رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
أحيانًا تختل أجهزة الهاتف أو البوصلة الإلكترونية في إظهار الاتجاه الصحيح، يتوقف السهم عن الإشارة، وتبدو الجهات متداخلة، وكأن الشمال لم يعد شمالًا، في هذه الحالات لا نُغيّر الجهاز، بل نُعيد ضبطه، نحركه بحركات معينة أو نغلقه ونفتحه من جديد، ثم نراقب كيف يستعيد توازنه ويعود ليُرينا الطريق. الإنسان لا يختلف كثيرًا، فمع مرور الوقت، وتراكم الأحداث، يفقد البعض توازنه الداخلي، وينحرف إحساسه بالأشياء، لا يعود يفرّق بين الجميل والعادي، ولا يشعر بالحياة كما كان يفعل من قبل، تمر الأيام أمامه كأنها مشاهد مكررة، بلا طعم، ولا صوت داخلي ينبّه إلى أن هناك شيئًا فقد بريقه. أتذكر صديقًا جلس بجانبي في أحد المقاهي المطلة على البحر، أمسك بفنجان القهوة وقال لي: «كنت أحب طعم القهوة، واليوم أشربها ولا أشعر بشيء… هل اختلفت القهوة، أم اختلفت أنا؟»، ثم صمت قليلًا، فكان صمته أثقل من سؤاله، لم أملك إجابة مباشرة، لكني شعرت أنه يعبّر عما نعانيه جميعًا، فمع مرور الأيام، وتراكم التجارب، تتبلد مشاعرنا وتبهت نكهة الحياة في حواسنا، كان سؤاله صادقًا، لكنه لم يكن عن القهوة، بل عن الإحساس، عن تلك المسافة التي نشأت بيننا وبين الحياة دون أن نشعر بها. كثيرون يعيشون هذا الفراغ دون أن يسموه، لا يشكون ألمًا محددًا، لكنهم يعلمون في قرارة أنفسهم أن شيئًا ما قد تغير في حياتهم، في أحاديثهم، في استجاباتهم وردود أفعالهم، في قدرتهم على الفرح، في صبرهم على من يحبون. ثم يأتي حدث كبير، مرض أو فقد، أو نجاة من خطر، فيغيّر الصورة كلها، ليبدأ الإنسان فجأة في النظر إلى الأشياء بطريقة مختلفة، يعود يتذوق ما نسي طعمه، ويُدهش مما كان يمر عليه دون انتباه، ويعيد ترتيب أولوياته كما لو أنه أُعطي فرصة ثانية ليفهم نفسه من جديد. لكن هل ننتظر المأساة حتى نستيقظ؟ ليس بالضرورة، أحيانًا تكفي جلسة صافية مع النفس، عزلة قصيرة، أو سجدة صادقة، أو سفر مفاجئ يعيد توازن البوصلة، كل ما نحتاجه هو أن نقرّر التوقف عن الانجرار خلف كل ما يسحبنا من الحياة دون وعي. ربما لا نحتاج دائمًا إلى تغيير جذري لنشعر بالحياة من جديد، وإنما إلى إعادة اتصال بما هو بسيط وأصيل فينا، لحظة سكون نعيد فيها الإنصات لما يجري داخلنا، ونمنح أنفسنا فرصة للانتباه لما تجاهلناه طويلًا، قد يكون ذلك عبر صلة الأرحام، أو زيارة لمريض، أو إحسان لضعيف، أو حديث هادئ مع صديق صادق، أو خلوة قصيرة في مكان نحبه، أو حتى قرار صغير نؤجله منذ زمن، المهم أن نمنح أنفسنا هذه الوقفة، لا لنبتعد عن الحياة، بل لنعود إليها بقلب أصفى، وعين ترى، وروح تشتاق أن تعيش بصدق.
648
| 06 أغسطس 2025
في البداية، كانت التكنولوجيا مجرد أداة تسهّل المهام، ثم أصبحت تقترح، ثم تتوقّع، ثم تكتب، ثم تفكّر عنّا، ومع كل خطوة جديدة في مسار الذكاء الاصطناعي، نتراجع خطوة من مهاراتنا الإنسانية في التحليل، في المقارنة، في التخيّل، في الصبر، وفي القدرة على التعامل مع المجهول، لم نعد نحفظ الأرقام، لأن الهاتف يتذكّرها، ولم نعد نعرف الاتجاهات، لأن الخريطة تتحدث، لم نعد ننتظر الفكرة، لأن «الروبوت» يقدّم لنا عشرات أفكار بدلاً منها، وهكذا تتآكل الذاكرة، ويضعف الحسّ، وتخبو شرارة الاكتشاف. لقد عُهد الإنسان يكتب بيده، ويفكر بعقله، ويتأمل بعينيه، ويقرّر بقلبه، ثم دخلت الآلة فساعدته، ثم تطورت فسبقته، ثم تقدّمت فحلّت محلّه، ثم وقفت أمامه تقول: «دعني أفكّر عنك. فأنا أسرع، أدق، وأقلّ خطأً، وبدأ الإنسان يُسلّم شيئًا فشيئًا مفاتيح نفسه. قبل أيام، سمعت قصة لطالب جامعي طُلب منه إنجاز بحث بسيط، لم تكن المشكلة في ضيق الوقت، بل في غياب المهارة، فاستعان بالذكاء الاصطناعي ليكتب له البحث، وخشية أن يكتشف أستاذه أن «الآلة» هي الكاتبة، أدخل النص في برنامج آخر، يحوّل الأسلوب إلى ما يشبه «الكتابة البشرية»، فكانت النتيجة: آلة كتبت، وآلة أخفت أثر الآلة. والطالب اكتفى بالنسخ والتسليم، الطريف والمُحزن في آن واحد هو أن هذا البحث حصل على «الترتيب الثاني» في إجمالي البحوث المقدّمة من الطلاب. الخطر ليس في الذكاء الاصطناعي نفسه، بل في كسلنا المتزايد تجاه التفكير، في تسليمنا العميق بأن هناك من «يعرف أفضل»، ومن «يُنتج أسرع»، ومن «يُقنع أكثر». وكأننا نقول للعقل: ارتَح، فقد جاءت الآلة لتحلّ محلك، لكن السؤال الأخطر: إذا اختفى القلم من بين أيدينا، فهل ستبقى اللغة حيّة؟