارضة السورية ومصير المنطقة

"الحرب هي استمرار للسياسة بوسائل أخرى"، يعرف الكثيرون هذه المقولة المشهورة للجنرال والاستراتيجي العسكري، كارل فون كلاوزفيتز، من إمبراطورية بروسيا. لكن ما يجب الانتباه إليه، في مجال بحثنا، هو تعليق الزعيم السوفييتي لينين عليها، حين قال ما معناه إن السياسة، في الحقيقة، هي استمرارٌ للحرب بوسائل أخرى. هذا هو الوضع حالياً فيما يتعلق بـ"مسار فيينا" الذي توافقت عليه أطراف النظامين الدولي والإقليمي حول الوضع السوري. قبل ذلك، كان قرار (اللاقرار) فيما يتعلق بذلك الوضع هو الخيار المُفضل لكثيرٍ من أطراف النظام الدولي. بمعنى، أن القضية كانت تُدرج في نطاق الصراع المحلي القابل للضبط والاحتواء، بحيث تبقى تأثيراته السلبية في إطار المنطقة ولاعبيها. تُنهكُ من يكون مفيداً إنهاكهُ، وتُقوي من تُفيد تقويته..لكن ذلك القرار كان، في نهاية المطاف، محض إرادة بشرية ليس لها أن تحكم مصير الدول والمجتمعات بشكلٍ نهائي. هكذا، ظهر مكرُ التاريخ، وتحركت قوانين الاجتماع البشري، فتجاوزت التأثيرات السلبية، غير المرغوبة، كل الحواجز والحدود (والبحار)، وذهبت تهدد أوروبا في عقر دارها. فرغم كل الحديث (المُعلن) عن تأثير (اللاجئين) الذين ألقت بهم أهوال الحرب والعنف على الشواطئ الأوروبية، يذكر الخبراء أن تأثيراتها الحقيقية، اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً وأمنياً، تبلغ أضعاف ما يجري الحديث عنه. من جهةٍ أخرى، وبخلطةٍ من التردد والتجاهل والمَكر والغباء، تم السماحُ بخلق (وحشٍ) لا يمكن أن يَتحكم به حتى من صَنَعه، فضلاً عمن راقب العملية وتجاهلها لألف سببٍ وسبب. هكذا ظهرَ هتلر منذ ثلاثة أجيالٍ فقط من عمر البشرية. وهكذا ظهرت (داعش) منذ عامين. بهذه الخلفية، أظهرت تحليلات الأرباح والخسائر الإستراتيجية أن المعادلة القديمة يجب أن تتغير، وأن الصراع لم يعد قابلاً للاحتواء والضبط في الإقليم، فلم يكن بدٌ من معادلة (فيينا) الجديدة.لا يمكن، طبعاً، في مثل هذه الظروف المُعقدة الاتفاق على معادلةٍ جديدةٍ بكل تفاصيلها وأوزان المتغيرات فيها. من هنا، تم الاتفاق على الحد الأدنى: نقلُ الصراع من الساحة العسكرية إلى الساحة الدبلوماسية، بجدولٍ زمني وملامح عامة لخارطة طريق. فيما عدا ذلك، يُترك للفرقاء المختلفين العمل والحركة لتحديد أوزانهم في المعادلة الجديدة، ثم تكون النتيجة النهائية محكومةً بحسابات المعادلة تبعاً لتلك الأوزان. وفي هذا الإطار برزت ضرورة التعجيل بعقد مؤتمر المعارضة السورية في السعودية. هل لدى سوريي الثورة، ساسة وعسكر، والأهلية والقدرة على خوض المعركة الشرسة الجديدة؟ سيما وأن مثل هذه المعارك تكون أحياناً أكثر شراسةً من المعارك العسكرية. السؤال كبير، ويجدر قبل محاولة الإجابة عليه التذكير بملامح الأهلية والقدرة المطلوبة في مثل هذه المجالات. يختصر ونستون تشرشل الموضوع في جملةٍ معبرة:"الدبلوماسية [والمفاوضات] هي فنﱡ أن تطلب من الآخرين الذهابَ إلى الجحيم، وأن يكون هذا مدروساً بحنكةٍ تجعلهم يطلبون منك أن تُرشدهم إلى الطريق"!. يوجد في السوريين، بالتأكيد، من يمكن له ممارسة الدور بتلك المهارة. ولكن.. لا يمكن إيجاد هؤلاء، ولا مساعدتهم على القيام بالمطلوب، بالطريقة التي تتعامل بها المعارضة السورية مع الموضوع الآن. المسؤولية كبيرةٌ جداً. وعلى المعارضة أن تعرفَ، وتعترف، بأن كل ما مضى في كفة، وهذه المرة في كفةٍ أخرى تَرجحُ عليها. إن لجهة الكوارث التي ستترتب على فشل المعارضة في التحضير للمؤتمر، أو في إطار النجاحات الكبرى التي يمكن أن تتحقق إذا نجحت في ذلك التحضير. وفي المحصلة، يبدو استمرارُ أداء المعارضة بالمستوى الحالي، في هذه الفترة الحساسة، أقرب للتحضير لعملية انتحارٍ جماعي منه للتفاوض على حاضر ومستقبل سوريا.. والمنطقة. نعم. مصيرُ المنطقة، العربية تحديداً، مرتبطٌ إلى درجةٍ كبيرة بما سيحصل في هذا المؤتمر. وأن يرى البعضُ في هذا الطرح مبالغةً سيكون جزءاً من المشكلة، وتجاهُلاً لحقائق تفرض نفسها على مدى الأعوام القليلة الماضية، ومدخلاً للهروب من استحقاقٍ عربي خطيرٍ وحاسم. من هنا تنبع خطورة التعامل مع التحضيرات اللازمة للمؤتمر، وما سيليه، بدرجةٍ من السلبية واللامبالاة. خاصة كون الحل موجودا. فمنذ شهور، وبعد الإعلان عن النية في عقده، يعمل فريقٌ من الخبراء السوريين على تحضير الوثائق والأوراق المطلوبة لإنجاح المؤتمر. والمفارقة أن المشروع المذكور عُرض على كثيرٍ من أطراف وشخصيات المعارضة السياسية والعسكرية، فضلاً عن قوى المجتمع المدني والمجالس المحلية وغيرها، وأن الانطباع العام لدى تلك الأطراف كان إيجابياً. لكن البطء القاتل في الحركة من ناحية، واستمرار بعض المناورات والمفاوضات المشغولة بالتركيز على قوائم أسماء من سيحضر المؤتمر، يَصرفان كِلاهُما، السوريين عن التركيز على العنصر الحساس المطلوب: الرؤية السياسية ومحددات اختيار المفاوضين والعملية التفاوضية ومرجعيتها. ثمة مداخل للتعامل مع الموضوع، وقد يكون منها ما يجب التفكير به (من خارج الصندوق). لماذا لا تبادر المكاتب السياسية للفصائل، مثلاً، إلى تبني ذلك المشروع؟ نقول هذا لأن درجة تطور الفكر السياسي لديها سريعةٌ ومتفاعلة مع الأحداث، إلى درجة أن منسوب الواقعية لديها باتَ عالياً بشكلٍ يؤهلها لتكون حاملةً لمثل هذا المشروع.وفي جميع الأحوال، لا مفر من تحقيق هدف التحضير المحترف للمؤتمر، أياً كانت الوسيلة، وأياً كان من يبادر لذلك. ولما كان مصير العرب مرتبطاً بما سينتج عنه مسار فيينا، فإن مبادرتهم، من الآن، لوضع القطار على السكة الصحيحة، استثمارٌ استراتيجيٌ رابح.ثمة حكمةٌ تقول: "أنت لا تنال في الحياة ما تستحق، وإنما ما تفاوضُ عليه".. ورغم قسوة المقولة، فإن من الخطورة بمكان أن يغفلها العربُ، والسوريون. وأن ينتظروا من النظام الدولي التكرم بإعطائهم حقوقهم المشروعة، بعيداً عن بذل الجهد المطلوب.

