رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

Al-sharq

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

الشرق

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

حين يصبح التعاطف قناعاً للخذلان !

ليس الحقُّ لغزًا يحتاج إلى تفكيك، ولا سرًّا خفيًا لا يُدركه إلا القلّة، بل هو واضحٌ كالشمس، جليٌّ لمن أراد أن يراه. لكنه، في كثيرٍ من الأحيان، ليس كافيًا وحده. فالمشكلة ليست في غموض الحق، بل في الذين يتجاهلونه عمدًا، في الذين يُعيدون تشكيله بحيث يُناسب رواياتهم، في الذين يُرهقون المظلوم بأسئلةٍ لا تُطرحُ على الظالم، وكأنَّ عليه أن يُثبت مرارًا وتكرارًا أنه ضحية، بينما يُمنح الجلاد حقَّ الشك والتمهل في الحكم. لذلك، لا ينبغي أن تُضاعفوا على المظلوم عبء التبرير، ولا أن تُحملوه فوق آلامه اختبارًا قاسيًا يُثبتُ من خلاله أنه يستحقُّ التعاطف. المظلوم لا يحتاج إلى إحسانكم، بل إلى إنصافكم، لا يحتاج إلى دموعكم، بل إلى أن تقفوا حيث يجب أن تقفوا، بلا تردد، بلا تحذلقٍ يُحاول أن يجعل كل شيءٍ رماديًا، بلا خطبٍ باردة تُحاول أن تُخفف وقع الجريمة بحجة الموضوعية. لكن هناك من يظن أن التعاطف مع المظلوم يُجيز له الانتقاص من كرامته، كأنما هو يتفضّل عليه بمواساته، فيُشعره بأنَّه ضعيف، بأنَّه مدين لهذا التعاطف، بأنَّه محظوظٌ لأنَّ هناك من التفت إليه أصلًا. هذا النوعُ من التعاطف ليس إلا وجهًا آخر للخذلان، لأنَّه لا يرى في المظلوم إنسانًا له حق، بل مجرد حالةٍ تستدعي العطف لا العدالة، يستدرُّ دموع الآخرين لكنه لا يستفزُّ وقوفهم معه. ليس هناك ما هو أشدّ قسوةً على المظلوم من أن يُصبح مجرّد قصةٍ يتداولها الناس بعبارات الأسف العابر، ثم يمضون في حياتهم كما لو أن شيئًا لم يكن. أن يُعامَل كأنه مُكسَرٌ إلى الأبد، كأنَّ مأساته هي كلُّ ما يُعرّفه، كأنَّ الحياة قد حُسمت له في خانة الألم، فلا يُنتظر منه إلا أن يبقى هناك، في دائرة الضحية التي لا تخرج منها. لكنه ليس ضحيةً ليُعزى، بل إنسانٌ له كامل الحقِّ في أن يكون أكثر من قصته الحزينة، له الحقُّ في أن يُعامل بكرامته، لا بشفقةٍ تُلقي عليه نظرةً من علٍ، وكأنه أقل شأنًا ممن لم يُصبه ما أصابه. المشكلة في هذا العالم ليست في قلة العدل فحسب، بل في أولئك الذين يظنون أنَّهم يُمارسون التعاطف، بينما هم، دون أن يشعروا، يُمارسون لونًا آخر من الظلم. في الذين يمدّون يدهم للمظلوم لا ليُعينوه على النهوض، بل ليبقوه في موضع الاستجداء. في الذين يُحدّقون في جراحه بدهشةٍ زائفة، لا لأنهم يريدون مداواتها، بل لأنهم يجدون في تأمل الألم نوعًا من التسلية، من الفضول، من الإحساس المُريح بأنَّهم في موقع المتفرّج لا في موقع المتألم. الحقُّ واضحٌ لمن أراد اتباعه، لكن المشكلة دائمًا في الذين لا يُريدون ذلك، في الذين يُجيدون الالتفاف حول الحقيقة، في الذين يُنفقون جهدهم في تبرير القسوة بدلاً من مواجهتها، في الذين يُمارسون حيادًا خادعًا يُساوي بين الظالم والمظلوم، ثم يُنادون بتسامحٍ لا يُطلب إلا ممن فُرض عليه الألمُ فرضًا. أما العدالةُ ليست فعلًا انتقائيًا، تُمارَس حين تكون مُريحة، وتُتجاهل حين تُصبح مكلفة، لأن المظلوم ليس بحاجةٍ إلى نصفِ موقف، أو كلماتٍ جميلة لا تُغيّر من واقعه شيئًا، أو تعاطفٍ مشروطٍ بقبوله لدور الضحية الصامتة التي لا يُسمح لها بالغضب، ولا بالمطالبة بحقها كاملًا. ما يحتاجه هو أن يُؤخذ حقه بجدية، لا أن يُعامل كحالةٍ إنسانيةٍ تُثير التعاطف، ثم تُطوى صفحتها مع أول خبرٍ جديدٍ يسرق انتباه العالم. ومن أراد أن يقف مع المظلوم، فليقف معه بكرامته، لا بشفقته. ومن أراد أن يكون عادلًا، فليكن ذلك بوضوح، بلا مواربة، بلا عباراتٍ مُلتوية تُجمّل الوقوف في المنتصف، بلا خطبٍ فارغة تُحاول أن تُخفي الحقيقة وراء ستارٍ من الكلمات المنمقة. الحقُّ واضحٌ، لا يحتاجُ إلى زخرفةٍ لغويةٍ تُخفي حدَّته، ولا إلى تبريراتٍ تُخفف من وطأته على من لا يُريد أن يراه كما هو.

