رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

Al-sharq

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

الشرق

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

كالغضب الذي لا يهدأ

ليس هناك ظلمٌ أبشع من أن تُمحى الفروق بين الجريمة والبراءة، بين القسوة والضعف، بين اليد التي تقتل واليد التي تنزف. لكن هناك من يتفنن في هذا العبث، من يُزيّن الحيادَ وكأنه فضيلة، من يُلبس العدالة قناعًا زائفًا يجعلها تقفُ مترددةً بين الجلاد والضحية، وكأنهما طرفان متساويان في الجريمة. أن تساوي بين الجلاد والضحية، بحجة العدالة، هو أن تنزع عن الجلاد وحشيته، وأن تُحمّل الضحية ذنبًا لم تقترفه، كأنك تُعيد صياغة القصة بحيث يبدو الألم خيارًا، وكأنَّ الجريمة وجهة نظر. هو أن ترى قاتلًا وسكينًا تقطرُ دمًا، وترى جثةً هامدة، ثم تقرر أن تبقى محايدًا، لأن “لكل طرفٍ روايته”، وكأنَّ الحقَّ كذبةٌ لا يُمكن أن تُرى بالعين المجردة. لكن ماذا يُمكن أن يكون أبشع من هذا الحياد؟ أن تُطالب الضحية بالصمت، أن تُنكر عليها حقها في الألم، أن تُطالبها بأن “تفهم” دوافع الجلاد، كأنَّ ذلك يُبرر شيئًا. أن تُقالَ لها عباراتٌ جوفاء من نوع: “لا أحد بريء بالكامل”، أو “الأمر ليس بتلك البساطة”، أو “الجميع أخطأوا”، وكأنَّ محاولة الدفاع عن النفس تُساوي الضربة الأولى، وكأنَّ القهر يُصبح مبررًا حين يُصاغ بلغةٍ دبلوماسيةٍ أنيقة. في عالمنا الذي يزداد قسوةً يومًا بعد يوم، أصبح الحيادُ ملاذًا لمن لا يُريد أن يتحملَ مسؤولية موقف، لمن يُفضّل أن يُلقي على الجميع لونًا رماديًا باهتًا، حتى لا يتورط في الاعتراف بأنَّ هناك ظالمًا ومظلومًا، قاتلًا وقتيلًا، جلادًا وضحية. لكن الحقيقة لا تحتاج إلى تجميل، والدماء لا تحتاج إلى من يُفسرها، والوجع ليسَ وجهة نظرٍ قابلة للنقاش. أبشعُ ما يُمكن أن يحدث هو أن يُطلب من الضحية أن تُسامح، أن تتجاوز، أن تتنازل عن صرختها لأنَّ العالمَ يُحبُّ النهايات السعيدة، لأنَّ الحقيقةَ مزعجة، ولأنَّ الجلاد يُريد أن يبدأ من جديد وكأنَّ شيئًا لم يكن. لكن الضحية لا تُشفى بالنسيان، ولا يُمكنها أن تُنكر ما تعرّضت له لمجرد أنَّ الآخرين لا يُريدون أن يشعروا بالذنب أو الانزعاج. حين يُساوى بين الجلاد والضحية، لا يُصبح الجلادُ أكثر رحمة، بل تُصبح الجريمة أكثر قبولًا. يُصبح العنف أمرًا معتادًا، يُصبح الخذلانُ واجبًا، يُصبح الصمتُ قانونًا، ويُصبح على كل من يرفض هذا الظلم أن يتحمل تهمة التشدد أو المبالغة. يُطلب منه أن يكون منطقيًا، أن يُراعي مشاعر الجميع، أن لا يُسبب إزعاجًا، حتى لو كان الثمنُ أن يُنكر ما يعرفه تمام المعرفة. لكن الحقيقة لا تموتُ لمجرد أنَّ أحدهم قررَ أن يُلغيها، والعدالةُ ليست قطعة قماشٍ يُمكن أن تُقصُّ بحيث تُناسب الجميع. هناك حقائق لا تحتاج إلى تفسير، هناك وجوهٌ مُلطخةٌ بالدماء لا تحتاج إلى من يُنظّف صورتها، هناك صرخاتٌ لا يُمكن إسكاتها بحجة الموضوعية. والزمنُ قد يُغير كثيرًا من الأشياء، قد يطمسُ بعض الجروح، وقد يُغطي بعضها الآخر بطبقاتٍ من النسيان، لكن شيئًا واحدًا سيظلُّ ثابتًا: الجريمةُ لا تُصبحُ أقلَّ جرمًا لأنَّ أحدهم قررَ أن يتجاهلها، والضحية لا تفقدُ حقها لأنَّ العالم ملَّ من سماع قصتها. الحقيقةُ لا تحتاجُ إلى وسيطٍ يُعيدُ ترتيبها بحيث تُناسب الجميع، هي كما هي، واضحةٌ كالشمس، دامغةٌ كالجراح، خالدةٌ كالغضب الذي لا يهدأ.

450

| 10 فبراير 2025

أم على قلوب أقفالها؟!

تساؤل قرآني مهيب، أشبه بضوء خاطف يشق العتمة، يعري العقول من تكلسها، ويهز القلوب من سباتها؛ أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها؟ إنه ليس سؤالًا عابرًا، بل رجفة توقظ الوعي، صرخة مدوية في وجه الغفلة، واستفهام يقتحم الأذهان بحتمية الجواب. كيف لا يتدبرون؟ وكيف للقلوب أن تُغلق على نفسها كأنها صناديق مهجورة أُحكمت بأقفال لا مفتاح لها؟ والتدبر ليس مجرد قراءة سطحية عابرة، بل غوصٌ عميق في بحر المعاني، تفاعل حيّ مع الكلمات التي تنبض بالحكمة، واستجلاء للرسائل المكنونة خلف كل حرف. هو أن تجعل القرآن يتغلغل في شرايين وعيك، أن تسمع صوته وهو يخاطبك مباشرة، أن تلمس النور المتدفق من آياته فتفتح له منافذ الإدراك، فلا يكون مجرد كتاب يوضع على الرفوف، بل رفيق درب، نبض حياة، مرآة تعكس حقيقتك، ونداء لا ينقطع. ولكن ماذا لو تحجّرت القلوب وأُقفلت؟ أيُعقل أن يكون القلب، هذا العضو الذي يضخ الحياة، ميتًا رغم نبضه؟ نعم، فالقلوب لا تموت دفعة واحدة، بل تُغلق تدريجيًا، قفلًا بعد قفل، كلما أدار الإنسان ظهره للحق، كلما تعامى عن الحكمة، كلما استسلم لعادات لا تلامس روحه، كلما ارتضى أن يكون متلقيًا سلبيًا، يمر على الكلمات دون أن تهز وجدانه أو تثير تساؤلاته. كم من قلوب صارت أشبه بصناديق موصدة؟ كم من عقول تمرّ على القرآن كما تمرّ الريح على الصخور، لا تهزها ولا تترك فيها أثرًا؟ نقرأ، لكن لا نتدبر. نحفظ، لكن لا نفهم. نردد، لكن لا نعيش الكلمات كأنها نبضٌ في عروقنا. وربما لهذا السبب، لم تعد الآيات تترك فينا ذات الأثر الذي تركته في قلوب آخرين، لأنها تصطدم بأقفال صنعتها العادة، والغفلة، والانشغال بما هو عابر عن ذاك الذي لا يزول. والأقفال ليست دائمًا واضحة أو محسوسة، أحيانًا تكون على هيئة قناعات جاهزة لا تقبل المراجعة، أو انشغالٍ مفرط بالدنيا حتى تُصبح الروح صمّاء أمام النداء الإلهي. أحيانًا تكون خوفًا من التغيير، أو هروبًا من مواجهة الحقيقة التي قد تهز أركان ما اعتدناه. وربما كانت قسوةً أوجدتها التجارب، فصار القلب متوجسًا، لا يسمح للنور بأن يخترقه خوفًا من أن يوجعه. لكن، حتى القلوب الموصدة ليست محكومة بالموت الأبدي. فالمفتاح دائمًا موجود لمن يبحث عنه. لحظة صدق، تأمل حقيقي، رغبة في الفهم، قراءة بعيون جديدة، كلها كفيلة بأن تكسر القفل الأول. وما إن يُكسر قفل، حتى يتبعه الآخر، كأنما القلب يتنفس للمرة الأولى بعد اختناق طويل. وهكذا هي القلوب، قد تُغلق، لكنها لا تفقد قدرتها على الانفتاح ما دامت الحياة فيها. وأيّ قلب قرر أن يتدبر، أن يصغي، أن يسائل، هو قلب كُتب له أن ينبض من جديد. فالأمر ليس استسلامًا لواقع، بل اختيار: أن تبقى في سجن الأقفال، أو أن تبحث عن المفتاح. والقرآن، لمن أراد، مفتاحٌ أبدي، لكنه لا يُفتح إلا بيد من يريد أن يفتحه حقًا. أفلا يتدبرون القرآن؟ سؤال لا يُطرح للآخرين فقط، بل لنا جميعًا. هل نقرأ ونحن حاضرون بقلوبنا، أم نمر على الآيات كأنها مجرد أصوات عابرة؟ هل نسمح لها بأن تسكن أعماقنا، أم أننا نضع بينها وبين أرواحنا جدرانًا؟ هل نُعطيها فرصة أن تخاطبنا، أن تغيّرنا، أن تكسر ما تراكم من أقفال على قلوبنا؟ كل إجابة عن هذا السؤال تحدد مصير القلب: إمّا أن يُغلَق أكثر، أو أن يشرع بابه للنور، فيستحيل نورًا.