548

| 29 نوفمبر 2015

في «واقعية» الحديث عن الحرب العالمية الثالثة

يربحُ الفُرسان المنتصرون أولاً، ثم يذهبون إلى الحرب، أما المحاربون المهزومون فيذهبون إلى الحرب باحثين عن نصرٍ فيها". هذا ما قاله، منذ قرون، سن تسو Sun Tzu، كاتب (فن الحرب)، الإستراتيجي والجنرال الأكثر شُهرةً في تاريخ الصين. من الواضح أن قادة النظام العالمي الراهن يفتقدون معاني الفروسية، ولا يقرأون التاريخ.يبدو هذا طبيعياً في زمنٍ تتزايد فيه "خفة الوزن" في مواقع تلك القيادة.. ولكن ماذا عن المستشارين والمؤرخين ومراكز الأبحاث والدراسات الإستراتيجية المنتشرة كالفطر، في أوروبا وأمريكا تحديداً؟ ماذا يفعل السادة (الخبراء) في هذه المراكز؟ وبماذا ينصحون من يُفترضُ فيهم أن يكونوا قادةً يصنعون واقع البشرية ومستقبلها؟ بنظرةٍ فاحصة إلى قرارات وممارسات الأكثر تأثيراً من قادة القارتين القديمة والجديدة، يبدو الجواب بائساً ومُفارقاً لكل مقتضيات المنهج العلمي في التفكير، ولكل قوانين الاجتماع البشري.وبنظرةٍ أخرى إلى التاريخ، يبدو هؤلاء في مقعد القيادة لرحلةٍ بشريةٍ راهنة أكثر بؤساً، ليس من المبالغة القول بأنها تأخذ الجميع إلى صدامٍ كبير، ثمة احتمالٌ بأن يتبلور في حربٍ عالمية ثالثة. نشبت الحرب الأولى قبل مائة عامٍ وعام بالضبط من هذه الأيام. بدأت كرد فعل على عمليةٍ إرهابية، اغتال جافريلو برينسيب، طالبٌ صربي، الأرشيدوق فرانز فرديناند، ولي عهد إمبراطورية النمسا-هنجاريا. كان القاتل ينتمي لمنظمةٍ سرية اسمها (اليد السوداء)، تم إنشاؤها من قبل ضباط في الجيش الصربي!.كان هناك توترٌ سياسي وأمني قبل العملية، بين حكومة الإمبراطورية وبين الحكومة الصربية، لخلافات توسعية، وكانت الأولى تتوقُ لمهاجمة مملكة صربيا، لكنها افتقدت ذريعةً للقيام بهذا الأمر. لم يُسمح للتاريخ أن يقول كلمته الواضحة في خفايا الموضوع، لكن المؤكد، من الأحداث والوقائع، أن الحكومة والإمبراطور نفسه، فرانز جوزيف، لم يُظهرا حِداداً حقيقياً على ولي العهد المغدور. ومن المعروف أن الخلافات كانت كبيرةً جداً بين الأخير وبين الإمبراطور قبل عملية الاغتيال..بغض النظر. قررت حكومة النمسا-هنغاريا شن حربٍ، كانت تعتقد أنها ستكون سريعةً وقصيرة، على المملكة الصربية. لكن الأمور خرجت عن السيطرة تدريجياً، وشهدت البشرية حرباً عالميةً طاحنةً استمرت أربعة أعوام قُتل فيها أكثر من 9 ملايين إنسان (مقاتل، وليس هناك إحصاء دقيق للمدنيين الذين قُتلوا)، وجُرحَ فيها أكثر من 20 مليونا، ينتمون لأكثر من 25 دولة في العالم! سُميت الحرب، وقتها، (الحرب العظمى) و(الحرب العالمية) دون كلمة (الأولى)، لأن البشرية ظنت أنها تعلمت الدرس. أما الأمريكان فسموها للمفارقة (الحرب الأوروبية).قرر المنتصرون، بريطانيا وفرنسا وروسيا، معاقبة المهزومين بقسوة، فجاءت معاهدة فرساي التي قررت أن ألمانيا والنمسا-هنغاريا مسؤولة عن الحرب فتم وضع عقوبات اقتصادية وعسكرية شديدة عليها، إضافةً إلى تفكيك أراضيها والحُكم عليها بالعُزلة والحصار، إلى غير ذلك من العقوبات. حصلَ هذا عام 1918م، ولم تمض عشرون عاماً إلا وكانت الحرب العالمية الثانية قد اشتعلت. لماذا اشتعلت الحرب هذه المرة؟ تقرأ في موسوعة التاريخ البريطاني للأطفال السؤال، وتقرأ بعده جواباً (مُختزَلاً) يحصره في ظهور هتلر والنازية. لا يتحدث الجواب عن الملابسات السياسية والاجتماعية والثقافية المُعقدة التي عاشتها أوروبا بشكلٍ عام، وألمانيا تحديداً، على مدى عقدين بعد الحرب العالمية الأولى، والتي خلقتها معاهدة فرساي، وأدت إلى صعود هتلر الصاروخي إلى السلطة. وثمة خوفٌ عامٌ، في الدوائر الثقافية والتعليمية والإعلامية والبحثية الأوروبية والأمريكية، من الحديث في الموضوع لئلا يُفهم على أن هناك أي تبرير لأفعال هتلر، خاصة فيما يخص جرائمه في حق اليهود. لهذا، تقفز التحليلات على الخطر الذي يُشكِّلهُ التعامل مع أي ظاهرةٍ بشرية من خلال وسائل الحصار والعنف والعَزل و(إعلان الحرب) وما إليها، دون النظر في جذور الظاهرة وأسبابها العميقة. كما يحصلُ تماماً هذه الأيام مع ظاهرة (الإرهاب) الذي لا يمكن تبريره ولا التعاطف معه بأي شكلٍ من الأشكال. دون أن يتضاربَ هذا مع ضرورة إدانة كل أشكاله وأصحابه، ولا محاولة فهم أسبابه الأساسية والتعامل معها لمعالجتها بشكلٍ نهائي. وفي إطار قراءة التاريخ، يتم التغافل عن دور الحرب الأهلية الاسبانية، التي اشتعلت عام 1936م، في تحضير أجواء الحرب العالمية الثانية. ولا ينتبه الكثيرون أن تلك الحرب كانت، عملياً، صراعاً إقليمياً ودولياً على النفوذ. والأهم، يجري الحديثُ اليوم عن الوضع في سوريا كأول حربٍ أهلية يوجد فيها مقاتلون خارجيون، ولا تُذكر حقيقة أن أكثر من 32 ألف (متطوع) من أكثر من 55 دولة كانوا مشاركين في الحرب الأهلية الإسبانية! أصبح ونستون تشرشل رئيساً لحكومة بريطانيا خلال الحرب العالمية الثانية. لكن فهم موقفه من الحرب قد يكون أسهل من رسالةٍ، تذكرها السجلات التاريخية، أرسلها خلال الحرب العالمية الأولى، إلى ابنة صديقه، وناقده، السياسي ديفيد لويد جورج، يقول فيها: "أعتقد أن لعنةً يجب أن تُصيبني، لأنني في حالة حبٍ مع الحرب. أنا أعلمُ أنها تمزق حياة الآلاف كل دقيقة. رغم هذا، لا أستطيع التعامل مع حقيقة أنني أستمتعُ بكل ثانيةٍ فيها".بهذه الطريقة في التفكير، وفي غياب قراءة التاريخ وأخلاق الفروسية لدى قادةٍ يتحكمون بمصير العالم اليوم، لن يكون السؤال: "هل نرى حرباً عالميةً ثالثة؟"، أو: "هل نرى حرباً أوروبية عالمثالثية جديدة؟"... بل سيكون: "متى ستحصل؟".