، وإذا لم نعد نحلل، ونقارن، ونستنبط، ونُخطئ ونتعلّم، فماذا يبقى من إنسانيتنا؟ لا أحد يدعو إلى كسر الآلة أو التراجع عن التقدم، فالذكاء الاصطناعي أصبح مسار عالمي لا يمكن وقفه، ولكن نريد أن نصاحبه دون أن نذوب فيه، نريد أن نُمسك بزمام الأداة لا أن نمشي في ظلّها، أن نستخدم الذكاء الاصطناعي ليُوسّع مداركنا لا ليُعطلها، وأن نحافظ على المهارات التي بُنيت عبر قرون من التراكم الإنساني، نريد أن نفكّر ولو ببطء، لأن أن الفكرة التي وُلدت من قلقٍ وتأمّل. ليست كالفكرة التي اقترحها علينا روبوت مطمئن وسريع. نحن بحاجة أن نُعيد تدريب أنفسنا على بعض المهارات المنسيّة، أن نكتب، لأن القلم يدرب الوعي، وأن نحفظ، لأن العقل بلا ذاكرة يصبح شاشة عرض لا أكثر، وأن نتخيل، لأننا نملك أحلامًا لا تستوعبها الخوارزميات إحساسًا وروحًا، وبالإمكان أن يتجسد ذلك في الطفل الذي يُمسك القلم في المدرسة، وفي الطالب الذي يُطلب منه أن يبحث ويُحلل لا أن يَنسخ، وفي الكاتب الذي يرفض أن يُملي عليه أحد أفكاره، حتى وإن كان برنامجًا يفهم اللغة ويُتقن الأسلوب. وهذا المقال نفسه، وإن كُتب بمساعدة أدوات الذكاء، فإنه لم يولد من شاشة، بل من سؤالٍ حيّ، يسكن قلب كاتب لم يسلم القلم. بل جرّب به طريقًا جديدًا، دون أن يترك قبضته.
579
| 30 يوليو 2025
في إحدى ليالي الصيف، دوّى صوت الإنذار في المبنى الرئيس للشركة، هرع الجميع يبحث عن مصدر الحريق، فيما كان المدير، كما اعتاد، أول الواصلين يحمل خرطوم الإطفاء بيد والهاتف بيدٍ أخرى، يصرخ بالتعليمات في كل اتجاه، نجح في السيطرة على الأزمة، لكنه خرج من المبنى مُبللًا بالعرق والدخان، محاطًا بنظرات الإعجاب الممزوجة بالشفقة، وفي تلك اللحظة، همس أحد الموظفين: «إلى متى سنظل ننتظر حتى تشتعل الحرائق ليتحرك كل شيء؟» كانت تلك اللحظة فاصلة؛ أدرك المدير أن مهارته في إطفاء الحرائق لم تمنع اندلاعها، وأن مؤسسته تعيش في دوامة الأزمات التي تأكل طاقتها يومًا بعد يوم، عندها قرر أن يتحول من مدير إطفائي إلى مهندس بنّاء، يبني أنظمة تمنع الحريق بدلًا من ملاحقته. كثير من المديرين يحبون أن يُوصفوا بأنهم «حلّالون للمشكلات»، يتدخلون بسرعة، يُطفئون الأزمات، يواجهون كل طارئ، ولعل أكثر ما يُسمع عن بعضهم: «فلان لا ينام، دائمًا في قلب الحدث»، ولكن هل هذا مديح أم إنذار؟ وهل المدير الناجح هو من يطارد الحريق... أم من يمنعه قبل أن يبدأ؟ في الإدارة الحديثة، يُنظر إلى المدير «الإطفائي» على أنه علامة خلل هيكلي في المؤسسة، فالإدارة ليست سلسلة أزمات متلاحقة، بل منظومة توقع وتخطيط وبناء، والمدير الحقيقي ليس من يمسك خرطوم الماء، بل من يرسم خريطة الوقاية، ويمنع اشتعال النار أصلًا. المدير الإطفائي يعمل بردّ الفعل، ويفتخر بسرعة الاستجابة، لكنه في الحقيقة غارق في التفاصيل، مرهق متشتت ومحدود في الأفق، أما المدير البنّاء فهو من يملك الوقت للتفكير، ويملك الفريق للتنفيذ، ويملك النظام الذي يعمل حتى في غيابه. المؤسسة التي تعتمد على قائد واحد لإطفاء الأزمات، هي مؤسسة هشّة، لأن استقرارها مرهون بحضور هذا الشخص فقط، أما المؤسسة التي تُدار وفق أنظمة ذكية، وخطط بديلة، وفريقٍ واعٍ، فهي مؤسسة تعيش وتزدهر... بغضّ النظر عمن يقودها اليوم. المدير البنّاء يهتم بـتطوير الأنظمة لا معالجة الثغرات، وتمكين الفريق لا الاستئثار بالحل، وتوثيق الإجراءات لا ارتجال القرارات، وبناء ثقافة مؤسسية تتعامل مع المسببات قبل النتائج. وفي المقابل، يتنقل المدير الإطفائي من أزمة إلى أخرى، فهو في سباق مع الوقت، يربط قيمته الشخصية بكثرة المهام لا بجودة الأثر، يصنع مؤسسات تعتمد عليه لا تنمو من بعده. التحول من الإطفاء إلى البناء ليس سهلاً، ويبدأ أولًا بإعادة تعريف النجاح، فالنجاح ليس في «التدخل المستمر»، بل في «الغياب الآمن»، المدير الناجح هو من يجعل وجوده مهمًّا، لكن غير ضروري كل لحظة. ولنتذكر دائمًا أن البطل الحقيقي في الإدارة ليس من يظهر في كل مشهد، بل من يختفي أحيانًا... لأن كل شيء يسير كما يجب.
