رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
عبارة باتت تتردد على مسامعنا في كل مقطع قصير، حتى صارت أشبه بمفتاح سحري يردده اليوتيوبر أو «المؤثر» قبل أن يختفي من الشاشة، لكن خلف هذه العبارة البريئة، تختبئ قصة أخرى عن عصرٍ تحوّل فيه الإنسان من ناقل معرفة إلى باحث عن متابعين، ومن ناقشٍ للفكرة إلى صائدٍ للمتابعين. لقد أصبحنا أمام جيوش من الأشخاص المجهولين الذين يقتحمون شاشاتنا يوميًا، يقدمون نصائح في الطب، أو المال، أو التربية، أو حتى الدين، من غير أن نعرف عنهم مؤهلات أو خبرات، المهم أن يجمعوا أكبر قدر من الإعجابات، وأن تتسع دائرة المتابعين، وهنا يكمن الخطر: فالتفاهة حين تكتسب أجنحة المتابعة تتحول إلى قوة ناعمة قادرة على التأثير، بل وتوجيه السلوك والقرارات. الأدهى من ذلك، أن بعضهم يلبسون قناع الصدق وهم يفتقرون إليه، فيقسمون بالله العظيم، ويؤكدون أنهم جرّبوا هذا الدواء أو استفادوا من ذلك المنتج، فيأتي المتابع المرهف البسيط ليقول: «فلان حلف بالله إذن الأمر صحيح»، ليجد نفسه أمام إما نصائح غذائية من شخص لا يعرف أبجديات الصحة، أو توصيات دوائية من فرد لم يقرأ كتابًا في الطب، وبهذا تتحول المعلومة من وسيلة للتنوير إلى سلعة قابلة للتسويق، حتى لو كانت مشوهة أو ناقصة. الأخطر أن بعض هؤلاء لا يتورعون عن مدح أي منتج أو الترويج لأي سلعة مقابل عائد مادي، غير عابئين بنتائج ما يزرعونه من أوهام، إنهم يبيعون الوهم ملفوفًا بورق التغليف الرقمي، ولا يعنيهم أن المستهلك قد يخسر ماله أو صحته أو وقته. ومع دخول الذكاء الاصطناعي إلى الساحة، ازدادت اللعبة خطورة، فلم نعد متأكدين إن كان المتحدث شخصًا حقيقيًا أصلًا، فقد تُستخدم صورته وصوته بتقنيات التزييف العميق (Deepfake) ليبدو وكأنه هو من يروج للمنتج، بينما الحقيقة أن المصنع أو المروج هو من صمم الفيديو لإضفاء مصداقية مزيفة، بل رأينا مقاطع تُنسب إلى شخصيات مشهورة أو مسؤولين كبار، مع أنهم لم يُطلقوا هذه الحملات ولم يتحدثوا بها يومًا، وهنا يصبح المشاهد أمام مستوى جديد من التضليل، تضليل رقمي لا تميّزه العين ولا الأذن بسهولة. إن مسؤوليتنا كأفراد ومجتمعات أن نعيد التوازن إلى هذه المعادلة، فلا نُسلم عقولنا إلى كل من يملك كاميرا وميكروفون، المطلوب أن نتعامل بوعي مع ما يُعرض علينا، أن نسأل عن المصدر قبل أن نصدّق المعلومة، وأن ندرك أن «اللايك والسبسكرايب» قد تكون كلمات بريئة، لكنها تخفي وراءها معركة كبرى على العقول والاهتمامات. وأخيرًا – وبما أنك وصلت إلى نهاية المقال – فلا تنسَ «اللايك والسبسكرايب!»
411
| 17 سبتمبر 2025
حين ننظر إلى الدعم الغربي لذلك الكيان المحتل، ندرك أنه ليس حبًا في إسرائيل ولا إيمانًا بعدالة قضيتها، بقدر ما تمثّل خط الدفاع الأول عن مصالحهم في منطقتنا، لقد منحوها دعمًا لا محدودًا ليضمنوا أمنهم واستمرار نفوذهم، ولتحقيق أهدافهم الإستراتيجية، ومن هذا المنطلق، علينا نحن العرب أن نتعامل مع القضية الفلسطينية بالمنطق ذاته، سواء آمنا بها أم لم نؤمن، وسواء اتفقنا مع المقاومة أم اختلفنا، تبقى فلسطين خط الدفاع الأول عنا جميعًا أمام المشروع الصهيوني، دعمها وحصول شعبها على دولته المستقلة هو حماية لنا قبل أن يكون نصرة لهم، لأن هذا الكيان المغتصب لن يتوقف عند حدود فلسطين، بل سيتجاوزها إلى أراضينا إذا ما أُتيح له المجال، إنها قضية مصيرية، أحببنا المقاومة أم لم نحبها، ودعمها هو دعم لأنفسنا ومستقبل أوطاننا. إن المشهد بعد الاعتداء على قطر ليس كما قبله، فمظاهر الخلل التي كانت خافية في تحالفاتنا أصبحت اليوم خطيرة ولم يعد التهاون أو التعويل على الحماية الأجنبية مقبولاً، ومن ناحية أخرى، لم يكن الخذلان الغربي بعيدًا عن هذا المشهد، فبعض الدول التي تقدم نفسها كضامن للأمن، تركت الدول التي اشترت سلاحها بمليارات الدولارات تواجه مصيرها وحدها، هذه الحقيقة تؤكد أن الأسلحة ليست ضامنة للأمن، بل أدوات لفرض الهيمنة واستنزاف الموارد وكسب الوقت. لم تكن العربدة الإسرائيلية الأخيرة مجرد تجاوز عابر، بل إعلان صارخ بأن المواثيق الدولية لم تعد تقيدها، وأن سيادة الدول العربية والإسلامية لا تحظى بالاحترام، إن انتهاك السيادة العربية والإسلامية المتكرر كشف زيف التوازنات الإقليمية وأكد أن انتظار حماية من الخارج أو عدالة دولية ليس سوى وهم خادع. لقد أثار الاعتداء الصهيوني على قطر العديد من التساؤلات، السؤال الأول: ما مصير ملف المفاوضات؟ إن الاعتداء يضع هذه الجهود أمام اختبار قاسٍ ويهدد الثقة بجدوى المسار التفاوضي، والسؤال الثاني: هل سنعيد النظر في الأنظمة الدفاعية الغربية؟ أم سنواصل ضخ الأموال لشراء منظومات متأخرة عن الأنظمة الهجومية الإسرائيلية بجيلين على الأقل، ثم ما الرسالة التي أراد الصهاينة إيصالها إلى دول المنطقة بعد معاهدات واتفاقيات السلام؟ إن قصف منطقة سكنية مدنية في إحدى العواصم الخليجية لرسالة واضحة بمدى الاستهتار الصهيوني بنا جميعًا، سواء من انخرط في القضية الفلسطينية أو نأي بنفسه عنها، ونتساءل كذلك عن تفسير الغموض والارتباك للموقف الغربي في الدقائق الأولى من الحدث؟ ألا يثير ذلك تساؤلات حول تحالفاتنا ويستدعي استراتيجيات بديلة وشراكات جديدة؟ والسؤال الأهم هو: كيف سترد المنطقة على هذا الاعتداء؟ كيف نواجه هذا الخطر المحدق بنا ونحن كعرب نعيش تشرذمًا لم يشهده التاريخ؟ بيننا حروب طاحنة وأزمات خانقة، وتوترات حدودية، وخلافات مذهبية وعرقية، لا يأمن بعضنا بعضا، العلاقات بيننا ضعيفة إلى درجة لا يمكن الاستثمار فيها أو الاتكال عليها، كيف يمكن لاثنتين وعشرين دولة عربية، لكل منها بوصلتها الخاصة، لا تسعى إحداها إلى التكامل مع الآخر، أن تواجه الخطر الداهم؟ إن جميع الأدوات السياسية والدبلوماسية، الدفاعية، الاقتصادية، والإعلامية متاحة، لكن تبقى الإرادة الموحّدة هي الفيصل. يا قادة أمتنا، إن هذا الكيان المارق الجاثم على أرض فلسطين المحتلة، لا يعبأ بمواقفكم المنددة، ولا ينتظر بياناتكم الشاجبة، فهو لا يفرق بين من جعل القضية الفلسطينية قضيته المركزية ودافع عنها بكل قوة، وبين من اكتفى بالصمت أو التفرج، سيعمل هذا الكيان جاهدًا، وبدعم غربي سافر، على فرض هيمنته، غير مكترث بمعاهدات السلام المزعوم، حينها لن يعبأ بديانتكم أو طوائفكم أو أعراقكم، ولن يميز بين مسلم أو مسيحي عربي، ولا بين سني وشيعي، ولن تعصمكم المسافات ولا التحالفات. إن الاستيلاء على الأراضي العربية ليس مخططا سياسيا قابلا للمراجعة بل عقيدة راسخة مستمدة من تعاليم توراتية كما جاء في سفر (التثنية الإصحاح 11) يقول «كُلُّ مَكَانٍ تَدُوسُهُ بُطُونُ أَقْدَامِكُمْ يَكُونُ لَكُمْ»، لذا فهم يستدرجون ضحاياهم إلى معاهدات فارغة المضمون لتكون فيما بعد وسيلة للهيمنة والاستغلال وسلب الإرادة والسيادة. أيها القادة، بدلًا من الاستمرار في هدر الثروات على أسلحة دفاعية ليس بإمكانها مواجهة العدو المحتمل في المنطقة، حان الوقت لتوجيه هذه الأموال لترميم الوحدة العربية وبناء منظومة حماية ذاتية، والبحث عن شراكات جديدة، فالمليارات التي تُهدر في أسواق الغرب يمكن أن تبني جسور الثقة بين العواصم العربية، وتعيد للقضية الفلسطينية مكانتها في قلب المشروع العربي. نحن بحاجة ماسة أولًا لإعادة هيكلة منظماتنا العربية والإسلامية، ووضعها في المسار الصحيح، بحاجة لضخ دماء جديدة من شباب هذه الأمة، علينا أن نجعلها أكثر ديناميكية وكفاءة، أكثر فاعلية ومبادرة، وأكثر تأثيرًا في الساحة الدولية، وبحاجة أيضًا لأن نتبنى إستراتيجية «الضغط السلبي»، ومن أدواتها التكتل الجيوسياسي، والاقتصادي، وتبني مواقف موحدة، وتشكيل جبهة دفاع مشتركة لا تسمح بانتهاك سيادة أي دولة عربية، لا في أراضيها ولا أجوائها ولا بحارها، وأن الأموال التي تُهدر اليوم على شراء السلاح وأنظمة الدفاع من الغرب تُصرف على هذا المشروع، فهو وحده القادر على تحييد المعتدي وبناء حماية حقيقية وكرامة مستدامة للأمة.
747
| 14 سبتمبر 2025
ما جرى بالأمس لم يكن حدثًا عابرًا، بل هجوم أيقظ الضمائر وأسقط الأقنعة، الضربة الصهيونية التي استهدفت مقرًا لقيادات المقاومة أثناء اجتماع لبحث مقترح الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الأخير، لم تكن مجرد اعتداء عسكري جبان، بل إعلانًا صريحًا بأن هذا الكيان الغاصب قد فقد أوراقه السياسية، ولم يعد يملك سوى منطق العصابة المنفلتة التي لا تعبأ بالقوانين ولا تحترم سيادة الدول ولا تراعي أبسط الأعراف الإنسانية. لقد انكشفت البربرية على حقيقتها، الدولة التي حاولت أن تفرض هيبتها بالحديد والنار، كشفت عن ضعفها وانكسارها أمام العالم، لم يعد في جعبتها إلا لغة الغدر وضربات عشوائية لا تفرّق بين مدني وعسكري، ولا بين أرض محايدة وأرض محتلة، ولا بين عدو ووسيط، تلك العلامات الواضحة لا تعني إلا شيئًا واحدًا: الانهيار من الداخل بعد سقوط صورتها في الخارج. نحن أمام لحظة فارقة، لحظة اختبار للتاريخ: هل سنرتقي إلى مستوى المسؤولية ونحوّل هذا الحدث غير المسبوق إلى بداية لصحوة عربية وإسلامية؟ هل سنشكّل جبهة موحّدة مع شرفاء العالم لنضع حدًا للتواطؤ والتطبيع، ونطرد سفراء الاحتلال من عواصمنا، ونغلق الأبواب التي فُتحت لهم تحت شعارات مضللة لم تجلب سوى الوهم والعار؟ أم سنمضي كأن شيئًا لم يكن؟ إنها فرصة ذهبية لإعادة ترتيب البيت العربي من الداخل، ليست القضية قضية قطر وحدها، بل قضية كل شبر عربي مهدّد اليوم بانتهاك السيادة، وغدًا بالاحتلال الصريح، لقد أثبتت التجارب أن هذا الكيان لا يفهم إلا لغة الردع، ولا يقرأ إلا معادلات القوة، وكل لحظة تأخير تعني مزيدًا من الاستباحة والاستهانة بحقوقنا وكرامتنا. نحن أمة تمتلك أغلب موارد الطاقة ومفاتيح طرق التجارة العالمية، ومع ذلك تُعامل كأطراف ضعيفة في معادلة الصراع، آن الأوان أن نتحرك لا بخطابات رنانة ولا بيانات جوفاء، بل بمواقف عملية تُعيد الهيبة إلى هذه الأمة. لقد أراد الاحتلال من وراء هذه العملية الغادرة أن يوجّه رسالة مرتبطة بمقترح ترامب، مفادها أن لا صوت يعلو فوق صوته، لكن الرد الحقيقي يجب أن يكون أوضح: السيادة لا تُستباح، والقرار لا يُملى من واشنطن ولا من تل أبيب. الغدر هو آخر أوراقهم… فلنجعل وحدتنا أول أوراقنا.
