رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
ليس بكاتب، إنما مقاوم فلسطيني حر، احترف تصويب رصاص بندقيته تجاه صدور بني صهيون، ولما حال القدر بينه وبينها، صوّب رصاص قلمه وكتب، ففعلت كلماته ما فعلت طلقاته من قبل! لا غرو إذاً أن تحيله محكمة «إسرائيلية» إلى سجونها في حكم مؤبد سبعا وستين مرة، ليقضي هناك خمسة آلاف ومائتي عام، بالتمام لا ينقص منها يوم! يأخذ كتاب (أمير الظل) طابع رسالة بثّها الأسير بشوق إلى ابنته الكبرى (تالا) وحمّلها الكثير من جوانب مثيرة في سيرته، وترجم مشاعره بمتفرقات من قصائد كتبها، في رد على رسالتها التي ضمّنتها تساؤلاً عن السبب الذي دفعه لتركها في سيارته وهي في الثالثة من عمرها، لحظة اعتقاله عام 2003! إنه (عبدالله البرغوثي 1972)، وُلد في الكويت لعائلة فلسطينية وعاش فيها، ثم انتقل وعائلته إلى الأردن حيث الجالية الفلسطينية العريضة بآلامها وآمالها، ثم غادر إلى كوريا الجنوبية لدراسة الهندسة الإلكترونية، فأتقن لغتها وتزوج إحدى بناتها، وتمرّس هناك على صناعة المواد المتفجرة والعبوات الناسفة، ساعده في ذلك اطّلاعه المكثف على برامجها، إضافة إلى اتقانه عمليات القرصنة الإلكترونية واختراق أنظمة وشبكات الاتصال. تمكن بعد عودته إلى الأردن من الانتقال إلى فلسطين بعقد عمل، وما لبث حتى التحق بحركة المقاومة الإسلامية (حماس) كمناضل ذي خبرة في صناعة المتفجرات، وخلف مهندس المتفجرات الأسبق الشهيد (يحيى عيّاش)، كقيادي بارز في كتائب عز الدين القسام، فعكف على هندسة العمليات الاستشهادية، لا سيما في نطاق التجمعات اليهودية والمستوطنات، حتى تعرّض للاعتقال من قِبل جهاز الأمن الفلسطيني، واستهدفه جهاز الاستخبارات الإسرائيلي كمسؤول عن جرائم قتل ضد رعاياها! وتحسّب لهذا الاستهداف من الطرفين، حتى بات (أمير الظل) يتخفّى بهويات مزوّرة! وفي كمين محكم أُعد له في مارس عام 2003، وبينما كان ينقل طفلته بسيارته نحو احد المستشفيات، تم اعتقاله، وتعرض لتحقيق طويل لم يخلُ من تعذيب، وقضى بإثره في سجون الاحتلال منفرداً لمدة عشرة أعوام تعرّض فيها لأنكى صنوف التعذيب الجسدي والنفسي، حتى تم نقله إلى زنازين السجون الاعتيادية لا سيما بعد مواصلة إضرابه عن الطعام، وهو يقضي حتى اليوم فترة عقوبة تُعد الأطول في تاريخ السجون! وبينما لم تشمله صفقة تبادل الأسرى عام 2011، فهو يعكف في سجنه على الكتابة، عن روايته التي لم تنتهِ، وعن قضيته التي يؤمن بأنها تستحق كل ما قدم لها، وهو يؤمن «إيماناً قاطعاً بأن من يوجه عمله لله فلا غالب له». ومن خلال الرسالة التي خطها لابنته التي جاءت للحياة على يد طبيبة تُدعى (فلسطين)، تنتفض الحجارة في فلسطين بقبضة أبطالها بينما أمير الظل بعيد في كوريا، فيصبح حلقة وصل بين فلسطين المحتلة وبين والدته وعائلته الكبرى، وقد كانت الاتصالات مقطوعة بين فلسطين وكافة بلاد العرب، لينقل أخبار فقد الأقارب والأصدقاء! يقول في (الحبيبة والبنين): «فكان ذلك هو دافعي الذي حولني أول مرة من طفل إلى شاب مصمم على مقاومة الاحتلال». وفي مقاربة بين فلسطين التي تجري في دمه وكوريا التي درس وعمل وتزوج فيها، يتطرق إلى ما يُعرف بـ «قراءة الوجوه وتفسير تعابيرها»، فيقول: «هناك في كوريا الوجوه أكثر إخفاءً لما في القلوب، أما هنا في فلسطين فإن الوجوه مرآة للقلوب والعقول». يعود إلى عمّان، وبسبب أمور تتعلق بمسألة الانجاب، ينفصل عن زوجته الكورية وتغادر، ويقرر الاغتراب من جديد، وهذه المرة في إسبانيا، حيث يقيم ابن خاله، فتثور والدته الوديعة، وتتوعد! يعود ذات ليلة إلى منزله، فيُفاجئ بوالدته وقد حولته «إلى بيت فلسطيني أصيل، تملأ الجدران صور القدس وخرائط فلسطين الخشبية».. الخرائط التي صنعها بنفسها سابقاً، وقال عنها: «لم تكن جميلة ولكنها كانت فلسطينية أصيلة تصنع من خشب الزيتون ويصنعها عاشق لفلسطين ومحب للقدس». لم يكن هدفه العمل وجمع المال عندما دخل فلسطين كما أخبر ابنته في رسالته، فقد جمع منه أضعاف ما يكفي ليحيا حياة كريمة طيلة عمره، ولم يكن الحب والزواج دافعاً آخر، فقد أحب وتزوج. فيقول: «دخلت فلسطين لأني أقسمت بالله أن أعمل على تحريرها من المغتصبين الصهاينة ومن فاسدي سلطة أوسلو، كيف؟ لا أعلم». تحاصر دبابات المركافا قريته (بيت ريما) لهدف كان واضحاً بالنسبة له: القبض عليه. وبينما يتسلل هو وإحدى المجموعات القسامية عبر الطرق الملتفة للوصول إلى (القلعة) التي اتخذها من قبل وكراً، فقد كانت الدبابات أسرع في قصف القرية التي غصت بجثث القتلى وخلّفت مئات المصابين واعتقلت المزيد من الرجال! أخيراً، والأسير يختم سيرته منفرداً في زنزانته إلا من ربه وقرآنه، عازماً على المضي ولو بذل روحه في المقابل، مقراً أن الذنب -إن توقف عن المضي- فسيحمله جسده الذي أنهكه الشقاء، فإن هذه السيرة، لا بد وتلهم أحرار الأمة لا سيما الطليعة من الشباب والشابات لمواجهة العدو الذي وإن كان مدججاً بالسلاح مدعوماً بقوى الظلام، فيكفي الأحرار العزيمة والإيمان والوعد الحق.
504
| 03 ديسمبر 2025
كتاب قد يُصنّف ضمن علم اجتماع الفضائح، والذي يعرّي ما يعتمل في باطن إنسان العالم الثالث من قهر وكبت، وهو متوارٍ تحت أعراف وقوانين وشرائع، وألوان من قيود أخرى ما أنزل الله بها من سلطان. إنه الواقع لا محالة، فالمجتمعات الشرقية تعيش في استسلام شبه متناهٍ وهي ترزح تحت سطوة إقطاعية مستبدة تربّع على عرشها زمرة من طغاة تستفرد بالقضاء والقدر كدعاة شر، ويخضع الأفراد لجبروتها خانعين كأمة من المقهورين، قد أبلسوا من رحمتها، لا حول لهم في ذلك ولا قوة! بيد أن المعضلة لا تكمن في الغفلة عن تناول التخلف بالبحث والدراسة، ولا في تجاهل هذا الوجود الفريد لنمط إنساني له تفاعلاته العقلية والنفسية، بل في التأثير الفعّال للإنسان المتخلف ذاته، وذلك من خلال تعزيز هذه الصيرورة وترسيخ أركانها ومقاومة أي بادرة نحو التغيير، وفي إصراره المحافظة على توازنه النفسي الذي أصلّت له أساساً تنشئة اجتماعية يسودها التخلف، وتشترك فيها قوى طبيعية غيبية تبسط ممارساتها الاعتباطية عليه، وتشكّل الطابع العام لتركيبته النفسية، وقد أضافت له قهراً مضاعفاً. وبينما يعرّف الباحث كتابه (التخلف الاجتماعي: مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور) بأنه (مدخل)، فهو يظهر كمبحث متكامل يتعرّض فيه بموضوعية إلى تسع مسائل، تحدد المشكلة وتعرض الأعمال المقترحة، من خلال قسمين رئيسيين: (الأول: الملامح النفسية للوجود المتخلف)، وفيه يعرّف الباحث السيكولوجية المتخلّفة ضمن إطارها النظري، مع سرد الخصائص النفسية للتخلّف ووصف العقلية المتخلّفة والحياة اللاواعية التي تُعد إحدى سماتها. (الثاني: الأساليب الدفاعية)، وفيه يتعرّض إلى الأشكال المتعددة التي تتخذها، وتظهر أساساً في: الانكفاء على الذات، التماهي بالمتسلط، العنف ضد المرأة، السيطرة الخرافية على المصير. أما عنه، فهو د. مصطفى حجازي (2024:1936)، كاتب وأستاذ أكاديمي لبناني، حاصل على درجة الدكتوراة في علم النفس في جامعة ليون الفرنسية، وله العديد من الدراسات والأبحاث العلمية. على الرغم من تسليط الضوء على الفئة الأكثر قهراً في المجتمع المتخلف تحت سلّم السطوة والخضوع، يعتقد الباحث أن الفئة التي تبدو أكثر حظاً لا تخلو أيضاً من قهر، مع اختلاف درجة الحدّة. يقول: «فبينما يتماهى الفلاح بسيده ويشعر بالدونية تجاهه، نرى السيد يتماهى بدوره بالمستعمر أو الرأسمالي الأوروبي ويشعر بالدونية نفسها تجاهه». ثم يتطرق إلى التخلف العقلي، كحالة ضعف عقلية زائفة تتلبّس الإنسان المتخلف اجتماعياً! ففي حين يتشكّل هذا الضعف عموماً في هيئة مقاومة الفهم، يبدو اجتماعياً في هيئة رضوخ الإنسان المتخلف لأساطير قوى الطبيعة وسطوة أصحاب السلطة، فيبدو