666

| 03 فبراير 2025

لم القلق؟

قرأت قبل أيام في منصة إكس تغريدة للكاتبة سلمى بوخمسين أثارت مشاعري وكأنها كانت موجهة لي في مفصل من مفاصل حياتي مع بداية هذا العام الجديد. كتبت سلمى في تغريدتها اللافتة: «لم أصبغ شعري منذ ١٢ عامًا ولم أغيّر طريقة تصفيفه من عشرة. لم أجرب الفيلر أو التاتو أو أي صرعة تجميل جديدة. لا أزال أكتحل بالإثمد كل صباح. انتقلت من منزل إلى آخر فصبغت الجدران بذات اللون السماوي الهادئ. زرت مقاهي في أكثر قارات العالم وتبقى قهوتي المفضلة قهوة الكادحين في مقهى المشفى حيث أعمل. ‏مهما تلد السينما لا أعترف بغير عمر الشريف وفاتن. مهما تكن المناسبة أكتفي بدهن العود، ‏وعلى العديد من الأصعدة لا أزال كما أنا قبل عام، قبل خمسة أعوام، قبل عشرة أعوام. ‏لا أدري هل هذه أصالة أم تحجر؟ ‏هل أصبحت «دقة قديمة»؟ أم أني كلاسيك؟ ‏هل أنا حبيسة خيارات منتهية الصلاحية؟ أم صادقة لما أحب غير مكترثة بكل التيارات حولي؟! أصالة الحنين أم تحجُّر الذات؟».. * انتهت التغريدة، وابتدأت محاولاتي للإجابة على أسئلة لم نكن موجهة لي لكنني شعرت أنني معنية بها أنا أيضا! هناك أشياء تنطبع في الروح كالحبر على ورق لا تمحوه السنوات ولا تغيّره الفصول. كأننا نحمل في دواخلنا ماضٍ صغير نلجأ إليه حين تشتد علينا عواصف الحاضر، أو حين تغرينا تيارات جديدة لا تبدو متوافقة مع إيقاع أرواحنا. لكن، هل التمسك بالعادات والأشياء القديمة هو تعبير عن الأصالة، أم أنه هروب من مواجهة التحوّل الذي لا يرحم؟ لطالما كان الحديث عن «الحداثة» و»التجديد» مثار جدل، فكلما طُرحت فكرة جديدة أو ظهرت صيحة عصرية، وُجد من يصفق لها، كما وُجد من يشهر رايات التمسك بالماضي. ولكن حين يصبح التغيير سيفًا مسلّطًا علينا، هل نحن مضطرون حقًا إلى الانصياع له؟ هناك من لا يرى بأسًا في الاحتفاظ باللون القديم للجدران أو برائحة دهن العود التي تصاحب مناسباته السعيدة، وكأنها توقيع الزمن على ملامح ذاكرته. هذا التمسك ليس مجرد عناد، بل هو وفاء لصورة الذات التي ألفها، تلك التي يعيد بناءها كل يوم بتفاصيل صغيرة: فنجان قهوة بسيط، تسريحة شعر لا تتغير، أو حتى فيلم كلاسيكي يعيد مشاهدته رغم مرور عقود على إنتاجه. ولكن، هل يعني هذا أن صاحب هذه العادات «دقة قديمة»؟ ربما نعم، وربما لا. الأمر يتوقف على تعريفنا لهذه الكلمة. «دقة قديمة» في لغة البعض تعني شخصًا عالقًا في الماضي، غير قادر على التحرر منه. لكنها قد تعني أيضًا شخصًا يجد في الماضي ملاذًا للأصالة، ودرعًا يحميه من سطحية المتغيرات العابرة. * في المقابل، قد تُفسَّر هذه النزعة إلى الثبات بوصفها نوعًا من التصالح مع الذات. فأن تكون صادقًا لما تحب، غير متأثر بالتيارات التي تدفع الجميع نحو الاندفاع الأعمى، هو بحد ذاته شجاعة لا يُتقنها إلا قلة. ربما نحن في حاجة إلى وقفة مع النفس: لماذا نغيّر الأشياء من حولنا؟ هل نغيّرها لأننا نحتاج فعلاً إلى التغيير؟ أم لأن الآخرين يفعلون ذلك؟ هل هناك خطأ في البقاء أو الاستمرار؟ أم أن الخطأ يكمن في شعورنا الدائم بأننا مطالبون بمجاراة العالم مهما كان الثمن؟ حسناً.. لا بأس في أن تحمل بعض الألوان القديمة معك، ولا بأس في أن تتشبث بما يجعلك تشعر بأنك أنت، من دون أن تهدر طاقتك في محاولة فهم تصنيف الآخرين لك. كن أصيلًا إن شئت، «كلاسيكيًا» إن رغبت، أو حتى «دقة قديمة» إن أحببت، المهم أن تكون صادقًا مع ما يمنحك الطمأنينة، فلا تكسر شيئًا داخل روحك لمجرد أن العالم يركض نحو جديد لا تعرف إن كان يناسبك. ولعل المسألة ليست في الأصالة أو التحجر، بل في قدرتنا على أن نحيا بما نحب، أن نجد أنفسنا في التفاصيل التي تبهجنا، مهما بدت بسيطة أو قديمة. فما دامت القهوة تبعث الدفء في صباحك، وما دامت الألوان على جدرانك تمنحك السلام، وما دام دهن العود هو رفيق احتفالاتك.. فلِمَ القلق؟