1515
| 10 سبتمبر 2025
أصبح التدريب اليوم أحد أعمدة التطوير المؤسسي، فلا تكاد مؤسسة تخلو من خطط وبرامج تدريبية تهدف إلى رفع كفاءة موظفيها، وقد تحدّثنا سابقًا عن ضرورة ترشيد الإنفاق وضمان أن يكون التدريب فعالًا من حيث التكلفة، غير أن القضية الأوسع لا تقف عند حدود المال فقط، بل تمتد إلى ترشيد الممارسة نفسها، حيث تضيع أحيانًا الجهود في قاعات التدريب بين إطالة غير مبررة، وترشيح غير مناسب، واختيار مدرب لا يضيف جديدًا. أول ما يلفت الانتباه هو ظاهرة الإطالة المفتعلة، ورشة عمل لا تحتاج سوى يومين تتحول بقدرة قادر إلى أسبوع كامل، السبب في كثير من الأحيان ليس علميًا ولا تربويًا، بل بحثًا عن مقابل مادي أكبر أو مظهر شكلي يوحي بالجدية، والنتيجة ساعات طويلة من التكرار والملل، بينما يمكن تقديم جوهر المحتوى بفاعلية في نصف الوقت، معيار نجاح التدريب لا يقاس بعدد الأيام، بل بما يحققه من أثر حقيقي على المتدرب والمؤسسة. الإشكالية الثانية هي سوء الترشيح للبرامج التدريبية، فكم من موظف وجد نفسه فجأة في دورة لا يعرف أهدافها ولا علاقة لها بعمله أو مساره المهني!، فيحضر جسدًا ويغيب فكرًا، وتضيع فرصة كان يمكن أن يستفيد منها موظف آخر أكثر حاجة وارتباطًا بالموضوع، هذه الفجوة تكشف خللاً في ربط التدريب باحتياجات الأفراد والمؤسسات، وتحوّله إلى إجراء إداري أكثر من كونه استثمارًا إستراتيجيًا. ثم تأتي الحلقة الأضعف أحيانًا، وهي اختيار المدرب، فالتدريب ليس عروض شرائح ولا نصوصًا مكتوبة، بل خبرة وقدرة على التأثير وإيصال الفكرة، حين يُكلّف مدرّب يفتقر إلى الكفاءة أو الخبرة العميقة، تضيع فاعلية البرنامج، ويضاعَف الهدر، فنجد محتوى متكررا، متدربا غير مهتم، ومؤسسة لا ترى عائدًا يوازي ما أنفقته، وعلى العكس من ذلك، فإن المدرب الكفؤ قادر على أن يحقق أهدافًا كبيرة في وقت قصير وبأسلوب حيّ يترك أثرًا دائمًا. من هنا، فإن الحديث عن التدريب يجب أن يتجاوز سؤال: كم نفذنا من الخطة التدريبية؟ إلى سؤال أشمل هو: ما مدى فعالية خطتنا التدريبية؟، فالتدريب الفعّال يقوم على ثلاثة عناصر متكاملة: مرشح مناسب لكل مادة في الخطة، ومدرب كفؤ يضيف قيمة حقيقية لكل دورة، ومدة تدريب مناسبة، عندها فقط يصبح التدريب استثمارًا في المستقبل، لا مجرد نشاط شكلي يستهلك الوقت والميزانية.
