رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
تبدو اللغة الفرنسية وفق هذا الكتاب (أسلافنا العرب: ما تدين به اللغة الفرنسية لهم) عربية، في عمقها الذي لم يتوقف عند حدود المفردات المشتقة منها والمتداولة شفاهة، بل في توغلها ضمن نسيج اللغة الفرنسية، كما تعكسها معاجمها الكبرى وأعمال أدبائها الكلاسيكية. وعلى الرغم من أن فرنسا الحالية عُرفت قديماً ببلاد (الغال) نسبة إلى الشعب الذي كان يقطن أراضيها ضمن معظم أراضي أوروبا الغربية آنذاك، إلا أن الكلمات الفرنسية التي تعود لأصل «غالي» لا تتجاوز مائتي كلمة مقابل أكثر من خمسمائة كلمة عربية، ما يضع اللغة العربية في مرتبة ثالثة -بعد اللغتين الإنجليزية والإيطالية- في تأثيرها على اللغة الفرنسية، بل وبشكل يفوق تأثيرها في اللغة الإسبانية، رغم مجاورة أهلها للعرب في شبه جزيرة أيبيريا قرابة سبعة قرون. وقد جاء هذا الاندماج بين اللغتين العربية والفرنسية إثر الحملات الصليبية والغزو العربي والتبادل التجاري وحركات الهجرة. لذا، لا يجد الباحث أي مبرر للدهشة في هذا الإثراء اللغوي الذي تمخّض عن قرون طويلة من العلاقات التبادلية، في حين أن للدهشة أن تعتري الفرنسيين وقد كانوا يكررون عبارة «أسلافنا الغاليون» على أسماع التلامذة ذوي الأغلبية العربية في مستعمراتهم القديمة في الشمال الأفريقي، إذ «لم يكن لهم بالتأكيد أن يخجلوا من (أسلافهم العرب)». يتتبع الباحث المسالك التي سلكتها اللغة العربية في هجرتها نحو الفرنسية، عبر الإسبانية والإيطالية والإنجليزية، وهو لا يغفل عن معاينة الجوانب النحوية والصرفية والصوتية والمعجمية فيها. فإضافة إلى الترتيب الهجائي لتلك الكلمات، اعتمد الباحث ترتيباً موضوعياً في تصنيفها بين المفاهيم والعناصر الثقافية والحضارية، حيث يخصص أبواباً للحديث عن النبات والحيوان والعطور والملابس والألوان والأوزان والفنون والموسيقى والمهن والمعمار والمناخ والمعارك والأسلحة والأثاث والأدوات والمذاهب والأديان! فمع هذا العمق الذي يبرز دور اللغة العربية «بما لها من مفاهيم ومضامين» في إثراء اللغة الفرنسية من جانب، فهو يشير من جانب آخر إلى «دلالات حضارية وتاريخية وثقافية وعليمة، شاهدة على مرحلة زاهرة من تاريخ اللغة العربية، كانت خلالها لغة للعلم والتقنيات، ولغة الفكر والحضارة والفن والاقتصاد، واللغة العالمية الأولى بلا منازع». وفي هذا السياق، ينقل الباحث من المعاجم الفرنسية الأولى قول المؤرخ الفرنسي بروزين دو لا مارتينيير: «ليس من شك في أن لغة العرب من أكثر اللغات جمالاً ومن أكثرها قدماً». بيد أن البحث الموضوعي لم يخلُ من عاطفة، حيث حرص الباحث على نشر كتابه قبيل الانتخابات الرئاسية الفرنسية الأخيرة «وبالتالي تشكيله رداً يمزق خطاب الفرنسيين المعاديين للعرب، بكشفه لهم ولغيرهم عمق الإرث العربي لفرنسا الذي يتعذر نكرانه» كما ينقل مترجم الكتاب (أ. د. محمد البقاعي) في مقدمته، وهو أستاذ جامعي يحمل درجة أكاديمية في اللغة العربية وآدابها، بجانب درجة الدكتوراه في علوم اللغة والنقد الأدبي من جامعة ليون الفرنسية. أما عن الباحث، فهو (جان بروفو) أستاذ أكاديمي في اللغة وعلم المعاجم، وعضو معهد اللغة الفرنسية، كما أنه مستعرب، يعرف اللغة العربية ويلحظ تطورها عبر صفوف المهاجرين، ويراقب مدى تأثيرها الحاضر في اللغة الفرنسية كما كان في الماضي. وهو يتطلع إلى إيجاد مستقبل تفاعلي أكثر عملية من الايديولوجية الصماء، لا سيما من خلال تحريضه على ضرورة النهوض واسترداد حيوية اللغة العربية في الثقافة الفرنسية، آخذاً بعين الاعتبار الانفتاح الثقافي والمعرفي كأفضل معركة ضد كافة أشكال التطرف. ففي رحلته المتعمقة في بحر الكلمات العربية التي تزخر بها المعاجم الفرنسية، يعرض كلمات شائعة. فمن الأطعمة «خروب caroube»، ومن الأحجار الكريمة «قيراط carat»، ومن التعاملات المالية «حوالة aval»، ومن المباني «منبر minbar»، ومن الوظائف «قاضي cade». أما الأقمشة الجميلة، فيؤكد «أن مدينة غزة هي أصل الشف المسمى بالفرنسية gaze، وهو نسيج في غاية الخفة والشفافية». وإضافة إلى الفصيح من العربية، فلقد كان للفرنسية نصيب من لهجاتها، لا سيما الدارجة في بلاد المغرب العربي، حيث تمسك مهاجريهم بالتعاطي بلهجاتهم رأساً برأس اللغة الفرنسية، وقد عدّهم الباحث (شركاء في المواطنة) وعدّ تمسكهم ذاك (ثراءً حقيقياً). ومن تلك الكلمات: «ماكانش macache/ شوف chouf». ثم يسهب الباحث في حديثه عن الدين الإسلامي والقرآن الكريم والحديث النبوي، فيستهل بالمفردات الدينية المتداولة وبيان عملية تطورها وزمن اندماجها مع اللغة الفرنسية. فهناك «العالِم ‹ālim والإمام l›imam والمؤذن muezzin». وعن الأخير، فينقل قول شاعر القرن التاسع عشر الفرنسي ألفونس دو لامارتين: «كان وقت الظهيرة. الساعة التي يراقب فيها (المؤذن) الشمس من أعلى شرفة في المنارة ليعلن حلول موعد الصلاة في كل الأوقات. صوت رخيم، شجي يعرف ما يقول وما يصدح به». وأختم كما ختم المُعجمي الفرنسي كتابه، نقلاً عن المعجم الفرنسي (هاشيت للشباب-1986)، حين أورد مثالاً مباشراً لاستخدام كلمة (عرب) في جملة: «آلان يتحدث العربية بطلاقة»، وقد اعتبره المعجمي «مثال يستحق التأمل». إنه بالفعل كذلك، بل ومدعاة للعرفان بالجميل، لكل من العرب والفرنسيين، تجاه (أسلافنا العرب).
690
| 19 سبتمبر 2024
يصدر كتاب (الطوفان: الحرب على فلسطين في غزة) في غمرة الأحداث الدامية التي تجتاح قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر 2023، والتي أخذت طابع (حرب إبادة) لا وفق المفهوم الشائع وحسب، بل وفق التعريف الاصطلاحي في القانون الدولي، والذي بموجبه تم رفع قضية جرائم إبادة أمام محكمة العدل الدولية في لاهاي! وحرص الباحث تضمينه رؤيته الحيادية رغم دوافعه ومنطلقاته القيمية، إضافة إلى تناوله القضايا ذات الصلة من وجهة نظر فلسفية لاسيما الموقف الأخلاقي من الحرب ككل، والتي لا بد وأن تبرهن على التحليل الموضوعي لقضية فلسطين واستنتاجاته في كتابه السابق! حيث تزامن إصدار هذا الكتاب مع ترجمة كتابه الصادر منذ عامين (قضية فلسطين: أسئلة الحقيقة والعدالة)، والذي تحدث فيه عن تاريخ القضية الفلسطينية منذ بداية الاستيطان الصهيوني لأرض فلسطين عام 1948 حتى صفقة القرن عام 2020، غير أنه واجه إشكالية عدم تناوله أحداث الحرب الأخيرة، فارتأى إلحاقه بكتاب آخر ليستكمل معالجة القضية حتى الساعة. فيعرض الكتاب مادته في أربعة فصول، يتحدث الأول عن (عملية طوفان الأقصى والحرب على غزة)، والثاني (قضايا أخلاقية في أزمنة صعبة)، في حين يعرض الثالث (الحرب على غزة: السياسة والأخلاق والقانون الدولي)، وينتهي الرابع بـ (الحرب على غزة وأسئلة المرحلة). يضع الكتاب الأكاديمي والسياسي والمفكر الفلسطيني (د. عزمي بشارة 1956)، النائب السابق في الكنيست «الإسرائيلي» وأبرز مؤسسي حزب (التجمع الوطني الديمقراطي)، والذي عُرف عنه - إلى جانب تمثيله للمواطنين الفلسطينيين - جرأته في طرح قضايا تمس قيم المواطنة والحرية والعدالة والقومية والديمقراطية، فضلاً عن تعرّضه للمجتمع وللدولة في «إسرائيل» بالبحث والنقد. يبدأ الباحث بعرض خلفية موجزة عن قطاع غزة! حيث لا تفتأ «إسرائيل» منذ انسحابها من القطاع عام 2005 من تسويق دعاية إرهاب تُلحقها به كمنطلق لأي عمل مسلّح ضد «إسرائيل»، رغم تحكّمها في كل صادرة وواردة منه وبأهله البالغ عددهم أكثر من مليوني نسمة، متضمناً الكثير من المواد التي قد يشتبه بها في بناء الأنفاق أو تصنيع القذائف والصواريخ، إضافة إلى قطع الكهرباء لساعات طويلة خلال اليوم، مع استمرار القصف، وتفشي البطالة بين ثلثي القوة العاملة. أما عن الأنفاق، فقد أصبحت مصدراً رئيسياً للدخل الخاص بحركة المقاومة الإسلامية (حماس)، والتي لا تستخدمها لصناعة المتفجرات وحسب، بل لتمرير عمليات الاستيراد والتصدير بين القطاع ومصر. ومع أن الحركة لم يتم الاعتراف بها دولياً إلا كمقاومة مسلحة «لكن مقاومتها