813
| 23 يوليو 2025
في حياتنا اليومية، لا نتوقف عن تشكيل تصورات حول الناس، والمواقف، والسياسات، والقرارات، نعتمد في ذلك على معلومات قد تكون ناقصة، أو مشوشة، أو محكومة بخلفياتنا وتجاربنا الشخصية، وهذا أمر طبيعي؛ فالعقل لا يعمل في فراغ، بل يسعى إلى تفسير الواقع عبر ما يتاح له من معطيات، لكن المعضلة تبدأ حين يتعامل البعض مع “التصور” وكأنه “نتيجة”، فيبني عليه أحكامًا نهائية، ويخوض معارك كلامية لا هوادة فيها، بل وقد يصل إلى التشنج والانفعال، وكأن ما يتصوره هو الحقيقة المطلقة التي لا تحتمل الشك. كم من مرة شهدنا نقاشًا يشتعل بين طرفين، لا لأن أحدهما يملك الحقيقة والآخر ينكرها، بل لأن كل طرف يرى أن تصوره للموضوع هو الواقع بعينه، مع أن الحقيقة في كثير من الأحيان لم تتكشف بعد، أو قد تكون أوسع من تصورات الطرفين معًا، فالتصور، بطبيعته، مبني على زاوية نظر، على معطى جزئي، على تحليل شخصي، وقد يكون مفيدًا كمنطلق للحوار أو لتوقع النتائج، لكنه لا يرقى إلى مرتبة الحكم القطعي، أما النتيجة، فهي المحصلة النهائية التي تأتي بعد اكتمال الصورة، وبعد اختبار الفرضيات، وتوفر الأدلة، ومرور الزمن الكافي للحكم. وهناك من يخوض النقاش مسلحًا بما جمعه من معلومات وأخبار، يكررها كما وردت إليه دون تمحيص أو تحليل، معتقدًا أن مجرد نقل ما قيل أو نُشر يكفي لبناء رأي أو إثبات موقف. لكنه يغفل أن الأخبار سواء نُقلت بموضوعية أو انحياز تظل مادة خام لا ترقى إلى مستوى الرأي أو التحليل، فالإعلام ينقل ما يحدث، لكنه لا يمنح بالضرورة فهمًا لما وراء الحدث، والمعلومة مهما كانت دقيقة تبقى معزولة ما لم تُفهم في سياقها وتُقارب برؤية نقدية. والأسوأ من ذلك، أن بعض المشاركين في النقاش لا يملكون رؤية تحليلية أو منطقًا خاصًا بهم، بل يدفعون بكل ما لديهم من معلومات سمعوها أو قرأوها، دون تمحيص أو إعادة تفكير، هؤلاء لا يضيفون بصمتهم الفكرية أو زاويتهم الخاصة، بل يكتفون بترديد ما يُقال فيغيب الاجتهاد، ويضعف الحوار، ويتحول النقاش إلى استعراض محفوظات، لا إلى تفكير حيّ ونقدي. حين لا نفرّق بين التصور والنتيجة، فإننا نقع في فخ التعصب للرأي، ونغلق أبواب النقاش العقلاني، ونحول الحوارات إلى صراعات، والأسوأ أن بعض الناس يستميتون في الدفاع عن تصوراتهم، وكأنهم ربطوا كرامتهم ومكانتهم بها، لذلك علينا أن نُعيد تأهيل وعي الناس على هذه الحقيقة البسيطة، أن نختلف في تصوراتنا أمر طبيعي، لكن تحويل التصور إلى نتيجة حتمية دون برهان، هو مجازفة فكرية. إن الاعتراف بحدود معرفتنا هو أول الطريق نحو فهم أعمق وأهدأ للنقاش، وإذا كنا صادقين في سعينا للحقيقة، فلنتواضع أمام ما لا نعرفه، ولنمنح أنفسنا والآخرين فرصة أن نكون مخطئين… أو على الأقل غير متأكدين بعد، وفي ذلك يقول الإمام الشافعي: «رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب».
900
| 16 يوليو 2025
في منطقة تتقاطع فيها النزاعات، وتتشابك فيها التحالفات والمصالح، تبرز قطر بوصفها نموذجًا مختلفًا؛ دولةٌ واضحةٌ في رؤيتها، ثابتةٌ في خطواتها، ومبهرةٌ في إنجازاتها، لا تكتفي بردّ الفعل، بل تصنع أثرًا يتجاوز حدودها. لقد فهمت قطر مبكرًا أن التحدي الحقيقي ليس في تجاوز الآخرين، بل في تجاوز الذات، لذا صاغت مشروعها على قاعدة صلبة ترتكز على بناء الإنسان، وتمكين الدولة، وصناعة الدور، لم تدخل سباقًا عبثيًا نحو الزعامة، لكنها دخلت سباقًا أعمق نحو الجدارة والاحترام العالمي. ما أنجزته قطر خلال العقدين الماضيين لم يكن مجرد تطور عمراني أو استضافة استثنائية لأحداث عالمية، بل كان مشروعًا حضاريًا متكاملًا حيث التعليمٌ بمعايير عالمية، والخدمات الصحية عالية الجودة، تخطيط مدني مدروس، اقتصاد متنوع، وشبكات تأثير ناعمة تمتد من الإعلام إلى الدبلوماسية، ومن الرياضة إلى التعليم. بنت قطر علاقاتها الإقليمية والدولية بميزان دقيق من التوازن، واختارت أن تكون منصةً للحوار لا ساحةً للصراع، لا ترفع صوتها في زمن الضجيج، لكنها تُسمع عندما يتكلم العقلاء، وفي اللحظات الحساسة، حين تختلط الأوراق وتحتدم الصراعات، أظهرت قطر أداءً استثنائيًا في ضبط النفس، وحكمة في إدارة المواقف، وفعالية في التحرك الدبلوماسي، وقد بات من المعتاد أن تتجه الأنظار نحوها عندما تستعصي الحلول، أو تتعثر المفاوضات. لكن جوهر التجربة القطرية لا يكمن في البنى ولا في المؤسسات وحدها، بل في الإنسان القطري الذي أصبح محور الرؤية وأداتها، فالدولة استثمرت في وعي المواطن، وثقافته، وتعليمه، وأتاحت له الانفتاح على العالم دون أن يتخلى عن هويته، فكان هذا الإنسان هو الثروة الحقيقية، وهو الحارس الأول لمشروع الدولة. ولأن قطر تفكر بعقل الأمة، فهي لا تنكفئ على ذاتها، بل تتحرك إنسانيًا حيث الحاجة، ففي أماكن الصراعات والكوارث الطبيعية، كانت اليد القطرية ممتدة دائمًا بالإغاثة والدعم، وتلك فلسفة أخلاقية وموقفًا استراتيجيًا يرسّخ صورة الدولة المسؤولة، وهذا النهج لم يكن وليد أزمة أو ظرف طارئ، بل ثمرة رؤية استراتيجية بعيدة المدى، وتراكم مستمر في بناء الثقة مع محيطها الإقليمي والدولي.
