رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
كنت وحدي، أو هكذا خُيِّل لي. وفجأة، انتبهت لحركة صغيرة تُقاطع سكوني. كانت فراشة. فراشة صغيرة، كأنها هاربة من كراسة رسم، تتهادى في الهواء بخفة لا تُصدّق، وتحوم حول الموقد بإصرارٍ لا يشبه الكائنات الطيّعة، بل يشبه أكثر أولئك الذين يسيرون نحو مصيرهم المحتوم بإرادتهم الكاملة. كنت أتابعها بعينٍ تملؤها الدهشة، قبل أن أحاول إبعادها، فتعود. أنفخ عليها قليلاً فتختفي لوهلة، ثم ما تلبث أن تعود لتدور في فلك النار، كأنما خلقت لتكتشف حدود الألم بلمسة جناح. لم تكن تطير عبثًا، بل بشيء يشبه الإيمان. إيمانٌ عجيب لا أعرف مصدره؛ أتؤمن بالضوء؟ أم تؤمن أن الضوء بداية خلاص؟ أم لعلها لا تعرف أنها تقف على حافة الهلاك؟ مرّ وقتٌ وأنا أراقب هذا الكائن الرقيق العنيد، وكلما عادت إلى النار، شعرت أن شيئًا في داخلي يُريد الصراخ؛ «عودي إلى العتمة، ففيها نجاتك!»، لكني سكتُّ. ربما لأنني شعرت أن هذا المشهد ليس مجرد مواجهة عشوائية بين فراشة ولهب، بل هو مرآة لحكاية أوسع بكثير، لعلها مرآتي أنا. كم من مرةٍ كنت أنا الفراشة؟ كم مرة طرتُ بإصرار نحو أشياء أحببتها وظننتها ضوءًا، فإذا بها تحرقني؟ كم من مرة اقتربت من فكرة، من شخص، من حُلمٍ، وأنا أعلم تمامًا أن النار تحته مشتعلة، ومع ذلك، واصلتُ التحليق، لا لأني لا أعلم، بل لأني كنت أحتاج أن ألمس اللهب كي أتيقّن أنني ما زلتُ حيّة. ليست الفراشة غبية، وليست ساذجة، هي فقط مؤمنة بشيءٍ ما، لا نراه نحن الذين نحذر كثيرًا ونحسب خطواتنا ببرود المنطق. الفراشة مخلوق آخر غير البشر، وعيها لا يشبه وعينا، وخوفها لا يشبه خوفنا، واختيارها للموت ليس عبثًا بقدر ما هو استجابة لنداء لا نفهمه نحن أبناء الحسابات الدقيقة. ربما لهذا أحببتُها، وربما لهذا شعرتُ أنني مدينة لها بهذا التأمل الليليّ العميق. كانت تدور وتدور، ولا تعلم أنها تُعلّمني أشياء كثيرة. تُعلّمني أن بعض الخسارات تُرتكب بكامل القلب، وأن بعض الاقترابات القاتلة لا تحدث إلا لأن فينا شيئًا أعند من النجاة. فينا شوقٌ حارق لا تهزمه التحذيرات، بل تفتنه، ويقوده توقٌ للتماهي مع الضوء حتى ولو كان آخر ما نراه. في تلك الليلة، لم تعد الفراشة وحدها تحت اللهب، كنت معها، بل كنتُ هي. كل دوراننا حول من نحب، كل تكرارنا للخطأ نفسه، كل اندفاعنا إلى فكرة نعرف أنها ستكلفنا الكثير، كل هذه ليست غباءً ولا اندفاعًا محضًا، بل تعبير عن ذلك النبض الداخليّ الذي لا يرضى بالحياة الباهتة، ويصر على أن يُلامس الضوء، حتى ولو احترق لأجله. عندما احترق جناح الفراشة أخيرًا، وانكفأت في زاوية الموقد، شعرتُ بوخزة في قلبي. لم يكن حزنًا فقط، بل كان أيضًا من هذا الكائن الصغير الذي قرّر نهايته بنفسه، من دون تردّد، وبلا بكاء. فراشة اختارت قدرها، ومضت. في حين نقضي نحن حياتنا نهرب من أقدارنا، ونتوسل السلامة، ونخشى التجربة، ونرتعش من فكرة الخسارة. من قال إن العاقل لا يقترب من النار؟ من قال إن النجاة في الابتعاد فقط؟ بعض الأرواح خلقت لتجرب، لتغامر، لتكسر السياج، وتطير نحو النهاية، لا لأنها لا تخاف الموت، بل لأنها تؤمن بالحياة التي تبدأ بعد كل احتراق. حين وقفتُ لأغادر، كان الموقد قد خفّت نيرانه، والفراشة تحوّلت إلى رماد، لكن في داخلي اشتعل نار أخرى؛ إدراكٌ حادّ أن الحياة لا تُقاس بالمدة، بل باللحظة التي نحلّق فيها بكل إرادتنا، حتى لو كانت الأخيرة. وهكذا، بقيت صورتها تحوم حولي. فراشة صغيرة… خفيفة… حرة… علّمتني أن بعض النهايات لا تُهزم، لأنها كانت نابعة من قناعة عميقة بأن الحياة لا تُعاش إلا كاملة، حتى آخر لهب.
642
| 23 يونيو 2025
كل شيء بدأ هناك، في تلك الزاوية الحميمة التي لا تُقاس باتساعها، بل بما احتوته من بذور الأحلام الأولى. لم تكن تلك المساحة التي بدأت منها واسعة بالمعنى الفيزيائي، لكنها كانت رحبة بما يكفي لتحتضن بداياتي، وهادئة بما يتيح لي أن أُصغي لصوتي الداخلي قبل ضجيج العالم. لم تكن مجرد مكان للإقامة العابرة، بل كانت عالمي الأول، منبع التأمل، ومختبر التساؤلات الكبرى. في تلك البقعة المألوفة، فهمت أن الجغرافيا الحقيقية لا تُقاس بخطوط العرض والطول، ولا تحددها خرائط المدن والدول، بل تبدأ من الداخل، من الذات حين تُوقظ وعيها، وتفتح نوافذها على الآخر المختلف. تعلّمت أن المسافة بيني وبين أبعد نقطة في هذا العالم يمكن أن تنكمش إلى لحظة تأمل، أو إلى سطر في كتاب، أو إلى صوت عابر يوقظ في القلب دهشة. كنت أطلّ على هذا العالم لا من نافذة تطل على منظر مدهش، بل من نافذة الروح التي ترى ما لا يُرى. لم أكن بحاجة إلى أفق واسع كي أرى العالم، كنت بحاجة إلى خيال متّقد، وإلى فضول لا يشبع. كنت أقرأ، وأحلم، وأتخيل، وأصغي، وأجمع ما يعبر أمامي من ملامح وصور وعبارات، كما يجمع المسافر شتات طرقه في حقيبة صغيرة. رحلتي لم تبدأ من مطار، ولم أكن أحتاج إلى حقيبة ثقيلة. بدأت من الداخل، من سؤال بسيط: من أنا؟ وامتد السؤال ليصير: ماذا أرى حين أفتح عيني؟ من هو هذا الآخر؟ ولماذا يُدهشني؟ كنت لا أبحث عن إجابات جاهزة، بل عن فهم أعمق، عن مساحة إنسانية مشتركة تربطني بالعالم. وكلما ازداد هذا الفهم، اتسعت مساحتي، وكبرت خارطتي التي لا تُرسم على الورق، بل تُخطّ بالقلب. حين خرجت من مساحتي، خرجت بأفكاري أولاً، ثم بتجربتي ومشاعري. كل لقاء جديد كان بمثابة عبور نحو ضفة مختلفة من الذات. كل حوار صادق كان بمثابة لغة جديدة تُضاف إلى معجم القلب. حتى الخيبات، تلك التي تؤلم ولا تُنسى، كانت دروسًا في تضاريس الروح، وفي خرائط العاطفة، وفي مواسم النفس الداخلية. شيئًا فشيئًا، أدركت أن الانتماء ليس إلى مكان بعينه، بل إلى أثر يتركه المكان فيك. كل موضع وطأته قدماي، ولو بالصدفة، فتح داخلي نافذة جديدة، وزرع بذرة تأمل. لم تكن المساحة الضيقة عائقًا، بل كانت حافزًا لتوسيع المخيلة، ولإعادة تعريف معنى الرحابة. ومن هناك، أيقنت أن المعنى لا يُمنح، بل يُكتشف بالتجربة، وبالاصطدام، وبالحنين إلى المجهول. الآخر لم يكن نقيضًا، بل امتدادًا. كان مرآتي التي أتعرف عبرها على ملامحي من زوايا جديدة. لم أكن أقترب منه لأذوب فيه، بل لأزداد وعيًا بنفسي من خلاله. وكلما تعمقت في هذا الوعي، ازداد يقيني بأن الذات ليست قيدًا، بل مفتاحًا؛ وأن المساحة التي بدأت منها ليست حدودًا، بل نقطة انطلاق تتجدد كلما قرأت كتابًا، أو أنصتُ لوجهٍ جديد، أو تذكرت لحظةً نائمة في الذاكرة. واليوم، حين أستعيد تلك البداية، لا أراها بعين الحنين، بل بعين الامتنان. لقد منحتني تلك المساحة الصغيرة أعظم امتياز: أن أُبصر ما وراء الجدران، أن أُدرك أن العالم لا يحتاج إلى خطوات كثيرة كي يُستكشف، بل إلى قلب منفتح، وروح يقظة. فالعالم، بكل تنوعه وتناقضه، لم يعد مجرد أماكن تُزار، بل صار شعورًا يُعاش، وانتماءً يُصاغ، وخريطة نابضة تُرسَم من الذات وإليها. وفي كل مرة أُصغي فيها لحكاية جديدة، أو أكتب فكرةً تطرق الباب من بلا موعد، أشعر أن نقطة جديدة تُضاف إلى خريطتي الخاصة، تلك التي لا تحدها الحدود ولا تُقيدها السياسة، بل تنبض بالصدق، وتُرسم بنبض الإنسان. وهكذا، تستمر الرحلة.
1338
| 16 يونيو 2025
دمية بلا ملامح واضحة، لا ذكاء في تصميمها، ولا جمال في صناعتها، ولا حتى قصة خلفها تُروى. ومع ذلك، اجتاحت الأسواق كالإعصار، واقتحمت أرفف المحال، وتسللت إلى غرف الأطفال، بل حتى إلى قلوب الكبار. اسمها؟ لابوبو. وما لابوبو هذه إلا مجازٌ صارخ لعقلية القطيع في أبهى تجلياتها. في البدء، لم تكن “لابوبو” شيئًا يُذكر. دمية عادية، برأس كبير وجسد صغير، لا تمتاز بشيء سوى أنها ظهرت في الوقت المناسب، وسط جيل يبحث عن ضجة تُخرجه من صمته، أو نكتة يتداولها ليشعر بوجوده. شيئًا فشيئًا، بدأت تنتشر. لم يكن انتشارها نتيجة إعلان ذكي، ولا حملة تسويق عبقرية، بل بفعل التقليد الأعمى وحده. شخص ما التقط لها صورة، كتب تعليقًا ساخرًا، ثم شاركها… ففعل الآخرون مثله. وهكذا بدأت الدمية تتحول إلى ظاهرة. لكن أيّ ظاهرة هذه؟ وما الذي يجعل الناس يحتشدون حول منتج لا يملك أي قيمة جمالية أو فكرية أو حتى ترفيهية تُذكر؟ هنا تبدأ الحكاية الحقيقية… حكاية عقلية القطيع. عقلية القطيع ليست مفهومًا نفسيًا مجردًا فحسب، بل هي سلوك يومي نراه يتكرر في المشهد الاجتماعي، والسياسي، والثقافي، وحتى الاستهلاكي. إنها لحظة يتخلى فيها الإنسان عن فردانيته، عن حسّه النقدي، عن بصيرته، ليذوب في اختيارات الجماعة، خوفًا من أن يُقال عنه: “غريب”، أو أن يُتهم بأنه لا يواكب “الترند”. ولأننا نعيش في زمن تهيمن فيه خوارزميات الشهرة على قراراتنا، يصبح اللاشيء، فجأة، كلّ شيء! اللافت أن “لابوبو” لم تدخل قلوب الناس من باب الحاجة، بل من باب الضحك والاندهاش. شيءٌ يُشترى فقط لأن الجميع اشتراه، ويُهدى فقط لأن الجميع أهداه. وكأن لسان حال الناس يقول: “لا نعرف لماذا نحبها، لكن لا نريد أن نكون وحدنا خارج الدائرة”. وفي هذا الاختيار التافه، تكمن مأساة كبرى: لقد صار الذوق الجمعي هشًّا، يُقاد كالغنم، يلهث خلف أي “صرعة” جديدة دون مساءلة، دون تأمل، دون تفكير. قد يرى البعض أن الموضوع بسيط، وأن الأمر لا يعدو كونه موضة تافهة ستمرّ كما مرّ غيرها. لكن المسألة أخطر من ذلك بكثير. “لابوبو” ليست مجرد دمية. إنها تجلٍّ صارخ لعصر يتعطل فيه العقل أمام “الترند”، وتُستبدل فيه الأسئلة الجادة بتفاهات الشاشة، ويصبح السائد مقدّسًا لمجرد أنه سائد. اللافت أيضًا أن هذا النوع من الظواهر ينجح دومًا في المجتمعات التي تعاني من فراغ روحي أو ثقافي. فحين يغيب المشروع الثقافي الحقيقي، تملأ الفراغ دمية. وحين تغيب القدوة، يصبح أي شيء محط أنظار. في غياب المعنى، تصبح “لابوبو” هي المعنى! أليست هذه مفارقة؟ أن نخاف من أن نُتّهم بالاختلاف، فنتماهى مع “دمية” خاوية، وأن نشتريها لا لأننا نحبها، بل لأننا لا نريد أن نبدو وحدنا؟ أليس هذا قمة القطيعية؟ لكن لا شيء يُخيف “القطيع” أكثر من الفرد الحر. ذلك الذي لا يشتري لأن الآخرين اشتروا، ولا يضحك لأن الجميع يضحك، ولا يصفّق لأن الصفّ كله يصفّق. الفرد الحر ليس بالضرورة غريبًا، لكنه يتمسك بحريته في الرؤية والاختيار. يراقب من بعيد، يبتسم أحيانًا، يعارض غالبًا، ويصمت حين يكون الصمت موقفًا. وهكذا صارت “الدمية” رمزًا، والمعنى زينةً سطحية، فأصبح التفكير فعلًا ثوريًا. أن تقول “لا” حين تصرخ الجموع بـ ”نعم” هو الشجاعة بعينها. أن تتأمل قبل أن تنفعل، أن تسأل قبل أن تُساير، أن تتريّث قبل أن “تشارك”… كلّ ذلك مقاومة راقية لعقلية القطيع. لسنا ضد الضحك، ولا نُحرّم التسلية، ولا نجرّم الظواهر الطريفة. لكننا نخاف أن يتحوّل المرح إلى فخ، والموضة إلى سجن، والدمية إلى مرجعية. نخاف من لحظة يصبح فيها الإنسان مجرد مستهلك لما يُقدَّم، دون أن يسأل نفسه: لماذا؟ ولأجل مَن؟ وماذا بعد؟ لابوبو ليست العدو، لكنها الجرس. والجرس لا يُخيف إلا النائم. فهل نُفيق؟ أم نُكمل الحكاية… كدمى؟
