رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

Al-sharq

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

الشرق

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

بواعث العمل

الأساس في الطاعة أنها تجعل الإنسان يتحقق بأوصاف عبوديته بين يدي الله ومع صنوف الخلق، والعبودية تنافي الصلف والغطرسة لأنها تواضع ولين، وقد تجد ناساً من الموسمين بالعبادة يتذرعون بما يؤدون من طاعات للاستعلاء على الخلق والغض من الآخرين، على حين تجد ناساً ليسو على غرارهم آلين عريكة وأسهل انقياداً. إن الله شرع العبادات ليتواضع العباد بها لا ليستكبروا وليستقبلوا بها رحمته ثم يلقون بها سائر الخلق وفي قلوبهم رقة، وفي نفوسهم وداعة وفي سيرتهم طيبة. وقد وصف الله عباده الصالحين فقال (والذين يؤثرن ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون) إن البواعث التي تسوق المرء إلى العمل وتدفعه إلى إجادته وتغريه بتحمل التعب فيه أو بذل الكثير من أجله كثيرة متباينة. فهناك قوم لا تخلص معاملاتهم مع الله بل هي مشوبة بحظوظ النفس ورغبات العاجلة، وهناك قوم آخرون يعاملون الله وهم مشغولون بأجره وما الذي سيمنحهم إياه وتركوا قصد وجهه أو بمطالبهم منه عن الذي ينبغي أو يجب له عليهم وهذا الصنف من الناس مقيدون بسلاسل أنانيتهم فهم يسيرون حولها، ولو عرفوا حق الله حق المعرفة ما توقفت رغباتهم وغاياتهم عندها لأنه لو عرفوا الله حقاً لتخطوا كل شيء دونه حتى ينزلوا بساحة كرمه ويقوموا على بساط فضله ولا تطمئن نفوسهم إلا برضاه جل شأنه. الغرايز البشرية المعروفة هي قواعد السلوك العام، ومن اليسير أن تميز بينها فما أكثر ما تكون مشاعر الإعجاب أو الكراهية أو التقليد للآخرين أو التكبر مصدر ما يدور بين الناس من حديث أو تصرفات. والإسلام يرقب ذلك كله بعناية فائقة فينظر إلى العمل وما يقارنه من نية أو ما يلابسه من عواطف وانفعالات. وهو لا يعتد بالعمل إلا إذا خلص من شوائب النفس وخلص لله وحده على ما جاء به وصف القرآن الكريم. قال الله تعالى (إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا..) (والذي يؤتي ماله يتزكى وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ولسوف يرضى) لذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى". أن صلاح النية وإخلاص الفؤاد لرب العالمين يرتفعان بمنزلة العمل الدنيوي البحت فيجعلانه عملاً متقبلاً. أن خبث الطوية يهبط بالطاعات المحضة كالصلاة مثلاً- فيقلبها- معاصي شائنة فلا ينال المرء منها بعد التعب في أدائها إلا الفشل والخسار " رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع، ورب قائم ليس له من قيامه إلا السهر" أن مصلياً تقول له صلاته " ضيعك الله كما ضيعتني" هم الذين قيل لهم " فويل للمصلين" هؤلاء كان في القديم والحديث حجة على الدين لا سناداً له وعوائق تصد عن طاعة الله وتغري بالمعصية له (ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا). والحق أن الإنسان ما دام قد أسلم وجهه لله (وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض) وأخلص نيته فإن حركاته وسكناته وكل أحواله تحتسب له خطوات في مرضاة الله، وقد يعجز عن عمل الخير الذي يصير إليه لقلة ماله أوحيلته أو صحته، ولكن الله المطلع على سرائر النفوس وخباياها يرفع أمثال هؤلاء إلى مراتب العاملين الصادقين. هل سمعت خبر البكائين الذين ورد ذكرهم في القرآن الكريم وذلك أن أناساً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءوه في غزوة العسرة يريدون أن يقاتلوا معه وأن يجودوا بأنفسهم وهي أفضل وآخر ما يملكون غير أن الرسول لم يستطع تجنيدهم فعادوا وفي حلوقهم غصة (وأعينهم تفيض من الدمع) لتخلفهم عن ساحة البذل في سبيل الله ونيل شرف القتال مع الرسول القائد الرحيم بالمؤمنين فأنزل الله فيهم تخليداً لأمثال هذه النفوس فقال عز وجل (ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزناً ألا يجدوا ما ينفقون). أترى أن الله يهدر مثل هذا اليقين الراسخ، أن النية الصادقة سجلت لهم ثواب المجاهدين لأنهم قعدوا راغمين ومثلهم (ورجل قلبه معلق بالمساجد) فهو من أهل المساجد وأن لم يستطيع الوصول إليها لعذر. لذلك قال عليه الصلاة والسلام لمن شهد الساحة وقاتل وعرضه نفسه للهلاك: "إن أقواماً خلفنا في المدينة ما سلكنا شعباً ولا وادياً إلا وهم معنا حبسهم العذر". إن من حق الإنسان الفاضل أن يدفع عن نفسه قالة السوء ومن حقه ألا يكسف نور الإيمان الذي بين جنباته وأن تؤخذ عنه الأسوة الحسنة (لتكونوا شهداء على الناس) ومن ثم فصلته بالناس يجب أن تظهر بالبر بينهم وأن يعلن أمامهم أنه عبدالله وأنه قرر أن يسير باسمه في كل درب يرضاه (قل هذه سبيلي). إن حرص المؤمن على إعلان ما يؤمن به فرض واجب مع صيانة سمعته من أي غبار، وقد استوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم نفراً من أصحابه رأوه مع إحدى زوجاته فناداهم وأفهمهم أنها فلانه زوجته حفصة حتى لا يظنوا به ظن السوء مع أنه صلوات الله عليه وسلامه فوق ألتهم. إن سرور المؤمن إذا عرف عنه من خير شيء طبيعي بعد أن أدى الخير بنية خالصة، وقد تحدث الصحابة عما يعالج نفوسهم من هذا النوع فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:(تلك عاجل بشرى المؤمن). أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من فارق الدنيا على الإخلاص فلا يضيره ما فقد ولا يحزنه ما قدم". ألا ما أحسن الإخلاص وأغزر بركته، إنه يخالط القليل فينميه حتى يزن الجبال، ويخلو منه الكثير لا يزن عند الله مثقال ذرة. لذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أخلص دينك يكفك العمل القليل". ويظهر أن تفاوت الأجور التي رصدت للحسنات من عشرة أضعاف إلى سبعمائة ضعف يعود إلى سر الإخلاص الكامن في سويداء القلوب وهو ما لا يطلع عليه إلا عالم الغيب والشهادة، فعلى قدر نقاء السريرة وصفاء النية وسعة النفع تكتب الأضعاف المضاعفة. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين  

2006

| 06 أغسطس 2013

عبادة تنظف اليد والضمير

إن الإسلام يضفي على أرجاء أمته روح الخضوع لله ويجعل من رسالتها الإنسانية الكبرى بعد التمكين لها في الأرض أن تتشرب الجماهير عاطفة الحب وألف النداء المنبعث من أرجائه. (الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور). إن العبادات التي شرعها الله وسماها الشرع- أركان الإسلام- والتي تجمع ملخصاً لجمهرة شرائعه رياضة للنفس عظيمة الأثر جليلة القدر في تربية الأخلاق وتقويم الطباع وترويض الإنسان على الخضوع لله عز وجل في سلوكه كله، فهي تدريب الناس على طاعة الله وإحسان الخضوع له والبعد عن الرذائل التي زجر عنها. ولهذه الأركان آثار نفسية واجتماعية فمن أداها ولم يستفد منها الخضوع الواجب لله في كل شيء فكأنه لم يفعل شيئاً، لأن الأساس الأول لغرض هذه الأركان هو أداء حق الله عز وجل والقيام بوظيفة العبودية واعتراف البشر بأن الله الذي خلقهم ورزقهم يجب أن يعبد ويشكر، ثم بعدها يعطي ويثيب. فما قيمة صلاة أو صيام لا يعلمان المرء نظافة اليد والضمير فقد روى ابن ماجة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لأعلمن أقواماً من أمتي يأتون يوم القيامة بأعمال أمثال جبال تهامة فيجعلها الله هباءً منثورا، فقال الصحابة رضي الله عنهم: يا رسول الله صفهم لنا حلهم لنا لا نكون منهم ونحن نعلم قال: أما أنهم إخوانكم ومن جلدتكم ويأخذون من الليل كما تأخذون ولكنهم قوم إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها أي أنهم لم يستفيدوا من الطاعة التي يقومون بها من إحياء ضمير يراقب الله في سره وعلنه لهذا لم تحسب لهم هذه الطاعات في سجل الأعمال الصالحة (وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثوراً) مع أنها بلغت أمثال الجبال. إن هذه العبادات حركة حقيقية في صقل الإنسان وترويضه على الخضوع لله عز وجل في سلوكه كله فهي عمل حقيقي لبناء النفوس على الخير وصياغتها على نحو يتنزه عن الدنايا ويبتعد عن الرذائل. قال الله تعالى (إن الصلاة تنهي عن الفحشاء والمنكر) هذا كلام من شرع لعبده الصلاة فإذا رأينا مصلياً لا ينتهي عن الفحشاء والمنكر فلا يعني هذه الريبة في الخبر الإلهي بل السبب أن المصلي يمثل حركات الصلاة، وليس مصلياً حقيقياً. فالصلاة في لباسها وحقيقتها مناجاة عبد لربه. إن الإسلام لم يشرعها عملاً فردياً بل نظاماً جماعياً تتراص فيه الصفوف وتلغى فيه الفوارق وتشرف الدولة عليه لأجل ذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: "سووا صفوفكم فإن تسوية الصفوف من تمام الصلاة" استجابة لأمر الله عز وجل الذي قال: " يقيمون الصلاة" ولم يقل يصلون الصلاة فالله يقول " يقيمون" والنبي يقول " إقامة الصلاة" وإقامة الصلاة جماعة جزء من إقامتها وتمامها الإقبال عليها وإشعار البيئة كلها بالمبادرة إليها والمحافظة عليها في أوقاتها لأنها (كتاباً مؤقوتاً) إن للصلاة سنناً وأركاناً ينبغي أن يستجمعها المصلي فإذا تمت كانت صلاته صحيحة ولتذوق حلاوتها ينبغي أن يخالط ذلك الخشوع والتدبر لمعانيها أثناء القيام بها وبعد انقضائها. (فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبكم فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتاً). إن إقامة الصلاة من أبرز الأعمال الصالحة لجعل الخضوع لله ظاهرة اجتماعية لا مسلكاً فردياً خاصاً، وفي سبيل ذلك أعدت المساجد لاستقبال الرجال والنساء والصبيان كي ينتظموا صفوفاً وراء إمام يرتل القرآن ترتيا ويكبر الرحمن ويمجده، وقبل كل صلاة يعلو صوت المؤذن يشق حجاب الغفلة السائدة ويطرد الصمت وظلمة الليل معلناً أن "والصبح إذا تنفس" نفس الصباح والأرواح ليعلو فوق صخب الحياة المعتادة مهيباً بالخلق أن هلموا إلى ساحة المجد والخلود الأبدي واستعدوا للمثول بين يدي خالق الكون كله (فالق الإصباح الذي جعل الليل سكناً والنَّهار حسباناً). (فأعبده واصطبر لعبادته...) وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين  