426

| 05 مايو 2025

حين نكتب لأنفسنا: لماذا نحتاج إلى اليوميات؟

حين يكتب أحدنا يومياته، فإنه يمارس أبسط أشكال الاعتراف مع النفس. لا يكتب ليصنع نصًا أدبيًا ولا ليبهر أحدًا، بل لأنه يشعر أن هناك أشياء لا يمكنه مشاركتها مع الآخرين. الكتابة اليومية أشبه بعملية جرد داخلي: ماذا حدث اليوم؟ كيف شعرت به؟ ماذا تعني لي هذه التفاصيل الصغيرة التي قد تبدو عابرة لكنها، مع الزمن، تصنع حياتي الحقيقية؟ الكتابة هنا وظيفة عملية أكثر منها عاطفية. إنها طريقة لتنظيم الأفكار، لتفريغ المشاعر السلبية قبل أن تتراكم وتتحول إلى مشاكل أكبر. الإنسان الذي يكتب مشاكله وانفعالاته اليومية غالبًا ما يكون أكثر قدرة على إدارتها بعقلانية لاحقًا، لأنه راقبها بوضوح بعيدًا عن لحظة الانفعال. كما أن اليوميات تؤدي دورًا مهمًا في بناء الوعي الذاتي. حين يراجع الشخص ما كتبه قبل أشهر أو سنوات، يلاحظ أنماطًا معينة تتكرر؛ طريقة تعامله مع الغضب، مصادر قلقه، أخطاؤه المتكررة، أو حتى تطور نظرته إلى نفسه والآخرين. بهذه الطريقة تصبح المذكرات أداة لفهم السلوك الشخصي بشكل أكثر علمية وموضوعية. ولا يمكن تجاهل أن الكتابة اليومية أيضًا وسيلة لحفظ الذاكرة الشخصية. التفاصيل التي تبدو تافهة اليوم قد تحمل لاحقًا قيمة لا تعوض. الشخص الذي كتب عن حوار قصير مع والده أو عن صباح شتوي عادي قد يكتشف بعد سنوات أن هذه الذكرى البسيطة تساوي كنزًا شعوريًا يصعب تعويضه. الذين يواظبون على كتابة مذكراتهم لا يفعلون ذلك بدافع الحنين فقط، بل لأنهم يدركون أن الإنسان كائن ينسى. والكتابة، ببساطتها وصدقها، تصنع نسخة موازية للحياة، نسخة يمكن الرجوع إليها حين تغيب التفاصيل أو تختلط الذكريات. كذلك، الكتابة تتيح نوعًا من الانفصال المؤقت عن ضغوط الواقع. عندما يكتب الإنسان عن مشكلة ما، فإنه ينقلها من ذهنه إلى الورق. هذه الحركة البسيطة تخلق مسافة عقلية بين الشخص والمشكلة، تجعله ينظر إليها ببرود نسبي يسمح له بتحليلها بهدوء بدل أن يبقى عالقًا في دائرة التفكير السلبي. وليس كل من يكتب يومياته يعاني من مشكلة أو أزمة. كثيرون يكتبون ببساطة لأنهم يجدون في الكتابة طريقة لتوثيق حياتهم كما هي، بحلوها ومرها. الكتابة هنا تصبح سجلًا موضوعيًا لرحلة إنسانية مليئة بالتناقضات؛ الفرح والحزن، النجاح والفشل، البداية والنهاية. وهذا السجل الشخصي لا يُكتب من أجل الآخرين، بل من أجل احترام التجربة الذاتية نفسها. وهذا يعني أن كتابة المذكرات واليوميات ليست رفاهية ولا سلوكًا غريبًا. إنها فعل طبيعي لإنسان يسعى لفهم نفسه، وللحفاظ على صوته الخاص في عالم كثير الضجيج. إن الشخص الذي يكتب يومياته لا يبحث عن شهرة، ولا يحاول أن يبدو مثاليًا. إنه ببساطة يمارس حقه في أن يكون صادقًا مع نفسه، أن يواجه مشاعره وأفكاره دون تزييف أو تبرير. الجميل في كتابة المذكرات أنها لا تتطلب قارئًا آخر. الكاتب والقارئ في هذه الحالة شخص واحد. لا أحد يفرض عليك قواعد اللغة ولا منطق الأحداث. يمكنك أن تبدأ من النهاية، أو أن تكرر نفسك مئة مرة، أن تكتب بأخطائك، بدموعك، بأحلامك المحطمة. كل شيء مسموح لأنك تكتب لنفسك، ولنفسك فقط. وفي هذا الفعل البسيط تكمن قيمة كبيرة: القدرة على رؤية الذات بوضوح، القدرة على تنظيم الفوضى الداخلية، القدرة على الاحتفاظ بما هو مهم وسط سيل النسيان. لذلك نكتب. نكتب كي نفهم. نكتب كي لا نضيع. والمهم أن نكتب، لأن الكتابة تضيء العتمة التي نخشى النظر إليها، وتبني لنا جسرًا بين ما نحن عليه وما نرجو أن نكونه. المهم أن نكتب لأننا، ببساطة، لا نستطيع أن نصمت أكثر!

420

| 28 أبريل 2025

الانحدار اللامع.. حين يرقص الفن على جثة القيم

ليست الكارثة في أن يظهر فنان على المسرح ليقدم وصلة فنية لا تعجبنا، نحن «جيل الطيبين»، كما يسمى كل من غادر الأربعينيات من عمره وحسب، بل في أن يتحول المسرح إلى منصة لاغتيال الذوق، وأن يُستبدل الفن بالاستعراض، والرسالة بالمهزلة، والجمال بالإثارة الرخيصة. في ليلة أمريكية صاخبة، وقف «ممثل» مصري على خشبة المسرح مؤخراً، ليعرض جسده في بدلة رقص نسائية لامعة ومبتذلة! لم يكن ما فعله مجرد “عرض فني”، كما يحاول أن يبرر، بل كان فعلاً مقصوداً بعناية، وموجهاً، ومشحوناً برسائل خفية وظاهرة في آن. لم يكن يبحث عن صدمة جمالية، ولا عن كسر لحدود فنية قديمة، بل عن ضجيج. ضجيج يداري خواء التجربة، وغياب الموهبة، وارتباك البوصلة. ضجيج يجذب الكاميرات، ويفتح أبواب الجدل على مصراعيها، ويعيد اسمه إلى “الترند”، ولو على حساب أجيال تبحث عن قدوة، وعن ملامح رجل شرقي لا ينهار تحت بريق الشهرة الغربية الزائف. ما فعله «الممثل» ليس حدثاً معزولاً، بل هو حلقة في سلسلة طويلة من محاولات تجريف الوعي، وتفكيك الثوابت، وضرب ما تبقى من قيم في عالم عربي بات يتلقى صدماته الأخلاقية واحدة تلو الأخرى، دون أن يملك الوقت ليلتقط أنفاسه. فالفن الذي كان من قبل يُهذِّب الذوق، ويُنير العقول، ويُسائل الواقع، تحوّل على يد بعض المغامرين إلى لعبة تجارية قائمة على الانحدار، وعلى تصدير التفاهة باعتبارها “تحرراً”، والانحطاط باعتباره “فنّاً”، والخروج عن المألوف كأنه شجاعة، لا قلة حياء. في بدلة الرقص النسائية التي ارتداها «الممثل»، لم يكن الجسد وحده عارياً، بل كانت الرسالة أيضاً عارية من المعنى، عارية من أي إحساس بالمسؤولية تجاه مجتمع يتفكك، نحو أطفال ومراهقين يتخذون من نجوم الشاشات والمسرح مرآة لهويتهم. فما الذي يمكن لطفل في العاشرة أن يفهمه حين يرى “نجم الأكشن” و”الأسطورة” يرقص كراقصة مبتذلة على المسرح؟ وأي نوع من الرجولة يُعاد تصديره هنا؟ وأي مفاهيم تُزرع في اللاوعي الجمعي؟ * إن المشكلة ليست في حرية الفنان، فالفن الحقيقي لا يُربى في أقفاص، بل في غياب البوصلة القيمية. الفنان حين يعتلي المسرح، يعتلي قلوب الناس، ويتسلل إلى عقولهم، ويشغل وجدانهم. فإذا خان هذه المساحة، خان جمهوره. وإذا قرر أن يطل على الناس بلا مسؤولية، فليتحمل نتائج قراره، لا أن يتذرع بـ”حرية التعبير” ليخرب الذوق العام. لقد دخل كثيرون مثل هذا المغني الممثل، في سباق نحو قاع لا قاع له. سباق لا يحترم الفن، ولا الجمهور، خاصة أن ما يُبث عبر المسرح، أو التلفاز، أو وسائل التواصل، ليس ترفاً، بل هو تشكيل للوعي، وصناعة للقيم، وخلق لنماذج إنسانية يتبعها الملايين. * نحن لا نهاجم الأشخاص، بل نُحاكم الأفعال. لا نريد أن نصادر حرية أحد، لكننا نرفض أن تُغتال الحرية باسمها. نرفض أن يُصدر لنا نموذج مشوَّه عن الفن، عن الرجولة، عن الإنسان. نريد فناً يحمل همومنا، لا يسخر منها. نريد وجوهاً ترفعنا، لا تسحبنا إلى الأسفل. نريد فناناً يشعر أن على كتفيه عبء رسالة، لا مجرد عباءة لامعة وبذلة غريبة. ولن يخلد التاريخ من رقص على المسرح في ثياب الآخرين، بل من مشى على الجمر بقلبه. ولن يبقى في الذاكرة من صرخ بالألوان والابتذال، بل من همس بكلمة صدق في وجه الانهيار. ونحن، في زمن اختلط فيه كل شيء، ما أحوجنا لأولئك الذين يحمون نار الجمال من الريح، لا لأولئك الذين يرقصون حول رمادها.

