رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
في علوم النفس وتحليل السلوك عادةً ما تتم دراسة السلوك الإنساني كمُثير واستجابة، ولكن قد يغفل عامة الناس أن الاستجابات المختلفة يكمن خلفها طيف كبير من التحليل الفكري والشعوري قبل أن يظهر كسلوك مادي ظاهر للعيان. ومن هنا تأتي تربية النفس، والتسامي بالسلوك، فالاستجابة الشعورية لأمر ما يُثير الغضب، مثلاً قد لا تكون الاستجابة له بسلوك غاضب حتماً، لأن هناك عمليات سابقة فكرية وشعورية تجعل الإنسان يستجيب بوعي فيكتم غيظه مثلاً، أو يُسفهه أو حتى يحوله لغضب على أمر آخر.. الخ. إلا أن الجانب المظلم في تلك العملية هو تطوير المرء لأقنعة يرتديها ليحمي بها ذاته من نبذ من حوله، فيتصنع استجابات لا تشبه دواخله، ويُظهر غير ما يُبطن. إلا أنه من اللطيف حقاً أن ندرك أن الإنسان كلٌ متكامل، وهو كونٌ وحده.. هذا الإدراك يخولنّا الفهم أنه من شبه المستحيل أن يفصل المرء بين روحه وجسده وأفكاره وقناعاته، ووجدانه وشعوره.. مهما بلغ جهده في أن يُخفي أو يُحيّد أثر أي منهم على حياته، ومهما بلغت قدرته في ارتداء الأقنعة والتحكم في تفلت سلوكه الظاهر، وكلماته البيّنة. فكل ما تضمره من فكر وشعور وطاقة، وكل ما أنت عليه من حالٍ ومقامٍ سيظهر حتماً عليك.. في مسلكك وكلماتك واختياراتك بل وحتى في حديثك الداخلي مع نفسك وتعاملك مع الآخرين في حضورهم وغيابهم، وبالتالي في فلتات لسانك وزلات قلمك ولغة جسدك وتعابير وجهك. فلن تستطيع أن تكتم حباً، أو تُضمر كرهاً، دون أن يتبّدى على ظاهرك وحديث أعضائك، فللعيون حديثها المفضوح، وللقلوب شواهدها البيّنة. وكما قيل: (ما أضمرَ أَحدٌ شيئًا إلا ظهر في فلتات لسانه، وصفحاتِ وجهه). ولذا فمن الحكمة أن نعي حقيقة أن الناس (سيماهم في وجوههم) فعلاً لا مجازاً، وأن اعتياد روح المرء ونفسه وعقله وجسده على التفاعل مع دواخله وما يضمر سيظهر حتماً على ظاهر جسده وأفعاله وأقواله كخريطة تدل على ما يكنّ وما يضمر.. بقصدٍ أو بدونه. وكل ذلك إنما يخلق وعياً متزايداً بأنفسنا، وإدراكاً عميقاً لفهم الآخرين حتى لو لم يصرحوّا بظواهر سلوكهم وأقوالهم، فتلك التفاصيل تخلق ذكاءً عاطفياً، وفراسة تخترق حجب الظواهر، وسواتر المُعلن، وتجعل تعاملاتنا الإنسانية أكثر سبراً للأغوار النفسية والفكرية المتداخلة، ومن هنا يكمن ارتقاء آخر بعدم الميل إلى سرعة إطلاق الأحكام أو التسرّع في رفع راية العداوات، بل الأولى أن يكون ذلك الإدراك حاثاً على التراحم وتلّمس الأعذار، وتفهّم اختلاف الطبائع، والمرونة للتعامل مع مختلف أطياف البشر، ولزيادة الألفة والمحبة واتقاء شر كل ذي شر بالحكمة وحسن التصّرف. لحظة إدراك التعامل مع الإنسان ككل متكامل يجعل نظرتنا إليه واقعية من طبيعة بشرّيته، ويقلل من صدمة بناء التوقعات غير الحقيقية، وهذا من المفترض أن يجعلنا أكثر تفهمّاً، أكثر رحمة، أكثر تقديراً وتثميناً ومرونةً مما يؤهل الإنسان للتعبير بحرية أكبر عن إنسانيته، وبانطلاق يشبه حقيقته وفرديته، وتتقلص حاجته مع الوقت لارتداء أقنعته التي لا يرتديها إلا ليواري ما يعتقد مجتمعه أنها سوءات لا تليق به.