801
| 09 يوليو 2025
في قلب شبه القارة الهندية، وقبل أن يرفرف فوقها علم التاج البريطاني، لم تكن البلاد كما نعرفها اليوم، لم تكن دولة واحدة، بل رقعة هائلة من الممالك والسلطنات المتنافسة، لكل مملكة سلطانها، وجيشها، وتحالفاتها، وأوهامها الخاصة بالقوة والخصوصية، كانت تلك الممالك غنية، تتدفق فيها التجارة، وتزدهر بالذهب والبهارات والمنسوجات، لكن ما لم يكن حاضرًا هو الوحدة، وكان القادم من وراء البحار لا يستعجل، يراقب من بعيد، ثم يقترب من خلال البوابة الأضعف. دخلت شركة الهند الشرقية أولًا كتاجر، ثم كمفاوض، ثم كحاكم غير مُعلن، لم تكن البندقية أول ما حملته، بل كانت العقود والامتيازات، واتخذت الشركة موطئ قدم في المدن الساحلية، عبر اتفاقيات بدت متوازنة، لكنها كانت تُنسج بخيوط السيطرة، فبدأت تملي الشروط، ثم تدخل في تعيين الحكّام، ثم صارت تصنع الملوك وتخلعهم، وكما كتب المؤرخ البريطاني ويليام دالمبلي: "إنها أغرب قصة استيلاء قامت بها شركة في التاريخ". بعض الممالك استعانت بها لتصفية خلافات محلية، وبعضها سلّم مفاتيحه مقابل حماية أو امتياز اقتصادي، والغريب أن الجميع كان يرى جاره يسقط، لكنه يظن أنه أذكى، وأنه سيعرف كيف يروض النار دون أن تحرقه، الهزيمة لم تكن عسكرية بحتة، بل كانت ثقافية وإدارية، تبدلت اللغات في المحاكم، وتغيّرت القوانين، وصار القرار يُصاغ في لندن لا في دلهي، وكما وصف أحد دبلوماسيي البلاط المغولي في القرن الثامن عشر: "أي مجد تبقّى لنا، إذا كنا نأخذ الأوامر من حفنة من التجار الذين لم يتعلموا بعد كيف يغسلون أنفسهم؟". السقوط جاء على مراحل، كل مرحلة تُمهد لما بعدها، لم يُكسر الباب، بل فُتح من الداخل، بأيدي من ظنوا أنهم يملكون الخيوط، وتُقرأ هذه القصة اليوم على أنها حكاية عن الهند، لكنها في حقيقتها، وصف دقيق لما يحدث حين تُستبدل الحكمة بالحسابات الضيقة، والوعي الجماعي بالمكاسب المؤقتة، ويُستقبل القادم من الخارج كمنقذ لا كمستعمر متنكر، إنها ليست قصة عن مكان، بل عن نمط متكرر من السقوط… متى فُتحت له الأبواب.
843
| 02 يوليو 2025
في عالمٍ يفيض بالمعلومات، لا يكمن التحدي في الكَمّ، بل في الكيف، فغياب المنطق عن التحليل، سواء في حال شُحّ المعطيات أو وفرتها، يُفضي إلى الضلال في الفهم، والانحراف في التقدير، المنطق ليس ترفًا عقليًا، بل أداة أساسية لتفسير الوقائع، وربط الأحداث، واستخلاص النتائج. في السياسة، كما في العلوم، يُشكل المنطق السراج الذي يضيء لنا الظلمة، وعندما تغيب الحقائق، أو تتعرض للتشويش، لا بد من إعمال الفكر وربط التفاصيل وطرح الأسئلة الصائب، وهنا يصبح المنطق بديلاً عن المعلومة المفقودة، بل وسيلة لتحويل المعلومات المتاحة إلى رؤية متماسكة. ولعلّ أبلغ ما يشهد على مركزية المنطق في الفهم، هو قول الله تعالى:(وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ ٱلأَمْنِ أَوِ ٱلْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى ٱلرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُوْلِي ٱلأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ ٱلَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ)، فالآية تُحذر من التسرع في إذاعة الأخبار، وتدعو إلى إرجاعها إلى أهل الاستنباط أي الفهم الدقيق والاستنتاج العميق وهو جوهر المنطق في الإسلام، فالاستنباط لا يعني النقل، بل إدراك العواقب واستنتاج الحقائق من القرائن. وفي المشهد العربي، تتجلى أهمية المنطق في مواضع شتى، خذ مثلاً الموقف من إيران؛ فبعض الخطابات تختزلها في «خطر طائفي»، بينما يغيب السؤال الجوهري: هل تتحرك إيران بدافع مذهبي محض؟ أم أنها تدير مشروعًا جيوسياسيًا متماسكًا؟ المنطق يغيب عندما يتم تجاهل البعد الاستراتيجي، لصالح قراءة عاطفية أو غريزية للمشهد. وفي الحرب الأخيرة على غزة، رأى البعض أن تدمير البنية التحتية دليل على «هزيمة المقاومة»، بينما العقل المنطقي يسأل: هل فشل الاحتلال في فرض الاستسلام؟ هل تغيرت قواعد الاشتباك؟ لقد كشفت المقاومة عن قدرة على الصمود والتأثير، رغم الكلفة الباهظة، وهو ما لا يمكن فهمه إلا عبر منظور استراتيجي، لا عاطفي. أما في ملف التطبيع مع الكيان الصهيوني، فالمبررات التي تُطرح باسم «المصلحة الوطنية» تفتقر إلى اختبار منطقي بسيط: ما هي المصلحة في التخلي عن ورقة ضغط دون مقابل؟ هل يمكن الوثوق بشريك يواصل احتلاله وعدوانه دون توقف؟ المنطق هنا يغيب أمام خطابٍ ديبلوماسي يُخفي خضوعًا سياسيًا. وفي الملفين السوري والليبي، تتعدد التحليلات بتعدد الانحيازات، دون مساءلة نزيهة لأهداف التدخلات الأجنبية: لماذا تُرحب قوى معينة بتدخلات وتدين أخرى؟ من المستفيد من الفوضى؟ ومن يسعى لاستقرار فعلي؟ دون أدوات تحليل عقلانية، تتحول المواقف إلى شعارات متضاربة لا رؤية موحدة وراءها. إن المنطق هو البوصلة التي لا يستغني عنها العقل، سواء أكان في صحراء الجهل أو غابة المعلومات المتشابكة، وإذا أردنا إصلاح التحليل في إعلامنا وخطابنا السياسي، فلنبدأ بتعليم مهارة الاستنباط، وتربية الحس النقدي، وزرع ثقافة التفكير… قبل أن نطلب المزيد من المعلومات.