399
| 03 سبتمبر 2025
مع اقتراب العودة للمدارس، ما زلت أذكر جدتي – رحمها الله – وهي تمسك بيدي وأنا طفل صغير في الروضة، تسير معي كل صباح حتى محطة الباص، كنت أبكي وأحاول الهرب منها كي لا أذهب، لكنها كانت تدفعني دفعًا إلى الداخل، وتظل واقفة لا تغادر حتى يغلق السائق الباب وتنطلق الحافلة، لم تكن تكتب، لكنها كانت تقرأ القرآن، ومن نور هذا الكتاب أدركت بفطرتها أن العلم هو الطريق، وأن الطفل الذي لا يتعلم يظل تائهًا في ظلام الحياة. وأذكر يومًا آخر حين قررت النزول من الباص في محطة كنت أظنها الأقرب إلى بيتنا، وإذا بوالدي يمرّ مصادفة في تلك اللحظة، سألني لماذا أنزل هنا؟، لم أعرف حينها لماذا، ولكنني أعتدت أن أنزل في تلك المحطة وأسير على قدمي لمسافة ما حتى أصل البيت، أعادني إلى الباص رغم دموعي وخوفي، وأنا أظن أن الحافلة ستأخذني بعيدًا، فإذا بها تقف بعد دقائق أمام منزلنا مباشرة، يومها بكيت لأنني لم أدرك خطأي. وفي تلك الروضة ما زلت أذكر بعض الأناشيد التي كنا نرددها ببراءة، ومنها: أنا في الروضة... ويا أصحابي... ساعة لعبي... ساعة كتابي... أعرف أصور... وأرسم صورة... فيها شجرة... وعليها عصفورة... كانت كلمات بسيطة، لكنها زرعت فينا حب المدرسة، وجعلت الكتاب قرين اللعب، والرسم قرين الخيال، والعلم قرين الفرح، كانت أشبه بجرس طفولي يرنّ في قلوبنا كلما عدنا بالذاكرة إلى تلك البدايات. لم يكن جرس المدرسة هو تلك القطعة المعدنية المعلقة على جدارها فحسب، بل كان يتجسد في يد جدّةٍ تدفعك بحب، وأب يوجّهك بحزم، وأناشيد تبهج القلب وتزرع أولى بذور التعلّم، لم تكن لدى الأهل خرائط واضحة للمستقبل، بعضهم لم يعرف القراءة، وبعضهم كان أميًّا، لكنهم آمنوا أن التعليم هو طوق النجاة، وفي زمن كانت دول الخليج تخطو خطواتها الأولى مع النفط، كان الطلاب يسيرون في طرق غير معبدة، يختارون تخصصاتهم أحيانًا بالصدفة أو بتقليد صديق، ومع ذلك وجد ذلك الجيل فرصًا للعمل، ثم تعلّم أكثر أثناء العمل أو عبر البعثات، وصاروا صناع نهضة. أما اليوم، فالصورة بدت أوضح، فالأب والأم غالبًا جامعيون، والأبناء يملكون وعيًا أوسع، يناقشون آباءهم في الخيارات، ويطّلعون على ما لم يكن متاحًا لنا، الاستعداد للمدرسة لم يعد دفترا وقلم رصاص وبرّاية، بل أجهزة وأدوات حديثة وخططا مستقبلية مرسومة على ضوء متطلبات سوق العمل. ويبقى السؤال: أين الجرس؟ في الماضي كان الجرس هو صوت الجدّة ويد الأب اللذين يدفعان الطفل إلى المدرسة، كان الخوف من العقاب أكثر من الخوف من المستقبل بلا تعليم، أما اليوم فالمدرسة بلا أجراس، لم يعد هناك من يفرض عليك النظام من الخارج، بل صار الجرس داخليًا في ضمير الطالب، في وعيه، في طموحه، وعسى أن لا يغيب ذلك الجرس بين أصوات الهواتف وضجيج الإشعارات. لسنا هنا لنجلد الماضي ولا لنمجد الحاضر، بل لنقارن بين دفء البدايات ووضوح الحاضر، فالماضي صنع رجالًا ونساءً على قدر المسؤولية رغم بساطته، والحاضر يمنح أبناءنا آفاقًا واسعة رغم تعقيداته، الفرق أن الجرس تبدّل: من جرسٍ خارجي يرنّ في ساحة المدرسة، إلى جرس داخلي يرنّ في القلب. وأمنيتي أن يبقى هذا الجرس حاضرًا في نفوس أبنائنا، يذكّرهم أن المدرسة ليست مبنى ولا حقيبة ولا شهادة، بل هي قيمة متجذرة، وصوت داخلي لا يخفت، يوقظ فيهم حب العلم كلما حاولوا النوم في حضن الكسل أو التيه في ضجيج الدنيا.
366
| 27 أغسطس 2025
ربما كان جسر عبورك نحو القمم… شخصاً حاول أن يسقطك.. قال وهو يسرد قصته... أتذكره جيداً، كان يضع أوراقي جانباً متعمداً، ويتجاهل أفكاري في الاجتماعات، وكأن وجودي في المكتب عبئا عليه، كنت أعود إلى بيتي كل مساء محمّلاً بضغط لا يُحتمل، وأقول في نفسي: «ربما غداً يتغير»، لكن الغد لم يتغير… بل ازداد سوءاً. في أحد الأيام، وبعد مشادة قصيرة، خرجت من مكتبه وأنا أحمل قراراً لم أكن أتوقع أن أتخذه بهذه السرعة... سأرحل، كانت الخطوة بالنسبة لي أشبه بالقفز من سفينة في وسط البحر، لا أعرف أين سأصل، ولا إن كنت سأصل أصلاً، لكن شيئاً في داخلي كان يقول: «أي مكان آخر سيكون أفضل». غادرت… وبعد أسابيع قليلة وجدت نفسي في مؤسسة جديدة، في بيئة رحبة، فيها من يقدّر الجهد ويستمع للفكرة مهما كانت بسيطة، لم تمضِ أشهر حتى وجدتني أتقدم في مساري المهني بسرعة لم أعرفها من قبل، هناك... في ذلك المكان الجديد، اكتشفت مهاراتي الحقيقية، وبنيت علاقات فتحت أمامي أبواباً لم أكن أتصور وجودها. حينها أدركت أن ذلك الشخص الذي كنت أراه أسوأ ما في حياتي المهنية، كان من حيث لا يدري أفضل ما حدث لي، لو كان لطيفاً ومتعاوناً، ربما بقيت هناك سنوات أراوح مكاني، أدفن طموحي تحت ركام الروتين. هذه ليست حكاية صاحبي وحده، في أماكن العمل كثيرون يروون قصصاً مشابهة، مدير متعسف، زميل مثير للمشاكل، أو بيئة عمل خانقة، دفعتهم إلى ترك مكانهم والانتقال إلى فضاء أرحب، المفارقة أن هذه القرارات، التي اتخذوها في لحظات ضغط، كانت هي نفسها التي غيرت مجرى حياتهم. فالطبيعة البشرية تميل إلى البقاء في المألوف، حتى لو كان أقل من طموحاتنا، لا نغادر مواقعنا إلا إذا أُجبرنا، ولا نغيّر مسارنا إلا إذا دفعنا ظرف قاسٍ أو شخص مُرهِق إلى البحث عن بديل، وهنا تكمن المفارقة أن السيئين أحياناً يكونون جسر العبور إلى حياة أفضل. في النهاية، لا أحد يحب التعامل مع الأشخاص السيئين، لكن إن نظرنا إلى الصورة كاملة، قد نجد أن بعضهم، رغم نواياهم، هم من وضعونا على الطريق الصحيح، وربما بعد سنوات سنروي القصة ونقول بابتسامة: «ذلك السيّئ… هو من صنع مستقبلي.»
