رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني
رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
في مسيرة الحياة، تتسلل إلينا بعض الأرواح كأنها إشارات خفيّة من السماء، تحمل في حضورها سكينة تخفف عن القلوب عبء الأيام، وتعيد ترتيب ما اختلط في الصدور من تيه، وتلملم ما تناثر في الأنفس من شتات. هؤلاء رحمات مُرسلة من الرحيم بحكمة متناهية، ليكونوا لنا نوافذ للسكينة، ومرايا للنور، وأذرعًا تعانق أرواحنا بالسلام. وقد تتبدّى الرحمة في منمنات متناهية الصغر، قد تتجلى في صمتٍ راقٍ شفيف، أو ابتسامةٍ جذلى رفيف، أو حضور ساكن أنيق يعيد للروح اتزانها. كل لقاء مع هؤلاء يحمل رسالة، أو يُعلم درساً، أو يفتح فرصة، أو ينير إشراقة تذكرنا بالجوهر سابق الكلمات، وبالسلام متجاوز الأحداث، وبالطمأنينة الفيّاضة التي تملأ الأفئدة سكينةً وقراراً. حين يدرك المرء تلك النعمة، ترصد عينه كل تفاعل على حقيقته، كدعوة للتراحم، بتلقي الرحمة أو منحها للآخرين، وليس كمجرد حادث عابر يمر ولا يستقر ! تلك هي اللحظات الفارقة، التي مهما بدت صغيرة، فإنها تصنع أثراً عميقًا لا يُنسى في الأنفس، وإرثاً دائماً في ملكوت الآلاء المقدّرة، فتخلق صلة صامتة بين القلوب، وتفتح نافذةً بين الأرواح على يقينٍ راسخ بأن الخير حاضر، والنور ساطع، والحق أبلج، والرحمة مُباركة دائمًا، وأن الله لا يترك قلبًا بلا نور يرسله إليه من قلبٍ آخر، رحمةً وبركة.. حباً وكرامة. وما يتحصل عليه المرء من تلك الرحمة الفياضة هو في أصله دعوة لتداول الرحمات، بلا انتظار مقابل، أو تعنت في شروط، أو تضاؤل في حدود، لأنها ليست تبادلاً أو حساباً، إنما هي في جوهرها حالة وجودية خالصة تتدفق من القلب إلى القلب، فتغمر الأرواح بالسلام، وتغرس في العالم نورًا أعمق، يشعرنا بأن كل لقاء، وكل لحظة هي فرصة سانحة للتجدد، وإمكانية متعاظمة للمحبة، وإشاعة مباركة للطمأنينة على هذه البسيطة. وما هذا كله سوى رحمة من رحمات الرحيم، يفيض بها على عباده، تفتح لهم آفاق التراحم بينهم، وتدلف بهم إلى بوابات المساهمة في إشراقات الوجود النيّرة في أرواحهم، تجعلهم كالبنيان.. يشد بعضه بعضاً. لحظة إدراك: نحن رحماتٌ مُرسلة لبعضنا، ومتى أدركنا ذلك تعمّدنا أن نُكرم حق النعمة بالشكر، فلا نلبث أن نتخذ من وجودنا وسيلة لنشر الرحمة للآخرين، ولا يتم ذلك إلا إن تعامل المرء مع ذاته أولاً بالرحمة، وخلع عليها الحلل السنيّة من المحبة الخالصة والإحسان المتدفق، حينها يصبح كل لقاءٍ رسالة حية، وكل لحظةٍ فرصة لتجسيد المودة والسكينة، فتتدفق الأواصر بالطمأنينة والنور بلا حساب أو مقابل !
258
| 21 أكتوبر 2025
لبعض الاختيارات ثمنُها الباهظ الذي يجب أن يُدفَع، وتكلفتُها الغالية التي لا بدّ أن تُسدّد، إذ لا يمضي الإنسان في طريقٍ دون أن يؤدّي ضريبته، إمّا وقتًا، أو جهدًا، أو تضحية ما. فالتأجيل - وإن بدا راحةً مؤقتة - كثيرًا ما يكون قيداً خفياً يلتفّ حول الإرادة حتى يخمدها، فيُغري النفس بالسكينة الزائفة بينما يسرق منها زمنها الأجمل، وفرصها الأثمن ! وما اختيار المرء للتأجيل، وانتقاؤه للإرجاء هروباً أو تكاسلاً أو طولَ أملٍ أو تخبطاً وضياعاً، إلا عقبةٌ تجرّه إلى ما لا يُحمد عقباه. فكم من حلمٍ ذبل لأنه انتُظر طويلاً، وكم من فرصةٍ تلاشت لأننا لم نحسم أمرنا في لحظتها المناسبة. وهنا يظهر الفرق بين من يتقدّم بخطوةٍ واثقة، ومن يظلّ يُقلّب القرار بين كفيه حتى تبرد حرارته وتتفلت منه اللحظة في الشتات ! فالحسم اجتباءُ الحصيف، والحزم انتخابُ الأريب، الذي يعي جيداً أن التبصّر في أمور الحياة لا يعني التردّد، بل وضوح البصيرة، وأن الحكمة ليست بطول التفكير، بل بصفاء النيّة ودقة التقدير. فالحكيم لا يهرب من القرار، ولا يفر من المواجهة، إنما يُمهل نفسه فسحة حتى تنضج رؤيته، ثم يُقدِم بثقةٍ بلا وجلٍ أو خور. ومن يدرك هذه الحقيقة، يعلم أن اللحظة قد تكون أثمن من العام، وأن الخطوة الحاسمة - مهما كانت صغيرة - أصدق أثراً من آلاف الأمنيات المؤجلّة. فكل تأجيلٍ يخلق فراغاً جديداً، وكل ترددٍ يُهدر فرصة ربما لا تتكرر. وهكذا تتسع ضريبة التأجيل كلما اتسعت المسافة بين ما نعلم أنه صواب، وبين ما نجرؤ على فعله. ومن هنا، فإن تقليل الخسائر وضبط الغرامات التي تتحصّل من التميّع في الانتقاء وتأجيل البتّ في القرارات وتضييع الوقت النفيس في التردّد، لا يتحقق إلا بالوعي بقيمة اللحظة. فكما يُقال: ما إن تدرك أنك تستقل القطار الخطأ، فاهبط في أول محطة، فتكلفة العودة ستزيد كلما زادت المسافة ! غير أن الأولى من كل ذلك، أن يُدرك الإنسان أنّ الحسم ليس عنفاً قاطعاً، ولا تعاطيا غاضبا مع الأيام، إنما هو احترامٌ للحياة في قيمتها، وأن يدرك أن القرار ليس تحدياً، أو عقبة تصده، إنما وضوح، ووعي صادق مع الذات. فأن تختار يعني أن تحيا، وأن تُقرر هو أن تتصالح مع قدرك وتستعيد زمام أمرك من الفوضى، أما المماطلة، فهي تسليمٌ بطيء لمصيرٍ لم تُشارك في رسمه، ولا حتى في معرفة وجهته ! * لحظة إدراك: الحزم هو بصيرةٌ فاعلة نقية تُمهل ولا تُهمل، وتُقدِم ولا تتراجع ! وهي انتقاء دال على الحصافة، ومؤشر يعين على السداد. والقرار الصادق - مهما كان موجعًا - أخفّ وطأةً من التردّد، فليست المماطلة سوى استسلامٌ صامتٌ لمصيرٍ لم تختره، وانهزامٌ يدفعك قسراً للسير في دروب لا تلائمك !