981
| 25 يونيو 2025
في الشرق الأوسط، حيث يتقاطع التاريخ والجغرافيا على أعتاب الإرث الإنساني العظيم، ومهبط الرسالات، ومبعث الأنبياء، ومنطلق الحضارات الإنسانية، ووفرة الثروات الطبيعية، أرض المشاريع الكبرى التي ارتقت بالمجتمعات الإنسانية، يقف العرب اليوم على رصيفٍ طويلٍ بلا مشروع، رصيف لا يأتيه قطار، نعم... اثنتان وعشرون دولة موزعة كالمحطات من المحيط إلى الخليج بلا سكة حديد واحة تربط بعضها ببعض، ولا إرادة تصيغ المصير المشترك. في قلب المشهد، لا تزال فلسطين تنزف، والاحتلال الإسرائيلي يمضي في مشروعه الاستيطاني بلا كوابح، ودولٌ عربية تلملم شتاتها وأخرى غارقة في تجاذبات واستقطابات لا تقيم لمصلحة الوطن وزنًا، فيما الحرب قد أطلت برأسها من جديد على مياه الخليج العربي الذي لا تزال أمواجه مضطربة منذ قرن من الزمان، فالعالم يعيد ترتيب خرائطه حسب أولوياته ومشاريعه، والجبهات تُرسم بلغة المصالح، والكتل الإقليمية تتماسك... إلا الكتلة العربية التي تعيش حالة من التشرذم السياسي في زمن التحالفات العابرة للقارات، فهي تكتفي بردود الفعل الخجولة، وتجتهد قدر الإمكان بتزييف وجهها المهترئ عبر مساحيق الإعلام الصفراء. أصبحت الجيرة عبئًا، والانتماء العربي تهمةً فضلًا عن الانتماء الإسلامي، لسنا كشعوب عربية ولا كمسلمين دعاة حرب، بل نحن دعاة سلام مبنيّ على الاحترام المتبادل، نتوق إلى وحدة حقيقية تفرضها طبيعة المصير المشترك الذي يجمع شعوب هذه المنطقة، فالوحدة التي ننشدها لا تنطلق من أوهام الشعارات، بل من واقعٍ ممتدّ من طنجة إلى مسقط، ومن صنعاء إلى الشام، إن بيننا من المشتركات ما يكفي لبناء علاقات راسخة، وما أكثر ما يمكن تحقيقه إذا ما أُجّلت الخلافات، ورُكّز على ما يجمع لا ما يفرّق، لن نواجه التحديات الخارجية بفاعلية، ولن نحظى باحترام القوى الكبرى، ما دامت قراراتنا تُمرّر تحت الضغوط، إن الكتلة العربية المنشودة لا يُكتب لها البقاء إن قامت على القوة الصلبة وحدها، بل تبدأ بالقوى الناعمة وتنضج بالتكامل، وصولًا إلى صيغة وحدة تحفظ المصالح وتُعيد للأمة وزنها ومكانتها. لقد آن الأوان أن ننتقل من موقع المتفرج إلى موقع الفاعل، أن نعيد تعريف «القوة العربية» ليس من باب العسكرة والتنسيق الأمني فحسب، بل من بوابة التنسيق السياسي، والتكامل الاقتصادي، والتعليم، والثقافة، والمعرفة، فالعالم لا يحترم من لا يحترم نفسه، ولن تُصان حقوقنا ما دمنا عاجزين عن صناعة موقف مشترك، حتى في قضايانا المصيرية. إن المسؤولية هنا تقع على عاتق القادة العرب أولاً وأخيرًا، فلو اجتمعوا على مشروع، ولو في الحد الأدنى، لبات لنا وزن إقليمي يحسب له ألف حساب، وغير ذلك فإننا سنظل كشعوب عربية في 22 محطة ننتظر على أرصفة الشتات بلا قطار.
