رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مهما بلغ المرء من مقام، ومهما وصل في حياته من مرام، تظل إنجازاته حاملة لمعانٍ لا يقدرها إلا هو، فعين الخطيئة ليست في ضآلة ما وصل إليه في عيون الآخرين، إنما في أن يغفل الإنسان عن أن يوّقر ذاته ويحتفل بما اجتازه من دروب شاقة، ومسالك وعرة، وبما تحصّل له عبر الزمن من رزقٍ ومقام، ولو بدا للعامّة قليلاً يسيراً أو سطحياً تافهاً، فهذا الفخر الداخلي هو اعتراف صادق بقيمة ما اكتسبه، قبل أن تراه عيون الناظرين من الخارج. فمن اجتاز اختبار الأيام، وواجه تحديات كادت تبعثر روحه، وتخطّى آلاماً أوشكت على اعتصار قلبه، وحده من يعرف قيمة كل خطوة وثمن كل صبر. فهو الأعلم بالهموم التي حملها، والأدرى بالدروس التي استخلصها، والأحكم بالقوة التي استنهضها من صمتٍ واحتجاب، ومن هذا الفهم العميق ينشأ تقدير المرء لذاته، والقدرة على الاعتراف الشجاع بخطواته، مهما بدت صغرى في عيون من حوله ! لذا، لا ينتظر الإنسان أن يقيّمه غيره من وراء الحُجب التي تمنع عنه صدق الرؤية، ولا أن يقدّر مساره من لم يمشِ فيه خطوة واحدة، ولا ينبغي أن يكون هو ذاته أشدّ غلاظة على نفسه من قسوة غيره عليه ! فأسوأ الظلمات تلك التي تصيب الروح من حكمها الجائر على ذاتها بالانتقاص، و على مسيرها بالتفاهة والتحقير، قبل أن يُسقط عليها أي حكم من الخارج، فالقيمة الحقّة منبعها البواطن، وأعماقها الكائنة نابعة من سلام النفس، وراحة الخاطر، وتثمين الداخل، ومن الاعتراف البيّن لما تحمله وتجتازه الروح. لحظة إدراك: الحياة رحلة يختبر فيها الإنسان عمق ذاته، ويحتفل بخطواته، مهما صغرت في أعين الناس. فهي مساحة رحبة للسلام مع النفس، وللاعتراف الحق بالجهود الصامتة، وللتثمين الخفي للقدرة على النهوض بعد كل سقطة، والقيام بعد كل كبوة، حتى يصبح كل ألمٍ مرّ به، وكل انتصار صامت حققه، جزءاً من وعيه، وجوهراً من نفائس قيمته الذاتية، وصرخة فخرٍ صامتة تعلن عن وجودها بكل تلافيف تجربتها الإنسانية على هذه البسيطة.
237
| 09 ديسمبر 2025
في التجارب الإنسانية، يظل الشطر المخفي هو الأصدق، فالظاهر لا يبوح سوى بالقليل، ولا يُنبئ إلا عن علامات مارقة قد لا تلامس العمق وقد يجانبها الصواب. ففي البواطن تتحرك طبقات المحاولات المتلاحقة، وتتراكم الأعباء التي لم تُتح لها فرصة المشاركة في حمل ثقلها. وتتكدس الدروس لتصوغ ملامح جديدة للوعي، ومنظوراً حديثاً للإدراك، فما يبدو للعالمين مجرد مرحلة عابرة، قد يكون في حقيقة نفس المرء نقطة انعطاف غيرت المسار بأكمله، فهي جزء من فصائل الصمت التي تحمل في طياتها انتصارات صامتة لا يُدركها سوى الإنسان نفسه. ومن هذا الغور السحيق يتكون معنى الإنجاز الحق، والانتصار الأسمى. فالإنجاز ليس دائمًا حدثاً كبيراً مجلجلاً، ولا إعلاناً صريحاً براقاً، فقد يظهر أحيانًا في قدرة المرء على الحفاظ على اتزانه وسط ما كان كفيلًا بإرباكه، أو في استعادة نفسه بعد فترة طالت فيها المشقة، وقد يأتي الرزق على هيئة لحظة هادئة، أو انسجام داخلي جديد، أو باب صغير فُتح في وقت كانت بقية الأبواب فيه موصدة. ومع مرور الزمن، يتضح أن الطريق الحقيقي هو ذاك الذي تشكل في الداخل، فكل تجربة مهما كانت متواضعة في ظاهرها، تحمل في عمقها تحولاً ما، قد يكون تغييراً في الفهم، أو نضجاً في طريقة النظر، أو انسحاباً هادئاً من فكرة كانت ترهق الروح، وتتعب العقل، ولهذا لا يمكن للآخرين أن يقدّروا حجم ما تم عبوره، ولا أن يمنحوه حقه من التفهم والتقدير، لأنه ببساطة تجربة كاملة لا يسهل قياسها. وأكثر ما يثقل الإنسان هو ميله إلى تقليل ما عاشه، أو استصغار أثر الأشياء التي عبرت به، وكأنما يطالب نفسه بأدلة ملموسة على صبر لم يشهده أحد، أو يلزمها بوزن لا يعبر عنه مقدار الجهد المبذول. ومع هذا الميل، تُهرق الكثير من القيمة في انشغال غير ضروري بالمقارنة، أو في توقع اعتراف من الخارج لا يزيد ولا ينقص من الحقيقة الساطعة شيئاً. وحين يتراجع هذا الزحام الداخلي، يُصبح تقدير المسار أكثر صفاء، حيث يمكن أن يُنظر للإنجاز كامتداد منطقي لرحلة خيضت بصمت، وتفهم الأشياء الصغيرة كإشارات ناضجة على تحول لم يكن سريعاً ولا سهلاً. وهنا يستحق أن نهنأ بالفخر دون اعتباره ضربا من المبالغة، لأن الفخر سيتحول لمعرفة رصينة بأن ما وصل الإنسان إليه لم يكن صدفة، ولم يأتِ بلا ثمن. لحظة إدراك: عندما يصبح كل ما مر به المرء- مهما بدا بسيطاً- فصلاً صادقاً من تاريخ شخصي عميق، فإنه يُدرك حينها أنه لا يحتاج إلى ضوء خارجي ليسطع نوره، لأنه قد غدا مكتملاً بمعناه، متسعاً بما حملته خطواته السابقة من عبور.