ذاتها وبسبب إدارتها سلطة على أكثر من مليوني فلسطيني، راحت بالتدريج تأخذ شكل قوات نظامية، وأصبحت اشتباكاتها مع إسرائيل أكثر شبهاً بالحروب منها بعمليات المقاومة المسلحة». وفي الحديث عن عملية طوفان الأقصى التي استعادت بها «إسرائيل» دور الضحية، وألحقت بحركة حماس وصم (داعش غزة) وكامتداد للنازية، ومع تحيّز إعلام الديمقراطيات الغربية لإسرائيل كدولة لها حق الدفاع عن نفسها، يتقدمها الرئيس الأمريكي لا سيما في إصراره على عمليات قطع الرؤوس وحرق الأطفال واغتصاب النساء وغيرها من مزاعم كاذبة ألحقت بحركة حماس، يرى الباحث أن الحركة حققت أحد أهدافها في مواجهة تهميش القضية الفلسطينية، وعمليات تطبيع العلاقات الأخيرة بين «إسرائيل» وبعض الدول العربية. أما عن الحرب «الإسرائيلية» ودوافعها، فقد تقدمها شعور غامر بالصدمة والخوف الوجودي، وكأن شمس الثامن من أكتوبر لم تشرق بعد على «إسرائيل» حتى تقتص من كل الفلسطينيين، عملاً بالموعظة التوراتية «لكي يروا فيخافوا». وعلى الرغم من تفاوت عدد قتلى وجرحى المدنيين الفلسطينيين منذ بداية الحرب مقابل الجنود الإسرائيليين، كخسائر بشرية لا تكاد تُذكر ضمن الخسائر «الإسرائيلية»، فإن الباحث يتطرق إلى خسائر اقتصادية ضخمة تكبدتها «إسرائيل»، جرّاء تردي مستوى النمو وتراجع الاستثمارات وتوقف السياحة! ورغم مساعدات الإدارة الأمريكية السخية في بيع ذخيرة الدبابات لـ»إسرائيل» بمنأى عن موافقة الكونغرس، فقد خلقت «تعب عالمي مضمر من هذه المعاملة الخاصة التي تحظى بها، وقد تنشأ فرص لإظهار هذا التعب مستقبلاً، كما هو واضح من الاستطلاعات المشيرة إلى أن الجيل الجديد في الغرب أكثر تعاطفا مع الفلسطينيين». يستنتج الباحث من هذا الدعم اللامشروط لإسرائيل رغم خسائرها، جوانب لا يعتقد بإمكانية تعويضها، تتمثل في: العجز «الإسرائيلي» لخوض حرب طويلة الأمد من غير الدعم الأمريكي. العجز الإسرائيلي في استدامة الاحتلال القائم على نظام الفصل العنصري دون ارتكاب جرائم ضد الإنسانية كالإبادة الجماعية. الاصطدام بين النظام العلماني القائم في «إسرائيل» وبين التحالف الصهيوني اليميني-الديني. الضرر الملحق بـ»إسرائيل» دولياً جرّاء ما ترتكبه من مجازر، والمتمثل في تصعيد حركات التضامن في عواصم العالم لا سيما من خلال المظاهرات الطلابية وفئة الشباب. والكتاب رغم قصره فجوهري في تناول معركة الطوفان، ولعل الكتاب القادم للباحث يتوّج مجموعته كثلاثية في النصر المبين لفلسطين.
744
| 05 سبتمبر 2024
يأتي كتاب (قضية فلسطين: أسئلة الحقيقة والعدالة) كمراجعة نقدية شاملة لتاريخ القضية الفلسطينية الذي يبدأ بالنكبة وينتهي بصفقة القرن، ويتوقف عند أبرز المحطات التي ساهمت في تطور القضية وما صاحبها من حركة وطنية مضادة للاستعمار الاستيطاني، وتأثيرها في المسار المستقبلي والخيارات المتاحة له. ومع الإشكالية التي صاحبت ترجمة الكتاب الصادر منذ عامين، والمتعلقة بحرب الإبادة التي تشنها «إسرائيل» على قطاع غزة منذ أكتوبر 2023، فقد ارتأى الباحث إلحاقه بكتاب آخر، ليستكمل معالجة القضية الفلسطينية حتى الساعة، وجاء بعنوان (الطوفان: الحرب على فلسطين في غزة). ففي مقدمته، يعلل الباحث السبب في استهلال كتابه بالنكبة، والذي يتمثل في التأكيد على «أن قضية فلسطين هي قضية ظلم يمكن حلها فقط من خلال تطبيق العدالة»، وأن هذه العدالة المرجوة لا ينبغي لها أن تتضمن مساومة الفلسطينيين على سيادتهم في قطاع غزة والضفة الغربية، والاستمرار في تقديم تنازلات على ما لا يتجاوز اثنان وعشرين بالمائة من أرض فلسطين التاريخية! كذلك، لا تقوم العدالة في نظره إلا من خلال توازن مكونيها الرئيسيين: المساواة والحرية. فبينما تتحقق الثانية بالتحرر من الاحتلال، تتحقق الأولى بالاعتراف بالهوية وبالسيادة التي ترتبط بـ «الشعبين الموجودين في المنطقة بين الأردن والبحر الأبيض المتوسط». يتراءى للباحث وقت إعداد الكتاب، طابع التهميش الذي تلبّس القضية الفلسطينية حين هرعت عدد من الدول العربية نحو تطبيع العلاقات مع «إسرائيل»، متعللين بـ (أسطورية) القضية التي لم تعد تشكّل أولوية لدى العرب في رأيهم، متغافلين عن طبيعة الشعب الفلسطيني الصامدة تحت وطأة «احتلال وحشي لا يلين».. فليس للقضية أن تتهاوى، وليس للتطبيع الاستيطاني أن يحلّ في فلسطين، لا سيما وقد أشار الباحث في أسباب الحيلولة دونه إلى الفصل العنصري-الإثني الذي يمارسه المستعمر «الإسرائيلي» لشعبين لا يحظيان تحت حكمه بحقوق متساوية، إضافة إلى الوعي القومي الذي شكّل حسّاً عالياً بالهوية الوطنية لدى الفلسطينيين، وهوية عربية أكثر شمولية ضمن الأمة العربية، رغم محاولات طمس الاعتبارين الاجتماعي والسياسي لهم كشعب محتل. يضع الكتاب الأكاديمي والسياسي والمفكر الفلسطيني (د. عزمي بشارة 1956)، النائب السابق في الكنيست «الإسرائيلي» وأبرز مؤسسي حزب (التجمع الوطني الديمقراطي)، والذي عُرف عنه -إلى جانب تمثيله للمواطنين الفلسطينيين- جرأته في طرح قضايا تمس قيم المواطنة والحرية والعدالة والقومية والديمقراطية، فضلاً عن تعرّضه للمجتمع وللدولة في «إسرائيل» بالبحث والنقد. ونشر مئات المقالات في الصحف العربية، وأصدر العديد من الكتب الفكرية باللغات العربية والعبرية والإنجليزية، وهو يتولى حالياً إدارة المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. يعرض الباحث مادته في تسعة فصول تمتد من خلال قسمين رئيسيين، حيث يعرض في (القسم الأول: تأملات في قضية عادلة) قراءة تحليلية للتاريخ الفلسطيني ضمن مجموعة أفكار اعتبرها أساسية لفهم أكثر دقة وشمولية! حيث يسلّط الضوء ابتداءً على المسألة الفلسطينية التي -ويعتبرها مسألة عربية- فتُعرف بالمسألة اليهودية في الغرب، الأمر الذي زادها تعقيداً وعرقل عملية تحرر الفلسطينيين. ينتقل بعدها للتحوّلات التي طرأت على مسار التحرير الفلسطيني بين الطرفين العربي والإسرائيلي، ابتداءً من مرحلة التأسيس حتى مرحلة المقاومة المسلحة، وما تخللها من مرحلة استسلام تمثّلت في عقد اتفاقيات سلام مع «إسرائيل» بمنأى عن المسائل الأساسية التي تتطلب بالضرورة حلولاً جذرية! فمن مرحلة «توحد العرب بلا منازع» تحول المسار إلى «نزاع إسرائيلي-فلسطيني» حصراً، التحول الذي همّش دور منظمة التحرير الفلسطينية، وأحالها من منظمة معترف بها دولياً إلى دائرة ضيقة تفتقد إلى السيادة، فضلاً عن انشقاقها داخلياً وصراعات أعضائها على السلطة. أما في (القسم الثاني: صفقة ترامب-نتنياهو) فيعرض قراءة تحليلية أخرى لمسألة الاستعمار الصهيوني وطبيعته كنظام فصل عنصري (أبارتهايد)، إضافة إلى الصفقة التي أبرمت عام 2020 والتي رغم تلاشيها ظاهرياً، فمستمرة في العقلية الصهيونية التي تأخذ بجانبها الاقتصادي كصفقة أكثر من جانبها القيمي كعدالة، فضلاً عن استمرارية إلقاء اللوم على الشعب الفلسطيني عربياً، وتهافت الأنظمة العربية على عقد مثل هذه التحالفات مع الغرب، إلى جانب اعتناق الدوائر المحيطة بالرئيس الأمريكي السابق للخطاب الصهيوني القومي-الديني. ثم ينتهي الفصل بطرح التساؤلات حول العمل المستقبلي المطلوب، والأخذ بعين الاعتبار النظام الفلسطيني الحالي، والتعاطي مع الوضع السياسي الذي يقسّمه الباحث بين (استعمار استيطاني) يتطلب كفاحاً لإقامة دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة، وبين (فصل عنصري) يتطلب كفاحاً آخر لتحقيق المساواة في دولة واحدة، وما يتبعهما بطبيعة الحال من تساؤل آخر حول ما يتم تداوله من حل قائم: إما على دولتين أو على دولة واحدة! وختاما، فقد جاء الكتاب موضوعياً، ولم يصنّف الباحث نفسه كمتخصص في التاريخ الفلسطيني رغم دراساته الأكاديمية المنشورة فيه، فهو -على حد تعبيره- يقارب القضية الفلسطينية كباحث، ويعني بها كفرد فلسطيني عايش الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية في «إسرائيل» عن قرب، وآلف الفلسطينيين -من جهة أخرى- في حياتهم وفي منافيهم، وهو يؤكد قائلاً: «فلسطين هي وطني وقضيتي».
