رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

Al-sharq

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

الشرق

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

إباء خارج الزيف!

ليست كل الأرواح قابلة للتأطير، ولا كل الشخصيات تُدرج تحت عناوين جاهزة. فثمّة من يمضي في الحياة بهويةٍ حرّة، عصيّة على التصنيف، لا تُختزل في اتجاه، ولا تُختصر في مسارٍ واحد، فمن امتلك أمره بيده يُدرك أنه كائنٌ متصل بما يُشبهه لا بما يُفترض له أن يُصنّف تحت عنوانه ! فهو روح حرّة تنبض حين تتماهى مع منمنمات الجمال، وتضيء حين تلتقي بمن وبما تحب، وتزدهر حين تتنفس في أجواء السلام والبهجة والمسرات المترعة، روح لا تحتاج أن يتم فهمها بالكامل لتشعر بالأمان، ولا تسعى لأن تُقنن بشخصية بذاتها لتكتسب القبول، بل في وجودها ذاته ما هو كافٍ، ومن إكرام الباري لها تستمد قبس نورها ومقام كرامتها، أما التصنيفات فما هي في عين وعيها إلا حدود وهمية، لا تليق باتساعها، ولا تناسب براح تحليقها ! ومتى ما تمكّن المرء من ذلك الإدراك في دهاليز وعيه، وثبتت بصمات ذلك في بصائر روحه، أدرك مداه الذي لا يُحد، فأضحى لا يتطلّع إلى أن يؤطر فكره، أو تُحدّ ذائقته ضمن أنماطٍ محددة سلفًا، لأنه ببساطة يدرك أن الاختلاف جزء من طبيعته، وأن التنوع أحد مصادر قوته، وأنه لا يكتفي بلونٍ واحد، أو هيئةٍ مخصوصة، فأطياف الألوان لديه ليس لها نهاية، ومقامات الارتفاع ليس لها سقف، يجمع بين المتناقضات بمرونة راقية، ويحتضن الأضداد دون صراع، لأنه ببساطة لا يبحث عن تطابق خارجي بقدر ما يعيش انسجاماً في ثنايا قصره الداخلي. وعندما يكون الإنسان في ذاك المقام فإنه يدرك أن الحياة ليست سلسلة أحداثٍ باردة، بل تجربة شعورية حيّة، نابضة بالإدراكات،متلألئة بانعكاس أنوار الخبرات عليها. ولذا، فلا ينتظر أن يهطل عليه الشعور من العالم الخارجي، بل يولّده هو من داخله، فهو صنيعة مهجته، وهبة روحة الوثابة الأبيّة، يعرف متى يستحضر أغوار السكينة، وكيف يزرع ثمار البهجة، وأين يجد بتلات الإشراق، لأن كل ما يسعى إليه من شعور، وكل ما يتطلع له من الحس يسكن داخله أصلًا ! وحتى في زمنٍ يحاول أن يُقنع الأفراد بأنهم يجب أن ينتموا لفئة، أو يتقيدوا بقالب، هو وببساطة يختار أن ينتمي لذاته أولًا، ويعيشها بصدق، فلا يُلزم نفسه بما لا يُمثله، ولا يتنازل عن حريته لأجل انتماء زائف، وانتسابٍ وهمي. * لحظة إدراك: الإباء ليس مجرد شعور متعاظم بالأفضلية، أو في فرض لنوعٍ مصطنع من التميّز عن الآخرين، بل في السيادة الداخلية على الذات التي تمنع المرء بالسليقة لأن يُجر إلى التأطير والتضييق في حدود موضوعة سلفاً، ومتى ما أدرك الإنسان حريته الأصيلة كحق ممنوح له هذب ذاته قبل أي أحد عن طلب التقييد والتعريف، فيتقن التحليق، ويُدرك مرابعه الشاسعة !

324

| 29 يوليو 2025

الأناقة حضور لا تحتاج إلى صخب

ليست الأناقة ظلاً يمرّ على الجلد، ولا قماشًا يكسو الجسد، ولا شكلًا يُعرض ليرضي العين، ولا رداءً يُلقى على البدن! بل هي ذلك الحضور الذي لا يحتاج إلى صخب، وهي ذاك الوجود الذي لا يحتاج إلى زينة، هي تلك الزخرف الخفّي عن الناظرين، اللامع للمبصرين! هي سكينة الروح التي تنعكس في كل حركة، وفي كل كلمة تُنطق دون تكلف، وفي كل فعل دون تصنّع ! هي احترام الذات المبطن، وصدق النية الذي لا يُعلل. هي حين تنجح في تنظيم أفكارك، وتُفلح في ترتيب مشاعرك، وتُحافظ على اتزانك، وتوهب حكمة الاختيار، فلا تقول ولا تفعل إلا ما يناسب موضعه، ويلائم وقته ومكانه، حينها تُدرك حتماً أنك تسير بأناقةٍ لا يضاهيها بريق! ولعل من المكرمات الظاهرة لهذا الفيض المُبارك، أنه ليس بوسع أحد أن يمنحك هذه الأناقة، فهي هبة من الداخل، ثراء لا يزول، وجمال لا يبهت. فالأناقة الحقيقية هي في الصمت حين يُفضّل أن تُقال ألف كلمة، وهي في انتقائك للكلمة التي تلامس دون أن تؤذي، وفي الابتسامة الهادئة التي تفتح أبواب القلوب. هي في بصمة حضورك، وفي طريقة إنصاتك، وفي نمط تحدثك ونبرة صوتك، في تلك العناية التي تزرعها في كل تفاصيل حياتك أينما حللت فزهرها فوّاح ينثر عبيره. وليس لمعظّمي شأن المظاهر من سبيل ينقذهم من الانخداع بزيف الاختزال للأناقة في مظهرٍ مرتب، وهندام مصقول، وثياب موشاّة، و ظهور برّاق آسر، فكل ذلك زائل، وكل قائمٍ راحل، وكل عينٍ إلى زوال مهما طال لها البقاء. أما الأناقة التي تنبع من الجوهر فتظلّ شمّاء أبيّة، باسقة سامقة، تبقى مع المرء حيثما حل وارتحل، في أعماق من حوله، وفي ذاكرة من يحيطون به. تلك الأناقة التي تُكتب في سطور حياتك اليومية، لا في صورٍ تُلتقط للحظات، وهي التي تجعل من كل لقاء، وكل كلمة، وكل تصرف قصيدة حية تُتلى ولو في مرافئ السكون الخالية. ولعل من مباهج تلك الأناقة الندّية، أن تجد ثمّة أناس لا تعرفهم من مظهرهم، ولكن حضورهم يملأ المكان، ويزرع الهدوء في النفوس يفيض منهم رقي الشعور، وصدق التعبير، وغدق العطاء. وهذا - لعمري- ما يمكن للمرء أن يعدّه فلسفة حياة أصيلة، تتجلى في كل تصرف، وتظهر في كل اختيار، وتنسج بين تفاصيله قصص شتى تستحق أن تُخلّد عبر الزمن. لحظة إدراك: ليس منا من اكتفى ببهرجة الأردية، وتلميع الأغشية، وتباهى على كل شاهد ليشهد تلؤلؤ هيئته، وبريق ثيابه! فأناقة الداخل باذخة، مترفة لا تُكتشف إلا بعين البصيرة، فيها هدوءٌ يشبه النُبل، وسكونٌ يتجاوز الزينة، واتّساقٌ خفيّ بين الداخل والخارج، لا يلبث أن يصبح برهاناً دالاً على وجوده وإن سكن.