192
| 02 ديسمبر 2025
ثمّة لحظات يقف فيها الإنسان أمام مرآة روحه الداخلية، يزن فيها ما يليق بها وما ينبغي أن تبعده عن تخومها. في تلك اللحظات الثمينة، يشفّ المعنى الكامن خلف دعوى أن يتخيّر المرء لنفسه ما يليق بها، كإشارة من البواطن تدله على إدراك أن مساراته تُبنى بما يختاره هو لها، وأن انتقاء الطريق ليس إلا أدق صورة من صور الوفاء للذات ! ولذلك من الأجدر أن يعي المرء أن أمامه صورا شتى من الاتساقات التي آن له أن يتماهى معها: اتساق في انتقاء الصُحبة، فلا يرافق إلا من تسرّه رفقته، فحضور بعض الوجوه ينساب في الداخل كوجود مليء بالسكينة، يفتح فسحات أوسع للنبض، ومساحات أشسع للطمأنينة، بينما وجود أخرى يُطفئ النور ولو كان متلألأً مشعاً، ويضيق بالصدور ولو كانت في رحابتها تحلق، فالرفقة سوى محض نسيج يتشكّل منه المزاج، والمسار، وطريقة النظر للعالم !. ومن حُسن شيم الكرام فطنة الانتقاء، فلا يليق بالكريم سوى الإقدام على ما يراه يليق بطموحه، فالأحلام لا تنمو في أراضٍ بور، ولا تتّسع إلا بقدر ما تمنحه الروح من مساحات للتحليق والانطلاق، فبعض القرارات مآلها أجنحة تُشرّع، وأبواب تُفتّح، وبعضها ليس لها من شأن سوى أنها محض تكدير للخاطر، وتضييق للصدر حتى يصبح حرجاً كمن يتصعد في السماء ! ويمتد هذا الاتساق إلى الجوار أيضاً، فليس كل قربٍ قرباً، ولا كل ألفة تُشبه الألفة التي تُفتح لها أبواب القلب، ذلك لأنه هناك من يفتح في الداخل نوافذ من نورٍ لا تُغلق، ومن يُشرّع في الروح شبابيك من الإشراق على آفاقٍ لم تُكتشف بعد، ومن يكلّل الدروب بالبهجة وينثر في الطرقات المسّرة، ويترك أثراً رقراقاً لا يغيب. وكذا الأمر في اتساق الدروب التي يُمضى فيها، فبعض الدروب ترفع صاحبها نحو سموّ متلاحق، وطريق مشرق باذخ، وبعضها يثقل خطواته، ويضيع فيه الاتجاه حتى يفقد المرء من نفسه بريقها ! فما التخيّر هنا إلا قرار منير بأن لا تسير إلا في الطرق التي تشبهك، والتي تتناغم مع نبرة روحك، وحُسن مقصدك، وترف شعورك، وألا تساوم على ذلك إخلاصاً ووفاءً، حباً وكرامة. *لحظة إدراك: هكذا تتشكّل الحياة في نسقها الأرقى: اتساقٌ بين ما نُبقيه وما نُبعده، بين من نسمح لهم بالاقتراب ومن نحفظ عن أرواحنا مسافتهم، بين الدروب التي نُقبل عليها وتلك التي نتركها دون أسفٍ خلفنا. حياة تقوم على انتقاء يعرف قيمته، واختيار يدرك أثره، وسير يليق بالروح التي تُحسن الإصغاء لإكرامها.
