رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

Al-sharq

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

الشرق

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

المقومات الأخلاقية لحضارتنا (2)

بدأنا المقال السابق عن أهم المقومات الأخلاقية لحضارتنا وذكرنا منها أنها أخلاق ترتقي بالإنسان وليست كالأخلاق التي يدعو لها الغرب أحيانا وهي في حقيقتها تنزل من مستوى الإنسان إلى شهوات الحيوان أو ظلمة الأنانية أو مستوى ينفر منه الطبع الفطري السليم، ثم عرجنا على المقوم الثاني وهو الحرية المحاطة بالفضيلة والراعية لها، وها نحن نكمل قليلا عن الحرية قبل أن ننتقل للمقوم الثالث. الحرية المنضبطة بالأخلاق في حضارة الإسلام لا يوجد هناك حظر على التدين والتعبير، وإنما الحظر على الفساد السلوكي، والانحلال الأخلاقي، والانحراف عن الفضيلة. عندما ندعو إلى الحرية، ونقول: إن الإسلام كفل الحريات للناس، فإننا ندعو في الوقت ذاته إلى ضبط الحريات بالأخلاق، لأن الأخلاق غالباً ما ترتبط بالشهوة وليس بالفكر، وخلاصة الأمر أن من حق الإنسان أن يفكر كما يشاء، ومن حقه أن يتبنى ما يشاء من الأفكار، لكن عند التطبيق وفي السلوك لا بد أن ينضبط بالأخلاق، ويلتزم بالقانون، وبغير ذلك تصبح الحرية وبالاً على الناس، وأضرارها أكبر من منافعها. حرية التعبير لقد كفل الإسلام للناس حرية التعبير، فمن حق أي شخص أن يقول ما يشاء ما لم يؤدِّ ذلك إلى فساد أو إحداث ضرر، فمن حق الإنسان أن يدعو إلى أفكاره ويروّج لآرائه، كما يحقّ للناس أن يعترضوا على الحاكم والحكومة والوزراء إذا رأوا ظلماً أو خللاً، ومما يدعم قولي أن القرآن الكريم حفظ لنا أقوال الكفار واعتراضهم على الله تعالى، ونقدهم لنبيه (، وهي في غالبيتها أقوال كفرية، وفيها إساءة الأدب مع الله تعالى، ومع نبيّه محمد). وحرية التعبير كما أتخيلها في حضارتنا القادمة، تشمل الصحافة، وحرية الإعلام، وحرية التفكير، وحرية الدعوة إلى الأفكار والآراء. الحضارة التي أتطلع إليها ليست هذه الحضارة التي أحلم بها، ولا التي أتمناها لأبنائي وأحفادي، بل أتخيل الحضارة الإسلامية حضارة منفتحة، تكفل للناس حرية للتعبير، لا يلتفت فيها الرجل يمنة ويسرة قبل أن يتفوه بكلمة، ولا يخشى فيها المفكّر من السجن إذا أبدى رأيه أو انتقد الواقع. حضارة فيها العلماء يتحاورون، والمفكرون يتناقشون، والحجة تدحض بالحجة، والفكرة تُدفع بمثلها، فلا حجر على رأي أحد، ولا إقصاء للمخالف، هكذا أتخيل الحضارة الإسلامية التي أتمنى أن أدركها، وأعيش في رحابها، لأني أؤمن أن الحراك الثقافي والانفتاح الفكري سبب من أسباب النهضة الحضارية. ثالثاً- الفن الملتزم بالقيم والأخلاق قد يأخذ الفن أشكالاً وصوراً متعددة، منها المادي كالرسم والنحت والزخرفة والعمارة، ومنها المعنوي كالغناء والإنشاد، والكتابة والخطابة والشعر والتمثيل وغيرها، والفن تعتريه الأحكام الشرعية الخمسة، فحلاله حلال وحرامه حرام. وفي تاريخنا الإسلامي وقائع تشير إلى أن الفنّ كان موجوداً في الحضارة الإسلامية، ومن ذلك ما حدث أن لبيداً الشاعر الجاهلي أنشد أمام الناس فقال (أَلا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلا اللَّهَ بَاطِلٌ، فَقَالَ عُثْمَانَ بن مَظْعُونٍ: صَدَقْتَ. ثم إن لَبِيدَ أَنْشَدَهُمْ تَمَامَ الْبَيْتِ: وَكُلُّ نَعِيمٍ لا مَحَالَةَ زَائِلٌ، فَقَالَ: كَذَبْتَ....إِنَّ نَعِيمَ أَهْلِ الْجَنَّةِ لا يَزُولُ) رواه الطبراني في المعجم الكبير. الفن ألوان وصور الشعر لون من ألوان الفن، بل إن النبي (قد احتفى بالشعر وبالشعراء، وشجع على توظيفه في خدمة الدين، ونصرة الحق، فقد روى الإمام البخاري وغيره من حديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله كان ينصب المنبر لحسان ويقول: (اهْجُهُمْ أَوْ هَاجِهِمْ وَجِبْرِيلُ مَعَكَ) ورفع صوته في الناس قائلاً: ((اهْجُوا قُرَيْشًا فَإِنَّهُ أَشَدَّ عَلَيْهِمْ مِنْ رَشْقِ النَّبْلِ)) فالشعر هنا فن استعمل في الحرب الإعلامية. لذا فمن حقّ الناس أن يعبروا عن مشاعرهم بأشعارهم، لكن عليهم أن يتقيدوا بالأخلاق، أما الذين لا يحترمون الفن، ويفتون الناس بأنه مخالف للدين، وأن الإسلام يحاربه، فهؤلاء ندعوهم إلى مراجعة أفكارهم، لأن الفن في النهاية ما هو إلا تعبير عن مشاعر وأحاسيس الإنسان، وتفريغ لمكنونات صدره ليس أكثر. الترويح عن النفس من أهداف الفن جاء في بعض الآثار: ((روحوا القلوب ساعة بعد ساعة فإن القلوب تكل، فإذا كلّت ملّت، وإذا ملّت عميَت)) والترويح كلمة يقابلها الترفيه، وإني أسأل الذين يحرمون الفن بماذا يتم الترويح عن النفس، أليس بصورة من صورة الفن؟ مثل الحداء والنشيد، فالترويح الحلال عن النفس أحد الأهداف النبيلة للفن. بل إن النبي (وجّه أصحابه إلى أهمية الترويح عن النفس بالحلال، فتروي كتب السنة أن حنظلة الكاتب (دخل على النبي فقال ((نَافَقَ حَنْظَلَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ : وَمَا ذَاكَ؟ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ نَكُونُ عِنْدَكَ تُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ، حَتَّى كَأَنَّا رَأْيُ عَيْنٍ، فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِكَ عَافَسْنَا الْأَزْوَاجَ وَالْأَوْلَادَ وَالضَّيْعَاتِ نَسِينَا كَثِيرًا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنْ لَوْ تَدُومُونَ عَلَى مَا تَكُونُونَ عِنْدِي وَفِي الذِّكْرِ، لَصَافَحَتْكُمْ الْمَلَائِكَةُ عَلَى فُرُشِكُمْ وَفِي طُرُقِكُمْ، وَلَكِنْ يَا حَنْظَلَةُ سَاعَة وَسَاعَة ثَلَاثَ مَرَّاتٍ)) مسلم الإسلام دين الفن الإسلام دين الفن والجمال والذوق، لكنه الفن الملتزم بالأخلاق، الفن الذي لا يخالف الشرع، ولو حكمنا بتحريم الفن لكونه لهواً، لكان أغلب ما في الدنيا محرماً. الحضارة الإسلامية تشجع الفن الملتزم الذي ينهض بالإنسان ويرتقي بقيمه، بينما تحارب وتمنع الفن الذي يهبط بالإنسان إلى منزلة البهائم، ولا أتصور حضارة بلا فن وجمال، لذا لست مع من يفتي بأن الفن رجس من عمل الشيطان، وعلى المسلم أن يجتنبه، بل أقول لا بأس بالفن، بل وأشجعه طالما أنه فن ملتزم بالقيم والأخلاق الإسلامية. علاوة على ذلك نقول: إن الفن رسالة وليس تجارة، ولسنا مع دعاة " ما يطلبه الجمهور "، ولا ينبغي أن ننحط بالفن بحجة أن الجماهير تريد ذلك، لأن الغاية عندنا لا تبرر الوسيلة، والغاية الشريفة لا بدّ أن تكون وسيلتها شريفة.

2682

| 06 أبريل 2012

المقومات الأخلاقية للحضارة الإسلامية

أولاً- أخلاقٌ ترتقي بالإنسان حضارتنا الإسلامية لا تقتصر على العبادة فقط، بل فيها ما يسمو بالأخلاق، ويرتقي بالإنسان، والمقومات الأخلاقية هي ما يميزنا عن الحضارات الأخرى، التي ربما سبقتنا في التقنيات وبناء المصانع، واتساع الصادرات، وتقدمت علينا في التكنولوجيا، لكن أخلاقها في الحضيض، فهي لم تراع هذا الجانب. ولأهمية الأخلاق في بناء المجتمع الإسلامي قال النبي (((إِنَّكُمْ لَنْ تَسَعُوا النَّاسَ بِأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَسَعُهُمْ مِنْكُمْ بَسْطُ الْوَجْهِ وَحُسْنُ الْخُلُقِ)) رواه البيهقي في شعب الإيمان. وقال الشاعر المتنبي موصياً بحسن الخلق وإن كان المرء فقيراً معدماً: لا خَيلَ عِندَكَ تُهديها وَلا مالُ فَليُسعِدِ النُطقُ إِن لَم تُسعِدِ الحالُ وقد بينت مرارا أن الفكرة المنتشرة بأن الغرب يتفوق علينا أخلاقيا هي فكرة باطلة إنما هو يتقيد بقوة القانون فإن تلاشت قوته ظهرت عوراته، وقد ظهرت عوراته في مواطن كثيرة لا يجهلها متابع. - منهج الإسلام في بناء الأخلاق للإسلام منهجيته الفريدة في بناء الأخلاق التي ترتقي بالإنسان، وتقوم هذه المنهجية على مجموعة من الأسس أهمها: (1) ربط الأخلاق بالإيمان وبالمصير في الآخرة، وفي هذا يقول النبي محفزاً على الأخلاق الحسنة ((أَتَدْرُونَ أَكْثَرَ مَا يُدْخِلُ الْجَنَّةَ؟ تَقْوَى اللَّهِ وَحُسْنُ الْخُلُقِ)) أحمد وفي حديث آخر يقول رسول الله (((أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا)) أبو داود ويقول (رابطاً الأخلاق بالآخرة ((إِنَّ مِنْ أَحَبِّكُمْ إلي وَأَقْرَبِكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَحَاسِنَكُمْ أَخْلَاقًا)) الترمذي. 2) جعل الإسلام تحسين الأخلاق من مقاصد العبادات، فنحن لم نؤمر بالصلاة أو الصيام أو الحج فقط لأجل العبادة، بل لينعكس أثرها على سلوكنا وحياتنا، لذا قال ربنا تبارك وتعالى عن الصلاة (.. وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ )العنكبوت/45 وقال تعالى عن الزكاة وحكمة مشروعيتها (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا.. )التوبة/103 وقال تعالى واصفاً الحج المبرور المقبول (الْحَجُّ أشهر مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ )البقرة/197 وقال النبي عن شهادة الزور وأثرها على عبادة الصيام ((مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ بِأَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ)) الترمذي (3) الأخلاق ثابتة وليست متغيرة أو نسبية، فالمسلم –مثلاً- لا يغدر، لا في حالة السلم ولا في حالة الحرب، لأن الغدر خيانة وخلق ذميم، نهى الإسلام عنه، والحرب لا تُعتبر سبباً كافياً، أو عذراً مقبولاً لتغيير الأخلاق أو تبديل القيم، ففي حال وجود معاهدة بين المسلمين والكفار، وخشي المسلمون من غدر الكفار وانقلابهم، فإن هذا السبب لا يُعدّ كافياً لنخون العهد ونهجم عليهم ونحاربهم، بل طالبنا الله تعالى بأن نعلمهم بانتهاء المعاهدة التي بيننا وبينهم، فقال جلّ وعلا (وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ )الأنفال/58 - قيمة الأخلاق تحكم كل شيء كان معاوية بن أبي سفيان (يسير في أرض الروم، وكان بينه وبينهم أمد (عهد)، فأراد أن يدنو منهم، فإذا انقضى الأمد غزاهم، فإذا شيخ على دابة يقول: الله أكبر.. الله أكبر، وفاء لا غدراً، إن رسول الله (قال: ومن كان بينه وبين قوم عهد فلا يحلَّنَّ عقدة ولا يشدها، حتى ينقضي أمدها، أو ينبذ إليهم على سواء" فبلغ ذلك معاوية، فرجع، وإذا الشيخ عمرو بن عبسة )"رواه أبو داود الطيالسي. (4) التخلية قبل التحلية، أي التخلي عن الخلق السيئ، تمهيداً للتحلي بحسن الخلق، فقبل أن تغرس الأخلاق الحسنة في الإنسان، لا بدّ أن نصفيه من الأخلاق السيئة. ثانياً- الحرية الخادمة للفضيلة الأخلاق في حضارتنا ترتقي بالإنسان، مما ينعكس إيجابياً على سلوكه وعلاقته بالآخرين، أما في الغرب فانسلخ الناس عن الأخلاق باسم التقدم والحرية، مع أن الحرية كلمة جميلة ورائعة ومطلب حرص عليه الإسلام، لكنها حرية تخدم الفضيلة ولا تحاربها، وتكون عوناً على الخير لا الشر. لا حضارة فاعلة بلا حرية، والحضارة الإسلامية تتيح حرية التدين، وتكفل حرية التعبير، لكنها حرية مسؤولة لا تنفصل عن الأخلاق، وحرية مشروطة بعدم الانحلال والإساءة إلى الآخرين، وهذه الحرية المنضبطة غير موجودة في الحضارات الأخرى، وهذا أمر واضح لا يحتاج إلى دليل. - المرأة في الغرب يتغنى الغرب بحريته في شتى المجالات، وباسم هذه الحرية تنتهك خصوصيات الناس، وباسم الحرية ينتشر الانحلال الأخلاقي، وباسم الحرية تنحط قيمة الإنسان، وقضية المرأة خير مثال على الحرية الخادمة للرذيلة، والمعينة على الانحلال الأخلاقي، المرأة في الغرب عبارة عن سلعة تباع وتشترى كما تباع السلع الأخرى، وصارت رمزاً للجسد والجنس، بدل الرقي والعفة، وفي أحسن الأحوال يُنظر للمرأة في الغرب على أنها وسيلة لبيع السلع واستقطاب الزبائن، ودائما ما أتساءل ما العلاقة بين أن ينزل إعلان لمشروب غازي ويكون معه امرأة شبه عارية، حتى لو أرادوا أن يعلنوا عن سيارة جديدة أقحموا المرأة في الإعلان، فالرسالة إذن استجلبوا نظر الرجل للسيارة من خلال المرأة العارية، وخلاصة الأمر أن المرأة في الغرب تحولت إلى سلعة جنسية ومتعة جسدية. - شاهد من أهلها عن وضع المرأة في الغرب نكتفي بشهادة " غورباتشوف" الرئيس الأسبق للاتحاد السوفييتي سابقاً، حيث يقول ".. في غمرة مشكلاتنا اليوميّة الصعبة كدنا ننسى حقوق المرأة ومتطلباتها المتميّزة المختلفة بدورها أماً وربّة أسرة، كما كدنا ننسى وظيفتها التي لا بديل عنها مربّية للأطفال" ويتابع فيقول: "... فلم يعد لدى المرأة العاملة في البناء والإنتاج وقطاع الخدمات، وحقل العلم والإبداع، ما يكفي من الوقت للاهتمام بشؤون الحياة اليومية، كإدارة المنزل وتربية الأطفال، وحتى مجرّد الراحة المنزليّة، وقد تبيّن أن الكثير من المشكلات في سلوك الفتيان والشباب، وفي قضايا خلقية واجتماعية وتربويّة وحتى إنتاجية، إنما يتعلّق بضعف الروابط الأسرية والتهاون بالواجبات العائلية". وسنتابع في المقال القادم بمشيئة الله الحديث عن الحرية في الإسلام.

