رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مَن قال إن السوريين لا يريدون تكرار التجربة الروسية المريرة في أفغانستان، هذه المرة في سوريا؟ما من سوريٍ، يَحكمُ على ما فعله الأسد بشعبه، بعين الإنصاف والموضوعية، يرفضُ ذلك دون جدال. بل إن هناك (محايدين)! باتوا أقرب لهذا الموقف، بعد إذ رفعَ الروس ورقة التوت، كما يُقال، نهائياً عن عورتهم. وتَنَاسوا، في عملية (استغباء) تتنافسُ في وصفها الوقاحةُ مع النفاق، المفارقة بين عدد مرات (الفيتو) التي استخدموها في مجلس الأمن ضد أي (تدخلٍ أجنبي)، في حين تنتشر بوارجهم وطائراتهم ودباباتهم اليوم على أرض سوريا، وفي سمائها وسواحلها!ثمة رغبةٌ طاغيةٌ بين السوريين في أن يحصلَ ذلك. والأمرُ لايتوقفُ عند الرغبة بالتأكيد، بل إن فيهم رجالاً مستعدين، عملياً، لأن تكون هذه (الملحمة) السورية مع الروس درساً يجعلهم يندمونَ على قرارهم كما لم يحصل من قبل، وتنتهي معهُ أحلامهم بمجرد التفكير في الاقتراب من (المياه الدافئة) إلى الأبد..لكننا نطرح السؤال في معرض تحرير القول فيه من زاويتين.فالبعضُ، من ناحية، ينوحُ ويتباكى، وينذر بالويل والثبور، تحت عنوان (الخوف) الشديد مما يُسمى (أفغنة) سوريا. في هذا الإطار، يبدو الأمر، في حقيقته، ممارسةً لترفٍ ثقافي نخبويٍ مُتعالٍ على تضحيات السوريين، لايبالى بآلامهم وآمالهم، عملياً، تحت دعاوى وعناوين (ثقافوية) تنظيرية باردة. دعاوى تقف عند نقطةٍ مثالية مؤداها الفعلي يتمثل، في نهاية المطاف، بضرورة تجنب (الاصطدام) مع الروس في سوريا عسكرياً.. و(الإصرار) بدل ذلك على (تَفُّهُم) الموقف الروسي! وإقناع النفس بأنه جاء ليساعد في محاربة (الإرهاب)، والتواصل معهم، بناءً على ذلك. وبكل هذا التفكير (الرغائبي)، كيلا نصفه بالـ (غبي) أو (التوريطي)، عسى ولعل أن يُمكن التوصل إلى تفاهماتٍ معينة معهم. والمهم في النهاية ألا تحصل (الأفغنة).لكن المهم في استخدام المصطلح، هنا، لا يتعلق بدراسة وتجنب العناصر والأسباب التي يمكن أن تؤدي إلى حصول السلبيات التي ظهرت في أفغانستان بعد هزيمة السوفيات / الروس.. فالغاية فقط استعمالُ الرواية أعلاه للحيلولة دون حصول تلك الهزيمة.. هذه ممارسةﱡ تقوم بها شرائح كبيرة، إعلاميين وكُتاب وساسة، من مؤيدي النظام بالتأكيد، لأن بإمكان تلك الرواية، الآن، أن تكون العنصر الرئيس في إستراتيجيةٍ كبرى تدخل في إطار الحرب المعنوية الحساسة الآن، عنوانُها (التخويف).رغم هذا، يقوم بنفس الممارسة إعلاميون وكُتاب وساسة آخرون، بعضهم (رمادي).. بينما يُسمي بعضهم الآخر أنفسهم مؤيدين للثورة السورية، بل وغيورين عليها..لاتضعُ هذه الطريقة في التفكير، وأصحابُها، الأمور في نصابها الحضاري والثقافي والسياسي الكبير، ولا يحاول أهلُها التفكير بإمكانية استفادة الشعوب من تجارب التاريخ، كما سنحاول أن نفعل فيما يلي.ومدخلُ الكلام هنا، في الحقيقة، موجهٌ للشعب السعودي والقطري والإماراتي وشعوب الخليج بأسرها. فبعيداً عن أي مديحٍ مُبتذل لايليق بالمقام، ولا بمن ينتسب لثورة سوريا وقِيمِها، ما من شعوب، في بلاد العرب والمسلمين قاطبةً، تُبدي مقادير من الشهامة والمروءة والغيرة والإحساس، وتعيش همﱠ السوريين بصدقٍ نادر، وتحاول تقديم كل عونٍ ممكن، كما هو حال أهلنا في الخليج.هذا وصفٌ تُثبته الوقائع والأرقام والمعلومات بطريقةٍ لاتقبل الجدل والتشكيك، خاصةً لمن هم أقربُ لكل ماله علاقةٌ بالمشاريع الفردية والجماعية والشعبية والرسمية، المُعبِّرة عملياً عن المشاعر التي نتكلم عنها.. وثمة جميلٌ في عُنق الشعب السوري، إنسانيٌ وروحي وثقافي، بعيداً عن السياسة وحساباتها، سيتعبُ السوريون في محاولتهم ردﱠ شيءٍ منه في المستقبل.ومرةً أخرى، ظهر ما نتحدثُ عنه خلال الأيام الماضية، على شكل خطب ومقالات وتصريحات وبيانات فردية وجماعية، تصب بقوةٍ في إطار الحث على تقديم كل أنواع الدعم للسوريين، مرتبطاً هذه المرة بالغزو الروسي لسوريا.لكننا نريد سوياً، كسوريين وخليجيين، أن نعمل بكل ما أوتينا من حكمة الآن، لنُحقق الهدف المذكور أعلاه: أن تُهزم روسيا في سوريا، بشكلٍ، ليس كثيراً على الله والتاريخ، أن يكون سبباً في سقوط بوتين ونظامه، تماماً كما كانت الهزيمة في أفغانستان من أهم أسباب سقوط الاتحاد السوفياتي بأسره.غير أن هذا يجب أن يحصل بدراسةٍ وتخطيط وتوازنات تليقُ، من ناحية، بشعوب تعرف كيف تتعلم من دروسها على طريق تحقيق (مقاصدها) الكبرى حضارياً وشرعياً.. وتَحفظُ، من ناحيةٍ أخرى، ليس فقط استقرار سوريا بعد تحريرها، بل، واستقرار دول الخليج، وتحفظ أمنها في جميع المجالات.بصراحة ووضوح، يجب في هذا المقام تحديد ما تحتاج إليه سوريا لتحقيق ذلك الهدف، وما لا تحتاجُ إليه.. وأن يحصلَ هذا بحسابات لاتُزعزع، في نفس الوقت، لاحاضراً ولامُستقبلاً، السلم الأهلي والأمن والاستقرار، في مجتمعات الخليج.في هذا الإطار، أولاً وقبل كل شيء، لاتحتاج سوريا إلى مقاتلين.. وقد أثبت رجالهُا أن باستطاعتهم، بشيءٍ من الدعم، قهر النظام ثم ميليشيات مايُسمى (حزب الله) ثم الإيرانيين! والاضطرارُ إلى قدوم الروس، في الحقيقة، يُصدﱢقُ هذه الحقيقة بحسابات إستراتيجية، بعيداً عن التفكير البسيط في هذا الموضوع.لاحاجة لسوريا أيضاً بأن تُعرض قضيتها، لا على الخليجيين ولا على العرب والمسلمين، بمدخل (الملاحم والفتن) ونهاية الدنيا.. فهذا يمكن أن يُحدِث، ولو عن غير قصد، خلطٌاً ليس في مصلحة الشعب السوري وثورته.. ويمكن أن يكون فيه تعسفٌ، وأحياناً، تناقضٌ بين الروايات والواقع، بطريقةٍ لاتنسجم ابتداءً مع منهجٍ إسلاميٍ أصيل، يتحرى الدقة والأمانة و(الوسطية) في التعامل مع مثل هذه القضايا المتعلقة بحاضر الشعوب ومستقبلها.نَفهم تماماً، ونُقدر، التفاعل الذي نشعر، كسوريين، بحرارة صدقه مع الثورة السورية، ونُؤمن بأنها ستكون تمهيداً لتغييرٍ حضاري كبير.. لكن ثمة طريقةً في (استعجال) الملاحم والفتن ونهاية الدنيا لاتصلح مدخلاً للتعامل مع الموضوع السوري.. فهي، حين تكون مُلتبسةً بالتعسف والتناقضات، لن تترك فسحةً للعقل والفهم والتخطيط، والتعامل مع التعقيد الكبير المحيط بالثورة السورية.. بل ستنقلبُ سبباً لذبحها بالفوضى والخلاف والاستعجال.. ناهيك عن أن تترك مجالاً لإعمار الأرض والحكم الرشيد فيها بغض النظر عن التسميات.كيف تُدعمُ الثورة السورية إذاً؟ حسناً.. بوضوح وشفافية، ثمة ساحةٌ أساسية تتعلق بالعمل العسكري ومتطلباته، يجري العمل عليها على مستوى الدول والحكومات. نذكر هذا لئلا نتهرب من أي موضوع.لكن ثمة ألف طريقة وطريقة أخرى، تتطلب دعم شعوب الخليج، يعمل من خلالها سوريون في مشاريع حساسة بلغة العصر، توحيداً لصفوفهم.. وحشداً إعلامياً ودبلوماسياً عالمياً ضد الغزو الروسي، من مخاطبة الروس في عقر دارهم، إلى خلق زخمٍ إعلامي وحقوقي عالميٍ ضد غزوهم الواضح.. وهذا أمرٌ لم يكن ممكناً، لهذه الدرجة، قبل الغزو، في التقاليد العالمية.. إلى غيرها من مشاريع عديدة.خلاصة الموضوع تتمثل في أن نتعلم دروس التجارب الماضية ونتجنب سلبياتها، على سوريا وشقيقاتها.. وأن نعمل، من جانبٍ آخر، بطرق خلاقة ومُبتكرةٍ للمساهمة في تحقيق الهدف المُشترك، وهذا نشاطٌ يحصل الآن بكثافة، ولن يعدم المُهتمون أساليب الوصول إليه وإلى أصحابه للمساهمة فيه.