1909

| 05 أغسطس 2013

أنفس ما يجري على اللسان

لو أنك تسمعت الضجة التي تسود أرجاء العالم وحاولت استبانة معناها ما وجدت إلا بغام الغرائز المهتاجة تريد إثبات نفسها وتحقيق رغباتها وتجد الإنسان مشغولا بما ينبغي له فعله من إسكات رغباته المحصورة ما بين فكيه وفخذيه. من أجل ذلك حث الله جل في علاه عباده المؤمنين به أن يقاوموا هذا الذهول السائد وأن يتخلصوا من هذه الغيبوبة العامة، وأن يذكروه برغم هذه المنسيات وهذا هو سر الوصايا المتكررة بإدمان الذكر. (واذكر ربك في نفسك تضرعاً وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال ولا تكن من الغافلين). (يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكراً كثيراً وسبحوه بكرة وأصيلاً). (فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبكم). إن ذكر الله تعالى أشرف ما يحضر بالبال وأشرف ما يمر بالفم وأشرف ما يتألق به العقل الواعي وأشرف ما يستقر في العقل الباطن. إن ذكر الله تعالى يجب أن يأخذ صوراً كثيرة وذلك حسب مناسبة الأحوال التي يكون الناس بإزائها. فمثلاً أمام من يرفضون الاعتراف بالخالق ويكرهون الإيمان به نقول لهم: (الله خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل 62 له مقاليد السماوات والأرض والذين كفروا بآيات الله أولئك هم الخاسرون). أما الذين يتخذون مع الله شركاء يكون ذكر الله بتوحيده وإفراده بالعبودية، والتوجه إليه وحده بالدعاء والرجاء. (قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون، ولقد أوحى إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين بل الله فاعبد وكن من الشاكرين). الناس قد يقلقون للمستقبل أو قد يشعرون بالعجز أمام ضوائق أحاطت بهم، ونوائب نزلت بساحتهم. وهم أضعف من أن يدفعوها، إنهم إذا كانوا مؤمنين تذكروا أن الله عز وجل على كل شيء قدير، وأنه بكل شيء بصير، وأنه غالب على أمره، وأن شيئاً لن يفلت من يده ولذلك يشعرون بالطمأنينة، وهذا المعنى هو المراد من قول الله عز وجل: (الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب، الذين آمنوا وعملوا الصالحات طوبى لهم وحسن مآب). كذلك يجيء ذكر الله في موقف الإنسان مع ماله الذي يعشقه ويحب جمعه وادخاره فيأتيه الشيطان ويحاول أن يملأ فؤاده خشية المستقبل وأن يغريه بالشح به، إلا أن ذكر الله يفك تلك القيود ويزرع في نفس المؤمن الأمل والرجاء إذا هو بسط يده بالنفقة، قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون وأنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت...). ويقول: (الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلاً والله واسع عليم). فذكر الله سبحانه يأتي الإنسان عندما يختلي مع نفسه وفي أوقات فراغه فإذا أراد الله به خيرا ذكره فذكره، ذكر من خلقه: (من أي شي خلقه)، من رزقه: (الذي هو يطعمني ويسقين)، من علمه: (الذي خلق الإنسان علمه البيان)، فعرفت نفسه قدرها وعجزها وفقرها: (وَقَدْ خَلَقْتُك مِنْ قَبْل وَلَمْ تَكُ شَيْئًا). ذكر الله وهو بحالته تلك ففاضت عيناه أنه دخل في قائمة "سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله"، وعد منهم: "ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه"، إنها عين بكت من خشية الله: (عينان لا تمسهما النار عين بكت من خشية الله وعين باتت تحرس في سبيل الله). إن ذكر الله عز وجل معنى كبير، إنه يجيء ضد نسيانه سبحانه: (ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون). إن ذكر الله من أشرف العبادات وأنفس ما يجري على اللسان من كلمات وما يثبت في القلوب من معان، وهو مفتاح الصلة المباشرة بالكبير المتعال: (فاذكروني أذكركم وأشكروا لي ولا تكفرون). وقد تنافس الصالحون في الله، وربطوا أفئدتهم وأذهانهم به، وقد رأوه طريقاً سريعاً للوصول إلى مقام القرب والأنس بالله عما تزخر به هذه الحياة الدنيا من فتون ومجون: (إنما الحياة الدنيا لهو ولعب...) أخي: فلا تترك ذكر الله لعدم حضور قلبك مع الله فيه، لأن غفلتك عن وجود ذكره أشد من غفلتك في وجود ذكره، فعسى أن يرفعك من ذكر مع وجود غفلة إلى ذكر مع وجود يقظة، ومن ذكر مع وجود يقظة إلى ذكر مع وجود حضور وأنس. فاذكر الله ذكرا كثيراً بالصباح والعشي وفي كل حال: (الذين يذكرون الله قياما وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار...)، (فاذكر الله ولا تكن من الغافلين). وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