282
| 25 نوفمبر 2025
في لحظات النقاء الصفيّة، يتبدّى للإنسان أنّ السلام ليس حالة تُكتسب، وأن السكينة ليست غاية تُنال، لأنهما في الأصل حقيقة كامنة، وكشف ينهض من عمقٍ سحيق من الإدراك. لا ينم سوى عن انفتاحٍ يعكس تخلياً دقيقاً يطيح بأوهام السيطرة، ويفتح للروح ممراً نحو حقيقتها الأولى، لا يصنعه الفعل، ولا يُهيئة العمل. ولعل من أثمن الإدراكات أن يفهم المرء أن أكبر التباساته تكمن في اعتقاده أن السلام ثمرة جهد، وأن عليه أن يحسن الفعل ليستحق الطمأنينة ! فيُحمّل نفسه عبء السعي، ويُثقل على ذاته هم الطلب، ويفترض أنّ الهدوء مكافأة تُمنح بعد استيفاء الشروط ! إلا أن هذا التصوّر، مهما بدا منطقياً، لا يورث إلا مزيداً من القلق، إذ يُغلق الباب أمام حقيقة أبسط وأعمق: أن السلام وليد التخلّي، ونتاج الترك.. لا وليد الفعل والجهد ! والتخلّي المقصود هنا ليس انسحاباً من الحياة، إنما ارتداد من خصومةٍ خفيّة مع المشاعر، ونكوص عن اشتباكات عميقة مع الأحاسيس، فنحن نطيل عمر الألم حين نرفضه، ونضاعف قسوة الخوف حين نخجل منه، ونُبقي الاضطراب حياً يتنفس في دواخلنا حين نُخفيه ! فكل شعور يُقاوَم يتحوّل إلى ظلّ أكثر كثافة، وكل ما يتم إنكاره يعود بقوة مضاعفة ليطالب بحقه في الظهور طال الزمان أو قصر ! وعلى العكس من ذلك، حين نتقبّل ما ينهض فينا بلا محاكمة، ونسمح له بالظهور دون مقاومة، ونتخلى عن التشبث، ونترك حدة التعلق، حينها يصبح الشعور عابراً، يجيء ويمضي، ولا يترك في الروح ندبة، ولا يخلف في القلب غصة، ففي هذا القبول الساكن ينشأ السلام، بوصفه انكشافاً، وليس نتيجة يتم الوصول لها، وتجلياً لحقيقة أن الإنسان لا يُنقِصه ضعفه، ولا يُشوّهه خوفه، وأن مشاعره ليست خصمًا لدوداً، فهي مجرد مرآة عاكسه لبواطنه. عند هذه النقطة بالذات، يتحوّل الوعي من معركة إلى رفقٍ وجودي، يتيح للمشاعر أن تنفذ وتغادر، ويسمح للروح أن تخفّ وتتحرر، ويفسح للسلام الفرصة أن يستقرّ بلا قيدٍ أو شرط. لحظة إدراك : السلام فعل تخلٍّ، وفن ترك، فالطمأنينة ليست ثمرة فعلٍ نُحسِنه، أو سعي نبذله، هي في حقيقة تنجلي حين نتخلّى عن خصومتنا مع مشاعرنا، فكل شعور نرفضه يشتدّ حضوراً، ويقوى سلطةً، وكل ما نقبله ينحلّ ويتخفّف. وعند هذه الحالة من القبول والسماح ينبلج السلام من كوة نور كحالة أصلية من الوجود الحق.
336
| 18 نوفمبر 2025
ليست الحياة الطيّبة تلك التي تُساق للمرء فيها الأقدار كما يشتهي، وليس معنى جودة حياته أن يتحقق له كل ما يريد، و تتجلى له كل رغباته كما يتطلع، إنما هي قوة القرار بأن لا يمنح لأحد الحق بأن يسرق راحة باله، وسكون قلبه، وحسن تنعمه بلحظته كيفما كانت ! وهي إدراك واعٍ بأنه قادر على العيش بسلام حتى حين لا يتحقق له شيء. وهي التبصر الواقعي بأنها ليست حياة خالية من التعب على أي حال، لكنها في أحسن الأحوال تخلو من الاستسلام له. فالحياة الكريمة هي أن نُبقي جذوة الأمل مشتعلة وسط الخفوت، وأن نجد في اللحظات الشاقة فسحة صغيرةً للامتنان والرضا بما انقضى، والأمن الواثق مما اعتدنا معه الرَهب مما نرتقب، هي أن يتبين للمرء بعين اليقين أن الحياة الطيبة ليست غياباً للتعب، ولا أفولاً للمشقة، إنما هي في حقيقتها حضور المعنى، واستشعار الخيرة رغم كل ذاك التعب والمشقة ! فأن يحيا الإنسان حياة طيّبة غنية بالمعنى إشارة إلى أن يكون حاضراً في تفاصيلها، شاهداً على أطيافها، حضوراً تاماً يمتعه بعيش كل ألوانها، لا انتقاءً يجعله يعيش في فخ الأمل الكاذب أو هروباً من وجع الألم القاتم ! أن يُصغي لشواهد الشعور، ونواطق اللذة والألم، ويكون ترجمانها بدل أن يقضي جل وقته في الهروب منها وكبتها والتخفي عنها، فما الصمت الطويل سوى بوابة لانطفاء الشعور، وتراكم السقم ، فالحياة شفيفة تتعافى بالصدق مع الذات، والإدراك لحق وجودها، وبالقدرة على إحالة التجربة مهما كانت مرّة إلى حكمة منيرة، و تبصّر مُشرق ينبت في أعماق الوجدان . وما هدية كل ذلك النضج الذي قد يمر بالمرء في أطواره، إلا أن يغدو أكثر خفة على نفسه، فيتوقف عن محاسبتها بصرامة السيد على عبده، وعن السعي الشاق المرهق لما يفتقر إليه من باب النقص وعطش الحاجة ويبدأ بالسعي نحو ما يحب بدافع الحياة ذاتها ، فلا يلبث أن يعتاد على رؤية الأمور على حقيقتها كما هي لا كما يرغب أن تكون، وأن يقبل حدودها دون أن يهرق طاقته، أو يفقد شغفه باحتمالاتها ! حينها تتكشف لدى المُدرك الصادق صورة الحياة الطيّبة في معانيها الصفيّة الأسمى: طمأنينة تنبع من البواطن، ورقّة في التعامل مع الذات ورحمة في التعاطي مع الأنام، وقدرة على العيش الصادق الهنيّ، كمن يصنع من كل لحظة عادية حياة كاملة تستحق العيش، دون أن يجلس على أعتاب الانتظار لتحسن الظروف، واستقرار الأحوال ! لحظة إدراك : ينسج الوجود المُدرك دربه بين الخفوت والوهج، وبين الأفول والإشراق، ويفيض المعنى من كل تجربة، فلا يلبث أن تتسرب للإنسان بصائر خفية تمنح الرضا، وتفيض بالشكر، وتتدفق بفرص الارتقاء، وتجدد الأمل، ويصبح العيش الناضج تجربةً تتفتح فيها القدرة على السلام والتثمين لكل ما يحمله اليوم من هدايا الحياة المترعة بالمفاجآت !