381
| 14 أكتوبر 2025
من أسمى الإدراكات التي يمكن أن يبلغها امرؤ في يوم ما، أن يُدرك أن الاستغناء سيادةٌ تتجلّى حين تدرك الروح اكتمالها، فلا تعود تتشبّث بما يثقلها، ولا تركض خلف من لا يُدرك قدرها، فما الاستغناء إلا نضجٌ يُهذّب الرغبات، ويُعلّم النفوس أن منبع الاكتمال لا يُستمد من الخارج، إنما يُستقى من صفاء الداخل واتزانه. فالروح التي تعي ذاتها تُدرك متى تُغلق الأبواب لاعتزال ما يُؤذيها، ومتى تنسحب من صحبةٍ تُرهقها، ومتى تُفارق أماكن خُنقت فيها سكينتها، ومتى تُوقف جدالات تستنزف راحتها. ذلك أن الاستغناء هو حضور صفّي في تفاصيل الحياة، وليس انقطاعا عنها، أو اعتزالا لبهجتها، حضور يختار السلام على الصخب، والنقاء على التكلّف، والسكينة على الجلبة التي تُشوّه المعنى وتعبث في جنباته. ومتى أدرك الإنسان ذلك، تولدت عنده الحكمة التي تحرر نفسه من ثِقل التعلق وربقة الحاجة، وأعادت إليها سيادتها الضائعة في متاهات الرجاء ومفازات الانتظار. فما أن تستغني حتى تعود إلى نفسك، إلى مكانك الأصيل، ومقامك الجليل، الذي أكرمك الله وأعزك فيه، فلا يُهددك فيه غياب أحد، ولا يُقلقك تبدل حال مخلوق، لأنك عرفت أن الاكتفاء بذاتك هو أعمق صور الغنى، وأرسخ معاني العزة. عندها يتسع المداد لرحابة السلام، وتُشرق حياة أنقى، تتجاوز كل اعتبار زائل، وتُستعاد فيها القدرة على امتلاك زمام الأمور من جديد، فكما قيل: استغنِ، فمن ترك مَلَك. ولعل في الاستغناء من معاني السيادة التي تكتمل بعزة النفس، فهو حارس هذا المقام وسرّ ثباته. العِزّ الذي يُمكّن المرء من أن يصون روحه من الابتذال، ويحمي نفسه من التهتك، فيعرف إكرام موضعه المكرّم من رب العباد، فلا ينحني لما يُنقصه، ولا يُساوم على ما يُبهت نوره، يتنعم بتلك الكرامة الصامتة التي تغنيه عن الكلام، وتترفع به عن مهاوي الردى فلا يعلن رفضه إلا بصفاء واثق فينسحب من حيث لا يليق به البقاء. لأنه قد تأصل في باطنه أن من عزّ نفسه وجدها، ومن وجدها استراح، إذ لا يُرهق ذاته في طلب قبول عابر، ولا يبدد طاقته في مطاردة ودٍ متقلّب، يستغني عن كل ما لا يليق به، لأنه أدرك أن قيمته ثابتة، و مقامه رفيع لا يُستمد من عيون الآخرين. حينها تتجلى أرقى مراتب الحرية، ويغدو الإنسان سيد نفسه بحق، حراً من ذل الحاجات، طليقاً من أسر المقارنات، منعتقاً من مخاوف الفقد والنبذ. لحظة إدراك: يتجلى الجمال الأصدق حينما تكون مكتفيًا بذاتك، مطمئنًا لما أنت عليه، متصالحًا مع اتساعك، مستمتعاً بهدوئك، عارفًا أن كل ما يليق بك سيأتيك في وقته دون أن تفقد عزة نفسك، أو تُضطر لسلب راحة بالك، مستغنياً عن كل أذى، مالكاً لكل فضيلة.