600

| 22 يوليو 2025

مفارقة الوقت

لعله مما لا يخفى على أي مُلاحظ، أننا نعيش في زمن تتداخل فيه الأصوات، وتتنوع فيه النبرات، ويتعاظم فيه الصخب، حتى يغدو المرء سجيناً مسلوب الإرادة، ومكبلاً بالأغلال عن الاتصال بذاته، فتتسلل إليه هواجس فقدان الفرص، وتبعثر اللحظات، أو يتهادى إليه شعور وجوب إنهاء مراحل لم تُكتب له نهاياتها بعد، لكن الحقيقة العميقة التي تُعمى عنها عين الرقيب، هي أن الزمن لا يُقاس بالساعات ولا بالأيام، بل بالوعي الذي نعيشه وبالشعور الذي نحمله، وصدق التجربة التي تنسجها النفس في تجربتها المتفردة على هذه البسيطة. ذاك الإدراك يضع المرء في بؤرة وعي جديد، فيفهم أن توقيت المشاعر وموعد استحقاقها أمر خاص، و شأن فردي، لا يُقاس بمعايير جاهزة، ولا يُلزم المرء فيها بقوالب زمنية جامدة، أو يُنسب إليه فقدان فرصة لا يفترض هو ذاته أنه قد ضيعها. أو يُحتم عليه إنهاء فصل ما زال يتنفس في أعماقه، أو ينُكر عليه من الشعور ما يتغلغل فيه، فالروح وحدها تعرف لحظاتها الحقة، ومسيرتها الأثيرة، وتستشعر مساحات احتياجاتها الداخلية، وترسم مسارها بعيداً عن قيود ما يُفترض، ونائياً عن وطأة ما يجب أن يُقال. فالمشاعر التي تتماوج خفية، في فؤاد الإنسان من المسرات والأحزان، والآمال والأماني، ليست موضوعاً للمزايدة أو ساحةً للمقارنة، بل هي أنغام شجيّة فريدة تشكل سيمفونية وجوده، لا يحتمل أن تُجتزأ أو تُسرع نهاياتها تحت أي ذريعة! فالتسرع في إطلاق أحكام على زمن الشعور أداة اغتيال لجوهره، ويُفقده ذوبانه في اللحظة، فتتبخر روعة الحاضر قبل أن يتم تنفسها بالكامل، وتُعاش على حقيقتها بلا مواربات. فمعترك الحياة، ساحة فسيحة تسمح لكل امرئ أن يكون صانعاً وزعيماً وناقداً لزمانه الخاص، يرسم بزخارف الوعي والوجدان لوحته، يلون مشاعره بألوان أصالته، ويخطو بخطى متأنية في دروب وجوده، حينها، لا مجال لأنصاف الحلول أن تتُاح لها فرصة الولوج، ولا سبل الاستعجال لها إمكانية البروز في مواعيد النضج، فلكل شعور توقيته، ولكل فرحةٍ موسيقاها التي لاتكتمل إلا عندما يحين وقتها. وهكذا يتحول الزمن إلى حُرية اختيار، وتتشكل اللحظة كمساحة تكوين، ويتبدل حال الروح ليغدو مرآة تعكس أعمق حقائقها دون تكلف أو فرض، فليس الزمن إلا مساحة للذات تتنفس فيه، وليس الاحتفاء بالمشاعر سوى حقٌ مقدس لا يُهدَر، ولا تليق به أزمان مفروضة، ولا خطوات مُسرعة تغتال جمال الرحلة وروعتها. لحظة إدراك: من الإدراكات الجليلة أن يظهر الزمن على هيئة مفارقة !تتبدل فيها سرعة اللحظة حسب وقعها في النفوس، وأثرها في الأفئدة، فلا يُقاس الوقت حينها بما تدقّه العقارب من الثواني والدقائق فحسب، بل بما تخلقه التجارب من مساحات شاسعة، وأغوار عميقة، تتشابك حينها معاني الوقت الخارجي ودلالات الزمن الداخلي، فتتحول اللحظة إلى ساحات يتشكل فيها الشعور، وتُبنى فيها صروح الذاكرة بعيدًا عن قيود الأرقام وحساب الدقائق.

273

| 15 يوليو 2025

بيانٌ في زمن الأقنعة !