474
| 11 نوفمبر 2025
ثمّة نداءات خفية خافتة عن الأسماع، ظاهرة على الأفئدة، تُستشعر حين تضيق على النفس الأرض بما رحبت، وتنقبض الروح على ما ألفت، وتحنّ لاتساع لم تختبره بعد. تلك النداءات النيّرة هي دعوة للعبور، وباب لتدلف منه الأنفس للأرحب والأوسع من الأطوار، فالحياة تُعاش بالحركة، لا بالمكوث، والدنيا تتجدد بالتحول، لا بالثبات، والمألوف وإن بدا آمناً في ظاهره، قد يتحول إلى قيد قابض، أو سكون صامت يخمد في بواطننا وهج التجدد والانتعاش. ما إن يمس هذا النداء أغوار النفس، حتى يبدأ فيها حراك هجرة داخلي يسبق أي خطوة خارجية، فلا يكون عبورها مجرد انتقال في المكان، بل تحول سحيق في الأعماق. الهجرة هنا فعل وعي، فهي ليست انتقالًا جغرافياً، أو تحولاً مكانياً فحسب، فهذا ما تستطيع عليه الأجساد حسب المقام، وما تيسر في السياق من القدرة على الارتحال إلى بلاد الله الواسعة حين تضيق على النفس الأرض، أو يشتد على الصدور الكرب، أو تتطلع الأرواح للتوسع في المطامح. إنما هي كذلك هجرة الوعي، بأن تغادر تصورات ضاقت، أو شعوراً أثقل، أو سلوكاً كان مأوى فصار قيداً. أن تهجر هيئةً من نفسك لم تعد تعبّر عنك، أو فكرةً كنت تظنها سديدة، أو عادة مقيتة، فكل ولادة جديدة تبدأ بانفصال مؤلم، غير أن الوجع هنا علامة حياة، وبرهان كينونة لأن البقاء فيما يُميت الحس خيانة لنبض الوجود، وانتهاك لعلامة الحياة. فالانعتاق عن المألوف محبة لا خصومة، والارتحال عن القديم الآسن ازدهار لا أفول، ذلك لأن الوفاء للحياة يقتضي المضي معها حيث تتجه، ويستدعي التدفق معها أينما نبعت، فالهجرة الصادقة تُهذبنا كما تُهذب النار المعدن، فتُصفّينا من الخوف والتكرار، ومن الوقوع في أسر سيئ العادات، أو فاسد التصورات، حتى نُصقل، ويتبدى لنا وهج ذهبنا المتخفي نوراً. وحين نبلغ ضفاف هذا الوعي الجديد، ندرك أن الحياة لا تقيم عند السواحل الوادعة الساكنة، ولا المرافئ المتهاوية الذابلة، بل تجري أبداً نحو الاتساع، وتسير وثابة نحو التدفق النابض الرقراق. فلا أجلّ من أن يمضي المرء حيث يشير نهرها فيه، ويترك للتيار فرصة أن يقوده نحو حقيقته، ويصل به إلى مرافئ العادات الجديدة النافعة، والأفكار الحكيمة الناضجة، فلا يكون مسوّغه: (إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون). لحظة إدراك: تتكشف الحياة لمن يجرؤ على مغادرة ضفاف المألوف، ليس من سبيل التمرد على الماضي، أو الاحتجاج الثائر على كل شيء، إنما من منطلق الاعتراف بأن النفس أوسع من كل دارج، وأن ما يثقلها من أفكار وعادات ومشاعر ليس إلا ظلاً من قيود تمنعها أن ترى حقيقة ذاتها. حينها تتسع الروح، ويزهر الوعي وتورق أنوار الفؤاد، ويصبح كل رحيل عن الضفاف القديمة بداية اكتشاف للحرية والمعنى. كما قيل: إذا رغبت الحياة.. فاهجر ضفافك.
480
| 04 نوفمبر 2025
من أجلّ الإدراكات التي يمكن أن يصل إليها المرء هو أن يدرك أن إبصار الجمال في الأشياء البسيطة ليس محض ترفٍ شعوري، أو فضل لهوٍ حسّي، إنما هو حالة صفاء روحي، ومنقبة أخلاقية لا يدركها إلا من تأدّبت بصيرته، ولانت عريكته! فالعين التي دُربت على التقاط الجمال، وتصيّد تفاصل البهاء، تغدو أكثر رحمة، وأوسع مجالاً لرؤية ما وراء القشور، والقلب الذي يُدهش من التفاصيل الصامتة يتطهّر من القسوة، لأن التنبه للجمال لا ينفصل عن اللطف، ولا ينشق عن الرحمة، فالدهشة أخت النقاء، وشقيقة الطهر، تظهر أينما ظهر، وتحل أينما حل ! ففي العالم ما يكفي من الصخب لإخماد الحواس، وتبلّد الشعور، وما يفيض من العجلة لتعتاد الأرواح العبور بلا تروّ ٍ ولا انتباه ! ومع ذلك، تتبقى في كل زاوية دعوة خفية إلى التمهّل، إلى النظر بعين الشكر لا بنظرة الاعتياد، وإلى رصد كل أسرار الجمال مهما تخفّت، وإلى التمتع بكل دقائق البهاء مهما تغشّت. فالجمال الوضاح البارق تتخطفه العيون بلا عناء، يصرخ معلناً عن نفسه، متسيداً كل مشهد، أما البهاء الأوسع فلا تدركه سوى القلوب الراحمة المحبة، والأعين الشاكرة الحامدة، في تفاصيل العادي والعابر، تلحظه في تناسق ظلٍ على جدار، في ابتسامةٍ عابرة، في حركة