442
| 11 أكتوبر 2015
مرةً أخرى، تُعيد دولة قطر التأكيد على موقفها الثابت والواضح من ثورة الشعب السوري. ومرةً أخرى، يأتي هذا الموقف على لسان أميرها من فوق منبر الأمم المتحدة، ليسمعه العالمُ أجمع في أضخم مناسبةٍ سنويةٍ سياسيةٍ عالمية. ومرةً أخرى، تروي قطر للعالم الرواية الأصلية للثورة، وتضعهُ أمام مسؤولياته حين تُصارحهُ بتلك الرواية، كما هي عليه في الحقيقة، بعيداً عن عمليات التزييف وخلط الأوراق الإعلامية والسياسية السائدة والمتصاعدة في الفترة الأخيرة.فمن اللحظة الأولى، عند الحديث عن سوريا في خطابه أمام الجمعية العامة الأسبوع الماضي، يبسط الأمير جملة مُعطيات توضح طبيعة المُجرم وأفعاله وما يترتبُ عليها، وذلك حين يقول: "تتولَّد عن الأزمة السورية بأبعادها وتداعياتها الراهنة والمستقبلية نتائج كارثية على منطقة الشرق الأوسط، بل والعالم، في ظل استمرار الجرائم البشعة والأعمال الوحشية التي يرتكبها النظام بحق الشعب السوري، وتهديد كيان الدولة وشعبها، وخلق بيئةٍ خصبة لتفاقم ظاهرة التطرف والإرهاب تحت رايات دينية ومذهبية وعرقية زائفة تهدد الإنسان والمجتمع والإرث الحضاري في سورية والمنطقة".يُسمي الأمير الأشياء بأسمائها: "الجرائم البشعة والأعمال الوحشية"، ويَذكرُ بكل وضوح مَن يقوم بتلك الأفعال: "التي يرتكبها النظام بحق الشعب السوري". ليست هذه إذاً حرباً على (الإرهاب) قامت مُصادفةً على الأرض السورية تستدعي نسيان كل شيء آخر وحشد الدول لمحاربته، في ردٍ غير مباشر على المبادرات الروسية التي تتمحور حول موضوع الإرهاب ولا شيء سواه.لهذا، يشرح الأمير بشكلٍ مُفصل الصيرورة التي وصلت بالوضع في سوريا إلى ما هو عليه، مُذكراً الجميع بالحقائق التي يحاول الكثيرون طَمسها، وذلك في قوله: "في هذا السياق عبثَ النظام السوري بمفهوم الإرهاب، فسمى المظاهرات السلمية إرهاباً، ومارسَ هو الإرهاب الفعلي. وحين أوصلت أعمال القصف وقتل المدنيين الناس إلى تبني العمل المسلح، ودخلت بعض المنظمات غير الملتزمة بمطالب الثورة السورية ومبادئها فضاء العمل السياسي بدون استئذان، تحوّلت سوريا إلى ساحة حرب، فحاول النظام أن يخيف المجتمع الدولي مِن البديل".فوق هذا، يُعيد الأمير تذكير النظام السياسي العالمي بنصيبه هو في عملية صناعة الأزمة السورية، بدل شرعنة جرائم النظام، عملياً، بدعوى عدم وجود (البديل)، وذلك من خلال التأكيد بأنه "كان على المجتمع الدولي أن يوقف المجازر في الوقت المناسب، ويوفّر الظروف للشعب السوري لإنتاج البديل العقلاني المدني العادل للاستبداد. وهل ثمة استبدادٌ في العالم يعترف أن له بديلاً؟ وهل يمكن، أصلاً، أن ينمو البديل ويتطوّر في ظله؟" مع الإشارة إلى أن "تقاعس المجتمع الدولي عن اتخاذ القرارات والتدابير اللازمة لإنهاء هذه الكارثة يُعَدُّ جريمة كبرى"..هي "جريمةٌ" إذاً مع استمرار التقاعس المذكور، ومُرتكبُها هو المجتمع الدولي الذي يتظاهر باستنكار جرائم النظام. وحتى يكون هناك تقديمٌ للحلول العملية يُطالب الأمير بـ"تفعيل وتعزيز دور الجمعية العامة باعتبارها الإطار الأوسع للتعامل مع قضايا الشعوب في ظل عجز أو تقاعس مجلس الأمن عن إيجاد الحلول العادلة لها". ثم يدعو إلى "التعاون من أجل فرض حلٍ سياسيٍ في سورية، ينهي عهد الاستبداد ويُحِّلُ محلَّه نظاماً تعددياً يقوم على المواطنة المتساوية للسوريين جميعاً، ويُبْعد عن سورية التطرف والإرهاب".يطرح الأمير الحل ويشرحُ طبيعته، وفي معرض الحديث عن إمكانية تطبيق هذا الحل يطرح السؤال الذي يجب طرحهُ بالتحديد بعيداً عن عمليات التضليل الإعلامي والسياسي، فيقول: "ليس السؤال إذا كان هذا ممكناً، فهذا ممكن إذا توفرت الإرادة لدى دول بعينها. إن السؤال المطروح علينا جميعاً هو: هل ترون أن استمرار الوضع الحالي في سورية ممكن؟ لقد تحول الصراع في هذا البلد إلى حرب إبادة وتهجير جماعي للسكان. ولهذا تبعات خطيرة على الإقليم والعالم كله، وحتى على الدول التي لا تستعجل الحل لأنها لا تتأثر بالصراع مباشرة، ولا تصلها حشود المهجرين"..وعلى طريق استمرار مصارحة العالم بالحقائق المتعلقة بثورة الشعب السوري، جاءت أيضاً التصريحات القوية لوزير الخارجية الدكتور خالد العطية في مقابلةٍ مع وكالة رويترز. ففي معرض الحديث عن (مبادرات) روسيا أكد الوزير أنه "لا أحد يمكنه أن يرفض دعوة السيد بوتين إلى تحالف ضد الإرهاب. لكننا نحتاج إلى أن نعالج السبب".. وليكون الجواب واضحاً تماماً أضاف قائلاً: "نحن نعتقد بقوة أن النظام السوري - وتحديداً بشار الأسد- هو السبب الحقيقي".لا مجال، في رؤية قطر، لقبول عمليات (الاستغباء) التي تحصلُ هنا وهناك تحت اسم المبادرات السياسية. لهذا، يقول الوزير بكل شفافية: "لا يمكننا أن نعمل معا ونقول (للأسد) حسناً.. أنت حليفنا في محاربة الإرهابيين الذين أوجدتهم أو أحضرتهم إلى هنا"..ثم إنه ينتقل للحديث بشكلٍ صريح عن الآليات العملية الممكنة للوصول إلى الحل السياسي الذي يتحدث عنه الجميع، ثم يتصرفون وكأن طريقة الوصول إليه لغزٌ لا يمكن اكتشافه، رغم أنه يدخل في ألف باء السياسة. من هنا، يحل الوزير لهم هذا اللغز وهو يتحدث عن المقاومين الذين يتصدون للبراميل المتفجرة قائلاً: "إنهم بحاجة للحصول على وسائل للدفاع عن أنفسهم... عندئذ فقط سيدرك بشار أنه بحاجة للقدوم إلى الطاولة للتوصل إلى هذا الحل السياسي الذي يشمل رحيله".وأخيراً، يُعيد الوزير ترتيب الأوراق التي يريد الكثيرون خلطها فيما يتعلق بالعلاقة بين الدفاع عن السوريين وهم يواجهون إجرام الأسد وبين واجب محاربة (الإرهاب)، وذلك بقوله: "لم نعالج جذور القضية.. لا يمكنك أن تجلب الشعب السوري وتجبره على الذهاب لمحاربة الدولة الإسلامية وحدهم... إن قضيتهم ليست الدولة الإسلامية بل النظام الحاكم. هم سيحاربون الدولة الإسلامية، لكن عليهم أن يحاربوا أولاً النظام الذي أوجد الدولة الإسلامية".كبيرةٌ هي حاجة السوريين في كثيرٍ من المجالات. لكن من أكثر الأمور إستراتيجيةً بالنسبة لثورتهم عدمُ السماح للأطراف المُختلفة بممارسة أسوأ ما تنطوي عليه (لعبةُ الأمم) من عمليات تزييفٍ لرواية الثورة، وخلطٍ للأوراق، وتضليلٍ إعلامي وسياسي، واستخدامٍ خبيثٍ للأسماء والمُسميات، وإعادة ترتيبٍ للأولويات بشكلٍ مُخادع.وبما أن صوت الثورة السورية ضعيفٌ في المحافل العالمية حين يتعلق الأمر بهذا الموضوع، لألف سببٍ وسبب، فإن قيام قطر بهذا الدور يُعتبر دعماً استثنائياً للشعب السوري وثورته يفوق كل نوعٍ آخر من أنواع الدعم والتأييد.
379
| 04 أكتوبر 2015
في ظل المتغيرات المتسارعة في المنطقة، يبدو واضحاً أن السوريين، من أهل الثورة، لايملكون الآن، جميعاً، وعلى اختلاف انتماءاتهم وآرائهم، إلا أن يُسابقوا الزمن.ما من حاجةٍ للحديث في التفاصيل. ولا نؤمن، ابتداءً، أن ثمة من يعرف، على وجه الدقة دلالات تلك التغييرات وما الذي سيحدثُ تالياً. فالدعاياتُ المُضللة تبدو سيدة الموقف من جهة، وعمليات (المُدافعة) السننية بين مختلف الأطراف لاتزال، على ما يظهر، في أوجها، من جهةٍ ثانية.لكن الظرف لا يسمح، في جميع الأحوال، بالركون إلى (المُعتاد) من الممارسات والمواقف وطريقة العمل السائدة بين السوريين.ومرةً أخرى، كأنه قدرٌ من الله غالِب. فإذ يُدرك السوريون أنهم بشر، يحلمون بأن يقف إلى جانبهم في مسيرتهم نحو الحرية إخوةٌ في الدين والعروبة والإنسانية. ولأنهم بشر، يجهرون بحلمهم ذاك بين آونةٍ وأخرى. لكنهم يجدون أنفسهم كمن يصرخ في صحراء مُقفرة.لا نريد التعميم في هذا المقام، فثمة من يُقدّم المساعدة بصمتٍ وهدوء. لكنّ الوقائع والأحداث تُظهر يوماً بعد يوم أن سقوط النظام السوري بمعناه الحقيقي لن يحصل في النهاية ما لم (يُقرر) السوريون ذلك، بعملهم، وليس بالكلام.للتاريخ، وللدراسة في لحظات اتخاذ القرار الحساسة بالنسبة للسوريين، نُذكرُ بالسؤال الذي طرحه كوفي عنان عام 2001 عندما كان أميناً عاماً للأمم المتحدة على أطراف النظام الدولي، وتشكلت للإجابة عليه لجنة خاصة باسم اللجنة العالمية للتدخل العسكري والسيادة الوطنية: "إذا كان التدخل العسكري لحماية حقوق الإنسان تعدياً على السيادة الوطنية للدولة ذات العلاقة، كيف يمكن لنا أن نتعامل مع إمكانيات وجود راوندا جديدة أو سريبربنتسا أخرى، حيث يجري انتهاك منظّم ومنهحي لحقوق الإنسان بشكلٍ يتناقض مع كل مبدأ من مبادئ بشريتنا المشتركة؟".وبناءً على نتائج عمل اللجنة العالمية، أعلنت الأمم المتحدة عام 2005 مبادرةً أسمتها (مسؤولية الحماية). تتألف هذه المبادرة من مجموعة مبادئ تمّ بناؤها على قاعدة أن السيادة الوطنية ليست (حقاً) وإنما هي (مسؤولية) بالدرجة الأولى.ركّزت المبادرة على محاولة منع حصول أربع جرائم أو وقفها في حال حدوثها وهي: الإبادة الجماعية، جرائم الحرب، الجرائم ضد الإنسانية، والتطهير العرقي. أما المرتكزات الثلاثة الرئيسية لمبدأ الحق في الحماية فقد وُضعت كالتالي: أولاً، إن كل دولة مسؤولة عن حماية مواطنيها وسكانها من أي مذابح جماعية. ثانياً، يتحمل المجتمع الدولي عبء مساعدة أي دولة للوفاء بتلك المسؤولية الأساسية. ثالثاً، إذا أخفقت الدولة في حماية مواطنيها من المذابح الجماعية وأخفقت المساعي السلمية، فإن المسؤولية تقع على المجتمع الدولي للتدخل بأساليب قاهرة مثل العقوبات الاقتصادية، ويُعتبر التدخل العسكري الملاذ الأخير للتعامل مع الموضوع.وفي التاسع من شهر آب عام 2010، أي قبل انطلاق الثورة السورية بأشهر، قدم بان كي مون، الأمين العام الحالي للأمم المتحدة، تقريراً للجمعية العامة بعنوان "الإنذار المبكر: التقويم ومسؤولية الحماية" كجزء من متابعة الجمعية العامة لتطبيق هذا المفهوم. في هذا التقرير سلّط الأمين العام الضوء على آليات التقويم والإنذار المبكر الموجودة في نظام الأمم المتحدة بهذا الخصوص، وتحدث عن بعض النواقص، ثم قام بتقديم مقترحات لتحسين قدرة الهيئة الدولية لاستعمال معلومات الإنذار المبكر بشكلٍ فعال، بما يتضمن تقارير من ضباط المواقع الميدانيين، وصولاً إلى تطوير آليات استجابة مبكرة ومرنة ومتوازنة في أي حالةٍ يبدو فيها خطر حصول واحدةٍ من الجرائم المذكورة.بعد مضي قرابة خمسة أعوام على بدء الثورة السورية، ورغم كل ما شاهده ويشاهده العالم من ممارساتٍ للنظام السوري يمكن تصنيفها ضمن أنواع الجرائم الأربع المذكورة في مبادرة (مسؤولية الحماية) الأممية، يبدو أن أجهزة ووسائل الإنذار المبكر لم تستطع التقاط الإشارات المطلوبة التي يجب أن (تُشغّل) نظام الردّ والاستجابة! أما (المساعي السلمية) فالواضح أنها لم تُستنفذ؟ وبالتالي، يبدو جلياً أن (الملاذ الأخير) بعيد المنال.سيكون وصف ما يجري بـ (النفاق) تقزيماً للحقيقة في هذا المقام. فما يجري حقاً هو نوعٌ من تلك الدروس الوحشية الباردة الوقحة التي يحاول النظام الدولي الحالي تلقينها للشعوب الأقل قوةً في هذا العالم.لا صوت يعلو فوق صوت المصلحة بالنسبة للنظام الدولي السائد. وما على الشعوب التي تريد أن تصنع حاضرها ومستقبلها حقاً، كما هو الحال مع الشعب السوري، إلا أن يكون جاهزاً ليتعامل مع هذه الحقيقة.لا مجال هنا للأمنيات والأوهام، ولايملك شعبنا رفاهية البناء على الشعارات التي يبيعها النظام الدولي بأبخس الأثمان في سوق العلاقات الدولية.هل يمكن وصف ما يجري سوى أنه (مهزلة)؟نوقن بأن مثل هذه (المهازل)، التي تُعتبر من مكونات النظام الدولي، تُخالفُ قوانين الاجتماع البشري، ونؤمن أنها ستكون مسامير تهزّ أركانه، بعد إذ بات فشله واضحاً في التعامل مع أزمات إنسانية يغلبُ أنه كان سببها ابتداءً. وإذ يُصبح مواطنوه قبل غيرهم شهوداً على الفشل المذكور ومادةً لنتائجه العملية، فلا مجازفة، ونحن نستحضرُ ما يُسمى بـ (مكر التاريخ)، في الحديث عن ثورةٍ / فوضى عالمية قادمة قد يكون الربيع العربي وتداعياته بذرتها.بغض النظر عن هذا، نحن في مرحلةٍ بات فيها واجباً اتفاقُ الموقف والرأي والكلمة بين كل أطراف المعارضة السياسية والعسكرية السورية، وصارت فيها أي ممارسةٍ تؤدي للتشرذم خيانةً لأي معنىً باقٍ من معاني الثورة، ولتضحيات ملايين السوريين بكل تأكيد.ثمة حاجةٌ ملحةٌ لأن يغادر جميع الساسة المعارضين السوريين اليوم إقطاعياتهم و(كانتوناتهم) التنظيمية والأيديولوجية. فالسياسة بالتعريف السائد هي فنّ الممكن. والممكنُ في الواقع السياسي السوري المعاصر يفرض عليهم جميعاً الخروج من نفق المماحكات القاتلة المتعلقة بتمثيل السوريين وثورتهم، والتي تكاد تغرقهم وتُغرق الثورة.لا توجد اليوم جهةٌ يمكن أن تدّعي احتكار التمثيل المذكور بأي درجةٍ من الدرجات.انتهى الأمر يا سادة، وباتت الحقيقة السابقة واضحةً لا يماري فيها إلا مُكابر. والمماراة المذكورة لا تؤدي إلى شيء بقدرٍ ما تؤذي الثورة، وتوسّع دوائر الأسئلة والاستفسارات حول المعارضة نفسها.ثمة (ائتلافٌ) حصل على اعترافٍ دولي في يومٍ من الأيام، وهو اعترافٌ لم يُسحب من التداول. من هنا، يمكن إعادة هيكلة المعارضة السياسية السورية بأسرها تحت عنوانه، بغض النظر عمن يبقى وعمن يرحل من قياداته الحالية وأعضائه.وثمة (جيشٌ حر) اجتمعت كلمة السوريين على معانيه كما لم تجتمع بعد ذلك على فصيلٍ عسكري أياً كان. لهذا، يمكن إعادة هيكلة الفصائل العسكرية تحت اسمه، بترتيباتٍ لا يستحيل إيجادُها إذا خلُصت النيات.وثمة (رؤيةٌ) يجري تداولها بخصوص الحل السياسي في أوساط المعارضين ساسةً وعسكر، وهي في بعض ملامحها واردةٌ في بيان الفصائل المتعلق بمبادرة ديمستورا، والصادر منذ أسبوعين بإجماعٍ منقطع النظير.هي نافذة فرصة إذاً. أن يأخذ السوريون زمام المبادرة بيدهم في هذه اللحظة الحساسة. لكنها أيضاً لحظة الحقيقة التي لايوجد فيها أمام السوريين خيارٌ آخر على الإطلاق.