في زمنٍ اعتاد تجميل الحقائق، وكتمان المشاعر، وتغليف النوايا باللباقة، قد يبدو الوضوح نشازًا، أو خروجًا سافرًا عن النص. ولو أمعنا النظر، لوجدنا أن الوضوح في حقيقته، ليس سوى عودة إلى الأصل، ورجوع للفطرة، ذلك لأنه أن تكون واضحًا لا يعني أنك قاسٍ أو مندفع، أو لا يهمك أن تجامل وتسايس، بل المعنى ببساطة أنك تعبت من التخفّي، ومللتَ المراوغة. يعني أنك وصلت إلى منطقة آمنة داخلك، لم تعد تحتاج فيها أن ترضي الجميع، أو أن تصغّر صوتك حتى لا تُزعج أحدا ! فالواضح من الأنام كريم لا يرتجي الإذن، ولا يعتذر حين يقول (لا أفهم) أو (هذا لا يناسبني) أو (أنا لست بخير) ولا يختبئ خلف مجاملة، ولا يذوب في المجاراة، فقط ليبقى في محيط لا يشبهه، أو يداري شعوراً له ويكبته مراعاةً وتقديراً! وهذا مبعث لأن قد يُساء فهم المرء، أو اتهامه بالحدة أو الغرور، أو وصمه بالبرود وعدم الاكتراث ! لكن الأمر في جوهره هو أن اختيار الوضوح، وتفضيل البيان، ينبع من عدم امتلاك طاقة للتزييف، وانعدام الرغبة في التفاوض مع صوته الحقيقي، والزهد في الميل للإثبات والاعتراف ! أما من يخشون وضوحك، فهم أولئك الذين لم يتعلّموا بعد كيف يكونون صادقين مع أنفسهم. لذا، فالذين يعتبرون الحضور النقي تهديدًا، والتعبير الصريح الواضح وعيداً، هم اعتادوا التعامل مع النسخ المنقّحة من الآخرين، وتمرسّوا على التعامل مع الأقنعة التي تخفي خلفها أصل الشعور. فأن تكون واضحًا، يعني أنك توقفت عن استعارة صوت ليس لك، ومنعت نفسك عن التبرير، ونأيت بذاتك عن الاعتذار المستمر عن وجودك، والمساومة على مساحتك. يعني أنك أصبحت تكتفي بأن تقول: ها أنا ذا، بلا زينة زائدة، ولا بهرجة باذخة، ولا محاولة للإقناع، تتحدث من نقاء أعماقك، لا من الرغبة في القبول. وليس المعنى من ذلك أن تتحول إلى سليط لسانٍ بزعم الصراحة والوضوح، أو تسيء إلى الأنام بفحوى أنك لا تتملق أو ترتدي أي أقنعة، فليست الوقاحة مرادفاً للوضوح، وليس التطاول دالاً على البيان ! لأن الوضوح الحق لا يعني أنك لا تخطئ، أو تزل أو تتهاون، بل يعني أنك لا تتصنّع ردود أفعالك، ولا تتلاعب في استجاباتك، ولا تُمثل مشاعر ومسالك لا تمتّ إليك بصلة! فأنت قابلٌ للخطأ أحيانًا، وللصواب أحيانًا أخرى، لكنك لا تدّعي ما لست عليه، وهذا وحده كافٍ في ظني ليمنحك نوعًا نادرًا من السلام، والتصالح الدقيق مع الذات. ففي زمن تداول الأقنعة، مهمٌ أن يعي المرء أن كونه واضحًا غير مرادف لفقدان قدرته على التكيّف، بل هو دلالة أنه تخيّر لنفسه العيش متناغمًا مع ذاته أكثر من انسجامه مع التوقعات عنه وحوله. ومن يمتلك تلك النعمة الأثيرة، والمنقبة الجليلة، لا يتنازل عنها، حتى لو اضطر بمقايضتها انسحابات أو عزلة مؤقتة ثمناً لها. لأن البقاء في علاقات تُجبر الإنسان على التمثيل والمداهنة تحتاج من الوقت والجهد ما هو أصعب بكثير من أن يبقى وحيداً، أما تلك الهبة العزيزة فهي تخلع عليه جبّة النور والحقيقة، وتمنحه الحق في التنفّس من رئة فطرته الأولى. لحظة إدراك: ثمة راحة خفية في أن يتسق المرء مع صوته، دون أن يُبرّره أو يُخفيه، أو يأده في مهده ! فالجلاء صنو الرحمة بالذات، ومبتدأ العيش على حقيقتك دون رتوش، وسبيلك لتوثيق أواصر حقّة تُبنى على القبول، ودون اضطرار للقسوة أو إرغام على الإجحاف !

294

| 08 يوليو 2025

مما يُقال في ترف الاكتفاء !