491

| 04 أغسطس 2013

الداران

التعريف بالآخرة حق وهو شيء آخر غير التجهيل في الدنيا لأن نفراً من المتحدثين في دين الله لا يحسنون الحديث عنه لأن ذلك شرف لا يناله إلا الصادقون وبذلك يسيئون أكثر مما يحسنون، ويفسدون أكثر مما يصلحون (والله لا يحب الفساد) ولا يحب المفسدين لأن خلوص النيات في الأعمال والأقوال لا تكفي إذ لابد لكل عمل أو قول من أن يكون مخلصاً وصحيحاً ولأن من تحدث عن الدنيا ومستقبله فيها وضرورة الإعداد له لا يعني ذلك بداهة أنه هجر دينه وأعرض عن آخرته، فإذا ما جاء من يجيد الحديث عن الآخرة وتحدث كذلك عن مستقبله فيها لا يعني ذلك عدم اهتمامه أو لفت نفسه أو غيره عن حاضره وبعبارة أصح لكي يكون عمل أي عامل صحيحاً ثم يقدر له القبول لابد له من توافر صدق النية وسلامة الطريق والمقصود بسلامة الطريق صحته والمراد من الصحة أن يكون العمل وفق العقل الموافق والمواطئ للنقل فلو أن امرءاً صام عن الكلام مدعياً وروده في القرآن على لسان الصالحين ممن سبقنا ولم يصم عن الطعام والشراب لم يقبل منه صومه، كما أنه لو صلى من غير ركوع أو سجود لم تقبل منه صلاته إذاً فلابد من موافقة الشرع فيما بيّن كما أنه لابد من موافقة العقل فيما أوكل إليه فلا يقبل جهاد بعصا في مواجهة الدبابة مثلاً. لكن الكثير ممن لديهم العاطفة المتوقدة والنية الصادقة لا يعون هذه الحقيقة يسيئون في الوقت الذي يريدون فيه الإحسان مما يترك في النفوس انطباعاً بأن الدين لا يحسن السباحة في بحر الدنيا لأن الفهم الذي يبلغوه إلى الناس: أن أحداً لا يبلغ حقيقة التقوى ورقيّ سلم الآخرة إلا إذا عاش وهو يعاني كآبة المنظر وسوء المنقلب في الأهل والمال، وإلا إذا عاش وهو في حالة كاف- أي كاف نفسه – ويعني: لا له ولا عليه جاهل بحقائق الحياة وقوانين المادة وسنن الله في كونه، ومن هذا الفهم نشأت أجيال من المسلمين لا تفقه دينا ولا تملك دنيا " ومن يرد الله به خيراً يفقه في الدين". إن الحديث العاطفي عن الآخرة وبث الأشواق في النفوس إليها لا يعني أننا ندع ما لقيصر لقيصر لأن رسالتنا في هذه الدنيا هي الخلافة في الأرض وعمارتها، وإكثار القرآن الكريم والسنة النبوية بالإسهاب عن الآخرة جنة وناراً إنما يعني بذلك إخراج الإنسان من شجونه الأرضية التي احتبس بداخلها وجعلها شغله الشاغل، وفتح بصيرته على الأفق الأوسع والأرحب والحياة الأدوم والخلود الذي لا موت بعده. أما القصور في الفهم لسنن الله في الحياة الدنيا والعيش غريباً على سطح هذه الأرض والعجز عن امتلاك زمام الحياة والأخذ بسنن الله ومنهجه في الحياة فهذا كله لا يدل على تقوى من الله فحسب بل يدل على طفولة في التفكير يضارَّ بها صاحبها هذا الدين وتنهزم بها تعاليمه وتغيب جحافل عدله. ألم يمكن الله لنا في الأرض، ألم يجعلها لنا ذلولاً ويسخرها لنا لنركبها ونبلغ بها إلى غاياتها ألم يخلق لنا البحر ويسخره لنا لنخرج منه أثمن ما في هذه الدنيا من درر ونأكل منه أطيب ما فيه لحماً طرياً؟ فلماذا ارتخت مفاصلنا ولم يكن لدينا العزم على الثبات فإذا إنساننا طريح الثرى والعجز؟ مع اشتداد عزم الآخرين وثباتهم، حتى قيل وقد رأيت ذلك بنفسي أن دولة عربية تقع على البحر المحيط فيقذف المحيط من اللحم الطري على شواطئه مما لا يحتاج معه إلا أخذه وأكله لكنه يترك على شواطئه حتى يتعفن وتشبع منه طيور النورس ثم بعد ذلك تذكرت الحكومة الوطنية الديمقراطية بإعطاء حق صيده لدولة أوروبية بسعر تراب صحاري العرب التي يضل فيها الذئب. ولم تكلف تلك الحكومة الوطنية الساهرة على مصالح شعبها أن تجنيه ولو من الشواطئ بأن تجد فرص عمل للناس من أهل البلد بذلك وإطعام مئات الأسر من الدول الفقيرة. نعم هناك تنافس مجنون على جمع حطام الدنيا شغل أصحابه عن الوظيفة الأساسية الصحيحة التي وجد من أجلها وأن ذلك لاشك مذموم يقيناً لأنه عبادة للدنيا وذهول عما وراءها. إن التعريف بالآخرة دار الإنسان الثانية لا يعد ذلك تجهيلاً لأمر الدنيا ولا صرفاً عنها كما يصوره من يحب لمز الإسلام بل ربما أوجب عليّ وعليك الإسلام أن يكون لك مال قارون شريطة أن لا يكون لك كبره أو شحه أو فساده وقساوة قلبه. إن التحذلق ولوك الكلام والسخرية من عباد الله ومعتقداتهم لا تقيم دولة ولا تبني صروح المعرفة وإنما يبني وينشئ ذلك كله مال قال به صاحبه هكذا وهكذا وسلطه على هلكته في الحق في مصالح الدنيا والآخرة. إن سعة لا تطغي ودنيا يسخرها مالكها لخدمة الخير ومصالح العباد هي السعة المطلوبة (يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار). وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

664

| 03 أغسطس 2013

من أين لك هذا؟

الإسلام دين خصب فيه من نصوص الكتاب العزيز والسنة المطهرة ما يؤسس اقتصاداً له ملامحه الخاصة وصفاته المتميزة كما أن له آثاره المباركة فلدينا من جذور الأصالة ولبنات البناء ما يمكن أن نقيم به مجتمعاً متيناً واقتصاداً ناجحاً دون اللجوء إلى موائد الشرق أو الغرب نتسول فتات ما يجودون به علينا. إن الاقتصاد الإسلامي اقتصاد فريد وليس من شرق أو غرب لأنه ناضح من وحي السماء ومن كتاب الله عز وجل وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وهو ينظر إلى المال من نواح عديدة فهو يضمن حق التملك ويعتبره حقاً له قداسته ومكانته وإن الجور والاعتداء على هذا الحق ليس من شأن المسلمين ولا هو من مسالك الصالحين، فلكل إنسان الحق في أن يكتسب بكد يمينه وعرق جبينه ما يقيم به معايشه وما يحفظ به كرامته وما ينشئ ويربي به ولده ويحفظ به شرفه، والله عز وجل يرفض أي عدوان على حقوق الناس المالية دون سبب مشروع فيقول جلت قدرته:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ) ويقول (وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقاً مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ) ويقول (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما). لأن هذه الأموال في حقيقتها هي أموال المؤمنين جميعاً لأنه يتعلق بها حق المجتمع. لذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "كل المسلم على المسلم حرام دمه وعرضه وماله" فكما أن العدوان على الدم والعرض منكر لا يقبل فكذلك العدوان على المال، ويقول عليه الصلاة والسلام في آخر خطبة خطبها في حجة الوداع: "فإن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا.".. احترم الإسلام الملكية الخاصة لأنه يحترم الإنسان الذي كرمه الله، ولما كان حق التملك جزءاً من الحرية الإنسانية فإن الإسلام لم يصادره لأن الله عز وجل لم يخلق الإنسان ليكون عبداً لأحد أما سمعت بمقولة الفاروق الخالدة "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً" فالله عز وجل خلق الإنسان ليكون عبد ربه وحده جل شأنه ومن حق الإنسان أن يكون حراً، ومن تمام حريته أن يمتلك ما أذن الله له بامتلاكه، ومع احترام الإسلام لحق التملك إلا أنه وضع شروطاً على ذلك وأول هذه الشروط أن يكون سبيل التملك للمال هو أن يكون من وجه صحيح ومن طريق مباح لا ظلم فيه ولا غصب ولا اعتداء فاللحم الذي ينبت من مال حرام النار أولى به كما جاء في الحديث الشريف. ثم إن الإسلام يقول للمتملك: أبصر جيداً المال الذي تكسبه، أمن حرام أم حلال؟ فإن كان حراماً فلا حق للمسلم في تملكه ولا يعد المال الحرام مالاً مملوكاً بل يجب التخلص منه كالفوائد الربوية والمال المغتصب ثم إن كان من حلال فلا تظن أيها المسلم أنك المالك الحقيقي لهذا المال إذ إن المالك هو الخالق له ولك إنه ربك الذي خولك وأعطاك، وما أنت إلا مؤتمن على هذا المال تؤدي فيه رسالته تقضي به حوائجك وتساعد فيه إخوانك من خلق الله بما أوجب الله عليك. جعل الله يدك اليد العليا تعطي لنفسك ولغيرك والمالك الأول هو رب العالمين يقول الله عز وجل (وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه). إن الإسلام يطلب من أبنائه أن يكونوا أصحاب همم (إذا سألتم الله الجنة فأسألوه الفردوس الأعلى) إن الله يحب معالي الأمور ويكره سفاسفها، فكسب المال عندهم يخضع لتصرف الهمة العالية، فقد يكون المال قريب المنال سهل التناول لكن لا ينبغي للمسلم أن يأخذه من أيسر السبل، ويقعد، فعندما عرض سعد بن معاذ الأنصاري على عبد الرحمن بن عوف المهاجر رضي الله عنهما أن يتملك وأن يعيش على فضل مال أخيه سعد كان جواب عبد الرحمن: لا دلوني على السوق فلما علم الله من عبدالرحمن وأمثاله الذين سماهم الله (الفقراء) صدق العزيمة قال عبد الرحمن فكنت إذا بعت تراباً انقلب بيدي تبرا- أي ذهباً- كناية عن البركة للجهد المبذول وبهذا الخلق استطاع المهاجرون أن يزاحموا الاقتصادي اليهودي في المدينة المنورة، وأن يجعلوا المال إسلامياً، وهذا شيء مهم في كسب المعركة للدين نفسه، فإن الاقتصاد يوم تعبث به أيدي من لا ذمة لهم ولا دين فإنهم يسخرونه في ضرب عقيدة التوحيد، لذلك كانت يد المنفق أعلى كعباً من اليد الآخذة: فاليد العليا خير من اليد السفلى" والله هو الأعلى والأجل ولأن تكون أسداً تأكل الثعالب وبنات آوى من فضائك أشرف من أن يكون المسلم ثعلبا يأكل من فضلات الناس أو قطاً يأكل من خشاش الأرض. لذلك كان الإسلام شديد الحض على أن ينطلق المؤمنون في أنحاء المعمورة يكسبون رزقهم وأقوات عيالهم يبتغون فضل الله في فجاجة أو المخبوءة تحت طباق الثرى، وهذا هو سر قول الرزاق الكريم (وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِش) وقال عز وجل ﴿هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ {10} يُنبِتُ لَكُم بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ {11} وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالْنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ {12} وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ {13} وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ {14} ﴾ إلا أن المدهش إن البحر المسخر للناس يستخرجون منه اللحم الطري أعجز أهل الأرض في استخراج سمكه هم المسلمون فقد روي أن الأطلسي في مده اليوم يقذف على شواطئه المسلمة آلافاً من الأسماك فيعجز المسلمون من أخذها لا أن يخوضوا عباب المحيط ليستخرجوها هي تأتيهم كحيتان بني إسرائيل وفي الكثير من بلاد المسلمين البحر هو الذي سخر الناس لابتلاعهم وجعلهم طعما لأسماكه وحيتانه لا أن يأخذوا بسنة الله الذي سخر لهم البحر. إن أمتنا معطوبة في صميمها لأنها فقدت الكثير من حسها وانتمائها للدين والدنيا معاً (هو أنشأكم مِنْ الأرضِ واستعمركُمْ فيها) إن عندنا في ديننا ما لا نظير له لسموه وشرفه. قال الإمام ابن حزم في " المحلى" ولكل مسلم الحق في بيت يأوى إليه ويصونه من الحر والبرد وعيون المارة. إنه الدين الكامل (اليوم أكملتُ لكمْ دينكمْ) وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

