رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

Al-sharq

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

الشرق

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

عطرهم.. في ثنايا الهواء!

ليس مجرد مناسبة تتكرر، بل هو شعور متجدد ينبض بالحياة في كل عام، ليلةٌ تسبق صباحًا مغمورًا بالنور والبهجة، لكنها أيضًا ليلة تستحضر كل ما مضى، ليلةٌ تلامس القلب كما لم تفعل أي ليلة أخرى. حين يتسلل المساء ببطء، ويبدأ الناس في تجهيز ملابسهم الجديدة وتحضير أطباق العيد، هناك شعور دفين ينمو في زوايا الروح، إحساس يشبه المزيج الغريب بين الفرح والحنين، وكأن القلب يحتفل بيد، ويمسح دمعة بيد أخرى. ليلة العيد ليست مجرد لحظة انتظار، بل هي فصل كامل يمر سريعًا في الظاهر، لكنه يحمل في طياته أعمق المشاعر الإنسانية. إنها ليلة تنبعث منها روائح الطفولة، حيث نسمع في دواخلنا أصوات الضحكات القديمة. في هذه الليلة، يضجّ المنزل بالحركة، الأطفال ينامون بصعوبة، والبالغون ينهمكون في الترتيبات، لكن في خضم هذه الضوضاء، هناك صمت داخلي لا يحس به أحد، إلا أولئك الذين عرفوا كيف يكون العيد حين ينقص منه أحباب كانوا بالأمس معنا. نستيقظ فجرًا، نفرح بالملابس الجديدة، نتبادل التهاني، لكن هناك لحظة صامتة تمرّ بين كل هذا، حين نلتفت إلى المكان الذي كان يشغله شخص عزيز لم يعد هنا. في العيد، لا تغيب الأرواح التي فارقتنا، بل تحضر بقوة أكبر. ربما نشعر بأطيافهم في زوايا البيت، أو نسمع أصواتهم في أغانينا المعتادة، أو نشتم عطرهم في ثنايا الهواء. العيد يعيد تشكيل الذكريات، يبعثرها أمامنا، لنلتقط منها ما نستطيع، ونخفي الباقي في زوايا القلب التي لا يصلها أحد. ومع ذلك، فإن العيد يظل بهجة لا يمكن إنكارها، بهجة تمتزج بالدموع لكنها لا تختفي، كأنها ترقص على إيقاع الذكريات، لا تفقد بريقها رغم كل شيء. حين نجلس حول «سفرة» الإفطار الأولى، حين نخرج إلى صلاة العيد، حين نستقبل التهاني، نشعر أن للحياة إيقاعًا لا يتوقف، وأن الغائبين يعيشون في تفاصيلنا الصغيرة، في ضحكة طفل، في يد حانية تمتد لمصافحتنا، في دعوة صادقة تُرفع للسماء. العيد يعلمنا أن الحنين لا يعني الحزن، وأن الغياب لا يعني النهاية. يعلمنا كيف يكون الفرح رغم الدموع، وكيف نبتسم حتى حين تختنق أرواحنا بالشوق. فكل عيد هو وعد جديد بأن الحب لا يموت، وأن الذين تركونا تركوا جزءًا منهم فينا، يظهر في ليلة العيد، ليبتسم لنا مرة أخرى، ولو عبر دمعة هاربة. وفي ليلة العيد، حين يخفت ضجيج الاستعدادات ويهدأ كل شيء للحظات، نجد أنفسنا وجهاً لوجه مع ذاك الشعور الغريب الذي لا اسم له. ذلك الإحساس الذي يجعلنا نطيل النظر إلى صور قديمة، أو نعيد الاستماع إلى أصوات محفوظة في ذاكرة القلب، أو نسرق لحظة صمت وسط الزحام لنخاطب الغائبين بصوت لا يسمعه أحد. نخبرهم أننا افتقدناهم هذا العام كما في كل عام، وأن العيد بدونهم يظل ناقصًا مهما ازدانت الأجواء بالفرح. لكننا في الوقت نفسه نوقن أنهم لم يرحلوا تمامًا، فهم يسكنون في دعوات الأمهات عند الفجر، وفي لمعة العيون حين نذكر أسماءهم، وفي ذلك الحنين الذي يمنح العيد طعمه المختلف، طعم الفرح الممتزج بشيء من الشوق، بشيء من الدمع، وبكثير من الحب الذي لا يموت. ويبقى العيد مناسبة تحمل في طياتها الأمل رغم كل شيء. نرجو أن يكون عيدًا مليئًا بالفرح والسكينة لكل القلوب المتعبة، وخصوصًا لأهلنا في غزة، الذين يقاومون الألم بقلوب تنبض بالحياة. لعل العيد يحمل لهم نورًا يمسح شيئًا من جراحهم، ويفتح لهم أبوابًا جديدة من الرحمة والفرج. كل عام والجميع بخير، وأملنا أن يأتي العيد القادم وقد تبدلت الأحوال إلى ما هو أجمل وأعدل.

486

| 31 مارس 2025

الحياة حلوة.. بشروط!

"الحياة حلوة، بس نفهمها".. كما تقول كلمات الأغنية القديمة. عبارة تختصر فلسفة بسيطة لكنها عميقة: الحياة مليئة بالجمال، ولكننا أحيانًا نعجز عن إدراكه، نفقد لحظات من السعادة والسلام لمجرد أننا لم نفهم المعنى الحقيقي للحياة. إن فهم الحياة لا يعني بالضرورة الوصول إلى إجابات لكل الأسئلة الكبرى، أو العثور على تفسير واحد لأسرار الوجود. بل هو ببساطة أن نفتح أعيننا على جمال التفاصيل الصغيرة، أن نقدر قيمة الأشياء التي تحيط بنا كل يوم، وأن ننظر إلى تحدياتنا بطريقة مختلفة. في كثير من الأحيان، نرى الحياة من زاوية ضيقة تجعلنا نركز على المشكلات والمعوقات، ونغفل عن لحظات الفرح التي يمكن أن نجدها حتى في أبسط الأشياء. فالحياة ليست مجرد سلسلة من الأيام والليالي التي تمر علينا، بل هي رحلة ذات طابع خاص، مليئة بالتجارب والدروس. أن نفهم الحياة يعني أن نعيش بتوازن، أن ندرك أن للحزن نصيبه، وللفرح نصيبه أيضًا، وأن هذه الثنائية هي التي تجعلنا نقدر قيمة كل لحظة. حين نتقبل أن هناك أوقاتاً صعبة وأخرى سعيدة، نصبح أكثر انسجامًا مع إيقاع الحياة. نتعلم ألا نحارب الزمن، بل أن نستمتع بما يقدمه لنا، حتى وإن بدا في بعض الأحيان قاسيًا أو مليئًا بالتحديات. وإذا تأملنا أكثر، نجد أن الحياة تقدم لنا دروسًا كثيرة. قد تكون هذه الدروس في صورة أشخاص نلتقي بهم، تجارب نمر بها، أو لحظات خاصة نستشعر فيها معنى أعمق للأشياء. نحن نعيش في عصر يتسم بالسرعة والتوتر، حيث يلهث الكثيرون خلف أهداف مادية أو أمان بعيدة. لكن أحياناً، كل ما نحتاجه هو لحظة تأمل، لحظة نستمع فيها إلى أنفسنا، ننصت لصوتنا الداخلي، ونسأل؛ ماذا نريد حقًا؟ ما الذي يجعلنا نشعر بالسلام الداخلي؟ حين نبدأ في فهم أنفسنا، نصبح قادرين على فهم الحياة بشكل أعمق. الحياة حلوة فعلاً، لأنها تمنحنا فرصًا لا تُحصى، وتجدد أمامنا الأمل، وتفتح لنا أبوابًا جديدة حتى بعد الأزمات والانكسارات. فكل تجربة نخوضها، مهما كانت مؤلمة، تضيف إلى نضوجنا وتجعلنا أقوى. وإذا نظرنا إلى الحياة بهذه النظرة المتفائلة، سنجد أننا نتذوق طعم الحلاوة في كل يوم، ليس لأن الحياة خالية من الصعوبات، بل لأننا أصبحنا نفهمها، ونفهم أنفسنا معها. الحياة تصبح أكثر حلاوة عندما نبدأ في تقدير الأشياء البسيطة؛ فنجان قهوة في الصباح، ضحكة صديق قديم، لقاء عائلي دافئ، أو حتى لحظة صمت نتأمل فيها غروب الشمس. إن فهم الحياة لا يتطلب منا سوى أن نتخلى عن ضغوطنا للحظات، أن ندع مخاوفنا جانبًا، ونعيش الحاضر بكل ما فيه من جمال. الحياة حلوة، حين نسمح لأنفسنا بأن نتذوقها، أن نعيشها بعيدًا عن التوقعات المثالية، بعيدًا عن الركض المستمر لتحقيق النجاح المادي. نحن من نصنع طعم الحياة. فحين نفهم أن السعادة لا تكمن في امتلاك كل شيء، بل في الاكتفاء بما لدينا، نصبح أكثر امتنانًا وأقل قلقًا. الحياة لا تنتظر أحداً، وكل لحظة تمر هي فرصة جديدة لنكتشف فيها شيئًا جميلاً. ربما يكمن سر الحياة في البساطة، في عيش اللحظة، وتقدير النعم الصغيرة التي نملكها. فالحياة حلوة، نعم، لكن بشرط أن نفهمها، وأن نتعلم من تجاربها، وأن نُدرك أن قيمتها ليست في طولها، بل في عمقها، ليست في كمية الأيام، بل في نوعية اللحظات التي نعيشها. وحين نصل إلى هذا الفهم، نكون قد بدأنا نكتشف الجمال الحقيقي في الحياة، ونبدأ في تذوق حلاوتها، بكل ما فيها من تناقضات وألوان.