هناك لحظات لا يُعلَن عنها في نشرات الحياة، ولا تُدوّن في سِيَر التقدّم، ولا تُلحظ ربما من بين الطيوف، لكنها اللحظات الأصدق، والأوقات الأصفى حين يتخفّف المرء من وطأة رغبته القديمة في أن يُعجَب به أحد ! لا لشيء، إلا لأن البهاء حين يصدق لا يقف على عتبة إعجاب، ولا ينتظر مصادقة من عينٍ عابرة، ولا ينتظر اعتراف من عارض، و لا يحتاج لإثباتٍ لأي مار. فثمّة من يظلّ يُلمّع مرآته أمام الآخرين، يُقلّبها على الجهات الأربع، يُنقّح ظلاله، يرفو عيوبه، يُرقعّ زلاته، يلهث لهث الجائعين للفتة، ويجري جري المتعطشين للارتواء من نظرة تؤكد وجوده ليبدو، ليلمع ويظهر، لا ليكون ! لكن ما إن تُغلّق أبواب التوق، وتُقفل منافذ الانتظار، حتى تُفتح نوافذ لا يُرى لها إطار، على مصراعيها تنتظر من يستشعر وهج الانطلاق، وما إن تنطفئ حاجة الإبهار، حتى يتوهّج الوجود على سجيّته، دون طلاء ولا إعلان، أو بروق ورعود طال أمد الانتظار لها لتمطر ! فالجمال في حقيقته صفيّ، لا يُحبّ الازدحام، ولا الضوضاء، هو حيي كريم لا يلهث لاقتناص النظرات، ونيل التأكيدات، لأنه يعرف طريقه إلى من يُحسن رؤيته دون دليل، ويلحظ وجوده دون برهان، فهو بنفسه دالٌ على نفسه بحضور صامت مُكرّم، أنيق الوجود، مهندم الحضور، يأتي صامتًا، ويترك أثرًا، يُقدم خافتاً، ويُشعل نوراً، يتجاوز الوصف، ويتعالى عن المقارنة. فهو في أصله ليس نِتاج مجهود، ولا حصيلة سعي، ولا ثمرة هرولة لنيل التأكيد، إنما هو انبعاث ليس مَرئيًّا فقط، أو ملاحظاً فحسب، بل حُسن محسوس، دالٌ على وجوده ومُلهِمٌ. ولعل من الثمرات الباذخة لذلك، أن المرء الذي عبر ساحة التوق، وخرج منها بخفّة الاستغناء، لا يعود كما كان، لأن روحه لا تحمل بطاقة تعريف، ولا تستعجل الاعتراف، تمشي على الأرض بحضورٍ لا يطلب مكانًا، وبهاء لا يحتاج ضوءاً خارجياً كي يتجلّى ويبزغ، هي تعلم في قرارتها أنها كافية، وتُدرك في سكون اختيارها أن الكفاية الحقّة ليست كلمات تُنطق ولا بزوغ مضطرب الحال لتدركه البصائر ! لحظة إدراك: ما أن يرسخ الاستغناء في القلب، حتى يغدو الظهور بلا حاجة، والحضور بلا تكلّف. فالجمال الذي لا ينتظر مرآة، يعرف أن الصمت في ذاته مُجزٍ للظهور، وأن الوجود الساكن ناطقٌ وإن سكت، وهذا في حد ذاته كافٍ.. وزيادة.

339

| 01 يوليو 2025

حين يكون الفرق.. مكرُمة !

في محادثة دافئة جمعتني بصديقة قريبة من روحي، نظرت إليّ (سميرة) بعينٍ متأملة وقالت بابتسامة مستغربة: “حينما أقرأ لك، أنبهر بأسلوبك وعمق فكرك، ولكني حين أجلس معك، أراك هاشّة، باشّة، لطيفة المعشر، بسيطة التعامل، وكأنكِ شخصٌ آخر». ابتسمتُ، لم أُسرع إلى التبرير، بل تركت المسافة بين السؤال والجواب تتنفس قليلًا، ثم قلت: «هذا الفرق، يا صديقتي، قد يكون في ظاهره تناقضاً، لأنك قد توقعتِ مسبقاً أن كل صاحب فكر لابد أن يكون على هيئةٍ مُعينة، أو مظهر مخصوص من الحركة والتصرف، أما من جهتي فأنا أرى ذلك مكرمة من المكرمات». لأنه ليس من الضرورة أن تُشبهنا حروفنا في ظاهرها، فنحن نكتب بعمق لأننا نُحب الحياة من جوهرها، ونُصيغ أفكارنا بعناية لأننا نُقدّس الكلمة ونعرف وقعها، أما في تعاملاتنا، فتمثلات ذاك الفكر والشعور تظهر في بساطة من غير تكلف، ولطافة من غير اصطناع، و بشاشة من غير قيد، بلا ثقلٍ فلسفيّ يستعرض عضلات الفكر و طبقات الشعور. ذلك لأن الله يهب من يشاء القدرة على التلوّن برقي، فلكل مقامٍ مقال، ولكل سياق أدبه و أسلوب تعامل يوافقه ليس من باب الزيف الخادع، أو الظهور المجامل، بل من باب العيش على طبيعتك وبساطتك. بحيث توهب القدرة على أن تكون في الكتابة صوتًا مُتأمِّلًا، وفي الحياة حضورًا يسيرًا مطمئن الحضور، خفيف على الأفئدة. ولعل هذا ما يجعل التوازن فناً لا يتقنه إلا من تعمّد أن (ينصت) إلى الحياة من الداخل، دون اضطرارٍ إلى (شرحها) طوال الوقت. بل إن من أجمل ما أمتنّ له، أن هذا العمق الذي قد يبدو متناقضاً في ظاهره، لم يتشكّل على هيئة حواجز أو أبهةٍ مصطنعة، بل يسير بخفة كما تسري الروح في الجسد بلا تكلّف، عمقٌ لا يحتاج أن يُعلن عن نفسه، أو يبرهن على وجوده، يتجلى بوضوح لمن يعرف كيف يرى بعين بصيرته لا بعين بصره فحسب. ألم يكن طه حسين مفكرًا موسوعيًا، ثم تراه في بيته مُحبًا للمزاح ومجالس الأنس؟ ألم يكتب نزار قباني عن الثورة والعاطفة بشاعرية مزلزِلة، لكنه حين يتحدث، يبدو كمن يمشي على أطراف النغم، بسلاسة وعذوبة؟ وحتى الجاحظ، الذي أبهر الناس بعقله، أضحكهم أيضًا بحكاياته وبطرافة حواراته. وهذا في ظني من أعظم ما يميّز الإنسان، أن تكون جذوره ضاربة في العمق، وظله خفيفًا على من حوله، ليس على سبيل التواضع فحسب، بل عن سجيّة متدفقة، سهلة ممتنعة. فلا عجب أن نكتب بعمق ونعيش بلطف، أن نحمل فينا فكرةً وابتسامة، نباهةً وسكينة، فلا ضد بينهما من الأصل، بل هي في أساسها مظهر صادق عاكس لما توغلت فيه نفسك من الأعماق، و ما سبرته من عوالمها وأكوانها الداخلية بحق. فالحقائق العميقة لا تحتاج أن تلبس ملامحنا على هيئة مخصوصة مثقلة بالتكلّف، بل يكفي أن تُضيء نصوصنا، وتنعكس بخفة في تعاملنا، وهذا هو الأليق بالالتفات والتثمين. لحظة إدراك: القدرة على الجمع بين عمق الفكرة وبساطة الحضور هي من فضائل العيش وفق السهل الممتنع، فالرهافة الحقيقية لا تعني التكلّف في التصرفات، والفكر الثاقب ليس تعقيداً في التعاملات، ذلك لأنك عندما مُتأمّلًا في داخلك، وهادئًا في حضورك، فأنت صاحب مكرمة لا تُدرَك إلا بذائقة رفيعة، وحسٍ عالٍ. وهذا الاتزان، هو الجمال الذي الذي لا تحيط به المقاييس، ولا توزن به الكلمات، قدره أن يُستشعر فحسب بالتواصل الحق.