636
| 29 أغسطس 2024
بحسبة بسيطة وبنظرة تحليلية سريعة، يتبين أن العالم لا يحكمه سوى الأغبياء!، فعلى الرغم من قصر الكتاب وقدمه الذي يعود إلى ربع قرن من إصداره، فهو يتناول ظاهرة اجتماعية تتعايش والحياة اليومية كواقع بات مألوفاً، ألا وهي سيطرة (الأغبياء) على مرافق الحياة - فضلاً عن تواجدهم أصلاً بأكثر مما يُعتقد- اجتماعياً وأكاديمياً وعلمياً وثقافياً واقتصادياً وسياسياً، وغيرها من مراكز صنع القرار، ما يجعل من تأثيراتها السلبية تطول الفرد والمجتمع على حد سواء.. فلا الفطناء العقلاء النبهاء حول العالم من أمسك بزمام الأمور، بل إنهم الجهلاء البلهاء السخفاء، والذي اتضح أن منهم من تقلّد منصب رئاسة بلد، ومنهم من أصبح استاذا جامعيا أو قسيسا راعيا، ومنهم من حصل على جائزة نوبل العالمية، وهكذا مع تصاعد السلم الاجتماعي من بين ذوي النخبة في أي مجتمع، حتى حمّلوا الأمم جميعاً خسائرهم فوق خسائرها!. قد يُولد الإنسان غبياً، كحالة طبيعية رغم التوجهات الحضارية نحو خلق حالة من المساواة بين الناس عن طريق توفير فرص أكثر جودة في الصحة والتنشئة والتعليم، مع تأكيد نتائج الأبحاث العلمية التي عني بها علماء الوراثة وعلماء الاجتماع على تساوي فئات البشر بنسب طبيعية. وكم هو لافت للنظر أن يتوزع (الأغبياء) في كل مجتمع بنسب ثابتة لا تختلف عن الآخر باختلاف المكان والزمان، بصرف النظر عن الفروقات الجغرافية أو الاجتماعية أو الفكرية أو المهنية، وقد وضّح المؤلف نظريته من خلال رسوم بيانية تتقاطع بين تصرفات الأفراد وأداء المجتمعات، تعتمد قانوناً تحليلياً وتخلص بنتائج منطقية، كالقانون الذي ينصّ على أن «الشخص الغبي هو أشد أنواع الأشخاص خطراً» وعلى نتيجته المنطقية بأن «الشخص الغبي أشد خطراً من قاطع الطريق».. وذلك لأنه يتسبب في تخريب النظام الاقتصادي من حيث لا يدري إذ لا يستفيد منه، فيبطئ من سرعة التقدم ويعرقل نجاح العاملين ويمنع الناتج المحلي من الازدهار.. بينما يحرص قاطع الطريق على إبقاء النظام سليماً لضمان مصلحته وحسب. كم هي المرات التي خسر فيها شخص ماله أو وقته أو جهده أو طاقته أو بهجته أو مزاجه أو شهيته أو صحته، حين خالط شخصا آخر يتنافى واقعه مع كل ما هو منطقي ولم يعد يملك ما يخسره، فيصيب غيره بخسارة أو أكثر؟! إنه يظهر من حيث لا يجب أن يظهر، ويتسبب في مضايقات لم ينتوها، وهو لا يملك القدرة على تفسيرها، في حين يحتار الضحية بدوره في تفسيرها علمياً أو منطقياً، حتى يصبح التفسير الأكثر واقعية هو: أن الشخص الذي وقع تحت رحمته ليس سوى (غبي)! يضع كتاب (الغباء البشري)، الذي يبدو ساخراً في أول وهلة لكنه بالقطع ليس كذلك، المؤرخ الاقتصادي الإيطالي الأشهر (كارلو شيبولا 1922-2000)، الذي حظي بترجمة إلى ست عشرة لغة، والذي لم يتوجّه به إلى الأغبياء بل إلى الذين يضطرون للتعامل معهم! فيسلّم المؤلف مع أرسطو على حقيقة «الإنسان حيوان اجتماعي»، ففئة المتزوجين عالمياً أكثر من العزّاب، وعلى الرغم من تفاوت كل إنسان على حدة في مدى التواصل عن غيره، إلا أن لكل نصيبه من التواصل، حتى النسّاك والانطوائيين! وهنا يبرز ما أسماه المؤلف بـ «تكلفة الفرصة» أو «المكاسب أو الخسائر الضائعة»، نتيجة لاختيار التواصل من عدمه. فيقول: «يتمثل المغزى الأخلاقي للأمر في أن لكل شخص منا رصيداً جارياً مع الآخرين. يحقق كل منا من خلال فعله أو امتناعه عن الفعل مكسباً أو خسارة، وفي الوقت عينه يتسبب بتحقيق مكسب أو خسارة لشخص آخر». واستكمالاً لمفهوم (تكلفة الفرصة) وما يرتبط بها من ربح أو خسارة، يقول: «إن البشر يندرجون ضمن أربع فئات رئيسية: المغلوبون على أمرهم، والأذكياء، وقطّاع الطرق، والأغبياء». وقد يحدث أن يتصرف كل شخص من تلك الفئات الرئيسية خلاف ما جُبل عليه، كأن يتصرف شخص مغلوب على أمره بذكاء في بعض الأحيان، أو ربما كقاطع طريق في أحيان أخرى، غير أن ضعف الحيلة تسم تصرفاته في أغلب الأحوال. يقول المؤلف: «معظم الناس لا يتصرفون باتساق، ففي ظروف معينة يتصرف شخص ما بذكاء، وفي ظل ظروف مختلفة يتصرّف الشخص عينه كشخص مغلوب على أمره. يتمثل الاستثناء المهم الوحيد للقاعدة في الشخص الغبي الذي عادةً ما يبدي نزوعاً قوياً نحو الاتساق التام في ميادين المساعي البشرية كافة». بيد أن المعضلة تتلخص في استخفاف الأذكياء بقدرة الأغبياء على إلحاق الأذى، متناسين أن استمرار التعامل معهم في مختلف الأماكن والأوقات والظروف، هو من دون أدنى شك «خطأ فادح». فيقول المؤلف: «خلال قرون وآلاف السنين من الزمن، في الحياة العامة كما في الحياة الخاصة، يعجز عدد لا يحصى من الأشخاص عن أخذ هذا القانون الأساسي في الحسبان، وهذا العجز يكبّد الجنس البشري خسائر لا حصر لها». ختاماً، لقد جاء جهد المؤلف بنّاءً بالفعل في «الكشف عن إحدى القوى الظلامية الأشد بأساً، التي تعوق ازدهار الإنسان وسعادته.. ولمعرفتها ومن ثم لإمكانية تحييدها».
1164
| 22 أغسطس 2024
تأتي هذه المجموعة القصصية (ER Nurses: True stories from the frontline) عن وقائع ومواقف وأحداث جرت حقيقة في ردهات المستشفيات، يرويها أبطالها الحقيقيون من طاقم التمريض كخط دفاعي أول في تلك الصروح المعنية بإنقاذ الأرواح، لا سيما في غرف الطوارئ المضاءة بالنيون الأحمر على الدوام، ووحدات العناية المركزة الأشد حرجاً.. وهي المجموعة التي لم تخلُ من خواطر وهواجس وتأملات وجدانية، جادت بها مكنونات القلوب البشرية التي لم يبالِ أصحابها في معاينة الموت وجهاً لوجه في كل لحظة، من أجل كل إنسان ليحيا! يضع هذه المجموعة (جيمس باترسون 1947) وهو أحد أشهر الكتاب الأمريكيين الذي فاقت مبيعات كتبه أربعمائة مليون نسخة حول العالم، وهي تتضمن أعمالاً فكرية وروائية إضافة إلى أدب الأطفال. ففي كتابه هذا، تظهر الممرضة (أنجيلا باروان) وهي تشترك مع الكثير من زملاء مهنتها في المشاعر التي يخفونها تحت مظهر الثبات، إلا إن لدى كل واحد منهم قلب أكثر مما يظهر في العلن. وفي حين يستفسر الأستاذ الجامعي الذي تم تشخيصه بسرطان البنكرياس، عن مدى قدرتها التوفيق بين دراستها الصباحية وعملها الليلي، تعلّق قائلة: «تذكر! لا شيء يستحق العناء في الحياة يأتي بسهولة». أما (آمبر ريتشاردسون) فتنصّب الممرضة كأول من يرى المريض! إنها تقيس المؤشرات الحيوية وتقيّم الحالة الصحية وتقترح الفحص اللازم وأكثر، وكل هذا قبل معاينة الطبيب التي تتم عادة لبضع دقائق! كما أنها تستمر في مراقبة المريض بعد ذلك وتكتشف خطأ الطبيب في الدواء أو في جرعاته، لذا تجدها تقول: «لا أعتقد أن عامة الناس يعرفون مقدار ما تفعله الممرضات». وبعد عملية إنعاش مريض شاركت فيها (شانين كين) وتطلّب منها ضغط صدره يدوياً، وأصوات طقطقة الغضاريف تلك التي خُيّل لها أنها أضلاعه التي تكسّرت تحت يدها، يبدو لها كم هو مشهد سريالي وهي تعترف «في تلك اللحظة أدركت أنني ممرضة في غرفة الطوارئ». تزوره فيما بعد ليشكرها من خلال دموعه التي سالت استجابة لدموعها، وهو لا يزال يعاني من آلام في صدره! فتعقّب على هكذا تجربة لم تشهد مثلها أبداً فيما بعد: «إن تجربة إنعاش شخص ما، ثم التمكن من مقابلته والتحدث معه فيما بعد، أمر نادر للغاية كما تعلمت». أما (فيكتوريا لندسي) التي تعمل كممرضة في جراحة القلب والأوعية الدموية، فإنها لا تعتقد بأن كل من يحصل على قلب جديد يعتني به حقاً! فقد لاحظت كم من عمليات زرع القلب قد فشلت بسرعة رهيبة جراء عدم تمكّن المرضى من التحكم في مرض السكري لديهم، حيث انتهى بهم الأمر إلى تدمير ذلك القلب! توبّخ أحدهم حين أخبرها بأنه امتنع عن تناول أدويته قائلة: «هل تدرك أن شخصاً ما مات من أجلك، أليس كذلك؟ وأن هذا القلب الذي تملكه كان من الممكن أن يذهب إلى شخص أكثر صحة أو أصغر سناً؟ شخص كان بإمكانه أن يفعل شيئاً أفضل في حياته.. ولكن تم منحه لك، والآن لا تريد تناول أدويتك اللعينة؟». وبينما ينهي (بوب هيسي) حديثه عن مهنته وهو محاضر في الطب القتالي ويعمل في تدريب الأطباء العسكريين، قائلاً: «لا يتملكني أي ندم في حماية الأرواح»، يعبّر (أندرو فيستا) عن أساه بعد أن فقد مريضاً على جهاز التنفس الصناعي وقد أعطاه وزوجته الكثير من الأمل، وهو يعمل في شركة تختص بتعيين الممرضين وبدوام جزئي في غرفة الطوارئ، ويقول: «أحياناً، يكون الأمل هو كل ما نملك». أما (ميجان أوتينباتشر) التي تجري إنعاش قلبي لطفل ويموت، ثم يتعين عليها رؤية مريض غاضب لاستغراقها وقتاً في إحضار المسكنات لألم أسنانه، تعود إلى منزلها منهكة وتحاول الحديث مع زوجها للتخفيف عمّا قاسته، فيصدمها بردّه وهو جندي مشاة بحرية خدم مرتين في العراق: «أنت لا تعرفين التوتر لأنك لم تخوضي حرباً أبداً! لم تمسحي دماغ شخص ما من على نافذتك قط! حسناً، هل تعلمين ماذا؟ لم تحملي طفلاً ميتاً قط، ولم تضطري أبداً إلى إعطاء ذلك الطفل الميت لأمه. هذه ليست مسابقة تفوق. أنا لا أحاول تبادل قصص الحرب معك، أنا فقط أحاول أن أخبرك بمدى صعوبة يومي.. هذا ما أريد قوله! بدلًا من ذلك، أخفي الأشياء في قواي» وكمسك ختام لتلك الحالات الإنسانية التي تطلب بعضها تجرداً من الإنسانية لإنقاذها، تعمد (لوري باليمبو) إلى التعامل بشكل يومي مع فوضى محيطة وبوتيرة سريعة في غرفة الطوارئ والحوادث وما يصاحبها من موت محتم، فتجمع كل حالة وفاة في صندوق وتركنها فوق رف حتى حين معاينتها من جديد، كأنها صناديق لمجرد أشياء وكأنها مختلة عقلياً أو ما شابه! لكنها تخلص قائلة بقول مفعم بالإيمان: «لكن الشيء الرئيسي الذي تعلمته بصفتي ممرضة، أنه بإمكانك القيام بكل شيء على النحو الصحيح، لكن في النهاية، الله ينتصر! فإذا كان ذلك الوقت هو وقت رحيلك، لا يهم ما نقوم به نحن جميعاً في غرفة الطوارئ».