510

| 24 مارس 2025

لحظة الدعاء.. لست وحدك!

ثمة صوت داخلي ينادي بلا لغة، يرتفع نحو اللاحدود، ويتلمس في الغيب رحمةً لا تُرى ولكنها تُحس. الدعاء، ذلك السر الخفي الذي يربط الأرض بالسماء، ويمنح الإنسان طمأنينةً لا يفهمها إلا من ذاقها. الدعاء ليس مجرد كلمات تتناثر في الهواء، ولا طقوساً تُمارَس حين تعجز الحيلة. إنه يقين يتجلى في هيئة رجاء، ونداء محمّل بالأمل، وتسليم يشبه ارتخاء الأعضاء بعد عناء طويل. لحظة الدعاء هي اللحظة التي يكشف فيها الإنسان ضعفه، لا ليُهان، بل ليُحتضن، ليُقَال له: لست وحدك. في فلسفة الدعاء، لا يكون السؤال بقدر ما يكون الاعتراف. الدعاء في جوهره إقرارٌ بأن للكون ربًّا يُدبّر أمره، وأن الحكاية مهما التوت فصولها، فإنها تسير وفق حكمة أعظم من أن يُدركها عقل محدود. حين يرفع الإنسان يديه، فهو في الحقيقة يرفع عن قلبه عبء التفسير، ويُسلم أمره لمن وسِعت رحمته كل شيء. لهذا كان الدعاء طمأنينةً قبل أن يكون رجاء، وكان عبادةً قبل أن يكون طلباً. كم مرة نادى القلب في لحظة ضيق، فوجد الراحة قبل أن يأتي الفرج؟ كم مرة سالت دمعةٌ في سجدة، فغسل الله بها كدراً عالقاً في الصدر؟ ليس لأن المشكلة قد حُلَّت حينها، بل لأن الطمأنينة سبقت الحل، واليقين سبق العطاء. إن سر الدعاء ليس في استجابة سريعة تلغي المحنة، بل في ذلك الشعور العميق بأن هناك من يسمعك، من يفهمك، من يرى انكسارك ولا يتركك وحيداً فيه. واليقين بالله هو الروح التي تمنح الدعاء معناه. لا يدعو الإنسان وهو يشك في الإجابة، ولا يناجي وهو في قلبه تردد. الدعاء ليس اختباراً، وليس مقامرةً مع الأقدار. إنه إيمان مطلق بأن الخير قادم، حتى لو لم يكن كما تخيلناه. ولهذا كان أعظم الدعاء ذلك الذي يقترن بالتسليم: «إن لم يكن بك غضبٌ عليَّ فلا أبالي»، «افعل بي ما أنت أهله، لا ما أنا أهله»، «إنّي مسّني الضر وأنت أرحم الراحمين». هذه الكلمات ليست مجرد توسّلات، إنها انغماسٌ في الحكمة الإلهية، واستغراقٌ في الطمأنينة التي تجعل الإنسان يرى حتى في المنع عطاءً، وحتى في الألم رحمةً. ليست كل دعوة تُستجاب كما نريد، ولكن كل دعوة تُسمع. وما من يدٍ رُفعت إلا وأمسكتها رحمة الله بطريقةٍ ما. ربما يمنحك الله ما طلبت، وربما يمنحك أفضل منه، وربما يصرف عنك شراً لم تكن لتراه، وربما يدّخر لك الإجابة لساعةٍ تكون فيها أشد حاجة. في كل الأحوال، الدعاء لا يضيع، ولا يذهب هباءً، ولا يعود صاحبه خائباً. كيف يخيب من قرع باب الكريم؟ والدعاء ليس مجرد وسيلةٍ لطلب المفقود، بل هو صلةٌ يومية، حديثٌ ممتد، علاقة دائمة بين العبد وربه. ليس شرطاً أن يكون في لحظة يأس، وليس من العدل أن نطرق بابه فقط حين تضيق بنا الحياة. الدعاء هو الامتنان حين تُعطى، والثناء حين تُوفّق، والتسليم حين لا تفهم، والحب الذي لا يتغير مهما تبدلت الظروف. حين يدعو المرء، فهو لا يغيّر القدر، لكنه يتغير معه. يصبح أكثر اتساعاً، أكثر هدوءاً، أكثر قدرةً على مواجهة الأيام بقلب مطمئن. يعرف أن في السماء رباً لا يخذل من رجاه، ولا يرد من دعاه، ولو بعد حين. ولهذا، يبقى الدعاء هو الوعد الدائم بأن الحياة، مهما اشتدت، تظل في يد الرحيم، وأن كل همّ، مهما ثقل، يذوب حين يلامس رحمة الله.

570

| 17 مارس 2025

الغربة ليست مسافة!