624

| 27 يناير 2025

هل تستسلم؟ أم تُكمل السير؟

هل وجدت نفسك يوماً وحيداً على طريق طويل ممتد لا تعرف أين ينتهي؟ هل شعرت بثقل الوحدة، أو تراجعت عزيمتك حين بدا الظلام كثيفاً من حولك؟ ماذا تفعل عندما تكتشف أن الزاد قليل، والرفاق الذين بدأوا معك قد تفرقوا أو تساقطوا واحداً تلو الآخر؟ والأسوأ، حين يبدو الهدف بعيداً حد السراب؟ هل تستسلم؟ أم تُكمل السير؟ هذه الأسئلة ليست مجرد لحظات ضعف عابرة، بل اختبارات عميقة لقوة الإنسان الداخلية، لقدرته على الصمود، ولإيمانه بوجود نور داخلي قادر على إنارة أشد الدروب وحشة. الطريق الطويل، مهما بدا موحشاً، ليس عقوبةً أو فخاً، بل هو تجربة وجودية تهدف إلى كشف جوهرنا الحقيقي. حين تخطو أولى خطواتك، قد تراودك آمال بأنك ستجد الكثيرين يسيرون معك، يشاركونك الزاد والهدف، يدعمونك في لحظات ضعفك. لكن سرعان ما تدرك أن بعض الطرق لا يمكن لأحد أن يرافقك فيها حتى النهاية. إنها رحلتك وحدك، حيث تختبر ذاتك، وتواجه مخاوفك، وتكتشف عمق قوتك الحقيقية. عندما يطول الطريق تصبح قلة الموارد سبباً للقلق. قد تشعر أحياناً أن ما تملكه لا يكفي، وأنك على وشك السقوط في منتصف الرحلة. لكن تأمل قليلاً، ستجد أن كل ما تحتاجه ليس في حقيبتك، بل في داخلك. الإرادة الصلبة والإيمان بالغاية هما الزاد الذي لا ينفد. القليل من الطعام قد يسد رمقك ليوم واحد، ولكن القناعة بأنك تسير نحو هدف يستحق العناء تمدك بالطاقة لتواصل المسير لأيام، وربما لأسابيع. إن ضميرك الحي هو زادك الحقيقي، يذكرك بأنك لا تسير عبثاً، وأن كل خطوة تُقربك مما تصبو إليه. ثم يأتي الليل، وتبدأ الظلمة بإلقاء ستارها الثقيل على الطريق. الظلام ليس فقط ما تراه بعينيك، بل ما تشعر به في قلبك حين يغيب الأمل. إنه تلك اللحظات التي تخاطب فيها نفسك: هل أخطأت الطريق؟ هل يستحق الأمر كل هذا العناء؟ لكن هنا، في أعمق لحظات الشك، تظهر المعجزات الصغيرة التي تجدد الإيمان. قد يكون شعاع ضوء خافت في الأفق، قد تكون ذكرى عابرة أو فكرة جميلة توقظك من استسلامك. هذا الظلام ليس عدواً، بل هو معلم يدربك على الاعتماد على بصيرتك الداخلية، وعلى الإيمان بأن النور بداخلك أقوى من أي عتمة تحيط بك. أما الرفاق الذين تفرقوا على طول الطريق، فلا تحزن على غيابهم. كل من رافقك في مرحلة كان جزءاً من الرحلة، جاء ليعلمك درساً، أو ليمنحك دفعة نحو الأمام. ربما كانوا يدركون أن طريقك ليس طريقهم، أو أن قواهم خارت قبل الوصول إلى الغاية. حين يتفرق الرفاق، لا يعني ذلك أنك أصبحت وحيداً. ذكرياتهم معك، وكلماتهم التي تركت أثراً في نفسك، ودروسهم التي صقلت شخصيتك ستظل رفيقك في اللحظات الصعبة. الوحدة على الطريق الموحش ليست بالضرورة نقمة، بل قد تكون فرصة لإعادة ترتيب أفكارك، وللتأمل بوضوح، ثم لإيجاد صوتك الخاص وسط كل هذا الصخب. وحتى إذا بدا الهدف بعيداً، وكأنه يتلاشى في الأفق، تذكر أن كل خطوة تخطوها تقربك منه. فالمسافة ليست عدوك، بل هي ما يمنح الرحلة قيمتها. والطريق الطويل يعلمك أن النجاح ليس في سرعة الوصول، بل في ثباتك وإصرارك على المضي قدماً، حتى وإن بدا كل شيء من حولك يدعوك للتوقف. ومن يصبر على المشقة يجد في النهاية أن الهدف، مهما بدا مستحيلاً، كان ينتظر تلك الخطوة الأخيرة. وفي ختام الرحلة، عندما تنظر إلى الوراء، لن تتذكر حجم المعاناة، بل قوة الإرادة التي دفعتك لتجاوزها. عندها لن يكون الطريق الطويل مجرد ذكريات ألم، بل سيصبح قصة نصر، وشهادة على أن المرء قادر على الوقوف في وجه أشد الصعاب، طالما أن ضميره مستيقظ وبداخله نور يرشده. لا تخف من الطريق، ولا تخش الوحدة أو الظلام. كن واثقاً أن كل ما تحتاجه بداخلك، وأن الرحلة التي تبدو شاقة اليوم ستصنع منك غداً إنساناً أقوى، وأقرب من الغاية التي خلق من أجلها.

807

| 20 يناير 2025

ويسألونك عن الحنين

هو تلك اليد الخفية التي تمتد من أعماق القلب لتطرق أبواب الذاكرة، فيفيض منها عطر الأماكن التي غادرناها، وأصوات الأحبة الذين رحلوا، ولحظات توقفت عقارب الزمن عندها لتبقى حية في وجداننا. هو الشعور الذي يشبه غناء الريح في ليالي الشتاء، أو ارتجاف الضوء في المساءات القديمة، حيث يسكن الوجع والحب جنباً إلى جنب، فيُولد منهما شوق نقي لا يعرف الخيانة. هو البكاء الصامت للروح وهي تحاول أن تعود إلى ما لا يُعاد، وأن تلمس ما أصبح سراباً، فتكتفي بالذكريات كقصيدة لا تنتهي. هو ارتعاشة القلب كلما همس في أذنك صوت ماض بعيد، هو ذلك الإحساس الذي يشبه الوقوف على حافة حلم قديم، تخشى أن تستيقظه فتتلاشى ألوانه. هو الرسالة التي لا تصل، والرسام الذي يرسم تفاصيل وجه غائب بحبر الدموع، والنداء الذي تسمعه حين يسكن الليل ويصمت العالم، فتُصغي لذكرياتك وهي تعزف ألحانها على وتر الزمن. هو وطن صغير تحمله في داخلك، مهما ابتعدت عن أرضه، يظل ينبض فيك كقلب إضافي، يشهد أنك عشت هناك، وأن جزءاً منك بقي حيث كنت، يرفض أن يكبر، يرفض أن ينساك. هو عناق الزمن الذي لا تراه، لكنه يحتضنك بقوة في لحظة ضعف، يذكّرك بأن الماضي ليس مجرد وقت مضى، بل هو قصة محفورة في أعماقك، بكل تفاصيلها، بأفراحها وأحزانها. هو ذلك الوجع الحلو الذي يعلمك أن الحب لا يموت، بل يتخفى في ثنايا الذكريات، في زقزقة عصافير الصباح، في رائحة الخبز الذي صنعته يد أمك، في ضحكة صديق رحل دون وداع. هو مرآة خفية ترى فيها نفسك حين كنت أكثر براءة، أكثر اندفاعاً، أكثر صدقاً. وفي كل مرة تنظر إلى تلك المرآة، تشعر بالدفء، حتى لو امتزج بدمعة. هو الحكاية التي ترويها النجوم للسماء حين تسهر الليل وحيدة، هو أغنية بعيدة تسمعها من نوافذ القلب الموصدة، فتفتحها على مصراعيها لتدخل الريح محملة برائحة المطر الأول وأوراق الخريف التي تساقطت منذ زمن. إنه يشبه النظر إلى صور قديمة؛ حيث الوجوه مألوفة لكن الزمن تغير، وكأنك تحاور نسخة منك نسيتها في ركن بعيد من الحياة. هو المسافة بينك وبين ظلك حين تحاول اللحاق بخطواتك الماضية، هو ذلك السؤال الذي يطاردك: «كيف كنا؟ وكيف أصبحت الأيام؟»، فهو شعور يشبه الغربة في مكان مألوف، لأن قلبك يسافر دائماً إلى أماكنه الأولى. هو وجع ناعم لا يصرخ، لكنه يهمس في كل مرة تشتاق فيها إلى دفء بيت قديم، أو إلى حضن جدتك الذي كان يحتضن العالم كله، أو إلى شارع صغير كنت تعرف كل حجارة رصيفه. هو حديث الروح مع الزمن، حيث الكلمات ليست كافية، فيتحول الشعور إلى طيف يزورك في أحلامك، يربّت على كتفك ويقول: «ما زلت هنا، ولن أتركك». هو قصيدة لم تكتمل، أبياتها عالقة بين حبر الماضي وبياض الحاضر. هو المطر الذي يهطل في قلبك فجأة، دون موعد، ليغسل جفاف الروح، لكنه يترك خلفه بركاً من الذكريات، تنعكس فيها وجوه وأماكن وأوقات لن تتكرر. هو ذلك الضوء الخافت الذي ينبعث من نافذة الذاكرة، يقودك نحو دروب قديمة تعرفها جيداً، لكنها الآن مهجورة، إلا من صدى خطواتك وأنت تبحث عن نفسك هناك. هو شعورك حين تلمس شيئاً بسيطاً ككتاب قديم أو قطعة قماش، فيفيض من بين أصابعك بحر من اللحظات التي لم تكن تدرك قيمتها حين عاشتها. هو طفل صغير بداخلك، لا يكبر مهما مرت السنين، يركض خلف الطفولة، يلاحق الفراشات، يجلس على درج بيتك القديم منتظراً مغيب الشمس. هو صديق خفي لا يتركك، يذكرك أن الحياة ليست مجرد حاضر ومستقبل، بل هي أيضاً ماض يسكنك، يهمس في أذنك، ويقول لك إن كل ما مضى، بكل جماله وألمه، كان جزءاً من حكايتك. وكلما حاولت الهروب منه، يعود بقوة، كالريح التي تعبث بأوراق الشجر، ليوقظ فيك الحنين ليس فقط لما كان، بل لمن كنت، في تلك اللحظات التي لا تتكرر إلا في أحلامك. هو ليس مجرد إحساس عابر أو ذكرى تتهادى في زوايا الروح، بل هو الحياة ذاتها وهي تلتفت إلى الوراء، تبتسم بحب، وتبكي بصمت. إنه الخيط الرفيع الذي يربط حاضرنا بماضينا، يجعلنا أكثر إنسانية، وأكثر وفاءً لما كنا وما أحببنا. هو الزهرة التي تنمو في حقل الذكريات، رغم قسوة الزمن، تنشر عبيرها كلما اشتدت بنا الوحشة أو أرهقنا الركض في طرقات المستقبل. في الحنين، نجد أنفسنا من جديد، ونكتشف أن ما مضى لم يرحل حقاً، بل يعيش فينا، ينبض في أعماقنا، ويجعلنا نتذكر أن أعظم جمال الحياة يكمن في تفاصيلها البسيطة التي لم نلتفت إليها إلا بعد أن أصبحت مجرد ذكرى. الحنين ليس ضعفاً كما يظنه البعض، بل قوة الروح وهي ترفض أن تنكر جمال ما كان. إنه بوصلة القلب التي تشير دائماً إلى البدايات الأولى، إلى الجذور، إلى اللحظات التي شكلتك وجعلتك كما أنت.