480
| 20 أغسطس 2025
في زمن تتساقط فيه الأقنعة، لم نعد بحاجة إلى عدسات مكبّرة لنرى زيف المبادئ التي طالما تباهى بها الغرب كحقوق الإنسان، وحرية الشعوب، وحماية المرأة والطفل، وحرية التعبير، والديموقراطية، كانت شعارات يلوّحون بها في وجوهنا كالأعلام البيضاء، حتى إذا حانت ساعة الحقيقة، ذابت كما يذوب الملح في الماء، لنكتشف أنها مجرد أدوات فرض الهيمنة ومسح الهوية. في حرب الإبادة الأخيرة، لم تكتفِ القوى الغربية وخصوصًا أمريكا بالصمت، بل انحازت علنًا إلى الجلاد، ولم تكترث لا ببيانات التنديد ولا بخطب الاستنكار، بل نسفت بانحيازها الفج ما تبقى من قرارات الأمم المتحدة، وكأن القانون الدولي كُتب لغيرنا، عند هذه اللحظة يصبح استمرارنا في الدوران داخل فلكهم مخاطرة بمستقبلنا، لا مجرّد خطأ في الحسابات. اقتصاداتنا الخليجية تحاول منذ سنوات أن تفطم نفسها عن النفط، وهو جهد يستحق الإشادة، لكن ما دام الفطام يتم تحت سقف السوق العالمي الذي يكتب الغرب قوانينه، فالمولود الجديد لن يخرج من بيت الطاعة، نعم نحن نبني أبراج الطاقة المتجددة والمراكز المالية، لكن على خرائط مرسومة في عواصمهم، وبأدوات تحمل بصماتهم وتروج لأجنداتهم. والسؤال هنا: هل نبني مستقبلنا ككتلة عربية على قواعد من مصالح شعوبنا وتطلعاتها، أم أننا نكتفي بتغيير المظهر الخارجي للتبعية بينما يظل جوهرها كما هو؟ إن التنمية الحقيقية ليست أرقامًا على الورق نتباهى بها على صفحات الصحف وفي نشرات الأخبار، بل قدرة على صياغة القرار الاقتصادي بعيدًا عن ضغط الأسواق وأهواء العواصم الكبرى. وفي السياسة، لنفتح أبوابًا على الشرق، ونصافح الصين وروسيا وآسيا الوسطى، ونلوّح بعضويتنا في منظمة شنغهاي، لكن يدنا الأخرى ما زالت تمسك بحبال التحالف الغربي، هذه سياسة «التحوط» التي تبقينا واقفين على الحبل المشدود، دون أن يتوقع الآخر خطوتنا التالية. إن الهيمنة الأخطر ليست في البورصات ولا في القواعد العسكرية، بل في المدارس والشاشات، هي ثقافة تُستورد بالجملة، تصوغ ذائقة أجيالنا، وتكتب قصصهم بلغات الآخرين وثقافتهم، هنا تُخاض المعركة التي لا تُسمع فيها المدافع، لكنها قد تحسم مصير الشعوب، وإذا كانت الجيوش تحمي الحدود، فإن الثقافة تحمي الهوية، ومن يخسر هويته يصبح تابعًا حتى لو امتلك الثروة والسلاح. قد نكون ككتلة عربية، أو خليجية على أقل تقدير، بحاجة إلى بيان مبادئ، ليس للاستهلاك الإعلامي، بل كعقد وطني إقليمي مكتوب يتبنى الآتي: أولًا - اقتصاد إنتاجي سيادي، يزرع غذاءه ويصنع دواءه ويبتكر تقنياته. ثانيًا - دبلوماسية متعددة المحاور، لا تسمح بابتزازنا من محور واحد. ثالثًا - قوة ناعمة أخلاقية، تجعل من حضورنا في العالم علامة جودة لا علامة تبعية. رابعًا - سيادة معرفية وثقافية، تحمي عقولنا قبل أن تحمي حدودنا. إذًا هي ليست دعوة للتمرد ولا للصدام، ولكن، إن كانت الأرض التي نقف عليها قد زُرعت بألغام الهيمنة، فليس أمامنا إلا أن نرسم خريطتنا بأيدينا، ونزرع فيها بذور السيادة لمستقبل أفضل، لقد آن أوان أن نخرج من دائرة «تطبيع الهيمنة» إلى فضاء «إدارة الاستقلال»، فالتحرر لا يعني إدارة ظهرنا للعالم، بل أن نمد أيدينا إليه ونحن واقفون على أقدامنا، لا جاثون على رُكبنا، إن التاريخ لا يرحم المترددين، والفرص لا تنتظر من يتلكأ في منتصف الطريق.