الريح وهي تمسح الغبار عن ورقة شجر، في ابتسامة افترت من شفاه شيخٍ كبير، أو ضحكة طفلٍ لاهٍ في لحظته مع لعبته ! تلك اللحظات الخاطفة هي في حقيقتها ما يعيدنا إلى إنسانيتنا الأولى، حين كانت الدهشة لغة ً فطرية لا تكلّف فيها ولا قصد، تتهاوى جذلى مع الحياة طرباً واتساقاً ! وما إدراك الجمال بكل صوره وأشكاله سوى فعل تهذيب، فحين نرى الجمال في الآخرين، نكفّ عن النقد، وحين نراه في التفاصيل، نكفّ عن الشكوى ! حيث يصبح النظر نفسه نوعًا من الشكر، والسكوت أمام الجمال لوناً من العبادة الخاشعة، فالروح المتذوقة للحُسن تكتسب سكينة تشبه جلال الحكمة، لأنها تعيش في انسجام مع ما حولها، متغنّية بالأنس معه فلا خصام ولا شقاق ! وكلما ازداد وعي المرء عمقاً، صار الجمال أبسط ! لأنه يُدرك أن البهاء سابغ في أصله، فيّاض في طبيعته، فيعلم أنه حتماً ليس في البهرجة ولا في اللمعان البارق، إنما يجده في الصدق الأصيل، والتناسق الطبيعي الحق، في حضور الشيء في مكانه وزمانه الصحيح. هذا الإدراك ليس مقصوراً على الذائقة فحسب،إنما يمتد إلى الخُلق أيضاً، فمَن يعرف موضع الجمال، يعرف كيف يتصرّف بلُطف، وكيف يحافظ على توازنه وسط ما يتكسر حوله من قيمٍ وسرعةٍ وصخب. لحظة إدراك: أن لا تتوقف عن الانبهار، يعني أن تبقى حيّاً رقراقاً من الداخل، أن تحتفظ بنظرتك الأولى للعالم، تلك النظرة التي تُبجّل النعمة قبل أن تُحصي النقص ! فالجمال ليس في أصل الأشياء بقدر ما هو في القدرة على رؤيتها كما هي بهدوئها، وبصدقها.. بكونها عابرة ومكتملة في الوقت نفسه !
438
| 28 أكتوبر 2025
في مسيرة الحياة، تتسلل إلينا بعض الأرواح كأنها إشارات خفيّة من السماء، تحمل في حضورها سكينة تخفف عن القلوب عبء الأيام، وتعيد ترتيب ما اختلط في الصدور من تيه، وتلملم ما تناثر في الأنفس من شتات. هؤلاء رحمات مُرسلة من الرحيم بحكمة متناهية، ليكونوا لنا نوافذ للسكينة، ومرايا للنور، وأذرعًا تعانق أرواحنا بالسلام. وقد تتبدّى الرحمة في منمنات متناهية الصغر، قد تتجلى في صمتٍ راقٍ شفيف، أو ابتسامةٍ جذلى رفيف، أو حضور ساكن أنيق يعيد للروح اتزانها. كل لقاء مع هؤلاء يحمل رسالة، أو يُعلم درساً، أو يفتح فرصة، أو ينير إشراقة تذكرنا بالجوهر سابق الكلمات، وبالسلام متجاوز الأحداث، وبالطمأنينة الفيّاضة التي تملأ الأفئدة سكينةً وقراراً. حين يدرك المرء تلك النعمة، ترصد عينه كل تفاعل على حقيقته، كدعوة للتراحم، بتلقي الرحمة أو منحها للآخرين، وليس كمجرد حادث عابر يمر ولا يستقر ! تلك هي اللحظات الفارقة، التي مهما بدت صغيرة، فإنها تصنع أثراً عميقًا لا يُنسى في الأنفس، وإرثاً دائماً في ملكوت الآلاء المقدّرة، فتخلق صلة صامتة بين القلوب، وتفتح نافذةً بين الأرواح على يقينٍ راسخ بأن الخير حاضر، والنور ساطع، والحق أبلج، والرحمة مُباركة دائمًا، وأن الله لا يترك قلبًا بلا نور يرسله إليه من قلبٍ آخر، رحمةً وبركة.. حباً وكرامة. وما يتحصل عليه المرء من تلك الرحمة الفياضة هو في أصله دعوة لتداول الرحمات، بلا انتظار مقابل، أو تعنت في شروط، أو تضاؤل في حدود، لأنها ليست تبادلاً أو حساباً، إنما هي في جوهرها حالة وجودية خالصة تتدفق من القلب إلى القلب، فتغمر الأرواح بالسلام، وتغرس في العالم نورًا أعمق، يشعرنا بأن كل لقاء، وكل لحظة هي فرصة سانحة للتجدد، وإمكانية متعاظمة للمحبة، وإشاعة مباركة للطمأنينة على هذه البسيطة. وما هذا كله سوى رحمة من رحمات الرحيم، يفيض بها على عباده، تفتح لهم آفاق التراحم بينهم، وتدلف بهم إلى بوابات المساهمة في إشراقات الوجود النيّرة في أرواحهم، تجعلهم كالبنيان.. يشد بعضه بعضاً. لحظة إدراك: نحن رحماتٌ مُرسلة لبعضنا، ومتى أدركنا ذلك تعمّدنا أن نُكرم حق النعمة بالشكر، فلا نلبث أن نتخذ من وجودنا وسيلة لنشر الرحمة للآخرين، ولا يتم ذلك إلا إن تعامل المرء مع ذاته أولاً بالرحمة، وخلع عليها الحلل السنيّة من المحبة الخالصة والإحسان المتدفق، حينها يصبح كل لقاءٍ رسالة حية، وكل لحظةٍ فرصة لتجسيد المودة والسكينة، فتتدفق الأواصر بالطمأنينة والنور بلا حساب أو مقابل !