318
| 27 سبتمبر 2015
مرة أخرى، تُثبت الوقائع أن عملية (عاصفة الحزم) كانت بداية صفحةٍ جديدة ومختلفة على كثيرٍ من المستويات، ليس عسكرياً فقط، بل في المجال السياسي الأهم، وتحديداً في مسار العلاقات الدولية. أهم ما في الموضوع هنا يتمثل بأن القرار المتعلق بالعملية، تم أخذهُ في الرياض، وباستقلاليةٍ تامة، ورغم (تحفظاتٍ) كانت عليه من هنا وهناك، خاصةً من أمريكا التي لم تكن راضيةً بالعملية.لم يأتِ القرار المذكور من باب المعاندة السياسية، كما هو الحال عند بعض من يعتمد تلك العقلية في اتخاذ القرارات، ولم يأتِ بعيداً عن مشاوراتٍ إقليمية ودولية، خاصةً مع الأشقاء العرب، رغم ذلك، تم اتخاذ القرار، بعد تلك المشاورات، وفقاً لحسابات تتعلق بالمصالح العامة، ليس للمملكة فقط، بل للعرب بأسرهم في هذه المرحلة.ظهرت دقةُ الحسابات مع الأيام، وبانَ صوابُها، فاختفت التحفظات، وغابت أصوات التشكيك أياً كانت خلفيتها وأسبابها، وأهم من هذا، قَبِلت أمريكا بالأمر الواقع.هذا نموذجُ حسمٍ في الإرادة السياسية المبنية على توازنات دقيقة: معرفة حجمك الحقيقي وإمكاناتك الفعلية، تركيزك على تحقيق المصالح العامة هدفاً نهائياً لاتخاذ القرار، قيامك بالحسابات وفق قواعد الواقعية السياسية بمعناها الشامل، هذا يتضمن استفراغ الجهد لامتلاك أقصى ما يمكن من (أوراق) في جميع المجالات، لكن من (الواقعية) أيضاً ألا تقف عند ما يعتقد كثيرون، خاصةً في منطقتنا، أنها (حدود).. يُصابون بالذعر من مجرد التفكير بتجاوزها، هنا تحديداً يصبح الوقوف بسلبيةٍ بالغة واستسلامٍ مطلق انتحاراً سريعاً، ولا بديل سوى متابعة التطورات بتحفزٍ وانتباهٍ ويقظةٍ ومتابعةٍ لكلّ متغيّر، فتلك الحدود ليست صلدةً على الإطلاق، بل تتصف بكثيرٍ من المرونة، ويمكن لها أن تتغير وتتبدل على الدوام.أما أن تُختزل الواقعية في الدعوة للوقوف عند الحدود (المتموهمة).. فهذا مدخل الهزيمة النفسية والعملية، لأنه يُحيلُ إلى معنى (العجز) في لَبوسٍ مزيف ليس له علاقةٌ بالواقعية.الواضح هذه الأيام أن السعودية ماضيةٌ بحزم، مرةً أخرى، في تطبيق هذا الفكر السياسي الخلاق حيثما تتحقق المصلحة العامة الوطنية والقومية، لها، ولعالمٍ عربي يحتاج لقيادةٍ بهذا المنطق الفعال.فخلال الأسبوع الماضي، جاءت تصريحات وزير الخارجية السعودي عادل الجبير بخصوص القضية السورية، لتؤكد هذه الحقيقة. في التصريحات المذكورة، قال الجبير بكل صراحةٍ ووضوح: "عاجلاً أم آجلا، سوريا بلا بشار الأسد الذي انتهى فيها.. بشار الأسد فاقدٌ للشرعية، ولا مستقبل لسوريا بوجوده". ورغم تأكيده لأفضلية الحل السياسي إلا أنه أضاف: "إن لم يستجب الأسد للحل السياسي، فإنه سيُبعدُ عن طريق حلٍ عسكري.. إذا لم يحقق الحل السياسي المبني على مبادئ جنيف 1 أهدافه الساعية إلى إنشاء مجلس انتقالي يهيئ سوريا لمستقبل أفضل دون بشار الأسد، فإن الحل سيكون عسكرياً". ولمرة ثالثة في التصريح أكد قائلاً: "الخيار العسكري لا يزال قائماً والمعارضة السورية مازالت تواجه الأسد بفاعلية أكبر مع مرور الزمن".هنا أيضاً، لم يقُل الوزير السعودي، المعروف بحرصه ودقته في التصريحات، ما قالهُ على سبيل ردود الأفعال العابرة. هنا أيضاً، كانت وستكون هناك مشاوراتٌ وحسابات تتمحور حول المصلحة العامة للسعودية والعرب. وهنا أيضاً، ستكون هناك (تحفظات) وملاحظاتٌ تُنشر على سبيل التشويش والتشكيك. وهنا أيضاً وأيضاً، سيتم اتخاذ القرار بما يُحقق تلك المصلحة، وبإدراك الوزن الحقيقي للسعودية، ولدورها الأساسي في المنطقة، ولدعم أشقائها الخُلص، ومعرفتها أن (الجميع) سيتقبلون الممارسات المتعلقة بذلك القرار أيًّا كانت.. فبغض النظر عن (التهويش)، يدرك (الجميع) أنه، حين يتعلق الأمر بقضايا إستراتيجية تمسﱡ الوجود، لا مجال للتراجع على الإطلاق.نقول هذا في معرض الإشارة إلى تصريحٍ (عفوي) لوزير الخارجية الأمريكي جون كيري بعد تصريح الجبير بيوم.. قال فيه إنه "لا يوجد حلٌ عسكري للصراع في سوريا". الطريف في الموضوع هو احتفاء كثير من وسائل الإعلام الموالية لنظام الأسد بالتصريح الأمريكي، حتى أن قناة (الميادين) الممولة إيرانياً أظهرت ابتهاجاً ليس له مثيل بالموضوع، ولم يكفِها الحديث عنه بتحليلات متنوعة، بل وضعت أسفل الشاشة لمدةٍ طويلة جملةً كُتب عليها: "بعد تصريحات (الجبير).. أمريكا تقول إنه لا حل عسكريا في سوريا"!.الواضح أن القناة المذكورة، وكثيرين غيرها، يستبعدون تماماً إمكانية أن يوجد عربٌ يمتلكون، في هذه الظروف، فكراً سياسياً اقتحامياً بالملامح المذكورة أعلاه.أكثرُ من هذا، قد لا يذكرُ أحدٌ اليوم ذلك التصريح الذي أطلقه كيري نفسهُ حين كان مرشحاً لمنصب الرئاسة الأمريكية عام 2004، إذ قال يومها إنه إذا أصبح رئيساً فإن "البترول السعودي لن يجد طريقه إلى الأسواق الأمريكية"!، وهذا، قبل أي شيء آخر، من اختلاط الهزل بالجد في عالم السياسة الأمريكي أكثر منه في أي بلدٍ آخر من العالم. فالتصريح المذكور باتَ نكتةً لدى المُعلقين الذين يعرفون حقائق الواقع العالمي من ناحية، ويُدركون، من ناحيةٍ أخرى أن الوعود والتصريحات كثيراً ما تكون أقل قيمةً من الحبر الذي تُكتب فيه بين الساسة الأمريكان.قلنا سابقاً ونُعيدها لمناسبة الحدَث: لا تعرف السياسة الثبات، وحتى حين تكون هناك ثوابتُ تتعلق بالمصالح الإستراتيجية، يبقى الوصول لتحقيقها ممكناً بألف طريقة، وإذ ترغبُ القوى العالمية في ضمان أعلى سقفٍ ممكن لمصالحها، العاجلة والآجلة، بأقل ثمنٍ ممكن، وعلى حساب مصالح الآخرين، وهو ما يحصل في غياب التفكير السياسي الخلاق من قبل هؤلاء الآخرين.. فإن تلك القوى نفسها هي أولُ من يفهم لغة التوازنات، لهذا، فإنها تكون دائماً مستعدةً للمقايضة، ولدفع بعض الثمن، واحترام مصالح الآخرين، في سبيل ضمان الحدّ الأدنى الإستراتيجي من مصالحها الحقيقية.ففي عالمٍ لا يفهم إلا لغة المصالح، يمكن لكل سياسةٍ أن تتغير، ويمكن لكل قرار أن يتبدل، إذا كانت المصلحة تقتضي حصول ذلك، بل إن من الممكن أيضاً حصول كل ما نتصور أنه مستحيل، في حين أنه يكون مستحيلاً فقط حين نَركنُ للوقائع والأحداث، ونرضى بكل المتغيرات، ونقبل مُسبقاً أنها قَدَرٌ لا يُرد..تبقى إشارةُ الوزير إلى (دور السوريين) في الموضوع. وهو أمرٌ يجدرُ بهم الانتباه إليه بجديةٍ وحساسية. ثمة وقائع وإشارات على بدء ممارساتٍ إيجابية تصب في خانة التنسيق والعقلانية السياسية في الأسابيع الماضية.. والمؤكد أن تصريحات الجبير حافزٌ أساسي لبذل جهدٍ أكبر في هذا المسار.