456
| 13 أغسطس 2025
أحيانًا تختل أجهزة الهاتف أو البوصلة الإلكترونية في إظهار الاتجاه الصحيح، يتوقف السهم عن الإشارة، وتبدو الجهات متداخلة، وكأن الشمال لم يعد شمالًا، في هذه الحالات لا نُغيّر الجهاز، بل نُعيد ضبطه، نحركه بحركات معينة أو نغلقه ونفتحه من جديد، ثم نراقب كيف يستعيد توازنه ويعود ليُرينا الطريق. الإنسان لا يختلف كثيرًا، فمع مرور الوقت، وتراكم الأحداث، يفقد البعض توازنه الداخلي، وينحرف إحساسه بالأشياء، لا يعود يفرّق بين الجميل والعادي، ولا يشعر بالحياة كما كان يفعل من قبل، تمر الأيام أمامه كأنها مشاهد مكررة، بلا طعم، ولا صوت داخلي ينبّه إلى أن هناك شيئًا فقد بريقه. أتذكر صديقًا جلس بجانبي في أحد المقاهي المطلة على البحر، أمسك بفنجان القهوة وقال لي: «كنت أحب طعم القهوة، واليوم أشربها ولا أشعر بشيء… هل اختلفت القهوة، أم اختلفت أنا؟»، ثم صمت قليلًا، فكان صمته أثقل من سؤاله، لم أملك إجابة مباشرة، لكني شعرت أنه يعبّر عما نعانيه جميعًا، فمع مرور الأيام، وتراكم التجارب، تتبلد مشاعرنا وتبهت نكهة الحياة في حواسنا، كان سؤاله صادقًا، لكنه لم يكن عن القهوة، بل عن الإحساس، عن تلك المسافة التي نشأت بيننا وبين الحياة دون أن نشعر بها. كثيرون يعيشون هذا الفراغ دون أن يسموه، لا يشكون ألمًا محددًا، لكنهم يعلمون في قرارة أنفسهم أن شيئًا ما قد تغير في حياتهم، في أحاديثهم، في استجاباتهم وردود أفعالهم، في قدرتهم على الفرح، في صبرهم على من يحبون. ثم يأتي حدث كبير، مرض أو فقد، أو نجاة من خطر، فيغيّر الصورة كلها، ليبدأ الإنسان فجأة في النظر إلى الأشياء بطريقة مختلفة، يعود يتذوق ما نسي طعمه، ويُدهش مما كان يمر عليه دون انتباه، ويعيد ترتيب أولوياته كما لو أنه أُعطي فرصة ثانية ليفهم نفسه من جديد. لكن هل ننتظر المأساة حتى نستيقظ؟ ليس بالضرورة، أحيانًا تكفي جلسة صافية مع النفس، عزلة قصيرة، أو سجدة صادقة، أو سفر مفاجئ يعيد توازن البوصلة، كل ما نحتاجه هو أن نقرّر التوقف عن الانجرار خلف كل ما يسحبنا من الحياة دون وعي. ربما لا نحتاج دائمًا إلى تغيير جذري لنشعر بالحياة من جديد، وإنما إلى إعادة اتصال بما هو بسيط وأصيل فينا، لحظة سكون نعيد فيها الإنصات لما يجري داخلنا، ونمنح أنفسنا فرصة للانتباه لما تجاهلناه طويلًا، قد يكون ذلك عبر صلة الأرحام، أو زيارة لمريض، أو إحسان لضعيف، أو حديث هادئ مع صديق صادق، أو خلوة قصيرة في مكان نحبه، أو حتى قرار صغير نؤجله منذ زمن، المهم أن نمنح أنفسنا هذه الوقفة، لا لنبتعد عن الحياة، بل لنعود إليها بقلب أصفى، وعين ترى، وروح تشتاق أن تعيش بصدق.
669
| 06 أغسطس 2025
في البداية، كانت التكنولوجيا مجرد أداة تسهّل المهام، ثم أصبحت تقترح، ثم تتوقّع، ثم تكتب، ثم تفكّر عنّا، ومع كل خطوة جديدة في مسار الذكاء الاصطناعي، نتراجع خطوة من مهاراتنا الإنسانية في التحليل، في المقارنة، في التخيّل، في الصبر، وفي القدرة على التعامل مع المجهول، لم نعد نحفظ الأرقام، لأن الهاتف يتذكّرها، ولم نعد نعرف الاتجاهات، لأن الخريطة تتحدث، لم نعد ننتظر الفكرة، لأن «الروبوت» يقدّم لنا عشرات أفكار بدلاً منها، وهكذا تتآكل الذاكرة، ويضعف الحسّ، وتخبو شرارة الاكتشاف. لقد عُهد الإنسان يكتب بيده، ويفكر بعقله، ويتأمل بعينيه، ويقرّر بقلبه، ثم دخلت الآلة فساعدته، ثم تطورت فسبقته، ثم تقدّمت فحلّت محلّه، ثم وقفت أمامه تقول: «دعني أفكّر عنك. فأنا أسرع، أدق، وأقلّ خطأً، وبدأ الإنسان يُسلّم شيئًا فشيئًا مفاتيح نفسه. قبل أيام، سمعت قصة لطالب جامعي طُلب منه إنجاز بحث بسيط، لم تكن المشكلة في ضيق الوقت، بل في غياب المهارة، فاستعان بالذكاء الاصطناعي ليكتب له البحث، وخشية أن يكتشف أستاذه أن «الآلة» هي الكاتبة، أدخل النص في برنامج آخر، يحوّل الأسلوب إلى ما يشبه «الكتابة البشرية»، فكانت النتيجة: آلة كتبت، وآلة أخفت أثر الآلة. والطالب اكتفى بالنسخ والتسليم، الطريف والمُحزن في آن واحد هو أن هذا البحث حصل على «الترتيب الثاني» في إجمالي البحوث المقدّمة من الطلاب. الخطر ليس في الذكاء الاصطناعي نفسه، بل في كسلنا المتزايد تجاه التفكير، في تسليمنا العميق بأن هناك من «يعرف أفضل»، ومن «يُنتج أسرع»، ومن «يُقنع أكثر». وكأننا نقول للعقل: ارتَح، فقد جاءت الآلة لتحلّ محلك، لكن السؤال الأخطر: إذا اختفى القلم من بين أيدينا، فهل ستبقى اللغة حيّة؟، وإذا لم نعد نحلل، ونقارن، ونستنبط، ونُخطئ ونتعلّم، فماذا يبقى من إنسانيتنا؟ لا أحد يدعو إلى كسر الآلة أو التراجع عن التقدم، فالذكاء الاصطناعي أصبح مسار عالمي لا يمكن وقفه، ولكن نريد أن نصاحبه دون أن نذوب فيه، نريد أن نُمسك بزمام الأداة لا أن نمشي في ظلّها، أن نستخدم الذكاء الاصطناعي ليُوسّع مداركنا لا ليُعطلها، وأن نحافظ على المهارات التي بُنيت عبر قرون من التراكم الإنساني، نريد أن نفكّر ولو ببطء، لأن أن الفكرة التي وُلدت من قلقٍ وتأمّل. ليست كالفكرة التي اقترحها علينا روبوت مطمئن وسريع. نحن بحاجة أن نُعيد تدريب أنفسنا على بعض المهارات المنسيّة، أن نكتب، لأن القلم يدرب الوعي، وأن نحفظ، لأن العقل بلا ذاكرة يصبح شاشة عرض لا أكثر، وأن نتخيل، لأننا نملك أحلامًا لا تستوعبها الخوارزميات إحساسًا وروحًا، وبالإمكان أن يتجسد ذلك في الطفل الذي يُمسك القلم في المدرسة، وفي الطالب الذي يُطلب منه أن يبحث ويُحلل لا أن يَنسخ، وفي الكاتب الذي يرفض أن يُملي عليه أحد أفكاره، حتى وإن كان برنامجًا يفهم اللغة ويُتقن الأسلوب. وهذا المقال نفسه، وإن كُتب بمساعدة أدوات الذكاء، فإنه لم يولد من شاشة، بل من سؤالٍ حيّ، يسكن قلب كاتب لم يسلم القلم. بل جرّب به طريقًا جديدًا، دون أن يترك قبضته.