11325

| 28 مارس 2012

المقومات التشريعية للحضارة الإسلامية (2)

أولاً- العقل الذي يهتدي بوحي السماء أزعم بل أكاد أجزم أنه لا يوجد تناقض بين المنطق السليم والدين، ومن الكتب التي غيّرت حياتي بهذا الاتجاه كتاب " قصة الإيمان بين الفلسفة والعلم والقرآن " لمؤلفه " نديم الجسر" مفتي طرابلس في لبنان. يقول الشيخ "نديم الجسر " رحمه الله: الفلسفة.. بحرٌ ليس كالبحور، فالبحر إن وقفت على شاطئه سلمت، وإن دخلت في أعماقه غرقت، والفلسفة إن وقفت على أطرافها غرقت، وإن تعمّقت بها سلمت ". بناء على عدم وجود التعارض أزعم كذلك أن كلّ ما في دين الإسلام منطقي، ومن اليسير على العقل الإنساني – إذا كان سليماً- أن يتقبله ويقتنع به، لأن كل قضايا الدين ومقاصد التشريع، تنطلق من نقطة واحدة وهي إثبات وجود الله عز وجلّ، وإفراده بالعبادة. ثانياً- التشريع المحقق للمصالح الدين عندنا عقيدة وشريعة، والشريعة الإسلامية تنقسم إلى قسمين، عبادات ومعاملات، أما العبادات فقائمة على التسليم لله تعالى بما أمر، فنحن نعبده كما يريد، لا كما نريد، لأن غاية العبادة هي تمجيد الله تعالى وشكره، وهو من يقرر الطريقة والكيفية التي نمجّده بها. أما المعاملات فغايتها تحقيق مصالح العباد، يقول ابن القيم رحمه الله " إن الشريعة مبناها وأساسها على الحِكَم ومصالح العباد في المعاش والمعاد وهي عدل كلها ورحمة كلها ومصالح كلها وحكمة كلها ". فيستحيل أن تجد تشريعاً إسلامياً يتعارض مع مصالح الناس، ومتى وجدنا تعارضاً بين الشرع والمصالح الحلال للناس، فلنُعِد النظر ولنكرره، فلعل فهمنا للنصوص كان قاصراً، لأنه يستحيل أن تعطّل الشريعة الإسلامية المصالح الحلال للناس، ومن هنا كانت منطقية الشريعة الإسلامية وعدم تعارضها مع العقل السليم، والفهم القويم. ثالثاً- العدل المؤيد بالإحسان جمع الله تعالى بين العدل والإحسان في القرآن الكريم، فقال عزّ من قائل (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ ). النحل/90 اعتبر ابن مسعود هذه الآية أجمع آية في القرآن فقال : (إن أجمع آية في القرآن في سورة النحل (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإحْسَانِ) وهي ذات الآية التي عندما سمعها الوليد بن المغيرة قال لقومه: "والله ما منكم رجل أعرف بالأشعار مني، ولا أعلم برجزه ولا بقصيده مني، ولا بأشعار الجن، والله ما يشبه الذي يقول شيئا من هذا، ووالله إن لقوله الذي يقوله حلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمر أعلاه، مغدق أسفله، وإنه ليعلو ولا يعلى، وإنه ليحطم ما تحته". - إحسان عمر تروي كتب التاريخ أن الفاروق عمر مرّ ذات يوم برجل كبير في السنّ من أهل الذمة يقوم على أبواب الناس يسألهم الإحسان والصدقة، فسأله عمر: ما شأنك يا رجل..؟ فقال الذمّي: لقد عجزت عن دفع الجزية، فأنا أسأل الناس حتى أجمعها وأعيل نفسي. فقال عمر (ما أنصفناك! أخذنا منك الخراج شاباً، فلما كبرت سنك خذلناك، ثم أمر أن يُعطى من بيت مال المسلمين عطاءً (راتباً) يعينه بقية حياته. إذن العدل يقتضي أن يدفع هذا الذمّي ما عليه من جزية، أسوة ببقية أهل الذمة، ولأنه قانون عام ليس فيه محاباة، هذه هو العدل، لكن عمر عامله بالإحسان ولم يعامله بالعدل، فالإحسان أعم وأرفع من العدل، العدل أن يأخذ الإنسان حقه ويعطي الآخرين حقوقهم، أما الإحسان فإن تعطي فوق ما هو عليك وما هو مطلوب منك. - العدل أساس الحكم العدل في الشريعة الإسلامية يقتضي المساواة بين الناس، فلا مجاملة ولا محاباة، خاصة في الأمور الثابتة التي لا تقبل التعديل ولا التغيير، فالحدود تقام على الجميع متى توافرت موجباتها وشروط تطبيقها، وهذا ما أرشد إليه فعل النبي مع المرأة المخزومية التي سرقت، وهي ذات نسب وحسب، فعن عائشة أم المؤمنين: (عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ قُرَيْشًا أَهَمَّهُمْ شَأْنُ الْمَرْأَةِ الْمَخْزُومِيَّةِ الَّتِي سَرَقَتْ، فَقَالُوا وَمَنْ يُكَلِّمُ فِيهَا رَسُول اللَّهِ؟ فَقَالُوا: وَمَنْ يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ إِلَّا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ حِبُّ رَسُول اللَّهِ؟ فَكَلَّمَهُ أُسَامَةُ، فَقَالَ رَسُول اللَّهِ (أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ، ثُمَّ قَامَ فَاخْتَطَبَ ثُمَّ قَالَ: إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ، وَأيْمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا). البخاري رابعاً- الحقوق المتوازنة مع الواجبات وقف عُتبة بن أبي سُفيان يوماً خطيباً في أهل مصر وقال: " لنا عليكم السمع والطاعة فيما أحببنا، ولكم علينا العدل فيما ولينا " والمعنى أن الحقوق هي أساس الواجبات، وأن الشريعة الإسلامية لا تطالب الناس بالواجبات، إلا وتعطيهم في المقابل حقوقاً، فمن واجبك أن تطيع ولي الأمر، إن أمرك بمعروف، وفي المقابل فإن ولي الأمر مطالب بأن يمنحك حقوقك، من عدالة اجتماعية، وحرية رأي وتعبير، وحفظ كرامتك من أن تهان، فإذا لم تتوفر تلك الحقوق الأساسية فلا سمع ولا طاعة لحاكم لا يؤدي حقوق العباد، ولا يقوم بالواجبات المنوطة به. ونتيجة لغياب العدالة، وعدم إعطاء الناس حقوقهم، تغيرت مفاهيم الحياة وأصبح شعار أغلبية الناس "كن أول من يأخذ وآخر من يدفع". - أعطني حقي لأقوم بواجبي قلنا إن الحقوق هي أساس الواجبات، والقصة التالية توضح بجلاء معنى هذه العبارة، فتروي كتب التاريخ أن بُعِثَ إلى عمر بحلل (أثواب) فأعطى كل مسلمٍ ثوباً، وأخذ هو ثوباً واحداً، لكن عمر كان طويلاً. عملاقاً، كبير البنية، ما كفاه ثوبٌ واحد! فقال لابنه عبد الله: أعطني ثوبك مع ثوبي؛ لأني رجل طويل، ثوبك الذي هو حصتك مع المسلمين ألبسني إياه. فقال عبد الله: خذ ثوبي. فلبس ثوبين -تغير الشكل، كيف يلبس ثوبين والمسلمون لبسوا من ثوب واحد- فبدأ الخطبة، وقال: أيها الناس! اسمعوا وأطيعوا، فقام سلمان الفارسي من وسط المسجد، وقال: والله لا نسمع ولا نطيع، فتوقف واضطرب المسجد، وقال: ما لك يا سلمان؟ قال: تلبس ثوبين وتلبسنا ثوباً ونسمع ونطيع. قال عمر: يا عبد الله! قم أجب سلمان، فقام عبدالله يبرر لـسلمان، وقال: هذا ثوبي الذي هو قسمي مع المسلمين أعطيته أبي، فبكى سلمان، وقال: الآن قل نسمع. وأمر نطع ". فرسالة سلمان باختصار: إذا أردت مني واجبات فأعطني حقوقي، هكذا أفهم حضارة الإسلام وهكذا أتخيلها وأتصورها، وليس على طريقة علماء السلاطين الذي يطالبون الناس بطاعة حكامهم، على ما هم عليه من ظلم واستبداد وفجور، وأكل لحقوق الناس، ونهب لمقدرات الأمة، وتعطيل لشرع الله جلّ وعلا. خامساً- وازع السلطان المكمّل لوازع الدين الأصل في الإسلام أن الوازع هو الدين، أما السلطان (الأمن والقانون والجيش) فمكمّل ومعين للشرع على تحقيق المقاصد، وليس بديلاً له، لأن الدولة في الإسلام تقوم على ركنين أساسيين هما التقوى والقانون، وهناك تكامل بينهما، فأحياناً يكون تأثير الحاكم المسلم في حياة الناس أكثر من الأحكام الشرعية، خاصة عندما يضعف الوازع الديني في نفوس الناس، بمعنى أن الحاكم المسلم يمنع اقتراف المحارم، ويحول بين الناس وبين ارتكاب المحرمات والفواحش، فينزجر لذلك ضعيف الإيمان مخافة العقوبة. - قانون وتقوى القانون وحده لا يقود الناس، ولا يضبط حياتهم، بل لا بد مع القانون من التقوى التي تأمر الناس بالخير، وتنهاهم عن الشر، وتحثهم على الإحسان، وجد القانون أم لم يوجد. واقع المسلمين اليوم لا يمثل الإسلام، وفهم بعض العلماء لا يمثل الإسلام، وتطبيق بعض الدول لأجزاء من الشريعة لا يمثل حقيقة الشريعة ومقاصدها، والإسلام لا يزال قادراً على تقديم منهج يسعد البشرية، منهج لا يكتفي بالضمير وحده ولا القانون وحده، إنما يدمج بينهما (التقوى والقانون) لإقامة دولة العدل والإحسان.