603

| 13 يناير 2025

الكتابة اليومية: صناعة الإبداع بدلاً من انتظاره

الكتابة ليست مجرد موهبة فطرية تُمنح لبعض المحظوظين؛ إنها أيضاً مهارة تُصقل بالممارسة اليومية والانضباط. ارتبطت الكتابة في أذهان الكثيرين بفترات الإلهام ودفعات الحماسة المفاجئة، وكأنها زهرة نادرة تنتظر الظروف المثالية لتتفتح. لكنني، وبعد أكثر من ثلاثة عقود من الكتابة اليومية بمختلف أشكالها الصحفية والإبداعية والوظيفية، أدركت أن الإلهام الحقيقي لا يأتي منتظرًا على عتبة المزاج الجيد، بل يُخلق في خضم العمل نفسه. كل يوم هو فرصة جديدة للكتابة، حتى عندما يبدو الحبر جافًا والأفكار متشابكة في ذهني. لا أنتظر اللحظة المثالية أو الفكرة العبقرية التي قد لا تأتي أبدًا. بدلًا من ذلك، أجلس إلى مكتبي وأبدأ بالكتابة. أحيانًا تكون البداية متعثرة، كلمات مبعثرة بلا معنى واضح، لكنني تعلمت أن أستمر. شيئًا فشيئًا، تتحول الفوضى إلى نظام، والارتباك إلى إبداع، والكلمات العادية إلى نص يتحدث بعمق ويتنفس حياة. الكتابة اليومية ليست مجرد التزام مهني أو عادة شخصية، بل هي تدريب مستمر للنفس على اكتشاف أعماق جديدة من الإبداع. عندما أكتب، أشعر أنني أتحرك، حتى لو كنت جالسة في مكاني. الأفكار لا تأتي عندما أنتظرها خاملة، بل تظهر عندما أحفزها بالعمل. هذا ما يجعل الممارسة اليومية ضرورة للكاتب، سواء كان مبتدئًا أو محترفًا. لا أبالغ إذا قلت إن الكتابة أصبحت أشبه بنمط حياة بالنسبة لي. في الكتابة اليومية، هناك لحظات تحدٍ، عندما تقف الكلمات عالقة في الحلق، أو عندما يبدو كل ما أكتبه تافهًا وغير مجدٍ. لكن هذه اللحظات نفسها هي ما يجعل الإنجاز أكثر إرضاءً. ففي كل مرة أتجاوز هذا الحاجز، أشعر أنني كسرت قيودًا وهمية وفتحت بابًا جديدًا للأفكار. الأفكار ليست كائنات غامضة تطرق أبواب عقولنا فجأة؛ إنها بذور تُزرع وتنمو مع الوقت. في لحظات الكتابة اليومية، تتفتح هذه البذور شيئًا فشيئًا. تبدأ صغيرة، فكرة غير مكتملة أو جملة يتيمة، لكنها سرعان ما تتحول إلى نص ناضج يحمل بين طياته معنى وقوة. بخبرتي الممتدة لعقود، أدركت أن سر النجاح في الكتابة يكمن في البقاء في حالة دائمة من الحركة. لا يهم أن تكون البداية مثالية، ولا أن يكون المزاج مثاليًا. المهم أن تبدأ. هناك دائمًا شيء ينتظرك على الطرف الآخر من الصفحة، شيء لن تراه إلا إذا واصلت الكتابة. هذه الحركة، هذا الإصرار اليومي، هو ما يجعل الكتابة ليست مجرد فن بل رحلة اكتشاف مستمرة. عندما أنظر إلى مسيرتي في الكتابة، أدرك أن اللحظات التي كنت أظن فيها أنني بلا أفكار كانت هي أكثر اللحظات إلهامًا في النهاية. كل نص يكتب، حتى لو بدا صغيرًا أو بسيطًا، يشكل جزءًا من بناء أكبر. الكتابة اليومية تشبه النحت؛ كل يوم تضيف لمسة، تحذف زوائد، وتقترب من الشكل المثالي الذي تبحث عنه. كما أنني تعلمت أن الكتابة ليست فقط أداة للتعبير عن الأفكار، بل هي وسيلة لاستكشاف الذات. خلال ثلاثين عامًا، تغيرت كتاباتي كما تغيرت أنا. اكتشفت من خلالها جوانب لم أكن أعرفها في نفسي، وأدركت أن الكتابة ليست فقط ما نقدمه للقراء، بل ما نمنحه لأنفسنا من فهم وإلهام وتجدد. لذلك، إذا كنت في بداية الطريق أو تبحث عن محفز للاستمرار، لا تنتظر تلك اللحظة المثالية أو ذلك الإلهام المباغت. اكتب الآن. اكتب بلا قيود، بلا أحكام. لأنك عندما تكتب كل يوم، لا تكتب فقط نصوصًا، بل تكتب قصتك، تطورك، ومسيرتك نحو الإبداع الذي تستحقه.

426

| 06 يناير 2025

لا تيأسوا..!