603
| 30 يوليو 2025
في إحدى ليالي الصيف، دوّى صوت الإنذار في المبنى الرئيس للشركة، هرع الجميع يبحث عن مصدر الحريق، فيما كان المدير، كما اعتاد، أول الواصلين يحمل خرطوم الإطفاء بيد والهاتف بيدٍ أخرى، يصرخ بالتعليمات في كل اتجاه، نجح في السيطرة على الأزمة، لكنه خرج من المبنى مُبللًا بالعرق والدخان، محاطًا بنظرات الإعجاب الممزوجة بالشفقة، وفي تلك اللحظة، همس أحد الموظفين: «إلى متى سنظل ننتظر حتى تشتعل الحرائق ليتحرك كل شيء؟» كانت تلك اللحظة فاصلة؛ أدرك المدير أن مهارته في إطفاء الحرائق لم تمنع اندلاعها، وأن مؤسسته تعيش في دوامة الأزمات التي تأكل طاقتها يومًا بعد يوم، عندها قرر أن يتحول من مدير إطفائي إلى مهندس بنّاء، يبني أنظمة تمنع الحريق بدلًا من ملاحقته. كثير من المديرين يحبون أن يُوصفوا بأنهم «حلّالون للمشكلات»، يتدخلون بسرعة، يُطفئون الأزمات، يواجهون كل طارئ، ولعل أكثر ما يُسمع عن بعضهم: «فلان لا ينام، دائمًا في قلب الحدث»، ولكن هل هذا مديح أم إنذار؟ وهل المدير الناجح هو من يطارد الحريق... أم من يمنعه قبل أن يبدأ؟ في الإدارة الحديثة، يُنظر إلى المدير «الإطفائي» على أنه علامة خلل هيكلي في المؤسسة، فالإدارة ليست سلسلة أزمات متلاحقة، بل منظومة توقع وتخطيط وبناء، والمدير الحقيقي ليس من يمسك خرطوم الماء، بل من يرسم خريطة الوقاية، ويمنع اشتعال النار أصلًا. المدير الإطفائي يعمل بردّ الفعل، ويفتخر بسرعة الاستجابة، لكنه في الحقيقة غارق في التفاصيل، مرهق متشتت ومحدود في الأفق، أما المدير البنّاء فهو من يملك الوقت للتفكير، ويملك الفريق للتنفيذ، ويملك النظام الذي يعمل حتى في غيابه. المؤسسة التي تعتمد على قائد واحد لإطفاء الأزمات، هي مؤسسة هشّة، لأن استقرارها مرهون بحضور هذا الشخص فقط، أما المؤسسة التي تُدار وفق أنظمة ذكية، وخطط بديلة، وفريقٍ واعٍ، فهي مؤسسة تعيش وتزدهر... بغضّ النظر عمن يقودها اليوم. المدير البنّاء يهتم بـتطوير الأنظمة لا معالجة الثغرات، وتمكين الفريق لا الاستئثار بالحل، وتوثيق الإجراءات لا ارتجال القرارات، وبناء ثقافة مؤسسية تتعامل مع المسببات قبل النتائج. وفي المقابل، يتنقل المدير الإطفائي من أزمة إلى أخرى، فهو في سباق مع الوقت، يربط قيمته الشخصية بكثرة المهام لا بجودة الأثر، يصنع مؤسسات تعتمد عليه لا تنمو من بعده. التحول من الإطفاء إلى البناء ليس سهلاً، ويبدأ أولًا بإعادة تعريف النجاح، فالنجاح ليس في «التدخل المستمر»، بل في «الغياب الآمن»، المدير الناجح هو من يجعل وجوده مهمًّا، لكن غير ضروري كل لحظة. ولنتذكر دائمًا أن البطل الحقيقي في الإدارة ليس من يظهر في كل مشهد، بل من يختفي أحيانًا... لأن كل شيء يسير كما يجب.
825
| 23 يوليو 2025
في حياتنا اليومية، لا نتوقف عن تشكيل تصورات حول الناس، والمواقف، والسياسات، والقرارات، نعتمد في ذلك على معلومات قد تكون ناقصة، أو مشوشة، أو محكومة بخلفياتنا وتجاربنا الشخصية، وهذا أمر طبيعي؛ فالعقل لا يعمل في فراغ، بل يسعى إلى تفسير الواقع عبر ما يتاح له من معطيات، لكن المعضلة تبدأ حين يتعامل البعض مع “التصور” وكأنه “نتيجة”، فيبني عليه أحكامًا نهائية، ويخوض معارك كلامية لا هوادة فيها، بل وقد يصل إلى التشنج والانفعال، وكأن ما يتصوره هو الحقيقة المطلقة التي لا تحتمل الشك. كم من مرة شهدنا نقاشًا يشتعل بين طرفين، لا لأن أحدهما يملك الحقيقة والآخر ينكرها، بل لأن كل طرف يرى أن تصوره للموضوع هو الواقع بعينه، مع أن الحقيقة في كثير من الأحيان لم تتكشف بعد، أو قد تكون أوسع من تصورات الطرفين معًا، فالتصور، بطبيعته، مبني على زاوية نظر، على معطى جزئي، على تحليل شخصي، وقد يكون مفيدًا كمنطلق للحوار أو لتوقع النتائج، لكنه لا يرقى إلى مرتبة الحكم القطعي، أما النتيجة، فهي المحصلة النهائية التي تأتي بعد اكتمال الصورة، وبعد اختبار الفرضيات، وتوفر الأدلة، ومرور الزمن الكافي للحكم. وهناك من يخوض النقاش مسلحًا بما جمعه من معلومات وأخبار، يكررها كما وردت إليه دون تمحيص أو تحليل، معتقدًا أن مجرد نقل ما قيل أو نُشر يكفي لبناء رأي أو إثبات موقف. لكنه يغفل أن الأخبار سواء نُقلت بموضوعية أو انحياز تظل مادة خام لا ترقى إلى مستوى الرأي أو التحليل، فالإعلام ينقل ما يحدث، لكنه لا يمنح بالضرورة فهمًا لما وراء الحدث، والمعلومة مهما كانت دقيقة تبقى معزولة ما لم تُفهم في سياقها وتُقارب برؤية نقدية. والأسوأ من ذلك، أن بعض المشاركين في النقاش لا يملكون رؤية تحليلية أو منطقًا خاصًا بهم، بل يدفعون بكل ما لديهم من معلومات سمعوها أو قرأوها، دون تمحيص أو إعادة تفكير، هؤلاء لا يضيفون بصمتهم الفكرية أو زاويتهم الخاصة، بل يكتفون بترديد ما يُقال فيغيب الاجتهاد، ويضعف الحوار، ويتحول النقاش إلى استعراض محفوظات، لا إلى تفكير حيّ ونقدي. حين لا نفرّق بين التصور والنتيجة، فإننا نقع في فخ التعصب للرأي، ونغلق أبواب النقاش العقلاني، ونحول الحوارات إلى صراعات، والأسوأ أن بعض الناس يستميتون في الدفاع عن تصوراتهم، وكأنهم ربطوا كرامتهم ومكانتهم بها، لذلك علينا أن نُعيد تأهيل وعي الناس على هذه الحقيقة البسيطة، أن نختلف في تصوراتنا أمر طبيعي، لكن تحويل التصور إلى نتيجة حتمية دون برهان، هو مجازفة فكرية. إن الاعتراف بحدود معرفتنا هو أول الطريق نحو فهم أعمق وأهدأ للنقاش، وإذا كنا صادقين في سعينا للحقيقة، فلنتواضع أمام ما لا نعرفه، ولنمنح أنفسنا والآخرين فرصة أن نكون مخطئين… أو على الأقل غير متأكدين بعد، وفي ذلك يقول الإمام الشافعي: «رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب».