1725
| 29 أغسطس 2023
عندما نتدبّر الحياة، يمكننا أن نشبهها بقصة أو رواية تجري أحداثها على مسرحٍ كبير قد أُسند لكلٍ منا دوره فيها، والسيناريو المقدر له أن يعيشه ويقدمه ! نستطيع أن نرى أن لكلٍ منا فيها إيقاعا.. وسرعة، وعقدة أحداث خاصة به. كلٌ منا يمتلك نوتته التي تتماهى بتناغم لتصنع معزوفة الحياة..لكلٍ منا مكانه في لوحة الحياة الأكبر، ودوره في مسرحيتها..لكلٍ منا تجربته.. سرعته.. توقيته.. لكلٍ منا قصتّه ومعاركه وانتصاراته.. خطه الزمني، وتحدياته وأحداثه بل ومفاجآته التي تصوغ دوره في قصة الحياة.. فليست هناك قصّة صالحة للجميع، ولا توقيت يناسب جُلّ الأشخاص.. ليس هناك قطار يفوتْ، ولا محطّة يجب أن تُلحق، ولا قائمة لابد لها أن تُنجز من المهام والأعمال والأدوار.. ليس هناك ما تُحبط من أجله، ولا تحزن لضياعه ! فقد يُحبط أحدهم عندما يرى أقرانه قد سبقوه فيما يعده نجاحاً أو إنجازاً.. لأنه يجد أن تخلّف عن ركب الأغلبية فلم يكمل تعليمه أو يتوظف أو يتزوج أو ينجب.. ولكن غاب عنه أن الأقدار تختلف، وأحداث حياتنا غير متشابهة، وأن الأصل في حياتنا هو التنوع والاختلاف.. فليست هناك قائمة مطلوبة التنفيذ من الجميع.. ولا خط واحد يجب أن يسير عليه الأغلبية ! ليعود فتقرّ عينه ولا يحزن، فيعيش حياةً طيبة، سعيداً قد اطمأن قلبه أنه إنما يسير في دربه هو لا في دروب غيره، ويستقبل ما قُدّر له هو لا من نصيب غيره، والذي لن يموت إلا وهو مستوفٍ له بالكامل، وأن هناك مُسرّعات للأقدار، وعطايا وعوض من الرحمن قد تُفتح له أبوابها من حيث لا يحتسب !وأن الحياة لا تُقاس بالمقارنات، وليست مسطرة تناسب الجميع. هذا الإدراك يحرر المرء من المقارنات، وأطماع الدنيا، ويفتح أمامه أبواب الأقدار المخبأة التي لن يبصرها وهو في حال السخط أو الحزن،ويعي أن التنوّع في الحياة جميل، والاختلاف سمة لها، وأن الرضا والشكر للموجود يُباركه ويزيده ويجلب المفقود، وكلما تعلق قلب الإنسان بخالقه أكرمه ونعّمه وعوّضه، وسُرّعت له الأقدار وطويت له المسافات. • لحظة إدراك: هي حياتك أنت.. تناغم مع إيقاعك فيها، وقدّر اختياراتك منها، الجليلُ حقاً أن تكون مستمتعا بالرحلة، متلذذا بلحظاتك فيها، معتنيا بنقاء قلبك وصفاء سريرتك، مدركاً ما فيها من الحبّ، شاكراً ما فيها من النعم.. هذا فعلاً فعلاً.. ما يهمّ حقاً !
1776
| 22 أغسطس 2023
مُوقنةٌ أنا يقيناً جازماً أن سلام القلب، وراحة البال، وطمأنينة الروح من أعظم الأرزاق الإلهية التي نختار استقبالها بوعيٍ منا، واختيار مقصود، وسعي مُتعمّد. هي هبة ربّانية لا تُعطى لمن أبى ! وهل هناك من يرفض السلام ويُفضل العيش في الصراعات ؟ وفي الحقيقة أجد أن (السلام الداخلي) لا يعني انعدام واختفاء الصراعات، أو الهروب من المشكلات، أو تصنّع حالة خارجية من الهدوء والصفاء ! بل إن جوهر السلام الحقيقي هو ازدهار جنّة فؤادك، وطمأنينة قلبك مع اتخاذك ما يلزم من التعامل الحازم مع المواقف.. هو باختصار أن تفعل وتعمل وتستجيب لكل ما يدور حولك ولكن قلبك (مطمئن بالإيمان) هادئ موقن بخالقه، مؤمن بحُسن تدبيره، ومُتكّل على إحاطة علمه.. يُحلّق بجناحيّ السلامٌ والتسليم. هو أن تختار أن (تستجيب) بوعي بدلاً من ردود الأفعال التي تُبنى على تراكمات مشاعرك. وأن تمتلك القدرة على (التجاوز ) تجاوز العثرات، وتخطي العلاقات السيئة، والأوقات الصعبة.. تجاوز حنين الذكريات بحلوّها ومُرّها، وعبور آلام الماضي ولوعاته.. هذا التجاوز لا يعني أنك نسيت، بل إنك تخطيت ما يرافق ذكرياتك عنها من الألم، وتشافيت من (غصتها) التي تُكدّر صفو أيامك.. وهي مرحلة لن يصلها المرء إلا إن اشتّد عوده في مواجهة تحديات الزمان، وقررّ أن (يتعلم) من تلك الأخطاء، والاستفادة منها فيما بين يديه من اللحظات وقادم الأيام.. سلامك الداخلي (اختيار) وقرار بامتلاك زمام نفسك، والقدرة على إعادة (تأطير المعنى) لكل تحدٍ تواجهه، أو مشكلة تقع بها. كما قالها ابن تيمية: (ماذا يفعل أعدائي بي؟ أنا جنتي في قلبي، وقلبي بيد ربي، إن نفيي سياحة، وسجني خلوة،وقتلي شهادة) فلا تمنح أحداً الفرصة أن ينتزع منك انشراحة صدرك، وطمأنينة قلبك.. وبشاشة روحك.. لا تسمح له أن يُطفئ نورك، أو أن يستبيح دواخلك فيعبث بها كيفما شاء.. لا تُملّك أحداً -مهما بلغت مكانته عندك، وقربه منك-مفتاح شعورك، وميزان عاطفتك.. يتلاعب على أوتارها فيعزف من لحنك ما يريد ! سلامك الداخلي تقدير وامتنان لكل التفاصيل، وشكر على العافية. لأنك تعي وتدرك إدراكاً عميقاً أنه حتى أيامك (العادية)، التي تألف فيها الروتين اليومي، وتتطلّع فيها إلى (الجديد ) و (المختلف)، تلك الأيام السلسة التي تأنس فيها ما أنت محاط به من النعم، وتعدّها (مسلّمات)، وتعتاد ما يحيطك من هدوء، هي (رزق) يتطلّب الشكر، وهي (عطاء) يستحق الامتنان، وهذا ما يجعلك مليئاً بالرضا وراحة البال وطمأنينة الشكر. لحظة إدراك: سلامك الداخلي وراحة بالك جنة قلبك، بستانك الذي تتعهده بالرعاية والعناية والزراعة والسقاية، تبدأ بحرثه وتنقيته من كل شوائب الأفكار والمشاعر ليكون تربة صالحة، وتبذر بعدها ما تختاره من بذور الرضا والشكر، والتجاوز وتتعمّد إعادة تأطير المعاني لتناسب مع ما يليق بك من الارتقاء والسمو وراحة البال.