1869

| 22 نوفمبر 2015

إصلاح الواقع العربي

ثمة حقائق في موضوع الإصلاح العربي، في هذه المرحلة، قد يَعرفها البعض، لكن الحديث عنها يَدخلُ في إطار التابو والمحرمات، خاصةً بين المثقفين والمفكرين والكتاب. فملابسات الواقع العربي الراهن، ودرجة تعقيده، خلقت أجواء يشعرون معها أنها لا تسمحُ لهم إلا بـ (الاصطفاف)، ومتطلباته العملية في عطائهم الفكري.وبشكلٍ عام، بات الحديث عن (إصلاحٍ عربي) بالمعنى المألوف غريباً، وموضوعاً تجاوزهُ الزمن لدى كثيرين، لأن الواقع العربي الراهن في نظرهم لم يعد يحتمل، ابتداءً، التعامل معه من هذا المدخل، خاصةً بعد انفجار (الربيع العربي) وثوراته. يرى هؤلاء أن الواقع العربي، خاصةً على صعيد الحكومات والدول، أصبح واقعَ محاور واستقطاب سياسي وأمني واقتصادي حاد ونهائي. وأن العرب الآن محكومون بالضرورة بصراعٍ متعدد المستويات والمسارات، لايمكن أن تكون نتيجته إلا على طريقة (غالب أو مغلوب).هذا منطقٌ يحيل إلى مآلٍ واحد: انهيارٍ عربيٍ عامٍ وشامل لا يمانع في حصوله النظام الدولي، كي لا نتكلم عن دوره في الدفعِ إليه وتحقيقه. فضلاً عما في ذلك المنطق من فقرٍ قاتل في الفكر السياسي، وإفلاسٍ في حقل الإبداع المتعلق بذلك الفكر، واستلابٍ كاملٍ للواقع يجعل ردودَ الأفعال مُنطلقَ السياسة العربية هذه الأيام، ولو حصل هذا بلبوسٍ كاذب من اعتقاد البعض بأنهم، على العكس، ينطلقون من المبادرة والفعل.وكما ذكرنا سابقاً: ليس مهماً هنا وصفُ ما حدثَ خلال السنوات الماضية بـ (الربيع العربي) أو غير ذلك. لا يُغير في الأمر شيئاً رفضُ تسمية (الثورات) من قبل البعض، والإصرارُ عليها من قبل البعض الآخر. فهذه تقسيماتٌ في ذهننا وحدَنا كعرب، وليست سوى عنصرٍ (جانبي) و(إعلامي) في تعامل النظام الدولي مع المنطقة. والتفكيرُ بتلك الطريقة أقرب لما يكون بـ (تفكيرٍ رغائبي) لاعلاقة له بحقيقة المشهد وحساباته.حَصلت الثورات العربية لأسباب تاريخية، ثقافية واقتصادية وسياسية، في غاية المنطقية، وبتأثيرٍ تغييرات عالمية هائلة تمتد من ثورة المعلومات والاتصالات ولا تنتهي بممارسات النظام الدولي المتعلقة بالمنطقة. وهذا كله يحتاج لجهدٍ بحثي وعلمي مؤسسي وفردي متطاول، يهدف لفهم الظاهرة، لم يتم حتى الآن في العالم العربي.بغض النظر عن ذلك الآن، ما يهمنا هو أن ما جرى سَحَبَ الواقع العربي، بأسره، تدريجياً إلى ماهو عليه اليوم. واقعٌ يَظهرُ، إذا استسلمنا له، أنه محكومٌ فعلاً بالمحاور والاستقطاب السياسي والأمني والاقتصادي الحاد والنهائي. وأن أطرافه، الدول والحكومات تحديداً، محكومةٌ بالضرورة بصراعٍ متعدد المستويات والمسارات، لا يمكن أن تكون نتيجته إلا على طريقة (غالب أو مغلوب).لكن السؤال الذي يجب أن يكون مطروحاً بقوة، وتحديداً من قبل تلك الدول والحكومات: هل هذا حقاً قدرٌ بات أشبهَ بلعنةٍ لم يعد ممكناً الخلاصُ منها إلا بالانتحار؟ نذكر الانتحار نتيجةً وحيدةً هنا لأن من الواضح استحالة حسم ذلك الاستقطاب، والصراع المترتب عليه، بطريقة غالبٍ أو مغلوب. وإذا بقي الاعتقاد بتلك المقولة قائماً، فإننا أمام معادلةٍ صفرية لن تكون نتيجتها سوى الفوضى الشاملة والطويلة في العالم العربي، ولانستخدمُ هنا كلمة (فناء) العالم العربي تجنباً لشبهة وجود مبالغةٍ دراميةٍ في التحليل.عودةً إلى السياسة بِكَونها (فن الممكن). ثمة واقعُ راهنٌ يَعتقد أنه ينطلق منها. وهناك جملة حقائق في مسار هذا الواقع يجب الحديث فيها بصراحةٍ وشفافية، من أهمها محاولات (تغطية) الواقع الذي نتحدث عنه بأساليب دبلوماسية. لكن هذا، فضلاً عن أنه لايحل المشكلة، فإنه يَحمِلُ في طياته أيضاً تناقضات بنيوية، إعلامية وسياسية وأمنية، تُوسعُ دوائر الحساسيات وفقدان الثقة، وتصيب شعوب المنطقة بفوضى فكرية، بل إنها تصبح مجالاً للتندر في أوساطها، بشكلٍ يخصم من المصداقية والمشروعية السياسية للأنظمة جميعاً.أما في نظرةٍ للسياسة بكونها إبداعاً في (فن الممكن)، فثمة أفقٌ يجب التفكير والحوار فيه، يتعلق بكمونٍ فيها على صعيد الوسائل والرؤية يتجاوز ذلك الواقع المُحاصرَ البائس.يقع هذا أولاً على عاتق من يحمل هم الواقع العربي بجديةٍ أكثر.. ومن يتميز بوعيٍ سياسيٍ أكبر.. ومن امتلك خبرةً في الإبداع السياسي والمرونة والتفكير خارج الصندوق تتجاوزُ الكثيرين.. ومن يحمل هذه الصفات يعرف نفسه.وإلى دور هؤلاء الأساسي الذي لاحاجة لتفصيلٍ فيه، يبقى دور المثقف العربي الذي ذكرنا أعلاه أن ملابسات الواقع العربي الراهن، ودرجة تعقيده، خلقت أجواء يشعر معها أنها لاتسمحُ له إلا بـ (الاصطفاف). هذا عاملٌ يؤكد تدريجياً تحول المثقف والمفكر العربي إلى جزءٍ من المشكلة بدل أن يكون جزءاً من الحل، والأرجح أن يبقى هذا حال شريحةٍ كبيرة من هؤلاء وخيارهم، سواء رأوا نفسهم هنا أو هناك.لكن جدية الموقف يمكن أن تدفع بعضهم، على الأقل، لمراجعة مواقفهم وعطائهم، بحيث يعودوا، من خلال فكرهم، إلى مواقعهم المُفترضة: قيادةً للواقع، ترفض الاستسهال الفكري والعملي، وتأبى الاستسلام لمعطياته وضغوطه بدعوى (الواقعية).