1497

| 02 أغسطس 2013

ليلة الحدث العظيم

لما كنت صغيراً وكنا في قرية تقع على شاطئ نهر الفرات ربما كان أبي أو زوجة أبي أو خالتي كانوا يحدثوننا عن ليلة النصف من شعبان وكان الجهل قد ساوى بينهما في الفضيلة فليلة القدر خير من ألف شهر وليلة النصف من شعبان لم يثبت في فضلها حديث صحيح. كانوا يحدثوننا عن ليلة القدر وأن من سهر الليل، ولو لم يصل في تلك الليلة، أعطاه الله مناه ودفع عنه ما يكره فكانت أحلامي الصغيرة تكبر في تلك الليلة وأطلب فيها من الله ما يحلم به طفل دون سن الخامسة كانوا يحدثوننا عن بركات تلك الليلة وكيف يكون فيها نور القمر وضوء الشمس وحتى هبوب الريح وحتى أن الكلاب لا تنبح العابرين ولو كانوا غرباء وأن السكينة تنزل حتى على الطيور والعصافير. ولما كبرت وكبرت معي أحلامي علمت أن ليلة القدر هي ليلة نزول القرآن وأنها خير من ألف شهر والحديث عن تلك الليلة الموعودة المشهودة التي سجلها الوجود كله في فرح وغبطة وابتهال كفرح طفولتنا ونحن صغار واغتباطنا بمن رآها كما كان يحدثنا بعضهم بذلك، إنها ليلة الاتصال المطلب بين الأرض والملأ الأعلى ليلة بدء نزول القرآن الكريم على قلب محمد الأمين صلى الله عليه وسلم ليلة الحدث العظيم الذي لم تشهد الأرض مثله في عظمته، العظمة لا تحيط بما المدارك البشرية (إنا أنزلناه في ليلة القدر * وما أدراك ما ليلة القدر) القدر 1-2 إنها خير من ألف شهر لأن الأيام والليالي لا تقاس بطولها ولكن بآثارها فرب ألف شهر تمر خالية من كل خير ورب ليلة يأتي فيها كثير من الخيرات وتفيض فيها النعم على الوجود، والحدث الكوني العظيم حدث القرآن والوحي والرسالة وليس أعظم منه ولا أقوم في أحداث الوجود وليس أدل منه كذلك على التقدير والتدبير في حياة العبيد وهي لذلك خير من ألف شهر، والعدد لا يفيد التحديد إنما هو يفيد التكثير فالليلة خير من آلاف الشهور في حياة البشر لبقاء آثارها على وجه الدهر وتخليد مآثرها، فكم من آلاف الشهور وآلاف السنين قد انقضت دون أن تترك في الحياة بعض ما تركته هذه الليلة المباركة من آثار وتحولات على وجه الوجود، فلم تعرف الدنيا نعمة أجل ولا خيراً أعظم من نزول القرآن وإعادة اتصال السماء بالأرض. إن هذه الليلة المباركة تدور مع الليالي والأيام، وتبقى هذه الليلة في نفسي وفي نفس الكثير من المسلمين تفوق في حقيقتها حدود الإدراك البشري دون حاجة إلى ما صاغته أفكار عامة الناس وبسطائهم من أساطير أشاعوها حول هذه الليلة في أوهام تخيلوها في ليلة عظيمة باختيار الله لها لنزول القرآن وإفاضة أنواره على الوجود (وأنزلنا إليكم نوراً مبيناً) النساء: 174 (ليخرجكم من الظلمات إلى النور) الحديد9 وإسباغ السلام الذي فاض من روح الله على الضمير البشري والحياة الإنسانية مما تضمنه (إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين) الإسراء: 9، إن نزول الملائكة ومعهم جبريل عليه السلام- خاصة بإذن ربهم بهذا القرآن وانتشارهم فيما بين السماء والأرض في هذا المهرجان الكوني والاحتفاء والاحتفال الملائكي الذي صورته سورة القدر ليعد تصويراً عجيباً. ولقد كانت هذه الليلة موعد اتصال السماء بالأرض هذا الاتصال المبارك، حقاً إن تلك الليلة التي يفتح الله ذلك الفتح على البشرية، والتي يبدأ فيها استقرار هذا النهج الإلهي في حياة البشر والتي يتصل فيها الناس بالنواميس الكونية الكبرى مترجمة في هذا القرآن لقيام عالم إنساني مستقر على قواعد الفطرة متناسق مع الكون الذي يعيش فيه، يعيش فيه الإنسان على الأرض موصولاً بالسماء في كل حين. لقد مضى الجيل الذي عاش نزول القرآن أول مرة (وما بدلوا تبديلاً) الأحزاب:23 موصولين بالله يلجأون إليه إذا حزبهم أمر أو ألم بهم حادث، واثقين أنه قريب مجيب، وبقي بعدهم القرآن كتاباً مفتوحاً موصولاً بالقلب البشري يصنع به حين يتفتح له ما لا يصنعه السحر (إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم) الإسراء: 9 وبقي هذا القرآن منهجا واضحا كاملا صالحا لإنشاء حياة إنسانية نموذجية في كل بيئة وفي كل زمان حتى قال الأستاذ محمد أسد (ليوبولد فايس) وهذا اسمه قبل أن يعتنق الإسلام رحمه الله رحمة واسعة قال: "ولا أستطيع اليوم أن أقول إن أي النواحي قد استهوتني أكثر من غيرها، فإن الإسلام على ما يبدو لي بناء تام الصنعة وكل أجزائه قد صيغت ليتمم بعضها بعضا فليس هناك نقص في شيء فينتج عن ذلك كله ائتلاف متزن مرصوص، ولعل هذا الشعور من أن جميع ما في الإسلام من تعاليم وفرائض قد وضعت مواضعها هو الذي له أقوى الأثر في نفسي وهذه هي سمة المنهج الإلهي وحده وهي سمة كل ما يخرج من يده القدرة الإلهية. أنزل هذا القرآن في هذه الليلة المباركة (إنا أنزلنا في ليلة مباركة) الدخان: 3 فيها إنذار الإنسان وتنبيهه (فيها يفرق كل أمر حكيم) الدخان: 4 لقد تميز فيها الحق الخالد والباطل الزاهق ووضعت الحدود وأقيمت المعالم للرحلة البشرية كلها بعد تلك الليلة المباركة إلى يوم الدين. لقد فرق فيها بين كل أمر حكيم فقد وضعت فيها من قيم وأسس وموازين وقررت فيها من أقدار الأفراد وأقدار الأمم والدول والشعوب هذه هي ليلة القدر عظيمة الشأن والقدر هذه هي الليلة المباركة التي فيها يفرق كل أمر حكيم. إن النفس لا تزال تحن إلى الساعات التي كبرت فيها ليلة القدر في الضمير تلك الساعات والليالي، إن في النفس فراغاً لا تسده اللذات المادية التي هي لذات كأحلام الكرى أو ألوان طيف قد سرى إنها قد تسد فراغ النفس لحظة وقوعها فإذا انقضت عادت مطالبها الروحية والتي لا يشفين عليلها إلا المستراح تحت شجرة طوبى. إن ليلة القدر ليست هي التي وجب فيها جناح جبريل شعاع فتبدو لنا بيضاء هادئة ولاهي التي يسهر ويسمر فيها الناس ولو في لهو ولعب ولكنها الليلة المباركة بما ينزل فيها من بركات وخيرات وثواب الله عز وجل على عباده الليلة التي يسجد فيها القلب ويتجرد فيها الإنسان من أنانيته ويقر فيها لله بعبوديته وافتقاره إليه فهي في كل زمان ومكان يعبد العبد فيها ربه ويشعر بمعيته. إن المؤمنين مأمورون ألا ينسوا هذه الليلة المباركة العظيمة القدر وقد جعل لنا نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم سبيلا وسهلاً لاستحياء هذه الذكرى في أرواحنا لتظل موصولة بالحدث الكوني الذي كان فيها وذلك فيما حثنا عليه من قيام هذه الليلة من كل عام ومن التطلع إليها في العشرة الأواخر من شهر رمضان المبارك، "ومن قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه". وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين    