نقف أحيانًا على أعتاب أحلامنا ونمد أيدينا نحوها، لكننا نجدها بعيدة المنال. نشعر حينها وكأن الزمن يسير عكس رغباتنا، فتتسلل إلينا مشاعر اليأس والخذلان. ننزعج من تأخر ما نحب، ونتجرع مرارة الأيام التي تضعنا أحيانًا في مواقف لم نخترها. لكن في خضم هذه العواصف، تضيء قلوبنا كلمات الله عز وجل التي تحمل وعدًا صادقًا ورجاءً عظيمًا: “إن مع العسر يسرا”. هذا الوعد الإلهي ليس مجرد عبارة نرددها في أوقات الشدة، بل هو فلسفة تعيد تشكيل نظرتنا للحياة. في كل تأخير حكمة، وفي كل ألم درس، وفي كل محنة منحة مخفية. حين يتأخر ما نرجوه، قد نشعر أن الأبواب موصدة، ولكن الحقيقة أن الله يخطط لنا ما هو خير، ولو بدا لنا غير ذلك. إن تأخير الأماني ليس رفضًا، بل هو ترتيب إلهي دقيق يمنحنا ما نحتاج في الوقت الذي يناسبنا، لا في الوقت الذي نراه نحن مناسبًا. مرارة الأيام قد تكون أكثر ما يختبر إيماننا وصبرنا. قد نواجه لحظات عصيبة تُجبرنا على التعايش مع ظروف لم نختَرها ولم نتوقعها، فنجد أنفسنا مضطرين إلى القبول بها. ولكن هذا القبول ليس ضعفًا، بل هو شجاعة تعكس قدرة الإنسان على التأقلم والعيش رغم الألم. كم من مرة ظننا أن الحزن سيبقى ملازمًا لنا، ثم فوجئنا بأن الأيام جلبت معها شفاءً وراحة لم نكن نتخيلها؟ إن هذا هو جوهر اليقين بوعد الله: أن مع العسر يأتي اليسر، وأن الألم لا يمكن أن يستمر بلا نهاية. وربما أجمل ما في الإيمان بقضاء الله وقدره، أنه يحررنا من الشعور بالعجز والندم. حين نثق بأن الأمور تجري وفق حكمة إلهية، فإننا نرتاح من عبء التفكير فيما كان يمكننا فعله بشكل مختلف، أو فيما إذا كان بإمكاننا تجنب الألم. الإيمان هو سلام داخلي، يرفعنا فوق صغائر الدنيا، ويمنحنا القوة لنرى في كل محنة فرصة، وفي كل عثرة خطوة نحو الأفضل. هذا الإيمان يجعلنا نعيش الحياة بأمل وثقة، لا بقلق وخوف. في مواجهة التحديات، نحن أمام خيارين: إما أن نستسلم للألم، أو أن نحوله إلى فرصة للنمو والتعلم. الابتسامة في وجه الصعوبات ليست علامة على اللامبالاة، بل هي انعكاس للإيمان بأن القادم أجمل. إنها رسالة إلى النفس بأن الأمل لا يموت، وأن الله قريب، يسمع دعاءنا ويعرف ما في قلوبنا. وحين ننظر إلى الوراء، نجد أن كل محنة مررنا بها قد تركت أثرًا فينا، ربما جعلتنا أقوى أو أكثر حكمة. الألم، رغم قسوته، هو أحد أعظم المعلمين في الحياة. ولولا العسر، لما شعرنا بلذة اليسر، ولولا الظلام، لما أدركنا قيمة النور. الله سبحانه وتعالى، برحمته الواسعة، يختبرنا ليعطينا. وما من ضيق إلا ويحمل في طياته فرجًا، وما من دمع يُسكب إلا ويعقبه ابتسامة، ولو بعد حين. لذلك، إذا تأخرت أمانينا، فلنصبر. وإذا عانينا من مرارة القدر، فلنؤمن بأن وراء هذا الألم حكمة عظيمة. وإذا أجبرتنا الحياة على التعايش مع ما لا نحب، فلنبتسم ونثق أن الله معنا، يدبر لنا الخير في كل خطوة. الحياة ليست سهلة، لكنها جميلة إذا نظرنا إليها بقلوب مؤمنة وعيون ترى الخير حتى في المحن. لا تيأسوا إذا تأخر ما تحبون، ولا تحزنوا إذا واجهتم صعوبات تعتقدون أنها بلا حل. اصبروا، ابتسموا، وكونوا على يقين بأن وعد الله حق: “إن مع العسر يسرا”.

531

| 30 ديسمبر 2024

وماذا عن عفوية الكتابة؟

عفوية الكتابة هي ذلك الإحساس الذي يحرر القلم من قيوده، ويمنح الكلمات جناحين لتحلق بحرية فوق الورق. لكنها ليست فوضى عشوائية ولا عملاً غير محسوب، بل هي تناغم دقيق بين الشغف الداخلي والالتزام الهادئ بتفاصيل النص وروحه. حين تكتب بعفوية، فأنت تصغي لصوت ذاتك العميق، لذلك النداء الذي ينبعث من داخلك ويدفعك لأن تكون صادقاً مع نفسك قبل أي شيء آخر. إنها ليست محاولة لتجميل الكلمات أو إخضاعها لقواعد صارمة، بل إن تتركها تنساب كما هي، حقيقية، نابعة من القلب. أما الشغف فهو المحرك الأساسي لهذا النوع من الكتابة. عندما تكتب بشغف، فإنك تمنح النص حياة خاصة، تملأه بطاقة تجعل القارئ يشعر بحرارة الكلمات وصدقها. لا تخف من الخطأ، لأن الشغف يفتح الباب لتجارب جديدة ومغامرات لغوية لم تكن لتخوضها لو أنك حاولت اتباع مسار تقليدي. الكاتب العفوي يتحرر من القلق بشأن الشكل، ويركز على الجوهر، فهو يعلم أن الكلمات إذا خرجت من قلبه ستصل حتماً إلى قلوب الآخرين. والعفوية لا تعني أبداً الإهمال أو الاستهتار. على العكس، الكاتب العفوي يدرك أهمية العناية بالتفاصيل الصغيرة التي تصنع الفرق. قد تبدو الجمل بسيطة وسلسة، لكنها تحمل في طياتها عالماً من المعاني والمشاعر. التفاصيل الدقيقة هي التي تمنح النص عمقه وإنسانيته، وهي التي تجعل القارئ يشعر بأن الكاتب كان معه، يرى بعينيه ويشعر بقلبه. والأمر يشبه عزف قطعة موسيقية؛ قد تبدو النغمات عفوية، لكنها تحتاج إلى إتقان كبير لتحمل هذا الإحساس بالانسيابية. والإخلاص للذات هو جوهر الكتابة العفوية. الكاتب العفوي لا يحاول أن يبدو أفضل مما هو عليه، ولا يكتب ليرضي الآخرين. إنه يكتب لأنه يشعر، لأنه يؤمن، لأنه يحمل شيئاً في داخله يحتاج إلى الخروج. لا يخشى الكاتب العفوي أن يكون حقيقياً، حتى لو بدا ذلك غير كامل أو غير مألوف. هذا الإخلاص هو ما يجعل الكتابة العفوية جميلة، لأنها تعكس إنسانية الكاتب بكل صدقها وتعقيداتها. في الكتابة العفوية، لا حاجة لإسكات الأصوات الداخلية الناقدة أو محاولة تهذيب الأفكار أثناء ولادتها. الكلمات تخرج كما هي، خامة وحقيقية. لا حاجة للقلق بشأن القواعد أو الكمال في البداية، لأن النص يحتاج إلى أن ينضج على الورق قبل أن يعاد تشكيله. الأهم هو أن تمنح نفسك الحرية لتكتب، دون قيود أو محاولات لإرضاء أحد. وعندما تنتهي من الكتابة، تعود للنص بروح هادئة، وتبدأ في تحسينه بما يليق برسالتك. الكتابة العفوية إذن ليست مجرد أسلوب أو تقنية، بل هي تعبير عن فلسفة عميقة في الحياة. إنها الإيمان بأن الصدق مع الذات هو أول خطوة نحو الصدق مع العالم، وأن جمال الكتابة لا يكمن في زينتها أو زخرفتها، بل في حقيقتها. عندما تكتب بعفوية، فإنك تدعو القارئ ليعيش معك التجربة، ليشاركك أحلامك وأفكارك ومخاوفك. إنها رحلة إنسانية بامتياز، تبدأ من الداخل لتصل إلى الآخر. وماذا عن القارئ؟ الكتابة العفوية ليست فقط انعكاساً لصدق الكاتب مع نفسه، بل هي أيضاً دعوة للقارئ ليكون شريكاً في التجربة. عندما تُكتب الكلمات بعفوية، فإنها تكسر الحواجز بين الكاتب والقارئ، وتجعل النص أشبه بمحادثة حميمية تفيض بالمشاعر والأفكار. القارئ هنا لا يكتفي بالدور التقليدي كمتلقٍ سلبي، بل يجد نفسه مدفوعاً للمشاركة، لاستحضار تجاربه الخاصة ومزجها بما يقرأ. تلك الصداقات الخفية التي تنشأ بين النص والقارئ هي جوهر الكتابة العفوية، حيث لا يشعر القارئ أنه يُحاكم أو يُلقَّن، بل يعيش النص بكل تفاصيله وكأنه جزء منه.