555
| 21 أكتوبر 2025
لبعض الاختيارات ثمنُها الباهظ الذي يجب أن يُدفَع، وتكلفتُها الغالية التي لا بدّ أن تُسدّد، إذ لا يمضي الإنسان في طريقٍ دون أن يؤدّي ضريبته، إمّا وقتًا، أو جهدًا، أو تضحية ما. فالتأجيل - وإن بدا راحةً مؤقتة - كثيرًا ما يكون قيداً خفياً يلتفّ حول الإرادة حتى يخمدها، فيُغري النفس بالسكينة الزائفة بينما يسرق منها زمنها الأجمل، وفرصها الأثمن ! وما اختيار المرء للتأجيل، وانتقاؤه للإرجاء هروباً أو تكاسلاً أو طولَ أملٍ أو تخبطاً وضياعاً، إلا عقبةٌ تجرّه إلى ما لا يُحمد عقباه. فكم من حلمٍ ذبل لأنه انتُظر طويلاً، وكم من فرصةٍ تلاشت لأننا لم نحسم أمرنا في لحظتها المناسبة. وهنا يظهر الفرق بين من يتقدّم بخطوةٍ واثقة، ومن يظلّ يُقلّب القرار بين كفيه حتى تبرد حرارته وتتفلت منه اللحظة في الشتات ! فالحسم اجتباءُ الحصيف، والحزم انتخابُ الأريب، الذي يعي جيداً أن التبصّر في أمور الحياة لا يعني التردّد، بل وضوح البصيرة، وأن الحكمة ليست بطول التفكير، بل بصفاء النيّة ودقة التقدير. فالحكيم لا يهرب من القرار، ولا يفر من المواجهة، إنما يُمهل نفسه فسحة حتى تنضج رؤيته، ثم يُقدِم بثقةٍ بلا وجلٍ أو خور. ومن يدرك هذه الحقيقة، يعلم أن اللحظة قد تكون أثمن من العام، وأن الخطوة الحاسمة - مهما كانت صغيرة - أصدق أثراً من آلاف الأمنيات المؤجلّة. فكل تأجيلٍ يخلق فراغاً جديداً، وكل ترددٍ يُهدر فرصة ربما لا تتكرر. وهكذا تتسع ضريبة التأجيل كلما اتسعت المسافة بين ما نعلم أنه صواب، وبين ما نجرؤ على فعله. ومن هنا، فإن تقليل الخسائر وضبط الغرامات التي تتحصّل من التميّع في الانتقاء وتأجيل البتّ في القرارات وتضييع الوقت النفيس في التردّد، لا يتحقق إلا بالوعي بقيمة اللحظة. فكما يُقال: ما إن تدرك أنك تستقل القطار الخطأ، فاهبط في أول محطة، فتكلفة العودة ستزيد كلما زادت المسافة ! غير أن الأولى من كل ذلك، أن يُدرك الإنسان أنّ الحسم ليس عنفاً قاطعاً، ولا تعاطيا غاضبا مع الأيام، إنما هو احترامٌ للحياة في قيمتها، وأن يدرك أن القرار ليس تحدياً، أو عقبة تصده، إنما وضوح، ووعي صادق مع الذات. فأن تختار يعني أن تحيا، وأن تُقرر هو أن تتصالح مع قدرك وتستعيد زمام أمرك من الفوضى، أما المماطلة، فهي تسليمٌ بطيء لمصيرٍ لم تُشارك في رسمه، ولا حتى في معرفة وجهته ! * لحظة إدراك: الحزم هو بصيرةٌ فاعلة نقية تُمهل ولا تُهمل، وتُقدِم ولا تتراجع ! وهي انتقاء دال على الحصافة، ومؤشر يعين على السداد. والقرار الصادق - مهما كان موجعًا - أخفّ وطأةً من التردّد، فليست المماطلة سوى استسلامٌ صامتٌ لمصيرٍ لم تختره، وانهزامٌ يدفعك قسراً للسير في دروب لا تلائمك !