المتخلف دائم التردد أمام أمر ما خشية الفشل، أو قد يصرّح بعدم قدرته عليه قبل بذل أي محاولة تجاهه، بل قد يشطّ البعض ويصدر أحكاماً تعسفية على هذا الأمر متبجحاً بموهبته السريعة على الفهم. يقول الباحث: «يتذبذب الإنسان المتخلف ما بين الشعور الشديد بالعجز عن استيعاب العالم، وبين طغيان مشاعر السيطرة على الواقع من خلال الحذق (الفهلوة) الذي يعتدّ به الجمهور كوسيلة مفضّلة للفهم». ومن ملامح المجتمع المتخلف ما يطلق عليه الباحث بـ «التوتر الوجودي العام»، حيث الاستنفار النفسي العام لأي صراع محتمل! إذ ما يلبث اثنان أن يتحاورا حتى يختلفا في وجهات النظر، لتحلّ السباب وشتائم الأعراض محل الجدال الموضوعي، وحيث تطغى العاطفة الانفعالية على كل ملكات النقد والمنطق والعقلانية. يستزيد الباحث فيقول: «وأحياناً ينفذ التهديد باستخدام العضلات أو السلاح بسهولة مذهلة في فورة غضب. ذلك أن هناك إحساساً دفيناً بانعدام فعالية اللغة اللفظية وأسلوب الاقناع، فيتحول الأمر بسرعة إلى الحسم السحري (العضلي أو الناري) من خلال الإخضاع». من ناحية أخرى، يؤمن الإنسان المقهور بطغيان قوى خارقة للطبيعة تتلاعب في مصيره، كتلبّس الأرواح والجن والعفاريت، وتحكّمها في فرص الخطوبة والزواج والإنجاب، إضافة إلى إصابات العين القاتلة وطاقة الحسد وغيرها من شرور الماورائيات. لذا، يسعى هذا الإنسان جاهداً إلى اتخاذ ما يلزم من تدابير وطقوس تكفيه شرورها وتضمن له نوعاً من التحكم في مصيره، كالاستعانة بخدّام المقامات وتحضير جلسات الزار، وتخبئة المولود، وإخفاء الأثاث، والتكتم على حجم الثروة، وإفساد كل مظهر جميل! يخلص الباحث في هذا بقوله: «ليس هناك إذاً أكثر تضليلاً من إلقاء المسؤولية على الكائنات الخفية ثم البحث عن ذلك الحل من خلال مختلف ضروب الشعوذة». وبإسهاب، يصوّر المرأة كأفصح نموذج للتعبير عن الوجود الإنساني المتخلف كافة، لا سيما في عجزها ونقصها وتبعيتها ورجعية تفكيرها، والذي يظهر جلياً في تغلّب عاطفتها وإنكار ذاتها وإحلال الخرافة محل التفكير السليم، وهي تظهر عادة بين نقيضين: «أقصى الارتفاع: (الكائن الثمين) وأقصى حالات التبخيس: (المرأة القاصر)». أخيراً، إنه كتاب قد يواجه فيه البعض نفسه وقبل الجميع رزايا قهره وضعفه وخنوعه وتخلّفه بموروثه الاجتماعي المسموم، غير أن أشدهم بؤساً هو حقيقة ذلك المغبون الذي تجرّع السموم كعدل وحق مستحق، وما علم أنها فُرضت عليه قسراً وجوراً، فبات إنساناً مقهوراً من حيث لا يدري!
255
| 07 نوفمبر 2025
يحمل هذا الكتاب (الرومانسية الأوروبية بأقلام أعلامها) نصوصا نقدية مختارة، تعبّر بصدق عن (عصر الرومانسية الأوروبي)، أو بالأحرى، الحركة الفكرية والأدبية والفنية التي سادت أوروبا أواخر القرن الثامن عشر حتى منتصف القرن التاسع عشر، وهي الحركة التي عظّمت قيمة العاطفة الإنسانية، ومجّدت الطبيعة والخيال والإبداع وكل ما هو خارج عن المألوف، وذلك كردة فعل جريئة ضد (عصر التنوير) وما اصطبغ به من منطقية وعقلانية وعلم وفلسفة، وما أتت به الثورة الصناعية من تحولات علمية وتكنولوجية واقتصادية واجتماعية كبرى. بمعنى أكثر دقة وحسب ما جاء به الكتاب، فقد استهلت الرومانسية في أوروبا كأنفاس جديدة أعقبت عهد المنطق وصرامة العقل، لا تُعنى بالبرهان بقدر ما تصغي إلى نبض الوجدان، وقد تجلّت في ثلاثة تيارات متقاربة زماناً ومكاناً، تشترك في جوهرها وإن اختلفت ملامحها، ففي ألمانيا أواخر القرن الثامن عشر، ظهرت مدرسة الكتّاب التي ارتبط اسمها بالكاتب والشاعر والناقد (فريدريش شليغل)، لتثور على القوانين الجمالية الموروثة منذ زمن أرسطو، وتستبدلها بسلطان العاطفة والخيال، حتى غدت الرواية النثرية التعبير الأوفى عن روح العصر، تماماً كما كانت الملحمة لسان حال الكلاسيكية القديمة. أما في إنجلترا وفي العقد الأخير من القرن نفسه، فقد بزغت مدرسة الشعر والنقد بقيادة الشاعران (كولريدج) و(وردزورث)، فانتفضت بدورها على الأطر الأرسطوطالية، وسعت إلى تحرير الشعر من قيود القافية المكرورة، وفائض الزخرفة البلاغية، لتعيده إلى جوهره الذي يحاكي صدى النفس الإنسانية القلقة، ورَجْع القلب في مخاطبته للطبيعة والاستضاءة بها! غير أنه في فرنسا، وتحديداً في الفترة ما بين (1850:1820) فقد نضج اتجاه ثالث امتاز بشغف مفرط نحو (الأنا)، وبنزعة إلى التعبير عن شعور الحزن والوحدة، وما يثيره القلق من دوامة أسئلة وجودية لا تنتهي، ومن هذا المناخ، وُلد اهتمام متجدد بالآداب الجرمانية والإسكندنافية، واستمد الرومانسيون من الآداب الشعبية موارد إلهام حارة بديلة عن جمود كلاسيكيات الماضي. لذا، يسهب الكتاب في جزئه الأول وهو يتعلق بـ (مفهومات وتعريفات) للحديث في: الشعر الميتافيزيقي العالمي، وأدب الشمال، وشعر الخيال، والعمل الكلاسي مقابل الرومانسي، والشعر المتسامي على الواقع، بينما في جزئه الثاني (الفن الرومانسي: المبادئ الرئيسية)، يتحدث عن: وظيفة الفن، والخيال المبدع، ومظاهر الجمال، في حين يأتي في جزئه الثالث (الفن الرومانسي: الشكل والجنس الأدبي) ليتطرّق إلى: مزج الشكل، والمسرحية، والقصة، والشعر الغنائي....، وكل ذلك من خلال استشهاده بقائمة طويلة من أعلام الرومانسية، الذين انغمسوا فيها عبر القارة الأوروبية، أمثال: فكتور هوغو، مدام دي ستايل، صموئيل كولريدج، ألفونس دي لامارتين، إفريدريتش إشليغل، جون كيتس.......، وخاصة في الشعر كأسمى صور الفن، وقد عدّوا الرومانسية تعبيرا آخر عن الروح، وسبيلاً للارتقاء بالذات الإنسانية. ومع عمق المعنى الفلسفي للنصوص الواردة، الذي يعود إلى طبيعة الحركة الثقافية والفنية والفكرية المنبثقة عنها، تشير مؤلفة الكتاب النمساوية (لليان فرست 2009:1931) وأستاذة الأدب المقارن في جامعة نورث كارولينا في الولايات المتحدة الأمريكية، إلى ضرورة العناية بترجمتها وبدقة، وذلك كما تقول في مقدمتها: «نظراً للغة الاصطلاحية التي يؤثرها كثير من الرومانسيين، وهي لغة ابتكارية وخيالية ومجازية إلى حد كبير، ومعقدة غالباً أو مجزأة في بناء جملها، وذاتية الاستعمال أحياناً». وهكذا، يحرص مترجم الكتاب (د. عيسى علي العاكوب) على دقة المعاني، وهو أستاذ للبلاغة والنقد في جامعة حلب، وعضو مجمع اللغة العربية في دمشق، إضافة إلى أعماله الأخرى في الأدب والشعر والترجمة. ففي الحديث عن الأدب الرومانسي ككل، تقول المؤلفة في الجزء الأول: «إن الأدب الرومانسي هو الأدب الوحيد الذي ما يزال قادراً على أن يكون أدباً تاماً، لأن جذوره ضاربة في تربتنا، ولأنه الشكل الفني الوحيد الذي في مقدوره أن يزدهر ثانية، ذلك لأنه يعكس معتقدنا الديني، ويردد أصداء تاريخنا، وهو قديم لكنه ليس ضارب الجذور في التاريخ». ثم تورد في الجزء الثاني، رأي الشاعر الإنجليزي (بيرسي بيش شلّي) في روح الشعراء، حيث قال: «الشعراء هم الكهنة لوحي غير مفهوم، وهم المرايا للصور الضخمة التي يلقيها المستقبل على الحاضر، والكلمات التي تعبّر عما لا يفهمونه، والأبواق التي تستنفر للمعركة، ولا تُحس بما تُلهم. إنهم السائل الأثيري الذي يحرّك. الشعراء هم مشرّعو العالم غير المعترف بهم». أما الجزء الثالث، فتصوّر فيه تمرّد الشاعر والروائي الفرنسي (فيكتور هوغو) على التقليد، وهو يقول: «دعنا نمزق النظريات وفن الشعر والأنظمة إرباً إرباً. دعنا نمزق هذا القناع القديم الذي يغطي واجهة الفن! ليس ثمة قوانين ولا نماذج، أو على الأصح، ليس من ثمة قوانين غير القوانين العامة للطبيعة التي تحدد الوحدة الكاملة للفن والقوانين الخاصة بكل تأليف، تلك التي تنبثق من الظروف الملائمة لكل موضوع». ثم وهو يخصّ روح الشاعر من جديد بقوله: «على الشاعر -ودعنا نؤكد على هذه النقطة- أن يستمد النصح فقط من الطبيعة ومن الحقيقة ومن الإلهام الذي هو حقيقة وطبيعة أيضاً».