333

| 24 يونيو 2025

على مقاسك.. لا مقاسهم

ليست كل الطرق مُعبّدة إلى الطمأنينة، ولا كل الدروب ميسرّة إلى السكينة، وليست كل الوجوه مرآة لذاتك ! فثمّة دروب لا تقود إلا إلى الضجيج، وثمّة نوافذ تُطلّ على فراغ لا حدّ له، أو سراب ليس له من وجود، وأحاديث تُطفئ فيك النور الذي تحمله. لذلك من الأدعى أن تتيقن من أنه لا يليق بك من بين كل هذا الزخم، إلا القُرب ممن يُشبهك، ممن يُضيء دنوه لا يُطفئ، ويمنحك شعور الانتماء والانتساب، والسكون والقرار، لا حس الاضطراب والضياع والتيه فيما لا قِبل لك به. ففي زمنٍ تتكاثر فيه الأصوات، ويتنازعك الرأي والرأي الآخر، وتتكالب عليك الأهواء، تذكّر أن سعادتك ليست مُعلّقة بمزاج الآخرين، ولا قراراتك رهن بخرائط لا تشبه قلبك. ذاك لأن لحياتك طابعًا فريدًا، لا يليق به أن يُقاس على مقاسات لا تنتمي لك، ولا يناسبه أن يُحترى على نحوٍ لا يُعتزى إليك ! فالاختيار الحرّ - حين ينبع من وعيٍ عميق بذاتك - يُثمر حياة تُشبهك، ووهج يداني روعتك، ويُعيد إليك سلطتك التي لم تخلعها الظروف، بل أُهدِرت حين صدّقت أنك مُلزم بالسير في دربٍ انتقاه لك غيرك. تجرأ ألا تفتح نوافذك إلا على المناظر التي تسرّك، واربأ بقلبك أن يسقط نظره على المشاهد التي تُربك بصيرتك، فلا تطرق أبوابًا لا تُشبه ضوءك، ولا تباري شمعة نورك المتقدّة، ولا تتخلّ عن انسيابك الداخلي من أجل قوالب لا تستوعبك، فإن سعادتك قرار، واختياراتك مسؤولية، وإن مسارك - أيًّا يكن - هو بيتك الأول الذي تُشيده بيديك لبنةً لبنة. وإن ضاق بك الدرب، فافرش يقينك على أرض الله الواسعة، وحلق في سمواته الشاسعة، فلا ضيق يدوم، ولا سُحب تستوطن الفضاء بلا مطر، وليكن نصب عينك دائماً إن سماءك إن غيّمت، فهذا رسول قريب لك بأنه حان فيض ودقها ! ولا يغريك التردد فتمتنع من أن تفتح شبابيك على مصراعيها على ما يحاكيك ويُجانسك، وأن تستريح تحت ظل نفسك، تتفيأ من وارفها أماناً. فلا عزاء في العيش على هوى الغير، واتباعهم إمعة بلا تقدير، ولا فخر في حياة تُنكر ملامحك، وتجحد وجودك. لحظة إدراك: ليست كل المرافئ مأمونة الوصول إلى رايات السلام، لذا، فالنضج أن تُجاور ما يلامس حقيقتك، وتُعرض عمّا يُطفئ وهجك، والطمأنينة تنبت حين تختار ذاتك بوعي، وتمشي المسار الذي يليق بك ويحاكي روعتك لا ذلك المفروض عليك.

366

| 17 يونيو 2025

دَع للنور معبراً !

حين تمشي روحٌ على الأرض وفي عينيها ضياء، وفي خطواتها إصرار، وفي صوتها بريق، فليس من النُبل إطفاء وهجها. فإن لم تُضف إليها ضياءها نوراً، فلا تكن ريحًا صرصراً عاتية تُطفئ شعلتها ! وإن عجزتَ عن مجاراة أحلامها، فلا تُشوّه سعيها الحثيث بالتقليل أو التثبيط. فثمّة قلوب تخلق من العادي معنى، ومن التعب ملحمة، ومن التكرار فرصة، ومن الحياة - رغم قسوتها- فسحة من الأمل، وبصيصاً من الرجاء. لا تنتظر تأكيدًا لقيمتها، ولا اعترافاً بثمين جوهرها، لكنها تتأذى من التهوين والتشويه حين يصدران من قلوب مُطفأة، لا تتورع عن تجريح النور حين لا تُطيق ألقه، ومهاجمة الحياة حين تعجز عن احتضانها، وكسر الأجنحة التي تُذكّرها بعجزها عن التحليق! فليس في الوجود ما يبرّر إحباط الساعين، ولا ما يُجيز خنق النور فيمن تجرّأ على الحلم، ولا ما يعذر النفوس الساكنة حين تهاجم الأرواح الساعية لأنها تذكّرها بما لم تفعله، وتواجهها بسواءاتها أمام نفسها قبل أي أحد! بعض النفوس لا ترى الفرح إلا خصمًا، ولا تُبصر النور إلا تهديدًا، ولا تشهد على النجاح إلا مرآةً لخذلانها، فتُهاجم النابضين بالحياة بسوء ظن، وخبث طوّية، وتُطفئ فيهم المعنى، لا لأنهم أخطأوا، أو أساءوا، إنما لأنهم سلبوها حجّة السكون ! أما أشدّها سمّية، فهي التي لا تعم لكنها تتأذى أن عمل الناس، تُفسد الدوافع، وتزرع الشك، وتُطفئ الضياء، لا لشيء إلا لأن الحياة لم تعد تجري في عروقها. وفي ظلال كل ذلك، يظل النور يمرّ، والضوء يعبر خفيفًا، حرًّا، بهيًا، ساطعاً دون جهد ! فبعض الأرواح، وإن لم يُصفّق لها أحد، تُنير الدرب لغيرها، وتمنح العالم بهجةً صامتة لا تحتاج إذنًا لتكون. وما أجدى أن تتذكر تلك النفوس المُشعة دائماً أن لا تدع كل ذلك من أن يخفت من نورها شيئاً، كما قيل: (لا تطفئ نورك لمجرد أنه يزعج عيون الآخرين). لحظة إدراك: ثمة أرواح تمضي بنورها، لا تطلب إذنًا ولا تنتظر تصفيقًا، وليست ذات صخب يلوي الأعناق! قد تعجز بعض العيون عن احتواء وهجها، فتُرمى بسهام الخذلان، أو التسفيه لحاجةٍ في نفوسهم لم تُستدرك ! فلا أدنى من أن يُترك للنور معبر، وللضياء طريق، ولو لم يُفهم، ففي مروره حياةٌ حتى لمن أطفأتهم الظلال !