قيل لنا إن الغربة هي المسافة التي تفصلنا عن الأماكن التي نحبها، عن الوطن الذي تركناه خلفنا، عن الطرقات التي كبرت خطواتنا فيها. صدّقنا هذا الوهم، حتى غدونا نظن أن الغربة هي كيلومترات معدودة، تُقاس بما نبتعده عن بقعة على خريطة العالم. لكن الحقيقة أعمق بكثير من ذلك. الغربة الحقيقية ليست بعداً جغرافياً، بل هي فقدان الذات وسط زحام الحياة وضجيج العالم، هي ذلك الإحساس الذي يخترقك حين تشعر أنك غريب عن نفسك، عن صوتك، عن كل ما يشبهك. هناك غرباء كُثر في أوطانهم، بين أهلهم وأصدقائهم، لكنهم يفتقدون شعور الانتماء. الغربة الحقيقية ليست مغادرة مكان، بل هي فقدان شعورك بأنك جزء من عالمك. هي أن تكون في مكان مزدحم بالحياة، ولكنك تشعر أنك معزول تماماً. لا أحد يرى عمقك، ولا أحد يسمع صرختك الصامتة. يحدث أن تتحول الحياة اليومية إلى سلسلة من اللحظات التي لا تعني لك شيئاً، حيث تصبح الكلمات التي تُقال والوجوه التي تُحيط بك أشبه بظلال باهتة لا تُحرك فيك شيئاً. وسط هذا الضجيج كله، نضيع. نُدفن تحت ثقل التوقعات، تحت محاولاتنا المستمرة لإرضاء الآخرين. نصبح مجرد انعكاسات لما يريدونه منا، بينما نبتعد أكثر فأكثر عن أنفسنا الحقيقية. نُدرك فجأة أننا في سباق لا نعرف سببه، وأننا خسرنا في الطريق أشياء ثمينة: أحلامنا الصغيرة، شغفنا، والأهم من ذلك، سلامنا الداخلي. وحين ندرك حجم الغربة التي نسكنها، نفهم أن العودة ليست مجرد رحلة إلى مكان تركناه خلفنا. العودة ليست إلى وطن، بل إلى أعماق أرواحنا. العودة الحقيقية هي لحظة نقرر فيها أن نصغي إلى أصواتنا الداخلية التي كنا نهرب منها. هي أن نتوقف عن الركض للحظة، أن ننظر إلى الداخل ونسأل أنفسنا: ما الذي يوجعني؟ وماذا أحتاج لأشفى؟. العودة تبدأ بخطوة صغيرة. خطوة نحو التصالح مع الماضي، مع الأخطاء التي ارتكبناها والقرارات التي ندمنا عليها. هي أن نسامح أنفسنا على الضعف، على الضياع، على الانحناء أحياناً تحت وطأة الحياة. أن نغفر لأنفسنا هو أول الطريق نحو السلام، لأنه يحررنا من قيود نضعها نحن حول أرواحنا. ولأن الغربة ليست دائماً أمراً سيئاً، فإنها قد تكون درساً إنسانياً عميقاً. الغربة تعلمنا أن الأماكن ليست هي التي تمنحنا الشعور بالانتماء، بل ما نحمله في داخلنا هو ما يصنع شعور الوطن. قد تكون الغربة دعوة للبحث عن الذات، لتكوين علاقة أعمق مع أنفسنا، للتوقف عن الاستماع إلى الضجيج الذي يعلو من حولنا، والبدء في الاستماع إلى صوت قلوبنا. لذا، إذا شعرت يوماً بالضياع وسط الزحام، لا تبحث عن الطريق في الخارج. المفتاح ليس هناك. المفتاح في داخلك، في قلبك أنت. حين تعود إلى ذاتك، ستدرك أن الغربة كانت مجرد انعكاس لفقدانك لها، وأن العودة الحقيقية هي بداية حياة مليئة بالتصالح والسلام. وحين نستوعب حقيقة الغربة، ندرك أنها ليست دائماً قدراً محتوماً، بل قد تكون بوابة لاكتشاف عوالم جديدة في داخلنا. ربما هي الفرصة التي تمنحنا إياها الحياة لنخلع عنا الأقنعة التي التصقت بوجوهنا، لنتحرر من الأدوار التي فرضت علينا أو اخترناها بدافع الخوف والتكيف. في الغربة، نتعلم كيف نعيد تعريف أنفسنا بعيداً عن كل ما اعتقدنا أنه يحددنا. نعيد ترتيب أولوياتنا، ونصنع وطناً من التفاصيل الصغيرة التي تشبهنا، من اللحظات التي نجد فيها أنفسنا، من الكلمات التي تسكن أعماقنا دون خوف أو مواربة. قد تكون الغربة امتحاناً قاسياً، لكنها أيضاً فرصة للولادة من جديد، لنتشكل كما نريد، لا كما يريد الآخرون.

891

| 10 مارس 2025

الشهر الذي لا يتكرر

نقول لبعضنا البعض في رمضان كل عام: «مبارك عليكم الشهر الفضيل»، كأننا نلتقي به لأول مرة، كأننا لم نعشه من قبل، ولم نحسب أيامه ونعدّ لياليه ونتلو أدعيته ونرتب أحلامنا بين ثناياه. ولكن، ماذا يعني “الشهر الفضيل” بالنسبة لشهر يعود عامًا بعد عام؟ كيف يكون الزمن متكررًا وهو في جوهره زائل؟ وهل رمضان هو رمضان نفسه في كل مرة، أم أن في كل عام منه رمضان مختلفًا لا يتكرر؟ هناك شيء غريب في هذا الشهر، كأنه لا يخضع لقوانين الوقت كما نعرفها. فهو يعود إلينا كل عام، لكنه لا يكون أبدًا كما كان. في كل مرة يأتي، نحن الذين نكون قد تغيّرنا، أرواحنا التي أنهكتها الحياة تتوق إليه بشغف مختلف، وأمانينا التي لم تتحقق في الأعوام الماضية تجد فيه موسمًا جديدًا للحلم والتضرع، وأوجاعنا التي حسبناها اندملت تعود لتطلب شفاءها من رحمته. فنحن الذين نختلف، وليس هو!. نحن الذين ننظر إليه بعيون متغيرة، بأعمار متقدمة، بأحمال جديدة من الهموم والذكريات، بقلوب أنهكها الانتظار أو أرهقتها الأيام. إنه شهر يأتي ليُذكّرنا، لا ليُعيد نفسه، يوقظ فينا أشياء كنّا قد نسيناها، يبعث في القلب حرارة الإيمان التي يبردها الزمن، ويعيدنا إلى تلك النسخة الطفولية البريئة من أرواحنا التي كانت تفرح بقدومه كما لو أنه العيد نفسه. لكننا حين نكبر، لا نكفّ عن البحث عن تلك النسخة الضائعة فينا، التي كانت ترى في رمضان أكثر من مجرد امتناع عن الطعام والشراب. نحن نبحث عن تلك الرهبة القديمة في سماع صوت الأذان يُعلن أول أيامه، وعن بهجة رؤية الهلال كأنه يبتسم لنا بحنو، وعن لحظة الإفطار التي لم تكن مجرد انتهاء لصيام طويل، بل كانت لقاءً روحانيًا مع النفس، مع الذكريات، مع الدعوات الخفية التي لا نهمس بها إلا في ظلاله. وكم يبدو غريبًا أن هذا الشهر، رغم ثبات موعده في التقويم الهجري، إلا أنه لا يستقر في فصولنا ولا في مزاج الطقس. يأتي أحيانًا في ذروة الحر، فنصبر، ويعود في أيام البرد، فنتدثر، وقد يمر على أمم تعاني الجوع أصلاً، فتكون مشقته مضاعفة، ويمر على أخرى مترفة، فتكون فتنة موائده قاسية. لكنه في كل حالاته يظل هو هو، الاختبار الأجمل لصبر الإنسان، والنافذة التي تفتح على ما وراء المألوف. رمضان ليس شهرًا في التقويم، بل هو مرآة، كلما عدنا إليها وجدنا فيها صورة جديدة لأنفسنا، نرى وجوهنا وقد كبرنا عامًا آخر، ونرى أرواحنا وهي تعبر محطات الحياة، ونشعر أن هناك فرصة أخرى للتصالح مع الذات، مع الله، مع الزمن الذي يركض بنا سريعًا. ربما لهذا السبب لا يكون رمضان كما هو في كل مرة، لأننا في كل مرة نستقبله بقلوب جديدة، بظروف مختلفة، بأوجاع جديدة، وأحلام لم نحققها بعد. في ليلة من لياليه، قد نجد أنفسنا نرفع ذات الدعوة التي رفعناها في العام الماضي، بذات الرجاء، بذات الدموع، لكن بوعي أعمق لما تعنيه. وفي صباح آخر، قد نكتشف أن ما تمنيناه العام الماضي تحقق بالفعل، لكننا كنا مشغولين عن ملاحظة ذلك. رمضان ليس فقط شهر العبادة، بل هو أيضاً شهر الإدراك، شهر أن ترى ما لم تكن تراه في نفسك، في حياتك، في الدنيا كلها. ومهما قلنا، سيظل رمضانُ رمضانَ، وسنظل نحن الذين نتغير. لكنه سيبقى ذلك الشهر الذي لا يتكرر، حتى وإن عاد إلينا كل عام. وربما هذا هو سرّه الأعظم؛ أنه لا يغادرنا حقًا، بل يظل فينا على هيئة درس لم نفهمه تمامًا بعد، على هيئة وعد بأننا سنحاول أن نبقى كما كنا فيه، أو على الأقل، ألا ننسى سريعًا ما جعلنا نشعر بأننا أكثر إنسانية، أكثر قربًا، أكثر صدقًا مع ذواتنا. لكنه، رغم كل ذلك، يعلم أننا سنعود لما كنّا عليه، وأننا سننتظره من جديد، وسنقول حين يأتي مرة أخرى، وكأنها المرة الأولى: «مبارك عليكم الشهر الفضيل».