2444

| 21 مارس 2012

المقومات الإيمانية للحضارة الإسلامية (2)

من ميزات حضارتنا أن لها مرتكزا عقديا وإيمانيا ولا تقتصر على الحضارة المادية بل إنها تنطلق من الإيمان والقيم وتطوع المادة لهما، بعكس باقي الحضارات، وقد كنا بدأنا بإيضاح المقومات الإيمانية لحضارتنا وسنكملها اليوم في هذا المقال بمشيئة الله. الإيمان المقترن بالعمل مسألة تعريف الإيمان من القضايا التي وقفتُ عليه طويلاً متأملاً، فوجدت أن تعريف أهل السنة للإيمان هو الأصوب، لأنهم جمعوا في تعريفهم بين الإيمان والعمل، بين الفكرة والتطبيق، فقالوا الإيمان " تصديق بالجنان، وإقرار باللسان، وعمل بالأركان " فالإيمان عندهم مجموع هذه الثلاثة، وكل من أخرجوا العمل من مسمى الإيمان فقد انحرفوا عن النهج القيوم، بل عدّهم العلماء من الفرق المنحرفة، وأطلقوا عليهم اسم " المرجئة " لأنهم أرجأوا العمل عن الإيمان أي أخّروه. فالإيمان يورث العمل، ولا خير في علم لا يعقبه عمل، وإيماننا ليس إيمان اعتزال، أو إيمان دروشة وتصوف، إنما هو إيمان يحرّك نحو العمل، ويدفع باتجاه الإنتاج، فهو إيماني حركي، لا إيماني سكوني. - (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) في آيات كثيرة تجاوزت الخمسين موضعاً ربط الله تعالى بين الإيمان والعمل الصالح ومن ذلك قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ )البينة/7 بل ورتب الفلاح والنجاة على الإيمان المقرون بالعمل الصالح، فقال تعالى مقسماً بالعصر (وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3) )سورة العصر. والغاية من ربط الإيمان بالعمل هو إحداث اندماج بين الفكر والسلوك، " فمن مقتضيات الإيمان أن ينبثق من القلب في صورة العمل الصالح، وهذا ما يجب أن يدركه من يدعون الإيمان، وما أحوجنا - نحن الذين نقول أنّا مسلمون - أن نستيقن هذه الحقيقة: أن الإيمان لا يكون حتى ينبثق منه العمل الصالح، فأما الذين يقولون: إنهم مسلمون ثم يفسدون في الأرض، ويحاربون الصلاح، وشريعة الله تعالى، فهؤلاء ليس لهم من الإيمان شيء ". رابعاً - الدنيا المعدّة للآخرة في عقيدتنا الإسلامية الدنيا ممر إلى الآخرة، وأنها حياة مؤقتة، والآخرة هي الحياة الدائمة، لذا كانت الدنيا في تصور المسلم مرحلة إعداد للآخرة، وجسر يوصله إليها، كما قال ربنا تبارك وتعالى (وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى) الضحى/4 ولقد وصف القرآن الكريم الآخرة وصفاً عجيباً دقيقاً، حتى يتعلق المسلم بها، ويعمل لأجلها، ولا يوجد في كل الأديان وصف للآخرة، كما وصفها القرآن الكريم والسنة النبوية، بتفاصيل دقيقة كأنك تراها رأي العين، ومن ذلك قوله تعالى يصف حال المؤمنين في الآخرة (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ (8) لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ (9) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (10) لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً (11) فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ (12) فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13) وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ (14) وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ )سورة الغاشية - الدنيا مزرعة الآخرة المسلم لا يفصل بين الدنيا والآخرة، بل يعمل في الدنيا ليحصد ثمار ما عمله في الآخرة، وعمله الذي زرعه في الدنيا هو من سيحدد مرتبته ومكانته في الآخرة، وليس نسبه أو مكانته في الدنيا، لذا لما نزل على النبي ((وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ )قام رسول الله (فقال: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ: اشتَروُا أنْفُسَكُم مِنَ الله تَعَالَى، لا أُغْنِي عَنْكُم منَ الله شَيْئَاً، يَا بَنِي عبدالمُطَّلِبِ، لا أُغْنِي عَنْكُم منَ الله شَيْئاً، يَا عَبَّاس بنَ عبدالمُطَّلِبِ، لا أغْنِي عَنْكَ منَ الله شَيْئاً، يا صَفِيَّةَ عَمَّةَ رَسولِ الله (، لا أُغْنِي عَنْكِ منَ الله شَيْئاً، يا فَاطِمَةَ بنْتَ مُحَمَّدٍ سَلِينِي مَا شئتِ من مَالِي لاَ أُغْنِي عَنْكِ مِنَ الله شَيْئاً ". - إيمانٌ وسطٌ متوازن من جمال ديننا، وروعة إيماننا، أنه دين وسط، وازن بين الدنيا والآخرة، بحيث لا يطغى جانب على آخر، وهذا ما نبّه عليه ربنا تبارك وتعالى لمّا قال (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ )القصص/77 وجملة (مَا آتَاكَ اللَّهُ )لا تنحصر في المال، بل هي أوسع من ذلك، لتشمل المواهب والمِنح التي يتميّز بها الإنسان على غيره، من كتابة وتأليف، وخطابة وإلقاء، وشعر ونثر، وقوة جسدية، أو قدرة على الإبداع والابتكار، فهذا كله يدخل تحت قول الله تعالى (مَا آتَاكَ اللَّهُ )، فإذا كان عندك مال أو علم أو قلم أو لسان أو موهبة أو إبداع فاستعمله في الدنيا للآخرة. - حقيقة الزهد عند الحديث عن التوازن لا يمكن تجاوز قضية الزهد، التي فُهمت بشكل خاطئ، وأثّرت سلباً على صورة المسلم الزاهد وحركته، فالزهد في مخيلة الناس شخص رثّ الثياب، نحيف الجسم، مهمَل المظهر، معتزل للناس، طويل الصمت، قليل الكلام، لأنهم ظنوا أن الزهد مسألة شكلية، تتعلق بالمظهر الخارجي للإنسان، والحقّ أن الزهد مسألة قلبية بالدرجة الأولى، فالزهد الحقيقي يكون في زخارف الدنيا وليس اعتزال الدنيا، وحسبنا في ذلك قول الله تعالى (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201) أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (202) )البقرة فلا تتركوا الدنيا –باسم الزهد- للآخرين، يحكمونها ويديرونها بمناهجهم المنحرفة، لأنهم سينشرون الظلم والفساد بين العباد، ونحن من واجباتنا في هذه الحياة أن نرفع الظلم عن العباد، ونجتث الفساد. خامساً- الإيمان المقترن بالعلم من المقومات الأساسية التي قامت عليها حضارتنا الإسلامية هي أن الإيمان مقترن بالعلم، بل ويدعو إلى طلبه والاستزادة منه، لأن العلم الدنيوي في الإسلام يدعو إلى الإيمان أولاً، ففي عقيدتنا أن الإيمان يعين على العلم ومقترن به، أما في الأديان المحرفة، فلا علاقة بين الدين والعلم، وإن وجدت فهي علاقة صدام وصراع. ثم ليس هناك تعارض أو تصادم بين حقائق العلم وبين حقائق الإيمان، وإنما العلم عندنا مؤكد للإيمان ومثبت له، وشاهد بالتوحيد، بينما نرى في الغرب أن بعض العلوم تُغرس في العقول لتؤدي إلى الكفر، والعياذ بالله تعالى. - العلم والدين العلم إما أن يكون حقائق علمية ثابتة، أو نظريات علمية لم تثبت بعد، والدين إما أن تكون نصوصه واضح وصريحة، ولا تحتمل أكثر من معنى، وإما أن تكون نصوصه غير صريحة، بحيث تحتمل أكثر من رأي أو معنى. * فإذا كان النص الديني واضحاً، وكان العلم نظرية، وهناك تعارض بين النص والنظرية التي لم تثبت بعد، فيجب في هذه الحالة أن نأخذ بالنص، ونترك النظرية. * أما إذا كان العلم حقيقة ثابتة علميًا، والنص يحتمل أكثر من رأي، ففي هذه الحالة يجب أن نفسر النص في ضوء الحقيقة العلمية. * أما إذا كان العلم نظرية والنص غير واضح، نسكت وننتظر.

1719

| 15 فبراير 2012

المقومات الإيمانية للحضارة الإسلامية (1)

في مقالنا السابق تحدثت عن المقومات الأساسية للحضارة الإسلامية والتي لها دور كبير في قابليتها للانتشار والحضور بين الأمم، وسأبدأ في هذا المقال بالكلام عن المقومات الإيمانية والعقدية: أولاً- العقيدة الموافقة للفطرة إن عقيدة الإسلام تتوافق مع الفطرة الإنسانية السليمة لدرجة أنه لم يجد العربي الذي يعيش في الصحراء صعوبة في الاستدلال على وجود خالق لهذا الكون، حتى قال قائلهم " البعرة تدلّ على البعير، والأثر يدلّ على المسير، فسماء ذات أبراج وأرض ذات فجاج، ألا تدل على العليم الخبير " مستدلا على وجود الخالق ذلك بفطرته السليمة التي لم تلوثها الأفكار الدخيلة ولا العقائد الفاسدة، قال الله تعالى (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (الروم/30 فعقيدتنا سهلة سلسة ميسورة الفهم، لا تعقيد فيها ولا غموض، وعبارة " العقيدة الموافقة للفطرة " على بساطتها، ليست موجودة في دين غير دين الإسلام. عقيدة ثابتة لا تقبل الزيادة في قضايا التشريع هناك سعة ومساحة للتفكير وإعمال العقل، أما في العقيدة فالأمر محدود جداً، لأن عقيدتنا ثابتة لا تقبل الزيادة ولا النقصان ولا التحريف، والزيادة عندنا هي في مقدار الإيمان، كما يقول الشافعي رحمه الله " الإِيمانُ قولٌ وعمل، يزيدُ وينقص، يزيدُ بالطاعة وينقص بالمعصية "، لذا فلا يحلّ لحاكم أن يبطل شيئاً منها، ولا يحقّ لعالم أو مجمع فقهي أن يجري تعديلات عليها، ومن تجرأ على ذلك سمّي فعله إحداثاً في الدين، ورُدّ عليه، لأن أصول العقيدة وأصول الشريعة ثابتة لا تتغير ولا تتبدل، ولا تقبل الزيادة عليها أو الانتقاص منها، وفي هذا يقول نبي الرحمة محمد ((مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ فِيهِ فَهُوَ رَدٌّ)) البخاري. عقيدةُ دليلٍ وبرهانٍ ومنطق في أكثر من آية –خاصة مسائل العقيدة – يطلب الله تعالى من المشركين أن يأتوا بدليل أو برهان على ما يزعمون، وتكرر في أكثر من موضع في القرآن الكريم قول الله تعالى (قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ). فعقيدتنا عقيدة مبرهنة " لا تكتفي من تقرير قضاياها بالإلزام المجرد والتكليف الصارم، ولا تقول كما تقول بعض العقائد الأخرى "اعتقد وأنت أعمى" أو "آمن ثم اعلم" أو "أغمض عينيك ثم اتبعني" أو "الجهالة أم التقوى"... ولا يقول أحد علمائها ما قاله القديس الفيلسوف المسيحي (أوغسطين): "أؤمن بهذا لأنه محال"! بل يقول علماؤها: إن إيمان المقلد لا يقبل". فالإنسان قد يقلد في قضايا التشريع والسلوك، لكن في قضايا العقيدة لا يكفي أن يُولد الإنسان لأبوين مسلمين، بل لا بدّ من الاقتناع بأن الإسلام هو الدين الحق، وأن الله تعالى هو المتفرد بصفات الجمال والكمال، ووحده من يستحق أن يُعبد. عقل ووجدان مما يميّز عقيدتنا كذلك أنها " لا تكتفي بمخاطبة القلب والوجدان والاعتماد عليهما أساساً للاعتقاد، بل تتبع قضاياها بالحجة الدامغة، والبرهان الناصع، والتعليل الواضح، الذي يملك أزمة العقول، ويأخذ الطريق إلى القلوب، لذا يقول علماؤها: إن العقل أساس النقل.. والنقل الصحيح لا يخالف العقل الصريح ". وبناء على ذلك فإننا مطالبون بأن نقدم العقيدة للناس كما أنزلها الله تعالى في القرآن الكريم، وكما بيّنها وفسّرها رسولنا الكريم، لأنها تتوافق مع العقل الذي خلقَه الله تعالى، فالوحي من الله تعالى والعقل خلْق الله تعالى فكيف يتناقضان أو يتعارضان. العبادة الدافعة للعمارة في كل الأديان المحرفة لا تجد علاقة بين العبادة والعمارة، أما في الإسلام فالعلاقة وطيدة، وهو يدعوك صراحة إلى أن تكون إيجابياً في هذه الكون، من خلال بذل الجهد في عمارة الأرض، قال الله تعالى (هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا) هود/61 فالعابد الحقيقي لله تعالى هو من يضيف إلى العبادات المعروفة، عبادة عمارة الأرض، بأن يقيم حضارة ويصنع مدنية، تتفق مع مبادئ الإسلام ولا تتعارض مع أصوله، فالعبادة تدفع المسلم إلى عمارة الأرض وإصلاحها، والمسلم يتقرب إلى الله تعالى بعمارة الأرض، من استثمار لها بالزراعة، وإنتاج المحاصيل، وبناء المصانع، وإنتاج كل ما ينفع البشر، فالعمل والإنتاج في التصور الإسلامي عبادة، فليس من الإسلام ترك العمل بحجة التفرغ للعبادة. إيمان وعمارة الإيمان عندنا له طعم خاص، وله رؤية أعمق بكثير من الصورة التقليدية التي يتخيلها الناس، فإذا كنا نريد أن نعبد الله عز وجل حقاً، فلا بد من أن نعمر الأرض، لأن عقيدتنا عملية، وإيماننا حركي، وليس مجرد بكاء في زوايا المسجد، أو هزّ للرؤوس من روحانية الخشوع، بل هو أعمق من ذلك، وهذا ما يؤكد عليه النبي (في حديث عجيب، حيث يقول ((إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَبِيَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ، فَإِنْ اسْتَطَاعَ أَنْ لَا يَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَفْعَلْ)) أحمد والفسيلة هي النخلة الصغيرة، التي تحتاج إلى سنوات لتنمو وتنتج الثمر، وأتساءل هنا: لو زرعها متى ستنمو والساعة قد قامت..؟ ومن سيأكل منها إن زرعها...؟ في هذا الحديث يؤكد الرسول على قيمة العمل، وأهمية عمارة الأرض، والإيجابية في الحياة، حتى آخر لحظة من عمر الإنسان، أو من عمر هذه الحياة الدنيا. عبادة ثم عمارة لم تقم حضارة الإسلام الأولى على الدروشات والشعوذات، بل قامت على الإيمان الذي يحرّك نحو العمل، ومن الإيمان العملي أن يستثمر المسلم وقته في عمارة الأرض بعد أداء ما افترضه الله تعالى عليه، وهذا صريح في سورة الجمعة، حيث يقول الله تعالى (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) هذا هو التوازن الذي يتسم به المنهج الإسلامي، والتوازن بين مقتضيات الحياة في الأرض، من عمل وكد ونشاط وكسب، وبين عزلة الروح فترة عن هذا الجو وانقطاع القلب وتجرده للذكر.. وذكر الله تعالى لا بد منه في أثناء ابتغاء المعاش، والشعور بالله تعالى فيه هو الذي يحول نشاط المعاش إلى عبادة، ولكنه مع هذا لا بد من فترة للذكر الخالص، والانقطاع الكامل، والتجرد المحض ". جنود مجهولون سئل " إبراهيم النخعي " رحمه الله ذات مرة عن رجلين أحدهما عنده مال ولديه تجارة يشتغل بها، ورجل آخر ترك التجارة وتفرغ للصلاة والعبادة أيهما أفضل؟ فقال رحمه الله: الأفضل منهما التاجر الأمين. وقياساً على كلام " النخعي " رحمه الله أقول: يا من تشتغلون بالإعلام الهادف النظيف، إياكم أن تظنوا أن أجركم أقلّ ممن يتعبد في المسجد، ويتقرب إلى الله تعالى بالنوافل، لأن الذي يتعبّد لله تعالى منفرداً إنما ينفع نفسه، أما أنتم فنفعكم متعدٍ إلى الآخرين، فربّ برنامج واحد يُصلح مئاتٍ من الناس وألوف، وهذا في ميزان الإسلام أمر عظيم، وداخل تحت عموم قول النبي ((لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ رَجُلًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ)) البخاري وكذلك يا من تعملون في السياسة، لا تظنوا للحظة أن أجركم أقلّ من أجر هؤلاء الذين يقومون الليل، فرب قانون واحد تنتصرون له يرفع الظلم عن آلاف الناس، وقانون آخر تصدرونه يحارب الفساد ويحاسب المفسدين، ويقيم العدل، وهذا في ميزان الإسلام أمر عظيم.