405
| 09 أغسطس 2024
..... نواصل الحديث حول كتاب «محمد كريشان يروي: وإليكم التفاصيل» لمؤلفه محمد كريشان وهو لا يزال في (الفصل الرابع: فلسطين: المهنة والوجع)، يذهب لتغطية ذكرى النكبة عامي 1998 و2014، فيزور (رام الله) التي يحبها «من أول نظرة»، وحيث (رام) كلمة كنعانية تفيد الأرض المرتفعة، ولفظ الجلالة قد أضافها العرب إبان العهد الصليبي. ومن الجنوب إلى (رام الله) يصل إلى (القدس) الذي يحظى بشرف الصلاة في محراب مسجدها الأقصى حيث مسرى الرسول ﷺ يتبعها الخطى على خطى السيد المسيح في (طريق الآلام) نحو كنيسة القيامة. وفي (الفصل الخامس: تونس والجزيرة)، وفي حديث الإعلامي عما أسماه بـ «شرارة البوعزيزي» التي انطلقت في يوم تونسي عادي لتستعر في باقي المدن ثم لتشتعل كثورات في ربيع عربي واحد، يتطرق إلى مفارقة تطول النظام السابق الذي أدرك متأخراً خطأ قطيعته مع الجزيرة، حيث أخلى الساحة للمعارضين كل يدلو بدلوه دون دلو مضاد، ما «خلق رأيا عاما ناقدا للسلطة»، حتى باتت تلك المداخلات المتأخرة من وزراء تونسيين على القناة -رغم وجاهتها- كاللعب في الوقت الضائع، أو كما عقّب الإعلامي قائلاً: «عندما تترك كرسيك فارغاً فسيملأه آخرون ويخلقون رأياً عاماً معيناً». وقبل الإطاحة، لم يترك الإعلام التونسي أي شاردة تأتي بها الجزيرة وواردة إلا كان للإعلامي كفل من شرها! وكأمثلة مما نضح ذلك الإعلام من عناوين تصدّرت مقالات: «اتألم لمحمد كريشان»، «قارئ الأخبار في نجدة مشغّليه»، موسم التوسل على أعتاب الجزيرة»، «عندما يخلط محامي الجزيرة بين الردح والفضح». أما حين كتب الإعلامي مقالاً في (القدس العربي) اللندنية بعنوان «مأساة الإعلام في تونس»، تطرق إلى تقصي التونسيين أخبار بلادهم من الإعلام الأجنبي كما في خبر دعوة رئيس الوزراء الإسرائيلي (أرييل شارون) لحضور قمة دولية للمعلومات تنعقد في تونس، فإذا بصحفي تونسي يتصدى له بمقالة عنوانها «مأساة اسمها محمد كريشان»، تنضح بما يكفي من فجور الخصومة، وقد تمكّن الإعلامي من مقاضاته بعد سقوط النظام السابق. غير أن الجميل لا بد أن يعود لصانعه، وكذلك حين شدّ رئيس مجلس إدارة قناة الجزيرة على يد الإعلامي مؤكداً له أن يواصل اعتبار الجزيرة من (ممتلكات والده) رحمه الله، كرد فعل مباشر على اعتذاره حين انفعل في إحدى المناقشات قائلاً: «المعذرة على هذه الحماسة المفرطة فأنا أتصرف مع الجزيرة وكأنها من ممتلكات والدي التي أورثني إياها». وفي (الفصل السادس:مع هيكل)، يمتد الحوار بين الإعلامي وصحفي القرن العشرين الأبرز (محمد حسنين هيكل) لمدة عشر سنوات، والذي يتكفل بخلق نوع من الصداقة تظهر علامات وفاقها عبر كافة المقابلات بينهما.. والصحفي يحدثه عن ذكرياته، كالموقف الذي ذُعر فيه الرئيس الأمريكي (جون كينيدي) حين قدم له هيكل سيجاراً كوبياً في مكتب مستشاره للأمن القومي.. وتحفظه على حقيقة خذلان الرئيس المصري (جمال عبدالناصر) لنظيره التونسي (الحبيب بورقيبة) عن خطابه وهو في مدينة أريحا الذي دعا فيه الفلسطينيين إلى قبول قرار التقسيم، حيث ثارت ثائرة الأحرار.. و(زين العابدين بن علي) الذي أعقب سابقه بانقلاب، ثم هرع إلى أحسن المصورين الفرنسيين لاستبدال صورته الرسمية بأخرى وفقاً لملاحظة هيكل الذي اعتبره في الأصل أحسن من الصورة! كذلك، يسترجع الإعلامي رد هيكل عن صعود الإسلاميين في تونس الذي لا يخيفه، وذلك امتثالاً لما يؤمن به من الحديث النبوي الذي يسلّم للناس في شؤون دنياهم، وبأن العقيدة التي يعتنقها القلب شيء والقضايا الإنسانية شيء آخر، وبأن «الإسلام التونسي هو ابن شرعي للزيتونة وللقرويين وللأزهر الشريف». أما عن التجربة الإسلامية في الجزائر، فقد رفضها الأمريكيون رفضاً قاطعاً، لأن في نظره: «ليس مسموحاً على الشاطئ الجنوبي وفي مواجهة أوروبا أن تقوم دولة إسلامية! هذا خط أحمر دولي». أما (الفصل السابع: دفتر المفارقات والطرائف)، فقد قصد الإعلامي تضمينه وبإيجاز مواقف طريفة جمعت بينه وبين أعلام السياسة، بعد أن أثقل في حديثه السابق حول تعقيداتها! فيعرض الرئيس اليمني (علي عبدالله صالح) كشخصية تلقائية ومرحة إلى أبعد الحدود.. والرئيس السوري (بشار الأسد) عنيداً مراوغاً لا سيما والإعلامي يلحّ عليه بسؤال عن حقيقة زج بعض معارضي الرأي في السجون.. والعاهل المغربي (الحسن الثاني) الذي أخذ سؤال أحد الصحفيين المصريين على وجه شخصي حين انتقد مستوى قمة عُقدت في بلاده، فأغلظ عليه وعلى رئيسه الذي لم يتكلّف عناء مهاتفته أثناء مرضه، ما حدا بالإعلامي دس قصاصة أسئلته في جيبه مؤثراً السلامة.. والرئيس التركي (رجب طيب أردوغان) المعروف بشخصيته الخطابية التي لا تصلح لأي مقابلة تلفزيونية، وتأكيده على أن إجابته ليست بطويلة إنما السؤال الذي وُجه له هو الطويل! ختاماً، والإعلامي يُهدي كتابه ضمن من أهدى إلى «كل من ساعدني يوماً في مجال غالباً ما ساد فيه نكران الجميل»، فقد تأتي هذه المراجعة كعرفان لمسيرة فرد عربي حر، أخلص فيها العزم فبلغ المرام، ووضع تجربته التي ارتجى بها أن يُلهم من أراد «السير على درب هذه المهنة الجميلة والمنهكة في آن واحد».. وقد فعل.