1013

| 30 يوليو 2013

ركب الصالحين

كل مفقود عسى أن تسترجعه إلا الوقت، فهو إن ضاع لم يتعلق بعودته أمل ولذلك كان الوقت أنفس ما يملكه الإنسان حتى قيل إن الوقت هو الحياة، فعلى الإنسان العاقل أن يعرف قيمة زمانه والعمل على الاستفادة منه فيما يعود عليه بخيري الدنيا والآخرة، فإذا كان قد فرط فيما مضى من أيامه فعليه أن يستقبل أيامه الباقية استقبال الحريص للثروة ذات القيمة العالية ولا يفرض لا في قليلها ولا كثيرها وعليه أن يجتهد أن يضع كل شيء مهما قل موضعه اللائق به عندما يحس أحدنا أنه موجود في هذا الكون ثم ينظر وراءه وأمامه من الأيام والأعوام فإذا هي وكأنها يوم واحد متلاحق الأحداث ثم ينظر فإذا به لم يخلق عبثاً (أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وإنكم إلينا لا ترجعون)، وإذا به وقد استشعر موقفه وموقعه يوم القيامة يوم "لن تزول قدما عبد حتى يسأل عن شبابه فيم أبلاه وعن عمره فيما أفناه وعن علمه ماذا عمل به وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه"، وهو مستعد للمساءلة حينما يوقف للحساب (ويوم يحشرهم كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار يتعارفون بينهم...) (يتخافتون بينهم إن لبثتم إلا عشراً، نحن أعلم بما يقولون إذ يقول أمثلهم طريقةً إن لبثتم إلا يوما) بأن هذا الإحساس هو إحساس صادق إذا قيست أيام الدنيا بأيام الآخرة، لأن أيام الدنيا بالنسبة لأيام الآخرة ما هي إلا ساعة من نهار، إلا أن هذا الإحساس إحساس مضلل لمن مرت به الأيام والليالي وعقارب الساعة تهدم جدار الزمن وهو يتابع ذلك في ذهول وغفلة. ظل يعبث ويسترسل في عبثه حتى أدركه ظلام الموت وظلمة القبر، وعندما تيقظ وهيهات لقد سار ركب الصالحين وبقي المسوفون في محطة القطار بلا أمل. تقول زوجة حبيب: يا أبا محمد قم للصلاة فإن ركب الصالحين قد سار. إن شأن الناس في هذه الدنيا غريب، كم من حبيب فقدوه وكم من عزيز في قعر الأرض غيبوه وهم لاهون والقدر يسوق الناس إلى حتفهم، إنهم ينسون أن كل ذرة من أعمالهم محسوبة (فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره)، إن ميزان الذر منصوب للجميع، فلا أنساب ولا صديق ولا تنفع شفاعة الشافعين (فما لهم عن التذكرة معرضين). (يوم يبعثهم الله جميعاً فينبئهم بما عملوا أحصاه الله ونسوه والله على كل شيء شهيد). الإسلام دين يعرف الوقت وقيمته ويقدر خطورة الزمن وقد قال سلفنا الصالح: (الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك)، ويجعل من علامات الإيمان وأمارات التقوى أن يعي المسلم هذه الحقيقة ويسير على هداها، يقول الله عز وجل: (إن في اختلاف الليل والنهار وما خلق الله في السموات والأرض لآيات لقوم يتقون).  إن المسلم الحق يغالي في الحفاظ على الوقت مغالاة شديدة، لأن الوقت عنده هو عمره الذاهب والباقي، فإذا سمح بضياعه فهو ينتحر بهذا المسلك الشائن ولذلك أنه يعتبر الذاهلين من ماضيهم الغارقين في حاضرهم المسحورين ببريق الدار العاجلة قوماً خاسرين (أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة)، (إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها، والذين هم عن آياتنا غافلون أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون). انظر إلى مرارة الحسرات على التفريق، لأن حلاوة اللذات تحولت حنظلاً فبقيت مرارة الأسى بلا مقاوم. وكيف تنام العين وهي قريرة ولم تدر في أي المحلين تنزل. إن المقرر في الشريعة أن جبريل عليه السلام نزل بأمر الله ليرسم أولئك الأوقات وأواخرها ليكون من ذلك نظام الحياة نظاما محكما دقيقا يرتب الحياة للمسلم ويقيسها بالدقائق من مطلع الفجر على مغيب الشفق (فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون وله الحمد في السموات والأرض وعشيا وحين تظهرون). فالليل يعقب النهار ويخلفه النهار مع حركات الأفلاك الدائرة، ورب العالمين لم يخلق ذلك عبثاً، إنه الميدان الذي أعد للسباق الذي لا يتقدم فيه إلا من يعرف ربه ويذكر حقه ويشكر نعمته. إن عمرك رأس مالك الضخم ولسوف تسأل عن إنفاقه وتصرفك فيه. قال الإمام البصري: ما من يوم ينشف فجره إلا نادى مناد من قبل الحق سبحانه: يا ابن آدم أنا خلق جديد وعلى عملك شهيد فتزود مني بعمل صالح فإني لا أعود إلى يوم القيامة. إن من محافظة الإسلام على الوقت حثه على التبكير ورغبته في أن يبدأ المسلم أعمال يومه نشيطاً طيب النفس مكتمل العزم جاعلاً ابتداء يومه من الفجر ذاكراً فالق الإصباح جاعل الليل سكناً والنهار حسبانا متوكلاً" بسم الله توكلت على الله اللهم إني أعوذ بك أن أذل أو أذل أو أزل أو أزل أو أظلم أو أظلم أو أجهل أو يجهل علي"، ولقد مر النبي صلى الله عليه وسلم بالسيدة فاطمة رضي الله عنها وهي مضطجعة صباحاً فحركها برجله ثم قال: "يا بنية قومي اشهدي رزق ربك ولا تكوني من الغافلين فإن الله يقسم أرزاق الناس ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس"، إن العمر قصير والحاضر الذي يحيا الإنسان في نطاقه ضيق وإن الزمن آية من آيات الله. (وله اختلاف الليل والنهار فاغتنم خمساً قبل خمس....). وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

1347

| 30 يوليو 2013

خيـر البـرية

إن الله عز وجل خص أمتنا بحفظ القرآن والعلم، وقد كان من قبلنا يقرؤون من الصحف ولا يقدرون على الحفظ ولما جاء عزير عليه السلام وقد حفظ التوراة وأملاها على الناس من حفظه وبعد أن بعث الله على اليهود عباداً له أولي بأس شديد فأخذوهم أسرى إلى بابل ولما رأت يهود فعل عزير عليه السلام قالوا (عزير ابن الله). أما نحن أمة الإسلام فقد أكرمنا الله عز وجل بأن يسر لنا حفظ كتابه فقال: (ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر) فكيف نقوم بشكر من خولنا أن ابن سبع سنين منا يقرأ القرآن عن ظهر قلب مع حسن أداء وتجويد، ثم ليس في الأمم ممن ينقل عن نبيه أقواله وأفعاله على وجه يحصل به الثقة إلا نحن وإن كثيراً من طلاب العلم اليوم أو قل من يطلق عليهم العلماء يجدون في طلب العلم ولا يصلون إليه لأن من منافع العلم وثمراته العمل به والخشية لله التي يورثها العلم والعمل. قال الله تعالى (إنما يخشى الله من عباده العلماءُ) ويمكن أن نعمل هذه الآية كالآتي وهو أن نقول خير البرية من يخشى الله لأن الله تعالى يقول: (إنّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خيرُ البرية) إلى قوله تعالى (ذلك لمن خشي ربهُ) فأثبت الله عز وجل الخشية لخير البرية ويكون الله عز وجل قد أضاف الخشية إلى كل عالم على وجه الحصر فيكون كل من يخشى الله تعالى فهو عالم به عارف له والعلم يراد للعمل كما العمل يراد للنجاة فإذا كان العمل قاصراً كان العلم كلاً على العالم ولما كان الأمر كما ذكرنا من أنه ينبغي للعالم أن يكون يخشى الله في كل تصرف أو فعل أو قول وإلا خرج من كونه عالماً على الحقيقة لأن الله حصر الخشية بكل عالم. وإنما هو حمار يحمل أسفاراً. وقد شدد الإسلام النكير على العلماء الذين لا يخشون الله، وقد جاء في الحديث الصحيح إن أول الناس ولوجاً إلى جهنم ثلاثة منهم عالم لم يقصد بعلمه وجه الله فيقال للعالم إنما تعلمت ليقال إنك عالم وقد قيل فيذهب به إلى جهنم لذلك قال عليه الصلاة والسلام " من تعلم العلم ليماري به السفهاء أوقفه الله موقف ذل وصغار وجعله حجة عليه يوم القيامة لأنه إنما شغلهم الغيبة وقصد الغلبة واجتلاب الدنيا والتفاخر فيها. والفتوى لكنهم (يحرفون الكلم عن مواضعه...) إرضاء لذوي قوة أو جاه يشترون بذلك ثمناً قليلاً من حطام هذه الدنيا (أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار). يقول النبي صلى الله عليه وسلم: يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فندلق أقتابه- أي أمعاؤه- في النار فيدور كما يدور الحمار برحاه فيجتمع أهل النار عليه فيقولون أي فلان ما شأنك أليس كنت تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ قال: كنت أمركم بالمعروف، ولا أتيه وأنهاكم عن المنكر وأتيه" فهؤلاء كانوا سلماً إلى جهنم يعبر الناس فوقهم ثم ينحدرون معهم أنهم كانوا أهل علم وجاه فيطاعون في معاصي الله فهم ممن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة ثم يتبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب. وقد شبه الله عز وجل من يريد الله أن يرفع مقامه ويرضى بمقام الذل شبهه الله عز وجل بالكلب فقال: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ (175) وَلَوْ شئنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ) وقد قال عمر رضي الله عنه تعلموا العلم وتعلموا له الوقار والسكينة لأن العلماء ورثه الأنبياء والنبي صلى الله عليه وسلم لم يكن صخاباً في الأسواق ولا فاحشاً ولا متفحشاً. وقال العلماء: كل علم لا يصحبه ثلاثة أشياء فهو مزيد من الحجة: كف الأذى بقطع الرغبة ووجود العمل بالخشية، وبذل الإنصاف بالتباذل والرحمة، وما لبس إنسان ثوباً أجمل من العلم. قال معاذ بن جبل رضي الله عنه: التفكير فيه يعدل الصيام ومذاكرته تعدل القيام وبه توصل الأرحام ويعرف الحلال من الحرام، وهو إمام العمل والعمل تابعه يلهمه السعداء ويحرمه الأشقياء. والاشتغال بالعلم أفضل من الاشتغال بالنافلة من العبادة لذلك جاء في الحديث" طلب العلم أفضل من صلاة النافلة". وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