562

| 15 نوفمبر 2015

سوريا مرتكز الأمن القومي العربي المهدد

ثمة سؤالٌ كبير جداً آن للعرب التفكير فيه بجدية: مَن في هذا العالم يُهمهُ حقاً مصيرهم، شعوباً وحكومات؟ بمعنى، هل هناك قوةٌ إقليمية أو عالمية تُمانعُ، ولو من باب المصالح، ليس فقط في استمرار الفوضى الراهنة في العالم العربي، بل في تصاعدها إلى أقصى حدٍ ممكن؟ مع كل ما يمكن أن يصاحب ذلك من (تغييرات) في الخرائط والأنظمة والتركيبات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية في أقطار العرب.لا يمكن تصور خطورة السؤال دون إدراك حجم وطبيعة الانقلاب الذي حدث في رؤية النظام العالمي للمنطقة العربية في السنوات الخمسة الأخيرة، بعد تلك اللحظة التي أشعل فيها شابٌ تونسي النار في نفسه.ليس مهماً هنا وصفُ ما حدثَ بعدها بـ (الربيع العربي) أو غير ذلك. لايُغير في الأمر شيئاً رفضُ تسمية (الثورات) من قبل البعض، والإصرارُ عليها من قبل البعض الآخر. فهذه تقسيماتٌ في ذهننا وحدَنا، وليست سوى عنصرٍ (جانبي) و(إعلامي) في تعامل النظام الدولي مع المنطقة. والتفكيرُ بتلك الطريقة أقرب لما يكون بـ (تفكيرٍ رغائبي) لاعلاقة له بحقيقة المشهد وحساباته.ما حصلَ حصل. ولم يطل الوقتُ حتى أدركت أطراف عديدة في النظامين الإقليمي والدولي أن الحدثَ أدخل العالم العربي كلياً في حقبةٍ جديدة. وبغض النظر عما يمكن أن تحملهُ هذه الحقبة للعرب أنفسهم، كان ما يهم تلك الأطراف، ولايزال، هو ما تحملهُ من (مخاطر) أو (فُرص)، غير مسبوقة، عليها و/أو لها.واقعُ الأمر أن العالم العربي، بأسره، لم يكن (مكشوفاً) في أي مرحلةٍ سابقة كما باتَ عليه الحال في الفترة الأخيرة. ضروريٌ هنا، لفهم الظاهرة، التأكيد، مرةً أخرى، أن العالم الخارجي لايتعامل، إستراتيجياً، مع مكونات العالم العربي، (دُوَلهِ تحديداً)، بناءً على مواقف هذه الأخيرة مع أو ضد وَصفِ الربيع أو تسمية الثورات.فسواء أعجَبَنَا، كعرب، هذا الوضع أم لا، هناك اعتقادٌ راسخ في دوائر الدراسات الإستراتيجية وصناعة القرار أن العاصفة، بكل مكوناتها ونتائجها، تَهبﱠ في هذه المنطقة من العالم الذي يُكوﱢنُ، تاريخياً وثقافياً وجغرافياً واجتماعياً، كُتلةً واحدة. وأن تأثير المتغيرات التي تحملُها، العاصفةُ إياها، بالغُ العمق والتعقيد والتداخل بحيث لا يمكن، إستراتيجياً، عزلُ جزءٍ منها عن الآخر، اللهم إلا عند الحاجة لسياسات وتصريحات تكتيكية قصيرة المدى، وبأهداف (دبلوماسية) و(اقتصادية)..خلاصة القول في هذا المجال إن الأمن القومي العربي لم يكن متداخلاً من قبل كما هو عليه الحال اليوم.. وأكثرُ من ذلك، لم يكن الأمن المذكور مُهدداً، من قَبل، بهذه الخطورة.. وقبل الإجابة عن سؤال: ما العمل؟ يمكن التذكير بحقائق أخرى، إضافةً إلى ماسبق، كمؤشرات على هذا الموقف.ففي مسألة الطاقة التي تُعتبر عنصراً رئيساً في رؤية العالم للمنطقة، وسياساته بخصوصها، ثمة حساباتٌ جديدةٌ كلياً تعتمد على اكتشاف احتياطيات من البترول والغاز في أماكن مختلفة من باكستان إلى بحر الشمال ومن الكونغو إلى رومانيا، مروراً بكل من تنزانيا وكينيا والهند والفليبين وتركمانستان و"إسرائيل" وغيرها، هذا فضلاً عن استمرار الاكتشافات في البلدان المعروفة كأمريكا وروسيا والمكسيك. ما من شكٍ أن البترول والغاز في العالم العربي سيظلان عنصراً أساسياً في الحسابات، لكن الصورة العامة للموضوع تمثل عاملاً أساسياً في زحزحة الاهتمام الكامل السابق بأمن المنطقة واستقرارها لدى النظام الدولي.وفي عالمٍ يتمحور حول لغة المصالح، يبدو المشهدُ التالي بؤرةَ اهتمامه ومرتكزَ صناعة سياساته: منطقةٌ تتصاعد فيها العواصف من ناحية، وتقل أهميتها الاقتصادية من ناحية ثانية، وتبدو طامحةً للعب دورٍ إقليمي يُحقق مصالحها أكثرَ من ذي قبل من جهةٍ ثالثة.لايكفي هذا المشهد، على أهميته، لإعلان الزهد في المنطقة.. المطلوب إذاً معادلةٌ جديدة تؤمِّنُ ما تبقى من مصالح، دون اضطرارٍ لأي نوعٍ من توريط النفس فيها.هنا تحديداً يأتي دورُ الروس والإيرانيين.يقول المثل السوري إن الطباخ الماهر "لا يُزفِّر يديه" إذا كان هناك من يمكن له القيامُ بهذه المهمة.. وهذا ما يفعله بوتين وآياتُ طهران بالضبط. لمزيدٍ من التوضيح: لا يعني التحليل أن روسيا وإيران تقومان بالمهمة لـ "زرقة عيون" الآخرين. على العكس تماماً. كل ما في الأمر أن ثمة نقطة التقاء مصالح تاريخية يعمل الطرفان بدأب على أن تُحقق المعادلة المشهورة بالإنجليزية win win situation، بمعنى فوزهما سوياً بالغنيمة.