381
| 20 سبتمبر 2015
لم تكد تمضِ ثلاثة أيام على توقيع الاتفاق العتيد بين إيران وأمريكا حتى خرج المرشد علي خامنئي بتصريحات نارية كان مما قاله فيها: "إن سياستنا تجاه حكومة الولايات المتحدة المغرورة لن تتغير".كان المرشد يخطب وأمامه منصةٌ كُتبت عليها بالفارسية عبارة "سوف نسحقُ أمريكا" في حين كُتب تحتها بالإنجليزية "نحن نهزم الولايات المتحدة".. أكثرَ من ذلك، انتبهت بعض وسائل الإعلام إلى أن المرشد كان يتحدث في حين سُنِدَ إلى المنصة أمامه رشاشٌ حربي!من المؤكد أن (الاستهلاك الداخلي) أحدُ أسباب مثل تلك التصريحات، حيث يبيعُ المُرشد الشعارات لجزءٍ من الشعب الإيراني، تم، بنجاح، غسيل دماغه خلال العقود القليلة الماضية. لهذا قال وزير الخارجية الأمريكي، جون كيري، عندما سُئل عن الموضوع يومها: "أنا أعلم أنه يحدث عادةً أن تُطلق بعض التصريحات بشكلٍ علني، في حين أن القضايا تتبلور، عملياً، بشكلٍ مختلف"..رغم هذا، تقتضي مصلحتنا ألا نقف عند ذلك التفسير، خاصةً في معرض فهم سياسة الولايات المتحدة، في المنطقة تحديداً، بحثاً عن مداخل التعامل معها بشكلٍ محترفٍ وخلاق، يصل بنا إلى تحقيق الأهداف الإستراتيجية المطلوبة من العلاقة معها.فخلال الأسبوع الماضي مثلاً، أعرب الرئيس الإيراني، حسن روحاني، عن استعداد بلاده لـ "الجلوس على أي طاولة مفاوضات في أي مكان من العالم، مع دول داخل المنطقة وخارجها".. كان هذا إشارةَ (انفتاح) من المؤكد أن أمريكا مقصودةٌ بها، إن لم تكن موجهةً إليها تحديداً، بحكم إدراك إيران لدور واشنطن الحاسم والنهائي في صناعة القرارات المتعلقة بالمنطقة، بغض النظر عن الهوامش المتروكة لأوربا.هنا أيضاً، خرج المرشد، بعد ثلاثة أيام، بتصريحات نارية أخرى تتعلق بأمريكا تستحق التأمل في طبيعتها. وكان مما تناقلته وكالات الأنباء منها قوله إن "وضع حد للمصالح الأمريكية اللا مشروعة في إيران، هو السبب الرئيس لحقد أمريكا وعدائها الذي لا ينتهي مع إيران وشعبها"، وأن "الخطوة التاريخية للإمام الخميني في إعطاء لقب الشيطان الأكبر لأمريكا"، ليتساءل بعد ذلك "أي عقل وضمير يسمح أن نصوّر مجرماً مثل أمريكا على أنها صديق وجديرة بالثقة"؟ ثم يحذر من "سياسات أمريكا وأساليبها للتغلغل" في إيران، ومن أن "الشيطان الذي طرده الشعب من الباب، يعتزم العودة من النافذة، وعلينا ألا نسمح بذلك". هذا دون أن ينسى الحديث عن العناصر الضرورية لـ "المواجهة المقتدرة مع العداء الذي لا ينتهي للشيطان الأكبر"، ثم يتابع قائلاً إن: "السبيل الوحيد لإنهاء المؤامرات الأمريكية، هو الاقتدار الوطني للإيرانيين، وعلينا أن نقوّي أنفسنا، بحيث ييأس الشيطان الأكبر من نتيجة عدائه".. ليؤكد بعد ذلك أن إيران قبلت "التفاوض مع أمريكا في الملف النووي فحسب، ولأسباب معيّنة... لكننا لم ولن نسمح بالتفاوض مع أمريكا في قضايا أخرى".لنقرأ مرةً أخرى العبارات والألفاظ والاتهامات الحادة الواردة في كلام المرشد عن أمريكا. ثم نتساءل: هل كانت التصريحات الأولى مدعاةً لأي تأثير سلبي في العلاقات والتفاهمات الأمريكية الإيرانية؟ لا، بكل وضوح. وسيكون هذا مصير التصريحات الأخيرة بالتأكيد.لا يمكن تفسير الظاهرة، كما يُبسُّطها البعض، بغرامٍ مفاجئ بين البلدين يصبح فيه النقدُ عتابَ أحباب.. ولا هو اتفاق (أيديولوجي) سري بين الشيعة وأوباما!.. كما يَهرفُ آخرون.إنه توزيع أدوار في إيران بإستراتيجيةٍ تُسمى (الصقور والحمائم) في مجال السياسة، أو (الشرطي الطيب والشرطي المتوحش) في مجال التحقيق الجنائي. وهذه إستراتيجيةٌ تستجيبُ لها حتى أمريكا، بأكثر مما نتصور، إذا تم استعمالها بإتقان وجدية.ثمة (تركيبةٌ) ناجحة في النظام السياسي الإيراني تسمح للنخبة الحاكمة بدرجةٍ من توزيع الأدوار، بشكلٍ لا يكون من باب التمثيل المُصطنع دائماً. فهناك مساحةٌ للاختلاف بين مكونات ذلك النظام وهيئاته، وهناك هامشٌ للنقاش والحوار، وبصوتٍ عالٍ أحياناً، بين تلك المكونات. لكن ذلك الاختلاف وهذا الحوار يبقيان في إطار البحث عن المصالح العليا لإيران، كما تراها تلك النخبة. هذا هو جوهر الإستراتيجية التي تدفع الطرف الخارجي، أمريكا في هذه الحالة، إلى البحث عن أوراق تُقدمها للطرف (الأكثر اعتدالاً) لتقوية موقفها في مواجهة الصقور الأكثر تشدداً.بالمقابل، يبدو الوضع في الواقع العربي مقلوباً على رأسه بأكثر من طريقة. فعلى سبيل المثال، تسمعُ الإدارة الأمريكية، في العلن، تصريحات (منسجمة) من أطراف عربية عديدة فيما يتعلق بمصالح العرب وشروط تحقيقها.. لكنها ترى وتسمع، بعيداً عن الأضواء، ممارسات ومقولات توحي بتضاربٍ كبير فيما يتعلق حتى بماهية تلك المصالح، فضلاً عن التكامل في العمل لتحقيقها.. ماذا نتوقع من أمريكا حين تُدرك هذا الواقع، مرةً تلو أخرى؟ أي استجابةٍ يمكن أن يتوقعها العرب، بجميع أطرافهم، من مثل هذه المعادلة؟ هذا، بوضوح، أقصرُ طريق لتوظيف العرب ضد بعضهم، ولضرب مصالحهم جميعاً، حتى لو كانت مختلفة.وفي نفس هذا الإطار من فوضى السياسات، يتفنن العربُ أحياناً في كبت كل أوراقهم (ذات الطابع الصقوري) في كل مجال.. ويستميتون في إظهار مماراستهم (الحَمَامية) بمناسبةٍ وبغير مناسبة. بل إنهم يتنافسون على مَن يكون مَلكياً أكثر من الملك في بعض الأحيان حين يتعلق الأمر بهذا الموضوع. وهذا أيضاً مدخلٌ، ليس فقط لتجاهل كل مصالح العرب، والاكتفاء بالأخذ منهم دون أي عطاء، وإنما أيضاً للاستهانة بهم سياسياً وإعلامياً ودبلوماسياً، بل وشخصياً في الأوساط السياسية المُغلقة، وبشكلٍ غير مناسبٍ ولا مقبول.لا يعدم الوضع العربي بطبيعة الحال وقائع تستلهم روح الإستراتيجية المذكورة أعلاه على طريق فهم سياسة الولايات المتحدة، والتعامل معها بشكلٍ يصل بالعرب إلى تحقيق الأهداف الإستراتيجية المطلوبة من العلاقة معها.في إطار تلك الإستراتيجية، جاءت التصريحات السعودية الإيجابية بخصوص الاتفاق النووي خلال زيارة الملك سلمان إلى واشنطن، ومعها فتح الباب للاستثمارات الأمريكية. ومن جانبٍ آخر، كان مقصوداً تزامنُ ذلك مع تصاعد الحزم العربي، بقيادة السعودية، في اليمن باتجاه الحسم.هذه خطوةٌ على الطريق. وإذا كنا لانجرؤ على الحلم برؤية مسؤولٍ عربي يخاطب أمريكا بقوة وأمامه رشاشٌ حربي.. إلا أننا نتساءل: بشيءٍ من حسابات (الأخذ والعطاء) السياسية، أليس هذا، تحديداً، الوقتُ المناسب لجرعةٍ مماثلةٍ من الحزم في الموضوع السوري؟
355
| 13 سبتمبر 2015
منذ عقود، كانت عبارة "المصير العربي المُشترك" شعاراً يُرفع في المؤتمرات ويتردد على ألسنة الساسة والزعماء.. مع مرور الأيام، ثبتَ للجميع أن الممارسة كانت للاستهلاك الإعلامي والسياسي الشعبوي أكثرَ من كونها تُعبر عن واقع، أو حتى عن تطلعٍ حقيقي لمستقبلٍ تتأكدُ فيه معاني ذلك الشعار. قد يرى بعض (المتفائلين) أن المقصود بالعبارة يكمن في تفعيل عمليات التعاون والتكامل بين البلاد العربية، على طريق تطويرها جميعاً في مختلف المجالات. وقد يؤكدون على ضرورة الأمر بالإشارة إلى المُشتركات الموجودة فعلياً من اللغة إلى الدين، ومن الثقافة إلى التاريخ.. هذا فضلاً عن مُقتضيات (المنفعة) التي تقود مختلف بلاد العالم إلى التعاون وصولاً لتحقيق مصالحها. وقد يرى بعض (المتشائمين) أن هذه المقولة لم تكن سابقاً، ولن تكون اليوم إلا سبباً للفشل.. وأنها مجردُ مدخل لفوضى الأولويات بالنسبة لكثيرٍ من الدول العربية. وأن بعض هذه الدول كان يمكن لها التركيز على شأنها الداخلي، وتوظيف ثرواتها وطاقاتها واهتماماتها لتطويره، بدلاً من تشتيتها في قضايا خارجية لا تؤثر عملياً في حاضر البلد المعني ومستقبله. المفارقة أن مسيرة الواقع العربي لم يكن لها علاقةٌ بمقولة الفريقين كِليهما. فلا التعاون الحقيقي الفعال الذي يؤدي لمصلحة الجميع حَصَل. ولا الانعزالُ العملي (الوطني) الذي ربما يؤدي لتحقيق مصلحة بلدٍ بعينه كان ممكناً. ثمة حسابات وأسباب سياسية وثقافية واقتصادية، محلية وإقليمية ودولية، لعبت دوراً في الوصول لتلك النتيجة. بالتالي، استمرت الحياة على هذا المنوال، بالطريقة العربية التي تقبلُ الواقع، أياً كانت سلبيته، وتتفننُ في التعايش معه. استمر هذا الحال حتى وصلنا إلى واقع المنطقة اليوم. وتحديداً، ما يتعلق منه بدرجة وكيفية تأثير الوضع السوري في مصير العرب اليوم وغداً وبعد غد. فبنظرةٍ واقعية، بعيدةٍ عن الأوهام والتمنيات والتفكير الرغائبي، يبدو مستحيلاً أن (يستقيل) العرب من القضية السورية. وتؤدي كل المقدمات إلى نتيجةٍ مفادها أن هذه القضية عادت لتَفرض فرضاً مقولة (المصير العربي المُشترك)، وإن في حدﱢها الأدنى، ولو للدول العربية الأكثر تأثراً بالمسألة. ثمة اليوم من يدرك، من العرب، هذه الحقيقة، ويعمل بمقتضاها، ليس فقط لمصلحة سوريا وشعبها، وإنما لإدراكه باستحالة تحقيق المصلحة الوطنية، أصلاً، في معزلٍ عن التعامل مع الوضع السوري بكل حيثياته. لكن هناك (فخاً) في الموضوع يجب أن ينتبه إليه البعض الآخر. فقد لا يستقيل هؤلاء من القضية السورية، بمعنى استمرارهم في لعب دورٍ يتعلق بمجرياتها، ولكن معتقدين أن تحقيق مصالحهم يكمن في تناسي كل تضحيات الشعب السوري، والاستجابة، مع التطورات الإقليمية والدولية، للمناورات ذات العنوان الروسي والإيراني، للالتفاف على كل ما جرى خلال السنوات الأربع الماضية، والمشاركة في إعادة تأهيل الأسد ونظامه. هذا انتحارٌ سياسيٌ وعمليٌ بكل معنى الكلمة، ومحاولةٌ بائسة لإعادة التاريخ إلى الوراء بشكلٍ يُعاند كل قوانينه.. وهو (فخٌ) يُنصبُ لبعض العرب في لَبوس الواقعية والبراجماتية والحكمة السياسية. تتأكد المشكلة في ظل (الوهم) بأن (إعادة التأهيل) تحصل بموافقة أمريكية، بمعنى الاعتقاد بأن هذا "أمرٌ قد توَجَّه"، وأن كل قرارٍ مختلف هو سباحةٌ ضد التيار. في حين أن كل ما تفعله أمريكا اليوم يُختصر في قرارٍ بألا (تلوث يديها) في الموضوع حالياً. فهي تُدرك أن بشار الأسد انتهى عملياً، وأن سوريا تحت حُكمه لن تعود يوماً، لكنها تترك الروس، ومن يَرغب، ليلعبوا بالموضوع، ويُشبِعوا، إعلامياً، أوهامَهم باستمرارهم كقوةٍ عظمى، في انتظار تهيئة الظروف لطبخةٍ أخرى. أستعيرُ هنا تحليلاً مُعبراً لدور روسيا طرحه الزميل محمد برهومة في مقالٍ له منذ أيام في الزميلة (الحياة) قال فيه: "ثمة انشغال إعلامي وسياسي بطبيعة الدور الروسي في منطقتنا وحدوده وآفاقه وغاياته، ويكاد يصيب البعض منّا الوهم والمبالغة وهو يقرأ هذا الدور بقوله إن الروس يسحبون البساط من تحت أرجل واشنطن في المنطقة ويملأون الفراغ الذي تتركه، ليغدو - وفق هذه القراءة الواهمة - بوتين كأنه يسدد اللكمات لأوباما، وليظهر لافروف بموقع القوي الداهية في مقابل ضعف كيري وتردده وارتباكه الدبلوماسي! روسيا نفسها تدرك حدود قوتها العسكرية والاقتصادية والسياسية أمام الولايات المتحدة، وهذه المحدودية لا تُسعف موسكو بأن تحل بدلاً من واشنطن في التأثير في ملفات المنطقة المختلفة والانخراط فيها.. استدعاء مبدأ أوباما (القيادة من الخلف) مفيدٌ في هذا السياق". انتهى النقل من الزميل، والظاهرُ أن دولاً وحكومات يجب أن تفكر في دلالاته أكثر من القراء العاديين، لأن مواقفها بناءً على استقراء هذه الظاهرة ستؤثر على مصيرها ومصير المنطقة. عطفاً على ذلك، يعلم الأمريكان أن بقاء الأسد أخطرُ على المنطقة حتى من وصول (داعش) لِحُكم سوريا. فبقاؤهُ يمثل الوصفة المثالية لفوَضى ستبدو معها الوقائع الحالية مثل لعب الأطفال.. في حين أن وصول (داعش) لحُكم سوريا سيجمع الدنيا ضدها بشكلٍ يُنهيها بأسرع وقت، حيث ينقلبُ نموذجُها في المناورة من حرب العصابات إلى حرب دول، وهذا ما لا طاقة لها به. بعد إدراك تلك الحقيقة، لا مهربَ من التفكير بمعطيات الجغرافيا السياسية والثقافة والاجتماع في المنطقة، فمن تَداخُل طرق التفكير إلى التداخل الكثيف للمجتمعات العربية، إن بصورتها التقليدية القبلية والعشائرية، أو بصورها المعاصرة في المجتمعات الخليجية مثلاً، تُظهر كل المؤشرات استحالة حصر الفوضى المذكورة في سوريا، والساحة الطبيعية لانتشارها هي العالم العربي، وخاصةً منه الأقرب لسوريا. لا تنفع في مثل هذه القضايا، بكل شفافيةٍ وصراحة، لا الحدود ولا الأسوار، ولا الموانع الدبلوماسية المتعلقة بالتأشيرات والفيز وأذون الدخول والإقامة، ولا الملاحقة الأمنية والقوانين الصارمة.. فتحتَ الضغوط العملية والنفسية الهائلة، من هَوس الأيديولوجيا إلى الجوع القاتل، مروراً بغسيل الأدمغة ومشاعر (التعاطف) بين الناس، وصولاً إلى ظاهرة (الهيجان الجماعي) التي جرﱠبتها الشعوب والأمم كثيراً في مثل الأحوال الاستثنائية التي يعيشها العرب اليوم، تفقدُ كل تلك التدابير فعاليتها، وتُصبح الفوضى مثل سيلٍ عارمٍ من الماء: تسونامي، إن لم يهدم الحواجز فإنه لا يعدم وسيلةً يتسربُ فيها من الشقوق. قد يرفضُ البعض صدور هذه الرؤية عن غيرةٍ على الأشقاء العرب، وعن خوفٍ حقيقي عليهم وعلى بلادهم وشعوبهم من مصيرٍ رأيناهُ في سوريا. ليكن، ولتُعتبر الرؤية، في أقل الأحوال، صادرةً عن بحثٍ في المصالح المشتركة، وهذا مشروعٌ ومطلوب. يبقى السؤال قائماً في الحالتين: قد تكون لدى أمريكا والغرب مساحةٌ (ترف) مراقبة الفوضى سنوات لحين الوصول إلى حلٍ يحقق مصالحهما، فهل يملك العرب هذا الترف؟