531

| 03 مارس 2025

قوة الاعتذار: كيف تُصلح ما كُسر بكلمتين؟

الاعتذار ليس مجرد كلمة تُقال، بل هو جسرٌ ممتد بين القلوب، يعيد ما انقطع من روابط المودة، ويجبر ما تكسر من مشاعر. إنه ذلك الفعل الإنساني العميق الذي يتطلب شجاعة داخلية ووعياً ناضجاً بالذات والآخر. ليس كل من أخطأ قادرًا على الاعتذار، فالأمر ليس مجرد نطق بكلمات عابرة، بل هو عملية صادقة تستلزم إدراك الخطأ، والاعتراف به، وتحمُّل المسؤولية، ثم محاولة تصحيح ما يمكن تصحيحه. في مجتمعاتنا، يعاني الاعتذار أحيانًا من كونه مرتبطًا بالضعف، وكأن الإقرار بالخطأ يُنقص من قدر الإنسان أو يهز من مكانته. لكن الحقيقة عكس ذلك تمامًا؛ فالاعتذار فعلُ قوةٍ لا ضعف، وهو دليل على شخصية متصالحة مع نفسها، قادرة على مواجهة أخطائها بدل الهروب منها. إن القدرة على الاعتراف بالخطأ والاعتذار عنه لا تنبع إلا من نفوسٍ كريمةٍ تدرك أن الكمال ليس من صفات البشر، وأن الأهم من الوقوع في الخطأ هو القدرة على تجاوزه بكرامة وإنسانية. الاعتذار ليس مجرد كلمات تقال على استحياء، بل هو إحساس عميق بالمسؤولية الأخلاقية. عندما يعتذر المرء، فهو يعترف بأنه قد تسبب بأذى، سواء بقصد أو من دون قصد، ويعبر عن رغبته الحقيقية في إصلاح ما أفسده، أو على الأقل تخفيف الأثر الذي خلّفه. والأهم من ذلك أن الاعتذار لا يكون صادقًا إلا إذا كان مقرونًا بتغيير حقيقي في السلوك، وإلا أصبح مجرد محاولة باردة لإراحة الضمير من دون نية فعلية لإصلاح الخطأ. لكن، على الجانب الآخر، يجب أن تكون ثقافة الاعتذار متجذرة ليس فقط فيمن يخطئ، بل أيضًا فيمن يستقبل الاعتذار. قبول الاعتذار بقلوبٍ متسامحة يعكس وعياً عميقاً بالإنسانية، واعترافًا بأن كل البشر يخطئون. إن من يرفض الاعتذار أو يصرّ على معاقبة المخطئ حتى بعد ندمه، إنما يغلق باب التصالح ويجعل من الأخطاء جروحًا مفتوحة لا تلتئم. لذا، فإن التسامح يجب أن يكون جزءًا من معادلة الاعتذار، لأن الغاية النهائية منه ليست فقط تصحيح الخطأ، بل استعادة الثقة والعلاقة الإنسانية التي كادت أن تضيع. الاعتذار فنٌ ومهارة، وهو ليس مجرد رد فعل على الخطأ، بل أسلوب حياة يعكس رقي الإنسان. الشخص الذي يعتذر بسهولة وصدق، لا يفعل ذلك لأنه ضعيف، بل لأنه يقدّر قيمة العلاقات الإنسانية أكثر من كبريائه الشخصي. إنه يفهم أن الاعتذار ليس تنازلاً بل تحررًا من ثقل الذنب، وأن الكلمات الصادقة التي تُقال في لحظة ندم قد تكون كفيلة بإنقاذ علاقةٍ أو إصلاح جرحٍ عميق. لكن في المقابل، هناك اعتذارات زائفة تُقال بلا إحساس، مجرد عبارات تُردد لمجرد إسقاط الواجب، وكأنها كلمات تُستخدم لتبرئة النفس لا لمداواة الآخر. الاعتذار الحقيقي لا يكون مجرد جملة روتينية مثل “أنا آسف” تُقال بفتور، بل هو فعل ينبع من الداخل، يتجلى في نبرة الصوت، ونظرة العين، والجهد المبذول لتصحيح الخطأ. * والاعتذار ليس حكرًا على الأفراد فقط، بل هو ثقافة يجب أن تتبناها المجتمعات والمؤسسات والدول. الاعتذار الجماعي عن أخطاء الماضي هو خطوة نحو مستقبل أكثر وعياً وعدالة. نرى في التاريخ كيف أن بعض الدول العظيمة لم تخجل من الاعتذار عن أخطاء ارتكبتها بحق الشعوب الأخرى، بل اعتبرت ذلك جزءًا من مسؤوليتها الأخلاقية. والمجتمع الذي يعترف بأخطائه، هو مجتمع ناضج يتعلم منها ولا يكررها. كم من علاقات انتهت لأن أحد الطرفين لم يجد الشجاعة ليقول “أنا آسف”؟ وكم من صداقات ضاعت لأن الغرور حال دون الاعتذار؟ وكم من قلوب ظلت مثقلة بالجراح لأن الاعتذار لم يكن جزءًا من المعادلة؟ إن الاعتذار ليس فقط وسيلة لتخفيف الندم، بل هو مفتاح لاستمرار العلاقات الإنسانية ونضوجها. عندما نعتذر، نحن لا نقوم بفعل لصالح الآخر فقط، بل لصالح أنفسنا أيضًا. نحن نتحرر من عبء الذنب، ونمنح قلوبنا فرصة للسلام. فالحياة قصيرة، والمواقف العالقة التي لم يتم إصلاحها تتحول مع الزمن إلى جدرانٍ عازلة تمنعنا من العيش بصفاء. الاعتذار هو الجسر الذي يجعلنا نعبر إلى الجانب الآخر من العلاقة بأمان، دون أن نخسر أنفسنا أو من نحب. * إن ثقافة الاعتذار هي انعكاس لتحضر المجتمع ورقيه، وهي دليل على أن الإنسانية ما زالت نابضة في قلوبنا، وأننا قادرون على التعلم من أخطائنا والتطور. فلتكن كلمات الاعتذار الصادقة جزءًا من حياتنا، ولنتعلم كيف نقولها ونستقبلها بقلوب مفتوحة، لأننا في النهاية بشر، نخطئ ونصيب، لكن ما يجعلنا أكثر إنسانية هو قدرتنا على التراجع والتصحيح، والعودة دومًا إلى نقطة النقاء الأولى.