381

| 08 نوفمبر 2015

حوار عن «المشكلة والحل في أزمة العالم العربي» مع فهمي هويدي

منتصفَ الأسبوع الماضي، نشر الأستاذ فهمي هويدي في هذه الصفحة مقالاً بالعنوان المُتضمن في عنوان هذا المقال.والحقيقة أن القارئ العربي، بشكلٍ عام، والمصري تحديداً، استفاد من كتاباته المتوازنة والمنهجية على مدى عقود، ولايزال يستفيد، بحيث أصبح الرجل من رموز الكتابة الصحفية العربية (النادرة)، التي تحاول الجمع بين شمول الاطلاع وموضوعية التحليل وسلاسة الكتابة. الأمر الذي جعل عطاءه بمثابة مدرسةٍ في الصحافة العربية استفاد منها كثيرون، منهم كاتب هذه الكلمات.وتأتي الملاحظات التالية حول مقاله المذكور، على سبيل الوفاء لمنهجية الموضوعية والحرص على فهم قضايانا الحساسة من زوايا مختلفة، لتقديم قراءةٍ للظواهر تُساعد القارئ العربي على فهمها بشكلٍ أعمق، والتعامل معها بفعاليةٍ أكبر.ففي جملة مقال هويدي الأخيرة، نجد حمولةً من (المُصادرات) الكامنة فيها، تنطوي على قضايا ثقافية وحضارية وتاريخية. وإذ نشكﱡ بأن الكاتب قَصدَ تلك المصادرات بشكلٍ مباشر، لكن معناها ودلالالتها تؤثر في القراء، وفي منهجية الموضوع نفسه، بشكلٍ لا يسمحُ بتجاوزها والقفز فوقها، بغض النظر عن النيات.فبعد التأكيد على رغبته بعدم التقليل "من دور أحد"، والحديث عن عوامل جغرافيا وتاريخ "فرضت على مصر موقعاً مارست من خلاله القيادة حين وفت باشتراطاتها"، يقول إن "المقعد ظل شاغرا ولم يستطع أحد ملأه طوال العقود الأربعة الماضية"، ليُصدر بعد ذلك الحكم الحاسم "بأن مصر هي المشكلة وهي الحل"..نَذكرُ هنا أن باحثي العلوم الاجتماعية يُحذرون دوماً من النظر، علمياً، إلى متغيرٍ واحد بحيث يتم الاعتقاد أنه (العنصر) الذي يفسر أي ظاهرة في الحياة الإنسانية. من هنا، نعتقد أن المقولة الأنسب، والأكثر موضوعيةً في مثل هذا المقام هي الحديثُ عن مصر بوصفها "جزءاً من المشكلة وجزءاً من الحل". فتاريخ مصر مع العرب وتاريخهم معها، فضلاً عن استقراء المتغيرات الكبرى الثقافية والاقتصادية والاجتماعية في العالم العربي خلال العقود الثلاثة الماضية على الأقل، تؤكدُ مُجتمِعةً، حقيقة هذا الوصف الأخير.والعودة إلى فقرات مقال الكاتب تساعدنا على الشرح والتفصيل. فهو يطرح نظريته التي تضع اتفاقية السلام التي وقعتها مصر مع إسرائيل عام 1979م في نفس خانة اتفاقية الروس والعثمانيين عام 1774م، ويستخلص أنه، كما كانت الأولى سبب تدهور، ثم انهيار، الدولة العثمانية، "فإن أي تحقيق تاريخي نزيه سيجد في اتفاقية السلام التي وقعت مع إسرائيل مؤشرا على بدايات الانهيار في العالم العربي" كما يقول.لا يتسع المقام لكثيرٍ من التفصيل المطلوب، لكننا سنحاول البحث في التاريخ أولاً، ثم في متغيرات الواقع العربي، عن شواهد تدعم رؤيتنا بأن القضية تتجاوز حصر "مشكلة" العالم العربي في مصر ودورها، كما هو "الحل" أيضاً. دون أن ينتقص هذا من دور مصر الكبير بطبيعة الحال.فمن (نكبة) عام 1948م التي حصلت بوجود الجيش المصري إلى (نكسة) حزيران، عام 1967م، التي ربما أمكن اعتبارها هزةً حضاريةً حقيقيةً للعالم العربي بأسره، يعرف العرب أبطالها، وصولاً لـ (انتصار أكتوبر).. نلمحُ أشياء أخرى كثيرة حصلت، لمصرَ دورٌ رئيسٌ فيها، قبل عام المعاهدة المذكورة.ثمة هنا مشهدٌ تاريخي طويل يتجاوز ما حصلَ في ذلك العام، ويُوضحُ كيف كانت مصر قبله أيضاً "جزءاً من المشكلة"، وليست "المشكلة". ولكن، تأتي، في المشهد نفسه، إسهاماتُ المصريين في مجالات الثقافة والتعليم والأدب والفن والمعرفة والإدارة والقانون داخل مصر وخارجها، ويأتي دور الأفكار التي انتشرت في العالم العربي انطلاقاً من مصر، مع معلميها وأطبائها وخبرائها في كل مجال، لتُظهر كيف كانت مصر "جزءاً من الحل".بالمقابل، يمكن بشيءٍ من المتابعة والتحليل للتغيرات التي حصلت في باقي أنحاء العالم العربي في العقود الثلاثة الأخيرة، كما هو الحال في دول الخليج العربي مثلاً، أن تلقي مزيداً من الضوء على معادلة المشكلة والحل. فالدول المذكورة لا تمثل "المدينة الفاضلة" طبعاً، كما هو الحال أيضاً مع مصر وكل بلدٍ آخر من اليابان إلى أمريكا. وثمة قضايا كثيرة تحتاج إلى مراجعةٍ وتطوير وتجاوز فيها. لكن من الإجحاف إغفال دورها كـ "جزءٍ من الحل" في كثيرٍ من المجالات، خاصةً حين يكون الحديث في سياقه الحضاري، وتكون وحدتهُ الزمنية بِعُمر الأجيال، لا ببضع سنوات.ثمة، مثلاً، أكثر من عشرة ملايين عربي يعملون في دول الخليج، وتحويلات هؤلاء تشكل عائداً أساسياً في ميزانية دول كثيرة. هذا في حقل الاقتصاد، ويعرف الجميع معانيه حتى دون تخصص في ذلك الحقل.ورغم كل التحديات والسلبيات الممكنة دائماً، يُحسب للدول المذكورة الريادة في دخول العرب عالمَ تقنيات الاتصال والإعلام الحديث التي شكَّلت، ولاتزال وستبقى، جذور ثورةٍ كبرى في الواقع العربي الراكد. تبرز هنا قناة (الجزيرة) مثالاً، فضلاً عن كون شعوب الخليج والمقيمين فيها من أكثر سكان العالم تعاملاً مع الإنترنت نسبةً لأعداد السكان.أما النموذج القيادي في المرونة الإدارية والتطور العمراني والانفتاح على الثقافات واستيعابها، كما هو الحال في مدينة دبي مثلاً، فأمرٌ بات معروفاً، حتى في ظل الحاجة، مرةً أخرى، إلى استكماله وتطويره ثقافياً واجتماعياً.وأخيراً، تبدو قيادة هذه الدول سياسياً، في هذه المرحلة، للعالم العربي حقيقةً لاتحتاج لتوضيح. ولو كان لدى البعض تجاهَها ملاحظاتٌ، من التأكيد أن مثلها كان موجوداً لدور مصر القيادي للعالم العربي قبل عام 1979 وبعده.زبدةُ الكلام أن "المشكلة" في العالم العربي أعمق وأكبرُ بكثير من أن تُحصر في دولةٍ أياً كانت. فنحن كعرب، من المحيط إلى الخليج، نعاني جملة أزمات، أساسها ثقافي وفكري بالدرجة الأولى. وإذ يطول الحديث فيها، فإن مما يكفي هنا القولُ بأن "الحل" هو أيضاً أكبرُ من أي دولة، وأكثر شمولاً من أن يُحصر فيها.وبدون قصد، ربما يصبح التركيز على ذلك (العنصر التفسيري) الوحيد مدعاةً لاستقالة الكثيرين من واجبهم، انتظاراً لعودة (البطل) إلى الساحة، مادام كل حلٍ في غيابه (ناقصاً)، كي لا نقول (عبثياً).. هذا فضلاً عن مناقضة هذا المنهج في التفسير التاريخي / الحضاري لمقتضيات منطق عملية بناء الدول والحضارات، وصيروتها المُعقدة. منذ ثماني سنوات كتبتُ مقالاً بعنوان "مصرُ التي نحب" قلتُ في مطلعه: "كما هي الخيلُ معقودٌ في نواصيها الخير إلى يوم القيامة، تبقى مصرُ التي نحبّ عرباً ومسلمين".. وبَعدها بعام، كتبتُ مقالاً آخر بعنوان "أين مصر؟" تساءلتُ فيه عن غيابها، قائلاً في السياق: "إن الغياب المذكور يؤدي إلى اختلال خطير في موازين القوى بين العرب وغيرهم من القوى الإقليمية والعالمية.. وهو اختلال لا يقتصر على الجانب السياسي وإنما يشمل أيضاً الجوانب الاقتصادية والثقافية والاجتماعية، لسببٍ بسيط هو أن دور مصر في جميع تلك المجالات كان أساسياً في الماضي على الدوام، ويجب أن يبقى أساسياً في الحاضر والمستقبل".وهذا الاستحضار قد يكون، في النهاية، مشروعاً لوضع الأمور في سياقها المتوازن، نفسياً وفكرياً وعملياً، إذا كنا نبحثُ جميعاً، بشجاعةٍ وشفافيةٍ وموضوعية، عما يُصلح واقعنا العربي الراهن بشكلٍ جذريٍ وشامل. والأفضلُ أن يحصل هذا بعيداً عن الآمال والأمنيات في انتظار (بطل)، قائداً كان أو حزباً أو دولةً أو شيئاً (واحداً) أياً كان.. ففي حين يصبح الخروج من النفق الراهن ممكناً جداً برؤيةٍ شمولية لطبيعة المشكلة، وإبصارِ مداخل حَلِّها تالياً، سيكون ذلك الانتظار مثل انتظار (غودو) الذي قد لايأتي في نهاية المطاف...