1202

| 29 يوليو 2013

إنما هـي أعمالكـم

إن الله عز وجل جعل العمل سبباً لدخول الجنة، كما جعل أكل الطعام سبباً للشبع والحاجة لدى الإنسان سبباً للسعي وراءها والضرب في الأرض من أجلها مع علمنا بأن الله قادر على أن يطعم الإنسان كما أطعم مريم حينما سئلت من أين يأتيك الرزق قالت: (هو من عند الله)، وقيل لها: (كلي وأشربي وقري عينا)، كذلك الله قادر على أن يدخل الناس الجنة من غير عمل، إلا أنه سبحانه جعل هذه الدار (الدنيا) دار امتحان، دار قرار واستيطان وذلك: (ليبلوكم أيكم أحسن عملا)، من أجل ذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لن يدخل الجنة أحد بعمله)، أي لا يستحق دخولها بعمله كما جاء في الخبر: (ادخلوا الجنة برحمتي واقتسموها بأعمالكم). فالعمل ما كان سبباً، إنما هو من فضل الله ورحمته، لأنه سبحانه هو الموفق لذلك، فصار دخول الجنة مضافاً إلى فضل الله ورحمته ومغفرته، لأنه هو المتفضل بالسبب المرتب عليه، فدخول الجنة ليس مرتباً على العمل نفسه وكون الباري سبحانه أخبر: (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة) مثلاً لأنه سبحانه وتعالى بكرمه خاطب عباده بما ندبهم إليه من طاعة على حسب ما يتعارفون بينهم من تصرفاتهم المعهودة إليهم، فجعل سبحانه نفسه مشترياً ومستقرضاً، وجعلهم بائعين له ومقرضيه ليكون أدعى إلى استماله قلوبهم وأحرى باستجابتهم لدعوته ومبادرتهم إلى طاعته، وإلا فالنفوس والأموال كلها ملكه، كما أمرنا أن نقول عند المصاب: (إنا لله وإنا إليه راجعون)، ومع هذا فقد مدح من بذل لله نفسه وماله وجعله مقرضاً وبائعاً، كما مدح من قال عند مصابه: (إنا لله وإنا إليه راجعون)، فقال: (أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأؤلئك هم المهتدون)، فالأعمال كلها من فضله ورحمته وإن كان سبحانه مدح فاعلها ونسبها إليه وجعلها شكراً من العبد لنعلمه، وكافأ على ذلك، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما أنعم الله على عبده نعمة فقال: الحمد لله إلا كان ما أعطى أفضل مما أخذ)، لقوله تعالى: (ولئن شكرتم لأزيدنكم)، وقوله في ثواب الصابرين: (أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة...). وعلى هذا فالعمل من فضل الله وبفضل الله، والجنة من فضل الله ورحمته على المؤمنين، لذلك أخبر الله عز وجل أن أهل الجنة يقولون عند دخولها: (الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله)، فلما اعترفوا بنعمة الله عليهم بالجنة وبأسبابها من الهداية وحمدوا الله على ذلك رفع الله مقامهم عنده ونودوا (أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون)، فأضيف العمل إليهم وشكرهم الله سبحانه عليه وأن من تمام فضله عز وجل وإحسانه أن يضاعف الحسنات فيجازي بالحسنة عشرا ثم يزيد من فضل إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، ولو أن البارئ عز وجل جازى بالحسنة مثلها كالسيئات لم تقوا الحسنات على إحباط السيئات وإزالتها (إن الحسنات يذهبن السيئات)، فيكون بذلك هلاك صاحب العمل فتحل عليه شقاوة الأبد وعلى هذا فمن أراد الله سعادته الأبدية أضعف له حسناته حتى توفي الغرماء ويبقى لديه فضل فيضاعف هذا الفضل فيدخل الجنة بفضل الله ورحمته. أما من أراد الله شقاوته وله خصوم فإن الله عز وجل لم يضاعف له حسناته كما تضاعف حسنات السعيد فتقسم على الخصوم فيستوفونها وتبقى لهم عليه تبعات من مظالم وغيرها فتطرح سيئاتهم عليه فيدخل بها النار وقال يحيى بن معاذ: إذا بسط الله فضله لم يبق لأحد سيئة وإذا جاء عدله لم يبق لأحد حسنة، وقد ثبت في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من نوقش الحساب عذب"، أو خصم وجاء أيضاً: "إن الرجل يأتي يوم القيامة بالعمل لو وضع على جبل لأثقله فتقدم النعمة من نعم الله فتكاد تستنفد ذلك إلا أن يتطاول الله برحمته وفي لفظ" يؤتى يوم القيامة ويؤتى بالحسنات والسيئات فيقول الله عز وجل لنعمة من نعمه خذي حقك من حسناته فما تترك له حسنة إلا ذهبت بها". فعلى العبد أن يعلم أنه هو وعبادته وما عنده كل ذلك بفضل "وما بكم من نعمة فمن الله....". فلا يستحق العبد بما عمل على الله دخول الجنة ولا النجاة من النار وإن كثر عمله وحسن فكيف بمن ليس له كثير عمل أو ليس له عمل حسن؟ فالاشتغال بالتوبة والاستغفار من التقصير واجب عليه وعلى غيره والمقصر أولى ومن حسن عمله وكثر فليشتغل بالشكر لله الذي وفقه لفعل الصالحات مع استصغاره لما يقدمه مهما كان في جناب الله. قال أحد الصالحين: كيف يعجب عاقل بعمله وإنما يعد العمل نعمة من نعم الله وإنما ينبغي أن يشكر ويتواضع. وقد علّم النبي صلى الله عليه وسلم أحد أصحابه أن يقول في دعائه: "اللهم مغفرتك أوسع من ذنوبي ورحمتك أرجى عندي من عملي". فانظر أخي الحبيب وأختي الغالية إلى فضل الله ومنته عليك، فلا تتكلوا على الأعمال أو النفس فقد جاء في الحديث: "اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين ولا أقل من ذلك". وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