432
| 07 أكتوبر 2025
ما السعادة إلا قرارٌ تتخذه الروح بوعيٍ كامل لتتصل بنبع حقيقتها، قرارٌ يهمس به المرء لذاته بأن يسمح للنور بأن يتسرّب إلى أركانه المظلمة، وأن يتسلل الضوء لزواياه المعتمة، وأن يفتح الأبواب التي ظنها مغلقة إلى الأبد، بأيسر ما يكون، وبألطف المتاح والمتوفر ! وما أن يتخذ الإنسان هذا القرار، حتى يبدأ التحوّل الصامت، فيرى ما وراء ضباب المعتاد، ويصغي لهمسات الفؤاد بما يُدركه دون غيره، ويتذوق بمتعة تفاصيله الصغيرة التي تضيء أيامه العادية فلا تلبث أن تحيلها إلى لحظات استثنائية ! ومن هنا يتجلّى الإدراك أن السعادة ليست مكافأة مُهداة بعد إنجاز، وليست محطة نبلغها بعد سباقٍ طويل، بل هي رحلة تمتد بامتداد العمر، لا نقطة وصول ! رحلة يتشكل مداها من القرارات التي نتخذها كل صباح، ومن العادات التي نلتزم بها رغم تقلبات الظروف والأحوال، ومن العزم الذي يُذيب كل صعب، ومن الهمة التي تتجاوز كل عقبة، ومن الإيمان الذي يملأ القلب يقيناً بأن كل شيء هو خير وفي خير وإلى خير لابد صائر ! هي لعبة بديعة، قوانينها ما نختاره من أفكارٍ وما نزرعه من نوايا، وما دامت لعبة، فالمسرة فيها خالصة، وقودها لحظة الحاضر لا القلق على القادم، ودافعها الرضا بما هو كائن لا الأسف على ما قد مضى. وبينما يتقدّم المرء في هذه الرحلة، يكتشف سراً آخر، وتتكشف له هبة إدراك باذخة، تُريه أن السعادة لا تعني أن وعوداً ببلوغ البهجة في نهاية الدرب، بل أن نتقن فن التلذذ بتفاصيل الطريق. فهي في طعم القهوة الأولى، في نَفَس الصباح المشرق، في ابتسامة عابرة، في كلمة شكرٍ نهمس بها أو نسمعها، هي في الامتنان الذي يبدّد الحزن، وفي الإيمان بأن النقصان ليس إلا جزءا من اكتمال الصورة الكبرى ! وما أسرع ما يرافق ذاك الإدراك وعيٌ ثانٍ بأن التلذذ وحده لا يكفي ما لم نعرف الوجهة. فالبهاء الحق للسعادة المترفة هو أن نُحسن التصويب للوجهة، وبأن نسأل أنفسنا عند كل منعطف: إلى أين أنا راحل؟ ما القيم التي أُسلمها طواعيةً زمام قلبي؟وما المعنى الذي أيمم شطره وجهي؟ فلا نضيّع المقصد.. ونحن نظن أننا نحسن صنعاً ! ولا يلبث أن تتسع لدى المرء منا الرؤية، ويدرك الرابط الأعمق الذي يشد الرحلة كلها إلى مركزها، فالبوصلة الحق لا تُستمد من الخارج، إنما من انكفاء المرء على داخله، بالاستعانة برب ٍ يهدي ويسعد ويمنح ويعطي، كرمه فيّاض، وفضله عميم. *لحظة إدراك: كل نورٍ داخلي هو في جوهره فيض من نور الله، وكل قرارٍ بالإشراق هو استجابة لدعوة الخالق سبحانه إلى حياةٍ أرحب ومعيشة أجمل، فالسعادة ليست حلماً بعيد التحقيق، إنما في قوة اتخاذ القرار كل يوم بأن نُشرق مهما طال الليل، وأن نتنفس عميقاً رغم ضيق الأفق، وأن نؤمن بأن الفقد بابٌ لِعطاءٍ أكبر، وأن كل عتمة تحمل في طياتها قبس الفجر الآتي لا محالة !
432
| 30 سبتمبر 2025
للأماكن والبيوت أرواح منعكسة من أرواح ساكنيها، فهي منشور دقيق لمن يقيم بها، تحمل روحه وتبث دقائقها في كل تفصيلة من تفاصيلها. فما جمال المكان ورحابته، وإن كان بسيطاً، إلا انعكاس لجمال روح صاحبه ورحابة قلبه، وما أُنسه إلا من أُنس مهجته، وما نوره إلا بهجة جنانه وابتسامة خاطره. وإن كان للأماكن لسان، فلن تنطق إلا بخبيئة روح صاحبها، وإن كان لها شكل فلن تشي إلا بذوقه، وإن كان لها شعور فلن تترنم إلا بما يغذيها هو من إحساسه وطاقته. هي مرآة لأسرارنا، تحفظ ما نبوح به وما نكتمه، وتردد صدى ما نزرعه فيها من حب أو فتور. وما روحها في النهاية إلا روح صاحبها وخوافي ساكنيها، فهي إن خلت من دفء الأرواح صارت جسداً بلا روح، ومهما ازدانت أثاثاً وزينةً بقيت باردةً باهتة لا حياة فيها. ومع ذلك، يبقى للإنسان دور خفي في شحن هذه الأمكنة بما يجعلها نابضة بالمعنى. فنحن من نُضفي على الأماكن قيمتها، ونحن من نملؤها فرحاً أو كآبة بقدر ما نحمله من مشاعر، ونفيض عليها من الأحاسيس. بيوت صغيرة قد تتسع للعالم بأسره إن سكنتها قلوب رحبة، وقصور فسيحة قد تغدو خاوية باردة إن أقامت فيها قلوب منقبضة! فحين يجتمع الأحباب في بيت واحد، تتفتح الأرواح كالأزهار، وتتنفس الزوايا عبق الألفة، وتفيض شعراً يُدّون على جدرانه شاهداً على ما كانت تحتويه للزمن، فيغدو الحجر ناطقاً والفضاء دافئاً، وكأن الأركان نفسها تتعانق مع أفئدتهم، فإن غابوا انحسر الضوء، وأظلمت بعد إسفار، وذبلت بعد إيناع، وكأن المكان ينوح لفقد طاقته الأولى. هكذا تتجلى الأماكن كمرآة مزدوجة، تعكس صفاء الحاضر بقدر ما تحفظ ظلال الماضي. هي تلتقط من ساكنيها بهجة اللحظة، وأنس المسرة، ثم تختزنها في أعماقها لتظل تتردّد فيها حتى بعد رحيلهم، فالمكان مهما تجمل لا يكتسب قيمته من حجارة وأبواب، بل من الأرواح التي مرت به، ومن الحب الذي أُودع في زواياه، ومن القصص التي نُسجت بين جدرانه. وكما قيل: وما حبُّ الديار شغفن قلبي ولكن حبُّ من سكن الديار لحظة إدراك: الأماكن في نهاية المطاف لا تعيش إلا بنا، ولا تعكس إلا أرواحنا، ولا تنطفئ إلا بغيابنا، ونحن من نهبها روحًا تبقى متوهجة حتى بعد أن نمضي، هي (منازل) نزلت فيها نفوس عاشت حياة حقيقية، وهي (مساكن) سكنت فيها مشاعر الألفة والسكينة، حفظت للقلوب التي أحبت هناك نبضها الذي ما زال يتدفق في هوائها وإن خلت من أجساد أصحابها!