487

| 01 نوفمبر 2015

المشهد الأخير في دراما الأسد

بغض النظر عن كل التفاصيل فيما يخص علاقة بشار الأسد بسوريا، ثمة حقيقتان يبدو الإجماع عليهما نهائياً منذ زمن. أن دوره انتهى في هذا البلد سياسياً وشخصياً، وأن باب الخروج بعد إسدال الستار على حقبته سيكون من جهة روسيا.لا يُغيرُ شيئاً في الحقيقة الأولى ما يُطرح من إمكان بقائه بضعة أشهر خلال مرحلةٍ انتقالية، وتأتي زيارتهُ العتيدة إلى موسكو، بإخراجها المتعدد الرسائل، لتؤكد الحقيقة الثانية.فلسانُ الحال أصدقُ من لسان المقال كما قالت العرب يوماً. ورغم تصريحات روسيا، أثناء زيارة الأسد وبعدها، إلا أن ظروف الزيارة نفسها، بكل ملابساتها وإشاراتها الرمزية، كانت تصب في مسار الحراك السياسي الإقليمي والدولي الحثيث لإيجاد بديل له.بشكلٍ محدد، بعد قرابة خمس سنوات من قرار (اللا قرار) الذي كان يحكم الموقف الدولي تجاه ثورة الشعب السوري، يبدو أن المشكلات التي نتجت عن ذلك (اللا قرار) تفاقمت لدى الجميع بحيث وصلنا إلى مرحلةٍ لا مفر فيها من وجود قرار.ولكن، لا داعي للأوهام هنا، فهذه مرحلةُ (كسر عظم) صعبة تسبق الوصول إلى القرار. والأرجح فيما يخص اجتماع فيينا (المقالُ كُتب قبل حصوله) أن يكون محاولةً روسية لاستثمار وجودها العسكري في سوريا وإثباتِها السيطرة على الأسد عبر (استدعائه) بذلك الشكل المُهين، وهي عمليةٌ لاتمانعُ فيها أمريكا أوباما.من هنا يبدو التركيز ضرورياً، أولاً وأخيراً، على ثبات الموقف العربي الداعم للشعب السوري.. فالأغلب أن القراءة السعودية قريبةٌ من الرؤية أعلاه، وهو ما يُفسر تصريحات وزير الخارجية السعودي الواضحة للصحفيين في فيينا، التي أكد فيها أن التدخل الروسي في سورية خطيرٌ جداً "لأنه يؤجج الصراع"، مؤكداً بعد ذلك أن الجانب السعودي قال هذا للروس بوضوح. ليُعبر بعدها عن مخاوفه من أن يلهب ذلك المشاعر في العالم الإسلامي، ويزيد من تدفق المقاتلين على سوريا، في رسالة واضحة لروسيا التي لاتزال تحاول استهلاك ورقة (الإرهاب) بشكلٍ مُبتذل.لكن الرسالة الأكثر وضوحاً جاءت حين سُئل الجبير عما إذا كان بإمكان الأسد أن يلعب دوراً في أي حكومة موقتة، وذلك حين قال إن دوره سيكون الخروج من سوريا، مشيراً إلى أن أفضل سيناريو يمكن أن يحدث هو الاستيقاظ صباحاً والأسد غير موجود في سوريا. بهذا الحسم والشفافية تقود السعودية موقف العرب الداعمين للشعب السوري في هذه المرحلة الحساسة جداً.بهذه الدرجة من الحسم والشفافية تقود السعودية موقف العرب الداعمين للشعب السوري في هذه المرحلة الحساسة جداً. وتفعلُ هذا بإصرارٍ كبير لأنها تدرك أن ملابسات اللحظة لا تسمح بأي تردد أو خفضٍ للسقف يمكن أن تلتقطه الأطراف الأخرى، فتحاولَ بالتالي ممارسة عمليات خلط الأوراق ونشر البلبلة، لبدء العملية السياسية من سقفٍ منخفض.. وهذا ما يبدو واضحاً أنها تفعلهُ بمهارة قبل لقاء فيينا، وبحسابات دقيقة.في هذا الإطار، يبدو الموقف القطري منسجماً مع الرؤية نفسها. فحين سألت قناة "سي إن إن" وزير الخارجية القطري عما إذا كانت بلاده تؤيد موقف السعودية الذي لا يستبعد الخيار العسكري في سوريا نتيجة لتدخل روسيا، قال الوزير بكل وضوح: "أي شيء سيؤدي إلى حماية الشعب السوري ويحمي سوريا من الانقسام لن نألوا جهداً للقيام به مع إخوتنا السعوديين والأتراك مهما كان هذا الشيء". مضيفاً، لمزيدٍ من التفصيل، قوله: "إذا كان التدخل العسكري سيحمي الشعب السوري من وحشية النظام السوري فبالطبع سنقوم به".. وأخيراً، لوضع الأمور في نصابها ختمَ بقوله: "لا نخشى أي مواجهة ولهذا سندعو للحوار من موقع القوة، لأننا نؤمن بالسلام والطريق الأقصر للسلام يكون بالحوار المباشر".وفي نفس المسار، يأتي الموقف التركي الرافض، حسب رئيس الوزراء التركي "لأي مرحلة انتقالية لحل الأزمة التي تشهدها سوريا تفضي ببقاء الأسد في السلطة"، وذلك في تصريحات أدلى بها رئيس الحكومة التركية لوسائل إعلامية محلية.لاشك، من باب الواقعية، أن الموقف الأمريكي هامٌ وأساسي. لهذا، يكون جيداً أن يتحدث وزير الخارجية كيري عن اتفاق دول اجتماع فيينا على "مبادئ مشتركة" حول مستقبل سوريا، ثم يؤكد قائلاً: "لكنّ أمامنا شخصاً يجب إزاحته بسرعة، هذا الشخص هو بشار الأسد".من المُعبِّر أن كل التصريحات المذكورة أعلاه، وما صاحبها من حراكٍ سياسيٍ ودبلوماسي مُعلنٍ وخفي، حصل خلال أيام قبل طباعة هذا المقال الذي كتب يوم الجمعة قبل لقاءات جنيف. وبغض النظر عما سيتمخض عنها، إلا أن الأرجح أن عبارة كيري قد تكون دليلاً آخر على الوصول لمرحلة (قرارٍ) سيُتخذ خلال اللقاءات المذكورة أو بعده بزمنٍ لن يطول. رغم أننا اعتدنا سماع مثل هذه التصريحات إلى درجةٍ مُبتذلة.من هنا، يكون السؤال الجوهري في الموضوع: بالنسبة لنا كعربٍ وكسوريين، ما هو دورنا وما هي أدواتنا في التأثير على طبيعة القرار بحيث يصب في مصلحتنا؟ لا شك أن عاملاً أساسياً جداً يكمنُ في الموقفَ العربي المذكور أعلاه. ولئن كان هذا الموقف ينبثق من إدراك أهمية سوريا المستقبل في استقرار المنطقة وصد الهجمة الإيرانية عليها، فوق تعاطفه مع الشعب السوري، فإن على السوريين، ممثلين في معارضتهم السياسية والعسكرية، الارتقاء إلى مستوى جدية الموقف الإستراتيجي الراهن، دون ترددٍ لم يعد لائقاً ولا مفهوماً، قد يكون هذه الأيام عنصرَ الإرباك الأكبر في عملية إنهاء المشهد الأخير من دراما الأسد.ثمة (طفولةٌ) سياسية، ليس لها مكانٌ اليوم، في تكرار (لازمةٍ) تنوحُ وتشتكي من "خروج الموضوع من يد السوريين". لا ننفي صوابيةً مُعينة في مضمون هذه العبارة.. لكن المشكلة تكمن في أنها باتت، بتفكيرٍ سياسيٍ محترفٍ معاصر، من (لزومِ ما لايلزم)، أو في أحسن الأحوال كلمة حقٍ يُرادُ بها الباطل، لدى البعض على الأقل.فالوقوف عندها لتبرير العجز الكامل قصورٌ في فهم معنى الثورة السورية بمعناها الكبير ابتداءً، وغفلةٌ عن أهمية وحساسية الجغرافيا السياسية / (الجيوبوليتيكس)/ السورية بالنسبة للنظامين الإقليمي والعالمي كليهما.. والذي يَنظرُ للموضوع، ويُنظﱢرُ له، من هذا المدخل لا مكان له في عالم السياسة، بغض النظر عن نواياه وعواطفه.فيما عدا ذلك، يمكن بالتأكيد للسوريين أن يكون لهم دورهم، ودورهم المؤثر. وإذا تعلم بعضهم حقاً من دروس السنوات الماضية وتجاربها، وامتلك شيئاً من الإبداع السياسي والتفكير الخلاق، يمكن لأمثال هؤلاء أن يكونوا جزءاً من الحل بدل أن يبقوا جزءاً من المشكلة، وسبباً لتأخير الحسم في اتخاذ القرار وتنفيذه.