600

| 10 يونيو 2025

السيادة الهادئة في زمن الضجيج

في عالمٍ تتقاذفه الانفعالات، وتُستدرج فيه الأرواح إلى صخبٍ لا ينتهي، تبقى النفس الرزينة المتزنة، كأنها دعاءٌ مُستجاب، وهبة من الله تُورث السلام، وتمنح صاحبها سكينة من نوعٍ لا يُشترى، وطمأنينة نادرة من صنفٍ لا يُقتنى. تلك هي النفس التي تعرف الغث من السمين، والزيف من اليقين، وتُبصر بحكمةٍ المآلات قبل أن تخطو، و تنظر للمرام قبل أن تُسدد. تتأنّى، فتُميّز الخطأ من الصواب، والخير من الشر، و تشمّ رائحة الظلام وإن تنكّر، وتتعرّف على الحقيقة وإن تدثرت، وتؤمن بأن للحياة شعرة، كـ”شعرة معاوية”، لا تُشدّ حتى لا تنقطع، ولا تُرخى حتى لا تُهان. هذه النفس لا تقفز إلى ردّ، ولا تُسرِف في الحُكم، بل تقرأ المشهد بعينٍ فاحصة، كقارئٍ يمرُّ على سطور كتاب الحياة بعناية، يدرك أن كل خطوة، وكل صمت، وكل اختيارٍ له وزنه وامتداده، وله أثره وبصمته، تمضي وهي تبصر ملامح الدروب، لا تستهين بتفصيل، ولا تغفل عن أثر. هي المرونة دون ضعف، والحسم دون قسوة، واللين دون تميّع، واللطافة دون انصهار. فالنفس الرزينة تُجالس الحكمة، وتُصاحب التبصّر، وتختار من الصمت ما يليق، ومن الكلام ما يُزهر، ومن النور ما يسطع. وما أجمل أن يتفضل الله على خلقه فيرزق إنسانًا هذه النفس، نفسٌ حين تُبتلى لا تَهتزّ، وحين تُمدَح لا تغترّ، وحين تعثر لا تفقد أملها بربها. نفسٌ متزنة، تُصل بين جناحيها العقل والقلب، وتؤمن أن الحياة لا يُفلح فيها إلا من قرأها بوعي، وسار فيها بوقار، و مشى فيها الهوينا على صراطٍ مستقبم. وليس ذلك من باب التقييد، فلم يكن الاتزان يوماً ثقلاً، ولا الاتزان عبئًا، بل عن وعيٌ عميق بما يليق بها بأن تمضي وهي تدرك متى تُبصر، ومتى تُعرض، ومتى تصمت باختيار، ومتى تتجاوز ومتى تلزم، ومتى تتناسى ومتى تتذكر، تلك هي السيادة الهادئة في زمن الضجيج. لحظة إدراك: لم يكن السلام يوماً في رفع راية الانتصار، بل في تحقيق الكفاية والاكتفاء، ذلك لأن أنضج النفوس تلك التي لم تعد تحتاج أن تُثبت شيئًا، أو تنال من نصرها اعترافاً بمزيتها على أحد! فما السيادة سوى قوة الحضور، وبهاء الهدوء، وحكمة الاتزان.