441
| 14 أكتوبر 2025
من أسمى الإدراكات التي يمكن أن يبلغها امرؤ في يوم ما، أن يُدرك أن الاستغناء سيادةٌ تتجلّى حين تدرك الروح اكتمالها، فلا تعود تتشبّث بما يثقلها، ولا تركض خلف من لا يُدرك قدرها، فما الاستغناء إلا نضجٌ يُهذّب الرغبات، ويُعلّم النفوس أن منبع الاكتمال لا يُستمد من الخارج، إنما يُستقى من صفاء الداخل واتزانه. فالروح التي تعي ذاتها تُدرك متى تُغلق الأبواب لاعتزال ما يُؤذيها، ومتى تنسحب من صحبةٍ تُرهقها، ومتى تُفارق أماكن خُنقت فيها سكينتها، ومتى تُوقف جدالات تستنزف راحتها. ذلك أن الاستغناء هو حضور صفّي في تفاصيل الحياة، وليس انقطاعا عنها، أو اعتزالا لبهجتها، حضور يختار السلام على الصخب، والنقاء على التكلّف، والسكينة على الجلبة التي تُشوّه المعنى وتعبث في جنباته. ومتى أدرك الإنسان ذلك، تولدت عنده الحكمة التي تحرر نفسه من ثِقل التعلق وربقة الحاجة، وأعادت إليها سيادتها الضائعة في متاهات الرجاء ومفازات الانتظار. فما أن تستغني حتى تعود إلى نفسك، إلى مكانك الأصيل، ومقامك الجليل، الذي أكرمك الله وأعزك فيه، فلا يُهددك فيه غياب أحد، ولا يُقلقك تبدل حال مخلوق، لأنك عرفت أن الاكتفاء بذاتك هو أعمق صور الغنى، وأرسخ معاني العزة. عندها يتسع المداد لرحابة السلام، وتُشرق حياة أنقى، تتجاوز كل اعتبار زائل، وتُستعاد فيها القدرة على امتلاك زمام الأمور من جديد، فكما قيل: استغنِ، فمن ترك مَلَك. ولعل في الاستغناء من معاني السيادة التي تكتمل بعزة النفس، فهو حارس هذا المقام وسرّ ثباته. العِزّ الذي يُمكّن المرء من أن يصون روحه من الابتذال، ويحمي نفسه من التهتك، فيعرف إكرام موضعه المكرّم من رب العباد، فلا ينحني لما يُنقصه، ولا يُساوم على ما يُبهت نوره، يتنعم بتلك الكرامة الصامتة التي تغنيه عن الكلام، وتترفع به عن مهاوي الردى فلا يعلن رفضه إلا بصفاء واثق فينسحب من حيث لا يليق به البقاء. لأنه قد تأصل في باطنه أن من عزّ نفسه وجدها، ومن وجدها استراح، إذ لا يُرهق ذاته في طلب قبول عابر، ولا يبدد طاقته في مطاردة ودٍ متقلّب، يستغني عن كل ما لا يليق به، لأنه أدرك أن قيمته ثابتة، و مقامه رفيع لا يُستمد من عيون الآخرين. حينها تتجلى أرقى مراتب الحرية، ويغدو الإنسان سيد نفسه بحق، حراً من ذل الحاجات، طليقاً من أسر المقارنات، منعتقاً من مخاوف الفقد والنبذ. لحظة إدراك: يتجلى الجمال الأصدق حينما تكون مكتفيًا بذاتك، مطمئنًا لما أنت عليه، متصالحًا مع اتساعك، مستمتعاً بهدوئك، عارفًا أن كل ما يليق بك سيأتيك في وقته دون أن تفقد عزة نفسك، أو تُضطر لسلب راحة بالك، مستغنياً عن كل أذى، مالكاً لكل فضيلة.
501
| 07 أكتوبر 2025
ما السعادة إلا قرارٌ تتخذه الروح بوعيٍ كامل لتتصل بنبع حقيقتها، قرارٌ يهمس به المرء لذاته بأن يسمح للنور بأن يتسرّب إلى أركانه المظلمة، وأن يتسلل الضوء لزواياه المعتمة، وأن يفتح الأبواب التي ظنها مغلقة إلى الأبد، بأيسر ما يكون، وبألطف المتاح والمتوفر ! وما أن يتخذ الإنسان هذا القرار، حتى يبدأ التحوّل الصامت، فيرى ما وراء ضباب المعتاد، ويصغي لهمسات الفؤاد بما يُدركه دون غيره، ويتذوق بمتعة تفاصيله الصغيرة التي تضيء أيامه العادية فلا تلبث أن تحيلها إلى لحظات استثنائية ! ومن هنا يتجلّى الإدراك أن السعادة ليست مكافأة مُهداة بعد إنجاز، وليست محطة نبلغها بعد سباقٍ طويل، بل هي رحلة تمتد بامتداد العمر، لا نقطة وصول ! رحلة يتشكل مداها من القرارات التي نتخذها كل صباح، ومن العادات التي نلتزم بها رغم تقلبات الظروف والأحوال، ومن العزم الذي يُذيب كل صعب، ومن الهمة التي تتجاوز كل عقبة، ومن الإيمان الذي يملأ القلب يقيناً بأن كل شيء هو خير وفي خير وإلى خير لابد صائر ! هي لعبة بديعة، قوانينها ما نختاره من أفكارٍ وما نزرعه من نوايا، وما دامت لعبة، فالمسرة فيها خالصة، وقودها لحظة الحاضر لا القلق على القادم، ودافعها الرضا بما هو كائن لا الأسف على ما قد مضى. وبينما يتقدّم المرء في هذه الرحلة، يكتشف سراً آخر، وتتكشف له هبة إدراك باذخة، تُريه أن السعادة لا تعني أن وعوداً ببلوغ البهجة في نهاية الدرب، بل أن نتقن فن التلذذ بتفاصيل الطريق. فهي في طعم القهوة الأولى، في نَفَس الصباح المشرق، في ابتسامة عابرة، في كلمة شكرٍ نهمس بها أو نسمعها، هي في الامتنان الذي يبدّد الحزن، وفي الإيمان بأن النقصان ليس إلا جزءا من اكتمال الصورة الكبرى ! وما أسرع ما يرافق ذاك الإدراك وعيٌ ثانٍ بأن التلذذ وحده لا يكفي ما لم نعرف الوجهة. فالبهاء الحق للسعادة المترفة هو أن نُحسن التصويب للوجهة، وبأن نسأل أنفسنا عند كل منعطف: إلى أين أنا راحل؟ ما القيم التي أُسلمها طواعيةً زمام قلبي؟وما المعنى الذي أيمم شطره وجهي؟ فلا نضيّع المقصد.. ونحن نظن أننا نحسن صنعاً ! ولا يلبث أن تتسع لدى المرء منا الرؤية، ويدرك الرابط الأعمق الذي يشد الرحلة كلها إلى مركزها، فالبوصلة الحق لا تُستمد من الخارج، إنما من انكفاء المرء على داخله، بالاستعانة برب ٍ يهدي ويسعد ويمنح ويعطي، كرمه فيّاض، وفضله عميم. *لحظة إدراك: كل نورٍ داخلي هو في جوهره فيض من نور الله، وكل قرارٍ بالإشراق هو استجابة لدعوة الخالق سبحانه إلى حياةٍ أرحب ومعيشة أجمل، فالسعادة ليست حلماً بعيد التحقيق، إنما في قوة اتخاذ القرار كل يوم بأن نُشرق مهما طال الليل، وأن نتنفس عميقاً رغم ضيق الأفق، وأن نؤمن بأن الفقد بابٌ لِعطاءٍ أكبر، وأن كل عتمة تحمل في طياتها قبس الفجر الآتي لا محالة !