276
| 03 أكتوبر 2025
بعيداً جداً عن الألف ليلة وليلة التي نسجت سماءها شهرزاد بحكايات حيّرت شهريار بين (كان) و(ما كان)، تطالعنا اليوم أبيات عذبة تقول (ما لم تقله شهرزاد) من كلام مباح، تطلّب بالضرورة تبرير (ما لم يفهمه شهريار) منه، وكأن لسان حاله يقول: ليتها صمتت كعادتها عن الكلام المباح! وبينما تضع الديوانين الباحثة والمترجمة وأستاذة التعليم العالي الجزائرية (د. سامية عليوي)، يقدم لديوانها الأول (ما لم تقله شهرزاد)، أ. د. عبدالمجيد حنون الذي هو -لا عجب- أستاذها من قبل، وزوجها الذي أهدت له باقتها وقد «شغلته شهرزاد راوية وإنسانة» كما خطّت في إهدائها. لقد أصاب بدوره زوجها، حين أهال على شعرها صفات تميّزه، مثل: «الروح الأنثوية» التي تصف أحاسيسها دونما صراع جندري، «تعدد القضايا والموضوعات» فيه والتي تتفاعل مع الحياة وتتنوع بتنوعها، «السهل الممتنع» الذي على بساطته قلما يتمكن أحد من القول بمثله أو أن يستبدل كلمة جاءت فيه بأخرى، «الطابع الغنائي» الذي يجعل من كل قصيدة غنّاء الإيقاع تنتظر لحناً، وأخيراً وعلى وجه خاص «وحي شهرزاد» الذي استلهمت منه الشاعرة الأكاديمية ما قد تمنعت عن قوله شهرزاد الأولى في تلك الليالي، فتجرأت هي على قوله هذا الصباح، وأصبح كما لم يكن بالأمس.. كلام مباح! أما ديوانها الثاني (ما لم يفهمه شهريار)، فتكشف فيه شهرزاد عن هذا اللبس الذي تملّك الملك السعيد، بعد أن أفاض عليه سحر شهرزاد الطاغي في أنوثته، بما أحاله إنساناً بعد أن كان مجرد رجل، في أبياتها! يقول مقدّم هذا الديوان، د. مختار نويوات، أستاذ الآداب والعلوم الإنسانية في جامعة باجي مختار ـــ عنابة، عنها، بأنها «شاعرة موهوبة» وعن شعرها بأنه «رصين أخاذ». إنها كذلك بالفعل وشعرها، ورغم ما لم تقل وما لم يُفهم مما قالت، يبدو أنه قلّما يبرز في أيامنا هذه شعر يأخذ بالألباب إلى عوالم أخرى، وإلى ليلك ليالي تمتد بعد الألف والألف. لا تشبه ليالينا! وعلى سبيل الاستحسان، أقتبس من باقة الديوان الأول، (مطالب شهرزاد) التي فاضت طغياناً أنثوياً يليق بها، قائلة: وسألتني يا شهرياري جاهداً عمّا أريد ووقفت أسأل بعدما أعطيتني كل الدنا: هل من مزيد؟؟ إني أريد من السماء نجومها ومن الرياض ورودها كي يشتعل هذا الجليد وسألتني، وسألتني عمّا أُريد أتراك تجهل يا مليكي ما أريد؟؟ إني أريدك ساجداً كي ما تسبح جاهداً باسمي أنا مثل العبيد كم يبدو هذا طاغياً! ليس هذا وحسب، بل إنها لا تتردد في أن تبدو متمرّدة وهي تحذّر شهريارها من جديد في قصيدة (عناده وعنادي) ببضع كلمات قائلة: خالفني كي أعند أكثر وتمرّد كي أغدو أخطر فشراستي حلمك يجهلها إني حذرتك.. فاحذر غير أن شهريار، رغم أنه يبدو في أول قصيدة (شهرزادي.. هل تدركين؟) دامياً بخنجرها الذي غرسته غدراً في قلبه القتيل، فهو يخاطبها بعذوبة قائلاً: وجئتكِ أشدو بلحن حزين وخادعت قلبي وجرح دفين وعدتُ لروضك أشدو بحبّك أواه يا أنتِ لو تعلمين؟ لكن شهرزاد في ديوانها الثاني، تبدو وهي تسأل شهريارها (هل قلبك حقاً يهواني؟) كالتي تقمصّت روح حواء وخلقت -بحب- آدم من جديد: يا آدم أرضي وجناني تذكرني؟ أم قلبك ينساني؟ أتراني بُعثت ويا عجباً للدنيا لتوقد نيراني؟ تطفئني إن شئت وتشعلني وتثير جنوني من ثاني وتبعث عمري أشتاتاً وتجمّع بعضي بثواني قل إنك تهواني وبأن جفونك ترعاني وبأن البسمة في شفتي تهديك محبتي وحناني وترفرف طيراً بعيونك نشوان بكل الأزمان بل إنها في قصيدتها الأولى (لماذا أنت لا تفهم؟) التي اقتبس منها الديوان عنوانه، تضج بشهريار الذي يبدو أنه لا يفهمها -جاداً أو متعمداً- فتقول ما تقول بعد أن تحاول إفهامه، ظلام عالمها حينما يهجر، وطير سمائها الذي يرفرف حين يعود: لماذا أنت لا تفهم؟ بأني حينما ترحل أراني وحيدة أُقتل فكيف تُراك لا تعجل لقائي قبل أن تندم؟ لماذا أنت لا تفهم؟ بأن الأرض من حزني ستلبس حالك اللون وتزرع في رُبا الكون نبات الشوك والعلقم لماذا أنت لا تفهم؟ بأنك إن تجافيني تمت كل الرياحين وأنك إن تناديني سأبعث مثلما تعلم لماذا أنت لا تفهم؟ ختاماً، قد يأتي استحسان هذه المراجعة للديوانين، بمثابة «رجع الصدى»، كما تمنت الشاعرة في خاطرة (قبل البدء) بأن تتحدث، بل بأن تصرخ. غير مبالية بعدد من سيسمع إن كان قليلاً أو كثيراً. قائلة: «حسبي إذاً أن أصرخ، وحسبي أن أسمع رجع الصدى».
354
| 24 سبتمبر 2025
على الرغم من قدم الكتاب نسبياً، فهو قد لا يختلف كثيراً عما هو ملموس على أرض الواقع، وتحديداً فيما عناه الباحث في عنوان كتابه (أسطورة التكوين: الثقافة الإسرائيلية الملفقة)، لا سيما ونظام الفصل العنصري وهو يبدو على أشده من أي وقت مضى! يضع الكتاب (أنطوان شلحت 1956)، وهو كاتب وناقد ومحلل سياسي فلسطيني، يبحث في الشأن الإسرائيلي ويترجم عن العبرية في السياسة والأدب والتاريخ، وينشر مقالاته في الصحف الفلسطينية والعربية، وقد أصدر عددا من الدراسات في النقد الأدبي، وهو يدير حالياً المنبر الثقافي العربي (ضفة ثالثة). يتطرق الباحث ابتداءً إلى (احتواء الثقافة الإسرائيلية من قبل العنصرية الصهيونية)، والتي تظهر فيها هذه العنصرية ذات أصول رجعية، تُقرّ التفاوت الحضاري بين الشعوب على أساس «أجناس عليا حضارية وأخرى دنيا سلفية»، متغافلة في هذا عن التاريخ، زمانه ومكانه! فيعرض كتاباً هو الأشد فظاعة مما يُلقّن لطلاب المدارس، من تأليف «مستوطن كولونيالي في الضفة الغربية»، يصف الإحساس العميق عن الارتباط بالوطن بعد حياة الشتات، وهو ذات الوطن الذي لم يلق شعباً أقام عليه حين قدم إليه، وهو يقصد بهذا «عدوه العربي». أما (في صياغة إدراك الأطفال الإسرائيليين بواسطة الثقافة العنصرية)، فيعرض الباحث نموذجاً عن كيفية إرساء ثقافة العنصرية في (منبت رؤوس) الجيل الإسرائيلي، متضمناً تجريد الفرد الفلسطيني من أي هامش إنساني، وذلك عن طريق استطلاع أجراه أحد المحاضرين الإسرائيليين لعينة من 250 طالباً حول آرائهم، ضمّنها في كتابه (انعكاس شخصية العربي في أدب الأطفال العبري)، جاءت بعض نتائجه كما يلي: ارتفاع مستوى الخوف من العربي لنسبة تصل إلى 75%، يظهر فيها بنعوت من شاكلة «خاطف الأطفال، القاتل، المخرّب». تشويه شخصية العربي تصل إلى 80%، فضلاً عن الجهل التام بهويته ومظهره، بحيث وصفه البعض بكائن له ذيل. التنكّر لحق العرب في فلسطين بنسبة بلغت 90%، طالب فيها الطلاب «بقتلهم أو شنقهم أو ترحيلهم». وحين ينتقل الباحث إلى (الصحافة في إسرائيل: بوق للمؤسسة الصهيونية)، يخلص إلى أن «المؤسسة الإسرائيلية الحاكمة لا قبل لها بالتخلي عن وسيلة هامة مثل احتكار الصحافة، بوصفها مصدراً أساسياً للمعلومات». إن النظام السياسي في إسرائيل وإن زعم تمثّله الديمقراطية البرلمانية الغربية فذلك شكلياً، حيث يتمظهر من خلال: عدم اعتماد دستور محدد بحجة تعيين حدود اسرائيل الجغرافية لا تزال قائمة. اعتماد خيار النظام العسكري، لا سيما ضد المواطنين العرب في إسرائيل، كما هو الحال في نظام الطوارئ. فرض الهيمنة العسكرية على مليون ونصف مليون فلسطيني في قطاع غزة والضفة الغربية. وفي (صراع الغرب والشرق في الثقافة العبرية الإسرائيلية)، يكشف الباحث عن عدم تجانس المجتمع الاسرائيلي ضمن الثقافة الصهيونية ذاتها، لا بناءً على الفوارق الاجتماعية بين شرائحه المختلفة وحسب، بل أيضاً في ذلك القمع القائم على صراع حضاري يتبلبل فيه علم الاجتماع الإسرائيلي بين الشرق والغرب لتحديد هوية إسرائيل. لذا، يحذّر أحد الأكاديميين الإسرائيليين فئة المنتصرين الأشكناز وقد أساءوا معاملة الإسرائيليين الشرقيين السفارديم: «لأن الشرق لا يمكن أن يُهزم»، بل إن إسرائيل ككيان غير طبيعي لا يرتكز على أسس اجتماعية وحضارية واقتصادية متينة، ماضٍ إلى زوال. ثم يتحدث الباحث في (الصيرورة: تحولات ثقافية بعد حرب لبنان) بشيء من الإسهاب، ينطلق من تبعات الحرب العدوانية التي شنتها إسرائيل على الشعبين اللبناني والفلسطيني في لبنان عام 1982، والتي أحدثت «انعطافات حادة في المجتمع الإسرائيلي» تجاه «العدو العربي» بالإجماع القومي الصهيوني، حيث شهد الواقع الثقافي بزوغ تيار أدبي، يعزز المناهضة الشعبية ضد تلك الحرب! لقد رفع أدباء ذلك الأدب السياسي الاحتجاجي صوته عالياً ضد الاحتلال والاضطهاد، وهم يخاطبون القرّاء بصورة مباشرة بهدف رفع وعيهم السياسي، وتحريضهم نحو تبني مواقف ثابتة ضد «الحرب والعدوان، وسقوط الإنسان في الإنسان». وفي هذا، يستعرض الباحث مجموعة من ردود تلك الأفعال الأدبية، الإبداعية والمأزومة، ضمن النخبة الثقافية الإسرائيلية، والتي جاء منها على هيئة قصائد شعرية، أو مقالات، أو مقابلات، أو مسرحيات، أو أغاني، أو أفلام، أو روايات! فينقل الباحث عن الكاتب والمخرج المسرحي (يهوشوع سوبول) قوله في مقابلة مع مجلة (هعولام هزيه): «يقودنا مجرمون من الواجب لجمهم! وأننا نحيا في واقع رهيب يرقص فيه أكلة لحوم البشر. والغريب أن بعضنا يشعر بأنه صادق». ختاماً، وعلى قدر ما يسفر الكتاب عن وجه الرواية الإسرائيلية من مصدرها، على قدر ما يثير الحنق، تحديداً في تعمد تشويه الفلسطيني-العربي إنسانياً قبل أي شيء، مع قدر مروّع من التعالي العرقي! ومن سخرية القدر أن يطاله هذا التشويه بيد يهودي يحمل في حمضه النووي سخط البشرية جمعاء، وليس تاجر البندقية صاحب شكسبير، منه ببعيد، ونقمة العصور الوسطى! يجدر بالباحث تتبع ترّهات تلك الأسطورة حتى الوقت الحاضر وذلك لتمام الفائدة، لا سيما مع فورة طوفان الأقصى الثائر منذ ما يقرب العامين.. سيكون ثراءً فكرياً، وتحريضاً ثورياً بحق!