762
| 15 أغسطس 2023
كثيراً ما تظهر لنا نجاحات لامعة متألقة، تبدو للآخرين وكأنها جاءت بسهولة لأصحابها! وفي رأيي أنه لا يوجد نجاح يأتي عرضاً كيفما اتفق ! فالنجاح الظاهر للعيان تماماً كعملٍ جميل على خشبة مسرح، ما إن يُرفع عنه الستار إلا ويظهر كقصةٍ جميلة مُشوّقة، ولكن ما وراء الكواليس جهد دؤوب ضخم وخليّة عمل لكل تلك التفاصيل التي تبدّت للمشاهدين من أصغرها إلى أكبرها! فكل نجاحٍ كان يتوارى خلفه نيّة، وعمل، وسعي، وطلب.. كان وراءه قناعات مُنعشة، ومشاعر مُدهشة، وإيمان صادق بالقدرات، ويقين بتوفيق الله، وهمّة عالية بأنه لن يبرح حتى يبلغ، وبأنه ما سعى ساعٍ إلا بلغ، وأن سعي المرء لابد أن يُرى! خلف كل نجاح حقيقي عملٌ مستمر دؤوب، داخلياً بالحفاظ على علو الهمة وصحة النية وصدق المطلب، وخارجياً بالأخذ بأسباب النجاح. وراء كواليس كل نجاح عزيمة، وعناية بالتفاصيل وارتقاءات وانخفاضات، لحظات يأسٍ، وفورات حماس، ودقائق ترّقب ! وما الاختلاف تجاه النجاح إلا حول مظاهره، ونتائجه، وسرعته وطيب ثماره! فقد يطلب المرء حثيثاً أمراً ما، وتتجلى له ثماره في منحى آخر! أو يُكثر يطرق الباب مجتهداً فيُغلق دونه لتُفتح له أبوابٌ أخرى لم تخطر له على بال! أو أن يُسرّع له الفلاح، وتُبارك له الأعمال، ويُسهّل عليه السعي، وتُسخر له الأسباب. أو قد تتأخر النتائج برهة فيجني صاحبها ثمار عمله وصدق سعيه واجتهاده بعد مدة كبذرٍ آن له بعد فترةٍ طويلة أن يقطف ثمره! الأهم أن ننعم بالرحلة، ونسعد بتفاصيل المسير، وأن نتريث فنتحقق دائماً من طيب المقصد، وصدق النية، وصحة الوجهة، أما النتائج فهي هدية المُعطي، وكرم الوهاب. النجاح ببساطة ليس وليد الصدفة! والفلاح ليس محض حظ ! بل هو نتاج امتزاج عوامل روحيّة ونفسية وفكرية وشعورية، وتآلف نيّة وسعي، وانسجام فكر وشعور، وتجانس حُسن ظنٍ ويقين، والتوافق على المتعة والاستئناس بمحطات الرحلة في الطريق، والامتنان للوهاب على العطايا في نهاية المسير. لحظة إدراك: النجاح رحلة واعية، لا تُقاس فقط بثمارها، لأنها نتيجة نهائية كانت مآلاً لعملية طويلة من اختيار البذور، وتكييف التربة، والتعهّد بالعناية ودوام الرعاية، والتشذيب والسقاية، والانتظار ردحاً من الزمن، والرهان على النتائج مع من يستعجلها فيسخر من الزارع، ويستصغر المجهود. النجاح رحلة داخلية، وسعي حثيث، نتائجه الحقيقية موكلة بالصدق وحسن الظن وطيب المقصد.