480
| 30 سبتمبر 2025
للأماكن والبيوت أرواح منعكسة من أرواح ساكنيها، فهي منشور دقيق لمن يقيم بها، تحمل روحه وتبث دقائقها في كل تفصيلة من تفاصيلها. فما جمال المكان ورحابته، وإن كان بسيطاً، إلا انعكاس لجمال روح صاحبه ورحابة قلبه، وما أُنسه إلا من أُنس مهجته، وما نوره إلا بهجة جنانه وابتسامة خاطره. وإن كان للأماكن لسان، فلن تنطق إلا بخبيئة روح صاحبها، وإن كان لها شكل فلن تشي إلا بذوقه، وإن كان لها شعور فلن تترنم إلا بما يغذيها هو من إحساسه وطاقته. هي مرآة لأسرارنا، تحفظ ما نبوح به وما نكتمه، وتردد صدى ما نزرعه فيها من حب أو فتور. وما روحها في النهاية إلا روح صاحبها وخوافي ساكنيها، فهي إن خلت من دفء الأرواح صارت جسداً بلا روح، ومهما ازدانت أثاثاً وزينةً بقيت باردةً باهتة لا حياة فيها. ومع ذلك، يبقى للإنسان دور خفي في شحن هذه الأمكنة بما يجعلها نابضة بالمعنى. فنحن من نُضفي على الأماكن قيمتها، ونحن من نملؤها فرحاً أو كآبة بقدر ما نحمله من مشاعر، ونفيض عليها من الأحاسيس. بيوت صغيرة قد تتسع للعالم بأسره إن سكنتها قلوب رحبة، وقصور فسيحة قد تغدو خاوية باردة إن أقامت فيها قلوب منقبضة! فحين يجتمع الأحباب في بيت واحد، تتفتح الأرواح كالأزهار، وتتنفس الزوايا عبق الألفة، وتفيض شعراً يُدّون على جدرانه شاهداً على ما كانت تحتويه للزمن، فيغدو الحجر ناطقاً والفضاء دافئاً، وكأن الأركان نفسها تتعانق مع أفئدتهم، فإن غابوا انحسر الضوء، وأظلمت بعد إسفار، وذبلت بعد إيناع، وكأن المكان ينوح لفقد طاقته الأولى. هكذا تتجلى الأماكن كمرآة مزدوجة، تعكس صفاء الحاضر بقدر ما تحفظ ظلال الماضي. هي تلتقط من ساكنيها بهجة اللحظة، وأنس المسرة، ثم تختزنها في أعماقها لتظل تتردّد فيها حتى بعد رحيلهم، فالمكان مهما تجمل لا يكتسب قيمته من حجارة وأبواب، بل من الأرواح التي مرت به، ومن الحب الذي أُودع في زواياه، ومن القصص التي نُسجت بين جدرانه. وكما قيل: وما حبُّ الديار شغفن قلبي ولكن حبُّ من سكن الديار لحظة إدراك: الأماكن في نهاية المطاف لا تعيش إلا بنا، ولا تعكس إلا أرواحنا، ولا تنطفئ إلا بغيابنا، ونحن من نهبها روحًا تبقى متوهجة حتى بعد أن نمضي، هي (منازل) نزلت فيها نفوس عاشت حياة حقيقية، وهي (مساكن) سكنت فيها مشاعر الألفة والسكينة، حفظت للقلوب التي أحبت هناك نبضها الذي ما زال يتدفق في هوائها وإن خلت من أجساد أصحابها!
525
| 23 سبتمبر 2025
مساحة إعلانية
-«المتنبي» حاضراً في افتتاح «كأس العرب» - «أبو...
2319
| 07 ديسمبر 2025
لم يكن خروج العنابي من بطولة كأس العرب...
2256
| 10 ديسمبر 2025
لم يدخل المنتخب الفلسطيني الميدان كفريق عابر، بل...
1458
| 06 ديسمبر 2025
عندما يصل شاب إلى منصب قيادي مبكرًا، فهذا...
1170
| 09 ديسمبر 2025
في عالمٍ يزداد انقسامًا، وفي إقليم عربي مثقل...
762
| 10 ديسمبر 2025
هناك ظاهرة متنامية في بعض بيئات العمل تجعل...
663
| 11 ديسمبر 2025
حسناً.. الجاهل لا يخدع، ولا يلبس أثواب الحكمة،...
642
| 08 ديسمبر 2025
يُتهم الإسلام زورًا وبهتانًا بأنه جاء ليهدم الدنيا...
579
| 07 ديسمبر 2025
شهدت قطر مع بداية شهر ديسمبر الحالي 2025...
570
| 07 ديسمبر 2025
نحن كمجتمع قطري متفقون اليوم على أن هناك...
501
| 11 ديسمبر 2025
مع دخول شهر ديسمبر، تبدأ الدوحة وكل مدن...
483
| 10 ديسمبر 2025
في قلب الخليج العربي، وتحديدًا في العاصمة القطرية...
465
| 09 ديسمبر 2025
مساحة إعلانية