1017

| 03 يونيو 2025

طبائع الظل والنور

ثمة أرواح خُلقت وهي تميل بطبيعتها نحو النقاء، تنجذب تلقائيًا إلى الجمال، لا تتكلف البحث عنه بل تراه حتى في أدق التفاصيل، فتلامس النور في كل ما حولها، وتضيف عليه من طهرها الداخلي إشراقًا لا يُشبهه أحد، ولا يدانيه كل مخلوق. هذه الأرواح تمسح على الأشياء بنظرتها، فتمنحها حياة جديدة، وتُرجع للكون صوته الخافت من اللطف والامتنان لأنها من أرواحٍ وُلدت من ماءٍ نقي، ونُفخت فيها من نسيم الصباح، فصارت لا تستكين إلا حيث الصفاء، ولا ترتاح إلا بين تجليات الجمال، لا تُدرّب نفسها على اللطف، بل تُمارسه بالفطرة، تُضيء بحضورها، وتتألق بوجودها، تترك أثرها حيثما حلّت، كأنها تمرّ على الأشياء فتوقظ فيها أجمل ما فيها. ترى الحياة بعيون ممتنّة، وقلوب شاكرة، تمس التفاصيل الصغيرة كما لو كانت كنوزًا ! لا تغريها الكثرة، ولا يستهويها الضجيج، بل تميل إلى البساطة المصقولة، وإلى المعاني الهادئة التي لا تحتاج إلى صراخٍ لتثبت وجودها. عندما تلمح نورًا في أحد، تُعلي من شأنه، وتُشعِره بأنه مرئيّ، مهما كان خافتًا في نظر الناس. هؤلاء لا يملكون عيونًا تبحث عن النقص، بل قلوبًا تُبصر النور في كل أحد، يعلّقون على بسمة خجولة، أو على نظرةٍ طاهرة، أو على كلمة صدرت من نوايا نظيفة، ويحولون أبسط اللحظات إلى مشاهد تنبض بالامتنان. وفي المقابل، هناك أرواح لا تستقر إلا في العكر، لا ترى في الجمال إلا مدخلًا للتهكم، ولا في الصفاء إلا سذاجة. تمضي أعمارها تبحث عمّا يُشبهها من تشوه، فتجعل من النور موطن قلق، ومن الطهر ساحة مقاومة. تُفسد الجمال إذا حلّ، وتنفر من الامتنان إذا حضر، لأن طبيعتها لا ترتاح إلا حيث يسكن القبح ويغيب الانسجام. لا ترتاح في حضرة الإشراق، ولا تقّر بتوهج النور، لأنه يكشف عتمتها، ولا ترتاح مع الصدق، لأنه يحرج نزعتها إلى التوجّس. حين تقترب من الجمال، تُحوّله إلى تهمة، وحين تُصادف الخير، تُشكّك في دوافعه. هي لا تنتمي إلى الضوء، ولذلك فهي لا تطمئن إليه. وبين هؤلاء وأولئك، تتضح سنّة من سنن الوجود: كل روح تنجذب لما يُشبهها، وتأنس به، وتُبرّر له، وتبرع في تسويغه. فالطيّبون حقاً لا يبرعون في افتعال الشر، والأنقياء لا يُجيدون تبرير القبح، ومن خُلق من نور، سيظل يبحث عن موطنٍ يسمح له أن يلمع دون خوف، ويحب دون قيد، ويعطي دون حذر. وهنا تظهر الحقيقة المجردة.. كل نفس تميل لما يُشبهها، وتأنس له، وتستكين إليه، فالنفوس الظليلة لا تطيق بُقعة الضوء، كما لا ترتاح النفوس النقيّة في زوايا العتمة، وكل روحٍ تسعى لا شعوريًا للبيئة التي تُغذي طبيعتها ! فلا عجب أن نطمئن فجأة في حضرة أحدهم، أو نضيق دون سبب في حضور غيره، فالنفس دليلة لطريقها دائماً! لحظة إدراك: ثمة أرواح خُلقت من نور، تميل بطبعها إلى الصفاء، وتبصر الجمال حتى في الزوايا المنسيّة، وأخرى يسكنها الظل، فلا ترى إلا العتمة، وتستوحش من الضوء. فكل نفس تأوي لما يوافق طبيعتها، وتطمئن إلى ما يُشبهها.

339

| 27 مايو 2025

حين يتجسّد السعي في جُبّة التخرج

في حياة المرء محطاتٌ لا تُختزل عند حدود الإنجاز، بل تتجاوزها إلى عمق المعنى. والتخرج - في جوهره - ليس محض احتفالٍ بنهاية مرحلة تعليمية، بل هو تمثّل حيّ لمسار من السعي المتصل، ونتيجة تعبّق الروح بالمعرفة، وتجسيد لفخر يتجاوز لحظة التتويج. فالسعي في حقيقته فعل مقاومة! مقاومة الكسل، والشك، والتشتت، والظروف المتقلبة، والإجازة ليست ثمرة فصلٍ أخير، بل حصاد أعوامٍ تراوحت فيها الخطى بين الثبات والتعثّر، وبين العزم والتعب، والحصيلة ليست عدالة فحسب، بل انعكاس لجودة المسير، وإخلاص الخطى. كثيرًا ما تمرّ النتائج كعابرات سبيل، فيما يظل أثر السعي ممتدًا في الوعي، متغلغلًا في السلوك، ومشكّلًا لطريقة النظر إلى الحياة ! لذا، فالفخر الحق لا يُصنّع، والاعتزاز الصادق لا يُمَثّل، بل يُولد تلقائيًا من الصبر، فهو من النقاء والبهاء والنور مما لا يستجدي معه التصفيق، أو يحتاج للمنصات والشهادات ليبرر لنفسه، أو ليسمح لذاته بالوجود! وفي رمزية التخرّج ما يتجاوز الأوراق والرداء الأكاديمي، فهو رمزٌ لنضجٍ ما، ولمرحلةٍ تطوّرت فيها طيّات الشخصية كما تطوّرت مقامات المعرفة. وفي كل تخرّج، حكايةٌ صامتة لا تُروى، لكنها تُلمَح في نظرة الفخر، أو دمعة التقدير، أو خطوة نحو المستقبل بثقةٍ أجلى. وقد شاء الله لهذا السعي أن يُكلَّل، لا بورقة تُعلّق، ولا بشهادة تُعلن، بل بلحظة هادئة لبِستُ فيها جُبّة التخرّج، وقفتُ فيها بين المعنى والجدارة، وبين القيمة والجدوى، أتنفّس الحمد فيها وأبتسم لخطى الأيام التي حافظت على عهدها معي. ويبقى التخرج لحظة صدقٍ لا تحتفي فقط بالتحصيل الأكاديمي، بل تكرّم السعي الصادق، وتُكرّس الفخر كاستحقاق عازم لا كهبة مُنالة، ولعل القيمة الأعمق في هذه اللحظة تكمن في أنها تُذكّر الإنسان بأن التعب لا يضيع، وأن كل ما زُرع في الخفاء، لا بد أن يُزهر في النور. لحظة إدراك: الحمد لله الذي بلّغنا وأتم سعينا، ونوّلنا ما نستحق من الإنجاز، ومن الغبطة المكتملة، والزهو المستحق فخراً لا كِبراً، وعزةً لا تيهاً وغروراً، وامتناناً لا جحوداً. (وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين)

348

| 20 مايو 2025

حين تهمس الحكمة!