492

| 25 أكتوبر 2015

النظام السياسي العربي.. دعوةٌ للواقعية

حرصاً على وطنٍ عربي قَدَرهُ وحدةُ المصير. وحرصاً على مكوناته التي يتأثر أحدُها بالآخر، بِحُكمِ التاريخ والجغرافيا، والثقافة واللغة والهوية، والتركيبة السكانية، والتحديات المشتركة، وألف عاملٍ وعاملٍ آخر. وحرصاً على استقرارٍ تُهدده الفوضى، وعلى استمرارٍ لا يتحقق بإنكار الحقائق وتجاهلها، وعلى بناءٍ تعب البعض، على الأقل، في إقامته وتطويره.حرصاً على كل ذلك، آن الأوان لأطراف النظام السياسي العربي أن تكون واقعية. آن لها أن تدرك أن العالم من حولها تغيّر إلى غير رجعة. وأن ما كان يصلح بالأمس لم يعد يصلح لليوم والغد.لم يعد ممكناً ممارسة السياسة بعقلية إدارة الأزمات. سياسيةً كانت أو اقتصادية، طائفيةً أو اجتماعية، ثقافيةً أو مناخية. لاينفعُ هذا خاصةً في زمن الأزمات. لا تنفع مع الوقائع الجديدة الوعود والتصريحات، ولا اللجان والمؤتمرات، ولا المخططات الورقية والأرقام الكبيرة والدعاية المبرمجة والقوانين النظرية.تغيّرت الظروف الثقافية والاجتماعية والديمغرافية داخل الوطن العربي الكبير بشكلٍ جذري، وتحديداً خلال السنوات الخمس الماضية. أصبح ثوب التفكير السياسي السائد صغيراً، وصغيراً جداً على جسد الواقع العربي المتضخم من كل ناحية. وإذا لم يوجد ثوبٌ أوسع يستوعب هذا الجسد فإن الثوب الحالي سيتمزق لا محالة. ليس الأمرُ أمرَ تفاؤلٍ أو تشاؤم، ولا علاقة للأدبيات اللفظية بالموضوع، وإنما هي قوانينُ وسنن اجتماعية تسري على الجميع، لاتحابي أحداً، ولا يمكن التعامل معها بالواسطة للهروب من مقتضياتها الملحّة.تغيرت أيضاً معادلات العلاقات الدولية، خاصةً فيما يتعلق بهذه المنطقة في العالم. المفارقة أن هذا باتَ حقيقةً يعرفُها الصغير والكبير، لكن منطق التعامل معها يبدو مشوشاً إلى حدٍ كبير. ففي حين كان ثمة في الماضي بعض الخطوط الحمراء وبعض الثوابت، لم يعد ممكناً اليوم أن تثق بأي خطٍ أحمر. والثوابت الوحيدة الباقية هي المصالح الدولية التي صار يمكن تحقيقها عبر بدائل عديدة.. ومع التطورات الإقليمية المعقدة، واتساع دائرة اللاعبين وتنوعهم، صارت التحالفات والاتفاقيات والتعهدات لا تساوي حبر الورق الذي تُكتب عليه.لابدّ إذاً من واقعيةٍ سياسية جديدة وحقيقية. وهي مطلوبةٌ هذه المرة من أطراف النظام السياسي العربي تحديداً. وعلى الأقل من تلك التي لاتزال فاعلةً فيه.فعلى مرّ العقود السابقة، كان المواطن العربي هو المُطالبُ دائماً بأن يكون (واقعياً).طُولب العربي بالواقعية منذ رحيل استعمارٍ خارجي ترك أحوالاً اقتصادية صعبة وتجزئة سياسية معقدة، لم يكن (واقعياً) معها الحديثُ عن قفزةٍ مفاجئة في إقامة النهضة، أو في تحقيق الوحدة العربية.ثم طُولب بها عندما ظهرت القضية الفلسطينية. فكان (واقعياً) أن تُعطى الأولويةُ للمواجهة، ويتم تأجيل عمليات التنمية، أو إبطاؤها في أقل الأحوال.وحين تبين أن ميزان القوة الدولي ليس لصالح العرب، أصبحت الواقعية تفرض القبول بالسلام وإلغاء الحديث عن حربٍ أو صراع. لكن العرب وجدوا أنفسهم محاطين بأنظمة إقليمية تملك مشاريع هيمنة وتوسع على حسابهم. فبات (واقعياً) أن ينصرف الاهتمام إلى تلك التحديات.وفوق ذلك، جاءت مغامرات بعض أطراف النظام العربي لتزيد الموقف تعقيداً منذ أن قام نظام صدام حسين بغزو الكويت، فانقسم البيت العربي وأصبح من (الواقعي) أن تنصرف الجهود لإصلاحه.ثم فاجأت ظواهر العنف والإرهاب والتطرف المجتمع العربي، فصار من (الواقعية) أن تكون الأولوية لمواجهة هذا التحدي الداخلي الكبير.وفي كل مرحلةٍ من تلك المراحل، كان يُطلب من المواطن العربي، بشكلٍ مباشر أو غير مباشر، أن يكون واقعياً، وأن يكون صَبوراً، وأن يكون عاقلاً، وأن يكون منطقياً، وأن يكون متفهماً، وأن يُدرك ضرورة التدرج والمرحلية في كل ما يتعلق بواقعه وعلى جميع المستويات.ويبدو باستقراء جميع المؤشرات أن المواطن المذكور قام بواجبه خير قيام. فقد انخفض سقف توقعاته إلى درجةٍ تكاد لا تُصدّق في العالم الخارجي. وتضاءلت طموحاته وأمانيه بشكلٍ ربما يستحيل وصفه.