4011

| 08 فبراير 2012

المقومات الأساسية للحضارة الإسلامية

كان حديثنا في المقالات السابقة كلها مضى عن الجانب الأول من معادلة التغيير، وتناولنا فيه دراسة الواقع، وحددنا من خلاله الأزمات الرئيسية الخمس التي تعاني منها الأمة، وهي أزمة السلوك والفاعلية والتخلف والقيادة والفكر، والآن نتناول الجانب الثاني من معادلة التغيير، والذي يتحدث عن رؤيتنا للحضارة الإسلامية المعاصرة، وسنتكلم فيه عن أمرين: - توصيف حضاراتنا الإسلامية - تحديد الأهداف التنافسية توصيف الحضارة أعتبر أن توصيف الحضارة التي نريد هي أولى خطوات النهوض، لأن العلماء والمفكرين والدعاة، لا يتخيلون شكلاً واحداً لحضارة الإسلام التي نريد، فغالبيتهم يتخيلونها كما هي في أيامها الأولى المباركة، مع أنهم متفقون على تغيّر الزمان والمكان والإنسان. وهناك قضايا ومتغيرات اختلف عليها العلماء قديماً وحديثاً، ونتيجة لذلك اختلفت تصوراتهم عنها في الوقت الحاضر، مثل بعض القضايا المتعلقة بالمرأة، وأهل الذمة، وعلاقتنا مع الآخر، ومسألة حرية التعبير والتفكير وحتى التصرف، وغيرها من المسائل التي قد يختلف فيها المنظرون والمفكرون، ولا يتفقون معها على حدود معينة. الذوبان في الحضارات الأخرى من الخطير جدا أن نذوب في حضارات الأمم الأخرى، هذا على فرضية أنها الآن حضارات، لأن ما نعيشه اليوم بعيد عن الحضارة بقدر ما هو تحقيق للملذات وانفتاح للشهوات، وإطلاق لجشع الفرد والمؤسسات والقوى العظمى، ومع وجود التطور الرهيب في الصناعة والاختراع فإن هذا مع روعته لا يعكس حضارة متكاملة ولا يمكن أن يقيم أمة مترابطة. لذلك فأنا وغيري ندعو دائما لبناء تصور حضاري يقوم على قيمنا وثوابتنا ويستلهم عبقه من حضارتنا السابقة ويستفيد من الحضارات الأخرى بعقل منفتح. المقومات الأساسية سنقوم بتوصيف الحضارة الإسلامية من خلال تحديد مقوماتها الأساسية، والتي كنت سبباً في بقائها وسعة انتشارها، وهذه المقومات بشكل مجمل هي: 1. المقومات الإيمانية 2. المقومات التشريعية 3. المقومات الأخلاقية 4. المقومات العملية 5. المقومات الجماعية ولنبدأ بالحديث عن المقومات الإيمانية للحضارة الإسلامية. المقومات الإيمانية للحضارة الإسلامية تتمحور إيمانية الحضارة الإسلامية، عند (التوحيد) وتنطلق منه.. "إنه نقطة الجذب والإشعاع معاً.. القلب الذي يعطي ويأخذ، يضخ ويتلقى د.عماد الدين خليل ويقول ابن خلدون رحمه الله: الهدف من التوحيد ليس مجرد تحقيق الإيمان فقط، فذلك بين العبد وربه، ولكن كمال التوحيد في تحول الإيمان إلى واقع في السلوك التطبيقي للعبد، وبالمقابل تهدف العبادات إلى تحقيق استسلام العبد وانقياده لخالقه، حتى يصفو قلبه من أي أمر يصرفه عن الله تعالى، وبهذا يصبح المرء مسلماً حقاً، ويكون ربانياً بصدق" بتصرف. يشير ابن خلدون رحمه الله إلى مسألة غاية في الأهمية، ويغفل عنها كثير من الناس، وهي أن العقيدة والإيمان في الإسلام عقيدة حركية عملية تطبيقية، فلا قيمة لعقيدة في القلب ما لم يتبعها عمل، والعقيدة الخالية من التطبيق من السهل جداً أن تغزوها الأفكار والعقائد الأخرى، التي لم تُقدّم بصورة مجتمع حي متفاعل مع الثقافات الأخرى الوافدة إليها. حضارة تُبنى على العقيدة أولاً هدفنا النهائي من هذا الطرح أن نضع خطة، تنطلق من واقعنا اليوم باتجاه بناء حضارة الإسلام، التي نرنو إليها ونتغنى بأمجادها، حضارة نبنيها بطريقة جديدة تراعي تغير الزمان والمكان والإنسان، مع الحفاظ على الأصول والثوابت، ومن أهم تلك الثوابت "العقيدة" بأصولها وفروعها، تلك العقيدة التي ميزت الإسلام عن غيره، وميزت المسلمين عن غيرهم، وأساس هذه العقيدة هو حب الله تعالى، وحب رسوله وإن حب الله ليس مجرد شعر أو نثر يخرج من اللسان، ولا هياماً بالوجدان، بل هي إيمان وسلوك، كما "أن الإيمان ليس كلمات تقال، ولا مشاعر تجيش، ولا شعائر تقام، ولكنه طاعة لله تعالى والرسول، وعمل بمنهج الله تعالى الذي يحمله الرسول". الرسول قدوتنا العقيدة والإيمان في الإسلام أكبر من أن تكون مجرد أفعال القلب، وأكبر من أن تكون مجرد الخضوع لله تبارك وتعالى، وإن كان الخضوع لله تعالى هو الأساس، بل هي أوسع من ذلك وأكثر رحابة، فالإسلام قدّم العقيدة على أنها علم وعمل، فهم وتطبيق، إيمان وسلوك، ولا قيمة لإيمان بلا عمل، أو إيمان يتناقض مع مبادئ التوحيد ومقاصد الاعتقاد، فالدين المعاملة، وهذا ما ينبّه إليه النبي (من خلال ربطه بين الإيمان (عقيدة) وبين الأمانة (سلوك) فيقول (((لَا إِيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ)).. أحمد ولقد ظهر هذا الأمر جليّاً في شخصية الرسول التي جمعت بين الإيمان والعمل، والقرآن الكريم قدّم لنا الرسول كقدوة للبشر، يعلمنا كيف نجمع بين فهم العقيدة وتطبيقاتها في الواقع. نزلت سهلة فلا تعقدوها في بدايات الإسلام كانت تطرح العقيدة بأسلوب سهل بسيط، وكان العلماء يستفيدون من طريقة عرض القرآن الكريم لقضايا العقيدة، ومسائل الإيمان، تلك الطريقة التي جمعت بين العقل والقلب، بين الفكر والشعور، بين مخاطبة العقل والوجدان معاً. ثم تغيرت الأمور وأصبحت العقيدة معقدة، وتطرح بطريقة جامدة جافة، وصارت عبارة عن مجموعة من الأفكار والمعلومات، التي تجمعت نتيجة للرد على الزنادقة والفرق المخالفة، والدفاع عن العقيدة، وهذا أمر يُشكر عليه العلماء الذين نافحوا عن الإسلام وعقائده، لكن الحق يُقال إن الصفاء تكدّر، وأصبحت العقيدة السهلة الميسورة، صعبة وجافة، بسبب استمرار الطريقة التي انتهجها العلماء السابقون، وهي طريقة كانت لها ظروفها الآنية والمرحلية والتاريخية.