240
| 06 سبتمبر 2015
بغضﱢ النظر عن كل (مظاهر) الاهتمام في عالم العرب بخصوص ما يجري فيه حالياً من أحداث، وبمدى تأثيرها القادم على المنطقة كشعوبٍ ودول وثقافة وخرائط، يَظهر في كثيرٍ من الممارسات والقرارات الافتقارُ إلى الدرجة المطلوبة من (الجدﱢية الإستراتيجية) فيما يتعلق بإدراك حساسية الواقع العربي الراهن، وفي التعامل معه. ما يجري خطيرٌ جداً، لايجب أن نملﱠ من التذكير بهذه الحقيقة، وحين نقول إنه خطيرٌ على الشعوب والدول والثقافة والخرائط، فبمعنى أن التهديد (وجودي)، وهو يستهدف كل المكونات.. كلها دون استثناء.. ولا تنفع معه لا التطمينات السرية، ولا الوعود الزائفة، ولا التنازلات الجانبية، ولا التفاهمات المُنفردة. فهذه كلها تدخل في تكتيكات (الاستفراد)، وهي جزءٌ من اللعبة الجديدة التي انطلق مسارها، ولن يوقفها إلا تفكيرٌ إستراتيجيٌ حقيقيٌ يُجمع عليه العرب، أو من تبقى منهم من عُقلاء، وهؤلاء موجودون دون شك. في هذا الإطار، لم يعد ممكناً لنا، كعرب بشكلٍ عام، وكسوريين خصوصاً، أن نخلط بين الأهداف والوسائل، ونظن أن مجرد الضجيج في التعبير عن أهدافنا والإصرار على مطالبنا المشروعة من خلال البيانات والخطابات والمقالات الصحفية، يكفي لتحقيقها، أو ليكون منطلقاً للتعامل مع متغيرات السياسة العالمية والمحلية بغرض التأثير فيها وتوجيهها فيما يخدم مصالحنا. لابد، كبديل، من توليد رؤيةٍ إستراتيجة تتمحور حول تلك الأهداف، لكنها تأخذ بعين الاعتبار الحركة الدائمة في معادلات موازين القوى والمصالح العالمية، وتحاول تحقيق أهدافها من خلال استيعاب وتوظيف مناطق الخلخلة والتغيير المتكررة في تلك المعادلات.. في كتابٍ عن السيرة نشره منذ عقود الدكتور عماد الدين خليل، لخصَ الكاتب إستراتيجية الرسول الكريم في قصة الهجرة بعبارةٍ أنقلُها من الذاكرة: "إن الرسول توكل على الله وكأنه لايوجدُ هناك عالم أسباب، لكنه في نفس الوقت أخذَ بعالمِ الأسباب وكأنه لايوجد هناك شيءٌ اسمه التوكلُ على الله"! باستحياء هذه القاعدة، يُصبح المطلوب اليوم هو "الاعتماد على القوة وكأنه لايوجدُ شيءٌ اسمه دبلوماسية أو سياسة، واستخدامُ الدبلوماسية والسياسة وكأنه لا يوجد شيءٌ اسمه القوة". ولما كان السوريون اليوم في خط المواجهة الأول، فإنهم أولى الناس بمراجعة كل مايفعلونه، وباتخاذ المعادلة المذكورة منهجاً للتعامل مع قضيتهم. لأن قبولهم بوضعهم الراهن، واستمرار ممارساتهم وطريقة تفكيرهم وعملهم، ساسة وعسكرا، ونُشطاءَ ومثقفين، هو، عملياً، الخطوة الأخيرة قبل الاستسلام، حتى لو ملأوا الدنيا ضجيجاً بشعارات تقول، نظرياً، عكس ذلك. هذه حقيقةٌ أخرى لم يعد ينفع الهروب من قولها بقوةٍ ووضوحٍ وصراحة: كل شيىءٍ يفعله السوريون، ممن ينتسبون إلى الثورة بأي معنى من المعاني، بات تهيئةً لإعلان الاستسلام، بل والانتحار الجماعي. فبعد كل ما عرفوهُ اليوم من نفاق العالم وانتهازيته ووحشيته، لايكونُ الاستمرارُ في أي نوعٍ من المماحكات التنظيمية والأيديولوجية العنيدة والسخيفة لساستهم وعسكرهم، أو السلبية القاتلة لنشطائهم ومثقفيهم، إلا مساهمةً حثيثة في التحضير العملي للاستسلام والانتحار. نعم. أظهر السوريون، قبل توريطهم في عسكرة الثورة من قبل النظام والعالم من خلفه، نمطاً فريداً من الممارسات يحكي، واقعياً، عن رسوخ عُمقهم الحضاري. واليوم، بعد تجربة السنوات السابقة، باتَ عليهم استعادة ذلك العُمق بطريقةٍ أخرى، أو القولُ، تبريراً للعجز، بأنه كان وَهماً أو كذبةً كُبرى، وليُترك مصير سوريا لجيلٍ قادمٍ يأتي بعد مرحلة (التيه). المشهد (السوري) اليوم هو في الحقيقة (سوريالي) من حيث ملامحه الغرائبية العَبَثية. ولا مخرج من هذا الوضع إلا بإجماعٍ وطنيٍ تُلغى معه كل الأجندات الحزبية والطموحات الشخصية والرؤى الأيديولوجية التي لم يعد لها معنى، لأنها، أصلاً، مُهددةٌ بالإلغاء جميعاً، ومعها أصحابُها، ووطنُهم وشعبُهم. السوريون اليوم أمام مَفرق طريق تاريخي بكل مافي الكلمة من معنى. والسؤال ليس حول (الخيارات) التي لديهم، وإنما حول إمكانية وكيفية قيامهم بالاتفاق على الخيار الوحيد المتوفر لديهم، وبأقرب وقت. التشبيهُ القادم حساسٌ ومؤلم، ولكنه ليس عنصرياً بالتأكيد. فإما أن تقوم (كتلة حرجة) من السوريين، من جميع الأطياف والهياكل والانتماءات، بالانتفاض على الواقع الراهن لـ (مُجتمع الثورة) بكل مكوناته، وتتعلم من دروس إخوتنا في فلسطين والعراق، ويتم إنقاذ سوريا وشعبها، أو تدخل البلاد وأهلها، في النفق الذي دخل فيه البلدان العزيزان. يبقى هذا خيار السوريين، لكن المفارقة أن آثارهُ لن تنحصر في حدود بلادهم. فالمؤكد أن الوضع العربي لايحتمل استسلامهم، لأنه يعني قدوم الطوفان الكبير. وهذه فكرةٌ يجب أن تبقى هاجساً يؤرقُ العرب، لأن النومَ عنه قد لايكون بعدهُ استيقاظ. ماذا يمكن للعرب أن يفعلوا؟ حسناً. قالها يوماً ماوتسي تونغ: "القوة السياسية تأتي من فوهة البندقية". وبعدهُ قال جورج أورويل: "ينامُ الناس بسلامٍ في أسِرﱠتهم ليلاً لأن هناك رجالاً أشداء يسهرون مستعدين للعنف من أجلهم". وبكل صراحة، لا يوجد أقربُ من إيران نفسها لنتعلم الدرس، ونتعاملَ معها بالشكل المطلوب. فقد مضى زمنٌ لم يكن فيه عندها أي مجالٍ للسياسة والدبلوماسية، واضطُرت اضطراراً للإبداع في توظيف القوة، حتى وصلت إلى وضعٍ يُمكِّنها من الجمع بين قوة القوة وقوة السياسة والدبلوماسية. أما العربُ، فوضعهم اليوم، من جانب، أفضل مما كان عليه وضع إيران سابقاً. بمعنى أن بإمكانهم التفنن في الجمع بين القوتين، والاستفادة من ذلك بشكلٍ حاسم، فأوراق القوة وأوراق السياسة والدبلوماسية متوفرةٌ لديهم، وكل ما ينقصهم هو التخطيط الإستراتيجي والإرادة، مع التأكيد أن وجود التخطيط والإرادة ينبع من ضرورةٍ قاهرة، وليس نوعاً من (الترف) الذي يمكنهم معه أخذ الوقت للتفكير، فوضعهم الراهن، من جانبٍ آخر، أسوء من وضع إيران سابقاً، لأن التهديد الذي يواجههم (وجوديٌ) كامل، وليس لديهم (رفاهية) التعامل معه بالتكتيك والمناورات الخفيفة والرؤية القصيرة النظر. "والله تا ياخدو بناتنا ونساءنا سبايا لـ (قم).." قالها صالح القلاب، وزير الإعلام الأردني السابق، بصراحته المعهودة منذ أيام، مُختصراً خطورة الموقف. وإما أن تتوقف "الألعاب الصغيرة" كما سماها، ومعها محاولات "الاختباء وراء الأصابع"، ويرتقي العربُ إلى جدية الموقف، أو تصبح رقبةُ الجميع تحت المقصلة.
531
| 30 أغسطس 2015
يتفنن التاجر الإيراني باستعراض مهاراته بعد جرعة الثقة التي اكتسبها إثر توقيع الاتفاق النووي مع الغرب، والشرق طبعاً. ثمة لذة خاصة عنده في اللعب مع.. الشيطان الأكبر، لا تضاهيها لذةٌ أخرى. واليوم، تنفتح الأبواب والنوافذ ليمارس مواهبه السياسية والدبلوماسية في الساحة الإقليمية بعد إذ كان مُحاصراً سابقاً داخل حدودها، فلا يملك أن يتحرك فيها إلا بمنطق القوة وأدواتها. كان هذا بالأمس، وقد أحسنَ فيه استغلال ذلك المنطق وأدواته، أما اليوم فنهار جديد. هي فرصة إذاً ليُثبت التاجر لـ(الشيطان) تحديداً أنه عند حُسنِ ظنه فيه، ويُعطيه أوراقاً تُمكنه من تأكيد صوابية الاتفاق. أوراق للداخل الأمريكي تُسهل مصادقة الكونجرس على الاتفاق، وأخرى للعالم، تساهم في التسويق لفتح أبوابه الاقتصادية وجلب استثماراته المالية ومعارفه التقنية. تعرض إيران في هذه المرحلة بضاعتها بكل أنواعها، حتى (الرمزية) منها، لأنها تعرف درجة الكمون في قوة (التأويل) عندما يتعلق الأمر بمثل هذه البضاعة. هكذا، يزور وزير الخارجية الإيراني بيروت، ليضرب عصفورين بحجرٍ واحد. فمع تأكيد الهيمنة الإيرانية على لبنان وشؤونه من قضية الرئاسة إلى مشكلة النفايات، وهي أمورٌ لم تعد تؤرق الغرب المُتفاهِم والمُتفهِّم، يخرق ظريف البرتوكول الإيراني في لبنان، ويمتنع عن زيارة ضريح عماد مغنية، في رسالةٍ، رخيصة، ولكن صارخة الدلالات لأمريكا، تتعلق باحترام قوائمها المتعلقة بالإرهاب. أما زيارة قاسم سليماني إلى روسيا، وهو المصنف على القوائم نفسها، فتفصيلٌ هامشي يمكن التعامل معه بعبارة واحدة لمندوبة أمريكا في الولايات المتحدة قالت فيها إن التقارير المتعلقة بالزيارة "مقلقةٌ للغاية"، لتستدرك بعدها مباشرةً بالقول: "لكننا مازلنا نتحرى عن الحقائق"، وكفى الله المؤمنين القتال. لا تفهم إيران اللعبة جيداً فقط، ولا تتفنن في الحركة وفق قوانينها فقط، بل وتحاول الإبداع في ممارستها كما يحصلُ اليوم في العراق على سبيل المثال. ففجأة، يشرب رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي (حليب السباع) ويُصدر قرارات إصلاحية سياسية وإدارية هي أقرب للانقلاب. ورغم أن مواقف ومطالب إصلاحية أقل طموحاً بكثير جوبهت بالرفض القاطع سابقاً، يمر انقلاب العبادي بضوء إيراني أخضر يستحيل تمريره في غيابه. تدرك إيران أن القرار النهائي سيبقى في يدها داخل العراق، سياسياً وعسكرياً، وأن سيطرتها على هذا البلد تبدو دون منازع حقيقي. فالواضح أن لاعبي الداخل العراقي مضمونون في استجابتهم للقرار الإيراني، إن لجهة الولاء الأيديولوجي الكامل، بالنسبة لغالبية الشيعة، أو لجهة غَلبة الأمر الواقع، لمن يفكر بأي درجة من العصيان منهم لمصالح شخصية، مثلما هو الحال مع المالكي. فالمصلحة الكبرى هنا، وهي إيرانية أولاً وآخراً ودائماً، تلغي كل قيمة للمصالح الشخصية حين يحصل تضاربٌ بين المصلحتين كما هو الحال الآن. في حين كان يمكن تمريرهما بانتفاء التضارب بينهما، كما كان الوضع سابقاً في مرحلة المالكي نفسه رئيساً للوزراء. أما لاعبو السنة فقد جرى تشتيتهم وتقسيمهم رَغباً ورَهَباً، حتى غاب دورهم بشكلٍ كامل. تدرك إيران كل ذلك، وتدركُ أن الغرب يعرف يقيناً تلك الحقيقة. هكذا، يتم احتساب الإصلاحات في العراق كإنجازٍ إيراني خالص، يزيد من رصيد إيران، ويُثبت قدرتها، ليس فقط على (الاندماج)، بل وعلى تنظيم أمور المنطقة، أو، بكلامٍ أقرب للدقة، ما يهم الغربَ فيها. والمؤكد أن سوريا، وما يجري فيها من مآسٍ إنسانية على الأقل، لا تدخل في ذلك الإطار. على العكس من ذلك. بينما تُخطط إيران لإحكام قبضتها على سوريا، لا يزال النظام الدولي يتعامل مع الموضوع السوري بمزيجٍ من الخبث والوقاحة، إذ تبدو عينهُ، التي لم تغفل عما فعلته (داعش) بالأقليات في سوريا، عمياء كلياً عن المذابح التي يرتكبها النظام في حق السوريين (هل نقول الأغلبية؟). فرغم هول المأساة التي شَهدتها مناطق مختلفة في البلاد على مدى يومين الأسبوعَ الفائت، كان (الصمتُ) العالمي، خاصة منه الأمريكي والأوروبي، صاخباً وعالي الضجيج فيما يتعلق بالرسائل التي يُراد إيصالها للسوريين الثائرين، وللنظام الذي يقتلهم ليل نهار، ولداعميه الإقليميين والدوليين، ولمن يُناصر الشعب السوري أو يُفكر في دعمه. أكثرَ من هذا، تتكامل، بهدوءٍ وتدرج، عملية الحصار الدبلوماسي الدولي الذي سيُواجهُ به السوريون عما قريب. يحصل هذا من خلال العملية الطويلة، (السَّلَّالَة)، كما يقولون في الشام للتعبير عن ممارسات يغلب عليها التلاعب واللؤم. تلك العملية التي بدأها المبعوث الأممي ستيفان دي ميستورا في جنيف منذ شهور بلقاءات ادعى أنها تستمزج رأي جميع السوريين، لتنتهي بخطةٍ تم تركيبها من قبل حفنةٍ من هؤلاء، بتنسيق مع الإيرانيين والروس، ويبدو أنها ستُصبح المسار البديل لمسار (جنيف) بقرارٍ رسمي من مجلس الأمن، رغماً عن أنف غالبية السوريين، وكثيرٌ منهم التقى دي ميستورا، وصرح بأن مقترحات هذا الأخير وخطته لا تُعبران عن آرائهم التي عرضوها عليه في لقاءاتهم معه، في قليلٍ أو كثير. الأرجح أن تزيدَ تلك الخطة الفوضى في المنطقة. ولكن، لا مشكلة لدى الغرب في أن يلعب بالنار، ما دام اشتعالها سيكون بعيداً عنه، بل إنه مقامرٌ بطبعه، وليس غريباً أن تتكرر تجربته مع هتلر، فيأخذ نفسَهُ والعالم إلى الهاوية. صحيحٌ أن إيران تركز، في هذه المرحلة، على أن تقبض ثمن بضاعتها في سوريا تحديداً، لكن رهانها الكبير معروف، وطموحها الإستراتيجي لا يخفى على أحد، والفوز بسوريا أخطرُ خطوةٍ لتحقيق ذلك الطموح. وقد يكون من سوء حظها، وحُسن حظ العرب، كشفُ خلية حزب الله في الكويت، بمخزون من السلاح والعتاد يوحي بأنه لتجهيز جيش صغير أكثر منه للقيام بعملية هنا وأخرى هناك. ما الذي كان يُحاك للكويت (المحايدة)؟ ماذا تخبئ إيران، إذاً، في دول الخليج الأخرى مما لم يُكتشف حتى الآن؟ هل تحسم هذه الواقعة حيرة بعض العرب وترددهم فيما يتعلق بإيران، وما يمكن أن تفعلهُ بهم إذا سقط السد السوري في وجه جحافلها؟ أسئلةٌ كبيرة تحتاج إلى جديةٍ في التفكير وحسمٍ في القرار.