1101

| 21 أبريل 2025

من الحبر إلى الحلم: كيف تصنعنا الكتب ؟

في لحظة صمت، وبين يديك كتاب مفتوح، يحدث أمر لا تراه، لكنه يمسّك بعمق. الكلمات التي سُكبت ذات يوم من عقل كاتب إلى حبرٍ على ورق، تبدأ فجأة بالحركة. لا تصدر صوتًا، لكنها تهمس. لا تمتدّ إليك بيد، لكنها تمسك بك. هناك، في ذلك الحبر اليابس، شيء حيّ، شيء قادر على أن يوقظك، أن يأخذك من مكانك إلى حيث لم تكن. الكتب ليست أشياء ميتة تُصفّ على الرفوف. ليست فقط أوراقًا مربوطة بين غلافين. الكتب أشياء تصنعنا، تعيد ترتيبنا من الداخل، تمنحنا عيونًا إضافية نرى بها العالم، وصوتًا داخليًا نُراجع به أنفسنا. من يظن أن القراءة مجرّد عادة ثقافية، لم يقرأ كتابًا غيّره. لم يشعر بتلك الرعشة التي تأتي فجأة عندما تصادف جملة كأنها كُتبت لك وحدك. جملة تضع إصبعها على ندبة في روحك لم تكن تعرف أنها موجودة، ثم تخبرك بهدوء أنها تراها. والكتب هي الشيء الذي نلجأ إليه لا لننسى العالم، بل لنفهمه. نقرأ لنعرف كيف يحبّ الآخرون، كيف يخسرون، كيف يصمدون، كيف يعيشون. نقرأ لنجد تشابهات غريبة بيننا وبين من لم نرهم، ولنشعر أن هذا الاتّساع البشري فيه شيء منا، وأننا لسنا وحدنا في هذا الركض المتعب نحو المعنى. منذ أول قصة سمعناها في الطفولة، بدأ شيء فينا يتشكّل. الطفل الذي يُنصت لحكاية قبل النوم لا ينتظر نهاية سعيدة فقط، بل ينتظر أن يرى نفسه في البطل، أن يتعلم شيئًا عن الشجاعة أو الحيلة أو الحزن. تلك البذور الصغيرة من القصص تنمو معنا، وتتحوّل إلى أشجار ضخمة من الخيال والفهم. وحين نكبر، تصير الكتب مرآة نراجع بها ملامحنا الداخلية، ونحاول بها فهم ما لا يُفهم بسهولة؛ لماذا نشعر كما نشعر؟ لماذا نفعل ما نفعل؟ من نحن أصلًا؟ كل كتاب جيّد هو رحلة. ليس لأنك تنتقل من فصل إلى فصل، بل لأنك تُسافر داخل نفسك. تقرأ شيئًا عن الحب، فتتذكّر من أحببت. تقرأ عن الفقد، فيرتجف قلبك لأحدٍ لم يعد موجودًا. تقرأ عن حلمٍ صغير لأحدهم، فيُوقظ هذا الحلم شيئًا نائمًا فيك. الكلمات تصبح خيوطًا تمتدّ إلى داخلك، وتربطك بأجزاء من نفسك نسيتها أو خفت أن تراها. وهناك سحر خفيّ في الكتب لا يمكن تزييفه؛ أن تقرأ فكرة عميقة عبّر عنها شخصٌ مات قبل مائة عام، وتجد أنها تعبّر عنك الآن. هذا العبور الزمني هو المعجزة الحقيقية. أن نصبح أكثر فهمًا لزمننا من خلال كلمات كُتبت في زمن آخر. أن ننجو من لحظات الوحشة بفضل من كتبوا قبل أن نُولد، وكأنهم تركوا لنا كلماتهم في زجاجة تطفو على بحار الزمن، تنتظر أن نلتقطها. * أنا لا أؤمن بأن الكتب تغيّر العالم بشكل مباشر. لكنها تغيّر القارئ، وهذا يكفي. لأن القارئ المختلف يذهب إلى العالم بطريقة مختلفة. يفكر، ويشعر، ويحلم بطريقة أخرى. ومن هنا تبدأ التغييرات الحقيقية من داخل الفرد، ومن عمق التجربة التي يعيشها حين يقرأ شيئًا يهزّه. بعض الكتب لا تُقرأ مرة واحدة. نعود إليها كما نعود لأماكننا المفضلة. نُعيد اكتشافها، أو نكتشف أننا نحن من تغيّرنا. وما كان يبدو عاديًا صار يمسّ القلب، وما كان عميقًا أصبح أوضح. هذه العلاقة المتحركة مع الكتاب تجعله أكثر من مجرد مادة للقراءة. تجعله صديقًا، شاهدًا على مراحلنا، مرافقًا في صعودنا وهبوطنا. لكن الكتب لا تمنحنا أجوبة نهائية، بقدر ما تمنحنا طريقة أذكى لطرح الأسئلة. تعلمنا أن الحياة ليست وصفة جاهزة، وأن كل إنسان يكتب قصته بنفسه. تعلمنا أن نكون أكثر رحمة بأنفسنا، وبالآخرين. أن نرى الجمال وسط الفوضى، وأن نبحث عن الحقيقة، لا لنمتلكها، بل لنفهمها ونعيش بقربها. من الحبر خرج الحلم. ومن بين السطور خرجنا نحن. أكثر وعيًا، أكثر صدقًا، وأكثر قدرة على احتمال هذا العالم الغريب. فالكتب لا تصنعنا من جديد، بل تُعيدنا إلينا.

576

| 14 أبريل 2025

عذاب يواسي صاحبه!

الكتابة ليست مجرد حروفٍ تُسَطَّر على الورق أو على الشاشة، بل هي معركةٌ يخوضها الكاتب مع نفسه، مع أفكاره، مع العالم. إنها النور الذي ينبعث من قلب الظلام، والجرح الذي ينزف ليمنح صاحبه نوعًا من الراحة. الكاتب الأوروغوياني إدواردو غاليانو اختصر هذه الرحلة العجيبة في عبارة واحدة: “الكتابة تُتعب، ولكنها تواسي”، وكأنه يصف ذلك الشعور المتناقض الذي يعرفه كل من جرب أن يسكب روحه على الورق. إنها عملية استنزاف، لكنها أيضًا شفاء؛ ألمٌ، لكنه يحمل في طياته عزاءً لا يمنحه شيءٌ آخر. أن تكتب يعني أن تنظر إلى العالم بعينٍ ثالثة، عينٍ لا تكتفي برؤية الأشياء، بل تلامس جوهرها، تلتقط التفاصيل التي يغفل عنها الآخرون، وتعيد تشكيلها بلغةٍ قادرة على اختراق القلوب. لكن هذا الامتياز ليس بلا ثمن. الكتابة فعلٌ مرهق، ليس فقط لأنها تستنزف الفكر والمشاعر، بل لأنها تتطلب الغوص عميقًا في الذات، مواجهة المخاوف والشكوك، الحفر في الذاكرة، واستدعاء اللحظات التي ربما حاول الكاتب نسيانها. كل كاتب يعرف ذلك الشعور المزعج حين تتزاحم الأفكار في رأسه لكنه يعجز عن ترجمتها إلى كلمات، حين يكون المعنى واضحًا في داخله لكنه يتعثر في التعبير عنه، حين يشعر أن اللغة خانته وأن الكلمات لا تليق بما يريد قوله. تلك المعاناة لا يفهمها إلا من اختبرها. ومع ذلك، لا يتوقف الكاتب عن الكتابة، وكأن شيئًا ما في داخله يدفعه إلى الاستمرار، رغم التعب، رغم الإرهاق، رغم الإحباطات المتكررة. لكن لماذا نكتب إذن، إذا كانت الكتابة بهذا القدر من المشقة؟ ربما لأننا لا نستطيع التوقف. ربما لأن الكتابة ليست مجرد فعل، بل هي حاجة، غريزة، طريق وحيد للخلاص. الكاتب الحقيقي لا يكتب لأنه يريد ذلك فحسب، بل لأنه مضطر، لأنه لو لم يكتب، لاختنق بما يحمل في داخله. الكتابة تمنحنا القدرة على إعادة تشكيل العالم وفق رؤيتنا، على ترتيب الفوضى، على خلق معنى من العبث، على تحويل الألم إلى شيءٍ أجمل، أكثر قابلية للتحمل. لكنّ الكتابة ليست مجرد منفذ للألم، هي أيضًا عزاء. ثمة راحة غريبة في القدرة على تحويل المشاعر إلى كلمات، في تحرير ما يعتمل في الداخل وإلقائه على الورق، في الشعور بأن ما نكتبه قد يلمس شخصًا آخر، قد يواسيه، قد يخبره أنه ليس وحده في هذا العالم القاسي. الكلمة المكتوبة أشبه بيدٍ تمتد في الظلام، تربت على كتف القارئ وتخبره أن ثمة من يشعر مثله، من يفهمه، من مرّ بنفس ما مرّ به. ولذلك، رغم التعب، رغم الألم، يواصل الكاتب الكتابة. يواصل حتى عندما يبدو الأمر بلا جدوى، حتى عندما يشعر أن كلماته لا تساوي شيئًا، حتى عندما يتسلل الشك إلى قلبه ويقنعه أن كل ما يكتبه تافه. لأنه يعلم، في أعماقه، أن الكتابة ليست مجرد كلمات تُكتب، بل هي حياة تُعاد صياغتها، جراح تُشفى، وأرواح تتلاقى عبر الحروف. ولعل أعظم ما في الكتابة أنها تمنح الكاتب نوعًا من الخلود، فهي الطريقة الوحيدة التي يستطيع بها الإنسان أن يتحدى الزمن، أن يترك أثرًا يستمر بعد رحيله. الكلمات المكتوبة تظل قائمة، تتنقل بين الأجيال، تقرأها أعين لم تولد بعد، وتتردد أصداؤها في قلوب لم تخفق بعد. قد يرحل الكاتب، لكن كلماته تبقى، تواسي آخرين لم يعرفهم يومًا، وتمنحهم القوة والدفء في أوقاتٍ لم يكن يتخيلها. إنها هدية غير مشروطة، شهادة على أن الإنسان، رغم هشاشته، قادر على أن يترك بصمة لا تمحى، مجرد جملة واحدة قد تنير ظلام شخص ما، وقد تكون الكلمة الأخيرة التي كتبها الكاتب هي البداية لشخص آخر. غاليانو كان محقًا؛ الكتابة تُتعب، لكنها تواسي. ولعلها التعب الوحيد الذي لا نستطيع، ولا نريد، أن نتوقف عنه.