744

| 23 ديسمبر 2024

صيدنايا.. وماذا عن النسخ الأخرى؟

ما زالت مشاهد سجن صيدنايا تتوالى علينا فنشعر بفداحة الظلم الذي يحيق بالبشر لمجرد أنهم بشر. فهذا السجن، الذي تحول إلى مسلخ بشري في عهد نظام بشار الأسد، يكشف عن أهوال تفوق التصور، حيث استحال المكان من منشأة احتجاز إلى فضاء تتجسد فيه أبشع صور العنف والاضطهاد الممنهج. ففي قلب هذا الجحيم المعزول عن أنظار العالم، انتهكت كرامة الإنسان ودمرت أرواح البشر بأبشع الأدوات والأساليب المتوقعة وغير المتوقعة. على مدار سنوات حكم الأسد الابن وقبله الأسد الأب، تجذرت فكرة قمع المعارضة كركيزة أساسية لبقاء النظام، إلا أن وسائل هذا القمع بلغت من البشاعة ما تجاوز الحدود الطبيعية للصراع السياسي. فقد لجأ النظام إلى استخدام التعذيب كسلاح لكسر إرادة كل من تسول له نفسه المطالبة بالحرية أو رفع صوته ضد الاستبداد. وفي هذا السياق، أصبح سجن صيدنايا نقطة سوداء في سجل القمع، حيث تمت فيه ممارسات لا يمكن وصفها إلا بأنها جرائم ضد الإنسانية. هندس التعذيب داخل السجن ليصبح فعلًا روتينيًا يُمارس بأشكال وحشية، تستهدف إلغاء وجود المعتقلين جسديًا ونفسيًا، وتحويلهم إلى ظلال باهتة لإنسانيتهم. تقارير المنظمات الحقوقية وشهادات الناجين كشفت عن تفاصيل تقشعر لها الأبدان. هنا، لم يكن التعذيب مجرد أداة لإجبار المعتقلين على الاعتراف أو التراجع، بل كان غاية في حد ذاته، يُمارَس بنية سحق الكرامة الإنسانية وإرسال رسالة واضحة للجميع بأن الاعتراض يساوي الموت البطيء تحت وطأة العذاب. الضرب المبرح، والصدمات الكهربائية، والحرمان من الطعام والماء، والعزل في زنازين ضيقة تفتقر لأبسط مقومات الحياة، ليست سوى جزء من قائمة طويلة من الممارسات التي جُعلت واقعًا يوميًا داخل جدران السجن. بل وصل الأمر إلى تنفيذ الإعدامات الجماعية بدم بارد، حيث تحولت ليالي صيدنايا إلى مشاهد مأساوية تختلط فيها أصوات الاستغاثة بصمت الموت المطبق. وما يجعل صيدنايا أكثر رعبًا هو الصمت العالمي الطويل إزاء هذه الانتهاكات. لسنوات، ظل هذا السجن عصيًا على الكشف، وكان القمع فيه يجري تحت ستار الكتمان الممنهج. غير أن الناجين، الذين حملوا معهم ذكرياتهم المحطمة، قدموا للعالم شهادات تقطر ألمًا ومرارة. لقد سردوا كيف كانوا يُجرّون عُراةً أمام أعين الحراس، وكيف كانت جلسات التعذيب تُنفَّذ بطرق أشبه بطقوس سوداء تُكرس فيها السلطة المطلقة للجلاد، وتجعل المعتقل يشعر بانعدام القيمة والقدرة على المقاومة. ربما كانت أشد هذه الشهادات وقعًا هي تلك التي تحدثت عن “مجازر التعذيب”، حيث يشنق المعتقلون بالجملة أو يقتلون خنقًا، ثم تُلقى أجسادهم في مقابر جماعية دون أسماء أو هويات. هذه الجرائم ليست مجرد أحداث عابرة في زمن حرب، بل هي تعبير صارخ عن منظومة قمعية متكاملة تهدف إلى القضاء على كل بذرة معارضة. لقد أدرك النظام أن الاستمرار في الحكم يتطلب سحق كل من يجرؤ على الحلم بغد أفضل، فتحولت صيدنايا إلى آلة حقيقية، لا مجازية، تطحن الأجساد، وأصبحت صورة مصغرة لنظام أدار ظهره لكل القيم الأخلاقية والإنسانية. ما أعمق المأساة حين نعلم أن هذه الجرائم لم تُنفّذ بمعزل عن التخطيط والتنظيم. إنها ليست مجرد حكاية عن سجن، بل انعكاس لحالة القمع التي كان يعيشها الشعب السوري منذ عقود طويلة من حكم الأب والابن. قصة تصرخ في وجه الضمير الإنساني، لتطرح أسئلة مؤرقة عن دور العالم في مواجهة هذه الجرائم وعن مدى جدية التزام المجتمع الدولي بالمبادئ التي طالما رفع رايتها. ومع ذلك، يبقى الأمل بأن عدالة التاريخ ستقول كلمتها ذات يوم، وبأن أرواح الضحايا ستظل شاهدة على فظائع هذا النظام، حتى يأتي اليوم الذي يُحاسَب فيه الجلادون على كل جريمة ارتكبوها بحق شعب لم يطلب سوى الحرية والكرامة. ولكن ماذا عن النسخ الأخرى من هذا السجن التي لا شك أنها موجودة الآن في دول كثيرة؟ عذابات البشر لا تنتهي في أجزاء كبيرة من هذه الكرة الأرضية التي نعيش فيها. بحثاً عن كرامة وحرية.