1125
| 18 يونيو 2025
منذ الثمانينات، والمجتمعات الخليجية تعبر الجسر نحو عالم مختلف، لكن الجسر ذاته لم يبق كما كان، ولا المياه تحته بقيت صافية أو هادئة، شيء ما عميق قد تبدّل، لا في شكل المدن فقط، بل في نَفْس الإنسان الخليجي، في ملامحه وهمومه، في سلوكه وهويته، وحتى في نظرته للحياة. كانت البدايات بسيطة، فيها شيء من الفطرة، الأحياء متآلفة، الناس يعرف بعضهم بعضًا، الأسر متماسكة، الأدوار الاجتماعية واضحة، ومكانة الكبير محفوظة، ثم جاء زمن الطفرة، وفتحت الأبواب لعالم يتدفق بلا توقف، عالم يختلط فيه البناء العمراني بخلخلة القيم والمألوف، ويتقدّم فيه الإسمنت أسرع من الإنسان. ومع بداية العقد الأخير من الألفية الماضية دخلت الفضائيات، ثم الإنترنت، ثم الهواتف الذكية، فتبدّلت الأذواق وتغيرت المرجعيات، وتراجع تأثير الأسرة والمدرسة، وتقدّمت الشاشات بكل ما فيها من صور ومفاهيم، بعضها جميل، وكثيرها مشوه، أصبح الشاب يتكوّن ذهنيًا من مصادر لا تقيم أي اعتبار لدينه ولغته وهويته. أما المرأة الخليجية فقد تقدّمت خطوات واسعة، تعلمت، ونجحت، وشاركت بجدارة، لكن بقي التحدي قائمًا في تحقيق التوازن الصعب بين عملها في الخارج، ورسالتها داخل بيتها، فالمجتمع لا يزال يطالبها بأن تؤدي كل الأدوار بكفاءة مطلقة، دون أن يهيئ لها الظروف العادلة، فما زال النجاح المهني عند البعض يُنظر إليه كتنازل عن الدور الأسري، وكأنها في موضع اختبار دائم لا ينتهي. وفي المقابل، تواجه مشاريع الزواج تحديات لم تكن موجودة بهذه الحدة، فتأخّر سن الزواج، وارتفعت تكاليفه، وتضاعفت نسب الطلاق، وكأن الرباط الذي كان يومًا ما مقدسًا، أصبح تجربة قابلة لإعادة النظر في مشروعها، وأصبح الكثير من البيوت بلا مرجعية، وبلا دفء، وبلا حوار، وبعضها يعيش تحت سقف واحد، لكن بأرواح متباعدة. أما الشباب، فقد وجدوا أنفسهم في واقع يتطلب منهم أن يكونوا جاهزين لعالم لا يشبهه شيء من حكايات الآباء، ولا في مجتمعاتهم الأصيلة، ولا ثقافتهم التي ورثوها، فقد قفز العالم في المجالات التي تعتمد على التكنولوجيا الحديثة، وهنا لا نتحدث عن عصر الكمبيوتر ولا الاتصالات، تلك القفزة العظيمة كانت في مجال الذكاء الاصطناعي الذي لم نستوعب أبعاده حتى الآن، لقد نزعت تلك القفزة المجتمعات الحديثة من تاريخها وموروثها لتصبح العيون شاخصةً في هذا الوحش التقني القادم من والمتجه إلى المجهول. التحديات لا تقف هنا، فالتركيبة السكانية طرأ عليها الكثير من التغيرات، والهوية أصبحت مُطوّقة بثقافات متعددة، وأصوات كثيرة، ومحاطة بلغات ولهجات وأساليب حياة لا تشبهها. كل ذلك حدث في أقل من ثلاثة عقود، كأننا عشنا قرونًا في عقدين، لقد جرى الكثير من المياه تحت الجسر، ولم تكن كلها عذبة، ولا كلها آسنة، فبعضها كان ضروريًا، وبعضها حمل معه شوائب تحتاج إلى تنقية. إن ما نحتاجه اليوم ليس حنينًا للماضي، ولا هروبًا إلى المستقبل، بل وقفة واعية، نعيد فيها ترتيب أولوياتنا، ونستعيد بها شيئًا من هويتنا، لا لنقف في وجه التغيير، بل لنوجّهه لا أن نستسلم إليه، إن الجسور لا تُبنى كي نتأمل المياه التي تحتها، بل لنصل إلى الضفة التي نريد.
1440
| 11 يونيو 2025
من المفارقات التي تستوجب التوقف عندها والتأمل العميق، أن الزواج – ذلك الرباط المقدّس – يبدو اليوم وكأنه دخل غرفة اختبار لا تهدأ فيها الأسئلة، رغم أننا نعيش في زمن رخاء اقتصادي، تطورت فيه مناهج التعليم، وازدهرت فيه الحريات، وتوسعت مساحات التعبير، وتم تمكين الشباب من الجنسين، وصيغت فيه التشريعات الكفيلة بحفظ حقوق الإنسان والمرأة والطفل، بل وأُنشئت المؤسسات المعنية بشؤون الأسرة وأفراد المجتمع، ومع كل ذلك بات ذلك المشروع وكأنه تجربة هشّة لا تصمد أمام أول صدمة، فهل ما زال الزواج مشروع حياة؟ أم تحول إلى مغامرة عاطفية مؤقتة؟ هل نرغب به حقًا أم نخشاه؟ أم أننا ببساطة فقدنا المعنى الحقيقي للشراكة؟ ولعل ما دفعني للعودة إلى هذا الموضوع هو التفاعل الكبير الذي تلقيته بعد مقالي السابق «هل تغير الناس أم تغير المشهد؟» حيث تواصل معي العديد من القرّاء، يروون تجاربهم الشخصية، أو تجارب من حولهم، حول ما يواجهه الأزواج الجدد من صدمات نفسية، وتحديات يومية، وخيبات توقع لم تكن في الحسبان، جاءت التعليقات محمّلة بأسى مكتوم وأسئلة مؤرقة، وتقاطعت أغلبها عند نقطة مفصلية: أن المشكلة ليست في الزواج نفسه، بل قد تكون في الاستعداد له، أو في المفاهيم المغلوطة التي يحملها البعض عنه، هذه القصص وغيرها أكدت لي أن ما نراه من ارتفاع في نسب الطلاق ليس حالة فردية أو طارئة، بل عرضٌ لمشكلة أعمق تستحق أن تُطرح مجددًا، وأن تُناقش بعمق ومسؤولية. تُظهر الإحصاءات الرسمية في إحدى دول الخليج أن 42% من حالات الطلاق تقع خلال السنة الأولى من الزواج، وترتفع النسبة إلى 58% خلال السنوات الأربع الأولى، ما يعكس هشاشة البدايات وصعوبة التأقلم في المرحلة الأولى من الحياة الزوجية، وتشير