324

| 07 أبريل 2025

عطرهم.. في ثنايا الهواء!

ليس مجرد مناسبة تتكرر، بل هو شعور متجدد ينبض بالحياة في كل عام، ليلةٌ تسبق صباحًا مغمورًا بالنور والبهجة، لكنها أيضًا ليلة تستحضر كل ما مضى، ليلةٌ تلامس القلب كما لم تفعل أي ليلة أخرى. حين يتسلل المساء ببطء، ويبدأ الناس في تجهيز ملابسهم الجديدة وتحضير أطباق العيد، هناك شعور دفين ينمو في زوايا الروح، إحساس يشبه المزيج الغريب بين الفرح والحنين، وكأن القلب يحتفل بيد، ويمسح دمعة بيد أخرى. ليلة العيد ليست مجرد لحظة انتظار، بل هي فصل كامل يمر سريعًا في الظاهر، لكنه يحمل في طياته أعمق المشاعر الإنسانية. إنها ليلة تنبعث منها روائح الطفولة، حيث نسمع في دواخلنا أصوات الضحكات القديمة. في هذه الليلة، يضجّ المنزل بالحركة، الأطفال ينامون بصعوبة، والبالغون ينهمكون في الترتيبات، لكن في خضم هذه الضوضاء، هناك صمت داخلي لا يحس به أحد، إلا أولئك الذين عرفوا كيف يكون العيد حين ينقص منه أحباب كانوا بالأمس معنا. نستيقظ فجرًا، نفرح بالملابس الجديدة، نتبادل التهاني، لكن هناك لحظة صامتة تمرّ بين كل هذا، حين نلتفت إلى المكان الذي كان يشغله شخص عزيز لم يعد هنا. في العيد، لا تغيب الأرواح التي فارقتنا، بل تحضر بقوة أكبر. ربما نشعر بأطيافهم في زوايا البيت، أو نسمع أصواتهم في أغانينا المعتادة، أو نشتم عطرهم في ثنايا الهواء. العيد يعيد تشكيل الذكريات، يبعثرها أمامنا، لنلتقط منها ما نستطيع، ونخفي الباقي في زوايا القلب التي لا يصلها أحد. ومع ذلك، فإن العيد يظل بهجة لا يمكن إنكارها، بهجة تمتزج بالدموع لكنها لا تختفي، كأنها ترقص على إيقاع الذكريات، لا تفقد بريقها رغم كل شيء. حين نجلس حول «سفرة» الإفطار الأولى، حين نخرج إلى صلاة العيد، حين نستقبل التهاني، نشعر أن للحياة إيقاعًا لا يتوقف، وأن الغائبين يعيشون في تفاصيلنا الصغيرة، في ضحكة طفل، في يد حانية تمتد لمصافحتنا، في دعوة صادقة تُرفع للسماء. العيد يعلمنا أن الحنين لا يعني الحزن، وأن الغياب لا يعني النهاية. يعلمنا كيف يكون الفرح رغم الدموع، وكيف نبتسم حتى حين تختنق أرواحنا بالشوق. فكل عيد هو وعد جديد بأن الحب لا يموت، وأن الذين تركونا تركوا جزءًا منهم فينا، يظهر في ليلة العيد، ليبتسم لنا مرة أخرى، ولو عبر دمعة هاربة. وفي ليلة العيد، حين يخفت ضجيج الاستعدادات ويهدأ كل شيء للحظات، نجد أنفسنا وجهاً لوجه مع ذاك الشعور الغريب الذي لا اسم له. ذلك الإحساس الذي يجعلنا نطيل النظر إلى صور قديمة، أو نعيد الاستماع إلى أصوات محفوظة في ذاكرة القلب، أو نسرق لحظة صمت وسط الزحام لنخاطب الغائبين بصوت لا يسمعه أحد. نخبرهم أننا افتقدناهم هذا العام كما في كل عام، وأن العيد بدونهم يظل ناقصًا مهما ازدانت الأجواء بالفرح. لكننا في الوقت نفسه نوقن أنهم لم يرحلوا تمامًا، فهم يسكنون في دعوات الأمهات عند الفجر، وفي لمعة العيون حين نذكر أسماءهم، وفي ذلك الحنين الذي يمنح العيد طعمه المختلف، طعم الفرح الممتزج بشيء من الشوق، بشيء من الدمع، وبكثير من الحب الذي لا يموت. ويبقى العيد مناسبة تحمل في طياتها الأمل رغم كل شيء. نرجو أن يكون عيدًا مليئًا بالفرح والسكينة لكل القلوب المتعبة، وخصوصًا لأهلنا في غزة، الذين يقاومون الألم بقلوب تنبض بالحياة. لعل العيد يحمل لهم نورًا يمسح شيئًا من جراحهم، ويفتح لهم أبوابًا جديدة من الرحمة والفرج. كل عام والجميع بخير، وأملنا أن يأتي العيد القادم وقد تبدلت الأحوال إلى ما هو أجمل وأعدل.

450

| 31 مارس 2025

الحياة حلوة.. بشروط!