225
| 19 سبتمبر 2025
تعكس مقدمة ديوان (رباعيات مولانا جلال الدين الرومي) حضوراً بارزاً للصوفي المسلم (جلال الدين الرومي) في الثقافة العربية ككل والثقافة الغربية على حد سواء، حيث سعت الأخيرة من خلال مستشرقيها وانكبابهم المخلص على دراسة التصوف الإسلامي -لا سيما في نسخته الأصلية من النص الفارسي- على نشر تراثه الروحي عالمياً، وكذلك صنعت (إيفا دوفيتري ميروفيتش 1909: 1999). إنها أكاديمية فرنسية، أحبت رسالة الرومي حين عكفت على قراءة كتبه ودراسة حياته، وقد وجدتها حسب تعبيرها «رسالة حب ذات بُعد أخوي». الحب الذي مكّنها من مكاشفة الفتح الإلهي واعتناق الإسلام في نهاية المطاف، وقد قالت: «رأيت أن الإسلام وحده هو الكفيل بأن يحقق لي هذا الإيمان». أما الفقيه والمتصوف والشاعر، صاحب ديوان المثنوي الأشهر والطريقة المولوية (جلال الدين الرومي 604 - 672 هـ) أو محمد بن حسين بهاء الدين البلخي، فقد وُلد في مدينة بلخ بخراسان، ويعود نسب أجداده إلى أفغانستان الحالية، وهو الذي كان يفتخر بأصله الخراساني رغم رحيله إلى مدينة قونية في صغره. تبدو إيفا على صفحات الديوان وهي تشعّ محجّلة في إحرام الحج، والتي ينساب حديثها فيه نوراً وفتحاً وبركة وهي تحدّث عن روح الإسلام، وهو الديوان الذي يتطرق كذلك إلى سيرتها الذاتية! حصلت إيفا على درجة الدكتوراة في الفلسفة، حيث عكفت من بعدها على دراسة العلوم الإسلامية وتعلم اللغة الفارسية التي مكّنتها فيما بعد من ترجمة رباعيات جلال الدين الرومي. وقد تعرفت ابتداءً على الدين الإسلامي من خلال دراسة أكاديمية عميقة لمؤلفات الشاعر الباكستاني محمد إقبال، وكذلك على الرومي الذي قال فيه إقبال نفسه: «صيّر الرومي طيني جوهرا»، والذي تواصلت معه وقدّمته للقارئ الغربي من خلال ترجمة بعض كتبه. ومن ثم، قادها هذا التعارف إلى قراءة فلسفة الغزالي وتفسير البيضاوي، والتنقل لاحقاً في بلاد العرب عن طريق البعثات العلمية التي تكفّلت بها الحكومة الفرنسية نحو المغرب ولبنان ومصر، حيث توطدت علاقتها بالدكتور طه حسين والتقت بشيخ الأزهر ووزير الأوقاف آنذاك، ثم أخيراً زيارتها لإقليم البنجاب المفعم بروح التصوف ومدينة قونية، لتنعم بمعاني الكونية والانفتاح الإنساني وروح التعايش. لقد كانت تحرص على زيارة قونية، مدينة الرومي، حتى تهنأ بمشاهدة مريديه رؤى العين، وقد صرحت في آخر محاضرة ألقتها هناك عام 1998 بأمنيتها قائلة: «أود أن أدفن بقونية كي أبقى تحت ظلال بركات مولانا إلى يوم الحساب». لذا، وبعد وفاتها ودفنها في مقبرة بالقرب من مدينة باريس، تطوّع بعض رفاقها الأتراك لنقل رفاتها في يوم 17 من ديسمبر عام 2008 أو فيما يُسمى بـ (احتفالية يوم العرس) التي تُشير إلى ذكرى رحيل الرومي، حيث أقيمت مراسم الدفن من جديد على الطريقة الإسلامية، ودُفنت في المقبرة الواقعة قبالة ضريح الرومي. نشرت إيفا أول ترجماتها للرباعيات في مدينة إسطنبول عام 1946 عن نشرة الأديب والشاعر الإيراني بديع الزمان فروزنفر التي تضمنت ما يقارب ألفي رباعية، غير أنها امتنعت عن ترجمتها كاملة لتعذّر نقل بعض النصوص دون خسارة الذوق الجمالي الخاص بلغتها الأصلية. ومن الرباعيات التي جاءت في نظمها الشعري بأربعة مقاطع: (رباعية 147)، والتي فيها يظهر المرء ينعم بالقرب الإلهي حين يسلّم أمره لله، بينما لا يورثه التوغّل في جنبات نفسه إلا الحزن، بل ويكثّف طبقات الحُجُب بينه وبين الله تعالى. تترجم إيفا عن الرومي هذا المعنى قائلة: «إن أصبحت غنيمة الله تحررت من الحزن، وإن تغلغلت داخل نفسك صرت حبيساً لها. اعلم أن وجودك حجاب في طريقك. لا تمكث مع نفسك، فلن تحس إلا بالضجر». أما في (رباعية 189) فيبدو أن العقل البرهاني ليس كالقلب الصوفي، إنما يتحصّل العلم اللدني عندما يُستغنى عن العقل! فتترجم إيفا عن الرومي هذا المعنى بدورها قائلة: »يقال: العقل الكلي يملك الكثير من العلوم. العقل الكلي جوهر هذا العالم! هذا العقل صاحب العقل، إنه العقل الجزئي. عندما يتنازل العقل عن العقل يصبح عقلاً كلياً». وعلى الحياة يمر العابرون، من الأنبياء والأولياء والأبدال والأمثل فالأمثل.. مرور كلمح البصر، لكنه يبقى محفور الأثر! في هذا المعنى تترجم إيفا عن الرومي نفحاته من (رباعية 291) قائلة: «ها قد مرّ فارس مكتنف بالأسرار، فتعالت سحابة من الغبار! رحل.. وسحابة الغبار باقية! انظر أمامك. لا يمنة ولا يسرة. غباره هنا، والفارس في دار البقاء». ختاماً أقول: لقد كان لإيفا حلم في تعريف الفرنسيين وغيرهم من الناطقين بالفرنسية بـ «الرسالة الجمالية للإسلام»، وقد سعت في تحقيق حلمها حينما أجادت اللغة الفارسية وقدّمت للغرب بل وللمسلمين أنفسهم نفحة روحية قوية لأحد أتباع النبي محمد ﷺ وإرثه الروحي الخالص، وقصدت ببثّ كل معنى عميق، حَمَله الفهم النقي لرباعيات جلال الدين الرومي. وقد يكون قراءة ديوانها المرهف هذا بمثابة إحياء جانباً من حلمها الذي عاشت لأجله وماتت عليه.