دراسة أخرى خليجية إلى أن أكثر من 80% من حالات الطلاق تتم خلال العام الأول، ما يعزز فرضية أن المشكلة بنيوية وتشمل المجتمع الخليجي عمومًا، كما خلصت إحدى الدراسات المتخصصة في شؤون الأسرة إلى أن ما يقارب ثلثي حالات الانفصال تتم قبل أن تُكمل العلاقة الزوجية عامها الأول، مما يطرح تساؤلات جدية حول مدى جاهزية الشباب لهذه الشراكة، وفعالية الخطوبة كمحطة للتحقق من التوافق الحقيقي. ومما يسترعي الانتباه أيضًا، أن نسبة لا يُستهان بها من حالات الانفصال تحدث حتى قبل بدء الحياة الزوجية فعليًا، أي خلال فترة الخطوبة أو بعد عقد القران وقبل الدخول، وتشير بعض التقديرات الأسرية والاجتماعية في المنطقة إلى أن ما بين 15% إلى 20% من حالات الانفصال تقع في هذه المرحلة المبكرة، حيث تتكشف خلافات جوهرية، أو يتراجع أحد الطرفين بعد أن يصطدم الواقع بتوقعات مثالية لم تصمد أمام التجربة. الخطوبة التي يُفترض أن تكون جسرًا للفهم وبناء الثقة – تحولت في كثير من الحالات إلى ساحة استعراض واختبار، كل طرف يراقب الآخر لا ليفهمه، بل ليكتشف عيوبه، فتضيع الطمأنينة، وتغيب الشفافية، ويُبنى القرار على انطباعات سطحية وهشّة لا تصمد أمام تحديات الواقع، ويُعزى ذلك إلى عوامل متعددة، منها ضعف الحوار، وضغوط العائلة، والتسرع في اتخاذ القرار، إلى جانب غياب ثقافة التأهيل النفسي والعاطفي، فضلًا عن تحول فترة الخطوبة إلى مساحة مراقبة وتقييم بدلًا من أن تكون مرحلة بناء ثقة وتفاهم، مما يؤدي أحيانًا إلى كسر العلاقة قبل أن تبدأ فعليًا، ومع ذلك ما زلنا نتعامل مع الزواج في الغالب وكأنه شأن شخصي، لا تهديدًا بنيويًا حقيقيًا لمستقبل الأسرة الخليجية. ومن هنا أرى بأن المسؤولية لم تعد فردية، بل جماعية أو مؤسساتية، إذا صح التعبير، لقد حان الأوان لأن تتحرك الجهات المعنية، وعلى رأسها المؤسسات المعنية بالأسرة، وقطاعات التعليم، والجهات المختصة بالأحوال الشخصية، لتشكيل فريق عمل وطني متعدد التخصصات، مزوّد بأحدث البيانات والدراسات، تكون مهمته الأولى تشخيص دقيق للمشهد، وقراءته من الزوايا النفسية والاجتماعية والاقتصادية، ثم تقديم توصيات عملية، وخطة وطنية شاملة لمواجهة هذه الظاهرة، قبل أن تتحول إلى أزمة يصعب احتواؤها. الزواج ليس صفقة، ولا مخرجًا من وحدة، ولا قفصًا ذهبيًا كما يتصوره البعض، بل هو مشروع مقدس لا يُبنى إلا برغبة صادقة، ونوايا صافية، وقيم ثابتة، فما لم ننقذه اليوم، سنُضطر غدًا لبذل أضعاف الجهد لإنقاذه... إن بقي شيء يمكن إنقاذه.
1089
| 04 يونيو 2025
كان وحده فوق الجبل، يرى أبعد منهم، يسمع ما لا يسمعون، ويشمّ رائحة المطر قبل أن تبرق السماء، نزل إليهم يحمل بشارة الطريق، وحدّثهم عن سهولٍ خضراء خلف الجبال، وعن غدٍ أجمل من اليوم، لكن بعضهم التفت إلى جهات أخرى، وبعضهم خاف من الفكرة ذاتها، أما أكثرهم فقد استمروا في ما اعتادوه... بناء الحواجز لا الجسور، والحفاظ على ما يعرفونه لا السعي نحو ما يمكن أن يكون. في أمتنا، قد لا تكون المعضلة في غياب القادة، بل في غياب من يستوعب مشروع القيادة، كم من قائد حمل رؤية متقدمة، ونية صادقة، وخطة عملية، ثم تراجع أو أُقصي لأنه لم يجد من يسير معه، أو من يحمل الفكرة حين تتكاثر التحديات وتتأخر النتائج، فالأفكار وحدها لا تكفي، ما لم تجد من يؤمن بها، ويضحي من أجلها. وقد أشار المفكر مالك بن نبي إلى هذا الخلل حين قال: "مشكلة العالم الإسلامي ليست في نقص الموارد، ولكن في غياب الإنسان الفاعل"، وربما كان هذا الإنسان الغائب هو ذاته الذي تنتظره الفكرة، وتحتاجه النهضة، ولا تنهض بدونه القيادة. في بعض البيئات تُكرَّس فيها الرمزية أكثر من الفاعلية، ويُحتفى بالشخص أكثر من المشروع، حتى يختلط الزعيم الحقيقي بمن صُنع على عجل، فيضيع التمييز، وتضيع البوصلة، أما القائد الذي يرى ويصبر ويعمل، فقد يبقى طويلاً وحيدًا، أو محاطًا بمن لا يؤمنون بما يؤمن، ولا يشاركونه الهمّ، ولا يتقنون لغة البناء. وقد كتب الدكتور غازي القصيبي، رحمه الله: "القيادة ليست أن ترغم الناس على الفعل، بل أن تجعلهم راغبين فيه"، وهذه الرغبة الجمعية هي المفتاح الحقيقي لكل تغيير، لكنها لا تتكون في الفراغ، بل في بيئة تُربي على المشاركة، وتحترم المبادرة، وتُعلّم الناس أن يكونوا جزءًا من الطريق لا مجرد شهود عليه. ما أحوجنا اليوم إلى مجتمعات تُنجب القادة، لكنها في الوقت ذاته، تعرف كيف تُمهد الطريق أمامهم، وتكون جزءًا من مشروعهم، لا عبئًا على ظهورهم، فالمسؤولية لا تبدأ من القمة، بل من القاعدة الصلبة التي تؤمن أن البناء لا يتحقق بالأماني ولا بالخطب، بل بالجهد اليومي الصادق، والعمل الذي يتراكم. ربما آن الأوان لنسأل أنفسنا بصدق: هل نبحث عن من يقودنا إلى برّ الأمان؟، أم عن من نعلّق عليه إخفاقاتنا؟ هل نريد قائدًا يحمل عنا الأثقال؟، أم نريد أن نكون جزءًا من المسير؟ بين قائد بلا أتباع، وأمة تنتظر من ينهض بها، تضيع أحيانًا فرصة التاريخ.