483
| 23 سبتمبر 2025
مهما ادلهمّت بالإنسان النوائب، وتكالبت عليه أقدار الزمان، يبقى في داخله نبع لا يجف، ورافد لا يغيض، سرّ دفين من نور لا ينطفئ، يمدّه بالحياة كلما ظنّ الهلاك دانيًا. كأن في أعماقه عِرقًا من خلود، ينبض على الرغم من الانكسارات، من إشراقة الروح، ومن إيمانٍ بأن في داخله سرّ الخلق الأول، ووهج البداية التي لا تخفت. ولعل أجمل ما يُثبت ذلك أن الأرواح، مهما أثقلتها التجارب القاسية، تعود فتنهض، وكأنها تنتفض بعد احتضار، أو تنشط بعد لأي ! فكم من امريءٍ هو في حساب الأنام من حوله فنى وانقضى، فإذا به يقوم من بعد كبوته أقوى وأنقى، فلا تلبث أن تتجلى حقيقة أن الحرب ليست حرفة الأجساد فحسب، بل للأرواح منها فرص سانحة للنور وللضياء حتى في أعتى العتمات، مستندةً إلى ذلك الوهج الأول، شرارة الخلق التي لا تنطفئ. وإذا أمعنّا النظر، نجد أن تلك القدرة ليست بغريبة على فطرة الطبيعة ذاتها التي نعيش فيها، فالأرض تُحرَق بالنار فتبدو خاوية على عروشها، لكنها لا تلبث تُورق في موسم جديد، وحصاد فياض كثيف، كذلك الحرف لايُمحى إلا ليُكتَب أنقى وأبين، والسماء لا تتغشاها الغيوم إلا لتصفى من بعدها وتتجلى، والشمس لا تغيب إلا لتشرق من جديد، فكذلك الإنسان، تُصيبه الخطوب، وتتلقفه النوائب، لكنها في الوقت عينه تُعيد صقله، وتُظهر معدنه الأصيل الذي ليس له أن يظهر إلا بعد أن ينكسر ! ولعل هاهنا الفائدة أن ندرك أنّ القوة الحقة لا تكمن في ألا نسقط، فالسقوط أمر لا يدانيه شك، إنما قوة الشكيمة، وصلابة الإرادة في أصلها في أن ننهض بعد كل سقطة، ونقوم بعد أي كبوة ! فما لحظات الجفاف التي نراها في ظاهرنا إلا استراحة قصيرة للنهر قبل أن يتفجّر من جديد، وما من محنة إلا وتحمل في أعماقها بذرة منحة، وما من ليلٍ حالك إلا وفيه وعد لفجر آتٍ.والأهم أننا عندما نصغي لذلك النبع الداخلي، نُدرك أنّه ليس للنضب إليه من سبيل، فهو الهبة التي أودعها الخالق فينا، والتي بها نستمر ونُجدَّد مهما عصفت بنا الأقدار، وتجرعنا من أيام زماننا مرها، وهو اليقين بأن في داخل كل إنسان حياة تتجدّد، حتى وإن خُيّل للناس أن ماء حلاوتها قد غار وانحسر ! لحظة إدراك: في جوف كل امريء وديعة من سرّ الخلق، تنبعث منها الحياة كلما ضاق الأفق واشتد البلاء، وتعكر صفو الأيام ! تذكره أن العثرة بلا ريب ليست كما تتجلى للرائين.. سقوطًا محضاً، إنما ارتقاء يُعيد الروح إلى صفائها الأول، ورحابتها الأوسع، وأن كل ما نظنه فناء، ليس إلا باب إلى ولادة أسمى وحياة أفسح.