372
| 13 سبتمبر 2025
لا ينفك أدب السجون يثير من أمشاج المشاعر الإنسانية، إزاء ما يكشف عنه من صنوف ظلم وعنف وقهر وتعذيب وتقتيل تجري في غياهبها، ما يجعله الأصعب ضمن ما عداه من الأعمال الأدبية، وكأنه التصنيف الذي أحاط نفسه بأسلاك من رعب شائكة تحذّر القارئ من الاقتراب! فكيف إذا اجتمع بالنضال الفلسطيني؟! ففي سجون الاحتلال، يمضي الكاتب والصحفي الفلسطيني والمساعد الأكاديمي في جامعة بيرزيت (علي جرادات 1955) أسيراً لمدة أربعة عشر عاماً، متقطعة من خلال ستة اعتقالات، لا سيما تلك التي تُعرف بـ (الاعتقال الإداري)، أي بلا تهمة واضحة، ولا محاكمة قضائية، ولا محامي دفاع.. بل بملفات ودلائل سرية يحوط بها ضباط الاحتلال الإسرائيلي، وبمراوغة مع الأسير لا تكل ولا تمل، وذلك للاعتراف بما لا علم له به، فضلاً عن جلسات التعذيب التي يتعارك في وحشيتها القسوة والدناءة، وسيل الإهانات العابرة، وفي خارجه، حيث المطاردة إثر التخفي والإقامة الجبرية، وترويع الأهل بالأطفال والشيوخ معاً.. إضافة إلى الكثير من النماذج الفلسطينية من نساء ورجال التي رسخت مع صاحب هذه التجربة، أسطورة الفلسطيني الذي لا يُقهر.. والذي قال (في معرض النص): «نحن الأحرار الطليقين في الإنسان». ومع بداية هذه السيرة الذاتية الصادرة عن (مؤسسة الدراسات الفلسطينية) والتي تجسّد الإباء في عنوانها (لست وحدك: ذاكرة حرية تتدفق)، وتردد أصداؤه بين أقبية الزنازين، يطمئن الأسير السابق كل سجين - وقد انصهر في الجماعة حسب تعبيره- بقوله «لست وحدك وأنت السجين من أجل حرية فلسطين». فيسرد عدد من أولئك الذين بذلوا أرواحهم فداءً للوطن: كما في (سجن عكا الانتدابي) وليلة إعدام الجد عوض، و(باستيل عسقلان) الذي احتضن عبدالقادر أبو الفحم كأول شهيد (معارك الأمعاء الخاوية)، وسجن غزة الذي استشهد فيه (غيفارا غزة) وأولئك الذين كانوا يحكمون غزة ليلاً بينما يحكمها المحتل نهاراً، و(سجن الرؤوس الحامية) الذي تمرّد فيها علي الجعفري وراسم حلاوة وإسحق مراغة على (التغذية القسرية) لكسر إضرابهم حتى استشهادهم، و(سجن بئر السبع) الذي تسرح فيه روح ميسرة أبو حمدية الذي كابد شاباً السجن ثم المنفى ثم الحكم المؤبد، وفي سجن (نفي ترتسيا) للبنات الذي حفر على جدرانه أسماء أولى المناضلات اللاتي أنجبن جيلاً كاملاً من المناضلين. تتقاطع أخبار هؤلاء الذين لم يكونوا وحدهم، مع الأسير السابق الذي تصف محطات تجربته الطويلة مشيج تلك المشاعر المتصارعة بين ضيق الأسر بوحشيته، وسعة النفس الأبية رحب الأفق. فتأتي المحطة الأولى بعنوان (المواجهة الأولى تزرع بذرة وعي وطني)، تليها (التنكيل بوالدي يسرّع خيار النضال)، ثم (أنت لست إنساناً)، حتى تأتي محطة (من الزنزانة إلى الإقامة الجبرية) التي أسهب فيها الأسير بحديث عن الخيار بين الاعتراف أو الموت، وفنون التعذيب، ووعود المناضلين بالثأر... وغيرها الكثير، حتى ينتهي بمحطة (ليلة فرّ فيها الموت). أما عنه، وقد تزوج (سلوى) وأنجب (سجى) و(باسل)، فيسترجع أحداث الاعتقال الأول الذي تم في ليلة الخامس عشر من أغسطس عام 1976 ووالدته تحضّه على تناول العنب بينما لم يكن جائعاً حينها، وقد كان عائداً من الشام يمضي عطلته الجامعية بين أهله! فبعد أن تمدد في فراشه يطالع صفحات من رواية (البؤساء) وإذا بالطرق على باب الدار ينهال، وضوء الكشافات تملؤه، والجنود يتدافعون إلى داخله ويحشرون أفراد العائلة في زاوية، ويأمرونه بارتداء ملابسه في التو قبل أن يكبلّوا يديه إلى الوراء ويمضون به نحو المجهول. يتذكر حينها كلمات والديه معاً بعد أن ودعهما قائلاً «مع السلامة»: «الله معك، دير بالك ع حالك، خليك صامد».. وهي الكلمات التي جاءت بمثابة زاد منعه من الضعف والاستجداء، كما منعهما هما أيضاً، ككافة آباء فلسطين وأمهاتهم «وكأنهم قدّوا الصبر والبطولة من جبال البلد التي تملؤها حقول العطاء»، يجودون على الوطن بما لديهم بلا ثمن، وعلى الرغم من أحزانهم التي يكتمونها عند اعتقال فلذات أبنائهم أو استشهادهم، فإن أب المعتقل يجهر ويفخر بخيار ابنه البطل، أما أم الشهيد فتزغرد كما وأنها في حالة فرح. ومن السيرة التي جمعت بين نقيضي المعادلة: أسير أعزل إلا من عزيمة لا تلين، وجندي مدجج بسلاح وعنجهية ومنظومة حرب متكاملة، يقول الأسير السابق في خاتمة حديثه وهو يشيد بالجيل الجديد الذي تصدّر ميادين النضال وسجّل البطولات، وحيث إن الفئة العمرية للأسرى الجدد تغلّب عليها فئة الشباب من ذكور وإناث: «أن جيل جديد مبدع، هو ابن عصره، ومفعم بآمال وأحلام لا حدود لها، وتملؤه العزيمة والجسارة والروح النقدية العالية، وتحركه إرادة فتية فوارة، إنه الجيل الذي يمثل أمل الشعب الفلسطيني ومستقبله ونضاله الوطني الدفاعي التحرري الذي بمعزل عن تغيّر أشكاله وتبدل رايته، وتقلبات وتيرته، صعوداً وهبوطاً، لم ينقطع ولن ينقطع، بما يقتضيه من سجن، مصداقاً للنبوءة التي أطلقها القائد الوطني الكبير الشهيد عبد القادر الحسيني عشية النكبة: سيقاتل الشعب الفلسطيني، جيلاً بعد جيل، حتى تحرير فلسطين».
237
| 21 أغسطس 2025
رغم قصره غزير في حكمته! الكتاب الذي استعان المؤلف في مقدمته برجاء الفيلسوف أبو حيان التوحيدي التوفيق من الله، وهو يجمع بين دفتيه ما استعذب من نصوص قرأها لأصحابها من مفكرين وأدباء، والذين «عركتهم تجارب الحياة» بدورهم، فجادوا بما خبروا، وراموا به نفع البرية، وقد كان من خلود حكمتهم ما جاوز حدود المكان والزمان، فبقي محفوراً في وجدان من خَلَفهم، وذهب مأثور أقوالهم مضرب الأمثال. ومن هنا، اتخذ المؤلف لكتابه عنوان (معركة الحياة: رحلة البحث عن الذات)، راجياً أن يكون بمثابة منارة يستهدي بها قارئه، إن بدا طريقه وعراً طويلاً! فيظهر على أول الطريق الأديب لطفي المنفلوطي، وهو يرى «أن السعادة ينبوع يتفجّر من القلب، لا غيث يهطل من السماء»، ومتى ما كانت نفس المرء راضية كريمة وعفيفة، حمل سعادته في قلبه أينما حلّ، في قصر أو في كوخ، في جمع كان أو في عزلة. ثم يظهر المفكّر عباس العقاد والذي برر شغفه بالقراءة بقوله «لا أحب الكتب لأنني زاهد في الحياة، ولكن لأن حياة واحدة لا تكفيني»، فالمرء تكفي معدته زاد، وجسده يكفيه حلّة، وهو لا يحلّ في مكانين مهما تنقّل، إلا أنه بحصاد الفكر والشعور والخيال يجمع أكثر من حياة في عمر واحد. يأتي بعده المفكّر أحمد الزيات الذي يدين لمذهبه في الحياة، سلامة صدره ولين جانبه، فقد ترك الخلق للخالق، لا ينتقد ولا يعارض ولا يجادل، فإن آب إليه من ضرّه تقبّله ولم يعاتبه، وهو يقول «وأي نفع ارتجيه من تعكير ما راق وإشعال ما خمد»، وقد أسقط الماضي من حاضره فور انقطاعه، واتخذ الإيثار وسيلة لإدخال السرور على قلب صاحبه لا لأن يتصدر به المجالس. أما الحب إذا سُأل عنه المفكر د. مصطفى محمود، فسيقول: «موجود ولكن نادر»، إنما هو «ثمرة توفيق إلهي وليس ثمرة اجتهاد شخصي»، والنفوس إن كانت عامرة بالخير والجمال، تنسجم وتتآلف وتتراحم بالفطرة، ثم تكمّل بعضها بعضاً.. في حين كان جلّ ما يخشاه الأديب الساخر توفيق الحكيم، تعدد الهدف وحيرة الإرادة، وهو يرى «أن المقصود من الهدف هو السير نحوه لا بلوغه»، وقد اعتبر (القدر) كائنا هائلا يسخر من أولئك الذين يظنون أنهم بلغوا أهدافهم، في حين لا يعترض طريق أولئك الذين يسيرون ويعملون. أما الروائي إحسان عبدالقدوس، فيعتقد أن البحث عن الراحة في مكان هادئ مدعاة لإرهاق أكبر للعقل وللأعصاب، ففي نظره «الراحة الحقيقية هي أن ترتاح من نفسك»، أي بأن يجد المرء ما يشغله عن نفسه في حياته، فإنما متاعبه ومشاكله وأشباحه تكمن في داخله، ومتى ما خلا بنفسه واجهته، ودبّ في عقله الضجيج، وأصابه التعب من جديد. غير أن الصحفي عبدالوهاب مطاوع يوصي هذا المرء بألا يسمم روحه فيكره من بغى عليه بلا ذنب، إذ ما عليه إلا أن يتجاهل وجوده ويدخّر اللحظة التي يطوف فيها بخياله «للتفكير فيمن تحبهم، لاستعادة وجوههم ورنين أصواتهم في مخيلتك». ثم يرى الشاعر محمد هيكل، بعد أن أتم دراسته وانخرط في الحياة، الكثير ممن ينجح فيها قد خالف المبادئ والقواعد والقوانين، غير أن أحدهم لا يلبث حتى يتعرض لمتاعب كثيرة يهدم بها حياته، لذا فهو يؤكد «أن التشبث بما نؤمن أنه الحق، والدفاع صادقاً، وسلوك سبيلنا في الحياة على هداه، ذلك هو الذي يرضي ضميرنا ويبعث الطمأنينة إلى نفوسنا». ومن بعده، توصي المفكرة د. هبة عزت ابنها، حفظ حقه في الرد وعدم تسليم عقله لأحد، لاسيما تجّار الدين والفكر والسلاح والسياسة، فإن حَفِظت الطاعة المبصرة الدنيا وأقامت الدين، فالعمياء منها تهدمها «والله وحده هو الأعلى والأعلم، فلا تتخذ أرباباً من دون الله» هكذا توصي ابنها. أما الكاتب المسرحي ممدوح عدوان، فيعتقد بحاجتنا إلى الجنون، ففي نظره «نحن أمة خالية من المجانين الحقيقيين، وهذا أكبر عيوبنا»، فبما أن العالم من حولنا مقيت وخانق ومرفوض، ومحاولة الجميع الظهور بمظهر العاقل يحيل الوضع إلى بلادة دائمة، فالجرأة على هكذا وضع في هكذا أمة يُعد جنوناً بالقطع، غير أنه كفيل بالإصلاح طالما أنه يكشف حقيقتنا الخائفة والخانعة. أما أديب المهجر جبران خليل جبران فقد اتخذ له من نفسه واعظا، تلك النفس التي علمته فن الإصغاء للأصوات التي لا تنطقها الألسنة، فشرع ينصت للسكينة ويستمع لأجواقها وهي «منشدة أغاني الدهور، مرتلة تسابيح الفضاء، معلنة أسرار الغيب»، بعد أن كان لا يعي سوى الضجة والصياح من حوله. غير أن الأديب إبراهيم نصرالله، يعلم بعلم الجنود عن سر حب المناضلين للحرية، وإن ارتقوا شهداء «فهم طيور الدنيا الجميلة»، لذا ترى أولئك الجنود متأهبين دائماً لاستهدافهم أينما كانوا، لا لكي يقتلوهم بل ليقتلوا الحرية الكامنة فيهم. ختاماً، وكما شبّه المؤلف رحلة الإنسان في البحث عن الذات في هذه الحياة بـ (معركة)، فمعارك الإنسان تتشابه قطعاً، وفي قصصه دائماً عبرة لأولي الألباب.