1446
| 08 أغسطس 2023
يُثير إعجابي ذاك التحوّل الذي يمكن أن نلحظه فيمن قرّر أن يحط بعد طول الطريق أحماله، ويُفرغ بعد مشقة الدرب جعبته، ويتحرر من تراكمات الشعور، وثقل الأفكار البائسة التي ناء بها كاهله طويلاً واُثقل بها قلبه ووجدانه ردحاً من الزمن، وقيّد بها عقله وروحه وجنانه . تلك الأثقال التي كانت تتكدّس عليه كلما امتدّ المسير، وتتراكم كلما انطوى فيه الزمن، ولم يخطر بباله يوماً أن يتخفف منها لأنه كان يعتقد أنها هو. وأن تركها خيانة لذاته، وانسلاخ عن هويته التي ظنها عن نفسه! أو ربما عدّها قلة وفاء مع غيره ممن قيّد له أُطر تحكمه وتوقعات تأسره ، ولعله قد وجدها أنها أحمال ثمينة على قلبه مهما بلغت مرارتها وكأنها وفاءٌ للحزن والبؤس وعهد بالألم له مع الحياة يتجدد ! كل تلك المبررات التي جعلته ينوء بها، وتذوي ملامحه وتُرسم على تعابيره ما يشبهها من الأسى والغصة والذبول، أو التجهم والعبوس، أو الاكفهرار الدال على الغضب المكبوت ، تنعكس على واقعه باضطراب المزاج، أو سرعة الغضب، أو عُسر المسلك والخُلق . أثقال تزيد ولا تنقص، تُقيّد دواخله وتظهر على ملامحه.. تتفاقم ولا تقل إلا عندما يتخذ المرء قراره بالتخفف، ويتعهد لنفسه - قبل أي أحد - بأن السير في درب الحياة لا يحتمل كل هذا الألم الذي قرره هو على نفسه بعلمٍ أو بدون علم ! فما أن يتخفف ويطرح تلك التراكمات حتى تُشرق روحه، وتبهى ملامحه، وتزهى تعابير وجهه، وتتخفف حركة جسده، فالنور بداخله قد حل، والبهاء في حدائق قلبه قد أزهر . فيغدو حينها كل شيء في نظره جميلاً على نحو ما، لأنه خلع عليه من جمال داخله الذي أبلج فيه، والذي كان يغشيه بحمل ثقيل يحجب عنه ضياء خفة روحه وتألق وجدانه ! وينعكس ذلك على خارجه ومن حوله فيصبح هيناً ليناً، سمحاً دمث الخُلق، لطيف المعشر ! وكأنه أُحيي بعد موت، وبُعث بعد اندثار! لأنه لم يكن إلا على قيد الحياة فقط ميتٌ في ثوب حي. كما قيل: ( كل نفسٍ ذائقة الموت، ولكن ليست كل نفسٍ ذائقة الحياة) فما الحياة إلا قرار بالتخفف ! لحظة إدراك: لا تنتظر أن يصدر النور والبهاء، والجمال واللطف إلا ممن تخففت روحه، وأورق جنانه، وأزهر عقله بأفكارٍ هي لذاك البهاء منبع ! وما ذاك الازدهار إلا لحدائق عقولٍ وقلوبْ شُذبت وهُذبت، وأزيل منها أثقالها وما يؤذيها، وسُقيت بماء زلال صافٍ، وتعهدها صاحبها بالرعاية والصيانة فحصد منها جنة تسر الناظرين حباً وبهاءً وجمالاً، وأثمر منها لغيرة رقياً ولطفاً وأدباً.
804
| 01 أغسطس 2023
لديّ إيمانٌ جليّ أن البساطة الحقة تخفي وراءها عمقا استثنائيا! وأن البساطة لها سحرها الذي لا يُقاوم على الروح، لأنها لغتها وطريقتها وديدنها. ذلك لأن الخفة التي تأتي من البساطة هي خفّة روحية أصلاً. ولعل الكثير يخلط بين البساطة والسطحية، أو بين البساطة والتفاهة، ومع أنني أؤمن أن لكلٍ من هذه الأحوال مقامها ووقتها، وأنه حتى السطحية والتفاهة هما وجهان آخران للعمق والحكمة، إلا أن البساطة هي نوع آخر يُشعرك بالانسيابية والتدفق، وبالصدق والوضوح، وبالتناسق التلقائي بين عناصره دون حاجة للتعقيد، أو ضرورة للتبرير والإثبات، وبأنها سهل ممتنع، له جاذبيته الخاصة لما تحمله من حس التباين بين لغة الروح والمادة، والاتزان بين المظهر والمخبر وبين بساطة السمت وعمق الطوية. لذلك فالأفكار البسيطة، والأسلوب الرشيق، والمظهر الأنيق، والكلمات اللطيفة، خفيفة في مرورها على العقول والوجدان، وتلتقط عمقها الروح بسهولة. لتعي أبعد من القشور، حيث تُدرك ما خلفها من التناسق والانسجام، ولتتصل بسكينة القرار العميق الذي يختبئ خلفها، والاتصال السحيق الفوري الذي يتم بينها وبين الروح!. فالعظيم حقاً هو من كان مع بساطته عميقاً في فكره وشعوره وتحليله، وانتقاء لفظه ومعناه، وفي إظهاره وبيانه بشتى أشكاله تعبيراً وفناً، أسلوباً ومذهباً، طريقةً وديدناً. متجانساً في ألقه وحضوره، ودلالته ومعناه. متناغماً في لطفه وهدوئه. دون ضجيج أو افتعال، تدور به هالة خاصة من الرقي والإباء، وتحاوطه أمارات الأناقة والجمال والانسجام، وتنطق ذرات حروفه بالحكمة والشواهد. لأنه أحال ما يبدو معقداً إلى الواضح البسيط، وبدّل ما يظهر أنه صعب باللطيف اليسير!. لحظة إدراك: البساطة الأصيلة تنبع من روح نورانية متصلة، وقد لا تُثار حولها الأسئلة، ولا ينبهر بها كل عقل اعتاد على البهرجة والزيف، وقد تمر على الكثير مرور الكرام دون انتباه أو اعتبار، لأن بساطتها الهادئة خافتة الصوت وغير مستفزة لكل طالب نزال!. وسلامها الصامت قد لا يحيل الأنظار إليها، لأن الجموع اعتادت على الاستثارة والمنافسة!. وأثرها قد لا يكون محفزاً ولا فورياً. إلا أن الرهان على البساطة العميقة هو رهان التأثير بعيد الأمد، رهان من يزرع البذر ولا ينتظر الحصاد الفوري. البساطة - ببساطة - هي التغيير الملهم الذي تتبعه الأرواح طائعة بعد أن تهدأ العقول وتسكن النفوس!.