4674

| 28 يوليو 2013

العقل المطبوع والمسموع

العقل: اسم يقع على المعرفة بسلوك الصواب، والعلم باجتناب الخطأ وهو غريزة وضعها الله عز وجل في أكثر خلقه قال الله تعالى: (إنما يتذكر أولو الألباب). فإذا كان المرء في أول درجته يسمى أديباً ثم أريباً ثم لبيباً، ثم عاقلاً، كما أن الرجل إذا قيل له عفريت. وأفضل مواهب المولى جل جلاله العقل ولقد أحسن القائل: وأفضل قسم الله للمرء عقـله فليس من الخيرات شيء يقاربهإذا أكمل الرحمن للمرء عقله فقـد كمـلت أخـلاقه ومـأربه. والعقل نوعان: مطبوع ومسموع، فالمطبوع منهما كالأرض والمسموع كالبذر والماء، ولا سبيل للعقل المطبوع أن يخلص له عمل محصول دون أن يرد عليه العقل المسموع فينبهُ من رقدته ويطلقه من مكامنه، يستخرج البذر والماء ما في قعر الأرض من كثرة الري، وقد قال عطاء بن رباح أفضل ما أعطي العبد العقل عن الله، فالواجب على العاقل أن يكون بما أحيا الله عقله من الحكمة أكثر حباً منه لما أحيا من جسده من القوت لأن قوت الأجساد المطاعم وقوت العقل الحكم، فكما أن الأجساد تموت عند فقد الطعام والشراب فكذلك العقول تموت إذا فقدت قوتها من الحكمة. واعلم أن الأسفار والتقلب في الأمصار والاعتبار بخلق الله مما يزيد المرء عقلاً والعقل دواء القلوب ومطية المجتهدين وبذر حراثة الآخرة وتاج المؤمن في الدنيا وعدته في النوائب، ومن عدم العقل لم يزده السلطان عزاً ولا المال رفعة وقدراً أرأيت الذين أخبر الله عز وجل أنهم قالوا: (لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير) هم أنفسهم يقولون (ما أغنى عني مالي هلك عني سلطاني). فلا عقل لمن أغفله عن أخراه ما يجد من لذة دنياه، فكما أن أشد الزمانة الجهل، كذلك أشد الفاقة والفقر عدم العقل، والعاقل يحسم الداء قبل أن يبلتى به ويدفع الأمر قبل أن يقع فيه، فإذا وقع فيه رضي وصبر، وعقول كل قوم على قدر زمانهم فالعاقل يختار من العمر أحسنه وإن قل فإنه خير من الحياة النكدة وإن طالت، والعقل غير المنتفع به كالأرض الطيبة الخراب لأن العقل لا ينفع إلا إذا استعمل، كما لا تنفع الأعوان إلا عند الحاجة والفرصة، ومن لم يكن عقله أغلب خصال الخير خيف عليه أن يكون حتفه في أقرب الأشياء. وقال العلماء: كفى بالعاقل فضلاً وإن عدم المال، بأن تصرف مساوئ أعماله إلى المحاسن فتجعل البلادة منه حلماً والمكر عقلاً والهذر بلاغة والحدة ذكاء والعي صمتاً، والعقوبة تأديبا، والجرأة عزماً، والجبن تأنياً، والإسراف جوداً، والإمساك تقديراً، ناصحاً للأقران مواتياً للإخوان، لا يتحرض بالأشرار، ولا يبخل في الغنى ولا يشره في الفاقة، ولا ينقاد للهوى، ولا يجمح في الغضب ولا يتكلف ما لا يجد، ولا يكتنز إذا وجد، ولا يدخل في دعوى ولا يشارك في مراء ولا يمدح أحداً إلا بما فيه، لأن من مدح رجلاً بما ليس فيه فقد بالغ في هجائه، ومن قبل المدح بما لم يفعله فقد استهدف للسخرية، والعاقل يكرم على غير مال كالأسد يهاب وإن كان رابطاً وأن من العقل التثبت في كل عمل قبل الدخول فيه. واعلم أخي أن أول خصال الخير للإنسان في الدنيا أن يهبه الله عز وجل عقلاً وهو أفضل ما وهب لعباده، فلا يجب أن يدنس نعمة الله بمجالسة من هو بضدها قائم وإنما عليه أن يعلم ما فرض الله عليه من كتاب الله عز وجل فهو أفضل ما يتقرب به العبد إلى الله وفرضه كتاب الله عز وجل هي: العمل بحكمة من الأمر والنهي والخوف والرجاء لوعده ووعيده والإيمان بمتشابهه والاعتبار بقصصه وأمثاله لأن هذا القرآن ما أنزل إلا لذلك لأنه (إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم..) يهدي به الله من أتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه. وإنما يعرف ذلك ويميزه فيه من رزقه الله عقلاً يعقل فيه عن الله وهم الذين آمنوا وعملوا بأحكام الشرح الحنيف، وتنزهوا عن الشبهات لأن الحلال بين والحرام بين وبين هذا وذلك أمور متشابهات فأهل العقل والعلم يعرفون الحلال فيعملون به ويعرفون الحرام فيجتنبونه(وأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله) لأن العاقل يتنزه قدر طاقته عن المتشابهات لأن تركها خير من أخذها إذ إن ذلك أصون للدين وأكمل للمروءة " فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه" وقال عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: ارض بما قسم الله لك تكن من أغنى الناس واجتنب ما حرم الله عليك تكن من أورع الناس وادِ ما افترض الله عليك تكن من أعبد الناس. ومن أجل أن يحافظ العاقل على عقله وتنمية مداركه يجب عليه أن لا يخالط إلا عاقلاً تقياً ولا يجالس إلا عالماً بصيراً لأن المجالس مجانس والصاحب ساحب وإياك وجليس السوء فإنه كصاحب الكير إما أن يحرق ثيابك أو أن تجد منه ريحاً خبيثة وعليك بمجالسة أهل الصلاح والفلاح من العقلاء فإنهم لواقح الأفكار وهم كحامل المسك إما أن يعطيك أو أن تجد منه الريح الطيب قال الإمام الحسن البصري: الدنيا ظلمة إلا من مجالس العلماء. وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم: أي جلسائنا خير؟ فقال عليه الصلاة والسلام: من ذكركم بالله رؤيته وزادكم في علمكم منطقه وذكركم بالآخرة عمله. وما أقبل عبد بقلبه إلى الله عز وجل إلا جعل الله قلوب المؤمنين تنقاد إليه بالرحمة والمودة وكل عقل لا يصحبه ثلاثة أشياء فهو عقل مكار مخادع يزين لصاحبه الشر خيراً. ومن صفات العقل الصادق: أولاً: إيثار الطاعة على المعصية. ثانياً: إيثار العلم على الجهل. ثالثاً: إيثار الدين على الدنيا. فإن أفضل ما أعطي العباد في هذه الحياة الدنيا العقل وأفضل ما أعطوا في الدار الآخرة رضوان الله عز وجل. فاجعل أخي عقلك دليلا إلى الدار الآخرة وارضَ عن ربك ليرضى عنك وأرضِ ربك ليرضى عنك (رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشي ربه). وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

3767

| 26 يوليو 2013

الصالحون والمسوفون

كل مفقود عسى أن تسترجعه إلا الوقت؛ فهو إن ضاع لم يتعلق بعودته أمل ولذلك كان الوقت أنفس ما يملكه الإنسان حتى قيل إن الوقت هو الحياة فعلى الإنسان العاقل أن يعرف قيمة زمانه والعمل على الاستفادة مـنه فيما يعود عـليه بخيري الدنيا والآخرة فإذا كـان قد فرط فـيما مضى مـن أيامه فعليه أن يستـقبل أيامه الباقية استقبال الحريص للثروة ذات القيمة العالية ولا يفـرط لا في قليلها ولا في كثيـرها وعليه أن يجتهد أن يضع كل شيء - مهما قل - موضعه اللائق به عندما يحس أحدنا أنه موجود في هذا الكون ثم ينتظر وراءه وأمامه من الأيام والأعوام فإذا هي وكأنها يوم واحد متلاحق الأحداث ثم ينظر فإذا به لم يخلق عبثا (أفحَسِبتُم أنمَا خَلقنَاكُم عَبَثاً وأنَّكم إلينَا لا تُرجَعونَ) المؤمـنون 115، وإذا به وقـد يستـشعر موقفـه وموقعـه يـوم القيامة يـوم لن تزول قدما عبد حتى يسأل عـن شبابه فيما أبلاه وعـن عمـره فيما أفناه وعـن عمله ماذا عمل به وعـن ماله مـن أين اكتسبه وفيـما أنفـقه وهـو مستـعد للمساءلة حينـما يوقـف للحساب (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ..) يونس45 (يَتَخافَتون فيما بَينَهُم إن لَّبِثتُم إلا عشرا (*) نحنُ أعلمُ بمَا يَقُولونَ إذ يقولُ أمثلُهُم طَريِقة إن لَّبثتُم إلا يَوما (*)) طـه 103-104 بأن هذا الإحساس هو إحساس صادق إذا قيسـت أيـام الدنيا بأيام الآخرة لا أيام الدنيا بالنسبة لأيـام الآخرة مـا هي إلا ساعة نهار إلا أن هذا الإحساس إحساس مضلل لمـن مرت به الأيام والليالي وعقارب الساعة تهدم جدار الزمـن وهو يتابع ذلك في ذهول وغفلة. ظل يعبث ويسترسل في عبثه حتى أدركه ظلام الموت وظلمة القبر، وعندها تيـقظ وهيهـات لقـد سار ركب الصالحين وبقي المسوفون في محطة.. إن شأن الناس في هذه الدنيا غريب كم مـن حبيب فقدوه وكم مـن عزيز في قعر الأرض غيبوه وهم لاهون والقدر يسوق الناس إلى حتفهم، إنهم ينسون أن كل ذرة مـن أعمالهم محسوبة (فَمـن يَعمَل مِثقَال ذَرَّةٍ خَيراً يَرَهُ (*) وَمـن يَعمَل مِثقَال ذَرَّةٍ شَراً يَرَهُ) الزلزلة 7-8. إن ميزان الذر مـنصوب للجميع فلا أنساب ولا صديق ولا تنفع شفاعة الشافعين (فَمَا لَهُم عَن التَّذكِرةِ مُعرضين)المدثر49. (يَومَ يَبعَثُهمُ اللهُ جميعاً فَيُنبِّئهُمُ بما عَملُواْ أحصاهَ اللهُ وَنَسوه والله على كل شيء شهيدْ)المجادلة 6. الإسلام دين يعف الوقت وقيمته ويقدر خطورة الزمـن وقد قال سلفنا الصالح: "الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك" ويجعل مـن علامات الإيمان وأمارات التقوى أن يعي المسلم هذه الحقيقة ويسير على هداها، يقول الله عز وجل: (إن في اختلاف اللّيل والنَّهارِ وّمّا خلق اللهُ في السَّماواتِ وَالأرضِ لآيات لقوم يتَّقُون) يونس6. إن المسلم الحق يغالي في الحفاظ على الوقت مغالاة شديدة لأن الوقت عنده هو عمره الذاهب والباقي فإذا سمح بضياعه فهو ينتحر بهذا المسلك الشائن ولذلك إنه يعتبر الغارقين في حاضرهم المسحورين ببريق الدار العاجلة قوماً خاسرين (اُوْلئِكَ الَّذين اشترواْ الحياة الدُّنيا بالآخرة)البقرة 86.. (إنَّ الَّذين َلا يَرجون لقاءنا وَرَضُوا بالحياة الدُّنيا وَاطمأنوا بها والذين هُم عن آياتنا غافلون (*) اُولئك مأواهم النَّار بما كانوا يكسبون) يونس7-8. انظر إلى مرارة الحسرات على التفريط لأن حلاوة اللذات تحولت حنظلا فبقيت مرارة الأسى. وكيف تنام العين وهي قريرة ولم تدر في أى المحلين تنزل.. إن المقرر في الشريعة أن جبريل عليه السلام نزل بأمر الله ليرسم أوائل الأوقات وأواخرها ليكون مـن ذلك نظام الحياة نظاما محكما دقيقا يرتب الحياة للمسلم ويقيسها بالدقائق مـن مطلع الفجر وحتى مغيب الشفق: (فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون وله الحمد في السموات والأرض وعشيا وحين تظهرون). فالليل يعقب النهار وخلفه النهار مع حركات الأفلاك الدائرة، ورب العالمين لم يخلق ذلك عبثا، إنه الميدان الذي أعد للسباق الذي لا يتقدم فيه إلا من يعرف ربه ويذكر حقه ويشكر نعمته. إن عمرك رأسمالك الضخم ولسوف تسأل عن إنفاقه وتصرفك فيه. قال الإمام الحسن البصري: ما مـن يوم ينشق فجره إلا نادى مـناد مـن قبل الحق سبحانه: يا ابن ادم أنا خلق جديد وعلى عملك شهيد فتزود مـني بعمل صالح فإني لا أعود إلى يوم القيامة. إن مـن محافظة الإسلام على الوقت حثه على البكير ورغبته في أن يبدأ المسلم أعمال يومه نشيطا طيب النفس مكتمل العزم جاعلا ابتداء يومه مـن الفجر ذاكرا فالق الصباح جاعل الليل سكنا والنهار حسبانا متوكلاً، ولقد مر النبي صلى الله عليه وسلم بالسيدة فاطمة وهي مضطجعة صباحا فحركها برجله ثم قال: "يا بنية قومي اشهدي رزق ربك ولا تكوني مـن الغافلين فإن الله يقسم أرزاق الناس ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس".. إن العمر قصير والحاضر الذي يحيا الإنسان في نطاقه ضيق وإن الزمـن آية مـن آيات الله. وله اختلاف الليل والنهار، فاغتنم خمسا قبل خمس. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين    