222
| 13 أغسطس 2025
وكأنه قول لقديس! .. كتاب وإن انحصر عنوانه بين (الأدب الصغير والأدب الكبير)، فهو يعبق بطيبات التراث العربي، ويزخر بلآلئ الحكمة وبحكيمها الذي صاغ بيانه في أجزل عبارة، وأنطق حكمته عبر تصاريف ما خبر من حياة قصيرة عاشها. أما الحكمة فنعماً هي، وأما الحكيم فهو (أبو محمد عبد الله بن المقفع 106-142هـ / 724-759م)، فارسي وُلِد مجوسياً ثم اعتنق الإسلام، وعاصر الخلافتين الأموية والعباسية، وقد قُتل شر قتلة على يد أعوان والي البصرة (سفيان بن معاوية بن يزيد) فترة حكم الخليفة العباسي المنصور، والذي كان يتوعّده لخلاف شديد كان قائما بينهما، لم يتورع فيه ابن المقفع من كيل ضروب السخرية اللاذعة في حقه، والتقليل من شأنه أمام العامة! لكن، ما أصل تصنيف الأدب بين صغير وكبير؟ فيما يُنسب إلى ابن المقفع نفسه، فإن كل ما من شأنه تهذيب النفس والارتقاء أخلاقياً على مستوى الذات، يندرج تحت (الأدب الصغير)، بينما يتسع (الأدب الكبير) فكراً وعمقاً ومعرفة ليشمل الحياة ككل. بعبارة أكثر بلاغة: (الأدب الصغير أدب عملي إرشادي، والأدب الكبير أدب تأملي فكري فلسفي). لذا، يظهر ابن المقفع في (الأدب الصغير) موجهاً، يفرّق بين الخطأ والصواب ويدعو لمحاسبة النفس بما لها وما عليها، لا سيما وهو يرى أن العاقل هو من يحصي مساوئه، مشدداً على عدم استصغار أي قدر من الخطأ، ويوصي أيضاً بالنفس، بتهذيبها وتعليمها وتلقينها قبل الغير، وبالأخذ عن الحكماء، وبتعاطي الأدب كسبيل لتنمية العقل، وهو يعتبر أنه لا مال أغلى من العقل، وأن آفته العُجب وحسب، بل وقد عدّ العاقل هو ذلك الذي لا يفرح بالمال الكثير. يرى أن الكذب هو رأس الذنوب، ويوصي بمداومة ذكر الموت فهو عصمة، وبأن الدنيا ليست سوى زخرف فلا ينبغي الركون لها ولا الاغترار بها، وهو حين يفرّق بين الدين والرأي من جهة، يؤكد على أن الرأي والهوى بطبيعتهما متعاديان، محذراً من الاعتداد بالرأي والاستخفاف بالغير، ومن خصومة الأهل والأصدقاء، وهو يفرّق في المودة بين الأخيار بعضهم ببعض، والأشرار فيما بينهم كذلك....، والكثير من صيغ التوجيهات الأخلاقية وفضائلها ورذائلها بين جنبات (الأدب الصغير). فعن حكمة طلب العلم، بين تلقي المعرفة وتحصيل الفطنة، كحق للمرء على نفسه، فيقول فيهما ابن المقفع: «حبب إلى نفسك العلم حتى تألفه وتلزمه، ويكون هو لهواك ولذتك وسلوتك وبُلغتك. واعلم أن العلم علمان: علم للمنافع وعلم لتذكية العقول. وأفشى العلمين وأحراهما أن ينشط له صاحبه من غير أن يُحَض عليه، علم المنافع. وللعلم الذي هو ذكاء العقول وصِقالها وجلاؤها، فضيلة منزلة عند أهل الفضيلة والألباب». أما عن حق المرء على الآخرين، وعن حكمة التعامل مع من هم أعلى ومن هم أدنى، فيقول: «وقر من فوقك، وَلِنْ لمن دونك، وأحسن مؤاتاة أكفائك، وليكن آثر ذلك عندك مؤاتاة الإخوان، فإن ذلك هو الذي يشهد لك بأن إجلالك من فوقك ليس بخضوع منك لهم، وأن لينك لمن دونك ليس لالتماس خدمتهم». أما (الأدب الكبير) الذي جاءت وصاياه أقل في القدر من (الأدب الصغير)، فقد قسّمه الأديب الفارسي إلى قسمين رئيسيين: (في السلطان) و (في الأصدقاء)، فيوصي الملك ابتداءً بالاستعاذة بالعلماء طالما قد وقع عليه البلاء بالسلطان، محذراً من حب المدح ومن فرط الغضب ومن سفاسف الأمور يهتم بها فيضيّع عظيمها، منبهاً على أن ليس للملك أن يكذب أو أن يسيئ الظن. ثم يعرج على كل من صاحب سلطان يوصيه بدوره، فيحذَر سخطه ويتجنب المسخوط عليه، ويحفظ لسانه فلا يتكلم إلا حين يُسئل، لكن، عليه أن يتقن واجب النصح للسلطان! يقول عن حكمة الترفّع عن قبول المدح الذي يصبح المتقبّل له كمادح نفسه، موجهاً نصحه إلى كل من تقلّد منصب السلطان: «وإياك إذا كنت والياً، أن يكون من شأنك حب المدح والتزكية، وأن يعرف الناس ذلك منك، فتكون ثُلمة من الثُّلم، يتقحَّمون عليك منها، وبابًا يفتتحونك منه، وغيبة يغتابونك بها، ويضحكون منك لها. واعلم أن قابل المدح كمادح نفسه، والمرء جدير أن يكون حبه المدح، هو الذي يحمله على ردّه. فإن الراد له محمود والقابل له معيب». وبعد أن يفرغ من (السلطان) وينتقل إلى (الصديق)، يذكّر بحقه، وبعدم التطاول عليه، وبعدم نسب كلامه إلى نفسه، وبالجود معه، وبنبذ الحسد، وبالزهد بما في يديه، والحذر من التصنّع أمامه، وبحسن مجالسته والاستماع إليه، والنطق بالحسن من القول أمامه، والاستكثار من الصمت الذي يستجلب المودة.. وهو قبل هذا ينبّه على حسن اختياره وشروط الصحبة ككل، والتي من خلالها يحذّر من الأعداء، ومن خُلق العداوة والبغضاء. فيقول في حكمة التحفّظ في المخالطة والمحادثة، وهو يتوجه في نصحه إلى الصديق تجاه صديقه: «تحفّظ في مجلسك وكلامك من التطاول على الأصحاب، وطب نفساً عن كثير مما يعرض لك فيه صواب القول والرأي، مداراة، لئلا يظن أصحابك أن دأبك التطاول عليهم».