2106
| 25 يوليو 2023
تهيأت لي الفرصة في عدة مصادفات أن التقي ببعض المهتمين بالقراءة، وتكرر عليّ سؤال لمن أكتب؟ وهل أتوقع أن الجميع سيُدرك أبعاد فكرة النص التي أطرحها؟ أو الوصول لعمق المعنى الذي أُريد إيصاله؟ ألا يُشكل ذلك تحدياً على نحو ما لدى الكاتب ؟ أن يجاري السائد في الطرح، أو أن يُراعي اختلاف أفهام من يقرأ ؟ وفي حقيقة الأمر أنني لا أنظر للأمر على أنه تحدٍ يمكنني مواجهته! بل على العكس أجد أنه من الممتع جداً أن أُدرك أن كل قارئ سيبصر النص بعين وعيه، ومن زاوية إدراكه الخاصة به.. التي تشكلت من مجموع عقله ووجدانه وفكره وشعوره وتجاربه وخبراته ! فستجد منهم من يكتفي بالقشور، فيبُهر بزخرف القول، ونسيج الأسلوب، ورقي الاختيار للكلمة، وقد يُعجب بأسلوب الكاتب، دون أن يفهم محتواه، وهذا أمر متوقع ومقبول. ومن القراء من سيُدرك جزءاً من الفكرة، وبعضاً من المعنى الذي يسعى الكاتب إلى إيصاله، وسيبقى جزء من النص دائماً.. مفقوداً ! وهناك من سيعي مرمى الكاتب تماماً، ويدرك أبعاد النص الذي كتبه ومغزاه. وهناك من سيُدرك ما لم يخطر على قلب الكاتب نفسه، و ربما يؤول نصه إلى معانٍ أخرى قد تصل أحياناً للنقيض ! هذا الاختلاف في الأفهام علامة صحية، بل وطبيعية، لأن الناس في حقيقة أمرهم مختلفون في مداركم، ومتعددون في مستويات وعيهم. وهذا هو الأصل حتى في اتجاهات النقد الأدبي، حيث قد نجد بعض النقاد يحللون النصوص الأدبية للدرجة التي لو اطلع عليها كاتبها لأدُهش مما تم تحليله والوصول إليه من المعاني، والأبعاد التي لم يظن يوماً أن تكون موجودة فضلاً أن يكون هو من قدمها !. ولذلك ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم وصيته (بلغوا عني ولو آية) والعلة في ذلك بينها في قوله: (فرب مُبلّغٍ أوعى من سامع) ! فلعل الذي سمعه بوعيه آنذاك، بمعطيات زمانه ومكانه لم يعِ ما وعاه من تم تبليغه إياه لا حقاً ! فالإدراك مختلف، وربما كذلك سياقات الزمان والمكان ومعطيات الفكر والوجدان! لذا فالأجدر أن يُدرك الكاتب مُبكراً أن اختلاف الأفهام واردٌ جداً، وأن لا يحمل ذاك الاختلاف على محملٍ شخصي، فكلٌ سيُبصر ما سيكتبه بعين وعيه هو ! وليس المعنى من ذلك أن لا يسعى الكاتب إلى التحسين والتجويد، أو أخذ ملاحظات من يقرأ في الاعتبار، ولكن المقصد أن يدرك أن نصه سيصبح دائماً حمّال أوجه، وأن هناك من سيكتفي بقشور ما يكتب، وأنه سيبقى من ستلامسه روح نصه.. وهناك من سيحلق معه بعيداً.. وسيفاجئه أن يضيف له ما لم يكن لديه في الحسبان ! لحظة إدراك: من المفيد حقاً أن يعي الكاتب أنه وكما يُقال أن كل امرئ يرى الناس بعين طبعه، فإن كل من سيقرأ له سيبصره بعين وعيه.. وجميلٌ أن يأخذ ذلك على محمل المتعة والاكتشاف، والتحسين والتجويد لما يكتب، بدلاً عن دخوله في دوائر التبرير والإثبات، ومهاترات الجدل والصراع، أو حتى الاستسلام للسائد والأكثر طلباً من الجمهور ليُرضي ذائقة معينة، أو يتماشى مع فكرٍ بذاته، أو يرتدي أقنعة تزيّف حقيقته ! فلا يستطيع بعدها لملمة شتات نفسه وفكره، أو استرداد هويتّه وبصمته، فلا أسف بعدها إلا على قلمٍ واعدٍ قد أهرق!