"الحياة حلوة، بس نفهمها".. كما تقول كلمات الأغنية القديمة. عبارة تختصر فلسفة بسيطة لكنها عميقة: الحياة مليئة بالجمال، ولكننا أحيانًا نعجز عن إدراكه، نفقد لحظات من السعادة والسلام لمجرد أننا لم نفهم المعنى الحقيقي للحياة. إن فهم الحياة لا يعني بالضرورة الوصول إلى إجابات لكل الأسئلة الكبرى، أو العثور على تفسير واحد لأسرار الوجود. بل هو ببساطة أن نفتح أعيننا على جمال التفاصيل الصغيرة، أن نقدر قيمة الأشياء التي تحيط بنا كل يوم، وأن ننظر إلى تحدياتنا بطريقة مختلفة. في كثير من الأحيان، نرى الحياة من زاوية ضيقة تجعلنا نركز على المشكلات والمعوقات، ونغفل عن لحظات الفرح التي يمكن أن نجدها حتى في أبسط الأشياء. فالحياة ليست مجرد سلسلة من الأيام والليالي التي تمر علينا، بل هي رحلة ذات طابع خاص، مليئة بالتجارب والدروس. أن نفهم الحياة يعني أن نعيش بتوازن، أن ندرك أن للحزن نصيبه، وللفرح نصيبه أيضًا، وأن هذه الثنائية هي التي تجعلنا نقدر قيمة كل لحظة. حين نتقبل أن هناك أوقاتاً صعبة وأخرى سعيدة، نصبح أكثر انسجامًا مع إيقاع الحياة. نتعلم ألا نحارب الزمن، بل أن نستمتع بما يقدمه لنا، حتى وإن بدا في بعض الأحيان قاسيًا أو مليئًا بالتحديات. وإذا تأملنا أكثر، نجد أن الحياة تقدم لنا دروسًا كثيرة. قد تكون هذه الدروس في صورة أشخاص نلتقي بهم، تجارب نمر بها، أو لحظات خاصة نستشعر فيها معنى أعمق للأشياء. نحن نعيش في عصر يتسم بالسرعة والتوتر، حيث يلهث الكثيرون خلف أهداف مادية أو أمان بعيدة. لكن أحياناً، كل ما نحتاجه هو لحظة تأمل، لحظة نستمع فيها إلى أنفسنا، ننصت لصوتنا الداخلي، ونسأل؛ ماذا نريد حقًا؟ ما الذي يجعلنا نشعر بالسلام الداخلي؟ حين نبدأ في فهم أنفسنا، نصبح قادرين على فهم الحياة بشكل أعمق. الحياة حلوة فعلاً، لأنها تمنحنا فرصًا لا تُحصى، وتجدد أمامنا الأمل، وتفتح لنا أبوابًا جديدة حتى بعد الأزمات والانكسارات. فكل تجربة نخوضها، مهما كانت مؤلمة، تضيف إلى نضوجنا وتجعلنا أقوى. وإذا نظرنا إلى الحياة بهذه النظرة المتفائلة، سنجد أننا نتذوق طعم الحلاوة في كل يوم، ليس لأن الحياة خالية من الصعوبات، بل لأننا أصبحنا نفهمها، ونفهم أنفسنا معها. الحياة تصبح أكثر حلاوة عندما نبدأ في تقدير الأشياء البسيطة؛ فنجان قهوة في الصباح، ضحكة صديق قديم، لقاء عائلي دافئ، أو حتى لحظة صمت نتأمل فيها غروب الشمس. إن فهم الحياة لا يتطلب منا سوى أن نتخلى عن ضغوطنا للحظات، أن ندع مخاوفنا جانبًا، ونعيش الحاضر بكل ما فيه من جمال. الحياة حلوة، حين نسمح لأنفسنا بأن نتذوقها، أن نعيشها بعيدًا عن التوقعات المثالية، بعيدًا عن الركض المستمر لتحقيق النجاح المادي. نحن من نصنع طعم الحياة. فحين نفهم أن السعادة لا تكمن في امتلاك كل شيء، بل في الاكتفاء بما لدينا، نصبح أكثر امتنانًا وأقل قلقًا. الحياة لا تنتظر أحداً، وكل لحظة تمر هي فرصة جديدة لنكتشف فيها شيئًا جميلاً. ربما يكمن سر الحياة في البساطة، في عيش اللحظة، وتقدير النعم الصغيرة التي نملكها. فالحياة حلوة، نعم، لكن بشرط أن نفهمها، وأن نتعلم من تجاربها، وأن نُدرك أن قيمتها ليست في طولها، بل في عمقها، ليست في كمية الأيام، بل في نوعية اللحظات التي نعيشها. وحين نصل إلى هذا الفهم، نكون قد بدأنا نكتشف الجمال الحقيقي في الحياة، ونبدأ في تذوق حلاوتها، بكل ما فيها من تناقضات وألوان.

468

| 24 مارس 2025

لحظة الدعاء.. لست وحدك!

ثمة صوت داخلي ينادي بلا لغة، يرتفع نحو اللاحدود، ويتلمس في الغيب رحمةً لا تُرى ولكنها تُحس. الدعاء، ذلك السر الخفي الذي يربط الأرض بالسماء، ويمنح الإنسان طمأنينةً لا يفهمها إلا من ذاقها. الدعاء ليس مجرد كلمات تتناثر في الهواء، ولا طقوساً تُمارَس حين تعجز الحيلة. إنه يقين يتجلى في هيئة رجاء، ونداء محمّل بالأمل، وتسليم يشبه ارتخاء الأعضاء بعد عناء طويل. لحظة الدعاء هي اللحظة التي يكشف فيها الإنسان ضعفه، لا ليُهان، بل ليُحتضن، ليُقَال له: لست وحدك. في فلسفة الدعاء، لا يكون السؤال بقدر ما يكون الاعتراف. الدعاء في جوهره إقرارٌ بأن للكون ربًّا يُدبّر أمره، وأن الحكاية مهما التوت فصولها، فإنها تسير وفق حكمة أعظم من أن يُدركها عقل محدود. حين يرفع الإنسان يديه، فهو في الحقيقة يرفع عن قلبه عبء التفسير، ويُسلم أمره لمن وسِعت رحمته كل شيء. لهذا كان الدعاء طمأنينةً قبل أن يكون رجاء، وكان عبادةً قبل أن يكون طلباً. كم مرة نادى القلب في لحظة ضيق، فوجد الراحة قبل أن يأتي الفرج؟ كم مرة سالت دمعةٌ في سجدة، فغسل الله بها كدراً عالقاً في الصدر؟ ليس لأن المشكلة قد حُلَّت حينها، بل لأن الطمأنينة سبقت الحل، واليقين سبق العطاء. إن سر الدعاء ليس في استجابة سريعة تلغي المحنة، بل في ذلك الشعور العميق بأن هناك من يسمعك، من يفهمك، من يرى انكسارك ولا يتركك وحيداً فيه. واليقين بالله هو الروح التي تمنح الدعاء معناه. لا يدعو الإنسان وهو يشك في الإجابة، ولا يناجي وهو في قلبه تردد. الدعاء ليس اختباراً، وليس مقامرةً مع الأقدار. إنه إيمان مطلق بأن الخير قادم، حتى لو لم يكن كما تخيلناه. ولهذا كان أعظم الدعاء ذلك الذي يقترن بالتسليم: «إن لم يكن بك غضبٌ عليَّ فلا أبالي»، «افعل بي ما أنت أهله، لا ما أنا أهله»، «إنّي مسّني الضر وأنت أرحم الراحمين». هذه الكلمات ليست مجرد توسّلات، إنها انغماسٌ في الحكمة الإلهية، واستغراقٌ في الطمأنينة التي تجعل الإنسان يرى حتى في المنع عطاءً، وحتى في الألم رحمةً. ليست كل دعوة تُستجاب كما نريد، ولكن كل دعوة تُسمع. وما من يدٍ رُفعت إلا وأمسكتها رحمة الله بطريقةٍ ما. ربما يمنحك الله ما طلبت، وربما يمنحك أفضل منه، وربما يصرف عنك شراً لم تكن لتراه، وربما يدّخر لك الإجابة لساعةٍ تكون فيها أشد حاجة. في كل الأحوال، الدعاء لا يضيع، ولا يذهب هباءً، ولا يعود صاحبه خائباً. كيف يخيب من قرع باب الكريم؟ والدعاء ليس مجرد وسيلةٍ لطلب المفقود، بل هو صلةٌ يومية، حديثٌ ممتد، علاقة دائمة بين العبد وربه. ليس شرطاً أن يكون في لحظة يأس، وليس من العدل أن نطرق بابه فقط حين تضيق بنا الحياة. الدعاء هو الامتنان حين تُعطى، والثناء حين تُوفّق، والتسليم حين لا تفهم، والحب الذي لا يتغير مهما تبدلت الظروف. حين يدعو المرء، فهو لا يغيّر القدر، لكنه يتغير معه. يصبح أكثر اتساعاً، أكثر هدوءاً، أكثر قدرةً على مواجهة الأيام بقلب مطمئن. يعرف أن في السماء رباً لا يخذل من رجاه، ولا يرد من دعاه، ولو بعد حين. ولهذا، يبقى الدعاء هو الوعد الدائم بأن الحياة، مهما اشتدت، تظل في يد الرحيم، وأن كل همّ، مهما ثقل، يذوب حين يلامس رحمة الله.