447
| 07 أغسطس 2025
هل نهضة الحضارة الإنسانية نعمة كلها، أم أنها تخفي أفق مستقبل قاتم سيخلّف وبالاً على الإنسانية نفسها؟ فحينما يمتلك الإنسان الكثير ويستخدم الكثير يكون قد أضاع كينونته التي تناسى في خضم الماديات، كونها مركز نشاطه الإنساني الرئيس.. أو بمعنى آخر، أصبح ذا «كينونة ضئيلة». هكذا يعتقد المؤلف، الفيلسوف وعالم النفس الألماني-الأمريكي (إيريك فروم 1900-1980). فالإنسان في نظره، وإذ هو يصنع المنتجات العصرية، يتحول بمرور الوقت إلى مجرد شيء خاضع لسيطرتها، ومع أنه (مجرد شيء)، فقد بات متضخم الأنا جرّاء توحّده مع تلك الأدوات وتلك المؤسسات، وتماهيه مع طوفان منتوجاتها الاستهلاكية!. إنها بالقطع علاقة عكسية التي اقتبس في شأنها (إيريك فروم) من فكر الفيلسوف الاشتراكي الألماني (كارل ماركس) وعالم الاجتماع الألماني الماركسي (فريدريك إنجلز) ما معناه: «بقدر ما تكون قليل الشأن بقدر ما يقل تعبيرك عن حياتك، وبقدر ما تكبر ملكيتك بقدر ما يزداد تغرّب حياتك، وكلما تعاظم رصيدك من كينونتك المتغربة».. غير أنه يؤكد أن «كينونتنا مهمة أكثر من ملكيتنا أو أكثر مما نستخدم». إن تلك الحالة -على حد وصفه- تجسّد (الصنمية العالمية الجديدة) وقد بدأت مع القرن التاسع عشر واستمرت حتى القرن العشرين بكثافة وسرعة متزايدة، والتي لا تدعو لعبادة إله جديد، بل تسفر عن موقف إنساني يضفي الطابع المادي على كل ما هو حي، يتقدمها الإنسان كذات أو ككينونة أو ككائن حي! لذا، يقسّم الفيلسوف كتابه (كينونة الإنسان) إلى ثلاثة أجزاء رئيسية: (1-البديل الإنساني. 2-مبادرات واعترافات إنسانية. 3-إيكهارت وماركس حول الكينونة والتملك)، يتشعب من خلالها إلى العديد من المواضيع ذات الصلة، مثل: مستقبل الإنسان المعاصر، الاغتراب كعرض مرضي له، اللامبالاة كتمظهر جديد له، تفكك الأنظمة الاجتماعية، النضال ضد الصنمية، الملكية مقابل الكينونة، الدين والتصوف ومفهوم الإله. ففي موضوع (ما لا أحبه في المجتمع المعاصر)، يفضح الفيلسوف ذلك الإنسان الساعي نحو الإثارة بدلاً من السعادة، المتطلّع دوماً إلى التملّك أكثر من الرغبة في النمو والازدهار، والمتحرّق للإشباع الفوري وتلبية الحاجات بسعار يفوق الصبر على التعلم، فيقول: «أولاً، أود أن أعبر عن كرهي لحقيقة أن كل شيء وكل شخص تقريباً للبيع. ليس فقط السلع والخدمات بل الأفكار، الفن، الكتب، الأشخاص، القناعات، الشعور، الابتسامة.. كلها تحولت إلى سلع. وكذلك الإنسان كله، بكل جوارحه وإمكانياته. يترتب على ذلك أن قلة قليلة من الناس يمكن الوثوق بها. لا يقتضي هذا بالضرورة أني أقصد عدم النزاهة في العمل أو الاستخفاف بالعلاقات الشخصية، بل أقصد شيئاً أعمق. عندما يكون الإنسان للبيع، كيف تثق أنه سيكون غداً هو نفسه الذي تعرفه اليوم؟ كيف أعرف من هو، أو لمن سأمنح ثقتي؟ كيف أثق أنه لن يقتلني أو يسلبني؟ هذا، في حقيقة الأمر، تجديد للطمأنة، لكنه ليس موضع ثقة كبيرة». يقوده هذا للاعتقاد بأن قلة قليلة من الناس تمتلك قناعات.. القناعات التي تمثّل آراء متجذرة في طبيعة كل شخص تشكّل إجمالاً شخصيته المتكاملة، والتي بدورها تحفّز على العمل! ومن هنا، لا يجد الجيل الجديد -رغم نزاهته في نظره- سوى مفتقر لجوهر حقيقي، قد نزع إلى امتلاك طباع تشكّلت بفعل الأنماط التقليدية السائدة من أجل التكيّف والاستمرار! يوضّح رأيه هذا وهو يؤكد على أن «أحد الأشياء الممتعة في العالم المعاصر هو نزاهة جزء كبير من الجيل الشاب»، قائلاً: «انهم يعيشون عاطفياً ويتكلمون فكرياً من الفم إلى اليد. يشبعون حاجاتهم فوراً، وهم قليلو الصبر على التعلم، ولا يستطيعون احتمال الإحباط ببساطة، وليس لديهم أية نقطة مركزية في ذاتهم، ولا إحساس بالهوية. إنهم يعانون من هذا ويرتابون في أنفسهم، في هويتهم، وفي معنى الحياة. لقد صنع بعض علماء النفس فضيلة من هذا الافتقاد للهوية. يقولون إن هؤلاء الشباب لديهم (طبعاً متقلباً)، يسعون إلى كل شيء، ولا يرتبطون بأي شيء. لكن هذه مجرد طريقة شعرية في الحديث عن افتقاد الذات التي تحدث عنها سكينر، وأقصد (الهندسة البشرية) التي وفقاً لها يكون الإنسان ما هو مخطط أن يكونه». علاوة على هذا، يعبّر عن كرهه لحالة الضجر العام السائدة وانعدام شعور السعادة! فبينما يبدو الناس في نظره غير مهتمين بما يعملون، يظهر النظام الاقتصادي بدوره غير مهتم بعدم اهتمامهم ذاك، فيعقد الأمل على إيجاد طرق للاستمتاع والترفيه وقطع الرتابة بشكل أكبر مما كان متاحاً للجيل القديم، كحافز وحيد وضروري للإقبال على العمل، وكتعويض عن أي ضجر ملازم. لكنه من جديد، يعقد علاقة نفسية متضاربة بين هذين المتغيرين، فيقول: «إن وقت فراغهم ووقت تسليتهم من جهة أخرى، يبعث على الضجر. وبقدر ما يدار وقت فراغهم من قبل صناعة التسلية تدير المنشآت الصناعية وقت عملهم. فالبشر يبحثون عن المتعة والإثارة أكثر مما يبحثون عن البهجة، يبحثون عن السلطة والملكية بدلاً من البحث عن النمو، يريدون أن يملكوا الكثير ويستخدموا الكثير.. بدلاً من أن يكونوا هم الكثير».
765
| 31 يوليو 2025
يبدو أن المرونة في التفكير، تخدم عملية الطرح الموضوعي للبدائل والاقتراحات والرؤى والأفكار المتعلقة بموضوع ما، محل نقاش، والذي يترتب عليه بطبيعة الحال اتخاذ أكثر القرارات صواباً فيه، وهو الطرح الذي يعمد إلى استعراض الجوانب الإيجابية والسلبية منه، إضافة إلى حصيلة المشاعر والانطباعات الشخصية، فضلاً عن عناصر الحيادية والإبداع والتفكير خارج الصندوق، وكل ذلك تحت إدارة محكمة لمعترك هذه البوتقة من أنماط التفكير المتباينة، أو بالأحرى من خلال اعتمار قبعة ذات لون محدد تشير برمزية نحو كل نمط بعينه من التفكير، بما له وما عليه.. وهذا بالضبط ما يشير إليه الكتاب في عنوانه (قبعات التفكير الست). يصمم مفهوم (التفكير الجانبي) كوسيلة احترافية للإبداع (د. إدوارد دي بونو 1933 : 2021)، وهو طبيب وعالم نفس مالطي، تقلّد مناصب عدة في جامعات عالمية مرموقة مثل (أكسفورد) و(هارفارد)، وأصدر أكثر من خمسين كتاباً في هذا المجال، إضافة إلى إدارة برامج التدريس المباشر للتفكير في عدد من المدارس حول العالم، وكذلك تصميم أدوات مرنة لعملية التفكير وتطبيقاتها العملية في مؤسسات عالمية كبرى. وهو إذ يعتبر عملية التفكير أقصى مورد من موارد الإنسانية، فهو يسعى نحو تحسين مهارات الإنسان بدلاً من مجرد الاطمئنان للمستوى الجيد الذي هو عليه في الحاضر، لا سيما وأن هذه الطمأنينة في نظره، تنم عن مستوى متدنٍ من التفكير، يهدف من خلاله الإنسان إلى إثبات أنه على حق كيفما اتفق، ومن ثم إرضاء غروره الشخصي وحسب! بيد إن هذا الرضا الذاتي بحاجة إلى أن يواجه الارتباك الذي يصدر عن الصعوبات المرتبطة بعملية التفكير ذاتها، أو بالأحرى الارتباك الناجم عادة عن محاولة إنجاز عدد من الأعمال في وقت واحد، حيث تتزاحم بالداخل قوى المنطق وانفعالات العاطفة، وتعترك معاً مخيلة الإبداع وهاجس الترقب وبواعث الأمل.. فيأتي مفهوم «قبعات التفكير الست» ليفصل بينها جميعاً، من خلال الحثّ على اعتمار قبعة واحدة فقط في موقف محدد، أو حسب تعبير د. بونو: «إن قبعات التفكير الست على المستوى الفردي سوف تسمح لنا بأن نقود تفكيرنا كما يقود المايسترو الأوركسترا فنستدعي منه -من الآن فصاعداً- ما نريد». فما هو هذا الترميز اللوني؟ بما أن د. بونو يزاوج بين هذه الألوان الست في ثلاثة، فيعتبر أن (الأبيض والأحمر) رمز عن الحياد والعاطفة، و (الأسود والأصفر) رمز عن السلبي والإيجابي، و (الأخضر والأزرق) رمز عن الإبداع والنظام، فهو يعرضها حسب هذا المفهوم بقوله: «القبعة البيضاء: اللون الأبيض يعتبر محايداً وموضوعياً، لذا كانت تلك القبعة معنية بالحقائق الموضوعية والأشكال والرسومات التوضيحية. القبعة الحمراء: اللون الأحمر يوحي بالغضب، بالغيظ، بالأحاسيس المتأججة؛ لذا فإن دور هذه القبعة هو إعطاء وجهة النظر العاطفية غير المبررة. القبعة السوداء: الأسود هو لون مظلم سلبي؛ لذا فالقبعة السوداء ستغطي النواحي السلبية. القبعة الصفراء: إن الأصفر هو لون مشمس وإيجابي؛ لذا فالقبعة الصفراء قبعة متفائلة ويغطي دورها الآمال والتفكير في الإيجابيات. القبعة الخضراء: الأخضر هو لون الزرع والنمو المثمر الوفير والتكاثر الخضري؛ لذا فتلك القبعة تشير إلى الإبداع والأفكار الجديدة. القبعة الزرقاء: اللون الأزرق هو لون بارد وهو لون السماء التي تعلو على أي شيء آخر؛ لذا فالقبعة الزرقاء معنية بالسيطرة والتنظيم لعمليات التفكير، وعملية استخدام القبعات الأخرى، فلا يطغى دور إحداها على الأخرى». وفي الحديث عن كل قبعة بلونها الخاص، فقد تطرّق د. بونو في (القبعة البيضاء) عن ترشيد عملية طلب المعلومات، وحدد المسافة بين الرأي والاعتقاد، وفرّق بين الصدق والحقيقة، في حين انتقل إلى مرحلة إعداد خريطة التفكير الشاملة في (القبعة الحمراء) التي تقود بطبيعة الحال إلى مرحلة اتخاذ القرار، محدداً موقع (الحدس) تحت حيّز هذه القبعة، وموضحاً مدى إمكانية تغيير العواطف عن طريق نمط التفكير المنوط بها! أما في (القبعة السوداء)، فقد فرّق في عملية التفكير بين طريقة التفكير وموضوعه، وقد ربط بين هذه القبعة وعملية النقد، مشيراً إلى عملية البحث عن السلبيات المنطقية، ومحذراً من الانغماس في رؤية السلبيات، بينما أدرج نمط التفكير البنّاء تحت (القبعة الصفراء)، وحرص على التفريق بين البناء والإبداع أثناء اعتمارها. أما في (القبعة الخضراء)، فقد تطرّق إلى عملية التفكير الجانبي، من باب الحاجة إلى الإثارة الذهنية وتحفيز عملية التفكير الخلّاق، وقد خصّ (القبعة الزرقاء) كـ (مايسترو) منظومة التفكير هذه، من ناحية تصميم برنامج التفكير المناسب، واستمرارية مهام التركيز والسيطرة والمتابعة. ويؤكد د. بونو في نهاية كتابه، بأن الغرض من مفهوم «قبعات التفكير الست» يتحدد في اثنين، الأول: تبسيط عملية التفكير، وذلك من خلال تمكين كل فرد من التعامل مع مختلف أنماط التفكير بطريقة منفردة وفي وقت محدد، دون الخلط فيما بينها. الثاني: المرونة في عملية التفكير، وذلك من خلال تمكين كل فرد استدعاء أنماط مختلفة من التفكير بدلاً من التمسك بنمط واحد بعينه.