795
| 03 أغسطس 2024
... نواصل الحديث حول كتاب «محمد كريشان يروي: وإليكم التفاصيل» لمؤلفه/ محمد كريشان. ومن أطرف ما يتذكره الإعلامي في الفصل الثاني (وبدأت الهجرة)، زميلهم الذي صاحبهم من لندن وقد عاش لعدة سنوات من قبل في قطر، والذي خبر تلك العجمة التي تشوب لغة الهنود المعرّبة وهم يشكلون جالية كبيرة في البلد، إذ ما كان منه إلا أن أعدّ قاموساً مصغراً لتلك الألفاظ المبهمة ومرادفاتها، لمساعدة زملائه الجدد، وأسماه «معجم مفيد عشان نفر جديد». أما «قراءة النوايا القطرية في إطلاق مشروع إخباري»، و (الصداع الكبير) الذي تنبأ به السفير الأمريكي في قطر -إذا صدق القطريون- وأسرّه به، فقد صدق.. إلا أن على قدر ما تسببت به تلك القناة من تصدّع لأدمغة مؤسسات عربية رسمية، فقد أخذت بقلوب شعوبها، حين تبنت همومهم وأزماتهم وحرياتهم، وتصدت للوقائع لا لتبثّها وحسب، بل لتشبعها تمحيصاً وتحليلاً وتشهيراً، وتجعل منها قضية رأي عام «جديرة بالمتابعة». أما في (الفصل الثالث: العراق: زيارات ومطبات)، فيغالب الإعلامي دمعه حين تعرّف بعد مرور الأعوام على مواطنه التونسي الذي عاد إلى بلاده في نعش، وقد لاقاه في عراق السبعينات كطالب مستجد في القانون، وكانت نصيحته سبباً في عودته لبلاده ودراسة الصحافة هناك. لا يلبث الإعلامي حتى يعود إلى بغداد من جديد بعد مغادرتها، في بعثة صيفية قصيرة يحظى بها كطالب متفوق، فيزور المصانع والمكتبات والأسواق والمؤسسات الصحفية والمقامات الدينية، والعراق في أوج نهضته الاقتصادية، غير أن أحد الباعة يحذّره من ذكر اسم الشاعر (مظفر النواب) وهو معارض سياسي، وقد أراد الحصول على أحد دواوينه! ثم يزور العراق في الألفية الثالثة كصحفي، فيلتقي بالطبيب والرسام (علاء بشير) وشهرته (بيكاسو العرب) لتسجيل برنامج (ضيف وحلقة) وقد نهب الأمريكيون بيته بعد هجرته.. ووزير الإعلام (سعيد الصحاف) صاحب (العلوج) الذي صرّح في ختام لقائه عن حماقة أي عمل عدواني يعقب التهديد الأمريكي بالهجوم الوشيك على العراق، وقد تم في صبيحة العشرين من مارس عام 2003 حين كان الإعلامي قد غادر العراق قبلها بيومين فقط! لا يلبث حتى يعود وطاقم إعلامي إلى بغداد بعد سقوطها بأسبوع، لتصوير برنامج (العراق ما بعد الحرب)، فيتخذون من فيلا القائم بالأعمال القطري سكناً مريحاً وموقعاً للتصوير، وقد قيل إنها تعود لإحدى أميرات العهد الملكي. وهناك، يجن جنون المسئولين الأمريكيين لتغطية القناة وقائع الحرب. غير أن كرم العراقيين وحسن ضيافتهم رغم صعوبة الأوضاع، قد كان خير معين لهم، وقد دأبوا على ابتدار استضافتهم بالماء كتقليد شعبي موروث ارتبط بواقعة عطش الإمام الحسين قبل مقتله! وفي (الفصل الرابع: فلسطين: المهنة والوجع)، يلتقي الإعلامي برئيس السلطة الفلسطينية (محمود عباس) في الدوحة، شخصياً لا رسمياً، وذلك لأسباب تعود لغضبه على القناة التي وجدها منحازة لحركة حماس ضد السلطة، إلا أن الإعلامي كان يستمتع بحضور جلسات (البرلمان الفلسطيني في المنفى) التي كانت تشهد اجتماع كافة الفصائل على خلافاتها التي قد تأتي من داخل الفصيل نفسه، مع حدة الكلام المتبادل وجدية الأفكار المطروحة «بل والغضب الساطع أحياناً». لا يستنكف الإعلامي عن زيارة فلسطين -لا سيما وبتأشيرة إسرائيلية- تحت وطأة التوجهات المعارضة لزيارتها وهي رهن الاحتلال، لا لأسباب مهنية وحسب كما يحتج، بل لدعوة الفلسطينيين أنفسهم وهم يقولون قولاً حكيما: «عندما ترفض أن تزورنا هنا ونحن تحت الاحتلال فأنت تعاقبنا مع أنك تحبنا! أنت كمن يرفض زيارة قريب له في السجن لأن لديه موقفاً من السجان الذي يستنكف أن يكون تصريح الزيارة بيديه، والنتيجة أن قريبك سيظل قابعاً وراء القضبان دون أن يخفف من كربته أحد». وفي حين يضطر الإعلامي لإنهاء إجراءات التأشيرة بنفسه داخل سفارة إسرائيل في العاصمة الأردنية، يدور بينه وبين أحد الدبلوماسيين الذي كان بانتظاره حديث، وقد علم أنه المذيع الذي حاور رئيس وزرائهم السابق (إيهود باراك) من خلال القناة التي ما برحت تسبب لهم صداعاً، وهو الذي ينهي حديثه معه بوعيد «ستواجهون في المستقبل فلسطينيين آخرين لا قبل لكم بهم أبداً»، وذلك حين يصل الفلسطينيون الحاليون إلى قناعة بعدم جدوى التسويات معهم، ورغم كل ما يُطرح عليهم وفق القانون الدولي! حينها ينتفض ذلك الديبلوماسي ليسأل سؤالاً مباشراً يفصح عن اضطراب رهابي مركب: «تقصد حماس؟»، فيكون الرد المباشر أيضاً: «لا! هم أقسى عليكم بكثير من حماس وممن سبقها. لست قادراً على تحديد هويتهم لكن هم بالتأكيد قوم لم يسبق لكم التعامل مع أمثالهم». وبعيداً عن هذا الديبلوماسي الرعديد، يلتقي الإعلامي بأحد أصدقائه الذي يقلّب عليه أوجاعاً عربية وهو يسأله: «هل تدري أنه حتى بعد حرب 1967 وقبل الانتفاضة الفلسطينية الأولى، كان بإمكانك أن تستقل سيارتك من عمان وتذهب لتناول العشاء في رام الله أو القدس ثم تعود، فكلتاهما لا تبعد عن العاصمة الأردنية سوى سبعين كيلومتراً، وتصلهما دون حواجز إسرائيلية ولا تفتيش ولا تنغيص؛ بل وبإمكانك أن تذهب لشواطئ يافا وحيفا كذلك.. لكن ذلك زمن ولى ومضى».
1491
| 25 يوليو 2024
كالشعاع الأبيض الذي يُسفر عن سبعة أطياف إذا خضع للتحليل الضوئي، كذلك السياسية التي إذا حُسر الستار عن كواليسها، أسفرت عن صور لا تعكس بالضرورة ما عُد واقعاً على مسرحها! ينبري إعلامي مخضرم لإزاحة طرف من ذلك الستار الثخين، ليكشف عن خبايا أحداث ومواقف وشخصيات وعوارض وقفشات كذلك، جالت في أروقة السياسة العربية.. كشاهد من أهلها! إنه (محمد كريشان) الأشهر من نار على علم الجزيرة، وهو المولود في صفاقس تونس عام 1959، والذي أخذ منه الإعلام مأخذاً في صغره حتى توّجه بإجازة جامعية في الصحافة وعلوم الأخبار، ما فتح الباب أمامه على مصراعيه في تلقي المهام وتولي المناصب، من محرر صحفي في بلاده، إلى مراسل إخباري في قنوات عربية، ثم إلى مذيع ومقدم برامج في قناة الجزيرة الإخبارية حتى الوقت الحاضر، وقد عني بالشأن الفلسطيني - ولا يزال- ككاتب عمود في صحيفة القدس العربي. والإعلامي وهو يجول في دهاليز السياسة -كسياسي محنّك شرع في كتابة مذكراته - يبث الكثير من ملامح سيرته الذاتية في كتابه (محمد كريشان يروي: وإليكم التفاصيل) الصادر عن (دار جسور للترجمة والنشر)، والذي يكشف عن جانب لطيف من شخصيته، خلاف المهنية! فبانسيابية وبمنهجية، يتنقّل الإعلامي في سبعة فصول تبدأ بخطوة الطريق الأولى، وتنتهي بعصارته، وهو لم يغفل عن إدراج صور من ألبوم ذكرياته في الختام! وأنا إذ أستشهد بعظة المتنبي في (خُذ ما تراه ودع شيئاً سمعت به.. في طلعة البدر ما يُغنيك عن زحل)، فقد يجد القارئ في حديث الإعلامي ما يغنيه بشكل أو بآخر عن لاقطات الفضائيات. ففي الفصل الأول (تونس: فجر الصحافة وليل السياسة) يظهر الإعلامي كشاب في المرحلة الجامعية الثانية وهو يطرق باب (سي حسيب) في (جريدة الرأي) التونسية ليطلب عملاً جزئياً، وقد فُتن بالجريدة التي عكست حلمه في نبذ الاستبداد وجرأة الطرح وتعدد الحزبية، خلاف «الإعلام الرسمي المتكلّس»، في حين يلتقي بعد مرور الأعوام بـ (الباجي قايد السبسي) وقد كان أحد أعضاء الجريدة البارزين، وتحديداً في نيويورك عام 2015 ليبادره الأخير بسؤال: «توا أنت الآن تونسي أم قطري؟» ليؤكد له على (خضرة تونسيته). أما النسخة المغدورة من المجلة التي صادرتها السلطة الجديدة في الثمانينيات، وقد احتوت المقالة (النشاز) للصحفية الجريئة (أم زياد) وهي تتحدى وعود السلطة «بإطلاق سراح الكلمة»، ومقالته التي جاءت بعنوان «لا.. ليس هؤلاء رجال التغيير» والتي لم يبخل فيها بذات النقد والتحدي، فما زالت في حوزته، تشهد على سراب وعود الديمقراطية! وهو يختم مهمته الصحفية في ليبيا آنذاك، يؤثر السلامة وقد هم بإخبار مرافقه الليبي -الذي لم يكن سوى مخبر- بأنه اقتنى كاميرا ومسجلا أخيراً، خلاف التقرير الذي كتبه عنه، ووقع عليه خلسة وهو في السيارة! كذلك، لا يفوّت الإعلامي وقائع تحرير سيناء من الاحتلال الإسرائيلي والانسحاب الأخير عبر طائرات هيلوكوبتر، فيقابل طفلاً من مدينة العريش الذي لم يعلم بالقوة الإسرائيلية المغتصبة إلا من والديه، حيث تخلو مناهجهم الدراسية من هكذا علوم! أما «أخ العروس» فكانت طرفة بطلها زميلهم المصور -الذي كان في الأصل مصوراً لمناسبات اجتماعية- حين تلكأ في التقاط صورة لممثلي القيادتين الفلسطينية والسورية (أحمد الدجاني) و (فاروق الشرع) أثناء انفرادهما بالحوار همساً «في لقطة مشبعة بالدلالات السياسية»، خلال اجتماع محتدم لوزراء الخارجية العرب. وعن مدينة الدوحة الهادئة، فكم تبدو متواضعة مع أول زيارة له في التسعينيات، وقد حظي وفريق العمل الموعود لقناة إخبارية واعدة، بلقاء ولي العهد الذي لم يجده تقليدياً ضمن القيادات الخليجية يومئذ، والذي آلت قطر على يده إلى ما آلت إليه، كبلد لا يشبهه التواضع الذي كان! أما في (الفصل الثاني: وبدأت الهجرة)، وعلى الرغم من شتاء لندن القارس، فالإعلامي يذكر كيف تصبب العرق منه صبّاً في أول بث له على الهواء عبر شاشة (بي بي سي) العربية، وقد خُصّ بالبث في العشرين من مارس، كُرمى، لمصادفته ذكرى استقلال بلاده. كذلك، لا يزال يتذكر جيداً يوم الرابع عشر من يوليو من عام 1996 حين دلف من باب المطار عبر لهيب صيف خانق إلى باب تلك القناة حيث «ولادة الجزيرة» وبداية حقبة جديدة في حياته امتدت إلى نحو ربع قرن، فتسلل الشيب خلالها إلى مفرق رأسه، ليطغى فيما بعد ويصبح صفته الغالبة! لذا تراه يقول: «لأن قطر وإن كانت تبدو صغيرة أو حتى مملة أحياناً، إلا أنك ستكتشف مع السنوات أن فيها سحراً وراحة بال وأماناً ورفاهية وطيب معشر من أهلها، ما يجعلك ترتاح فيها كثيراً إلى درجة أن مجرد التطرق إلى مسألة مغادرتها يوماً ما، غالباً ما يكدّر صفو أي جلسة». لا يغفل الإعلامي عن إطراء تلك الشابة القطرية (إلهام السادة) كأولى أعضاء فريق العمل الجديد، والتي كانت تفيض حيوية، ودأبت من يومها على مقارعة الحجة بالحجة، كما هو معهود عنها حتى اليوم.