423

| 16 ديسمبر 2024

شكوك عابرة في التاريخ

مع كل صفحة تُقلب في دفاتر الحاضر، ومع كل خبر يُنشر في زحمة الإعلام الذي يعصف بنا صباحًا ومساءً، يتسرب شعور غريب إلى أعماقنا: هل نعيش في عالمٍ من الحقائق أم في متاهةٍ من الأوهام؟ يبدو أن زخم التزييف والدجل لم يعد مجرد ظاهرة عابرة بل تحول إلى سمةٍ تلتصق بكل حدث، حتى بات من الصعب الوثوق بأي رواية تُروى أو حقيقة تُقال. ومع تصاعد هذا الشعور، يتعاظم السؤال المرير: إذا كان ما يحدث أمام أعيننا اليوم لا يسلم من التحريف، فكيف نصدق ما كتبه المؤرخون عن أحداثٍ مضت؟ هل كان الماضي الذي بين أيدينا واقعًا فعليًا، أم أنه حكايات مختلقة نُسجت على هوى الرواة والمنتصرين؟ قيل قديمًا إن “التاريخ يكتبه المنتصرون”، وهي مقولة تفتح باب الشك واسعًا في كل ما نقل إلينا عبر السنين. التاريخ، كما وصلنا، لم يكن يومًا محايدًا؛ بل كثيرًا ما كان انعكاسًا لرغبات السلطة وتوجهاتها. تُسطر الأحداث وفقًا لمن يملك القوة لا لمن يحمل الحقيقة. يُغيب المهزوم من السرد، أو يُلصق به كل نقيصة، بينما يُقدم المنتصر على أنه بطل، حتى وإن كان ذلك على حساب معاناة الآخرين وطمس حقوقهم. ألم يُكتب تاريخ العالم وفق مصالح الإمبراطوريات الكبرى؟ ألم تُشوه حضارات بأكملها لأنها ببساطة كانت خصمًا في لحظة من اللحظات؟ من يتصفح كتب التاريخ يجد نفسه أحيانًا في حيرة بين روايات متناقضة لنفس الحدث. من نصدق؟ أهي مسألة وجهة نظر، أم أن الحقيقة ضاعت في خضم المبالغات المتعمدة من الطرفين؟ وكلما توغلنا في كتب التاريخ، أدركنا أن الحقيقة ليست ثابتة، بل تُصاغ وفقًا للأهداف والمصالح. فالأحداث تُضخم أو تُختصر، الشخصيات تُؤله أو تُشوه، حتى تتحقق الغايات المرجوة من وراء الكتابة. التاريخ إذن ليس مجرد سردٍ للأحداث بل ذاكرة جمعية تبني هويات الأمم والشعوب. غير أن هذه الذاكرة نفسها يمكن أن تكون أحيانًا انتقائية، تنتقي ما يُعزز الانتماء والفخر وتتجاهل ما قد يثير الشكوك والأسئلة. ألم يتحول التاريخ في كثير من الأحيان إلى أسطورة وطنية؟ الآن مثلاً.. نشهد بوضوح كيف يُصنع التاريخ أمام أعيننا، لكنه يصاغ في الوقت نفسه بطرق مختلفة، تتبدل وفقًا لانتماء الكاتب ومنصته. حدثٌ بسيط قد يتحول إلى أزمة عظمى بفعل التهويل الإعلامي، بينما تُطمس كارثة حقيقية لأنها لا تخدم مصالح القوى الكبرى. ألم نرَ هذا يحدث في صراعات الحاضر؟ في مكان ما، يُصور الضحية كمجرم، والمجرم كبطل، كل حسب أجندة المتحدثين. وما يزيد الأمر تعقيدًا هو أننا أصبحنا جزءًا من هذه الفوضى الإعلامية؛ نشارك ونعلق ونعيد النشر، فنساهم، بوعي أو دون وعي، في إعادة إنتاج سرديات مشوهة لا تعكس بالضرورة الحقيقة. من هنا تأتي الحيرة: إذا كان الحاضر نفسه عرضة للتحريف بهذه السرعة، فكيف نثق بما كتبه المؤرخون عن الماضي؟ وفي ظل هذا التشكيك المتزايد، قد يتساءل المرء: هل هناك حقيقة مطلقة في التاريخ؟ ربما لا. فالتاريخ في النهاية ليس إلا مجموعة روايات يكتبها البشر، والبشر بطبيعتهم ليسوا معصومين عن الخطأ أو التحيز. لكن هذا لا يعني أن نسقط في هاوية اليأس أو أن نتخلى عن البحث عن الحقيقة. قد لا تكون الحقيقة كاملة في رواية واحدة، لكنها قد تظهر في التقاطعات بين الروايات المختلفة. كل حدث تاريخي يحمل بداخله بذورًا من الصدق والكذب معًا، وما علينا إلا أن نقترب بحذر، ونستمع إلى كل الأصوات، حتى تلك التي سُكتت عمدًا. قد لا نملك الحقيقة المطلقة، لكننا نملك الشك، والشك في زمن الأكاذيب هو أول بوابة نحو الحرية.

489

| 09 ديسمبر 2024

في سيرة الوداع..!

ليس الوداع كلمة عابرة ننطقها عند انتهاء لقاء أو انقضاء وقت، بل فصل عميق من فصول الحياة، محطة تتقاطع فيها المشاعر وتتشابك الذكريات. اللحظة التي تتجسد فيها حقيقة الزمان والمكان، حيث يتوقف كل شيء إلا المشاعر التي تعصف بالقلب، تأخذه إلى مدارات لم يكن ليعرفها لولا هذا الموقف. الوداع هو ذلك الارتجاف الذي يتملك الروح، حين ندرك أن ما كان لن يعود، وأن شيئًا ما سيتغير إلى الأبد. إنه تذكير بأن الحياة ليست إلا سلسلة من اللقاءات والانفصالات، نُمسك فيها بلحظةٍ ثم نتركها، نمتلئ بالفرح ثم نفرغ منه، نحتضن الأحبة ثم نفلت أيديهم، لكن، ما أصعب أن نفلت الأيدي بينما القلب ما زال ممسكًا بما لا يريد أن يتركه. في لحظات الوداع، تُختصر الحكايات الطويلة في نظرة أخيرة، كلمة عالقة، أو حتى في صمت يعلو فوق كل ما يمكن قوله. نشعر حينها بثقل اللحظة، بثقل ما لا يُقال، وبثقل الذكريات التي تتراكم فجأة كما لو أنها تسابق الزمن لتحتل مكانها الأخير في الذاكرة. وكأن الوداع مرآة تعكس كل ما عشناه وكل ما نخشى أن نفقده. إنه نقطة نهاية تكتبها الحياة في صفحاتنا، لكنها أيضًا نقطة بداية لفصل آخر لا نعرف عنه شيئًا، سوى أنه خالٍ من أولئك الذين اعتدنا وجودهم. الوداع ليس دائمًا صاخبًا أو مليئًا بالدموع، أحيانًا يكون هادئًا وصامتًا كالغروب، لكنه لا يقل إيلامًا. فالغروب يحمل في صمته كل معاني النهاية، تمامًا كما يحمل الوداع في هدوئه شعور الفقد الذي يعجز اللسان عن وصفه. هناك وداع تختاره بنفسك، ووداع يُفرض عليك، وفي الحالتين، يبقى أثره محفورًا في داخلك. ربما يكون أكثر الأوجاع قسوة هو ذاك الذي لا نملك حيال وقوعه أي خيار، وداع أولئك الذين يرحلون عن عالمنا، يأخذون معهم أصواتهم وضحكاتهم ويتركوننا نتلمس آثارهم في كل مكان، كأن وجودهم ما زال يتردد في الفراغ الذي خلّفوه. لكن حتى الوداع الذي نختاره، الذي نحاول أن نُقنع أنفسنا بأنه قرارنا، يحمل في طياته صراعًا داخليًا لا ينتهي. كيف يمكن أن نتخلى عن جزء من أرواحنا، عن لحظات عشناها بصدق، عن وجوه اعتدنا رؤيتها كل يوم؟ وكيف يمكن أن نقنع أنفسنا بأن هذا هو السبيل الأفضل، حتى لو كان الثمن غاليًا؟ إن وداع الأشخاص أو الأماكن أو حتى الأفكار يشبه موتًا صغيرًا، موتًا نواجهه دون أن نكون مستعدين له. ومع ذلك، يحمل الوداع في داخله درسًا عظيمًا، فهو يعلّمنا أن لا شيء يدوم، وأن التعلق هو أحد أشكال المعاناة التي علينا أن نتعلم تجاوزها. في قلب كل وداع هناك حنين خفي، ليس فقط لما كان، بل لما كان يمكن أن يكون. نحزن على اللحظات التي لم نعشها، على الكلمات التي لم نقُلها، على الأحلام التي لم تتحقق. وفي المقابل، يحمل الوداع أيضًا قوة خفية تدفعنا إلى الأمام، تدفعنا إلى إعادة بناء أنفسنا بعيدًا عن كل ما فقدناه. ربما يكون الوداع هو الطريقة التي تذكّرنا بها الحياة بأننا قادرون على الاستمرار، بأننا رغم كل الفقد والخسارات نملك قدرة عجيبة على البدء من جديد. ولكن، هل يمكن للوداع أن يكون جميلًا؟ ربما، إذا نظرنا إليه على أنه ليس فقط نهاية، بل بداية جديدة. فكما أن الوداع يغلق بابًا، فهو يفتح بابًا آخر، وكما أنه يترك فراغًا، فهو يخلق مساحة جديدة للنمو والتغيير. ربما يكمن جمال الوداع في قدرته على جعلنا ندرك قيمة اللحظة، في جعلنا نتعلم أن نحب بعمق وأن نعبر عن مشاعرنا قبل فوات الأوان. والوداع ليس مجرد فعل نقوم به، بل هو حالة إنسانية عميقة تمس كل جانب من جوانب حياتنا. إنه جزء من الرحلة، جزء من النمو، جزء من تعلمنا كيف نعيش في عالم دائم التغير. وبينما نقف على حافة الوداع، لا نملك إلا أن نحتضن اللحظة بكل ما فيها، أن نودع الماضي بشجاعة ونستقبل المستقبل بأمل، مدركين أن الوداع ليس النهاية، بل جزء من القصة.