543

| 17 مارس 2025

الغربة ليست مسافة!

قيل لنا إن الغربة هي المسافة التي تفصلنا عن الأماكن التي نحبها، عن الوطن الذي تركناه خلفنا، عن الطرقات التي كبرت خطواتنا فيها. صدّقنا هذا الوهم، حتى غدونا نظن أن الغربة هي كيلومترات معدودة، تُقاس بما نبتعده عن بقعة على خريطة العالم. لكن الحقيقة أعمق بكثير من ذلك. الغربة الحقيقية ليست بعداً جغرافياً، بل هي فقدان الذات وسط زحام الحياة وضجيج العالم، هي ذلك الإحساس الذي يخترقك حين تشعر أنك غريب عن نفسك، عن صوتك، عن كل ما يشبهك. هناك غرباء كُثر في أوطانهم، بين أهلهم وأصدقائهم، لكنهم يفتقدون شعور الانتماء. الغربة الحقيقية ليست مغادرة مكان، بل هي فقدان شعورك بأنك جزء من عالمك. هي أن تكون في مكان مزدحم بالحياة، ولكنك تشعر أنك معزول تماماً. لا أحد يرى عمقك، ولا أحد يسمع صرختك الصامتة. يحدث أن تتحول الحياة اليومية إلى سلسلة من اللحظات التي لا تعني لك شيئاً، حيث تصبح الكلمات التي تُقال والوجوه التي تُحيط بك أشبه بظلال باهتة لا تُحرك فيك شيئاً. وسط هذا الضجيج كله، نضيع. نُدفن تحت ثقل التوقعات، تحت محاولاتنا المستمرة لإرضاء الآخرين. نصبح مجرد انعكاسات لما يريدونه منا، بينما نبتعد أكثر فأكثر عن أنفسنا الحقيقية. نُدرك فجأة أننا في سباق لا نعرف سببه، وأننا خسرنا في الطريق أشياء ثمينة: أحلامنا الصغيرة، شغفنا، والأهم من ذلك، سلامنا الداخلي. وحين ندرك حجم الغربة التي نسكنها، نفهم أن العودة ليست مجرد رحلة إلى مكان تركناه خلفنا. العودة ليست إلى وطن، بل إلى أعماق أرواحنا. العودة الحقيقية هي لحظة نقرر فيها أن نصغي إلى أصواتنا الداخلية التي كنا نهرب منها. هي أن نتوقف عن الركض للحظة، أن ننظر إلى الداخل ونسأل أنفسنا: ما الذي يوجعني؟ وماذا أحتاج لأشفى؟. العودة تبدأ بخطوة صغيرة. خطوة نحو التصالح مع الماضي، مع الأخطاء التي ارتكبناها والقرارات التي ندمنا عليها. هي أن نسامح أنفسنا على الضعف، على الضياع، على الانحناء أحياناً تحت وطأة الحياة. أن نغفر لأنفسنا هو أول الطريق نحو السلام، لأنه يحررنا من قيود نضعها نحن حول أرواحنا. ولأن الغربة ليست دائماً أمراً سيئاً، فإنها قد تكون درساً إنسانياً عميقاً. الغربة تعلمنا أن الأماكن ليست هي التي تمنحنا الشعور بالانتماء، بل ما نحمله في داخلنا هو ما يصنع شعور الوطن. قد تكون الغربة دعوة للبحث عن الذات، لتكوين علاقة أعمق مع أنفسنا، للتوقف عن الاستماع إلى الضجيج الذي يعلو من حولنا، والبدء في الاستماع إلى صوت قلوبنا. لذا، إذا شعرت يوماً بالضياع وسط الزحام، لا تبحث عن الطريق في الخارج. المفتاح ليس هناك. المفتاح في داخلك، في قلبك أنت. حين تعود إلى ذاتك، ستدرك أن الغربة كانت مجرد انعكاس لفقدانك لها، وأن العودة الحقيقية هي بداية حياة مليئة بالتصالح والسلام. وحين نستوعب حقيقة الغربة، ندرك أنها ليست دائماً قدراً محتوماً، بل قد تكون بوابة لاكتشاف عوالم جديدة في داخلنا. ربما هي الفرصة التي تمنحنا إياها الحياة لنخلع عنا الأقنعة التي التصقت بوجوهنا، لنتحرر من الأدوار التي فرضت علينا أو اخترناها بدافع الخوف والتكيف. في الغربة، نتعلم كيف نعيد تعريف أنفسنا بعيداً عن كل ما اعتقدنا أنه يحددنا. نعيد ترتيب أولوياتنا، ونصنع وطناً من التفاصيل الصغيرة التي تشبهنا، من اللحظات التي نجد فيها أنفسنا، من الكلمات التي تسكن أعماقنا دون خوف أو مواربة. قد تكون الغربة امتحاناً قاسياً، لكنها أيضاً فرصة للولادة من جديد، لنتشكل كما نريد، لا كما يريد الآخرون.

795

| 10 مارس 2025

الشهر الذي لا يتكرر

نقول لبعضنا البعض في رمضان كل عام: «مبارك عليكم الشهر الفضيل»، كأننا نلتقي به لأول مرة، كأننا لم نعشه من قبل، ولم نحسب أيامه ونعدّ لياليه ونتلو أدعيته ونرتب أحلامنا بين ثناياه. ولكن، ماذا يعني “الشهر الفضيل” بالنسبة لشهر يعود عامًا بعد عام؟ كيف يكون الزمن متكررًا وهو في جوهره زائل؟ وهل رمضان هو رمضان نفسه في كل مرة، أم أن في كل عام منه رمضان مختلفًا لا يتكرر؟ هناك شيء غريب في هذا الشهر، كأنه لا يخضع لقوانين الوقت كما نعرفها. فهو يعود إلينا كل عام، لكنه لا يكون أبدًا كما كان. في كل مرة يأتي، نحن الذين نكون قد تغيّرنا، أرواحنا التي أنهكتها الحياة تتوق إليه بشغف مختلف، وأمانينا التي لم تتحقق في الأعوام الماضية تجد فيه موسمًا جديدًا للحلم والتضرع، وأوجاعنا التي حسبناها اندملت تعود لتطلب شفاءها من رحمته. فنحن الذين نختلف، وليس هو!. نحن الذين ننظر إليه بعيون متغيرة، بأعمار متقدمة، بأحمال جديدة من الهموم والذكريات، بقلوب أنهكها الانتظار أو أرهقتها الأيام. إنه شهر يأتي ليُذكّرنا، لا ليُعيد نفسه، يوقظ فينا أشياء كنّا قد نسيناها، يبعث في القلب حرارة الإيمان التي يبردها الزمن، ويعيدنا إلى تلك النسخة الطفولية البريئة من أرواحنا التي كانت تفرح بقدومه كما لو أنه العيد نفسه. لكننا حين نكبر، لا نكفّ عن البحث عن تلك النسخة الضائعة فينا، التي كانت ترى في رمضان أكثر من مجرد امتناع عن الطعام والشراب. نحن نبحث عن تلك الرهبة القديمة في سماع صوت الأذان يُعلن أول أيامه، وعن بهجة رؤية الهلال كأنه يبتسم لنا بحنو، وعن لحظة الإفطار التي لم تكن مجرد انتهاء لصيام طويل، بل كانت لقاءً روحانيًا مع النفس، مع الذكريات، مع الدعوات الخفية التي لا نهمس بها إلا في ظلاله. وكم يبدو غريبًا أن هذا الشهر، رغم ثبات موعده في التقويم الهجري، إلا أنه لا يستقر في فصولنا ولا في مزاج الطقس. يأتي أحيانًا في ذروة الحر، فنصبر، ويعود في أيام البرد، فنتدثر، وقد يمر على أمم تعاني الجوع أصلاً، فتكون مشقته مضاعفة، ويمر على أخرى مترفة، فتكون فتنة موائده قاسية. لكنه في كل حالاته يظل هو هو، الاختبار الأجمل لصبر الإنسان، والنافذة التي تفتح على ما وراء المألوف. رمضان ليس شهرًا في التقويم، بل هو مرآة، كلما عدنا إليها وجدنا فيها صورة جديدة لأنفسنا، نرى وجوهنا وقد كبرنا عامًا آخر، ونرى أرواحنا وهي تعبر محطات الحياة، ونشعر أن هناك فرصة أخرى للتصالح مع الذات، مع الله، مع الزمن الذي يركض بنا سريعًا. ربما لهذا السبب لا يكون رمضان كما هو في كل مرة، لأننا في كل مرة نستقبله بقلوب جديدة، بظروف مختلفة، بأوجاع جديدة، وأحلام لم نحققها بعد. في ليلة من لياليه، قد نجد أنفسنا نرفع ذات الدعوة التي رفعناها في العام الماضي، بذات الرجاء، بذات الدموع، لكن بوعي أعمق لما تعنيه. وفي صباح آخر، قد نكتشف أن ما تمنيناه العام الماضي تحقق بالفعل، لكننا كنا مشغولين عن ملاحظة ذلك. رمضان ليس فقط شهر العبادة، بل هو أيضاً شهر الإدراك، شهر أن ترى ما لم تكن تراه في نفسك، في حياتك، في الدنيا كلها. ومهما قلنا، سيظل رمضانُ رمضانَ، وسنظل نحن الذين نتغير. لكنه سيبقى ذلك الشهر الذي لا يتكرر، حتى وإن عاد إلينا كل عام. وربما هذا هو سرّه الأعظم؛ أنه لا يغادرنا حقًا، بل يظل فينا على هيئة درس لم نفهمه تمامًا بعد، على هيئة وعد بأننا سنحاول أن نبقى كما كنا فيه، أو على الأقل، ألا ننسى سريعًا ما جعلنا نشعر بأننا أكثر إنسانية، أكثر قربًا، أكثر صدقًا مع ذواتنا. لكنه، رغم كل ذلك، يعلم أننا سنعود لما كنّا عليه، وأننا سننتظره من جديد، وسنقول حين يأتي مرة أخرى، وكأنها المرة الأولى: «مبارك عليكم الشهر الفضيل».