1095
| 19 يوليو 2024
نواصل الحديث حول كتاب «العقلية الصهيونية ولاهوت الإبادة» لمؤلفه/ قتيبة مسلم ثانياً: دور التيار الشيوعي في مواجهة المشروع الكولونيالي الصهيوني تتناول هذه الدراسة الدور الحقيقي للحركة الشيوعية في النضال ضد الصهيونية، ومساهمتها في نشر التوعية الثورية والتحررية، وبث روح المواجهة ورفض الاستسلام، كما تكشف عن التلاعب الذي مارسته الأنظمة الامبريالية المتواطئة في تأليب الجماعات الصغرى -لا سيما دينياً- على بعضها، وذلك لضمان فرقتها، والتغلب من ثم على المنهج الشيوعي الذي يسعى إلى التطور الشامل. تنقسم هذه الدراسة إلى فصلين يتفرع عنهما عدد من المباحث. فيتناول الفصل الأول (التيار الشيوعي: ظروف النشأة والتطور) نشأته وعقباته وتحدياته ومحاولات تعريبه، من أجل إضفاء روح الوطنية في نضاله نحو التحرر، وفرض مبادئ الاشتراكية والمساواة. أما الثاني (عصبة التحرر الوطني) فيتطرق إلى نشأة العصبة ومواصلة العمل الشيوعي الوطني والتقدمي لا سيما بعد النكبة، وكذلك إلى الاهتمام الذي ولاه الحزب الشيوعي الإسرائيلي للقضية الفلسطينية متضمناً «حق الأقلية العربية بالمساواة والمواطنة الفاعلة، وحق عودة اللاجئين». لذا، يتطرق الباحث في مبحث (معاداة الاستعمار) إلى الخطر المتمثل في عدم وضوح أهداف الجانب الفلسطيني أو أدوات تحقيقها، ما يحيل حراكه السياسي إلى عمل فوضوي وعشوائي ومبعثر ومخترق بتأثير ديني أو قبلي أو تعليمي، خلاف التخطيط المحكم لدى الجانب الصهيوني رغم تناقضاته المركزية. ثالثاً: البدو صراع المكان والأيديولوجيا تتناول هذه الدراسة فئة البدو كشريحة اجتماعية لا تنفصل عن بقية الفئات ضمن النسيج الاجتماعي الفلسطيني، وما تعرضوا له من هجمة استيطانية استهدفت السيطرة على النقب التي كانوا يتملكون أراضيها ويعيشون عليها، حيث كانت النقب تشكّل عقبة نحو الامتداد السكاني والعمراني والأمني والسياحي لدى الصهاينة، وما كان من أصالة ردود أفعالهم التي أظهرت حقيقتهم الوطنية المتكاتفة مع القضية القومية، وفي رفض الانزواء أو الاندماج مع الجماعات العسكرية المحتلة وخططها الاستعمارية. تنقسم هذه الدراسة إلى ثلاثة فصول تتفرع بدورها إلى عدد من المباحث. فيتناول الفصل الأول (صراع البقاء والتحدي) التاريخ الوجودي للبدو في صحراء النقب وملكيتهم العرفية والقانونية للأرض وتجذرهم فيها هوية وأصالة، ومحاولة العدو الصهيوني التوغل بينهم واستمالتهم للعمل كعملاء وتجنيد شبابهم في صفوف جيشه، وفصلهم عن انتمائهم العربي، ومحاولة تمدينهم من أجل السيطرة على أراضيهم التي لها أن تستوعب عشرات الآلاف من المهاجرين اليهود. أما الثاني (تحديات الهوية وصمود المكان) فيتطرق إلى خطة طرد البدو قانونياً من أراضيهم باعتبارهم غزاة وسكّان غير شرعيين، الأمر الذي تطوّر إلى صدام، حَصَر البدو في حدود ما أطلق عليه بالسياج. ويستكمل الثالث (الأرض، القانون، الأيديولوجيا) المشاريع الاستيطانية في النقب ورفض البدو الانسلاخ عن حيزهم الجغرافي وانتمائهم الوطني. وفي مبحث (العراقيب: نموذج للتهويد) الذي تناول الفلسطينيين المغيبين في إسرائيل جراء تحيز الرؤية الصهيونية للمواطن اليهودي على الفلسطيني، والقابع تحت خط الفقر، يستشهد الباحث بالنص التوراتي: «وأما مدن هؤلاء الشعوب التي يعطيك الرب إلهك نصيباً، فلا تستبق منها نسمة ما، بل تحرقها أي (تقتلها) تحريماً للحثيين والأدوميين والكنعانيين والفرزيين والحورتيين واليبويسيين كما أمرك الرب إلهك». رابعاً: النظرة الصهيونية للفلسطينيين العرب تتناول هذه الدراسة حقيقة الصهيونية التي تنعكس بشكل أكبر في الصراع التاريخي بين ممثليها والعرب، وضرورة أخذها بعين الاعتبار في التعاطي اليومي، من أجل إذكاء روح الانتماء الوطني، ومواجهة الصراع بتحدياته القائمة وخططه المستقبلية. تنقسم هذه الدراسة إلى ثلاثة فصول تتفرع بدورها إلى عدد من المباحث. فيتناول الفصل الأول (الاستعلاء والعنصرية) هذا الشعور بالتفوق العرقي الموغل في العقلية الصهيونية والمنعكس في مشروعها الاستيطاني، وفي الربط بين الدين والقومية من أجل خلق أمة من العدم على أنقاض الشعب الفلسطيني، وإقصائه من الحيز الجغرافي والتاريخي والسياسي. أما الثاني (اسقاطات المنفى على الفلسطينيين) فيتناول هذه الإسقاطات ذهنياً وسلوكياً، والتي تبدو أوضح ما تكون في نعت اليهود بها الآخرين، كمحاولة للتعافي النفسي، وإيجاد حيز لممارسة كافة صنوف القمع والظلم والاستبداد وإسقاط صفات «الدونية والشر والفساد والخمول والجهل والكسل» على الفرد الفلسطيني، ومن ثم تفعيل «الموقف الهرتسلي» المؤسس للحركة الصهيونية والمنادي بطرد العرب. ويعرض الثالث (السيطرة العملية: الحلقة العنصرية في نفي الآخر) عدد من الآراء المضطربة لمسؤولين صهاينة تعكس حالة من تطور ميراث الحقد الصهيوني المتأصل، في «نظرة جماعية تحكم الأفراد والمؤسسة» تضمن الوجود الصهيوني على الأرض، الأمر الذي يخلص إلى استمرار الصراع قائماً بين «شعب بلا مقومات أو أصول» و «شعب جذري وأصلاني». يقول الباحث في مبحث (عقدة التفوق وظلم الذات) عن مراهنة الصهيونية في خلق وجودها من بين جملة ممنهجة من أكاذيب وادعاءات وأساطير، وتحقيق مآربها الاستيطانية: «لقد استندت الأيديولوجية الصهيونية على سبع مقولات أساسية، ارتكزت عليها في صياغة وجودها، وتطور تقدمها السياسي: 1) مقولة الأمة اليهودية الواحدة. 2) مقولة شعب الله المختار. 3) مقولة اللاسامية. 4) الصهيونية هي حركة تحرر وطني. 5) الإسرائيلي يساوي اليهودي، واليهودي يساوي الصهيوني. 6) تهويد الأرض التي تم تحريرها.7) كل صهيوني يهودي، وليس كل يهودي صهيوني».