17642

| 18 يناير 2012

شوائب الفكر الإسلامي

لاشك أن مصادر الفكر الإسلامي التي هي القرآن والسنة لا يصح أن يطلق عليها فكر بالمعنى الاصطلاحي، لأنها وحي ثابت وأمر رباني، لكننا حينما نطلق كلمة الفكر الإسلامي فإنما نريد بها ما قدمه لنا علماء المسلمين ومفكروهم من فهم شامل وتفصيلي لهذه المصادر الربانية ومن أدلة مستمدة منهما. ولا شك أيضا أن هذا الفكر الفهم قد يشوبه الخطأ كما يشوب غيره، لكن خطأه محط اهتمام لمكانة الدين من النفس، ولقد بُذلت جهود جبّارة، وطاقات كبيرة لتصفية الفكر الإسلامي مما شابه، أمثال الجهود التي قام بها محمد عبده وجمال الدين الأفغاني، والجهود التي قدّمها الشيخ حسن البنا وأبو الأعلى المودودي رحمهم الله تعالى، ومن المعاصرين الدكتور العلامة يوسف القرضاوي، ومع كل المحاولات التي بُذلت، والجهود التي تبذل، مازال هناك دَخَن وخلل وشوائب، ولم ننته بعد من عملية التصفية والغربلة لفكرنا الإسلامي، المصدر الأول لنهضتنا. ومن ثمرات عملية التصفية أن بعض المسائل التي أثير حولها الجدل، وكانت غير مقبولة قبل (100) عام، أصبحت الآن من البديهيات والمسلمات عند المسلمين، ولسنا بحاجة إلى بذل جهد كبير لإقناع الناس بصوابها، مثل الإسلام هو الحل، ومثل السياسة جزء من الدين، ومثل المستقبل للإسلام، فهذه القضايا لم تكن تلقى قبولاً عند الناس قبل سنين. مجالات تحتاج إلى تصفية في تقديري الشخصي فإني أرى أن عملية التصحيح والتنقيح والتصفية قطعت أكثر من (90?) من المشوار لكنها لم تنته، ومازال هناك بعض الجوانب التي تحتاج إلى تصويب وإعادة صياغة، ومن ذلك: * الأهواء والانتماءات لقد تأثر فكرنا الإسلامي بالأهواء والانتماءات، والتاريخ الإسلامي خير مثال على ذلك التأثر، فغالبية التاريخ لم يُكتب بحيادية، والصفاء فيه قليل ونادر، بل كان هناك تحيّز واضح من المؤرخين، فإذا كان من يكتب التاريخ شيعياً انحاز للطرح الشيعي، وإذا كان من يكتب التاريخ سنّياً انحاز للطرف السني، وهكذا.. لذا فنحن بحاجة إلى إعادة كتابة التاريخ وفق منهجية علمية، وبحاجة إلى تصفية فكرنا الإسلامي من الأهواء والانتماءات التي طالما جنت على أمتنا، وأخّرت نهضتنا. * العادات والتقاليد تأثر فكرنا الإسلامي كذلك بالعادات والتقاليد، وبمرور الزمن امتزجت بالدين، حتى بات كثير من الناس يظن أنها جزء من الدين، وإذا تُركت قالوا تُرك الدين، ومن الأمثلة الواقعية على ذلك مسألة " قيادة المرأة للسيارة " فمن ناحية الدين والشرع، لا يوجد ما يمنع من قيادة المرأة للسيارة، لكنّها تُمنع من القيادة بحكم العادات والتقاليد وخصوصية البلد ليس أكثر، ليست المشكلة في أن المنع جاء لخصوصية البلد وعادات أهله وتقاليدهم، بل المشكلة أن المنع - بمرور الزمن- أصبح باسم الدين، وبه يفتي العلماء والوعّاظ. لذا فنحن بحاجة إلى تصفية عميقة لفكرنا الإسلامي من العادات والتقاليد، التي اختلطت به، ولا بد من أن نفصل بين العادات التي تراعي ظرفاً معيناً، أو خصوصية مجتمع ما عن أحكام الدين. * ظاهرة الذكورية كثير من القضايا التي طرحت في تاريخ الأمة تأثرت وجهة النظر فيها بسيطرة الذكور في المجتمع، وهي ظاهرة عالمية لا تنحصر في مجتمعاتنا العربية والإسلامية، فحتى في الغرب هناك سيطرة للذكور، تظهر من خلال الإحصاءات التي تشير إلى سيطرة الذكور على الشركات والمنظمات وحتى الحكومات. أما بالنسبة لنا كمسلمين، فمن يتتبع بدايات الإسلام، يجد عدداً كبيراً من أسماء النساء اللاتي كان لهن دور بارز في حركة الإسلام ونشره، ولهن صفات وإنجازات عظيمة، تجاوزت صفات وإنجازات الرجال، لكن وفي الفترات المتأخرة من تاريخ أمتنا، أصبحنا نبحث عن المرأة المتميزة بالمجهر والعدسة المكبّرة، وما ذلك إلا بسبب ظاهرة الذكورية، وسيطرتهم على مرافق الحياة والمجتمع. * تعليم المرأة حرام!! ومن الأمثلة على نتائج اتساع ظاهرة الذكورية أن أصبح التعليم في بعض الفترات مقتصراً على الذكور، وتصدر الفتاوى بحرمة تعليم المرأة، ومازال بعض الناس في القرن (21) يأخذون بمثل هذه الفتاوى، مما ترتب عليه انتشار الأمية بين النساء بشكل مخيف، والإحصائية التالية تكشف لنا جانباً من هذه المشكلة الخطيرة. في عالمنا العربي (20%) نسبة الأمية في الرجال، و(38%) نسبة الأمية في النساء بحسب إحصاءات (2007). * عمل المرأة حرام ومن الأمثلة على نتائج اتساع ظاهرة الذكورية أيضاً أن أصبح العمل مقتصراً على الذكور دون الإناث، حتى وصل الأمر إلى إصدار الفتاوى التي تحرّم عمل المرأة مطلقاً، دون وضع ضوابط ومحددات، والإحصائية التالية تكشف لنا جانباً من الظلم الذي وقع على المرأة في هذه المسألة. بالنسبة لحقوق المرأة في التوظيف والعمل، فإن معظم الدول العربية إما لا توجد فيها مساواة، وإما قد توجد القوانين التي تكفل المساواة، لكنها لا تطبق. * الانبهار والتبعية والتقديس من الخلل الذي أصابنا وأصاب فكرنا خلل الانبهار والتبعية والتقديس، قد يأخذ هذا الخلل صوراً وأشكالاً متعددة، مثل الانبهار بالغرب إلى درجة الاعتقاد بنظرية المؤامرة، التي خلاصتها أن مصائب الأمة وأزماتها ومشكلاتها وحتى التخلف الذي تعاني منه سببه الأعداء، خاصة اليهود والأمريكان، وأنْ لا يَدَ لنا في ذلك. ويظهر الخلل أحياناً في صورة تبعية عمياء وتقديس عجيب للمذاهب وشيوخها، والتيارات الفكرية ورجالاتها، وهناك تبعية وتقديس للحكام، حتى وصل الخلل إلى السلف الصالح، فصارت كلماتهم مقدسة، وفتواهم يحرم مخالفتها، ويُشنّع على من انتقد رأياً اجتهادياً لأحد العلماء، وهناك فرق بين أن نحترم السلف الصالح ونتقرب إلى الله تعالى بحبهم، وبين أن نقدس أشخاصهم، لأن العالم يُحتجّ له ولا يُحتجّ به، وقوته في دليله الذي يستدل، ومنهجيته التي يعمل بها. * التأثر بالواقع كثير من العلماء والمفكرين عندما يطرحون قضايا الفكر والنهضة، يطرحونه متأثرين بالضعف العام الذي تعاني منه الأمة، ومن الواقع المتخلف الذي أصبح علامة بارزة في حياة الشعوب، فعندما نقرأ لمن يكتب عن الإسلام في عصوره الذهبية، عصور النهضة والريادة، يستخدمون كلمات العزة والشموخ والسعادة والفخر، وعندما نقرأ لمن كتب عن عصور التخلف التي مرّت بها الأمة، نجد أن لغة العزة غابت، وكلمات الفخر ماتت، وأصبح الإسلام متهماً وبحاجة لمن يُدافع عنه، وأصبح هَمّ المفكرين رد الشبهات، ومحاولة استرضاء الآخرين. ومع ذلك، ومهما بلغ الضعف وانتشر التخلف، وأصبحا واقعاً ملموساً، فلا ينبغي للضعف والتخلف أن يمسّا الفكر، أو يؤثرا سلباً عليه، لأن مهمة الفكر أن ينهض بالواقع، لا أن ينجذب إليه، ويدور في فلكه، وعليه يجب أن يبقى الفكر صافياً من ظاهرة التأثر بالواقع.

2464

| 11 يناير 2012

أزمة الفكر أم الأزمات

أزمة الفكر هي أم الأزمات، والمشكلة في عالمنا العربي ليست في العقول، وإنما في استثمار تلك العقول، فالعقول في أمتنا موجودة وبكثرة، خاصة العقول المبدعة لكن غالبيتها هاجر إلى الدول الأجنبية، لأنها لم تجد الفرصة للتفكير بحرية، وممارسة إبداعها بحرية، وبعضها الآخر قابع في السجون بسبب الحكم الاستبدادي، وصنف ثالث قيدتها قلة المال وانعدام الفرص وعدم وجود إرادة حقيقية للتغيير. ما الفكر..؟ قرأت كثيراً وبحثت أكثر عن تعريف للفكر فلم أجد ما يعجبني، فاجتهدت أن أصوغ تعريفاً للفكر من وجهة نظري، كما أراه وأمارسه، وهو تعريف يستند إلى اللغة العربية، وقد أضفت إليه ما قاله المفكرون. فعرّفت الفكر على أنه "إعمال العقل في أمر ما، للوصول إلى رأي جديد فيه" فليس الفكر بحفظ للنصوص أو المتون، وليس هو كذلك بقراءة المطولات والمختصرات، فإذا لم أخرج بفكرة جديدة، فلست إلا مقلداً لمن سبقني. ويتم تصنيف المفكرين بحسب الموضوع الذي يُعمل فيه العقل، فمن أعمل عقله في مسألة اقتصادية وخرج برأي جديد، نسميه مفكراً اقتصادياً، ومن يعمل عقله في مسائل تربوية، نسميه مفكراً تربوياً، والذي يعمل عقله في قضايا السياسة ويخرج بنظريات وتحليلات سياسية، نسميه مفكراً سياسياً، وهكذا.. شمولية الفكر الفكر يشمل كثيراً من القضايا والمسائل، فهو يشمل قضايا العقيدة ومسائلها، كما يشمل القيم والمبادئ التي يؤمن بها الإنسان، وكذا الطموحات التي يسعى إلى تحقيقها في الحياة، بل وفهمه للحياة. وتحت الفكر تنضوي عملية تحليل الماضي، ودراسة الواقع من أجل استشراف المستقبل، وخلاصة القول إن الفكر يشمل الحياة كل الحياة، بشقيها الديني والدنيوي. وأنا أؤمن إيماناً عميقاً بأن هذه الأمة لن تنهض وتعز إلا بما نهضت وعزّت به في أيامها الأولى، وعصورها الذهبية، بالفكر الأصيل، المتمثل بالإسلام النقي الصافي، كما أؤمن إيماناً عميقاً بقدرتنا على منافسة الغرب، والتفوق عليه مع المحافظة على هويتنا، ودون أن نلبس ثوباً غير ثوبنا العربي الإسلامي الأصيل. خصائص الفكر الإسلامي إن السبيل إلى نهضة أمتنا هو الفكر الإسلامي الأصيل، ولن تنهض بالأفكار الدخيلة، ولا بالثقافة الغربية، وللفكر الإسلامي خصائص ميّزته عن غيره: (1) فكر حضاري فكر حضاري إنساني عادل متوازن، له هدف واضح يسعى لتحقيقه، وهو فكر عالمي يصلح لكل البشرية، وليس محصوراً في العرب والمسلمين فقط. (2) فكر عملي واقعي فكر طُبق عملياً وقابل للتطبيق من جديد، أما الأطروحات البشرية فكثير منها بقي مجرد أفكار، ولم تطبق عملياً على أرض الواقع، مثل فكرة المدينة الفاضلة التي نادى بها بعض الفلاسفة قديماً. (3) فكر عقلاني يتوافق مع العقل السليم، ولا يتصادم مع المنطق والعلم، بعكس الاجتهادات البشرية أو الأديان التي نال منها التحريف، مثل الديانة النصرانية التي تعارضت مع العقل والعلم، وقصة الصراع بين الكنيسة والعلم أشهر من أن تحتاج إلى إثبات أو دليل. (4) فكر متجدد مثله مثل النهر دائم الجريان ولا يتوقف، وليس ثابتاً كالبحيرة، ومن آثار تجدّده أن يتجاوب مع قضايا العصر، ومستجدات الحياة، فلا تجد أي قضية جديدة أو مسألة معاصرة، إلا وللإسلام فيها رأي أو حكم أو موقف. (5) فكر مرن وليس جامداً وعندما شبّهت الفكر الإسلامي بالنهر فأنا أعني ما أقول، فالنهر ليس خطاً، بل مساحة لها ضفتان، وكذا الفكر الإسلامي له حدود ذات اليمين وذات الشمال، وفيه خطوط كثيرة، بعضها أقرب إلى اليمين، وبعضها أقرب إلى اليسار، إذا تجاوزت إحداها دخلت في التفريط، وإذا تجاوزت الأخرى دخلت في الإفراط. التخطيط والفكر لا يمكن للنهضة أن تتم دون أن تُبنى على فكرة سليمة، ودون أن تقوم على تخطيط واضحٍ واعٍ، وكثير مما يقومون بالأعمال التنفيذية لا يقدّرون قيمة الفكر، ولا قيمة التخطيط الواضح والواعي، وأثرهما على النجاح والإنجاز والإنتاج، مع أن العلم الحديث والدراسات التي أُجريت تقول: إن كل ساعة واحدة نقضيها في التخطيط توفر علينا أربع ساعات عند التنفيذ، فالتخطيط ليس تضييعاً لوقت بل هو توفير له. إذا تكون عملية التخطيط فعّالة فلا بد أن تُبنى على فكر، وكلما كان الفكر سليماً كانت الخطة سليمة، وكذا المنهجية سليمة، وإذا اختل الفكر، فإن الخلل سيلحق بالخطة وبالمنهجية.