468

| 03 مارس 2025

قوة الاعتذار: كيف تُصلح ما كُسر بكلمتين؟

الاعتذار ليس مجرد كلمة تُقال، بل هو جسرٌ ممتد بين القلوب، يعيد ما انقطع من روابط المودة، ويجبر ما تكسر من مشاعر. إنه ذلك الفعل الإنساني العميق الذي يتطلب شجاعة داخلية ووعياً ناضجاً بالذات والآخر. ليس كل من أخطأ قادرًا على الاعتذار، فالأمر ليس مجرد نطق بكلمات عابرة، بل هو عملية صادقة تستلزم إدراك الخطأ، والاعتراف به، وتحمُّل المسؤولية، ثم محاولة تصحيح ما يمكن تصحيحه. في مجتمعاتنا، يعاني الاعتذار أحيانًا من كونه مرتبطًا بالضعف، وكأن الإقرار بالخطأ يُنقص من قدر الإنسان أو يهز من مكانته. لكن الحقيقة عكس ذلك تمامًا؛ فالاعتذار فعلُ قوةٍ لا ضعف، وهو دليل على شخصية متصالحة مع نفسها، قادرة على مواجهة أخطائها بدل الهروب منها. إن القدرة على الاعتراف بالخطأ والاعتذار عنه لا تنبع إلا من نفوسٍ كريمةٍ تدرك أن الكمال ليس من صفات البشر، وأن الأهم من الوقوع في الخطأ هو القدرة على تجاوزه بكرامة وإنسانية. الاعتذار ليس مجرد كلمات تقال على استحياء، بل هو إحساس عميق بالمسؤولية الأخلاقية. عندما يعتذر المرء، فهو يعترف بأنه قد تسبب بأذى، سواء بقصد أو من دون قصد، ويعبر عن رغبته الحقيقية في إصلاح ما أفسده، أو على الأقل تخفيف الأثر الذي خلّفه. والأهم من ذلك أن الاعتذار لا يكون صادقًا إلا إذا كان مقرونًا بتغيير حقيقي في السلوك، وإلا أصبح مجرد محاولة باردة لإراحة الضمير من دون نية فعلية لإصلاح الخطأ. لكن، على الجانب الآخر، يجب أن تكون ثقافة الاعتذار متجذرة ليس فقط فيمن يخطئ، بل أيضًا فيمن يستقبل الاعتذار. قبول الاعتذار بقلوبٍ متسامحة يعكس وعياً عميقاً بالإنسانية، واعترافًا بأن كل البشر يخطئون. إن من يرفض الاعتذار أو يصرّ على معاقبة المخطئ حتى بعد ندمه، إنما يغلق باب التصالح ويجعل من الأخطاء جروحًا مفتوحة لا تلتئم. لذا، فإن التسامح يجب أن يكون جزءًا من معادلة الاعتذار، لأن الغاية النهائية منه ليست فقط تصحيح الخطأ، بل استعادة الثقة والعلاقة الإنسانية التي كادت أن تضيع. الاعتذار فنٌ ومهارة، وهو ليس مجرد رد فعل على الخطأ، بل أسلوب حياة يعكس رقي الإنسان. الشخص الذي يعتذر بسهولة وصدق، لا يفعل ذلك لأنه ضعيف، بل لأنه يقدّر قيمة العلاقات الإنسانية أكثر من كبريائه الشخصي. إنه يفهم أن الاعتذار ليس تنازلاً بل تحررًا من ثقل الذنب، وأن الكلمات الصادقة التي تُقال في لحظة ندم قد تكون كفيلة بإنقاذ علاقةٍ أو إصلاح جرحٍ عميق. لكن في المقابل، هناك اعتذارات زائفة تُقال بلا إحساس، مجرد عبارات تُردد لمجرد إسقاط الواجب، وكأنها كلمات تُستخدم لتبرئة النفس لا لمداواة الآخر. الاعتذار الحقيقي لا يكون مجرد جملة روتينية مثل “أنا آسف” تُقال بفتور، بل هو فعل ينبع من الداخل، يتجلى في نبرة الصوت، ونظرة العين، والجهد المبذول لتصحيح الخطأ. * والاعتذار ليس حكرًا على الأفراد فقط، بل هو ثقافة يجب أن تتبناها المجتمعات والمؤسسات والدول. الاعتذار الجماعي عن أخطاء الماضي هو خطوة نحو مستقبل أكثر وعياً وعدالة. نرى في التاريخ كيف أن بعض الدول العظيمة لم تخجل من الاعتذار عن أخطاء ارتكبتها بحق الشعوب الأخرى، بل اعتبرت ذلك جزءًا من مسؤوليتها الأخلاقية. والمجتمع الذي يعترف بأخطائه، هو مجتمع ناضج يتعلم منها ولا يكررها. كم من علاقات انتهت لأن أحد الطرفين لم يجد الشجاعة ليقول “أنا آسف”؟ وكم من صداقات ضاعت لأن الغرور حال دون الاعتذار؟ وكم من قلوب ظلت مثقلة بالجراح لأن الاعتذار لم يكن جزءًا من المعادلة؟ إن الاعتذار ليس فقط وسيلة لتخفيف الندم، بل هو مفتاح لاستمرار العلاقات الإنسانية ونضوجها. عندما نعتذر، نحن لا نقوم بفعل لصالح الآخر فقط، بل لصالح أنفسنا أيضًا. نحن نتحرر من عبء الذنب، ونمنح قلوبنا فرصة للسلام. فالحياة قصيرة، والمواقف العالقة التي لم يتم إصلاحها تتحول مع الزمن إلى جدرانٍ عازلة تمنعنا من العيش بصفاء. الاعتذار هو الجسر الذي يجعلنا نعبر إلى الجانب الآخر من العلاقة بأمان، دون أن نخسر أنفسنا أو من نحب. * إن ثقافة الاعتذار هي انعكاس لتحضر المجتمع ورقيه، وهي دليل على أن الإنسانية ما زالت نابضة في قلوبنا، وأننا قادرون على التعلم من أخطائنا والتطور. فلتكن كلمات الاعتذار الصادقة جزءًا من حياتنا، ولنتعلم كيف نقولها ونستقبلها بقلوب مفتوحة، لأننا في النهاية بشر، نخطئ ونصيب، لكن ما يجعلنا أكثر إنسانية هو قدرتنا على التراجع والتصحيح، والعودة دومًا إلى نقطة النقاء الأولى.