1323
| 18 يوليو 2023
دعونا نتفق أولاً أن كثيراً من تجارب الحياة أفرزت لنا مقولات وربما أمثالا بات تداولها بين الناس سبيلاً للتدليل على صدق نتائجها، ودقة انطباقها، وما زال الاقتناع بها يترّسخ كلما زادت التجارب التي تشبهها وكأنها تدلل على صدقها عبر الزمن. وفي ظني أن كل الأمثال والحكم السائرة تمتلك جزءاً من المصداقية حسب السياق التي قيلت فيه، والمفهوم الذي اُستدل بها عليه، وبما أن السياقات مختلفة، والأفهام متنوعة، والتجارب متعددة فقطعاً سيكون لكل مثل سائر بين الناس صحته وخطأه، حسب ما يتراءى لك من مفهومه. ومن بين تلك المقولات الشهيرة: (فاقد الشيء لا يُعطيه) ! وفي ظني أن هذه المقولة قد تصح في جوانب، وقد لا تستقيم في أخرى.. حسب ما يعيه المرء منها في سياقٍ معين. فكثيراً ما نشهد على تجارب إنسانية عظيمة تبيّن لنا أن فاقد الشيء كان معطياً، بل وبسخاءٍ فياّض له!، ربما لأن بعض الأشخاص يكون تعاطيهم مع الحرمان هو منحهم الكريم لما حرموا منه. فنجد مثلاً والداً رؤوماً، باذلاً العطف والرحمة التي حُرم منها في صغره لأطفاله، يبذل لهم من قلبٍ أدرك حقيقة شعور الحرمان وكابده. وفي المقابل ممكن أن نرى وجهاً آخر لصحة المقولة، ففاقد الشيء لا يُعطيه إن كان شيئاً أصيلاً في نفسه، فالشجرة لن تطرح ثمراً غير ثمرها. ففاقد حب الذات مثلاً لا يمكنه أن يمنح الحب (بمعناه الحقيقي) للآخرين، ومن تشوّه داخله بالشر والحقد وسوء الظن من الصعب أن تجد منه خيراً أو لطفاً وتعاطفاً. ومن فقد سلام قلبه وطمأنينة روحه وبات ألد الخصام لنفسه من الصعب أن يمنحك السلام، ومن يخون ذاته لا يمكنه أبداً أن يكون وفيّاً مع أحد. لذا يمكن القول إن العطاء الحق يكون من المنبع الداخلي للإنسان، من أصالة نفسه، وصدق تعامله مع ذاته الذي يُحيل كل ما يتعرّض له من الخارج (من أذى أو حاجة أو نقص) إلى خيرٍ فيّاض يمنحه لنفسه ولغيره. فالرهان ليس على ما فقده، وإنما من أين فقده، فليس الفقد هو ما خسره من الظروف وما أضاع من الناس الآخرين، فهي ظروف وأحوال متغيّرة، وصروف متبدّلة وإنما الفقد الحقيقي هو ما فقده من طوّية نفسه، وما ضيّعه من خبيئة قلبه وعقله، ونقاء فطرته، وما تبدد من جوهر روحه ووجدانه. لذلك فـ (ذات) المرء هي رأس ماله الأصيل.. ودواخلها مسرح تزكيتها وتنقيتها، وبوابة علوها وارتقائها.. منها منطلقه ومآله.. تنعكس من داخلها لخارجها لا العكس. لحظة إدراك: إن كان ما فقده المرء شيئاً من صميم أصالة روحه، فصعب أن يُعوض وعسير عليه أن يعطيه ويمنحه.. لأنه لم يعد له أصلاً ولا منبتاً، وإن كان ما فقده حالا عارضا، وظاهرا مُتبدّلا، فما أسهل العوض والعطاء، فالنفس هي التي تمنح وما دامت أصيلة نقيّة فلا يزيدها نقص الحال إلا مكرمة، فإذا امتلكته فاضت به وجادت، وليس ذاك عليها بمستغرب، فخيار الناس في حال حاجتهم وفقدهم هم خيارهم عند إعطائه ومنحه كما ورد في الحديث: (خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام) فالأصل دائماً.. غلاّب.
1137
| 11 يوليو 2023
في ظني أن الكتابة فعل (واعٍ ) يُمارس ويُبذل على بيّنة الإنسان بنفسه. لأنها تعبير شاهد جداً على من يكتب.. ظاهراً: من حيث اختيار اللفظ والموضوع والأسلوب والمعنى. وباطناً: من حيث إن منهج الكتابة وروحها هي انعكاس دقيق لروح صاحبها وفكره وقيمه ومنهجه في التعاطي مع نفسه ومع الحياة والناس والقلم يرتبط ارتباطاً وثيقاً بمنهجية الكاتب الأخلاقية، ومنطلقاته التي يُصدّر منها فكره ووجدانه. فالكتابة عندي ليست مقعداً عليّاً للتنظير، ولا هالة قدسية بالفهم والتنوير ! ولا فوقية.. تتسامى فوق البشر لتعليمهم ما يصح وما لا يصح ! ولا أفضلية.. توحي للقارئ بأن من يكتب هو أوعى، أذكى، أرقى، أو أفهم منه ! ولا نفعية.. هدفها ترك أثر يُذكر فقط لمزيد من الرفعة أو علو الصيت لصاحب القلم في حياته وبعد مماته ! وإنما أجد الكتابة ببساطة (فعلٌ فاضل) الفضيلة فيه أساس لا طارف، عملٌ تعبيري تحليلي يعكس روح وفكر الكاتب ووجدانه والأهم منهجه الأخلاقي، فهو مانحٌ و مُشارك في الاستفادة مما يكتب ! وهو أولى الناس ليس فقط بتطبيق ما يدعو إليه فحسب، بل بدحض ما يتبيّن عنده أنه زيف ولو كان من أثبت قناعاته! فكل ما يكتبه الكاتب يستنير به هو أولاً، وينتفع به هو قبل قارئه، ويترك به الأثر في نفسه هو ابتداءً قبل أي أحد ! وكل تذكرةٍ، أو دعوة خيرٍ وإحسان، أو علم نافع فهو الأولى أن يبدأ بالاستفادة منه وكأن حروفه خُطت منه إليه، وأفكاره انتظمت لتُعيد لملمة شتاته، ووجدانه قد اتزن لكي يبوح بشعوره و إحساسه، ليغدو ما فاض من كل ذلك من نصيب القاريء يُشركه كرفيق رحلة، وأنيس روحٍ وفكرٍ ووجدان، لا كمعلمّ قد تشامخ مقعده، ظناً منه بأنه الأثير بالمنح والعطاء والتأثير ! *لحظة إدراك: الكتابة (فضيلة).. فعلٌ إنسانيٌ متواضع راقٍ إن وعى الكاتب والقارئ أنها فعل (حيّ) يؤثر ويتأثر، وعملية تبادلية تخلو من الطبقية والأفضلية، والجلوس على مقعدٍ عليٍّ للتنظير، والوقوف على منابر الرغبة في المنح والإصلاح وترك الأثر من جانبٍ واحد،وكأن الكاتب يكتب لآخرين ليس أحدهم ذاته التي بين جنبيه، وكأنه فقط هو المانح وآخرهما هو المتلقي !