814

| 25 يوليو 2013

الشح وشمول اللعنة

هناك أعمال عظيمة تموت لأول عهدها بالحياة، أو تموت وهي في عالم الغيب وقبل أن تولد بعد أن خطط لها أو أبحرت في عالم الأفكار والتخطيط إلا أنها لم تجد العون المادي الذي يخرجها إلى عالم النور أو أنها لم تجد الذي يأخذ بيدها وينميها. وما أكثر الطاقات التي ماتت في مقرها، كما يموت الزرع قبل أن يخرج شطأه أو قبل أن يستوي على سوقه فيموت جفافاً لانقطاع الماء عنه، وكان المفروض على أصحاب رؤوس الأموال الذين أنعم الله عليهم من فضله أن يسارعوا إلى استحيائها بما أتاهم الله من فضله ولكنهم بخلوا بما لهم في وجوه الخير وأسرفوا في إنفاقه في وجوه الشر فعليهم وزر ما ضيعوا من مصالح الأمة ثم عليهم وزر ما جلبوه عليها من معاطب. لقد تحول المال الذي في أيدي هؤلاء الأشحاء إلى لعنة شاملة بدل أن يكون بركة ونماء ورحمة وصلة ينتفعون بها وينفعون الآخرين. ترى هل يستفيد اللئيم من هذا الشح والله يقول عن البخلاء الذين هم أقل درجة في اللؤم من الأشحاء (وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) وقد جاء في الحديث الشريف أن الله عز وجل قال لجنة عدن: "أنت حرام على كل بخيل" وقال عليه الصلاة والسلام: "إياكم والشح فإنه دعا من كان قبلكم فسفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم ودعاهم فقطعوا أرحامهم" فهل يستفيد من هذا الشح المطاع والهوى المتبع من كان كذلك. لقد اختنق هؤلاء الأشحاء في ثرواتهم كما يختنق الغريق في البحر اللجي، وسلط عليهم من يأخذها منهم. وصدق الله العظيم (ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله فمنكم من يبخل ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه والله الغني وأنتم الفقراء وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركمْ ثمَّ لا يكونوا أمثالكم). إن الإنسان لتأخذه الحسرة إذ يجد أغنياء المسلمين أبطأ الناس في أداء واجب وقضاء مهم قال الأستاذ الصحفي النمساوي محمد أسد (ليوبولدفايس): "حتى أني - وأنا غير مسلم- أصبحت أتكلم إلى المسلمين أنفسهم مشفقاً على الإسلام من إهمال المسلمين وتراخيهم". إن الخلف لا يعتبر بما صار إليه السلف (فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غياً). إن غالبية أغنياء المسلمين في هذا العصر مثل لا يقتدي به في البذل والعطاء في سبيل الله ولا يوجد أي شبه بينهم وبين الذي قال الله فيهم (ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة). بينما تعتمد مئات الجامعات والمستشفيات ومعاهد التنصير والجمعيات الإنسانية على منح وصدقات أهل اليسار من اليهود والنصارى، نجد أغنياء المسلمين في أكثر أقطار العالم صيادي لذائذ ورواد آثام - إن معظمهم ينتسب للإسلام حاملاً معه شهادة زور تثبت ذلك، وباطنه لعب فيه الشيطان وأفسدته الذنوب والآثام فلا أثر فيه لدين محمد عليه الصلاة والسلام. إن البذل ليس مفروضاً على هؤلاء الشريحة من الناس الأشحاء وحدهم، لكن البذل واجب على كل أهل التوحيد (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأنَّ لهم الجنة). إن الحياة الإسلامية في أيامنا الحاضرة بعيدة جداً عن الإمكانات المثلى التي تقدمها نصوص الشريعة الغراء فكل ما كان في الإسلام تقدماً وحيوية أصبح بين المسلمين اليوم تراخياً وركوداً وكل ما كان في الإسلام كرماً وإيثاراً أصبح اليوم بين المسلمين ضيقاً وأنانية وحباً للحياة وركوناً إلى الدعة لقد أخذ المسلمون يتركون اتباع روح التعاليم التي نزل بها القرآن وعلمنا إياها محمد عليه الصلاة والسلام وسار على هديها سلف الأمة. ولو بقي باعث الإسلام قوياً كما كان في الأجيال الأولى لترعرت مئات المؤسسات بنفقات وهبات الطبقات الوسطى والدنيا. هل يدري الأخ القاري كم ينفق على ما يكتب للمحطات الفضائية عن طريق الرسائل الجوالة - أو الهاتف المحمول - وهل يدري كم هي عدد المحطات الفضائية التي تفسد علينا كل شيء بدءاً من الدين وأصوله وانتهاء بأحلامنا الليلية فمن يمولها؟ وهل يدري الأخ القارئ كم ننفق على التدخين ومشتقاته وآثاره وتبعاته؟. إن هواية الإحسان عند آبائنا كانت ألصق بنفوسهم من هواية التدخين عند الألوف المؤلفة في هذا الزمان النكد فلو وجهت هذه الأموال الطائلة إلى الخير لجرت بين الناس سمناً وعسلاً ولأحالت الأرض المجدبة في ديارنا إلى مروج خضراء ولأحالت كثيراً من القلوب المفجوعة إلى الأنس والرضا، ولكنها أموال تحترق في الهواء إراحة لأعصاب مكدودة من ضعف العزم. يا ترى هل الذين ينثرون أموالهم تحت أقدم المومسات أو على موائد الليل في الحرام يؤمنون بيوم الحساب ألم يسمعوا من قارئ عابر في تلفاز أو مذياع أو شريط (وقفوهم إنهم مسؤولون) عن أي شيء السؤال؛ إنه لن تزول قدما عبد حتى يسأل عن عمره فيم أفناه وعن شبابه فيم أبلاه، وعن علمه ماذا عمل به وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه. نعم يوم يعض الظالم على يديه فيقول رب ارجعون لعلي أعمل صالحاً فيما تركت كلا إنهم إلينا لا يرجعون هيهات إذا غادرت هذه الدار فلن تعود إليها. (وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ). وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

481

| 24 يوليو 2013

alsharq
خيبة تتجاوز الحدود

لم يكن خروج العنابي من بطولة كأس العرب...

2328

| 10 ديسمبر 2025

alsharq
القيادة الشابة VS أصحاب الخبرة والكفاءة

عندما يصل شاب إلى منصب قيادي مبكرًا، فهذا...

1236

| 09 ديسمبر 2025

alsharq
هل نجحت قطر؟

في عالمٍ يزداد انقسامًا، وفي إقليم عربي مثقل...

801

| 10 ديسمبر 2025

alsharq
النضج المهني

هناك ظاهرة متنامية في بعض بيئات العمل تجعل...

693

| 11 ديسمبر 2025

alsharq
النهايات السوداء!

تمتاز المراحل الإنسانية الضبابية والغامضة، سواء على مستوى...

615

| 12 ديسمبر 2025

alsharq
موعد مع السعادة

السعادة، تلك اللمسة الغامضة التي يراها الكثيرون بعيدة...

585

| 14 ديسمبر 2025

alsharq
تحديات تشغل المجتمع القطري.. إلى متى؟

نحن كمجتمع قطري متفقون اليوم على أن هناك...

552

| 11 ديسمبر 2025

alsharq
قطر في كأس العرب.. تتفرد من جديد

يوماً بعد يوم تكبر قطر في عيون ناظريها...

543

| 15 ديسمبر 2025

alsharq
معنى أن تكون مواطنا..

• في حياة كل إنسان مساحة خاصة في...

531

| 11 ديسمبر 2025

alsharq
الوطن.. حكاية شعور لا يذبل

يوم الوطن ذكرى تجدد كل عام .. معها...

510

| 10 ديسمبر 2025

alsharq
مسيرة تعكس قيم المؤسس ونهضة الدولة

مع دخول شهر ديسمبر، تبدأ الدوحة وكل مدن...

501

| 10 ديسمبر 2025

alsharq
مطار حمد.. صرح عالمي ورؤية نحو التميز

في قلب الخليج العربي، وتحديدًا في العاصمة القطرية...

468

| 09 ديسمبر 2025

أخبار محلية