1344
| 11 يوليو 2024
يقدّم كتاب (العقلية الصهيونية ولاهوت الإبادة) مجموعة من أربع دراسات موضوعية تتناول باستفاضة الحركة الصهيونية بما ترتكز عليه من أيديولوجية أخلاقية وعقائدية وتاريخية وعسكرية، في صراعها كطرف معتد في القضية الفلسطينية، وهي الدراسات التي تسعى في الأساس إلى دحض السردية الصهيونية مقابل التأسيس لرواية فلسطينية حقيقية تثبت الحق التاريخي لأصحاب الأرض. ومن خلالها هذه الدراسات، يرمي الباحث إلى كشف الستار عن الأسباب الجذرية التي دفعت بشعب رزح تحت وطأة النازية بين سجن وتعذيب وحرق وتقتيل، ممارسة ذات النهج الإجرامي على الشعب الفلسطيني فور احتلاله، لا سيما مع تنامي حدة «النزعات الفاشية والبربرية والعنصرية»، وقد أصبح أولئك المتورطون في الإجرام موضع تساؤل حتى من قبل بعض المسؤولين الإسرائيليين، ما حدا بعدد من الباحثين إطلاق لقب «النازيين الجدد في إسرائيل» عليهم! لذا، وعن هذا التطرف، يعقّب السياسي الفلسطيني (عيسى قراقع) في تقديمه لهذا الكتاب قائلاً: «لهذا لا غرابة أن تصعد الصهيونية الدينية المتطرفة إلى سدة الحكم في انتخابات إسرائيل عام 2023 والتي ترفع شعار (الموت للعرب)». يضع هذه المجموعة البحثية الأسير الفلسطيني من جنوب نابلس (قتيبة مسلم) البالغ من العمر حتى اليوم خمسة وخمسين عاماً وهو يقبع في سجون الاحتلال لأكثر من عقدين من الزمان، حيث -وحسب شبكة المعلومات- بلغت أحكام سجنه سبعة وثلاثين عاماً، ومجموع اعتقالاته ثلاثين يعود أولها إلى فترة طفولته، وهو الأمر الذي لم يفتّ في عضده ولم يمنعه من استكمال تعليمه وهو في السجن حتى حصوله على درجة الماجستير، فضلاً عن إصدارته الأدبية إضافة إلى هذا الكتاب، ما يدل على روح العزيمة والإرادة الحرة في كفاحه بالعلم والكلمة وهو خلف القضبان! وحسب الكتاب، فقد استعان الباحث في منهجية دراسته -التي تتطلب بالضرورة قدرا من البحث والتقصي والتحليل- بالأداة المكتبية المتوافرة في المعتقل، رغم صعوبة الحصول عليها بطبيعة الحال، لا سيما ما سبق واطلع عليه من كتب ومراجع في إطار بحثه! وفي هذه المراجعة للكتاب (الصادر عن دار طباق للنشر والتوزيع)، سيتم رسم الخطوط العريضة الخاصة بكل دراسة على حدة، والتي جاءت في عناوينها الرئيسية كما يلي: (أولاً: العقلية الصهيونية ولاهوت الإبادة. ثانياً: دور التيار الشيوعي في مواجهة المشروع الكولونيالي الصهيوني. ثالثاً: البدو صراع المكان والأيديولوجية. رابعاً: النظرة الصهيونية للفلسطينيين العرب)، وقد تصدّر الكتاب رؤية دار النشر المتمثلة في المقولة: «نصنع كتاباً يشرق من بين دفتيه مستقبل واعد». تتناول هذه الدراسة الجيش الإسرائيلي من حيث سلوكه الأخلاقي المتمثل بشكل أساسي في جرائم التطهير العرقي من مجازر وإبادة وقتل جماعي، والمستمد في المقام الأول من النصوص التوراتية، إضافة إلى حرصه -حسب مزاعمه- على الأصول الديمقراطية لا سيما المعنية بحقوق الإنسان. تنقسم هذه الدراسة إلى ثلاثة فصول تتفرع بدورها إلى عدد من المباحث. حيث يتناول الفصل الأول (الجيش بين الولادة والتحديات) نشأة هذا الجيش، والعوامل التي ساهمت في خلقه ذاتياً وموضوعياً، ومدى الحفاظ عليه بعيداً عن التدخلات الحزبية، وعلى الموازنة بين إرساء أسس الأمن والديمقراطية المزعومة ومجابهة القوانين الدولية. أما الفصل الثاني (الجيش بين التراث الديني والأيديولوجية الصهيونية) فيتناول الحالة التي يستند فيها الجيش إلى الموروث العقائدي من جهة والفكر الصهيوني من جهة أخرى، في سبيل خلق نمط استعلائي وعنصري من الشخصية يؤمن بالقتل كلغة وحيدة في التعامل مع الغير، بحيث يُصبح إهدار دم الفرد الفلسطيني تحديداً عملاً أخلاقياً. ويتناول الفصل الثالث (مكانة المؤسسة العسكرية) هذه المكانة التي يعدّها أغلبية الصهاينة من اليمين واليسار مقدّسة، رغم الأصوات الرافضة لأساليب القتل الجماعي التي تتم ممارستها، والتي من شأنها أن تعمل على زعزعة الرأي العام، ومن ثم التأثير على وحدة الجيش، وذلك خلافاً لما تم إعداده لأجله. يقول الباحث في مبحث (طاعة الإله: تجسد العنصرية) عن القتل كقيمة جوهرية ثابتة لدى الصهيونية دينياً وأيديولوجياً، بعد أن يستعرض بعض ما جاء من نصوص مقدّسة: «وإسرائيل التي تنفذ هذه الوصايا عبر الأيديولوجية الصهيونية، تتجه دوما نحو العسكرة والقتل، ونزعة التعصب، والهمجية، وادعاء طهارة السلاح، وخلق نزعة العسكرية عند كل المواطنين، وتقوم (النزعة العسكرية على وجهة نظر مؤداها أن الحرب هي عامل دائم، ومكون ثابت في الحياة الإنسانية، وأن السلام ليس سوى هدنة تحضيرية استعداداً لها)».
786
| 04 يوليو 2024
..... نواصل الحديث حول كتاب «التحرش النفسي في الوسط المهني» لمؤلفه/ د. حميد حشلافي تكشف بعض الدراسات ذات الصلة، عن العلاقة التي قد تربط بين نمط الشخصية وفرص نشوب الصراع، بناءً على الاستعداد السلوكي العدواني للبعض، والميل نحو مواجهة العدوان لدى البعض الآخر! فعن (نمط شخصية المتحرش) تُجمع تلك الدراسات على تصنيفه كشخص «نرجسي منحرف وشاذ»، وكمصّاص لطاقة الضحية من خلال حرصه على استنزافها وامتهان كرامتها، ناكر لأخطائه لا سيما تجاه ضحيته، شكّاك يميل إلى اتهام الآخرين دون دليل واضح، متزعزع غير ثابت في مواقفه، نرجسي مفرط في تبجيل ذاته، بغيض يفتقر لروح التضامن الاجتماعي ولا يتعاطف مع آلام الآخرين رغم فضوله نحو معرفة تفاصيل حياتهم، وهو من ناحية أخرى ماهر في تقمّص دور الضحية ما تطلب الموقف! أما (نمط شخصية الضحية)، فإن أهم ما يميزها بما تحمله من قيم هو «القدرة على مقاومة الانصياع للنرجسي الشاذ. يتجلى ذلك بوضوح في ردود أفعالها التي تتسم بالشفافية، ولا تتناقض بين ما تشعر به وطبيعة مواقفها اتجاه تعاملات الغير معها. فما ينطق به لسانها هو تعبير خالص من قلبها. الضحية تعبر من خلال رد فعلها بكل صراحة عن عدم تقبلها لعبارات التجريح والألفاظ البذيئة والمنحطة، والرفض لكل تصرف فيه عدم تقدير واحترام. إنه تصرف لا نفاق فيه». وفي الآثار الناجمة عن ظاهرة التحرش النفسي، يتم تشخيص الأعراض النفسية المرضية ضمن أربع مجموعات رئيسية، ففي الأولى تظهر الأعراض على هيئة «اضطرابات الذاكرة، صعوبات في التركيز، العزلة والانطواء، قلة المبادرة، سلوكيات عدوانية، شعور بعدم الأمان» وقد بذل ضحيتها جهداً في البحث عن أسباب ما آل إليه وضعه دون جدوى. أما في الثانية التي تظهر في صفة اضطرابات نفسية وجسمية، فتشمل «أحلاما مزعجة، أوجاع البطن، نقص الشهية، عقدة بالحلق، بكاء شديدا». وبينما تظهر الثالثة نتيجة تعرّض الجسد إلى نوبات جزع فجائية، على هيئة «إحساس بثقل على الصدر، تعرق شديد، اضطرابات في نبضات القلب، صعوبة في التنفس»، تظهر الرابعة جرّاء التعرض للضغط المستمر، وهي تشمل «آلام في الظهر والرقبة، قلة التركيز والاهتمام، الشعور بالدوران والرجفة». والمؤلف وهو يؤكد على أن الآثار السلبية التي تصيب المتحرش به لا تعفي المتحرش من تبعاتها الجسدية والنفسية باعتباره المحرّك لهذه «اللعبة الحقيرة والمدمّرة»، يحرص على تأكيد أهمية التكفّل بظاهرة التحرش النفسي على مستوى داخلي بالمؤسسة وعلى مستوى أرفع خارجها، حيث تتطلب الأولى لفت نظر إدارة المؤسسة لممارسات تلك الظاهرة في دوائرها بما يدعمها من قرائن، إضافة إلى ما قد يرفعه طبيب العمل من تقارير طبية تعزو المعاناة النفسية للضحية إلى أسباب مهنية، في حين تتمثل الثانية في دور القضاء والهيئات الحكومية الرقابية وفي الاستعانة بالمجتمع المدني وتأثيره العام. وفي هذه الأخيرة، يستعين المؤلف بالمشرّع الفرنسي، والذي سنّ في قانون الحداثة الاجتماعية من المواد ما يتصدى لهذه الظاهرة ويحدّ من ممارساتها، باعتبارها شكلا من أشكال الجريمة، حيث منها ما ينص على أن: «لا أحد من المستخدمين عليه أن يكون هدفاً لمضايقات متكررة للتحرش المعنوي من أجل أو بغاية الاخلال بمناخ أو ظروف العمل أو بإمكانه سلبه حقوقه وإهانة كرامته، إلحاق الضرر بصحته الجسمية أو الذهنية أو إعاقة مساره المهني المستقبلي». وبينما تتعدد المفاهيم والمصطلحات والعينات الدراسية التي تناولتها المراجع الأوروبية والأمريكية للظاهرة، لا تصّنفها نظيرتها العربية ضمن الأولويات، التجاهل الذي يُعزى إلى قلة أو انعدام البيانات والمعلومات والإحصائيات التي تحدد حجم الظاهرة، وحقيقة تأثيرها المترتب على المستوى الفردي للعامل، والإنتاجي للمؤسسة، والاجتماعي ككل. يحرص المؤلف في نهاية كتابه على تسليط الضوء نحو الجانبين الديني والأخلاقي، والتذكير بما جاءت به أحكام الشريعة الإسلامية من مبادئ تضمن المساواة والاحترام والتكافل وتنبذ كافة أشكال التمييز وتحارب الظلم وتكفل حق الأجير سلفاً، وقد شفّع حديثه بعدد من الآيات القرآنية والأحاديث المروية، من أجلّها: «بحسب امرئ أن يحقر أخاه المسلم. كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه». وهو في هذا لا يغفل عن المرأة العاملة التي تمثّل نموذج ضحية مثاليا لظاهرة التحرش النفسي في الوسط المهني متضمنة التحرش الجنسي، مشدداً من جديد على المكانة الرفيعة التي خصّها بها التشريع الإسلامي منذ تأسيس الدولة المدنية، وتحريم ما كان يمارس ضدها من ممارسات جاهلية قبل الإسلام. وبينما يبدأ د. حميد حشلافي كتابه بإهداء خصّ به «أصحاب العقول النيّرة»، أولئك الذين أخلصوا أعمالهم وهذّبوا سلوكهم وتحمّلوا ما عليهم من مسئوليات بوفاء، فاستطاعوا الوصول إلى قلوب الأفراد المفعمة لهم بالعرفان والامتنان.. فهو يختمه بتوجيه رسالة إنسانية تحتضن الروابط التي من شأنها أن تجمع البشرية تحت ظل حياة ذات نسق واحد من الأسس والمبادئ والمعاملات.