1329
| 04 يوليو 2023
طالما ترادفت مع الإنسان في مسيرة حياته بعض الصعوبات والتحديات التي تفرضها طبيعة الرحلة الدنيوية، ونوع الطريق الذي يسلكه. فليست الدنيا بدار قرار، ولا مثوى للنعيم الخالص من غير منغصات، ولا منبع صاف من غير كدر، وهذه جبلتها وديدنها، وطبيعة خلقها، ومن أدرك ذلك باكراً فقد فلح في استيعاب طبيعتها ولن يأسى على ما سيفوته منها أو يتوقع منها غير ما هي عليه!. لكن في المقابل قد يصعب على الإنسان أن يعترف بأن (استمرار) ما يعانيه من الهم والكدر هو من صميم ذاته!. فعدم فهمه لذاته، ومشاعره، وتعوده على طرائق تفكير تجعله دائماً يعيش دور الضحية المغلوب على أمره هو مما يُصعب تجاوزه للتحديات التي يواجهها!. وليس معنى ذلك أنه لا توجد آلام أو مسببات خارجية أو تحديات يجابهها المرء في مسيرة حياته، فهي من العوارض التي لا يخلو منها إنسان سواء عظمت أو تضاءلت!. وإنما المقصد أن طرق استجابته لها هي التي تجعله مسجوناً بين جدران معاناته يائساً فاقداً الأمل، شاعراً بأنه ضحية مغدور الجانب، غائصاً في بحر من الألم لا قرار له! أو أن طرق استجابته تخفف وقع ما أصابه، فتتحول الآلام إلى دروس وعبر يرقى بها مقامات علية، وأسباب ودوافع تحرضه على التطور والتحسين، بدل ندب الحظ والإيمان أنه ليس له من الأمر شيء تجاه ما يجابهه من خطوب الزمن، وتحديات الحياة فيظل يائساً مُكدر الخاطر!. لذلك فهذا السؤال دائماً سيظل محل خلاف وقائماً ما قامت الحياة، ومُختلفا عليه ما اختلف وعي الناس تجاه ما يواجهون من مصاعب الحياة عندما يخوضون غمارها، كما تساءل الشاعر من قبل: ياليل خبرّني عن أمر المعاناة هي من صميم الذات؟ ولا أجنبية؟ فمنهم قوّي الشكيمة قوّي بالله متطوّر باستمرار ومنهم من فضل الاستسلام على أي حال! وكل منهما سيؤتى أُكل ما آمن به واختار! فماذا اخترت أنت؟ لحظة إدراك: تحديات الحياة شيء من طبيعتها، وسعيك المستمر للأمام من خلال التعلّم والتدبّر والاستجابة الواعية المُدركة يسمو بك ولا يرتد عليك إلا بخير وإن شعرت بالألم. أما التعامل بردات الفعل، والرفض والتصارع مع الحياة والاستسلام لما يعتريك من خطوبها فهو سبيل استمرار الألم ليتحول لمعاناة مستمرة، وجراح مفتوحة دامية لا تبرأ!.
2187
| 27 يونيو 2023
من أعظم المنهجيّات الأخلاقية الإلهية: (إمساكٌ بمعروفٍ أو تسريحٌ بإحسان)، وهو منهج راقٍ في الأخلاق نبيل المسلك، عظيم المقصد. وعندما يتأمل المرء هذا المنهج ويتّدبر المساحات التي يُمكن أن يُسقطها عليه، يُمكنه أن يستنتج أنه ليس منهجاً خاصاً بالأزواج الراغبين في الانفصال فحسب، ولا سبيلاً مُقتصراً على العلاقات فقط، وإنما هو (قاعدة أخلاقية سامية) يُمكن أن تُمارس مع كل شيء تقريباً. ففي العلاقات: إما أن نتبادل الإحسان وإما أن نتفارق بلا ضغينة، إما أن نحسن وإما أن نكف الأذى. وفي العمل: إما أن يُمسك العامل بإحسان يراعي حاجته وقدرته، وإما أن يُسرّح بكرامته. وفي الأشياء: إما أن نحتفظ بها ونكرمها ونستفيد منها أو نسّرحها أو نمنحها لمن يحتاجها. وفي الأفكار والمشاعر: إما أن نتمسك بما ينفعنا من الفكر والشعور أو نحرر من بالنا ووجداننا ما يؤذينا. وفي اللسان: إما أن نقول خيراً من الكلام أو نصمت. وفي كل الأحوال المبادرة بالأذى خيارٌ غير مُتاح، وانتقاءٍ مؤذٍ لصاحبه قبل متلقيّه. فإما الإمساك بالمعروف وعلى المعروف، وإما الإطلاق والتسريح بإحسان، لا خيارٌ ثالثا بينهما إلا خيار (الكف) عن الأذيّة، فلا يكون ترف الاختيار للأذى مُتاحاً أو مسموحاً إلا حين نضطر إلى رده بالمثل، ولا يكون الجهر بالسوء من القول مقبولاً.. إلا عند الجهر بالظلم، دون الانجراف للهمز واللمز، وبلا شطط ولا تعدٍ. ومن هنا يُبنى المسلك العالي والخلق الفضيل على بيّنة، وباحترامٍ لنعمة الاختيار، وبعملٍ دؤوب واعٍ في تزكية النفس والتحليق بها في سماوات الرقي ومدارج الفضيلة. فيُصيب المرء من نفحاتها خيراً وإحساناً من رب العباد، وعزاً وإكراماً بين الناس، وسكينةً وراحة بالٍ عند نفسه بلا قلقٍ ولا بأس! * لحظة إدراك: ذلك الانتقاء الحكيم الذي يتّم على بيّنة: لمن نُمسك ؟ ولماذا نُمسك؟ ومتى وكيف نُمسك ؟ ينبئ عن مدى ارتقاء المرء في مدارج التهذيب، ودرجة علوّه في مقامات الإحسان، مع نفسه ومع الناس ومؤشر زكيّ على طهارة القلب وطيب النوايا، فلا يمر إلا كهبّة سلامٍ رائقة تهب نسائمها عليلة على كل من تمّر به. وكما قيل: وَأُحِبُّ كُلَّ مُهَذَّبٍ وَلَو اَنَّهُ خَصمي! وَأَرحَمُ كُلَّ غَيرِ مُهَذَّبٍِ يَأبى فُؤادي أَن يَميلَ إِلى الأَذى حُبُّ الأَذِيَّةِ مِن طِباعِ العَقرَبِ!