927

| 24 فبراير 2025

القلق.. مرآة لأنانيتنا

تستلقي على فراشك منهكًا، لكن النوم يعاندك. تتقلب بين أفكارك، تبحث عن مخرج من تلك الدوامة التي صنعها عقلك. تفاصيل صغيرة تتحول فجأة إلى وحوش تضخمها المخاوف، مشكلة بسيطة في العمل، خلاف عابر مع صديق، أو حتى كلمة لم تقلها بالطريقة التي أردتها. هذه الأمور التي تبدو عادية في النهار تأخذ في الليل حجمًا يفوقها، ويزداد انزعاجك وتشتد قسوة القلق عليك، فتشعر أن هذه المشكلات الصغيرة أكبر مما تحتمل. لكن مع أول خيوط الفجر، حين تبدأ الحياة في التحرك من حولك، تمسك هاتفك أو تستمع إلى نشرة الأخبار. تسمع عن عائلة فُقدت بأكملها تحت أنقاض منزلها في زلزال، أو ترى صورًا لأمهات يحملن أطفالهن وسط الحطام، يبحثن عن شربة ماء أو لقمة تسد رمق الجوع. ربما يصل إلى مسامعك خبر وفاة شاب كان بالأمس يتحدث عن أحلامه، أو تقرأ عن قرية اجتاحتها السيول فحولت بيوتها إلى أطلال. حينها، تشعر أن كل ما كان يشغل بالك ليلة الأمس لم يكن سوى رفاهية، وأن انزعاجك من مشكلة صغيرة يبدو ترفًا لا يملك مثله هؤلاء الذين يعيشون يومهم بين الحياة والموت. هذه اللحظة، التي يتضاءل فيها قلقك أمام مآسي الآخرين، هي لحظة صادمة لكنها كاشفة. إنها توقظك من شرنقة الانغماس في ذاتك، وتجعلك تدرك حجم النعم التي تحيط بك دون أن تشعر بها. المشكلة التي بدت لك بالأمس وكأنها نهاية العالم تتحول الآن إلى تفصيل هامشي، بينما تجد نفسك أمام مآسٍ حقيقية يعاني منها آخرون بصمت وكرامة. والمفارقة هنا أن القلق ليس شعورًا سيئًا بحد ذاته. إنه طبيعي، جزء من طبيعتنا كبشر. لكنه يصبح أحيانًا مرآة لأنانيتنا. حين نركز على أنفسنا فقط، على تفاصيلنا الصغيرة، نغفل عن الصورة الأكبر، عن تلك المعاناة التي تتجاوز حدود خيالنا. نحن نعيش في عالم يعج بالمآسي، لكننا نغلق أعيننا عنها أحيانًا، ربما لأننا نخشى أن تثقل أرواحنا، أو لأننا ببساطة نفضل الانشغال بهمومنا الخاصة. ليس المطلوب أن نشعر بالذنب لأننا أقل معاناة من غيرنا. لكن إدراك هذه الحقيقة يجعلنا أكثر وعيًا بقيمة ما نملك. يجعلنا أكثر شكرًا على النعم التي قد نعتبرها أمرًا مسلمًا به: سقف يحمينا، طعام نأكله، أمان ننام في كنفه. حين ندرك ذلك، يصبح القلق فرصة لإعادة ترتيب أولوياتنا، وفرصة لنشر التعاطف في قلوبنا. كم مرة قرأنا عن أطفال يعيشون في المخيمات، بلا تعليم، بلا دفء، بلا أمل في مستقبل واضح؟ كم مرة شاهدنا صور العائلات في الحروب وهي تحمل القليل مما تملكه وتبحث عن مكان آمن؟ تلك الصور، التي قد تبدو لنا مجرد أخبار عابرة، هي واقع يومي لأناس مثلنا، كانوا يومًا يعيشون حياة مليئة بالخطط والأحلام، حتى باغتتهم الكوارث. هذه القصص ليست بعيدة عنا، فهي تذكرنا بأن العالم مليء بالألم، لكنها في الوقت نفسه تفتح أعيننا على النور الذي نملكه. نحن نملك خيارًا، إما أن نغرق في تفاصيلنا الصغيرة ونسمح لها بأن تقيدنا، أو أن ننظر إلى الصورة الأكبر، فنرى كيف يمكننا أن نصبح جزءًا من الحل. أن تشعر بالقلق ليس عيبًا، لكنه يصبح عيبًا إذا تركته يعميك عن رؤية الآخرين. ربما الحل يكمن في أن نمنح لحظات القلق فرصة لتعليمنا شيئًا جديدًا. أن ندرك أن هناك فرقًا بين الانزعاج الحقيقي وبين القلق المترف. أن نتعلم من أخبار العالم حولنا أن ننظر إلى مشكلاتنا من زاوية مختلفة. فكل يوم يبدأ بجديد، وكل شروق شمس يحمل فرصة لأن نكون أكثر إنسانية، أكثر امتنانًا، وأكثر وعيًا بحقيقة ما نملكه وما يمكننا تقديمه.

615

| 17 فبراير 2025

كالغضب الذي لا يهدأ

ليس هناك ظلمٌ أبشع من أن تُمحى الفروق بين الجريمة والبراءة، بين القسوة والضعف، بين اليد التي تقتل واليد التي تنزف. لكن هناك من يتفنن في هذا العبث، من يُزيّن الحيادَ وكأنه فضيلة، من يُلبس العدالة قناعًا زائفًا يجعلها تقفُ مترددةً بين الجلاد والضحية، وكأنهما طرفان متساويان في الجريمة. أن تساوي بين الجلاد والضحية، بحجة العدالة، هو أن تنزع عن الجلاد وحشيته، وأن تُحمّل الضحية ذنبًا لم تقترفه، كأنك تُعيد صياغة القصة بحيث يبدو الألم خيارًا، وكأنَّ الجريمة وجهة نظر. هو أن ترى قاتلًا وسكينًا تقطرُ دمًا، وترى جثةً هامدة، ثم تقرر أن تبقى محايدًا، لأن “لكل طرفٍ روايته”، وكأنَّ الحقَّ كذبةٌ لا يُمكن أن تُرى بالعين المجردة. لكن ماذا يُمكن أن يكون أبشع من هذا الحياد؟ أن تُطالب الضحية بالصمت، أن تُنكر عليها حقها في الألم، أن تُطالبها بأن “تفهم” دوافع الجلاد، كأنَّ ذلك يُبرر شيئًا. أن تُقالَ لها عباراتٌ جوفاء من نوع: “لا أحد بريء بالكامل”، أو “الأمر ليس بتلك البساطة”، أو “الجميع أخطأوا”، وكأنَّ محاولة الدفاع عن النفس تُساوي الضربة الأولى، وكأنَّ القهر يُصبح مبررًا حين يُصاغ بلغةٍ دبلوماسيةٍ أنيقة. في عالمنا الذي يزداد قسوةً يومًا بعد يوم، أصبح الحيادُ ملاذًا لمن لا يُريد أن يتحملَ مسؤولية موقف، لمن يُفضّل أن يُلقي على الجميع لونًا رماديًا باهتًا، حتى لا يتورط في الاعتراف بأنَّ هناك ظالمًا ومظلومًا، قاتلًا وقتيلًا، جلادًا وضحية. لكن الحقيقة لا تحتاج إلى تجميل، والدماء لا تحتاج إلى من يُفسرها، والوجع ليسَ وجهة نظرٍ قابلة للنقاش. أبشعُ ما يُمكن أن يحدث هو أن يُطلب من الضحية أن تُسامح، أن تتجاوز، أن تتنازل عن صرختها لأنَّ العالمَ يُحبُّ النهايات السعيدة، لأنَّ الحقيقةَ مزعجة، ولأنَّ الجلاد يُريد أن يبدأ من جديد وكأنَّ شيئًا لم يكن. لكن الضحية لا تُشفى بالنسيان، ولا يُمكنها أن تُنكر ما تعرّضت له لمجرد أنَّ الآخرين لا يُريدون أن يشعروا بالذنب أو الانزعاج. حين يُساوى بين الجلاد والضحية، لا يُصبح الجلادُ أكثر رحمة، بل تُصبح الجريمة أكثر قبولًا. يُصبح العنف أمرًا معتادًا، يُصبح الخذلانُ واجبًا، يُصبح الصمتُ قانونًا، ويُصبح على كل من يرفض هذا الظلم أن يتحمل تهمة التشدد أو المبالغة. يُطلب منه أن يكون منطقيًا، أن يُراعي مشاعر الجميع، أن لا يُسبب إزعاجًا، حتى لو كان الثمنُ أن يُنكر ما يعرفه تمام المعرفة. لكن الحقيقة لا تموتُ لمجرد أنَّ أحدهم قررَ أن يُلغيها، والعدالةُ ليست قطعة قماشٍ يُمكن أن تُقصُّ بحيث تُناسب الجميع. هناك حقائق لا تحتاج إلى تفسير، هناك وجوهٌ مُلطخةٌ بالدماء لا تحتاج إلى من يُنظّف صورتها، هناك صرخاتٌ لا يُمكن إسكاتها بحجة الموضوعية. والزمنُ قد يُغير كثيرًا من الأشياء، قد يطمسُ بعض الجروح، وقد يُغطي بعضها الآخر بطبقاتٍ من النسيان، لكن شيئًا واحدًا سيظلُّ ثابتًا: الجريمةُ لا تُصبحُ أقلَّ جرمًا لأنَّ أحدهم قررَ أن يتجاهلها، والضحية لا تفقدُ حقها لأنَّ العالم ملَّ من سماع قصتها. الحقيقةُ لا تحتاجُ إلى وسيطٍ يُعيدُ ترتيبها بحيث تُناسب الجميع، هي كما هي، واضحةٌ كالشمس، دامغةٌ كالجراح، خالدةٌ كالغضب الذي لا يهدأ.