330
| 16 سبتمبر 2025
لعل من أهم الإدراكات التي تُيسر على الإنسان حفظ كرامته، والسمو بذاته، والارتقاء بها، هو أن يعي أن كل ما يحمله لنفسه تجاه نفسه سينعكس على من وما حوله. هذه الحقيقة البسيطة والعميقة في آنٍ واحد، تجعل المرء مسؤولًا أولًا أمام ذاته عن الصورة التي يكوّنها عن نفسه، قبل أن ينشغل بما يراه الآخرون فيه! فالقيمة ليست منحة خارجية يخلعها الناس عليه، ولا فضل منهم ومنة في تقييم مكانته يكسونه إياها، بل هي نظرة داخلية تبدأ من أعماق دواخل المرء تجاه نفسه. لذا فقيمة المرء الحقة هي بالطريقة التي ينظر بها هو إلى نفسه، لا بالسبل التي يراه بها الآخرون. ومتى أدرك هذه الحقيقة، تحرر من قيود التقييم الخارجي، وصار أكثر رسوخاً وأماناً في مواجهة أحكام الناس. فكم من إنسان يحمل في داخله يقينًا بعزته، فلا تنال منه كلمة جارحة ولا نظرة منتقصة، لأنه لم يسمح لنفسه أن يتبنى هذا الشعور، وينظر من خلاله إلى دواخله. حينها يُدرك المرء أصالته الحقة، فيتيقن حق اليقين أنه لا توجد إساءة للمرء ما لم يقبلها هو في نفسه على نفسه، ولا تكون هناك إهانة ما لم يشعر هو بالهوان في بواطنه. ومن يتعامل مع ذاته بوعي واحترام، ويتصرف معها بإكرام وإجلال، فإنه لا يترك منفذًا لأذى الآخرين له، ولا يدع لهم فرصة للتقليل من شأنه، ليس بالمنع المباشر، أو الصد اللاذع، وإنما بمعالجته الداخلية لكل نافذ قبل كل شيء، لأنه يعلم أن مصدر القيمة الحق لا يُعار من الخارج، ولا يُوهب من الآخر، بل هو صنيعة نفسه، وهدية أصالته في الداخل. وكذلك الأمر في الكفة الأخرى، فلا توجد رفعة ولا عزة، ولا سمو ولا تكريم يمكن للآخرين أن يرفعوك إليها دون أن تشعر بها في سريرتك أولًا، فلا فخامة التمجيد، ولا تكرار المديح، ولا علو الثناء مهما بلغ، قادر على تغيير بساتين شعور الإنسان إن كانت خاوية على عروشها من الداخل، أو متلهف لاحتساء إشادة الآخرين، كظمآن يتوق إلى رشفات رضاهم. والعكس كذلك صحيح، فقد يعلو المرء بنفسه علوا لا يحتاج معه إلى تصفيق أو اعتراف، لأنه يستمد مكانته من وعيه بذاته. لذا، ما أجل ذاك الإدراك الذي تعي معه أنك أنت ببساطة منبع الشعور ومنبته، ومن تضفي المعنى والقيمة لذاتك، فكل شيء هو في أصله منك وإليك، وهذا أدعى للسلام وفرجة الأمل، لأن زمام أمرك بيدك لا بيد غيرك، وجنتك في قلبك لا يحول بينك وبينها حائل إلا بسماحك ورضاك، ولا يستطيع على خرابها أحد إلا إن شرعت له أبوابها. من تشرب هذا الفهم فقد عاش بسلام مع نفسه، وتحرر من عبء التوقع من الآخرين، ولا يفتأ يصبح أكثر قدرة على بناء حياة قوامها كرامة النفوس، وشرف الصدور، لا تزيين الكلمات، وتنميق الأقوال. لحظة إدراك: سامٍ ذاك الشعور بالارتواء، والتشبع الداخلي بالقيمة والإكرام، وقيّم ذاك الإدراك بأن قيمة المرء لا تُقاس بمرآة العيون الظاهرة، بل بما تسره النفوس الباطنة، وبأن الهوان لا يستقر إلا حيث يفتح القلب له بابًا للنفاذ، وبأن العزة لا تُهدى ولا تُشترى، وإنما تفيض فيضاً من آصال الصدور.
303
| 09 سبتمبر 2025
من مآثر الأقوال الشهيرة التي طفق والدي حفظه الله يكررها على مسامعنا منذ نعومة أظفارنا: (القيادة فن وذوق وأخلاق). وكانت غالبًا تأتي في سياق الاستخدام الآمن والتعامل اللائق عند قيادة السيارة، لكن مع تعاقب الأيام، واتساع دائرة التفكّر، وجدتني أنظر إليها من بُعد فلسفي أعمق، إذ إن قيادة السيارة ليست إلا رمزًا لقيادة حياتنا، وصنفًا من أصناف التعامل مع الحياة والناس. فالمرء على هذه البسيطة قائد حياته، ينتقي اختياراته ويتحمّل تبعاتها، وينسّق تفاعلاته مع الآخرين، فهو يعيش بين عدد زاخر من الأنام. وهذه القيادة تتطلب (فناً) أي مهارة فائقة في تقدير المواقف ووزن الاختيارات، وتحمل تبعاتها، والتعامل مع المفاجآت التي قد تبزغ في الطريق. فنٌ له بُعد مزدوج، مع النفس: حين نعرف حدودها وقدرتنا على التوجيه والاختيار، ومع الآخرين: حين نصنع توازننا في التفاعل واتخاذ القرار بما ينسجم مع منمنمات لوحة العالم بصورتها الكبيرة. وهي تتطلب أيضًا (ذوقًا) يجعل لكل مسار بهاءه الخاص، وترتيبًا دقيقًا للحظة والقرار، وارتقاءً في اختيار الشكل والمضمون، بحيث يتحوّل المسير إلى تجربة متناغمة لها من الأبعاد الجمالية والشكلية، والتراتبية الذوقية ما يجعلها عملية انتقاء وتصفية لا مجرد مسير عابر خالٍ ملامح الحُسن. والذوق كما الفن له بُعدان، أحدهما مع النفس، حين نتعهد حياتنا الداخلية بالترتيب، ونختار ما يمنحنا فيضاً من الانسجام والبهاء، والثاني مع الآخرين، حين تتحوّل تفاصيل التفاعل إلى لحظات احترام وإجلال للاختلاف، فلا تعدو أن تترك أثرًا رقيقًا في كل لقاء. أما (الأخلاق) فهي القلب الذي يضفي على القيادة معناها المكتمل، فتعين المرء على الإمساك بلجام حياته الذي يتطلب خلطة مع الناس، تستدعي خلقاً رفيعاً، وصبراً جميلاً، وإيثاراً لطيفاً، وتفهماً عميقاً، وانعكاس ذلك على تعاملاته مع الأنام من حوله، فما أدعى أن يتحلّى بالصبر، والإيثار، والتفهّم العميق. والأخلاق أيضًا لها بُعدان: مع الذات، بالصدق والثبات والوفاء بالوعود التي نقطعها على أنفسنا قبل أي أحد، ومع الآخرين، باللطف والكرم والتفهّم الذي يجعل حضورنا في العالم حضوراً حيًّا وملموسًا، مُعيناً على الاتساع لا مجرد أثر ضيق عابر ! ومادام المرء يُتقن ثلاثية القيادة يكون للفلاح أقرب، وللاتزان أدنى، وللحكمة أمثل، وهذا مما يُسهل قيادته حتى وإن تعرجت بعض دروبه، أو اضطر أن يصطدم ببعض عابري الطريق، فمن امتلك زمام أمره، واتقن قيادته، سَلِم وسَلّم. * لحظة إدراك: حين تتآلف مهارة الاختيار مع رقة الذوق وسمو الأخلاق، يصبح المرء قائد نفسه وعالمه، بفن يمنح الحياة سلاسة المسير، ومتعة الطريق، و طيب الأثر.