456
| 23 أغسطس 2015
هل يمكن أن تكون هناك مُبالغةٌ في نقدِ واقعنا، بحيث تفقد عملية النقد معناها الحقيقي، وتتحول إلى هدفٍ بحد ذاتها، وفق مقولة النقد لمجرد النقد؟ هذا ممكنٌ دوماً على مستوى بعض الأفراد الذين يُمارسون تلك العملية، والأسباب المُحتملة وراءه عديدة، تتراوحُ من غَلَبة التفكير السلبي على أصحابها شخصياً، إلى افتقادهم القدرة العِلمية والفكرية على تجاوز النقد إلى تقديم ملامح الإجابات والحلول. ثمة مُشكلة في الظاهرة السابقة. لكن المشكلة الأكبر، بكثير، تكمنُ في التعامل مع عمليات النقد، كآليةٍ للمراجعات والتصحيح في المجتمعات، بناءً على وجود تلك الظاهرة. بمعنى، أن يتم تسليط أشعة الحرمان على ممارسة النقد بدعوى أننا "شبعنا من النقد"، وأننا "نعرف أن في واقعنا سيئات كثيرة"، وأنه "كفى تنظيراً وأعطونا حلولاً"، وما إلى ذلك من مقولات. فهذا الطرحُ يَغفل عن حقيقةٍ تقوم عليها المجتمعات الأكثر تقدماً في هذا العصر، حيث يُعتبر النقد عمليةً مستمرةً لا تقفُ عند حدٍ أو زمن، ولا تنحصر في مسألة، ولا تقتصر على جهةٍ دون أخرى. بل توجد شرائح كاملة من العلماء والباحثين تنحصر صِفتُهُم في أنهم (نُقاد)، ونَقدهم يمتد من مجالات الفن والأدب إلى السياسة والاقتصاد، مروراً بكل مجالات الحياة البشرية الأخرى. والأغلب أن تكون هذه صِفتهم المِهَنية، بمعنى أن (النقد) هو حِرفتُهم في الحياة. ولا يخطرُ في بال أحد أن يشكوَ من (إنتاجهم) ويتبرﱠمَ من استمرار ممارستهم النقدية، فضلاً عن أن يستهين بما يقومون به، ويُصنفهُ بأنه عملُ من لاعملَ له. أكثر من هذا، هناك مدرسةٌ كاملة في عالم الأكاديميا هي (المدرسة النقدية)، وهي تُغطي أيضاً كل فعاليات الواقع الذي تعيشه الدول والمجتمعات، وتأثيرُها لايقف عند حدود معاهد البحث والتعليم، وإنما يتجاوزُها ليدخل إلى صُلب الواقع العملي، ويُلامس عناصر الحياة اليومية للمجتمعات بآليات التحليل والتفكيك والشك والمُساءَلة، بحثاً عن أسباب المشكلات، وتقصياً لعوامل الخلل والخطأ، واستشرافاً لمداخل الحلول. والمفارقة، التي يجب أن ينتبه إليها أهلُ المقولات المذكورة أعلاه، أن يحصلَ هذا في مجتمعات مستقرة ومتطورة لديها الكثير من الإجابات على أسئلتها، ومن الحلول لمشكلاتها، دون أن يدفع ذلك أهلَها إلى اختزال الموضوع في جُمل تُعبِّر عن (الاكتفاء من عمليات النقد)، وتَحملُ في طياتها ادعاء (معرفة أن في واقعنا مُشكلات). الواضحُ أن هذه الطريقة في التفكير، بحدﱢ ذاتها، مظهرٌ رئيس من مظاهر مشكلتنا الثقافية في مجتمعات العرب والمسلمين، وهي المُشكلة التي تُعتبر أصل مشكلاتنا الأخرى، الاجتماعية والسياسية والاقتصادية وغيرها. فَمع تَحكُّم عقلية الاختزال والتعميم والاستعجال في الثقافة السائدة، يُعتقدُ أن بضعةُ مقالات أو كتب أو دراسات كافيةً لتغطية المساحات الواسعة المهترئة في طرق التفكير والعمل والحياة.. وبإدراك بعض عناوين المشكلات والإقرار ببعض مظاهرها، يسود الشعور بأننا، حقاً، نعرف سلبياتنا وأخطاءنا. وفي ظل الاعتقاد بكفاية النقد الموجود وقدرته على كشف جذور السلبيات الاجتماعية، يُصبح الاستعجالُ في طلب الحلول والإجابات طبيعياً، وكذلك الاستمرارُ في اعتبار النقد (ترفاً) أو (تضييع وقت) لاطائل من ورائه. ما من شكٍ في الحاجة إلى تقديم حلول للمشكلات وطرح إجابات على أسئلة الواقع، لكن هذا ليس مهمة (الناقد) بالضرورة. فهذا الأخير يُشير إلى مكمن الخلل في ظاهرةٍ معينة، ويُحاول تبيان جذورها وأسبابها. وهو، بذلك، يعطي إشارات تتعلق بمداخل تصحيح الخلل، ويكون دورُ أصحاب العلاقة الانتباهُ إلى تلك الإشارات ودراستها، وصولاً إلى صياغةٍ تفصيليةٍ للحلول هم الأقدرُ على تقديمها. هذه، إذاً، عمليةُ توزيع أدوار فيما يتعلق بالوظائف الثقافية التي تهدف للإصلاح الاجتماعي والسياسي، وحين يُنظرُ إليها بتلك الطريقة ترتفع درجة الفعالية في أداء الوظائف المختلفة جميعاً، ويمكن لعملية التطوير في المجتمعات أن تبدأ بشكلٍ حقيقي. قد يكتب أحدهم، مثلاً، أكثرَ من مرة، في نقد الطريقة السائدة في إصدار الفتاوى، ويُشير إلى ضرورة استصحاب تخصصات العلوم الاجتماعية في فهم الظواهر والتعامل معها، وعدم الاكتفاء بـ (العلم الشرعي) في معالجة الواقع، وإلى خطورة (الاعتماد) المُبالغ فيه على أقوال السابقين، وهو ما يُرسخ معنى (الآبائية) التي يرفضها القرآن نفسه. هذا نقدٌ يحمل في طياته إشارات إلى آليات تطوير منهجية الفتوى وطريقتها، لكن الأمر يُصبح، بعدَها، مسؤوليةَ أصحاب العلاقة المباشَرين ممن يتصدون لعملية الفتوى. وحين يتكرر الأمر مرةً تلو أخرى بنفس الطريقة، فهذا يُعلَّلُ بواحدٍ من تفسيرين: ألا تكون هناك قناعةٌ، أصلاً، بوجود مشكلة، أو أن الشعور بها موجودٌ، لكن التغيير صعب لأسباب عديدة، ليس هذا مقامَ البحث فيها، والأرجحُ أنها باتت معروفة. وفي الحالتين، يكون النقد قد أدﱠى دوره، ويبقى الأمر مُعلقاً بإرادة أصحاب العلاقة وقدرتهم على رؤية المشكلة وعلى حلها. المفارقةُ أن تكون لدى بعض أصحاب المقولات المذكورة أعلاه قدرةٌ على التأثير في أهل العلاقة المباشرة بإصلاح الظاهرة، وأن يقتصر دورهم، رغم ذلك، في لَومِ النقد والنقاد، بدلاً من المبادرة الإيجابية لدى من يُمكنُ له القيام بالإصلاح عملياً. ورغم أن الحالة التي نتحدث عنها لاتختص بشريحةٍ مُحددة في المجتمعات العربية والإسلامية، إلا أنها بارزةٌ بوضوح لدى (الإسلاميين) أكثر من غيرهم، وخاصةً منهم المُنتظمين في مؤسسات أو تجمعات سياسية أو دَعَوية، أو مَن لهم علاقة بتلك الهياكل وأفرادها. والمشكلة هنا، كما ذكرنا سابقاً، أن كثيراً من هؤلاء يقرؤون "كل نقدٍ على أنه هجومٌ وطعن، ويَرون في كل محاولة للإشارة إلى أخطائهم تَجنّياً وتشكيكاً، ويُرجِعون، بسرعةٍ وحسم، كل دعوةٍ للمراجعة إلى أحد سببين: انحرافُ صاحب الدعوة أو مشاركتهُ في مؤامرةٍ ما عليهم.. ومن النادر أن يظهر في ردود أفعالهم (حُسنُ الظن)، مع أن هذا يُعتبرُ من المعاني التي يتغنونَ بها في أدبياتهم.. وأكثرُ نُدرةً أن تجدَ القابلية عندهم للحوار مع الأفكار، ومحاولةَ قراءتها بدرجةٍ من الحياد، والتفكيرَ في دلالتها بشيءٍ من الموضوعية. أما أن تسمع عبارةً فيها اعترافٌ واضحٌ وصريحٌ بالخطأ، فهذا أمرٌ بعيد الاحتمال إجمالاً". مرةً أخرى، ثمة أفرادٌ يمارسون النقد لمجرد النقد، تغلبُ عليهم السلبية في رؤية الواقع، ويصعبُ عليهم إبصارُ كمون الإيجابيات فيه. والحالُ مع هؤلاء، أياً كانوا، أن يُتركُ إنتاجهم ليحكم التاريخ فيه. أما الخطورة فتكمنُ في التعامل مع عملية النقد، بشكلها المنهجي، بناءً على وجود هؤلاء، وطبيعة عطائهم. والأصلُ ألا تتوقف تلك العملية، خاصةً في مجتمعات هي أحوج ما تكون إلى استمرارها فيها، كما هو الحال مع مجتمعات العرب والمسلمين.