831

| 24 فبراير 2025

القلق.. مرآة لأنانيتنا

تستلقي على فراشك منهكًا، لكن النوم يعاندك. تتقلب بين أفكارك، تبحث عن مخرج من تلك الدوامة التي صنعها عقلك. تفاصيل صغيرة تتحول فجأة إلى وحوش تضخمها المخاوف، مشكلة بسيطة في العمل، خلاف عابر مع صديق، أو حتى كلمة لم تقلها بالطريقة التي أردتها. هذه الأمور التي تبدو عادية في النهار تأخذ في الليل حجمًا يفوقها، ويزداد انزعاجك وتشتد قسوة القلق عليك، فتشعر أن هذه المشكلات الصغيرة أكبر مما تحتمل. لكن مع أول خيوط الفجر، حين تبدأ الحياة في التحرك من حولك، تمسك هاتفك أو تستمع إلى نشرة الأخبار. تسمع عن عائلة فُقدت بأكملها تحت أنقاض منزلها في زلزال، أو ترى صورًا لأمهات يحملن أطفالهن وسط الحطام، يبحثن عن شربة ماء أو لقمة تسد رمق الجوع. ربما يصل إلى مسامعك خبر وفاة شاب كان بالأمس يتحدث عن أحلامه، أو تقرأ عن قرية اجتاحتها السيول فحولت بيوتها إلى أطلال. حينها، تشعر أن كل ما كان يشغل بالك ليلة الأمس لم يكن سوى رفاهية، وأن انزعاجك من مشكلة صغيرة يبدو ترفًا لا يملك مثله هؤلاء الذين يعيشون يومهم بين الحياة والموت. هذه اللحظة، التي يتضاءل فيها قلقك أمام مآسي الآخرين، هي لحظة صادمة لكنها كاشفة. إنها توقظك من شرنقة الانغماس في ذاتك، وتجعلك تدرك حجم النعم التي تحيط بك دون أن تشعر بها. المشكلة التي بدت لك بالأمس وكأنها نهاية العالم تتحول الآن إلى تفصيل هامشي، بينما تجد نفسك أمام مآسٍ حقيقية يعاني منها آخرون بصمت وكرامة. والمفارقة هنا أن القلق ليس شعورًا سيئًا بحد ذاته. إنه طبيعي، جزء من طبيعتنا كبشر. لكنه يصبح أحيانًا مرآة لأنانيتنا. حين نركز على أنفسنا فقط، على تفاصيلنا الصغيرة، نغفل عن الصورة الأكبر، عن تلك المعاناة التي تتجاوز حدود خيالنا. نحن نعيش في عالم يعج بالمآسي، لكننا نغلق أعيننا عنها أحيانًا، ربما لأننا نخشى أن تثقل أرواحنا، أو لأننا ببساطة نفضل الانشغال بهمومنا الخاصة. ليس المطلوب أن نشعر بالذنب لأننا أقل معاناة من غيرنا. لكن إدراك هذه الحقيقة يجعلنا أكثر وعيًا بقيمة ما نملك. يجعلنا أكثر شكرًا على النعم التي قد نعتبرها أمرًا مسلمًا به: سقف يحمينا، طعام نأكله، أمان ننام في كنفه. حين ندرك ذلك، يصبح القلق فرصة لإعادة ترتيب أولوياتنا، وفرصة لنشر التعاطف في قلوبنا. كم مرة قرأنا عن أطفال يعيشون في المخيمات، بلا تعليم، بلا دفء، بلا أمل في مستقبل واضح؟ كم مرة شاهدنا صور العائلات في الحروب وهي تحمل القليل مما تملكه وتبحث عن مكان آمن؟ تلك الصور، التي قد تبدو لنا مجرد أخبار عابرة، هي واقع يومي لأناس مثلنا، كانوا يومًا يعيشون حياة مليئة بالخطط والأحلام، حتى باغتتهم الكوارث. هذه القصص ليست بعيدة عنا، فهي تذكرنا بأن العالم مليء بالألم، لكنها في الوقت نفسه تفتح أعيننا على النور الذي نملكه. نحن نملك خيارًا، إما أن نغرق في تفاصيلنا الصغيرة ونسمح لها بأن تقيدنا، أو أن ننظر إلى الصورة الأكبر، فنرى كيف يمكننا أن نصبح جزءًا من الحل. أن تشعر بالقلق ليس عيبًا، لكنه يصبح عيبًا إذا تركته يعميك عن رؤية الآخرين. ربما الحل يكمن في أن نمنح لحظات القلق فرصة لتعليمنا شيئًا جديدًا. أن ندرك أن هناك فرقًا بين الانزعاج الحقيقي وبين القلق المترف. أن نتعلم من أخبار العالم حولنا أن ننظر إلى مشكلاتنا من زاوية مختلفة. فكل يوم يبدأ بجديد، وكل شروق شمس يحمل فرصة لأن نكون أكثر إنسانية، أكثر امتنانًا، وأكثر وعيًا بحقيقة ما نملكه وما يمكننا تقديمه.

561

| 17 فبراير 2025

alsharq
النعش قبل الخبز

لم تكنِ المأساةُ في غزّةَ بعددِ القتلى، بل...

3069

| 21 أكتوبر 2025

alsharq
الكرسي الفارغ

ليس الفراغ في الأماكن، بل في الأشخاص الذين...

3066

| 20 أكتوبر 2025

alsharq
معرفة عرجاء

المعرفة التي لا تدعم بالتدريب العملي تصبح عرجاء....

2856

| 16 أكتوبر 2025

alsharq
العنابي يصنع التاريخ

في ليلةٍ انحنت فيها الأضواء احترامًا لعزيمة الرجال،...

2637

| 16 أكتوبر 2025

alsharq
نموذج قطر في مكافحة المنشطات

يمثل صدور القانون رقم (24) لسنة 2025 في...

2574

| 21 أكتوبر 2025

alsharq
ملف إنساني على مكتب وزيرة التنمية الاجتماعية والأسرة

في زحمة الحياة وتضخم الأسعار وضيق الموارد، تبقى...

1404

| 16 أكتوبر 2025

alsharq
أين ربات البيوت القطريات من القانون؟

واكبت التعديلات على مجموعة من أحكام قانون الموارد...

1134

| 21 أكتوبر 2025

alsharq
وجبات الدايت تحت المجهر

لم تعد مراكز الحمية، أو ما يعرف بالـ«دايت...

975

| 20 أكتوبر 2025

alsharq
وجهان للحيرة والتردد

1. الوجه الإيجابي • يعكس النضج وعمق التفكير...

945

| 21 أكتوبر 2025

alsharq
القيمة المضافة المحلية (ICV)

القيمة المضافة المحلية (ICV) أداة إستراتيجية لتطوير وتمكين...

822

| 20 أكتوبر 2025

alsharq
دور معلم الفنون في مدارس قطر

في قلب كل معلم مبدع، شعلة لا تهدأ،...

795

| 17 أكتوبر 2025

alsharq
العنابي يحلّق من جديد

في ليلة كروية خالدة، صنع المنتخب القطري "العنابي"...

759

| 17 أكتوبر 2025

أخبار محلية