261
| 02 سبتمبر 2025
جليلٌ أمرُ من يملك تلك الحكمة الفذّة، والقدرة الفريدة على ضبط النفس، والتروّي في لحظات احتدام النقاش وتشعّب الآراء. فما أكثر ما تنكشف معادن الناس عند اشتداد الحوار، حيث يعلو الصوت حيناً على الحجة، وتغلب الرغبة في الانتصار على الفطنة. ويبقى من امتلك من الحكمة قبساً ثابتاً متّزناً، يُوطن نفسه على كظم الغيظ، وسعة الخاطر لاحتواء الاختلاف، والانتقال به لآفاقٍ رحبة للرؤية من زوايا أخرى، وتقبّل وجهات نظر قد يجدها في منهجه غير منطقية، أو ليست ذات معنى! فالاختلاف في حقيقته ليس خلافاً، والتنوع في جوهره ليس خصومة، بل هو باب لفهمٍ أعمق، ورؤية أوسع، وللحفاظ قبل كل شيء على الود والاحترام لشخص من يختلف معه، دون تسفيهٍ لرأيه، أو تمجيد لوجهة نظره هو ! فمهما بدت للمرء أن وجهة نظره منطقية، فهي تظل محدودة بحدود تجربته، ويظل علمه – على سعته – لا يساوي شيئاً أمام ما يجهله. لذلك، لا ينظر إلى الرأي الآخر على أنه تهديد، ولا يُقدّر ما اختلف معه أنه وعيد، بل يعد الأمر كله فرصة يلتقط منها ما يعينه على النمو، وما يقويه على الاتساع. والرحابة الأعظم بأن يكون مسرور الخاطر للتعلم أكثر، والارتقاء للأعلى والأسمى، لأنه يُدرك أن ما يجهله يفوق بمراحل علمه المحدود، ووجهة نظره القاصرة! فلا يرى في التراجع عن رأيه هزيمة، بل ارتقاءً لأنه يعلم علم اليقين أن الحق ليس حكراً على أحد، وأن اكتمال الرؤية يحتاج إلى عيون متعددة، حينها مجالس الحوار بالنسبة إليه مدارس لا معارك، والجدل فيها مجال لتلاقح الأفكار لا لتناحرها، وساحات للارتقاء والتوسع لا للضيق والتحجر. ولكي يبلغ المرء هذا المقام من الحكمة، لا بد أن يمتلك من السماحة ما يجعله يعرف كيف يتفطّن للسياقات التي تُطرح فيها الآراء. فما يراه غير منطقي، قد يكون في سياق صاحبه وجيهاً ومفهوماً. وما يظنه بلا معنى، قد يكون نتيجة لتجربة عاشها الآخر بعمق. فما التبصّر في الدوافع الخفي منها والبيّن إلا فتح لقلب المرء لأبواب من الرحمة، وكوة ينساب منها اللطف، فلا يلبث أن يحيله ألين حكماً وأبعد عن القسوة والتسرع. ومن هنا تتجلى أسمى معاني النبل، بأن تسعى في اختلافك إلى بناء الجسور لا هدمها، إلى الفهم لا القطيعة، إلى التكامل لا الإقصاء. أن تحفظ كرامة من تخالفه، وتحترم حقه في رؤيته، حتى وإن تبدت لك بعيدة عن المنطق أو غير ذات وزن، فالقيمة الكبرى ليست في كسب النقاش، بل في كسب الإنسان، وفي التسامي معاً إلى مستوى أرقى من الفهم والرحابة. لحظة إدراك: جوهر الحكمة والنُّبل أن نعلو في لحظة الخلاف بقلوبنا لا بأصواتنا، وأن نحول اختلافنا، ذاك المكتوب في سطر الأزل، إلى ساحة للنمو المشترك، وللتعارف والتآلف، لا إلى معارك دامية تُثقِل الأفئدة بأغلالٍ لا طاقة لها بحملها. وما أسعد من أُوتي قبساً من تلك الفِطنة، ورشفةً من ذاك الفن، فقد امتلك جوهرةً تضيء حياته وحياة الأنام من حوله، وترتقي بإنسانيته إلى مقامات المكارم، حيث يعلو الإنسان بالرحمة قبل الرأي، وبالود قبل الغلبة، وبالنبل قبل كل شيء.