886
| 16 أغسطس 2015
من الواضح، مرةً أخرى، أن ثمة فكراً خطيراً يُحاصرُ الإسلام بشكلٍ سرطاني، وهو قبل ذلك وبعدهُ يُحاصرُ العربَ والمسلمين بدرجةٍ غير مسبوقة. نعرف مثلاً أن مئات الملايين من المسلمين في العالم، وفي طليعتهم أبناء المنطقة العربية، يُجمعون على ضرورة القضاء على تنظيم (داعش)، وينظرون إلى الأمر على أنه من الأولويات والبدهيات التي لا نقاش فيها. ونعرف أنهم وصلوا إلى تلك النتيجة بناءً على حسابات فِطرية للمصالح العامة، ديناً وعقلاً واجتماعاً بشرياً. نعرفُ أيضاً أن آلاف التحليلات والدراسات والمقالات والآراء في دنيا العرب، حتى بين أطراف تختلف في حُكمها تجاه قضايا أخرى، تتفقُ على الخطر الإستراتيجي الوجودي الذي تُشكله (داعش) على شعوب المنطقة ودولها وثقافتها وهويتها وتاريخها. لكن هذا كلهُ لا يبدو كافياً في نظر ذلك الفكر وأصحابه، لا يأبه هؤلاء بكل المعطيات المذكورة أعلاه، ولا يقيمون لها أي وزن. أما البديل الوحيد والأوحد لديهم، فيتمثل في كلمة واحدة: (فتوى) تتعلق بهذا الموضوع. لهذا تحديداً، تُصبح (الفتوى)، التي أصدرها المجلس الإسلامي السوري منذ أيام بعنوان (فتوى حول حكم التنسيق مع الحكومة التركية للقضاء على داعش)، ظاهرة تستحق التحليل من عدة وجوه. من الواضح، بدايةً، أن المجلس وصلَ إلى النتيجة المذكورة أعلاه، وأنه أصدر الفتوى من واقع معايشته لملابسات الموضوع على الصعيدين النظري والعملي. وفي اعتقادنا أن السؤال المذكور في مطلع الوثيقة، والذي جاءت الفتوى كإجابةٍ مباشرة له، مجردُ نموذج على أسئلة ووقائع وأحداث عايشها المجلس خلال الأسابيع القليلة الماضية بعد بدء الحملة العسكرية التركية على (داعش). هذا في حد ذاته مدعاة للتقدير، لأن المجلس يحاول أن يتعامل هنا أيضاً، كما هو حالُ جهات أخرى، مع (إكراهات) الواقع بِلُغة هذا الواقع ومفرداته التي يفهمها.. ويحاول أن يستخدم أدواته لتحقيق المصلحة العامة. ويمكن القول، من باب الواقعية: إن صدور مثل هذه الفتوى في مثل هذا الوقت ضروري للتعامل مع ظاهرة (داعش) وصولاً إلى النتيجة المطلوبة التي تتلخص في آخر عنوانها: (القضاء عليها). لكن هذا لا يتضارب مع طرح جملة ملاحظات نقدية يقتضيها المقام. فنحن نعود، مع هذه الفتوى، إلى تلك الإشكاليات التي تحملُها هذه الآلية حين تُستخدم بطريقتها التقليدية المُعتمدة، منذ مئات السنين، وبشكلٍ يختلطُ فيه تحقيقُ المصلحة المذكورة أعلاه بترسيخ ما نراه (مفاسد) تؤثر سلباً، ليس فقط في حياتنا الثقافية وطرق تفكيرنا وحياتنا، بل وفي فهم المسلمين لإسلامهم. تتجلى في هذه الفتوى صدقية التحليل الذي طرحناه وقت إنشاء المجلس، وذكرنا فيه أن "المسألة الحساسة التي يجب الانتباه إليها هنا تتمثل في ذلك الارتباط الدقيق الذي أصبح سائداً بين الفتوى الشرعية وبين القرارات السياسية والاقتصادية والإدارية. فرغم أن المُعلن أو المُتعارف عليه أن المجلس سيختصﱡ بإصدار فتاوى شرعية، غير أن القاصي والداني يدركان أن تلك الفتاوى الشرعية تتعلق في حقيقتها، وبشكلٍ كبير، بالمسائل الكبرى السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية التي تشغل الواقع السوري المعاصر. والمشكلة هنا أن إصدار تلك الفتاوى، وهي تمثل في حقيقتها مواقفَ سياسية وأحكاماً اقتصادية وتوجهات ثقافية، يتطلب وجود دراسات وتحليلات في غاية العمق والتنوع والشمول من جهة الاختصاص". يبدو هذا واضحاً حين نجدُ كيف اضطرت الفتوى، في غياب الاختصاصات المذكورة أعلاه، وغياب أدواتها ومفاهيمها، إلى ترسيخ مشكلةٍ أخرى في طريقة (استنباط) الرأي الإسلامي، للوصول إلى هدفها بما نرى أنه نوعٌ من (اللف والدوران). إذ لا يبدو ممكناً للفتوى المذكورة، كما هو شائعٌ في الفكر السائد، أن تستمد قوتها الحقيقية من قدرة أهل العلم المعاصرين على استقراء (النص) الإسلامي، وإنما تستمد الجزءَ الأكبر من القوة و(المصداقية) من (أقوال) السابقين و(استنباطاتهم) و(قراءتهم) الخاصة التاريخية للنص. وإذ نجدُ في فتوى مهمة كهذه الفتوى، بأسرها، آية قرآنية واحدة، ونجدُ معها بضعة أحاديث، نرى بالمقابل فقرات مطولة من مقولات وآراء ابن القيم وابن تيمية وابن حزم والسرخسي، هي التي تحسمُ الأمر في نهاية المطاف حسبَ منطوق الفتوى. هل توقفت قدرةُ الإنسان الحقيقية على التلقي من (النص)، بشكلٍ يستخرج مكنوناته المعاصرة ويُعالج مقتضيات الواقع المعين للإنسان، عند مسلمين عاشوا منذ مئات السنين؟ هل هذا حقاً قَدَرُ الإنسانية النهائي مع النص الإسلامي الذي يكرر المسلمون الحديث عن صلاحيته لكل زمان ومكان؟ تبدو الأسئلة صعبةً ومُحرجة، لأن الفتوى تحمل في طياتها إشكاليات أخرى. فمن ناحية، تُحاول الفتوى الخروج من مأزق (الحَرفية) الذي يستخدمه مَن أفتوا بحرمة التعامل مع الحكومة التركية على أساس أنه "من التولي لأعداء الله الذي يصل حد الكفر"، فكيف تفعل ذلك؟ بشكلٍ مأساويٍ جامعٍ لمعاني هذا الوصف. فهي حين تحاول الدفاع عن الحكومة التركية في العبارة التالية: "من الجهل والظلم الحكم على هذه الحكومة بالكفر والردة"، تلجأ فوراً إلى تشبيهها بالنجاشي، مع استفاضةٍ ملحوظةٍ في الحديث عنه. لكن الطامة الكبرى تظهرُ تدريجياً في الفقرات التالية. فَتَحتَ ضغط (الحَرفية) المذكورة أعلاه، وفيما نرى أنه محاولةٌ (داخلية) للانسجام مع ثقافة (الحَرفية) نفسها، ومع طريقة التفكير المُستحكِمة، تنتقل الفتوى لمعالجة: "فرض توقع مفسدة من التدخل التركي"، فيكون ذلك بأن تقول إنه "لن يصل إلى درجة المفسدة التي ترتبت على أقوال وأفعال داعش".. أكثرَ من هذا، نرى تصاعد الخوف من مخالفة (الحَرفية) في الفهم حين تصل الفتوى إلى أن تقول: "ثم على فرض القول بالمنع والتحريم لهذا التعاون، فإنه يكون جائزاً ومباحاً، بل قد يصل إلى الوجوب، لأن الشعب السوري في أعلى درجات الضرورة".. ولا تتردد في تبرير هذا بمقولة: "التفريق بين الاستعانة والتولي لأعداء الله، فإن مسألة الاستعانة دائرة بين الجائز والمحظور غير المُكفِر".. مستدلةً على ذلك بقول السرخسي: "ولا بأس بأن يستعين أهل العدل بقومٍ من أهل البغي وأهل الذمة على الخوارج".. هكذا، تتجنب الفتوى قراءة (الواقعة) المعاصرة الحساسة بمنهجيةٍ تستلهم مقاصد النص الإسلامي الأصيل، يقوم بها علماء عاملون، وبرؤيةٍ شموليةٍ تُساهم في رسمها، إلى جانب العلم الشرعي، تخصصاتٌ مختلفة في العلوم الاجتماعية. وبالتالي، تجدُ نفسها مُحاصرةً بالقراءة الحَرفية، التي لا يمكن إطلاقاً للفقه التقليدي تجاهلُها، بل كثيراً ما يأخذُها بعين القبول والاعتبار، فلا يكونُ الحلﱡ، عندها، إلا بالعودة إلى بضاعة التاريخ وأهله. صحيحٌ أن الفتوى تصل إلى مطلوبها، في نهاية المطاف، عبر ذلك الطريق (الملتوي والمتعرج). لكنها لا تنتبه، بالتأكيد، إلى نَقلِها التدريجي للطرف التركي من حالٍ إلى حال، وصولاً إلى أن يُقاسَ، دون قصد، "بقومٍ من أهل البغي وأهل الذمة" تجوزُ الاستعانة بهم على الخوارج "داعش".
650
| 09 أغسطس 2015
ثمة فكرة تشيعُ في المنطقة تتعلق بإعادة النظر في دور ما كان يُسمى "حركات الإسلام السياسي" في الواقع العربي، وطبيعة العلاقة بينها من ناحية، وبين دول المنطقة وشعوبها من ناحيةٍ ثانية. هذا أمرٌ طبيعي إذا أردنا أن نكون واقعيين بكل المعاني. فسواء تعلقَ الأمر بالرؤية السياسية أو التركيبة الاجتماعية أو التكوين الثقافي للعرب، يبدو من مختلف الزوايا أن وجود هذه الحركات جزء من الواقع العربي يجب أن يؤخذ بعين الاعتبار. قد تختلف أطراف عديدة في تقويمها لحجم هذا الوجود ولدرجة تأثيره، سلباً أو إيجاباً، في الواقع المذكور، لكن المفارقة التي يجب الانتباه إليها تتمثل في أن هذا الاختلاف يحمل في طياته مبرراً للاستمرار في دراسة الظاهرة، ورصد تطوراتها بشكلٍ دائم، لئلا يؤدي الاختلاف، ذاتهُ، في تقويمها، من قبل اللاعبين المؤثرين، إلى مشاكل أخرى يبدو الجميع في غنى عنها. وهذا، بشكلٍ عام، أنفعُ للمنطقة ومصالحها من "تصنيم" تلك الحركات في صورةٍ ذهنيةٍ مُعينةٍ ثابتةٍ في أبعاد الزمان والمكان، ومن ثم، الحكم عليها والتعامل معها بناءً على تلك الصورة. يصدقُ هذا تحديداً في المرحلة الحساسة الراهنة، حيث تبدو المنطقة العربية بأسرها، خاصة المشرق العربي، في مهب عواصف إقليمية ودولية، سياسية وحضارية. وحيث يتصاعد الحديث عن خرائط وتحالفات جديدة تبدو بمجملها مخاضاً لولادة نظامٍ إقليمي جديد، من المصلحة أن يُولد بالإرادات المُشتركة لأهله، بدل أن يظهر فيه فجأةً على سبيل القهرِ والإجبار و(الأمر الواقع) الذي لا مهربَ منه. يبدو لافتاً هنا، على سبيل المثال، أن تظهر تسمية (الحركات السُنية) التي يبدو واضحاً أنها تنبعُ من ظروف المرحلة الجديدة، رغم أن المقصودَ بها، في معظم الأحوال، هو الحركاتُ المذكورةُ أعلاهُ عينُها. فهذه التسمية (الوظيفية) تدخل في نطاق محاولات التعامل مع (إكراهات) التغييرات الإستراتيجية الراهنة، ومحاولات أن يحصل ذلك باستخدام أدوات ومُفردات تلك التغييرات، وهو ما يحتاج إلى حساباتٍ في غاية الدقة والحساسية والتوازن. لكن أحد الشروط الرئيسية للعملية المذكورة أعلاه، إن لم تكن الشرط الرئيسي، يتمثل في تبني الحركات المذكورة لفكرٍ سياسي جديد، تَتجنبُ بناءً عليه كثيراً من الأخطاء في الحسابات، صدرت عنها في المراحل السابقة. أحد عناصر هذا الفكر يتمثل في العلاقة مع الإسلام ذاته. هنا، بات مطلوباً من الحركات المذكورة أن تُحدث قطيعةً نهائيةً مع احتكار (تمثيل) الإسلام بأي طريقة، خاصة من خلال التماهي فيه، نظرياً أو عملياً، على طريقة (نحن الإسلامُ والإسلامُ نحن)، بكل ما يترتبُ عليها من إقصاء وتجاذبات. وفي هذا السياق، ينبغي تجاوز موقف رفض المراجعات في فهم الإسلام بدعوى مقولة (الخوف على الإسلام). وكما ذكرنا سابقاً: "لا مفر من إعادة التذكير بأعلى صوت، والنداءُ موجهٌ للإسلاميين، ممن يخافون على الإسلام حقاً، مشايخَ وحركيين ونشطاء، ولكثيرٍ من المسلمين، إعادة التذكير بأن الباب، الذي يستميتون لخَتمهِ بالأقفال، أصبح مفتوحاً على مصراعيه منذ زمن. فالإسلام بات شأناً عاماً. وبغض النظر عن النيات، فقد صار الحديث فيه مشاعاً لكل الناس، لأنهم يرون أنه يؤثر في حياتهم ويصنع حاضرهم ومستقبلهم، ولم يعد ثمة معنى للعودة إلى (كهنوتية) تحصر الحديث في الدين في طبقةٍ معينة، بل إن المفارقة الغريبة، أن شريحة رجال الدين هي الأكثرُ سكوناً وقلة حركة وتَمَسُّكاً بالحَرفية، حين يتعلق الأمر بفهم الإسلام في ضوء المتغيرات الكبرى الراهنة، بدلاً من مواكبتها". أما ثاني عناصر الفكر السياسي الجديد المطلوب فتتمثل في مسألة العلاقة مع الوطن والوطنية والمواطنة، إذ يبدو ضرورياً أن تجري عملية (مصالحة) كُبرى مع هذه المفاهيم ومقتضياتها العملية في جميع المجالات. هنا أيضاً، نعيد التأكيد بأن الإسلام الحقيقي الكبير لا يخاف من انتماء أتباعه إلى (شعبٍ) و(وطن)، فضلاً عن استحالة خوفه من مجرد ذكر هذه الكلمات. وإذا كان هناك حقاً من يخافُ على الإسلام من اقترانه بالشعوب والأوطان، فإنه لا يُقزﱢم هذا العملاق ويظلمهُ فقط، بل ويُثبت أنه، هو نفسه، أقلﱡ شأناً وأصغر قامةً بكثير من أن يُمثل هذا الدين. من هنا، يُصبح مطلوباً بإلحاح تحرير مسألة فهم الإسلام وحصر تمثيله في جماعةٍ معينة، تنطلق من ظروفها الخاصة وأحوالها المُعيّنة، وتتحرك بناءً على حدود علمها التي كثيراً ما تكون في غاية القصور، لتقوم بأفعال وتصرفات، ولتتصدى لقرارات ومخططات، تتجاوز بمراحل قُدرَتها على الإحاطة وتنتج عنها مستتبعاتٌ سلبية تؤثر على الآخرين. ينقلنا هذا إلى العنصر الثالث من عناصر الفكر السياسي الجديد يتعلق بعادة (الاستحواذ)، ليس على تمثيل الدين هذه المرة، وإنما في مقام الحركة السياسية وطبيعتها في حال الوصول إلى موقع المسؤولية السياسية أو الحكم بأصغر صوره وأكبرها. فعقلية الاستحواذ والاستئثار الفئوية هي دوماً مدخلٌ لفشل أصحابها أولاً، ثم للآخرين جميعاً بعد ذلك، لأن هموم الأوطان والمجتمعات ومشكلاتها أكبرُ وأعقدُ بكثير من أن تستطيع حركةٌ هنا وجماعةٌ هناك التعامل معها. ولا مفر من مدخل الشراكة على الدوام سبيلاً لتحقيق المصالح العامة، فهي التي تُطلق الكمون الكبير الموجود في الشرائح المختلفة للشعوب، وتفتح أمامها مجالات الإسهام للبحث عن الحلول وتطبيقها. وهناك عنصرٌ آخر خطير في الفكر السياسي الجديد المطلوب من الحركات الذكورة، إذ إن العودة للحضور في المجتمعات لا يجب أن يكون مُقترناً، بأي حال، بعقلية الانتقام والتشفي، أو الاعتقاد بأن هذا الحضور المتجدد هو علامة صوابية كاملة للممارسات السابقة، وبأن كل ما في الأمر أن (الآخرين لم يفهمونا ويفهموا كلامنا، وها هي عودتنا تُثبت أن كل ما قلناه وفعلناه كان صواباً). والأدهى هو استعمال مفهوم (المظلومية) كسلاحٍ معنويٍ ومادي في وجه هؤلاء الآخرين. إذ ليس أبعدَ عن الحقيقة من هذا الظن، وما من مدعاةٍ للخطأ في الحسابات، مرةً ثانية، منه. ومثلُ هذا الاعتقاد لن يكون، في الحقيقة، إلا مدخلاً لحلقةٍ جديدة من الفوضى والضياع. أخيراً، سيكون أهم ما في الفكر السياسي الجديد المطلوب، وخطابه المُعلن، ألا يتم تقديمه على سبيل (التُقية).. والتكتيك المؤقت. ففي غياب مراجعاتٍ شاملة وحقيقية وعميقة ينتج عنها تبني فكرٍ سياسي مُغاير، ستُثبت هذه الحركات أنها ليست ماهرةً في الانتحار الذاتي فقط، بل وفي هدم أوطان تُعلنُ ليلَ نهار أنها لا تبتغي لها سوى العمران.