765
| 24 يوليو 2025
إنه كاتب برتبة قارئ، قارئ من قبل ومن بعد، لم تعتقه القراءة من أسرها يوماً واحداً في حياته، غير أنها لا تنفك تتغاير على هوى الواقع ومدارك الوعي وتغير المزاج، لا محالة! فيروي في كتابه (مسرات القراءة ومخاض الكتابة) تفاصيل تجر تفاصيل عن رحلته التي لا تزال تمضي على طريق الكتابة بمعية القراءة. الكتابة التي تعلّمها بالكتابة، لا على مقاعد دراسية، ولا في ورش كتابة إبداعية، ولا من خلال منشورات تعلّم (الكتابة في سبعة أيام) على غرار التوصيات الدعائية مفرطة السذاجة. إنما الكتابة في نظره منظومة متكاملة من معايير، تجمع بين استعداد فطري، وذهن حاضر، وشخصية صبورة، وقراءة نوعية دؤوبة، وتمارين كتابة شاقة مؤبدة، وتضحيات غير مأسوف عليها من متع الحياة المادية! وبينما يعتقد الكاتب بإمكانية موازاة سعة القراءة لسعة الكتابة في أنماطها ومختلف مجالاتها، لا يضمن بلوغه مبلغاً من العلم يجعله لا يقر بمدى عمق مجاهله التي تبلبل مغاليقها أسئلة تتوالد مع تنامي معارفه. أسئلة يحرض عليها تفكير خلاق وعقلية جدلية وقراءة جادة لا تسلم له بما اكتسب، بل تثير فيه بواعث الشك والريبة والحيرة، وتغربل ما اعتنق من حقائق، وتزحزح ما آمن به من مسلمات، وتدفعه نحو إعادة النظر فيها من جديد بعين رقيب وفكر ناقد، على الدوام. لا عجب بعد هذا أن يصنف الكاتب كتابه كـ (فصل من سيرة كاتب)، كما جاء في عنوانه الفرعي، وبوصفه أثمن ما عاشه في حياته، كما عبر في مقدمته. أما عنه، فهو (د. عبدالجبار الرفاعي 1954) مفكر عراقي وأستاذ جامعي، حصل على درجة الدكتوراه في الفلسفة الإسلامية، واختص في علم الكلام وفلسفة الدين، ثم عمل على إصدار عدد من المؤلفات تصب في مجال تجديد الخطاب الديني، ونال العديد من الجوائز المحلية والعربية والعالمية. ففي نظره، يكتسب القارئ خبرة ما بعد تجواله في عالم الكتب، فلا ينتقي منها إلا ما يعزز بناء المعرفة الذي شيّده لنفسه، وبيقظة ودراية، ولا تعود تلك ذات العناوين الطنانة، تجذبه بإغواء رخيص وهي خاوية من أي نفع حقيقي! يقول في موضوع (القراءة العشوائية): «ما يخدع القراء من الكتب ويزيف وعيهم ليس قليلاً، مثل هذه الكتب ينبغي الفرار من شراكها. لا يعكس تعدد عناوين الكتب واختلافها تنوع مضمونها. يكون التعدد أحياناً تكراراً مملاً لكلمات خاوية، لا تجيد رسم صورة ما تنشده بلغة صافية؛ فقلما نقرأ من يمتلك موهبة إعادة بناء الكلمات ورصفها بتشكيلة معمارية فاتنة. تسود مجتمعنا حالة شعف بالكلام، وطالما تحول الكلام إلى ركام كتب مبتذلة لا تقول شيئاً مفيداً، يضيع فيها عمر القراء ويزيف وعيهم». وفي موضوع (كلما احترقت مكتبة انطفأ شيء من نور العالم) وبعد أن يعرض تجربته الشخصية في ضياع مكتبته، لا لمرة واحدة، بل لمرات كان إحداها بفعل حريق متعمد له أسبابه القاهرة، يتعرض الكاتب من ناحية أخرى للتراث العربي الذي شهد على مدى العصور، مجازر وإتلاف وإغراق وحرائق انتقامية أودت بكنوز من كتب قد لا تقدر بثمن! فمن هولاكو وماكينة التدمير التي أودت بحياة مكتبات بغداد النفيسة، وحرائق مكتبات الأندلس إثر سقوط آخر معاقلها في غرناطة، إلى آليات التدمير الأخرى التي اعتمدتها الفرق الإسلامية في تكالبها على بعضها البعض، وتعمّد الفئة الناجية طمس مآثر الفئة الضالة، حسب رواية المنتصرين! فيقول: «متعة الظفر بكتاب ممنوع بعد سنوات من البحث عنه لا يعرفها إلا هواة الكتب. في زمن غياب المنع ووفرة الكتب الورقية والإلكترونية، يخسر القارئ هذا النوع من الشوق الغريب للممنوع ولا يبتهج بمتعة الظفر بكتاب بعد سنوات مديدة من البحث عنه». ثم يضيف ملح على جرح القارئ التقليدي الذي لم ينفك يرقب الكتاب الورقي وقد احتوشه الكتاب الإلكتروني إثر الطفرة الرقمية التي باتت تبرمج شؤون الحياة بضغطة زر، والكاتب يتحدث في موضوع (الكتابة في عصر الإنترنت) من منطق واقع أشد قساوة من منطق القارئ الرومانسي! فيقول: «لا شيء يحمينا من زحف الكتابة والكتاب الإلكتروني، وليس باستطاعتنا إيقاف شلال الإنترنيت الكاسح الذي يتسلط على كل شيء في حياتنا. في منازل الكتاب، غالباً تتبعثر الكتب بشكل فوضوي في غرف وباحات بيوتهم، المولعون بالورق كأنهم يستمعون إلى سمفونية تفيض على مشاعرهم رقة وهدوءاً. للكتاب بوصفه كائناً نعيش معه إيحاء مهدئ لا يتحسسه إلا أولئك المغرمون بالورق يتعاطون معه كأنه صديق حميم، يبدد وحشة عزلتهم، ويخفّض شيئاً من اكتئابهم، ورفيق عاطفة يبوح لهم بما لا يبوحه أقرب الخلان، ومصباح يضيء عقولهم بما لا يرونه بأي ضوء غيره، ومحطة استراحة تبدد شعورهم بالقرف والملل وتكسر نمطية حياتهم ورتابة التكرار فيها لحظة ينخرطون في حوار مع الكتاب، يحدثهم فيحدثونه، يصغون إليه فيصغي إليهم، يناقشونه فيناقشهم، يشاكسونه فلا يمتعض منهم. يبقى على الدوام يهبهم ما يتوقعونه وما لا يتوقعونه منه بلا أي ثمن».
258
| 18 يوليو 2025
مساحة إعلانية
في الساعات المبكرة من صباح السبت، ومع أول...
4242
| 05 ديسمبر 2025
-«المتنبي» حاضراً في افتتاح «كأس العرب» - «أبو...
1971
| 07 ديسمبر 2025
فجعت محافل العلم والتعليم في بلاد الحرمين الشريفين...
1773
| 04 ديسمبر 2025
لم يدخل المنتخب الفلسطيني الميدان كفريق عابر، بل...
1428
| 06 ديسمبر 2025
تتجه أنظار الجماهير القطرية والعربية إلى استاد خليفة...
1164
| 04 ديسمبر 2025
مواجهات مثيرة تنطلق اليوم ضمن منافسات كأس العرب،...
1149
| 03 ديسمبر 2025
لم تعد الدوحة مجرد مدينة عربية عادية، بل...
906
| 03 ديسمبر 2025
عندما يصل شاب إلى منصب قيادي مبكرًا، فهذا...
729
| 09 ديسمبر 2025
أحياناً نمر بأسابيع تبدو عادية جداً، نكرر فيها...
663
| 05 ديسمبر 2025
تشهد الساحة الدولية اليوم تصاعدًا لافتًا في الخطابات...
639
| 04 ديسمبر 2025
حسناً.. الجاهل لا يخدع، ولا يلبس أثواب الحكمة،...
570
| 08 ديسمبر 2025
شهدت قطر مع بداية شهر ديسمبر الحالي 2025...
564
| 07 ديسمبر 2025
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
تابع الأخبار المحلية والعالمية من خلال تطبيقات الجوال المتاحة على متجر جوجل ومتجر آبل