804

| 02 ديسمبر 2024

لا تلتفت.. امضِ قُدماً

«امضِ قدماً.. لا تلتفت للوراء».. هذه الكلمات البسيطة تحمل في طياتها فلسفة حياة، وصيغة للتعامل مع تحديات الطريق الذي نسلكه. فكل خطوة نحو الأمام تعني التمسك بالأمل، وتجاهل الندوب القديمة، والاحتفاء باللحظة الحاضرة. قد يبدو الأمر بسيطاً نظرياً، لكنه في الحقيقة يتطلب شجاعة من نوع خاص، شجاعة النهوض من عثرات الأمس، وترك كل ما يُثقل الروح خلفك. إننا جميعاً نحمل خلفنا أكواماً من الذكريات، خيبات وآمال خابت، نجاحات أحياناً وأحلاماً لم تكتمل. كل منا لديه ذلك “الأمس” الذي يُلح عليه في تذكيره بما كان، وما لم يكن. لكن جمال الحياة يكمن في مرونتها، في قدرتها على منحنا فرصة جديدة مع كل شروق شمس، فرصة للبدء من جديد، ولإعادة تشكيل الحاضر وفقاً لرغباتنا وتطلعاتنا. عندما نقرر المضي قدماً دون النظر إلى الوراء، فإننا نقوم بتطهير عميق للروح، نتخلص من أثقال تجذبنا نحو الأرض وتمنعنا من التحليق. لا يعني ذلك التجاهل المطلق للماضي، فالذكريات جزء من تكويننا، بل هي الاستفادة من الماضي دون أن نتركه يتحكم في مساراتنا المستقبلية. هي خطوة نحو الحرية النفسية، نحو التحليق دون قيود، ونحو صناعة حاضر يستحق أن يكون نقطة انطلاق لمستقبل نطمح إليه. نعيش الضغوطات اليومية والتحديات المستمرة فيصبح التوجه نحو الأمام من دون التردد في الماضي قوة حقيقية. لأن الحياة، بكل تناقضاتها، دعوة مستمرة للتغيير والنمو والنضج أيضاً. وهذا النمو لا يأتي إلا من الجرأة في التخلي عن كل ما هو عالق فينا من دون جدوى ولا هدف. ونحن عندما نختار المضي قدماً، فإننا نختار أن نكون أسياد قراراتنا والمسؤولين عن نتائجها ومآلاتها، نصنع مصيرنا بأيدينا، ولا نترك الأحداث الماضية أو الظروف الصعبة تتحكم في رؤانا وخططنا. وكم من مرة نظرنا إلى الخلف، فاكتشفنا أن الوقوف عند تلك النقطة لم يمنحنا إلا ألمًا زائدًا وندمًا لا ينتهي. الماضي قد يكون مرآة، لكنه لا يجب أن يكون قيدًا. قد يُظهر لنا ما ارتكبنا من أخطاء، لكنه لا يملك الحق في منعنا من المضي نحو آفاق جديدة. إن قوة الإنسان تكمن في قدرته على التحول، على الانتقال من مرحلة إلى أخرى من غير أن يحمل معه الأثقال التي ستعيقه عن الوصول إلى أمانيه. التقدم للأمام هو فن من فنون الحياة، فن يتطلب مرونة وجرأة وتقبلًا للمجهول. وعندما نختار ألا نلتفت للوراء، نحن بذلك نمنح أنفسنا مساحة لبناء حكايات جديدة، تجارب غنية، وإنجازات تُضاف إلى قائمة انتصاراتنا. إن النظر إلى المستقبل يمنحنا الأمل، يمنحنا رؤية مختلفة تُعيد صياغة أولوياتنا وأحلامنا. ولأن الطريق إلى الأمام لا يخلو من العقبات، فإن تجاوزها يتطلب إيماناً عميقاً بأن كل خطوة، مهما بدت صغيرة، تحمل في طياتها بداية جديدة. تلك البداية قد لا تكون دائماً واضحة المعالم، لكنها تحمل وعوداً بتجارب أغنى ومستقبل أكثر إشراقاً. المضي قدماً يعني قبول التحدي بأن نكون أقوى مما كنا عليه، وأن نمنح أنفسنا فرصة للنمو في مواجهة ما قد يبدو مستحيلاً. إنه التزام بأن الحياة تستحق المحاولة مرة تلو الأخرى، وبأن كل نهاية في الماضي ليست إلا بداية لشيء أعظم ينتظرنا، إذا ما امتلكنا الشجاعة للمضي بثبات نحو الأمام. لذلك، امضِ قدماً ولا تلتفت للوراء، اترك خلفك كل ما يثقل خطاك، وتذكر أن المستقبل ما هو إلا صفحة بيضاء، تنتظر منك أن ترسم عليها أجمل اللوحات. لا تخشى المغامرة، ولا تتردد في الحلم مجدداً، فكل خطوة للأمام تقربك أكثر من ذاتك الحقيقية، تلك الذات التي لا تشدها قيود الماضي، بل تدفعها تطلعات المستقبل.

1221

| 25 نوفمبر 2024

alsharq
النعش قبل الخبز

لم تكنِ المأساةُ في غزّةَ بعددِ القتلى، بل...

3069

| 21 أكتوبر 2025

alsharq
الكرسي الفارغ

ليس الفراغ في الأماكن، بل في الأشخاص الذين...

3066

| 20 أكتوبر 2025

alsharq
معرفة عرجاء

المعرفة التي لا تدعم بالتدريب العملي تصبح عرجاء....

2856

| 16 أكتوبر 2025

alsharq
العنابي يصنع التاريخ

في ليلةٍ انحنت فيها الأضواء احترامًا لعزيمة الرجال،...

2637

| 16 أكتوبر 2025

alsharq
نموذج قطر في مكافحة المنشطات

يمثل صدور القانون رقم (24) لسنة 2025 في...

2574

| 21 أكتوبر 2025

alsharq
ملف إنساني على مكتب وزيرة التنمية الاجتماعية والأسرة

في زحمة الحياة وتضخم الأسعار وضيق الموارد، تبقى...

1404

| 16 أكتوبر 2025

alsharq
أين ربات البيوت القطريات من القانون؟

واكبت التعديلات على مجموعة من أحكام قانون الموارد...

1134

| 21 أكتوبر 2025

alsharq
وجبات الدايت تحت المجهر

لم تعد مراكز الحمية، أو ما يعرف بالـ«دايت...

975

| 20 أكتوبر 2025

alsharq
وجهان للحيرة والتردد

1. الوجه الإيجابي • يعكس النضج وعمق التفكير...

945

| 21 أكتوبر 2025

alsharq
القيمة المضافة المحلية (ICV)

القيمة المضافة المحلية (ICV) أداة إستراتيجية لتطوير وتمكين...

822

| 20 أكتوبر 2025

alsharq
دور معلم الفنون في مدارس قطر

في قلب كل معلم مبدع، شعلة لا تهدأ،...

795

| 17 أكتوبر 2025

alsharq
العنابي يحلّق من جديد

في ليلة كروية خالدة، صنع المنتخب القطري "العنابي"...

759

| 17 أكتوبر 2025

أخبار محلية