930
| 16 يوليو 2025
في منطقة تتقاطع فيها النزاعات، وتتشابك فيها التحالفات والمصالح، تبرز قطر بوصفها نموذجًا مختلفًا؛ دولةٌ واضحةٌ في رؤيتها، ثابتةٌ في خطواتها، ومبهرةٌ في إنجازاتها، لا تكتفي بردّ الفعل، بل تصنع أثرًا يتجاوز حدودها. لقد فهمت قطر مبكرًا أن التحدي الحقيقي ليس في تجاوز الآخرين، بل في تجاوز الذات، لذا صاغت مشروعها على قاعدة صلبة ترتكز على بناء الإنسان، وتمكين الدولة، وصناعة الدور، لم تدخل سباقًا عبثيًا نحو الزعامة، لكنها دخلت سباقًا أعمق نحو الجدارة والاحترام العالمي. ما أنجزته قطر خلال العقدين الماضيين لم يكن مجرد تطور عمراني أو استضافة استثنائية لأحداث عالمية، بل كان مشروعًا حضاريًا متكاملًا حيث التعليمٌ بمعايير عالمية، والخدمات الصحية عالية الجودة، تخطيط مدني مدروس، اقتصاد متنوع، وشبكات تأثير ناعمة تمتد من الإعلام إلى الدبلوماسية، ومن الرياضة إلى التعليم. بنت قطر علاقاتها الإقليمية والدولية بميزان دقيق من التوازن، واختارت أن تكون منصةً للحوار لا ساحةً للصراع، لا ترفع صوتها في زمن الضجيج، لكنها تُسمع عندما يتكلم العقلاء، وفي اللحظات الحساسة، حين تختلط الأوراق وتحتدم الصراعات، أظهرت قطر أداءً استثنائيًا في ضبط النفس، وحكمة في إدارة المواقف، وفعالية في التحرك الدبلوماسي، وقد بات من المعتاد أن تتجه الأنظار نحوها عندما تستعصي الحلول، أو تتعثر المفاوضات. لكن جوهر التجربة القطرية لا يكمن في البنى ولا في المؤسسات وحدها، بل في الإنسان القطري الذي أصبح محور الرؤية وأداتها، فالدولة استثمرت في وعي المواطن، وثقافته، وتعليمه، وأتاحت له الانفتاح على العالم دون أن يتخلى عن هويته، فكان هذا الإنسان هو الثروة الحقيقية، وهو الحارس الأول لمشروع الدولة. ولأن قطر تفكر بعقل الأمة، فهي لا تنكفئ على ذاتها، بل تتحرك إنسانيًا حيث الحاجة، ففي أماكن الصراعات والكوارث الطبيعية، كانت اليد القطرية ممتدة دائمًا بالإغاثة والدعم، وتلك فلسفة أخلاقية وموقفًا استراتيجيًا يرسّخ صورة الدولة المسؤولة، وهذا النهج لم يكن وليد أزمة أو ظرف طارئ، بل ثمرة رؤية استراتيجية بعيدة المدى، وتراكم مستمر في بناء الثقة مع محيطها الإقليمي والدولي.
822
| 09 يوليو 2025
مساحة إعلانية
لم يكن خروج العنابي من بطولة كأس العرب...
2328
| 10 ديسمبر 2025
في عالمٍ يزداد انقسامًا، وفي إقليم عربي مثقل...
807
| 10 ديسمبر 2025
هناك ظاهرة متنامية في بعض بيئات العمل تجعل...
702
| 11 ديسمبر 2025
تمتاز المراحل الإنسانية الضبابية والغامضة، سواء على مستوى...
630
| 12 ديسمبر 2025
السعادة، تلك اللمسة الغامضة التي يراها الكثيرون بعيدة...
600
| 14 ديسمبر 2025
يوماً بعد يوم تكبر قطر في عيون ناظريها...
597
| 15 ديسمبر 2025
في عالمٍ تتسارع فيه الأرقام وتتناثر فيه الفرص...
558
| 14 ديسمبر 2025
نحن كمجتمع قطري متفقون اليوم على أن هناك...
555
| 11 ديسمبر 2025
• في حياة كل إنسان مساحة خاصة في...
531
| 11 ديسمبر 2025
يوم الوطن ذكرى تجدد كل عام .. معها...
516
| 10 ديسمبر 2025
مع دخول شهر ديسمبر، تبدأ الدوحة وكل مدن...
504
| 10 ديسمبر 2025
-إعمار غزة بين التصريح الصريح والموقف الصحيح -...
414
| 14 ديسمبر 2025
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
تابع الأخبار المحلية والعالمية من خلال تطبيقات الجوال المتاحة على متجر جوجل ومتجر آبل