لكن هذا المواطن انفجر في النهاية بشكلٍ باتَ معروفاً للجميع، فوصل الواقع العربي إلى حاله الراهن، وصار حجم التناقضات فيه أمراً يصعب أن تحتمله المعادلات السائدة في كل مجال.لم تفهم التركيبة السياسية التقليدية للنظام العربي طبيعة الواقعية التي قَبلها المواطن العربي، ولم تدرك حجم التضحيات التي قدّمها على مذبح تلك الواقعية، وإلى أي حدٍ أصبح سقف الواقع نفسه هشاً بسبب ذلك. فصارت تضغطُ وتضغط على ذلك السقف من كل جانب.ظنّت تلك التركيبة أن هذا هو الوضع الطبيعي، ولم تعرف أنه صار شيئاً فشيئاً استثناءً على كل القواعد التي تعارفت عليها البشرية وخروجاً عليها، فجاءت لحظةٌ أصبح فيها الضغط المستمر والمتنوع هو الأمر الطبيعي. بل وطغى أحياناً شعورٌ بأن إلغاء ذلك الضغط، أو حتى تخفيف حدّته، أمرٌ يخالف طبيعة إنسان المنطقة. وأن مثل هذه الممارسة هي التي ستكون المدخل إلى الفوضى. المفارقةُ / الفاجعة أن هناك من يؤمنُ بتلك القاعدة إلى الآن.هكذا، ومن خلال تراكمات وملابسات فكريةٍ وعملية غريبة هنا وهناك في أرجاء الوطن العربي تبلورت (واقعيةٌ) خاصة، تلبَّستها قناعةٌ عميقة بأن ما يسري على تلك الأرجاء من سُنن لاعلاقة له بغيره، وأن ثمة قوانين اجتماعية وثقافية استثنائية تنطبق عليها دون غيرها في هذا العالم الفسيح.كانت مشكلة المشاكل أن هذه الواقعية الفريدة تبلورت وبلغت تجلّيها الصارخ في لحظةٍ تاريخية لم يكن ممكناً أن تكون أسوأ بالنسبة لها. لحظة تاريخية حملت معها قمّة التجربة البشرية المعاصرة في مجالات الانفتاح والمعرفة والشفافية، وهي قمةٌ تتبلور معها واقعيةٌ إنسانيةٌ كونيةٌ مُقابلة تتناقض مع تلك الواقعية العربية الخاصة في كل شيء، وتتضارب معها من كل زاوية، وتشتبك مع كل مكوناتها بشكلٍ عنيفٍ وصارخ.لا نعرف إلى أي درجةٍ يدرك البعض دلالات الكلام السابق على المستوى الإستراتيجي، ولا نجد حاجة للاستفاضة في شرحه. وإنما يكفينا التأكيد على أن المعادلة المذكورة قد تكون من أكثر الوصفات فعاليةً حين يتعلق الأمر بالانفجارات الكبيرة والفوضى الغامرة.يعتقد البعض أن البيت العربي مُشتعل، لكنهم لا يدركون حجم الحريق المُنتظر في غياب الواقعية الجديدة التي نتحدث عنها. سيما وأننا لا نتحدث عن واقعيةٍ معقدة الملامح أو مستحيلة التكوين، وإنما هي واقعيةٌ لن يصعب على الباحثين عنها معرفة ملامحها وطريقة تشكيلها إذا كانوا يبحثون عنها حقاً في نهاية المطاف.

641

| 18 أكتوبر 2015

alsharq
وزارة التربية.. خارج السرب

هناك لحظات في تاريخ الدول لا تمرّ مرور...

13440

| 20 نوفمبر 2025

alsharq
صبر المؤمن على أذى الخلق

في قلب الإيمان، ينشأ صبر عميق يواجه به...

1788

| 21 نوفمبر 2025

alsharq
وزارة التربية والتعليم هل من مستجيب؟

شخصيا كنت أتمنى أن تلقى شكاوى كثير من...

1395

| 18 نوفمبر 2025

alsharq
المغرب يحطم الصعاب

في لحظة تاريخية، ارتقى شباب المغرب تحت 17...

1173

| 20 نوفمبر 2025

alsharq
عمان .. من الإمام المؤسس إلى السلطان| هيثم .. تاريخ مشرق وإنجازات خالدة

القادة العظام يبقون في أذهان شعوبهم عبر الأزمنة...

1137

| 18 نوفمبر 2025

alsharq
حديث مع طالب

كنت في زيارة لإحدى المدارس الثانوية للبنين في...

981

| 20 نوفمبر 2025

alsharq
عندما تتحكم العاطفة في الميزان

في مدينة نوتنغهام الإنجليزية، يقبع نصب تذكاري لرجل...

921

| 23 نوفمبر 2025

alsharq
العزلة ترميم للروح

في عالم يتسارع كل يوم، يصبح الوقوف للحظة...

912

| 20 نوفمبر 2025

alsharq
ارفع رأسك!

نعيش في عالم متناقض به أناس يعكسونه. وسأحكي...

804

| 18 نوفمبر 2025

alsharq
اليوم العالمي الضائع..

أقرأ كثيرا عن مواعيد أيام عالمية اعتمدتها منظمة...

654

| 20 نوفمبر 2025

alsharq
شعار اليوم الوطني.. رسالة ثقة ودعوة لصناعة المستقبل

مع إعلان شعار اليوم الوطني لدولة قطر لعام...

615

| 19 نوفمبر 2025

alsharq
المزعجون في الأرض 3 - 3

أرتال كثيرة من المركبات تتقاطر وتصطف بشكل عشوائي...

612

| 19 نوفمبر 2025

أخبار محلية