309
| 26 أغسطس 2025
لا تأخذ الأيام على محمل الرتابة، تظن أنك قد عشت حياتك، وأنت لا تعدو أن كررت أيامك، واستنسخت لحظاتك، وألفت حتى أفكارك، واعتدت مشاعرك! ولا ينفك العمر ينقضي وأنت تظن أنك سائرٌ فيه، بينما هو لا يزيد على أن يعيدك إلى النقطة نفسها كل مرة، كأنك تمشي في دائرة مفرغة لا بداية لها ولا نهاية. لا تستسلم لدائرة التشابه، التي تُشعرك بأنه لا جديد، ولا غريب، ولا مفاجآت تُثير ذهولك، أو مناسبات قادرة أن تُخرج منك مشاعر ذات نكهة مختلفة ! ولا موقف يوقظ فيك الدهشة التي تُحيي ألق الروح، وتُنير ظُلمة الوجدان، حتى تفقد مشاعرك بريقها، وتخفت في عينيك ألوانها، فلا يلبث فؤادك أن يغدو آلة اجترار متآلفة مع الخِدر ! معتادًا حتى على الفرح والحزن، وكأنك عشت كل شيء من قبل، فلا يُثير عجبك شيء، ولا يُشعل عزمك أمر، ولا تُبهجك أي مسرّة. ومع طول الاستسلام، تتوهم أن هذا هو شكل الحياة، وأنه لا جدوى من انتظار المختلف. فتغدو كمن يدور في ساقية، يشد نفسه إليها ويستمر في الدوران بلا توقف، حتى يذبل في داخله معنى العيش، ويحين وقت أفوله من غير أن يتذوق نكهة التجارب الحقيقية. فالحياة لا تبوح بجمالها لمن يقف عند تخوم ظواهرها المتكررة، ولا على أطراف حواشيها المكشوفة البادية، بل تمنح خيراتها لمن يجرؤ على اقتحامها، ويختار أن يراودها عن مخزونها من الغبطات التي تُبهج القلب وتوسع الخاطر، فهي لا تُشرق بكامل بهائها، ولا بتنوع ألوانها، ولا تعدد مباهجها إلا لمن يقرر أن ينعتق من أسر الرتابة واستكشف أن في أعماق الأيام مناسبات قادرة أن توقظ فيه مشاعر جديدة، ومواقف تُخرج منه ألوانًا لم يعرفها في نفسه من قبل. اختبر أن تنعتق من الساقية التي شددّت إليها نفسك، فلا تزال تدور فيها إلى أن يحين وقت أفولك ! وأن تُغيّر من نفسك قبل أن تلوم الدنيا ومن عليها، جرّب أن تخوض عبابا جديدة، وأن تسمح لقلبك أن يتذوق من طعومها نكهات مختلفة. ففي كل تجربة طعم خاص، وفي كل لحظة لون مغاير، وفي كل التفاتة صغيرة دهشة مختبئة. وحين تمنح نفسك فرصة للاتصال بكل ذلك، سترى أن زهرة الحياة لم تذبل قط، وإنما كانت تنتظر أن تقترب منها لتعيش دنياك وتتذّوق من طعومها نكهات مختلفة، و لتتمتع من زهرتها ألواناً بهيّة تُحيي فؤادك، وتنعش جنانك، وتدّب في أوصالك الأنس والمسرّة. لحظة إدراك: إن الحياة ليست أيامًا متشابهة تتكرر حتى تنقضي، بل هي فسحة واسعة للعيش والتجدد، فلا تجعلها تستنسخ نفسها فيك، أتح الفرصة لها أن تنبض بك أنت، وعشها بامتلاء، وأقبل على لحظاتها كما لو أنك تراها للمرة الأولى، دون تكرار يُحيل ألوانها إلى ظلال رمادية، ودون استباق يقلب أنسها إلى اجترار، فالحياة لا تهب دهشاتها إلا لمن يستحق أن يعيشها بحق.
384
| 19 أغسطس 2025
ترفٌ ذاك الذي ترفل به الأرواح النيّرة، تلك التي تعظم الموجود، وتوجد المعنى من أيسر الأشياء، وتبتهج من أبسط المسرات، دون اشتراطٍ، أو اعتبار للافتراضات ! التي لا تستوجب حالاً ولا تُملي ظرفاً، ولا تمتعض من النقصان، الذي لا يأتي إلا من عينٍ تقلل الكثير، وتُصغّر الكبير، وتغض الطرف عن النعم التي ترفل بها، وتعتاد المقارنة، فلا تغدو الآلاء في عين نفسها سوى ذر لا يستحق أن يُلتفت إليه ! التي لا تشترط سياقاً للعيش، ولا شروطاً للانشراح، صدرها فسيح، و قلبها فيّاض، وفكرها مشغول بملاحقة النعم، خفيفة الروح، يسيرة النفس، بسيطة المسلك، تلتمس العُذر، و تبعد عن الحكم، تعيش بما تيسّر، لا تقاوم حالاً، ولا تكره مآلاً، لأنها تُدرك الإدراك الحق، وتعلم علم اليقين أن الدنيا ليس بظواهرها، وأن من اغتّر بزخرفها واكتفى منها بالسطح، فقد تمكّن منه الزيف، وتسلل من بين أصابعه المعنى، وضاعت من بين طرقاته الخيرة التي لا يعيها سوى المُسلّم بأن للخير أشكالاً تتعدى البائن للناظرين، وتفوته لحظات الإيمان، وتغرب عن مضغته شذرات اليقين بأن للحياة ربا عليما مُدبرا، لا يستقيم معه القلق، ولا يليق بمقامه الكدر. تلك الأرواح أينما حلّت حلت معها البهجة، يقترن حضورها بالنور، و يفيض حديثها باللطف، ربما لا تُلمح بحدة التأثير، ولا بالظهور اللامع، لأنها اعتادت البذخ المكنون، بذخٌ تتنعم به بالاتصال بالمعنى الأجود، والمقام الأسمى، و التخفف الأرّق من كل ما يثقل المسرّات فيحيلها إلى حالات معقدّة الشكل والحس، و يضيف عليها حمل الشروط والتوقعات، فما لها آنذاك من بدٍ من الاتساع والتحليق، ولا مفر لها إلا الخِصب والازدهار. *لحظة إدراك: من التنّعم أن يُدرك المرء أن التخفف هو لغة الروح، وأن التيسير هو ترجمان السماحة، وأن البهجة بلا سبب هي لسان اليقين، وأنه متى أتقنت نفسه التحدث بطلاقة بتلك الألسن فقد تنعمّت، وعاشت في بذخٍ لا يناله سوى من وعى بأن النعيم هو سلام القلب، وراحة البال، و مسرّة الوجدان، تفيض على خارجه فيغدو لطيف المعشر، رقيق الحاشية، دمث الخلق، ليّن الطبع.