3563

| 05 يناير 2012

قواعد ومبادئ في القيادة

القيادة علم كما أنها فن وموهبة، لذلك فأنا مهتم جدا بتعلمها وتعليمها لأن قائدا واحدا ناجحا وملهما ومخلصا أفضل عندي من اقتصاد دولة غني لا يجد من يحسن إدارته، أو خطة مشاريع ضخمة تهدر فيها الأموال الطائلة، أو سنوات من عمر الأمة لا نتقن فيها غير الاستهلاك والتبعية. الفرق بين القيادة والإدارة من المعاني التي أركّز عليها عند تعليم القيادة ومهاراتها، أهمية التفريق بين القيادة والإدارة، لأن أزمتنا أزمة قيادة، وليست أزمة إدارة، وخلاصة الفروق أن القائد يركّز على ستة أمور، وما سوى ذلك فهو داخل تحت باب الإدارة، ووظائف المدير: _ القائد يركّز على التخطيط. _ القائد يركّز على الإبداع. _ القائد يركّز على العلاقات الإنسانية. _ القائد يركّز على التدريب والتعليم. _ القائد يركّز على التقدير والتحفيز. _ القائد يركّز على حلّ المشكلات المزمنة. ويمكننا القول باختصار: إن القائد يركّز على أمرين، الناس والمستقبل، بينما يركز المدير على العمل (الإنتاج) للمدى القصير. * قواعد أساسية في التربية القيادية: 1) لا ارتباط بين القيادة والشهادات والعلم، فأبو ذر كان أعلم من خالد بن الوليد، ومع ذلك لم يكن يصلح للقيادة، بينما خالد كان يصلح للقيادة، مع أنه ربما إذا قرأ القرآن أخطأ فيه، بل إن بعض الروايات تقول: إن خالداً كان إذا أم الناس قرأ بقصار السور، وذات مرة قرأ فأخطأ، فلما فرغ نظر إلى الناس وقال " لقد شغلني الجهاد عن تعلم كثير من القرآن ". 2) لا ارتباط بين القيادة والأقدمية، فأبو ذر أقدم وأسبق من عمرو بن العاص وخالد بن الوليد والأحنف بن قيس، لكنه لم يصلح للقيادة، بينما عمرو وخالد يصلحان، وتوليا مناصب قيادية في الجيش بعد إسلامهما بأشهر قليلة، لذا أدعو إلى حذف الفكرة التي ينادي بها البعض، بأن القيادة للأقدم، بل أقول القيادة للأصلح والأنجح والأقدر على صنع التغيير والتأثير. 3) لا ارتباط بين القيادة والسّن، فليس صحيحاً أن الأكبر سناً هو من يجب أن يتولى القيادة، أو الأقدر على القيادة، فهذا أسامة بن زيد، قد تولى قيادة الجيش المتوجه إلى بلاد الشام، وكان عمره آنذاك (18) سنة، وفي الجيش من يكبره سناً كأبي بكر وعمر وأبي عبيدة رضي الله عنهم أجمعين، لأن القيادة قدرة ومهارة وتأثير، وليست منصباً فخرياً يُعطى للأكبر سناً. * مظاهر أزمة القيادة أزمة القيادة حالها حال باقي المشكلات والأمراض التي تعاني منها الأمة، لها أسباب وأعراض وعلاج، وفيما يلي بعض مظاهر أزمة القيادة، والتي نستدل بها على وجود المشكلة أو عدم وجودها: 1) الحرية: كم تبلغ درجة الحرية الممنوحة للأفراد؟ سواء في الدولة أو الوزارة أو الجماعة أو الأسرة، فإذا كان هناك مركزية، وأننا يجب أن نرجع دائماً إلى الشخص الأول (المدير...)، ولا يمكن لأحد أن يتحرك دون إذنه، فهذه مؤشرات على وجود أزمة قيادة، لأن من صفات القائد الفعال أنه يعطي غيره بعض الصلاحيات التي من شأنها أن تؤثر إيجابياً على سير العمل، من حيث الوقت أو الجهد أو التكلفة، وهذا ما يسمى بالتفويض، أما القائد غير الفعال (المدير) فهو من يفتخر أنه يملك زمام الأمور، وأنه المرجع الوحيد للموظفين، وأنه الآمر الناهي في الشركة أو المؤسسة أو حتى الوزارة. 2) الإبداع: والإبداع ببساطة هو الإتيان بجديد، وحتى يكون إبداعاً لا بد أن يكون أمرا ملموساً يشعر به الناس ويؤثر فيهم وعليهم، وبقدر ما تكون هناك مشاريع جديدة، وأطروحات جديدة، وإنجازات جديدة يكون هناك إبداع وتجديد، لأن الإبداع والإتيان بجديد من وظائف القائد، ومهام القيادة، أما المدير فوظيفته تحسين الواقع وتطويره. 3) عدم الفردية: ومن أبرز مظاهر الفردية ظاهرة التعلق بالأشخاص، فكم من جماعة ومنظمة وشركة لا يتحرك فيها الأفراد إلا بوجود شخص بعينه، فإذا وجد هذا الشخص (القائد الفذّ) تحرك الفريق، وإذا غاب توقف العمل وتباطأ الإنتاج، فمن مظاهر أزمة القيادة تعلق الأفراد بشخص واحد، وغياب العمل بروح الفريق الواحد، وغياب العمل الجماعي، وغياب المؤسسية، وهذا كله من نتائج المركزية. 4) الكفاءة: ونعني بالكفاءة: مدى جودة الإنتاج، والتحسين المستمر للعمل، وتقليل الجهد والتكلفة والوقت في عملية الإنتاج، وتعتبر الكفاءة من أبرز العلامات التي تدل على وجود أزمة في القيادة، فكلما كانت الكفاءة منخفضة كانت هناك أزمة عميقة في القيادة. 5) الأخلاق: غياب الأخلاق دليل على وجود أزمة قيادة، لأن القيادة ليست مالاً أو شهرة أو مظاهر، كما هي ليست كاريزما وجاذبية شخصية، بل القيادة أخلاق، قبل أن تكون مهارات أو خطب رنانة، فبقدر ما توجد الأخلاق وتنتشر، وبقدر ما تكون مرتبطة بالقرارات نبتعد عن أزمة القيادة وفشل الإدارة. * مبادئ ومفاهيم قيادية قوانين القيادة: بعض العلماء مثل "بلانك" يرى أن قوانين القيادة أهم من صفات القائد، فإذا فهمت جيداً قوانين القيادة، وطبقتها بمنهجية، فأنت قائد فعّال، بغض النظر عن الصفات التي تمتلكها، فالمهم هو القوانين، وليس أي شيء آخر. وقد تناولت بالشرح شيئاً من ذلك في ثلاثة كتب: - الكتاب الأول: القيادة في القرن الحادي والعشرين، بالاشتراك مع الدكتور "أكرم العدلوني". - الكتاب الثاني: صناعة القائد، بالاشتراك مع الابن البار " فيصل باشراحيل". - الكتاب الثالث: القيادة المتميزة، بالاشتراك مع الأستاذ "غياث الهواري". صفات القائد: هناك صفات أساسية يجب أن تتوفر في الشخص، حتى يُدعى بين الناس قائداً، ولا ننكر أن العلماء اختلفوا في تحديد بعض الصفات، لكنهم اتفقوا على غالبيتها، والتي منها: - المصداقية والأمانة، لأن القيادة أخلاق قبل كل شيء. - صاحب رؤية مستقبلية واضحة. - القدرة على التحفيز والإلهام. - الكفاءة والقدرة على تحريك الناس بطريقة فعالة. - الذكاء، فلقد أثبتت الدراسات الحديثة أن الناس تحب أن تتبع القائد الذكي. المواهب القيادية (Leadership talents) القيادة مثلها مثل باقي الفنون والعلوم، فكما أن هناك مواهب للفن، ومواهب للرياضة، كذلك هناك مواهب للقيادة، وقد تحدثت عن هذه المواهب في كتاب "الموهبة القيادية" بالاشتراك مع الأستاذ "غياث الهواري"، وهو عبارة عن مقياس يقيس (32) موهبة مختلفة، وبناء على نتائج المقياس، قمنا بتحديد (8) مجالات قيادية تناسب كل شخص، يمكنه أن يختار من بينها المجال الذي يناسبه، فبعض الناس يناسبه التنفيذ أكثر من العلاقات، وآخر يناسب التأثير أكثر من التنفيذ، وثالث يناسبه التفكير أكثر من التخطيط، وكل ذلك يتحدد بناء على المواهب التي يمتلكها الفرد. أنواع القادة لسنا بصدد تفصيل هذه الأنواع، وبيان سلبيات وإيجابيات كل نوع، لكن هناك بشكل عام قائد إداري، وهناك قائد يصلح للعمل التطوعي، وهناك قيادة عامة "الدولة" وقيادة متخصصة كقائد الجيش، ومن الأمثلة التاريخية على ذلك شخصيتا عمر بن الخطاب وخالد بن الوليد رضي الله عنهما، فعمر كان نموذجاً للقيادة العامة، المتمثلة في الخلافة ورئاسة الدولة، أما خالد فهو نموذج للقيادة المتخصصة، وهي قيادة الجيوش والمعارك.