504

| 10 فبراير 2025

أم على قلوب أقفالها؟!

تساؤل قرآني مهيب، أشبه بضوء خاطف يشق العتمة، يعري العقول من تكلسها، ويهز القلوب من سباتها؛ أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها؟ إنه ليس سؤالًا عابرًا، بل رجفة توقظ الوعي، صرخة مدوية في وجه الغفلة، واستفهام يقتحم الأذهان بحتمية الجواب. كيف لا يتدبرون؟ وكيف للقلوب أن تُغلق على نفسها كأنها صناديق مهجورة أُحكمت بأقفال لا مفتاح لها؟ والتدبر ليس مجرد قراءة سطحية عابرة، بل غوصٌ عميق في بحر المعاني، تفاعل حيّ مع الكلمات التي تنبض بالحكمة، واستجلاء للرسائل المكنونة خلف كل حرف. هو أن تجعل القرآن يتغلغل في شرايين وعيك، أن تسمع صوته وهو يخاطبك مباشرة، أن تلمس النور المتدفق من آياته فتفتح له منافذ الإدراك، فلا يكون مجرد كتاب يوضع على الرفوف، بل رفيق درب، نبض حياة، مرآة تعكس حقيقتك، ونداء لا ينقطع. ولكن ماذا لو تحجّرت القلوب وأُقفلت؟ أيُعقل أن يكون القلب، هذا العضو الذي يضخ الحياة، ميتًا رغم نبضه؟ نعم، فالقلوب لا تموت دفعة واحدة، بل تُغلق تدريجيًا، قفلًا بعد قفل، كلما أدار الإنسان ظهره للحق، كلما تعامى عن الحكمة، كلما استسلم لعادات لا تلامس روحه، كلما ارتضى أن يكون متلقيًا سلبيًا، يمر على الكلمات دون أن تهز وجدانه أو تثير تساؤلاته. كم من قلوب صارت أشبه بصناديق موصدة؟ كم من عقول تمرّ على القرآن كما تمرّ الريح على الصخور، لا تهزها ولا تترك فيها أثرًا؟ نقرأ، لكن لا نتدبر. نحفظ، لكن لا نفهم. نردد، لكن لا نعيش الكلمات كأنها نبضٌ في عروقنا. وربما لهذا السبب، لم تعد الآيات تترك فينا ذات الأثر الذي تركته في قلوب آخرين، لأنها تصطدم بأقفال صنعتها العادة، والغفلة، والانشغال بما هو عابر عن ذاك الذي لا يزول. والأقفال ليست دائمًا واضحة أو محسوسة، أحيانًا تكون على هيئة قناعات جاهزة لا تقبل المراجعة، أو انشغالٍ مفرط بالدنيا حتى تُصبح الروح صمّاء أمام النداء الإلهي. أحيانًا تكون خوفًا من التغيير، أو هروبًا من مواجهة الحقيقة التي قد تهز أركان ما اعتدناه. وربما كانت قسوةً أوجدتها التجارب، فصار القلب متوجسًا، لا يسمح للنور بأن يخترقه خوفًا من أن يوجعه. لكن، حتى القلوب الموصدة ليست محكومة بالموت الأبدي. فالمفتاح دائمًا موجود لمن يبحث عنه. لحظة صدق، تأمل حقيقي، رغبة في الفهم، قراءة بعيون جديدة، كلها كفيلة بأن تكسر القفل الأول. وما إن يُكسر قفل، حتى يتبعه الآخر، كأنما القلب يتنفس للمرة الأولى بعد اختناق طويل. وهكذا هي القلوب، قد تُغلق، لكنها لا تفقد قدرتها على الانفتاح ما دامت الحياة فيها. وأيّ قلب قرر أن يتدبر، أن يصغي، أن يسائل، هو قلب كُتب له أن ينبض من جديد. فالأمر ليس استسلامًا لواقع، بل اختيار: أن تبقى في سجن الأقفال، أو أن تبحث عن المفتاح. والقرآن، لمن أراد، مفتاحٌ أبدي، لكنه لا يُفتح إلا بيد من يريد أن يفتحه حقًا. أفلا يتدبرون القرآن؟ سؤال لا يُطرح للآخرين فقط، بل لنا جميعًا. هل نقرأ ونحن حاضرون بقلوبنا، أم نمر على الآيات كأنها مجرد أصوات عابرة؟ هل نسمح لها بأن تسكن أعماقنا، أم أننا نضع بينها وبين أرواحنا جدرانًا؟ هل نُعطيها فرصة أن تخاطبنا، أن تغيّرنا، أن تكسر ما تراكم من أقفال على قلوبنا؟ كل إجابة عن هذا السؤال تحدد مصير القلب: إمّا أن يُغلَق أكثر، أو أن يشرع بابه للنور، فيستحيل نورًا.

720

| 03 فبراير 2025

لم القلق؟

قرأت قبل أيام في منصة إكس تغريدة للكاتبة سلمى بوخمسين أثارت مشاعري وكأنها كانت موجهة لي في مفصل من مفاصل حياتي مع بداية هذا العام الجديد. كتبت سلمى في تغريدتها اللافتة: «لم أصبغ شعري منذ ١٢ عامًا ولم أغيّر طريقة تصفيفه من عشرة. لم أجرب الفيلر أو التاتو أو أي صرعة تجميل جديدة. لا أزال أكتحل بالإثمد كل صباح. انتقلت من منزل إلى آخر فصبغت الجدران بذات اللون السماوي الهادئ. زرت مقاهي في أكثر قارات العالم وتبقى قهوتي المفضلة قهوة الكادحين في مقهى المشفى حيث أعمل. ‏مهما تلد السينما لا أعترف بغير عمر الشريف وفاتن. مهما تكن المناسبة أكتفي بدهن العود، ‏وعلى العديد من الأصعدة لا أزال كما أنا قبل عام، قبل خمسة أعوام، قبل عشرة أعوام. ‏لا أدري هل هذه أصالة أم تحجر؟ ‏هل أصبحت «دقة قديمة»؟ أم أني كلاسيك؟ ‏هل أنا حبيسة خيارات منتهية الصلاحية؟ أم صادقة لما أحب غير مكترثة بكل التيارات حولي؟! أصالة الحنين أم تحجُّر الذات؟».. * انتهت التغريدة، وابتدأت محاولاتي للإجابة على أسئلة لم نكن موجهة لي لكنني شعرت أنني معنية بها أنا أيضا! هناك أشياء تنطبع في الروح كالحبر على ورق لا تمحوه السنوات ولا تغيّره الفصول. كأننا نحمل في دواخلنا ماضٍ صغير نلجأ إليه حين تشتد علينا عواصف الحاضر، أو حين تغرينا تيارات جديدة لا تبدو متوافقة مع إيقاع أرواحنا. لكن، هل التمسك بالعادات والأشياء القديمة هو تعبير عن الأصالة، أم أنه هروب من مواجهة التحوّل الذي لا يرحم؟ لطالما كان الحديث عن «الحداثة» و»التجديد» مثار جدل، فكلما طُرحت فكرة جديدة أو ظهرت صيحة عصرية، وُجد من يصفق لها، كما وُجد من يشهر رايات التمسك بالماضي. ولكن حين يصبح التغيير سيفًا مسلّطًا علينا، هل نحن مضطرون حقًا إلى الانصياع له؟ هناك من لا يرى بأسًا في الاحتفاظ باللون القديم للجدران أو برائحة دهن العود التي تصاحب مناسباته السعيدة، وكأنها توقيع الزمن على ملامح ذاكرته. هذا التمسك ليس مجرد عناد، بل هو وفاء لصورة الذات التي ألفها، تلك التي يعيد بناءها كل يوم بتفاصيل صغيرة: فنجان قهوة بسيط، تسريحة شعر لا تتغير، أو حتى فيلم كلاسيكي يعيد مشاهدته رغم مرور عقود على إنتاجه. ولكن، هل يعني هذا أن صاحب هذه العادات «دقة قديمة»؟ ربما نعم، وربما لا. الأمر يتوقف على تعريفنا لهذه الكلمة. «دقة قديمة» في لغة البعض تعني شخصًا عالقًا في الماضي، غير قادر على التحرر منه. لكنها قد تعني أيضًا شخصًا يجد في الماضي ملاذًا للأصالة، ودرعًا يحميه من سطحية المتغيرات العابرة. * في المقابل، قد تُفسَّر هذه النزعة إلى الثبات بوصفها نوعًا من التصالح مع الذات. فأن تكون صادقًا لما تحب، غير متأثر بالتيارات التي تدفع الجميع نحو الاندفاع الأعمى، هو بحد ذاته شجاعة لا يُتقنها إلا قلة. ربما نحن في حاجة إلى وقفة مع النفس: لماذا نغيّر الأشياء من حولنا؟ هل نغيّرها لأننا نحتاج فعلاً إلى التغيير؟ أم لأن الآخرين يفعلون ذلك؟ هل هناك خطأ في البقاء أو الاستمرار؟ أم أن الخطأ يكمن في شعورنا الدائم بأننا مطالبون بمجاراة العالم مهما كان الثمن؟ حسناً.. لا بأس في أن تحمل بعض الألوان القديمة معك، ولا بأس في أن تتشبث بما يجعلك تشعر بأنك أنت، من دون أن تهدر طاقتك في محاولة فهم تصنيف الآخرين لك. كن أصيلًا إن شئت، «كلاسيكيًا» إن رغبت، أو حتى «دقة قديمة» إن أحببت، المهم أن تكون صادقًا مع ما يمنحك الطمأنينة، فلا تكسر شيئًا داخل روحك لمجرد أن العالم يركض نحو جديد لا تعرف إن كان يناسبك. ولعل المسألة ليست في الأصالة أو التحجر، بل في قدرتنا على أن نحيا بما نحب، أن نجد أنفسنا في التفاصيل التي تبهجنا، مهما بدت بسيطة أو قديمة. فما دامت القهوة تبعث الدفء في صباحك، وما دامت الألوان على جدرانك تمنحك السلام، وما دام دهن العود هو رفيق احتفالاتك.. فلِمَ القلق؟