684
| 27 يونيو 2024
على الرغم من أن الانتهاكات التي يتعرض لها الفرد في محيط عمله تُعد أحد السلوكيات التي لازمته منذ القدم، إلا أن إحصائيات الأبحاث الأكاديمية الحديثة تشير إلى اضطراد تلك الانتهاكات حول العالم، وهي التي تظهر أساساً في سوء استخدام رب العمل للسلطة الممنوحة له، بغية فرض سيطرته على أعضاء فريق العمل وإلزامهم قسراً بالانصياع إليه، مستخدماً كافة أشكال الضغوط المتاحة، كالتهديد المباشر واستمرارية التوبيخ وتعمد الإهانة، والتي قد يصل بعضها إلى حد العنف الجسدي! لذا، فقد استدعى الأمر سنّ القوانين المرعية للحد دون تلك الانتهاكات في حق العامل، وصون كرامته في بيئة العمل، وللحيلولة دون آثارها التي لا بد وأن تمسّ سلامته النفسية في المقام الأول، كإصابته بالأمراض السيكوسوماتية (النفسجسمية) وما قد يلحق بها من تبعات لا يُحمد عواقبها، تظهر في تعرّضه لاضطرابات عقلية ولأفكار تشاؤمية قد تدفع به إلى الانتحار في أسوأ الظروف، إضافة إلى التبعات الاجتماعية والاقتصادية التي قد تظهر في شكل اضطراب علاقات العمال، ونقص المرونة في سير العمل، وزيادة عدد الإجازات المرضية، وانخفاض معدل الإنتاجية ككل. ومع عالمية هذه الظاهرة التي أخذت هيئة «الوباء الاجتماعي» حسب تعبير المؤلف، فإنه من اللافت للنظر افتقار الأنظمة العربية للتوعية اللازمة بها، سواء من ناحية التنظير الأكاديمي أو التشريع القانوني، إذ لا يعدو «التعذيب المعنوي» في أجهزتها عن كونه تنظيما إداريا معمولا به في المؤسسات، أو عُرفا تم قبوله بمرور الوقت في مناخ العمل كمتطلب، أو كمظهر من مظاهر السلطة اللازمة لرب العمل. لذا، يتصدى المؤلف إلى هذه الظاهرة في كتابه (التحرش النفسي في الوسط المهني) الصادر عن (دار كفاءة المعرفة للنشر والتوزيع)، حيث يتناولها بالتعريف النظري ابتداءً، ثم يتطرق إلى نمطي شخصية المعتدي (المتحرِش) وشخصية الضحية (المتحرَش به)، ويوضح آليات حدوث هذه الظاهرة، وسلوكياتها، واستراتيجياتها التي يتبعها المتحرش لتحقيق أهدافه ضد المتحرش به، وما يترتب عليها من آثار سلبية تصيب العامل والمؤسسة والمجتمع معاً. ثم ينتهي باقتراح منهج وقائي لصد هذه الظاهرة على كافة المستويات، مع تعزيز الجانبين الديني والأخلاقي فيها.. وقد استعان بعدد من المراجع العربية والأجنبية إضافة إلى شهادات بعض الضحايا كأمثلة واقعية. وعن المؤلف، فهو (د. حميد حشلافي). طبيب وباحث استشفائي في كلية الطب بجامعة وهران الجزائرية، وأستاذ جامعي مشارك بقسم علم النفس في كلية العلوم الاجتماعية بها. وهو كذلك كاتب وروائي، أصدر أكثر من عشرين مؤلفاً علمياً وأدبياً، ومشارك فعّال في البرامج التوعوية لا سيما ما يتناول منها الصحة النفسية. تتقاسم الظاهرة تعريفات طبية ونفسية وقانونية، فهي من وجهة أخصائي في الأمراض العقلية «محاولات متكررة ومتواصلة يقوم بها شخص معين بهدف الضغط، وتهشيم المعنويات، والاستفزاز، للحصول على رد فعل من شخص آخر. هذه الطريقة تسبب في الضغط، تفزع، تقهر، تهدد الضحية التي تشعر بأنها لا تملك أي وسيلة لتدافع بها عن نفسها». غير أن التشخيص النفسي يستلزم توفّر ثلاثة مظاهر أساسية، هي: ديمومة المضايقات السلوكية ضد الضحية بهدف إلحاق الأذى به، التأثير السلبي على المستوى المهني للضحية، التأثير السلبي على صحة الضحية الجسدية والنفسية. أما عن طبيعة المضايقات السلوكية، فقد تم تصنيفها -حسب هدف المعتدي من تحرّشه بالضحية- إلى خمس مجموعات، هي: «منع الضحية من كل وسيلة للتعبير» ومن أشكالها عدم السماح للضحية بالتعبير عن طبيعة عملها ومنصبها ورأيها المهني، وإن حدث فمصيره التجاهل أو الاعتراض. «عزل الضحية عن باقي زملاء العمل» ومن أشكالها توجيه أعضاء فريق العمل نحو عدم التواصل مع الضحية، أو بنقل مكتبها بعيداً، أو منعها من استخدام بعض الوسائل المكتبية، أو عدم تحديد مهام عمل واضحة لها. «تشويه سمعة وضرب مصداقية الضحية» ومن أشكالها: توجيه الإهانة، الاستهزاء، إطلاق الإشاعات، تلفيق الأكاذيب، وتكليفها بمهام أدنى من مؤهلاتها العلمية. «إلحاق الضرر بالمسار المهني للضحية» ومن أشكالها التقييم المهني المجحف بحق الضحية، إنكار دورها ضمن فريق العمل، واستمرار الانتقاد والتوبيخ. «إلحاق الضرر بصحة الضحية» ومن أشكالها توجيه عبارات التهديد المتوعدة بالاعتداء اللفظي أو الجسدي، أو تنفيذهما فعلياً. أما عن الاتجاهات التي يتشكّل من خلالها التحرش النفسي، فأربعة: (أفقي) وهو على مستوى الأعضاء أنفسهم في فريق العمل. (عمودي تنازلي) وهو على مستوى رئيس فريق العمل نحو مرؤوسيه. (عمودي تصاعدي) وهو على مستوى أعضاء فريق العمل نحو رئيسهم. (كلي) وفي هذا المستوى، يتضامن الرئيس والمرؤوسون في التحرش النفسي ضد الضحية. يوجه هذا النوع الشامل من التحرش عادة نحو العضو الذي يشكل «مصدر قلق وتهديدا حقيقيا للمسؤول ومعاونيه من زملاء العمل والمتورطين في مخالفات إدارية أو خرق غير قانوني، مقابل إصرار ورفض الضحية المتحرش بها انتهاج نفس سلوكياتهم». فمع السمو الأخلاقي للضحية، تتكالب زمرة الفساد الإداري عليها لأجل ممارسة أقصى ما أمكن من عنف نفسي أو جسدي تصل إلى حد تصفيتها جسدياً، مع استنفاد كافة الحيل لاستمالتها لصالح الزمرة.
540
| 20 يونيو 2024
مساحة إعلانية
لم يكن ما فعلته منصة (إكس) مؤخرًا مجرّد...
723
| 16 ديسمبر 2025
هناك ظاهرة متنامية في بعض بيئات العمل تجعل...
711
| 11 ديسمبر 2025
تمتاز المراحل الإنسانية الضبابية والغامضة، سواء على مستوى...
642
| 12 ديسمبر 2025
السعادة، تلك اللمسة الغامضة التي يراها الكثيرون بعيدة...
627
| 14 ديسمبر 2025
يوماً بعد يوم تكبر قطر في عيون ناظريها...
621
| 15 ديسمبر 2025
في عالمٍ تتسارع فيه الأرقام وتتناثر فيه الفرص...
570
| 14 ديسمبر 2025
نحن كمجتمع قطري متفقون اليوم على أن هناك...
555
| 11 ديسمبر 2025
• في حياة كل إنسان مساحة خاصة في...
552
| 11 ديسمبر 2025
يأتي الاحتفال باليوم الوطني هذا العام مختلفاً عن...
519
| 16 ديسمبر 2025
-إعمار غزة بين التصريح الصريح والموقف الصحيح -...
420
| 14 ديسمبر 2025
من الجميل أن يُدرك المرء أنه يمكن أن...
402
| 16 ديسمبر 2025
بينما تعيش دولة قطر أجواء الاحتفال بذكرى يومها...
396
| 15 ديسمبر 2025
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
تابع الأخبار المحلية والعالمية من خلال تطبيقات الجوال المتاحة على متجر جوجل ومتجر آبل