774
| 28 مايو 2025
في زحمة التحولات الاجتماعية وسرعة الإيقاع العصري، يبرز الزواج كمرآة صادقة تعكس عمق التغيّر في مفاهيمنا وقيمنا وتوقعاتنا من الحياة والشراكة. لم يعد السؤال عن الزواج محصورًا في “متى؟” و”من؟”، بل امتد ليشمل “لماذا؟” و”إلى أين؟”. في هذا المقال محاولة للتأمل في هذا التحوّل، وفهم أسبابه وتجلياته، واستيعاب ما استجد في معادلةٍ كانت يومًا ما بسيطة، وأصبحت اليوم أكثر تعقيدًا. فالزواج ليس مجرد عقدٍ بين شخصين، بل انعكاسٌ عميق لتحولات المجتمع، وتعبيرٌ دقيق عن رؤيته للحياة والعلاقات، والدور بين الرجل والمرأة، فما بين زمنٍ كان فيه الزواج نافذةً إلى أملٍ أوسع، ومساحةً للعبور من الضيق إلى الرحابة، وبين زمنٍ تداخلت فيه الوفرة مع التردد، وارتبكت فيه القلوب رغم اتساع الخيارات. تتغيّر الحكايات وتبقى الأسئلة معلّقة، هل تغيّر الناس حقًا؟ أم أن ما تغيّر هو الإحساس بقيمة الأشياء حين باتت ميسّرة؟ قبل ثلاثة عقود أو أكثر، كانت الفتاة ترى في الزواج بابًا مشرعًا إلى عالم أوسع من عالمها الضيق في بيت أسرتها الصغيرة، كانت معظم البيوت متواضعةً ودخل الأسرة محدودًا، وأحيانًا كانت الأسرة تقتسم غرفتين لا غير، حينها كان الزواج بمثابة ترقية اجتماعية واقتصادية، تنتقل فيه الفتاة إلى بيتٍ جديد، وزوجٍ ينفق عليها وحدها، فتشعر بأنها أصبحت ذات شأن، لذا كانت تتشبث بالخاطب، وتغضّ الطرف عن كثير من العيوب، وترى في الزواج حلمًا يستحق التضحية، وأن يُصان مهما كان الثمن، وفي المقابل كان الزوج يقدر ذلك ويشعر بقدسية العلاقة الممتدة بين الأسرتين ويتغاضى عن صغائر الأمور مقابل أن يحافظ على كيان أسرته وسعادتها. أما اليوم، فقد تغيّر المشهد تمامًا، فلم تعد الفتاة تنتظر الزواج لتحظى بالفيلا الفاخرة والسيارة الفارهة والسفر والخدم والحشم، فهي في الغالب تسكن في فيلا أشبه بالقصر، وعندها كل وسائل الراحة، وربما تعمل وتتقاضى راتبًا لا يقل عن دخل الزوج، لذا لم يعد الزواج خلاصًا لها من حياة صعبة كما كان، بل ربما تنظر إليه على أنه بداية مسؤولية جديدة، وربما تقييد لحريتها، وهنا تصاب بالتردد والخوف، فإذا وافقت ففي الغالب بضغط من الأسرة واستجابةً لنظرة المجتمع، وذلك ينطبق على الرجل أيضًا، من هنا، ينبغي على الجميع إدراك هذا التغيّر الجوهري في المعادلة، وإدراك المعطيات الجديدة في المشهد الاجتماعي، والتعامل معها بحكمة وواقعية أكثر، وعلى الرجل أن يعلم أنه لم تعد وعود الاستقرار والرفاهية كافية وحدها لكسب قلب المرأة، هي بحاجة بأن تشعر بالأمان النفسي والاحترام، والشراكة لا التبعية، وأن فترة الخطوبة لم تعد مرحلة لإثبات ذات الرجل، ولا هي فترة للتحقيق والتقصي واصطياد الأخطاء من الجانبين، أو الوقوف عند الفروقات بين قناعاته وقناعاتها، أو وضع النقاط على الحروف، فكل تلك الفروقات في الغالب ستذوب وتتلاشى مع الوقت، إن فترة الخطوبة فرصة لإثبات النضج والقدرة على الحوار وتفهم الآخر، وإرسال رسائل الطمأنينة والإيجابية وسعة الأفق. كما ينبغي على الأسر أن تراجع نظرتها التقليدية للزواج، وألّا تضغط على أبنائها لدخول علاقات بلا قناعة، فالقبول المشروط أو المتردد لا يصمد طويلًا أمام أول هزة، فالزواج في جوهره ليس صفقة للهرب من واقع ولا قفصًا مذهبًا يُحبس فيه أحد، بل هو وطنٌ صغير، لا يُبنى إلا برغبة حقيقية من الطرفين في البقاء فيه طوعًا وصيانة أركانه.
807
| 21 مايو 2025
مساحة إعلانية
في زمنٍ تتسارع فيه التكنولوجيا وتتصارع فيه المفاهيم،...
6387
| 24 أكتوبر 2025
نعم، أصبحنا نعيش زمنًا يُتاجر فيه بالفكر كما...
6363
| 27 أكتوبر 2025
ليس الفراغ في الأماكن، بل في الأشخاص الذين...
5103
| 20 أكتوبر 2025
لم تكنِ المأساةُ في غزّةَ بعددِ القتلى، بل...
3837
| 21 أكتوبر 2025
تُخلّف بعض اللحظات أثرًا لا يُمحى، لأنها تزرع...
2892
| 23 أكتوبر 2025
يمثل صدور القانون رقم (24) لسنة 2025 في...
2859
| 21 أكتوبر 2025
القضية ليست مجرد غرامات رادعة، بل وعيٌ يُبنى،...
1824
| 23 أكتوبر 2025
جاء لقاء حضرة صاحب السمو الشيخ تميم بن...
1638
| 26 أكتوبر 2025
واكبت التعديلات على مجموعة من أحكام قانون الموارد...
1569
| 21 أكتوبر 2025
لم تعد مراكز الحمية، أو ما يعرف بالـ«دايت...
1086
| 20 أكتوبر 2025
فيما يبحث قطاع التكنولوجيا العالمي عن أسواق جديدة...
996
| 21 أكتوبر 2025
1. الوجه الإيجابي • يعكس النضج وعمق التفكير...
987
| 21 أكتوبر 2025
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
تابع الأخبار المحلية والعالمية من خلال تطبيقات الجوال المتاحة على متجر جوجل ومتجر آبل