3462
| 20 يونيو 2023
من الدارج أن تُستنكر العلاقات المبنيّة على (المصلحة)، ومن الرائج أن نرى أن فكرة (المصالح) في العلاقات ممجوجة عند عامة الناس ! ذلك اللَبس نتج من المفهوم المقصود لمعنى (المصلحة) حيث يُقصد غالباً (الاستغلال) ! وفرقٌ بيّن شاسع بين تبادل المصالح والمنافع بين الناس، وبين الاستغلال . ولا أستغرب ذلك التفسير، لأن أغلب مشاكل الرأي تأتي من اختلاف مفهوم المصطلحات مدار النقاش ! لذلك أجد أنه ليس من الشائن- أبداً- أن تقوم العلاقات الإنسانية عامةً على المصلحة وتبادل المنفعة، بل هي غالباً أصل نشأتها ومدار وجودها . فكل علاقة (نقرر) اختيارها هي في حقيقتها تلبي احتياجات، وتمنح فوائد، على المستويات المادية والمعنوية الروحية والعقلية والجسدية والنفسية. ولكن من الجميل أن تتضح تلك النوايا لأصحاب العلاقة أنفسهم، حتى يكون الإنفاق فيها من سعة كل طرف، ويعرف كل منهما دوره وتوقعاته من ذلك الاقتران، ويسعى كل منهما للبذل فيها على بيّنةٍ من أمره. حتى إذا انتهى الغرض، وانقضت المصلحة لا تبقى في الروح شوائب العتب واللوم، أو الاستنزاف لطاقات الروح والاستنفاد لمقدرات النفس! تماماً ببساطة القول: (هذا فراق بيني وبينك)! وبفائدة: (اذكرني عند ربك) وبرقي: (إمساكٌ بمعروف أو تسريح بإحسان) فيكون الابتعاد -إن تم- بالطيب، والافتراق بإحسان، والرحيل على بيّنة مع حفظ الود وعدم نسيان الفضل لكل منهم. لحظة إدراك: من المنافع الراقية أن يتبادل المرء الحب والاهتمام، والعطاء والبذل، وأن يُسهم في ازدهار علاقاته بالأخذ والعطاء، وتبادل الإحسان بالإحسان. فلا تدوم إن استمرت إلا على الخير ولا تنتهي إن أفلت إلا بالفضل.
1569
| 13 يونيو 2023
مساحة إعلانية
 
        نعم، أصبحنا نعيش زمنًا يُتاجر فيه بالفكر كما...
6645
| 27 أكتوبر 2025
 
        المسيرات اليوم تملأ السماء، تحلّق بأجنحةٍ معدنيةٍ تلمع...
2703
| 28 أكتوبر 2025
 
        كان المدرج في زمنٍ مضى يشبه قلبًا يخفق...
2211
| 30 أكتوبر 2025
 
        جاء لقاء حضرة صاحب السمو الشيخ تميم بن...
1701
| 26 أكتوبر 2025
 
        على مدى العقد الماضي أثبتت دولة قطر أنها...
1515
| 27 أكتوبر 2025
 
        نعم… طال ليلك ونهارك أيها الحاسد. وطالت أوقاتك...
1101
| 30 أكتوبر 2025
في زحمة الحياة اليومية، ونحن نركض خلف لقمة...
1032
| 29 أكتوبر 2025
 
        لا بد عند الحديث عن التصوف أن نوضح...
1026
| 27 أكتوبر 2025
 
        “أبو العبد” زلمة عصامي ربّى أبناءه الاثني عشر...
969
| 27 أكتوبر 2025
 
        عندما تحول العلم من وسيلة لخدمة البشرية إلى...
867
| 26 أكتوبر 2025
 
        بينت إحصاءات حديثة أن دولة قطر شهدت على...
828
| 27 أكتوبر 2025
 
        أحيانًا أسمع أولياء أمور أطفال ذوي الإعاقة يتحدثون...
678
| 30 أكتوبر 2025
مساحة إعلانية