669

| 27 يناير 2025

هل تستسلم؟ أم تُكمل السير؟

هل وجدت نفسك يوماً وحيداً على طريق طويل ممتد لا تعرف أين ينتهي؟ هل شعرت بثقل الوحدة، أو تراجعت عزيمتك حين بدا الظلام كثيفاً من حولك؟ ماذا تفعل عندما تكتشف أن الزاد قليل، والرفاق الذين بدأوا معك قد تفرقوا أو تساقطوا واحداً تلو الآخر؟ والأسوأ، حين يبدو الهدف بعيداً حد السراب؟ هل تستسلم؟ أم تُكمل السير؟ هذه الأسئلة ليست مجرد لحظات ضعف عابرة، بل اختبارات عميقة لقوة الإنسان الداخلية، لقدرته على الصمود، ولإيمانه بوجود نور داخلي قادر على إنارة أشد الدروب وحشة. الطريق الطويل، مهما بدا موحشاً، ليس عقوبةً أو فخاً، بل هو تجربة وجودية تهدف إلى كشف جوهرنا الحقيقي. حين تخطو أولى خطواتك، قد تراودك آمال بأنك ستجد الكثيرين يسيرون معك، يشاركونك الزاد والهدف، يدعمونك في لحظات ضعفك. لكن سرعان ما تدرك أن بعض الطرق لا يمكن لأحد أن يرافقك فيها حتى النهاية. إنها رحلتك وحدك، حيث تختبر ذاتك، وتواجه مخاوفك، وتكتشف عمق قوتك الحقيقية. عندما يطول الطريق تصبح قلة الموارد سبباً للقلق. قد تشعر أحياناً أن ما تملكه لا يكفي، وأنك على وشك السقوط في منتصف الرحلة. لكن تأمل قليلاً، ستجد أن كل ما تحتاجه ليس في حقيبتك، بل في داخلك. الإرادة الصلبة والإيمان بالغاية هما الزاد الذي لا ينفد. القليل من الطعام قد يسد رمقك ليوم واحد، ولكن القناعة بأنك تسير نحو هدف يستحق العناء تمدك بالطاقة لتواصل المسير لأيام، وربما لأسابيع. إن ضميرك الحي هو زادك الحقيقي، يذكرك بأنك لا تسير عبثاً، وأن كل خطوة تُقربك مما تصبو إليه. ثم يأتي الليل، وتبدأ الظلمة بإلقاء ستارها الثقيل على الطريق. الظلام ليس فقط ما تراه بعينيك، بل ما تشعر به في قلبك حين يغيب الأمل. إنه تلك اللحظات التي تخاطب فيها نفسك: هل أخطأت الطريق؟ هل يستحق الأمر كل هذا العناء؟ لكن هنا، في أعمق لحظات الشك، تظهر المعجزات الصغيرة التي تجدد الإيمان. قد يكون شعاع ضوء خافت في الأفق، قد تكون ذكرى عابرة أو فكرة جميلة توقظك من استسلامك. هذا الظلام ليس عدواً، بل هو معلم يدربك على الاعتماد على بصيرتك الداخلية، وعلى الإيمان بأن النور بداخلك أقوى من أي عتمة تحيط بك. أما الرفاق الذين تفرقوا على طول الطريق، فلا تحزن على غيابهم. كل من رافقك في مرحلة كان جزءاً من الرحلة، جاء ليعلمك درساً، أو ليمنحك دفعة نحو الأمام. ربما كانوا يدركون أن طريقك ليس طريقهم، أو أن قواهم خارت قبل الوصول إلى الغاية. حين يتفرق الرفاق، لا يعني ذلك أنك أصبحت وحيداً. ذكرياتهم معك، وكلماتهم التي تركت أثراً في نفسك، ودروسهم التي صقلت شخصيتك ستظل رفيقك في اللحظات الصعبة. الوحدة على الطريق الموحش ليست بالضرورة نقمة، بل قد تكون فرصة لإعادة ترتيب أفكارك، وللتأمل بوضوح، ثم لإيجاد صوتك الخاص وسط كل هذا الصخب. وحتى إذا بدا الهدف بعيداً، وكأنه يتلاشى في الأفق، تذكر أن كل خطوة تخطوها تقربك منه. فالمسافة ليست عدوك، بل هي ما يمنح الرحلة قيمتها. والطريق الطويل يعلمك أن النجاح ليس في سرعة الوصول، بل في ثباتك وإصرارك على المضي قدماً، حتى وإن بدا كل شيء من حولك يدعوك للتوقف. ومن يصبر على المشقة يجد في النهاية أن الهدف، مهما بدا مستحيلاً، كان ينتظر تلك الخطوة الأخيرة. وفي ختام الرحلة، عندما تنظر إلى الوراء، لن تتذكر حجم المعاناة، بل قوة الإرادة التي دفعتك لتجاوزها. عندها لن يكون الطريق الطويل مجرد ذكريات ألم، بل سيصبح قصة نصر، وشهادة على أن المرء قادر على الوقوف في وجه أشد الصعاب، طالما أن ضميره مستيقظ وبداخله نور يرشده. لا تخف من الطريق، ولا تخش الوحدة أو الظلام. كن واثقاً أن كل ما تحتاجه بداخلك، وأن الرحلة التي تبدو شاقة اليوم ستصنع منك غداً إنساناً أقوى، وأقرب من الغاية التي خلق من أجلها.