23072

| 21 ديسمبر 2011

أزمة القيادة

يقول ابن خلدون رحمه الله تعالى " اعلم أن السلطان شخص ضعيف في نفسه، لكنه يحمل مسؤولية ثقيلة، خاصة وقد استرعاه الله تعالى أمر خلقه، وهو محتاج لمن يعينه لردع الأعداء، كما يحتاج إلى كف أذى رعيته بعضها على بعض، وإلى حماية أموالهم ومصالحهم ومعايشهم " بتصرف تحدث ابن خلدون عن المهام الأصيلة للسلطان، المتمثلة بتحقيق العدالة الاجتماعية بين الناس، وحماية أموالهم ومصالحهم، فكيف الحال إذا كان السلطان نفسه الناهب لأموال الناس، والمعتدي على مصالحهم، والمنتهك لحرماتهم، والسالب لحرياتهم؟! لقد أثبتت الثورات العربية المباركة التي حدثت أن بعض الحكام يقومون برعاية كل شيء إلا مصالح شعوبهم، ودورهم لا يختلف كثيراً عن دور " المندوب السامي " إبّان الاستعمار الغربي للعالم الإسلامي. القيادة موضوع خطير وعميق ودقيق، ولقد أوتيت الأمة من قبل قادتها، الذي أفسدوا أكثر مما أصلحوا، ودمّروا أكثر مما شيّدوا، ولو تأملنا الأزمات التي تعاني منها الأمة خاصة أزمات التخلف العام، وعدم الفاعلية، والسلوك، لوجدنا أن هذه الثلاث ما هي إلا انعكاس لأزمتي القيادة والفكر. تعريف القيادة القيادة بالنسبة لي تعني ببساطة: القدرة على توجيه الناس نحو الهدف. القيادة قدرة، فمهما قرأ الإنسان في كتب القيادة، ومهما شارك في دورات التنمية البشرية، ومهما أكثر من سماع المحاضرات، فلن يصبح قائداً ما لم يوجد لديه الحدّ الأدنى من القدرة على القيادة، وتشير الدراسات إلى أن: - (1%) هم قادة بالفطرة، أمثال علي بن أبي طالب وعمرو بن العاص وخالد بن الوليد والأحنف بن قيس. %- (1%) لا يستطيعون تعلّم القيادة، حتى لو حاولوا. -- (98%) ليسوا قادة بالفطرة، ولكنهم يستطيعون اكتسابها لو بذلوا جهداً في ذلك، ولو وجدوا من يدرّبهم على القيادة، فالأغلبية الساحقة تستطيع اكتساب الصفات القيادية، لو وجدت من يرعاها ويأخذ بيدها، خاصة فئة الشباب. الهدف من القيادة أهم ما في القيادة أن لدى القائد والمجموعة التي يقودها، جملة من الأهداف التي يسعون لتحقيقها، ولا يشترط أن يطمح القائد إلى تحقيق أهداف سامية، وغايات نبيلة، فمن الممكن أن تكون للقائد نوايا سيئة وخبيثة، ويسعى إلى تحقيق أهداف سلبية وغير شريفة، فهذا فرعون كان قائداً لقومه، لكن أهدافه السيئة، وطويته الخبيثة قادته وقومه إلى النار يوم القيامة، كما قال تعالى واصفاً حالهم (يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (هود/98 وأحياناً قد ينقاد الناس لأهداف لا يعرفونها، وأتساءل دوماً عن هؤلاء الناس الذين يخرجون كل صباح لأعمالهم، كم منهم من هو مطّلع على الخطة الإستراتيجية للدولة؟! القيادة أدوات وأساليب تحريك الناس نحو الهدف يحتاج إلى أدوات وأساليب، والقادة غالباً ما يستخدمون أسلوب الترغيب والترهيب، وعلى مستوى الدول، فالدول ذات الطابع الجمهوري تكثر من استعمال الترهيب والعصا والقبضة الأمنية، أما الدول ذات الحكم الملكي الوراثي، فيكثر فيها استعمال الترغيب بالأعطيات والامتيازات، وقد يُشترى صمت الناس بالمال، وكذلك قد تُشترى المعارضة بمنحها المال الوفير. ويستعمل بعض القادة فن الإلقاء والخطابة للتأثير على الناس، وجعلهم من الأتباع، ومنهم من يستعمل الإقناع كأسلوب للتأثير، أكثر مما يستعمل الأساليب التقليدية والعادية، والإقناع أحد أساليب القيادة الفعالة. أهمية القيادة لطالما شكّل موضوع القيادة وتعليمها، هماً أرقني طويلاً، وكنت كثيراً ما أوجّه الشباب لهذا الأمر، مطالعة ودراسة ومشاركة في الدورات التي تُعقد، وقضيت ما يُقارب الـ (25) سنة في دراسة علم القيادة والتدريب عليه، وتشكلت لدي رؤية لهذه المسألة المهمة، كما جمعت كثيراً من أدوات التدريب القيادي. واستنتجت من خلال البحث والتقصي أن للقيادة تأثيراً مباشراً في كل المجالات، السياسية والاجتماعية والعلمية والصحية والتربوية والعسكرية والاقتصادية وغيرها، وكذلك على كافة المستويات، سواء الحكومات أو المنظمات أو الأحزاب والحركات وحتى في الأسر والبيوت، فكل النتائج السلبية في هذه المجالات وتلك المستويات هي بسبب وجود أزمة قيادة. القيادة من مفاتيح النهضة من أسرار نهضة الأمة في عصورها الذهبية، هي أن النبي (هدف من تربيته إلى صناعة القادة، وإحاطة نفسه بالصحابة ذوي القدرات العالية والمميزة، الذين فتحوا البلاد من بعده (، وأناروا للشعوب دروب الحياة. ومن أسباب تخلفنا عن ركب الأمم غياب هذا الهدف عن برامج الدولة ومشاريع الحكومات، فأين هي الدول أو الحكومات التي تضع ضمن خططها تخريج القادة في كافة المجالات والتخصصات، وأزعم أن الأمة لن تنهض من كبوتها ما لم تكن القيادة والتدريب عليها وتخريج الكفاءات القيادية ضمن أهدافها بل ومن أولى أولوياتها. بين القيادة والدعوة تظهر أهمية القيادة وخطورتها من خلال عقد مقارنة سريعة بين القيادة والدعوة: تشير الإحصاءات الأخيرة للعام (2011)م إلى أن عدد المسلمين في العالم يقترب من (1500) مليون مسلم (مليار ونصف)، والسؤال ماذا سيتغير لو نشطنا في الدعوة، وأدخلنا في الإسلام (200) مليون مسلم جديد، ليصبح العدد (1700) مليون مسلم، هل ستصبح أمتنا في مصافّ الدولة المتقدمة..؟ هل ستعود لها السيادة والقيادة بمجرد العدد الكثير..؟ لن يتغير الأمر كثيراً لو زاد عددنا أضعافاً مضاعفة. لكن في المقابل لو أضفنا للأمة (200) قائد، يعرفون دينهم حق المعرفة، ويفهمونه وفق مبادئ الوسطية وقواعد الاعتدال، ولهم تخصصات يتقنونها، ولديهم خبرة ودراية في التعامل مع الغرب، أزعم أن هؤلاء الـ (200) قائد سيكون لهم تأثير كبير، يفوق أثر الوعاظ والخطباء. بين القيادة والإغاثة تظهر أهمية القيادة وخطورتها كذلك من خلال عقد مقارنة سريعة بين القيادة والعمل الإغاثي: لا يكاد يتأخر مقتدر أو مستطيع، عن مدّ يد العون وتقديم المساعدة إذا ألمت بأمتنا مصيبة، مثل كارثة أو فيضان أو مجاعة، ولأجل إغاثة المنكوبين تتحرك مئات الملايين من الدولارات لنجدتهم وإنقاذهم، وهذا أمر رائع وخلق جميل نحن مطالبون به، لكن ما أثر هذا على مشروعنا الحضاري، أثره قليل جداً، ولا يكاد يُذكر، بينما سيتضاعف الأثر وستنهض الأمة، وستقترب من تحقيق أهدافها النهضوية، لو أنفقنا (10 %) من تلك الملايين على صناعة القادة، الذين سيكون دورهم رفع البلاء والمصائب عن الأمة، فالكوارث والمشاكل لا تنتهي في أمتنا، لكن الذي سيخففها ويضع حلولاً ناجعة لها هم القادة وليس غيرهم. بين القيادة والعمل الخيري كذلك تظهر أهمية القيادة وخطورتها من خلال عقد مقارنة سريعة بين القيادة والعمل الخيري: العمل الخيري يشمل كل صور النفع المادي والمعنوي التي يقدما الإنسان لغيره، دون أن ينتظر مقابلاً على فعله، ولقد تعوّدنا من التجار والمقتدرين على بذل المال الوفير لبناء مسجد، أو حفر بئر ماء أو كفالة يتيم، وهذا أمر في ميزان الشرع عظيم، لكن أين نفقاتهم على برامج إعداد القادة، ومشاريع تخريج القادة، التي هي من العمل الخيري، إن لم تكن أهم وأولى في بعض الحالات، قليل جداً من أصحاب الأموال من يفهم هذه المعادلة، ولا أبالغ إن قلت إن إعداد القادة مقدم على العمل الخيري، لأن القادة من سيطورون العمل الخيري بصور تكفل الحياة الكريمة للفقير والمسكين وصاحب الحاجة. التجربة الماليزية خلاصة القول أن القيادة هي التي ستغير من أحوال أمتنا، وهي التي ستنهض بها نحو المجد، وفي التاريخ شواهد تؤكد صدق ما أقول، والتجربة الماليزية أقرب شاهد، حيث كانت ماليزيا من دول العالم الثالث المتخلفة عالمياً، وخلال مدة قصيرة بالنسبة للدول، خلال (10) سنوات صارت ماليزيا من دول العالم الثاني، وقريباً ربما تصبح من دول العالم الأول، لكن ما الذي حدث..؟ وما الذي تغير؟ تغيّرت القيادة، فتولت زمام الأمور قيادة ذات رؤية وفكر، وهذا هو بيت القصيد، فمتى وجد القادة الذين يحملون الفكر والرؤية فإن حياتنا.. كل حياتنا ستغير نحو الأفضل.

6470

| 15 ديسمبر 2011

أزمة الفاعلية

من أكبر أزماتنا اليوم غياب الفاعلية، وهي كلمة نسمعها ونستخدمها كثيرا لكنها قليلة التحقق في حياتنا للأسف، لأن الظروف والمناخ والثقافة في حياتنا كأمة لا تولي أهمية كبيرة لها، لذا لابد من فهم معنى الفاعلية أولا فهما صحيحا ومعرفة صورها وطريقة قياسها. تعريف الفاعلية: تعني درجة الإنتاجية بالمقارنة مع المنافسين. ويمكن معرفة درجة الإنتاجية من خلال ما هي المقارنة مثلاً بين إنتاجية العامل العربي في القطاع الحكومي أو الخاص مع العامل الياباني القطاع الحكومي أو الخاص لليوم الواحد. وللفاعلية صور ومستويات: ( فاعلية الفرد ( فاعلية الأسرة ( فاعلية المنظمات ( فاعلية الدول ( فاعلية الحركات والجماعات. (1) فاعلية الفرد إن إنتاجية الموظف الحكومي في منطقة الخليج لليوم الواحد لا تتجاوز الربع ساعة في اليوم، أما إنتاجية الموظف في مصر فهي أسوأ إذ تقترب من (5) دقائق لليوم الواحد. أما في القطاع الخاص، فعُملت دراسة حول إنتاجية الفرد في إحدى أكبر شركات النفط وأفضلها في العالم العربي، فكانت إنتاجية الفرد (45) دقيقة، بناء على تصريحات مدير الشركة. وبحسب الإحصاءات والدراسات حلّ العامل الأمريكي في المرتبة الأولى من حيث الإنتاجية، ثم حلّ في المرتبة الثانية العامل الياباني. كلمة قاسية لكنها من محب أقول كلمة قاسية قد تزعج الكثيرين، لكنها صادقة خرجت من قلب محب مشفق على أحوال الأمة، أقول: إن من يتسلل من العمل لأي قضايا خاصة، أو يقضي جلّ وقته في أمور ليس لها علاقة بعمله، ويعطّل مصالح الناس، إنما هو (لص)، وإذا كان اللّص هو من يسرق المال، فإن هؤلاء يسرقون ساعات وأوقات العمل، التي دُفع لهم من أجلها المال (الراتب)، فلا فرق عندي بين من يسرق المال، وبين من يسرق من ساعات العمل، ولست أدري متى سننهض إذا كان الفرد غير منتج. دوام إضافي بلا راتب إضافي كان بيني وبين إحدى الشركات عمل يجب إنجازه، فذهبت في أحد الأيام إلى تلك الشركة، ودخلت مكتب الموظف الذي سننجز العمل معه، وإذا هو شاب من جيل أولادي، حييّته سلّمت عليه، واستقبلني باحترام وإجلال، وأثناء حديثنا انتهى الدوام، فاستأذنته أن يتأخر حتى ننجز العمل. فقال: "خذ راحتك " يا دكتور، أنا يومياً أجلس ساعتين إضافيتين بعد انتهاء الدوام، ولما سألته عن سبب تأخّره، أخبرني أنها من باب " تحليل الراتب " وأن يأكل حلالاً ويطعم أهله حلالاً، لأن الدوام لا يخلو من حديث جانبي مع زميل، أو مكالمة هاتفية، فأخشى أن أكون أضعت من وقت العمل ما سأُحاسب عليه. في ضيافة عمر بن عبدالعزيز رحمه الله تعجبت من فعل هذا الشاب، وشكرته، وقلت في نفسي: بمثل هذا النموذج ستنهض الأمة، وتذكرت على الفور سيرة خليفة المسلمين، الإمام العادل عمر بن عبدالعزيز رحمه الله، الذي كان يتحدث –ذات مرة- مع أحد ولاته عن شؤون الدولة، ولمّا فرغا من الحديث، أخذ الوالي يتحدث في أمور لا تتعلق بالدولة ولا سياسة الرعية، فاستأذنه عمر بن عبدالعزيز في أمر ما، فقام وأطفأ مصباحاً، ثم أشعل آخر، ولمّا استفسر الضيف عن فعل عمر، أخبره أن المصباح الأول هو مصباح للدولة، وثمن زيته من بيت مال المسلمين، فهو يشعله إذا كان يعمل في شؤون الدولة ورعايتها، وإذا فرغ من ذلك أطفأ المصباح، وأشعل المصباح الآخر الذي هو ملك لعمر بن عبدالعزيز، وهو من يدفع ثمن زيته، وليس بيت مال المسلمين. (2) فاعلية الأسرة وقد تعمل الأسرة كأفراد متفرقين، كل على حدة، وقد تعمل كمجموعة واحدة متماسكة، وإذا بحثنا قد نجد في الأسرة أفراداً فاعلين، لكننا نفتقد الأسرة الفعالة، التي يخطط أفرادها معاً، ويدعمون بعضهم بعضاً، ويشجعون بعضهم الآخر. (3) فاعلية المنظمات عادة ما تضم المنظمة الواحدة مجموعة من الأفراد، الذين تجمعهم أهداف متشابهة، ويختطون لأنفسهم طريقاً لتحقيق تلك الأهداف، وتقاس فاعلية المنظمات بمدى تكامل المؤسسية في المنظمات، وسنتحدث في مقالات قادمة عنها بشيء من التفصيل. (4) فاعلية الدول في المقالات القادمة سنتوسع في البحث والحديث عن فاعلية الدول، لكني أشير هنا إشارة سريعة إلى نتائج بعض الدراسات والإحصاءات المتعلقة بدول العالم العربي. والتي تقاس بها فاعلية الدول: - الديمقراطية وأقولها صراحة إن التحول إلى ديمقراطيات حقيقية هو أحد معايير نجاحنا في عملية النهضة، وإلا فلن يكون هنا تطور وتنمية. الديمقراطية في عالمنا العربي الديمقراطية هي أحد أهم معايير الفاعلية وكذلك معايير الإبداع، وأتمنى أن يكون الربيع العربي تحولا كبيرا وحقيقيا لعالمنا الإسلامي والعربي نحو الديمقراطية. الإنفاق على عملية التسلح الإنفاق على عملية التسلح، من الأمور التي تقاس بها فاعلية الدول، والخارطة التالية تبين حجم الإنفاق الدولي على التسلح بالمليارات، وانظروا إلى الأرقام الهائلة والمخيفة التي تنفقها بعض الدول العربية على عملية التسلح، والسؤال لماذا التسلح..؟ وهل سيوجه السلاح إلى عدو الأمة الحقيقي..؟ وعلى حساب ماذا كانت عملية التسلّح..؟ للأسف كانت على حساب التعليم والبحث العلمي ومشاريع التنمية، أما السلاح فغالبية الدول تستخدمه لمواجهة الشعوب وقمع الحريات وإهدار كرامة الإنسان كما نرى في الدول التي تقوم بها الثورات اليوم. (5) فاعلية الحركات هناك وجه شبه بين الحركات والمنظمات، لذا فيعتبر مدى تكامل المؤسسية في الحركات، أحد مقاييس الفاعلية لديها، وللمؤسسية أكثر من (120) معيارا، موزعة على (12) مجالا، وقد فصّلت ذلك في كتابي " المؤسسية "، ومن خلال هذه المعايير تستطيع أن تعرف مدى فاعلية شركتك أو منظمتك أو جماعتك. إن منظمات المجتمع المدني، والأحزاب والتجمعات، جزء من النسيج المكون للدولة، وعليه فلن تحدث نهضة دون أن تكون ذات فاعلية عالية، ويعتبر دعم الدولة للحركات والمنظمات من الأمور المهمة التي تعين تلك الحركات والمنظمات على أداء أدوارها بفاعلية أكبر، وإنتاجية أكثر. حظر حرية التجمع ولست أدري كيف سيساهم الناس في التغيير، أو كيف ستشارك الحركات في النهضة، إذا منعوا حتى من التجمع بحرية، فالمطلوب –حتى ننهض- أن يمارس الناس تجمعاتهم بحرية، بعيداً عن رقابة الأجهزة الأمنية، ويعبروا عن آرائهم بحرية، وبهذا تنهض المجتمعات، وترتقي الدول، وليس بالكبت وتكميم الأفواه والقبضة البوليسية. إضاءة إن الفاعلية مفتاح من مفاتيح النهضة، وإن التخلف قرار مرسوم وليس محتوماً، لذا فنستطيع أن نغيره لو شئنا بإرادة جماعية من الحكومات والشعوب.