531
| 12 أغسطس 2025
من الجليل أن يُحتفى بالهدوء كقيمة مُثمنة، وقيمة مضافة لا أن يُدرك كغيابٍ عن الدنيا، وجميلٌ أن تُكرّم اللحظات الساكنة كرجوع للداخل، وغوص إلى أعمق ما في الحياة، لا كانعزال عنها. ذلك لأن الصمت بات خياراً راقياً في زمنٍ تتزاحم فيه الأصوات والمطالب، وصارت الطمأنينة مساحة يُعاد فيها ترتيب الداخل بهدوء صامت ويُصغى للسكينة كأنها لحنٌ عتيق يُربّت على القلب، ويعلّمه كيف يسكن دون أن يخبو، و كيف يهدأ دون تلاشٍ أو زوال ! ولعله من المفارقات أن يدرك المرء أن السكينة ليست احتمالاً قد يحل بالمصادفة، أو هبة تتنزل على القلب دون مقدمات، بل إنها انتقاء مقصود، تُختار كما يُختار نسق الحياة، وتُقدّر كما يُقدّر الفنّ. فالنفس حين تَصفو يتبين لها ملاحظة ما كان غائبًا في زحمة الانتباه: نقاء نور الصباح، تماوج غيم الرباب، خفّة رقصات النسمات، دقة صوت المياه، ورقة جناحات الفراش.. يصبح الحُسن باختصار مرئيًا، ليس لأنه طارئ فجأة، فهو موجود حتى وإن لم تدركه الحواس، ولكن لأنه أصبح في مرمى مزاجٍ رائق، تعلّم كيف يلحظه دون أن يُغيّب عنه بضمان حضوره، فيراه ويُثمنّه. ومن هنا تكمن بدايات المحبة، حيث تنشأ علاقة جديدة مع اللحظة، ليس الوقت فيها هدف للملاحقة، وإنما فرصة سانحة للمرافقة، و ليس الزمن فيها غاية للمطاردة، بل لحظة مواتية للمصاحبة، فيُصبح الوقت ممدودًا في فنجان قهوة، أو في طرف حديثٍ هامس، وربما في خلوةٍ تُضاء بشمعة، وتأملات للمرء مع ذاته وما حوله بصمتٍ متفكر لا يداني صوته أحد ! فالأرواح الرائقة، تتآلف مع نفوسٍ باذخة، كريمة أصيلة، لا تركض خلف المتع، ولا تتسابق نحو اللذات، بل تخلقها من التفاصيل الصغيرة، وتعرف كيف تُقيم شعائر الامتنان في أبسط المشاهد. وهذا المزاج، بهذا النسق، لا يزدهر إلا حين يُقدّر اللطف، ويُثمن الرفق، وحين تُنطق الكلمات وكأنها تختال بدلالٍ على أطراف الأسماع، فيُصبح الحضور هادئًا ساكناً دون أن يبهت، عميقًا دون أن يُثقِل، فاللطف في هذا السياق ليس ضعفاً ولا وهناً بقدر ما يُحال إلى لغة راقية تتقنها الأرواح التي عرفت خشوع الصمت، وجمال التأنّي، وسحر الاختصار. ويُصبح الرقي حينئذٍ نمط حياة، وأسلوب عيش، ومنظار وعي، لا مجرد زينة تُضاف ! يمتد من طريقة الجلوس، إلى شكل الابتسامة، إلى اختيار الأنغام، إلى انتقاء اللحظة واللفتة، فالرقي مقيم لا يغادر تفاصيل من يُجيدون رؤيته، لأنه ببساطة أصبح جزءاً أصيلاً من معدنهم. وفي خضم هذا الاتساق، يُدرك المرء أن علاقته بذاته تُعاد صياغتها من جديد، فتصبح خلوته عودة لنفسه لا هروباً منها، ويُعاد فيها ترتيب الشعور على أرفف الفؤاد لتُملأ حُجراته بما يليق به دون تضخيمٍ أو استهانة، وتُلمّلم الفوضى بصمت، حتى يُعاد تعريف كل شيء لذاته وكأنها طفل أبصر النور للتوّ ! حينها تُزهر الروح فتتنعم بالدلال الهادئ، وبالدفء الحاضن، لا بالاهتمام ساطع، والرعاية المتكلفة، تُدلل ربما بكلمةٍ تُقال من القلب، أو بلحظة يُشير فيها البنان إلى شيء لم يلحظه أحد، في تلك الرعاية الخفيفة، وفي ذلك الانتباه البسيط، تُوقن الأرواح الرائقة أنها فعلاً بخير، وفي كنف نورٍ يتلقفها بالعناية والرعاية، وهذا كنز غالٍ لمن أدرك قيمته. لحظة إدراك: لعل من ألطفِ اللطف، أن يستيقن المرء بأن ذاك النسق من المزاج ليس مُقنَّعًا ولا زائفًا، بل هو طبعٌ أصيل فيمن اختار السلام الداخلي زينة، وآمن أن البهاء الحقيقي يبدأ حين تُحبّ النفس سكونها، وتثمّن لحظات وصلها. فيغدو خفّ الروح، ينساب أثره على ما حوله، كأنه يُشرق بضوئه الساكن، فيجعل كل ما يلامسه أكثر إشراقًا، وأتمّ نورًا.
276
| 05 أغسطس 2025
مساحة إعلانية
انتهت الحرب في غزة، أو هكذا ظنّوا. توقفت...
7068
| 14 أكتوبر 2025
المعرفة التي لا تدعم بالتدريب العملي تصبح عرجاء....
2856
| 16 أكتوبر 2025
ليس الفراغ في الأماكن، بل في الأشخاص الذين...
2580
| 20 أكتوبر 2025
يمثل صدور القانون رقم (24) لسنة 2025 في...
2529
| 21 أكتوبر 2025
لم تكنِ المأساةُ في غزّةَ بعددِ القتلى، بل...
2187
| 21 أكتوبر 2025
في ليلةٍ انحنت فيها الأضواء احترامًا لعزيمة الرجال،...
2127
| 16 أكتوبر 2025
قمة شرم الشيختطوي صفحة حرب الإبادة في غزة.....
1620
| 14 أكتوبر 2025
في زحمة الحياة وتضخم الأسعار وضيق الموارد، تبقى...
1401
| 16 أكتوبر 2025
الوقت الآن ليس للكلام ولا للأعذار، بل للفعل...
1251
| 14 أكتوبر 2025
لا يخفى على أحد الجهود الكبيرة التي تبذلها...
1128
| 14 أكتوبر 2025
لم تعد مراكز الحمية، أو ما يعرف بالـ«دايت...
936
| 20 أكتوبر 2025
القيمة المضافة المحلية (ICV) أداة إستراتيجية لتطوير وتمكين...
798
| 20 أكتوبر 2025
مساحة إعلانية