لا يأتي النضج الحق تلقائيًا من تراكم الأيام وعبور الساعات؛ فالنضج الحقيقي ينبع من لمحات وعي، ولحظات إدراك، من ألم فُهِم، ومن تجربة أُعيد تأويلها. فكم من أناس في العشرين أكثر نضجًا من آخرين في الستين والسبعين، لأنهم قرروا ألّا يبقوا في دوائر الضحية، ولا أن يُداروا ردود أفعالهم بطفولية. ذلك لأن النضج هدية التجارب، ووليد الاختبار، مرهون بدوام الممارسة والمران على المواقف ومع الأشخاص. وما مآل ذلك إلا إدراكًا حقًا، ووعيًا ناضحًا لا يلوم، بل يفهم. يدفع المرء إلى أن يختار أن يحتضن شعوره بدلًا من إسقاطه، ويرتب إحساسه عوضًا عن شتاته، فتُمنح له بصيرة الناضجين، وحكمة الراشدين، فيزن الأمور بميزانها، ويعرف متى يكون الصمت حضورًا، ومتى يكون الكلام أثرًا. والناضج رصينٌ في حبّه وكُرهه، وإقباله وصدوده، فهو يختار الحب لا عن حاجة، بل من كفاية، ويمنحه من امتلاء، ويفيض به عن كفاية، ولا يُعلّق سلامه على وجود أحد، ولا يحارب ليُثبت ذاته في حضرة الآخر. بل النضج يُهدي اتزانه حتى في الألم وهبّات الوجع، فيُحيل المرء متفكرًا في نفسه: هل بات يُكرّر نفس أنماطه الشعورية؟ أم أنه تدارس الألم، فعلم كيف يحتضنه، ويستخرج من بين غياهبه نسخًا منه أكثر عمقًا ووعيًا؟ لأنه يُدرك أن الرصانة لا تعني ألّا يتألم، بل أن يُحسن الرُشد في التعامل معه، واحتضان أشواكه. النضج عطية الأوّابين إلى ذواتهم، أولئك الذين غاصوا في أعماقهم حتى تبيّن لهم صداها، فصاروا يختارون بما تهديه البصيرة لا بما يهمس به الهوى. يتخلّون عمّا قد تتوق إليه النفس، لأنهم أدركوا أن ما يُشبه الأعماق أصدق مما يلمع على السطح. والرُشد فيهم يتجلّى حين يُقرّرون المضي أو التراجع، لا بانفعال الخوف أو غشاوة التعلّق، بل بثبات الوعي وطمأنينة الفهم. وقبل ذلك كله، النضج هو نوافح النفس للنفس، وعطوفات الذات على الذات، يتجلّى في هبات الرحمة، والتسامح معها، وفي الإنصات العميق لها، حتى يدرك المرء متى قسا على روحه، ومتى كانت في شوقٍ إلى حضنٍ من الرحمة. وبذلك، لا يكون النضج صخبًا ولا إعلانًا، بل سكونًا داخليًا يُضيء على مهل، وهدوءًا يترسّب في النظرة، ويظهر في اللمحة، ويُعلن عن نفسه في ردة الفعل، وفي القرار. هو عودة صادقة إلى الذات، ومآلٌ أوّابٌ لما للحكمة من صفات، ومصالحة جريئة مع تقلبات النفس ومرايا أهوائها. فمن اختار أن ينضج، اختار أن يُبصر، أن يرحم، أن يُحب دون قيد، ويترك دون مرارة، ويعيش دون أن يُفرّط بنفسه في أحد. فالنضج ليس خاتمة الحكاية، بل بدء حديث السريرة بين المرء وذاته، حيث الوعي أصفى، والحب أنقى، والأثر أهدأ وأجلى. لحظة إدراك: النضج ليس محطة تُنال بالعمر، ولا هدفًا يُدرك بتقادم الأيام، بل مسار يُنتقى بإدراك، وطريق يُختار بوعي، وبرحمة القلب، وحكمة الإنصات للذات. هو قطاف ثمر التجارب حين تُفهم، وهبة المرء لنفسه حين يقرر أن يرى بعمق، ويُحب بكفاية، ويختار بثبات.

399

| 13 مايو 2025

alsharq
الكرسي الفارغ

ليس الفراغ في الأماكن، بل في الأشخاص الذين...

5067

| 20 أكتوبر 2025

alsharq
من يُعلن حالة الطوارئ المجتمعية؟

في زمنٍ تتسارع فيه التكنولوجيا وتتصارع فيه المفاهيم،...

4896

| 24 أكتوبر 2025

alsharq
النعش قبل الخبز

لم تكنِ المأساةُ في غزّةَ بعددِ القتلى، بل...

3699

| 21 أكتوبر 2025

alsharq
نموذج قطر في مكافحة المنشطات

يمثل صدور القانون رقم (24) لسنة 2025 في...

2799

| 21 أكتوبر 2025

alsharq
غياب الروح القتالية

تُخلّف بعض اللحظات أثرًا لا يُمحى، لأنها تزرع...

2373

| 23 أكتوبر 2025

alsharq
أين ربات البيوت القطريات من القانون؟

واكبت التعديلات على مجموعة من أحكام قانون الموارد...

1524

| 21 أكتوبر 2025

alsharq
وجبات الدايت تحت المجهر

لم تعد مراكز الحمية، أو ما يعرف بالـ«دايت...

1071

| 20 أكتوبر 2025

alsharq
النظام المروري.. قوانين متقدمة وتحديات قائمة

القضية ليست مجرد غرامات رادعة، بل وعيٌ يُبنى،...

1026

| 23 أكتوبر 2025

alsharq
وجهان للحيرة والتردد

1. الوجه الإيجابي • يعكس النضج وعمق التفكير...

978

| 21 أكتوبر 2025

alsharq
مستقبل الاتصال ينطلق من قطر

فيما يبحث قطاع التكنولوجيا العالمي عن أسواق جديدة...

972

| 21 أكتوبر 2025

alsharq
القيمة المضافة المحلية (ICV)

القيمة المضافة المحلية (ICV) أداة إستراتيجية لتطوير وتمكين...

846

| 20 أكتوبر 2025

alsharq
توطين الذكاء الاصطناعي في القطاع الصحي القطري

يشهد قطاع الرعاية الصحية في قطر ثورة رقمية...

705

| 23 أكتوبر 2025

أخبار محلية