360
| 02 أغسطس 2015
ثمة مقولتان تفيدان في فهم العقلية السياسية الأمريكية يجب أخذهما بعين الاعتبار على الدوام. تُنسبُ الأولى لـ(أوتو فون بسمارك)، رجل الدولة والسياسي البروسي / الألماني الذي شغل منصب رئيس وزراء مملكة بروسيا قرابة ثلاثة عقود وأشرف على توحيد الولايات الألمانية وتأسيس الإمبراطورية الألمانية، ويقول فيها مخاطباً رجل السياسة بشكلٍ عام: «كن مهذباً، واكتب بشكلٍ دبلوماسي. حتى في حالة إعلانك للحرب ينبغي للمرء أن يأخذ بعين الاعتبار أصول اللباقة والتهذيب»!. قد يُجادل البعض قائلاً إن السياسة الأمريكية كثيراً ما تكون أقرب إلى الوقاحة الفجة، وليس لها بالتهذيب علاقة من قريبٍ أو بعيد. لكن شيئاً من التحليل يُظهر حقيقة ما نتحدث عنه. فرغم الوقاحة المذكورة الجلية في السياسات نفسِها، يَحرص ساسة أمريكا، خاصة مع من يُفترض أن يكونوا حُلفاءهم، على استخدام الكلام المعسول، والتأكيد على ادعاءات الصداقة الإستراتيجية وتقديم الوعود الفارغة في كل مناسبة. المفارقةُ أن هذا يحصلُ أكثرَ ما يحصل في أعقاب ظهور سياساتهم التي تُعاكسُ، عملياً، مضمون الدعاوى المذكورة. لا يجري هذا، بالمناسبة، مع العرب فقط، بل مع كل من يُفترض فيهم أن يكونوا حُلفاء لأمريكا فعلاً. يكفي مثالاً في السنوات الماضية عدد المرات التي انفجرت فيها فضائح تجسس أمريكية على حكومات الدول الأوروبية الكبرى وقادتها. ففي أعقاب كل فضيحة، كان يأتي الاعتذار، والوعدُ بالتحقيق، وبعدم تكرار ما جرى، ثم لا تلبث أن تظهرَ فضيحةٌ أخرى من نفس النوع والدرجة بعد فترةٍ من الزمن. قد لا يكون التجسس على رئيس دولةٍ حليفة بمثابة إعلان حرب بالتعريف السائد، لكن المثال يُعبرُ عن قاعدةٍ رئيسية في صناعة السياسة الأمريكية: افعل ما تراهُ مناسباً لمصلحتك (طبعاً ثمة خلطٌ كبيرٌ ومقصود بين مصلحة السياسي ومصلحة أمريكا الدولة)، بغض النظر عن طبيعة علاقتك مع الطرف الآخر، وبغض النظر عن الشعارات المتعلقة بالمبادئ، وسيكون (الكلام المُهذب)، أي (المعسول)، جاهزاً على الدوام للتعامل مع الموضوع. وقد أصبح من المستحيل إحصاءُ المرات التي أرسَلت، وتُرسِل، فيها الإدارات الأمريكية مبعوثاً لـ»توضيح حقائق الموضوع» فيما يتعلق بمثل هذه القضايا، ابتداءً بأعضاء في الكونجرس، وصولاً إلى نائب الرئيس، مروراً بوزيري الخارجية والدفاع، وذلك بالتناسب مع حجم القضية ذات العلاقة. هل يمكن اعتبار العلاقة الإستراتيجية بين أمريكا وإيران، والتي تسير قُدُماً تحت مُسمى مُخادع هو «الاتفاق النووي»، نوعاً من إعلان الحرب على العرب؟ قلائلُ مَن يُجادلون في الإجابة بـ»نعم» عن هذا السؤال من المواطنين والمراقبين والساسة في المنطقة العربية. وفضلاً عن مُعطيات الموضوع الواضحة للمراقب، فقد كُتِبَ فيها وقِيل عنها تفصيلٌ في الإعلام العربي إلى درجة لم يعد فيها مجالٌ لمزيدٍ من التوضيح والإضافة، بل إن (الوقاحة) في هذه المسألة تحديداً تبلغ قمةً غير مسبوقة. فأمريكا التي تعلمُ حجم وطريقة التدخلات الإيرانية في المنطقة، وباستخدام منظمات إرهابية رسمية وشبه رسمية، لتخلق أمراً واقعاً جديداً هنا وهناك، يرمي في النهاية إلى تحطيم الدول والمجتمعات العربية من الداخل، هي أمريكا التي ستفتح أبواب العالم أمام إيران لتزيد من قدراتها المالية والعسكرية (التقليدية) في تنفيذ تلك العملية. وهي، نفسُها، أمريكا التي تؤكد لحلفائها ليلَ نهار أنها لن تسمح لإيران بأي تدخلٍ عسكريٍ خارجي يهدد أمن الحلفاء واستقرار مجتمعاتهم ودولهم!. هذا هو تحديداً إعلان الحرب، بتهذيبٍ ودبلوماسية، وبطريقةٍ تجعل (بسمارك) يتقلب في قبره انبهاراً من قدرة البعض على تنفيذ وصيته بشكلٍ لم يخطر له في بال. أما المقولة الأخرى المفيدة في فهم العقلية السياسية الأمريكية فتعود للرئيس الأمريكي السابق رونالد ريجن، قال فيها: «السياسة ليست مهنةً سيئة، إذا نجحتَ فهناك منافع وجوائزُ عديدة بانتظارك، أما إذا فشلت بشكلٍ مُخزٍ فبإمكانك دائماً أن تكتبَ كتاباً»!. لا صوابَ في عملية التعميم، لا في أمريكا ولا في غيرها. لكن السائد في الثقافة والساحة السياسية في أمريكا أن يأخذ السياسي قراراتٍ تؤثر في مصالح الدول والمجتمعات، لأسباب تغلبُ عليها المصالح الشخصية والفئوية، وأحياناً الأيديولوجية، بمعزلٍ كامل عن حساب مصلحة الدول والمجتمعات المذكورة، وبغض النظر عن حجم الكوارث والأضرار التي ستواجهها. يفعل السياسي هذا ببساطة، لأنه يعلم أنه سيعود في نهاية المطاف، مُتقاعداً، إلى دارتهِ الواسعة في تلةٍ جميلة أو على ساحل البحر، مع مزيدٍ من المنافع المادية التي سيجنيها من (محاضراته) التي سيلقيها هنا وهناك، ثم (كتابه) الذي سيكتبه عن تجربته.. وفي جميع الأحوال، لن يتذكر جمهورُهُ المُستهدَف أسماء الدول والمجتمعات تلك، ولن يعلم شيئاً عما أصابها من كوارث، وعن نصيب السياسي العتيد في حصولها.. لهذا، يعرف العارفون أن كثيراً من الكلام الذي يسمعه العرب من المسؤولين الأمريكان، حين يكونون في مواقعهم الرسمية، هو (بَيعُ كلام) وهو (لزوم الصنعة) لا أكثر ولا أقل. ومن الخطأ أخذهُ بجدية، بغض النظر عن مُقتضيات الدبلوماسية بطبيعة الحال، من الابتسامات إلى الزيارات مروراً بالتصريحات والمُصافحات.. منذ عقود طويلة، قال (ونستون تشرشل): «من الممكن اختصارُ تاريخ العالم في الحقيقة التالية: عندما تكونُ الأمم قوية، فإنها لا تكون دائماً عادلة. وعندما ترغبُ في ممارسة العدالة، فإنها لا تعودُ قوية». قد تنطبق هذه القاعدة على علاقة العرب بالولايات المتحدة كدولةٍ قوية اليوم، فانتظارُ العدالة منها فيما يتعلق بقضاياهم أشبهُ بانتظار (غودو) الذي لا يأتي أبداً، رغم كل (التفكير الرغائبي) السائد بخصوص قدومه. ما العمل في مواجهة هذا الواقع؟ قيل كثيراً في إجابة هذا السؤال، ويُمكن أن يُقال بأشكال وقنوات مختلفة. لكن عِبارتين من تراثنا يمكن أن توحيا بالكثير: «لا يُلدغُ المؤمن من جُحرٍ مرتين»، خاصةً مع (باعة الكلام) المتكرر هؤلاء، من الذين لا تصلح معهم إلا العبارة الأخرى: «ما حكﱠ جلدكَ مثل ظفرك.. فَتَولﱠ أنت جميعَ أمرك».
504
| 27 يوليو 2015
مساحة إعلانية
نعم، أصبحنا نعيش زمنًا يُتاجر فيه بالفكر كما...
6543
| 27 أكتوبر 2025
في زمنٍ تتسارع فيه التكنولوجيا وتتصارع فيه المفاهيم،...
6429
| 24 أكتوبر 2025
تُخلّف بعض اللحظات أثرًا لا يُمحى، لأنها تزرع...
3144
| 23 أكتوبر 2025
المسيرات اليوم تملأ السماء، تحلّق بأجنحةٍ معدنيةٍ تلمع...
2115
| 28 أكتوبر 2025
القضية ليست مجرد غرامات رادعة، بل وعيٌ يُبنى،...
1866
| 23 أكتوبر 2025
جاء لقاء حضرة صاحب السمو الشيخ تميم بن...
1677
| 26 أكتوبر 2025
على مدى العقد الماضي أثبتت دولة قطر أنها...
1275
| 27 أكتوبر 2025
النّهضة هي مرحلة تحوّل فكري وثقافي كبير وتمتاز...
1023
| 24 أكتوبر 2025
في زمنٍ تاهت فيه الحدود بين ما يُقال...
999
| 24 أكتوبر 2025
لا بد عند الحديث عن التصوف أن نوضح...
945
| 27 أكتوبر 2025
يشهد قطاع الرعاية الصحية في قطر ثورة رقمية...
906
| 23 أكتوبر 2025
“أبو العبد” زلمة عصامي ربّى أبناءه الاثني عشر...
879
| 27 أكتوبر 2025
مساحة إعلانية