885

| 20 يناير 2025

ويسألونك عن الحنين

هو تلك اليد الخفية التي تمتد من أعماق القلب لتطرق أبواب الذاكرة، فيفيض منها عطر الأماكن التي غادرناها، وأصوات الأحبة الذين رحلوا، ولحظات توقفت عقارب الزمن عندها لتبقى حية في وجداننا. هو الشعور الذي يشبه غناء الريح في ليالي الشتاء، أو ارتجاف الضوء في المساءات القديمة، حيث يسكن الوجع والحب جنباً إلى جنب، فيُولد منهما شوق نقي لا يعرف الخيانة. هو البكاء الصامت للروح وهي تحاول أن تعود إلى ما لا يُعاد، وأن تلمس ما أصبح سراباً، فتكتفي بالذكريات كقصيدة لا تنتهي. هو ارتعاشة القلب كلما همس في أذنك صوت ماض بعيد، هو ذلك الإحساس الذي يشبه الوقوف على حافة حلم قديم، تخشى أن تستيقظه فتتلاشى ألوانه. هو الرسالة التي لا تصل، والرسام الذي يرسم تفاصيل وجه غائب بحبر الدموع، والنداء الذي تسمعه حين يسكن الليل ويصمت العالم، فتُصغي لذكرياتك وهي تعزف ألحانها على وتر الزمن. هو وطن صغير تحمله في داخلك، مهما ابتعدت عن أرضه، يظل ينبض فيك كقلب إضافي، يشهد أنك عشت هناك، وأن جزءاً منك بقي حيث كنت، يرفض أن يكبر، يرفض أن ينساك. هو عناق الزمن الذي لا تراه، لكنه يحتضنك بقوة في لحظة ضعف، يذكّرك بأن الماضي ليس مجرد وقت مضى، بل هو قصة محفورة في أعماقك، بكل تفاصيلها، بأفراحها وأحزانها. هو ذلك الوجع الحلو الذي يعلمك أن الحب لا يموت، بل يتخفى في ثنايا الذكريات، في زقزقة عصافير الصباح، في رائحة الخبز الذي صنعته يد أمك، في ضحكة صديق رحل دون وداع. هو مرآة خفية ترى فيها نفسك حين كنت أكثر براءة، أكثر اندفاعاً، أكثر صدقاً. وفي كل مرة تنظر إلى تلك المرآة، تشعر بالدفء، حتى لو امتزج بدمعة. هو الحكاية التي ترويها النجوم للسماء حين تسهر الليل وحيدة، هو أغنية بعيدة تسمعها من نوافذ القلب الموصدة، فتفتحها على مصراعيها لتدخل الريح محملة برائحة المطر الأول وأوراق الخريف التي تساقطت منذ زمن. إنه يشبه النظر إلى صور قديمة؛ حيث الوجوه مألوفة لكن الزمن تغير، وكأنك تحاور نسخة منك نسيتها في ركن بعيد من الحياة. هو المسافة بينك وبين ظلك حين تحاول اللحاق بخطواتك الماضية، هو ذلك السؤال الذي يطاردك: «كيف كنا؟ وكيف أصبحت الأيام؟»، فهو شعور يشبه الغربة في مكان مألوف، لأن قلبك يسافر دائماً إلى أماكنه الأولى. هو وجع ناعم لا يصرخ، لكنه يهمس في كل مرة تشتاق فيها إلى دفء بيت قديم، أو إلى حضن جدتك الذي كان يحتضن العالم كله، أو إلى شارع صغير كنت تعرف كل حجارة رصيفه. هو حديث الروح مع الزمن، حيث الكلمات ليست كافية، فيتحول الشعور إلى طيف يزورك في أحلامك، يربّت على كتفك ويقول: «ما زلت هنا، ولن أتركك». هو قصيدة لم تكتمل، أبياتها عالقة بين حبر الماضي وبياض الحاضر. هو المطر الذي يهطل في قلبك فجأة، دون موعد، ليغسل جفاف الروح، لكنه يترك خلفه بركاً من الذكريات، تنعكس فيها وجوه وأماكن وأوقات لن تتكرر. هو ذلك الضوء الخافت الذي ينبعث من نافذة الذاكرة، يقودك نحو دروب قديمة تعرفها جيداً، لكنها الآن مهجورة، إلا من صدى خطواتك وأنت تبحث عن نفسك هناك. هو شعورك حين تلمس شيئاً بسيطاً ككتاب قديم أو قطعة قماش، فيفيض من بين أصابعك بحر من اللحظات التي لم تكن تدرك قيمتها حين عاشتها. هو طفل صغير بداخلك، لا يكبر مهما مرت السنين، يركض خلف الطفولة، يلاحق الفراشات، يجلس على درج بيتك القديم منتظراً مغيب الشمس. هو صديق خفي لا يتركك، يذكرك أن الحياة ليست مجرد حاضر ومستقبل، بل هي أيضاً ماض يسكنك، يهمس في أذنك، ويقول لك إن كل ما مضى، بكل جماله وألمه، كان جزءاً من حكايتك. وكلما حاولت الهروب منه، يعود بقوة، كالريح التي تعبث بأوراق الشجر، ليوقظ فيك الحنين ليس فقط لما كان، بل لمن كنت، في تلك اللحظات التي لا تتكرر إلا في أحلامك. هو ليس مجرد إحساس عابر أو ذكرى تتهادى في زوايا الروح، بل هو الحياة ذاتها وهي تلتفت إلى الوراء، تبتسم بحب، وتبكي بصمت. إنه الخيط الرفيع الذي يربط حاضرنا بماضينا، يجعلنا أكثر إنسانية، وأكثر وفاءً لما كنا وما أحببنا. هو الزهرة التي تنمو في حقل الذكريات، رغم قسوة الزمن، تنشر عبيرها كلما اشتدت بنا الوحشة أو أرهقنا الركض في طرقات المستقبل. في الحنين، نجد أنفسنا من جديد، ونكتشف أن ما مضى لم يرحل حقاً، بل يعيش فينا، ينبض في أعماقنا، ويجعلنا نتذكر أن أعظم جمال الحياة يكمن في تفاصيلها البسيطة التي لم نلتفت إليها إلا بعد أن أصبحت مجرد ذكرى. الحنين ليس ضعفاً كما يظنه البعض، بل قوة الروح وهي ترفض أن تنكر جمال ما كان. إنه بوصلة القلب التي تشير دائماً إلى البدايات الأولى، إلى الجذور، إلى اللحظات التي شكلتك وجعلتك كما أنت.

696

| 13 يناير 2025

alsharq
شاطئ الوكرة

في الساعات المبكرة من صباح السبت، ومع أول...

4212

| 05 ديسمبر 2025

alsharq
«أنا الذي حضر العربي إلى ملعبي»

-«المتنبي» حاضراً في افتتاح «كأس العرب» - «أبو...

1848

| 07 ديسمبر 2025

alsharq
في رحيل الشيخ محمد بن علي العقلا

فجعت محافل العلم والتعليم في بلاد الحرمين الشريفين...

1761

| 04 ديسمبر 2025

alsharq
عصا موسى التي معك

في كل يوم، ينظر الإنسان إلى ما ينقصه...

1611

| 02 ديسمبر 2025

alsharq
الفدائي يشعل البطولة

لم يدخل المنتخب الفلسطيني الميدان كفريق عابر، بل...

1422

| 06 ديسمبر 2025

alsharq
مباراة لا تقبل القسمة على اثنين

تتجه أنظار الجماهير القطرية والعربية إلى استاد خليفة...

1158

| 04 ديسمبر 2025

alsharq
ثلاث مواجهات من العيار الثقيل

مواجهات مثيرة تنطلق اليوم ضمن منافسات كأس العرب،...

1149

| 03 ديسمبر 2025

alsharq
الدوحة.. عاصمة الرياضة العربية تكتب تاريخاً جديداً

لم تعد الدوحة مجرد مدينة عربية عادية، بل...

903

| 03 ديسمبر 2025

alsharq
درس صغير جعلني أفضل

أحياناً نمر بأسابيع تبدو عادية جداً، نكرر فيها...

657

| 05 ديسمبر 2025

alsharq
خطابات التغيّر المناخي واستهداف الثروات

تشهد الساحة الدولية اليوم تصاعدًا لافتًا في الخطابات...

621

| 04 ديسمبر 2025

alsharq
العرب يضيئون سماء الدوحة

شهدت قطر مع بداية شهر ديسمبر الحالي 2025...

549

| 07 ديسمبر 2025

alsharq
المقاومة برصاص القلم

ليس بكاتب، إنما مقاوم فلسطيني حر، احترف تصويب...

495

| 03 ديسمبر 2025

أخبار محلية