2350

| 07 ديسمبر 2011

التخلف في طرق الإدارة وفي الإعلام

مازلنا نتابع في حديثنا عن مظاهر التخلف في عالمنا العربي والإسلامي وهذا هو توصيف الداء لنعرف المرض قبل أن نحتكم إلى الدواء،، وسنتاول في هذه المقالة مظاهر التخلف الإداري والإعلامي في عالمنا. التخلّف في طرق الإدارة تأملت الكثير من المشكلات التي تعاني منها أمتنا، فوجدت أنها بسبب مشكلة في الإدارة، وطرق الإدارة، ففي قطاع الصحة مثلاً يتخرج أطباؤنا بأعلى الدرجات والمستويات، وتمتلك قطاعاتنا الصحية أحدث الأجهزة والتقنيات، ومع ذلك لدنيا كم هائل من المشكلات، أسبابها إدارية محضة، وقِس على قطاع الصحة باقي قطاعات الخدمات في العالم العربي. الهدف هو رفع الكفاءة الهدف الذي نطمح إليه من خلال الحديث عن الإدارة هو رفع الكفاءة، والكفاءة تعني: زيادة الإنتاج مع تخفيف الجهد والوقت والتكلفة. مثال: لو كنت تملك مصنعاً يعمل فيه (100) موظف، وينتج في اليوم الواحد (1000) منتج، والمنتج الواحد يكلفك (10) دنانير، فإذا استطعت أن تزيد من حجم الإنتاج إلى (1500) مثلاً، وتقلل عدد الموظفين إلى (70) مثلاً، وتخفض عدد الساعات، وتقلل سعر التكلفة إلى (8) مثلاً، فإنك بذلك تكون رفعت من الكفاءة. الإدارة الفعّالة نستطيع القضاء على التخلف الإداري باستعمال طرق الإدارة الفعالة، والتي منها: - طرق اتخاذ القرار: هناك طرق عادية غير مجدية في اتخاذ القرار، وهناك طرق فعّالة لاتخاذ القرار، مثل (Fishbone) عظمة السمكة، (Matrix) المصفوفة، (Decision tree ) شجرة القرارات، وغيرها. - إدارة الاجتماعات: المدير الناجح هو الذي يعرف كيف يدير اجتماعاته بفاعلية كبيرة، وأغلب الطرق التي تدار بها الاجتماعات تعتبر عادية، حيث يدخل المدير إلى قاعة الاجتماعات، التي سبقه إليها الموظفون، وتم تجهيز جدول أعمال الجلسة، يتناول المدير البند الأول على محضر الجلسة، يتم التشاور حوله وسماع بعض الاقتراحات، ويتم اتخاذ القرار إما بالتصويت أو الإجماع، أو يتم تأجيل البت في القرار لحين توفر معلومات ودراسات أكثر، ثم يتناول البند الثاني والثالث بنفس الطريقة. هذه الطريقة تسمى الطريقة العادية في إدارة الاجتماعات، وهي من أفشل طرق إدارة الاجتماعات، وأقلها إنتاجية وفاعلية. - المجموعة الشكلية ولعل طريقة المجموعة الشكلية (Norminal group) في العديد من الحالات وليس جميعها، هي أفضل الطرق للوصول إلى أفضل القرارات بأقصر وقت ممكن، وأنا شخصياً غالباً ما أدير اجتماعاتي مستخدما هذه الطريقة، لأنها تنتج في ربع الوقت ما تنتجه الاجتماعات التي تُدار بالطريقة العادية. ولقد شرحت طريقة المجموعة الشكلية في ألبومي الصوتي الذي يتحدث عن إدارة الوقت. - إدارة فريق العمل: تعتبر الطريقة الصحيحة التي يدار بها فريق العمل من الطرق الفعالة في القضاء على التخلف الإداري، هناك طرق عادية لإدارة فريق العمل، وغالباً ما تكون محدودة النتائج، وهناك طرق متخلفة لم تعد تجدي نفعاً، وهناك طرق حديثة ومتقدمة، أزعم أن غالبية المدراء لم يطلعوا عليها، وإن اطلعوا لم يطبقوها بفاعلية. - الهيكل الإداري: الهياكل الإدارية جزء من مشكلة التخلف الإداري، وسبب يؤدي إليه، وأغلب القطاعات الإدارية تستخدم طريقة الهرم، حيث المدير في قمة الهرم، يتبعه عدد من المساعدين والنواب، وكل نائب أو مساعد يشرف على عدد من القطاعات، وكل قطاع يتبع له عدد من الأقسام، ولكل قسم مسؤول يشرف على عدد من الموظفين وهكذا، كلما نزلنا اتسعت قاعدة الهرم. ولقد أثبتت التجارب أن الهرم هو أسوأ أشكال الهياكل الإدارية، وغالبية من يستعملون طريقة الهرم، يجهلون وجود بطرق جديدة أكثر فاعلية وكفاءة. التخلّف في الإعلام من يتابع التلفاز يلحظ بوضوح ظاهرة الانفجار الفضائي، وأعني بها كثرة القنوات الفضائية، خاصة القنوات ذات الطابع الديني، وهي قنوات يؤجر القائمون عليها، ونسأل الله تعالى أن تكون في صالح أعمالهم يوم القيامة، لكن لي ملاحظة ووجهة نظرة، وهي أن غالبية هذه القنوات أنشأت بحسن نية، والرغبة في نشر الخير، لكن ومن خلال التجربة لا تكفي النية الحسنة لنقل التأثير للمجتمع، لأن الإعلام مهنة وصنعة، من يتقنها يستطيع أن يؤثر في الآخرين، فنحن نبحث عن الإعلام الهادف والمؤثر والفعال. خماسية الإعلام الهادف الإعلام الهادف والمؤثر والفعال لديه إجابات واضحة عن الأسئلة التالية: (1) ماذا سنحقق من وظائف الإعلام ؟ لأن للإعلام وظائف ومهاماً مثل: الترفيه- التوجيه- التعليم - التنوير- الإخبار- التحريض - التعبئة وغيرها من الوظائف، فالقناة الفضائية ينبغي أن تركز على الوظيفة التي أنشأت من أجلها. (2) ما هو الهدف؟ بناء على الوظيفة ستتحدد الأهداف، فمثلاً إذا أنشأنا قناة دينية، فلا بد أن يكون هدفها الرئيسي هو تغيير الإنسان، لذا يجب أن يكون الخطاب موجهاً بالدرجة الأولى للإنسان، ولن تستطيع تغيير الإنسان إلا إذا غيّرنا فيه خمسة أمور رئيسية: - الفكر والقناعات - الاهتمامات - المهارات - العلاقات - القدوات (3) ما مدى فاعلية إعلامنا في الصراع العربي " الإسرائيلي " ؟ وهذا سيقاس بمدى وعي العالم ومعرفته بقضيتنا المركزية، قضية فلسطين الحبيبة، فمن يذهب إلى أمريكا وإلى أوروبا لا يجد تأثيراً لإعلامنا على مواطني ورعايا تلك الدول، لأن أغلب خطابات الفضائيات العربية موجه للعرب وليس لهؤلاء. (4) ما مدى معرفة الغرب بالإسلام ؟ وهذا سيقاس بمدى وعي العالم ومعرفته بدين الإسلام العظيم، فالإحصائيات تذكر أن (10%) هي نسبة غير المسلمين الذين سمعوا عن الإسلام من إسلامية ( فرد أو مؤسسة )، وتشير الإحصائيات كذلك إلى أن (2%) فقط سمعوا عن الإسلام بطريقة صحيحة، والباقي سمعوا عن الإسلام من غير المسلمين، وهذا يدلّ على التقصير الواضح في الإعلام الدعوي، أو في الاستثمار الأمثل للإعلام في الدعوة إلى الله تعالى. الإعجاز العلمي ولنأخذ مثلاً الجهود التي تبذل لبيان قضايا الإعجاز العلمي، نجد أن الخطاب والحديث موجه للمسلمين، فالبرامج والبحوث والدراسات والحوارات وغيرها ..باللغة العربية ، مع أن هدف الإعجاز العلمي بالدرجة الأولى هو هداية الناس، وأن نقول لغير المسلمين: إن قرآننا يشير إلى حقائق علمية تم اكتشافها حديثاً، وهذا يدلّ على أن القرآن الكريم كلام الله تعالى، ومعجزة خالدة، وأن محمداً نبي مرسل من عند الله جلّ وعلا. (5) ما مدى تحقيق المعادلة الإعلامية الصعبة والمعادلة الإعلامية الصعبة تقول: إن الإعلام الفعال هو الذي يجمع بين الترفيه العالي والقيم العالية، وبناء على هذه المعادلة تنقسم القنوات إلى ثلاثة أقسام: قنوات ضعيفة القيم وضعيفة الترفيه: وتمثل اللون الأحمر من الشكل المجاور، ومعظم القنوات الحكومية هي من هذا النوع. 1. قنوات ذات ترفيه عالٍ، لكن القيم فيها ضعيفة، والتي يمثلها أقصى يسار المنطقة الخضراء من الشكل، وأغلبية هذا القنوات تكون مهتمة بجمع المال بالدرجة الأولى، ولا تلفت إلى نوعية البرامج التي تقدمها، أهي حلال أم حرام، تنشر الفضيلة أو الرذيلة. 2. قنوات ذات قيم عالية، لكن الترفيه فيها ضعيف، وغالبية القنوات الدينية تقع ضمن هذا النوع، حيث القيم العالية لكن مع ضعف ملحوظ في الترفيه، والتي في أقصى يمين المنطقة الخضراء 3. قنوات ذات ترفيهٍ عالٍ وقيمٍ عالية، والتي تمثلها المنطقة الزرقاء من الشكل، وهذا ما نبحث عنه ونريده، ونسعى للوصول إليه، لأنه الوحيد الذي سيحقق التأثير والتغيير، وتكاد تخلو هذه المنطقة من أية قناة تجمع بين العالي والقيم العالية.

3007

| 30 نوفمبر 2011

alsharq
الكرسي الفارغ

ليس الفراغ في الأماكن، بل في الأشخاص الذين...

4884

| 20 أكتوبر 2025

alsharq
النعش قبل الخبز

لم تكنِ المأساةُ في غزّةَ بعددِ القتلى، بل...

3645

| 21 أكتوبر 2025

alsharq
معرفة عرجاء

المعرفة التي لا تدعم بالتدريب العملي تصبح عرجاء....

2889

| 16 أكتوبر 2025

alsharq
العنابي يصنع التاريخ

في ليلةٍ انحنت فيها الأضواء احترامًا لعزيمة الرجال،...

2736

| 16 أكتوبر 2025

alsharq
نموذج قطر في مكافحة المنشطات

يمثل صدور القانون رقم (24) لسنة 2025 في...

2730

| 21 أكتوبر 2025

alsharq
غياب الروح القتالية

تُخلّف بعض اللحظات أثرًا لا يُمحى، لأنها تزرع...

2298

| 23 أكتوبر 2025

alsharq
أين ربات البيوت القطريات من القانون؟

واكبت التعديلات على مجموعة من أحكام قانون الموارد...

1488

| 21 أكتوبر 2025

alsharq
ملف إنساني على مكتب وزيرة التنمية الاجتماعية والأسرة

في زحمة الحياة وتضخم الأسعار وضيق الموارد، تبقى...

1407

| 16 أكتوبر 2025

alsharq
وجبات الدايت تحت المجهر

لم تعد مراكز الحمية، أو ما يعرف بالـ«دايت...

1065

| 20 أكتوبر 2025

alsharq
وجهان للحيرة والتردد

1. الوجه الإيجابي • يعكس النضج وعمق التفكير...

978

| 21 أكتوبر 2025

alsharq
مستقبل الاتصال ينطلق من قطر

فيما يبحث قطاع التكنولوجيا العالمي عن أسواق جديدة...

870

| 21 أكتوبر 2025

alsharq
القيمة المضافة المحلية (ICV)

القيمة المضافة المحلية (ICV) أداة إستراتيجية لتطوير وتمكين...

837

| 20 أكتوبر 2025

أخبار محلية