1599
| 09 يونيو 2025
لم تكن الهزائم التي أربكت خطواتها ناتجة عن قسوة الحياة أو تقلبات الأقدار، ولا حتى عن أعداء وقفوا في وجهها ذات حرب. لم تخذلها الحياة كما يفترض أن تخذلنا، بل أولئك الذين صنعتهم من دمها، وأطعمتهم مضغة من قلبها، ووهبتهم الكثير من شهقاتها، وظنتهم ضلعها المستقيم، فكانوا الخنجر الذي لا يُرى.. حتى يغوص في الشغاف. كانوا الوجوه الأقرب، الأسماء التي كانت تهمس بها في صلواتها، الأيادي التي تشبثت بها في العتمة، الذين أودعتهم أسرارها وعرت أمامهم ضعفها وهي تثق بأنهم لن يخذلوها أبدًا. صنعتهم حبًا، لا مصلحة. دعمتهم حين ترنحوا، وحملت عنهم أثقالهم وهم لا يعلمون. ظنت أنها تقيم معهم وطنًا صغيرًا من دفء وأمان، فإذا بهم أول من يشعل النيران فيه. ليتهم خذلوها جهارًا، بصراحة الجفاء. ليتهم قالوا: “لا نحبك”، أو حتى “لقد انتهى الأمر”. لكنها لم تتلقّ شيئًا من هذا الوضوح الجارح. تلقّت ما هو أشد، خناجر مغموسة في العسل، كلمات محبة تخبئ وراءها نية غادرة، أفعال ملبّسة بالحنان لكنها مشروطة، وظهورهم في وقت حاجتها كان دومًا مؤجلًا حتى إشعارٍ آخر. لم تكن غبية، لكنها أحبّت بعمى. لم تكن ساذجة، لكنها آمنت أن النقاء لا يُقابل بالخداع. كانت تظن أن الحب يحمي، أن العطاء يربّي الوفاء، أن القلوب التي تزرع فيها ضوءها لا تثمر ظلامًا. لكن الواقع كسرها بطريقة هادئة ومدروسة؛ لم تصرخ، لم تنكسر دفعة واحدة، بل تهشّمت على مهل، كل مرة كان أحدهم يتسلل من قلبها ليطعنه ويختفي، تخلّفت فيها شظية لا تشفى. ولأنها لم تتعلم الحذر مبكرًا، تكرر الطعن. وكل مرة كانت تبني الجدار من جديد، أكثر صلابة، أكثر عزلة، لكنها تعود وتفتح نافذة صغيرة على أملٍ جديد، فتُخذل مجددًا. لم تكن لعنتها في الحب، بل في الظن الحسن. في أنها تُحب أكثر مما يجب، وتصفح قبل أن يُطلب منها الصفح، وتُعطي حتى لا يبقى فيها ما يُعطى. كانت مثل الشجرة التي لا تملّ من حمل أثقال الطيور وأعشاشها، حتى حين تُكسر أغصانها، لا تسقط، بل تُنبت غيرها. لكن ماذا يحدث حين تأتي الفأس من داخلها؟ من الشريان الذي كانت تظنه جذرها؟ تنهار بصمت، لا لأن الريح قوية، بل لأن الخيانة جاءت من داخل الحصن. ويا للمفارقة… ما كان يؤلمها لم يكن فعل الخيانة ذاته، بل اكتشاف أن الحب وحده لا يكفي. أنها مهما أحبّت، لن تضمن الوفاء. وأن من يُطعَم من القلب قد يُصبح أول من يدوس عليه. الألم الحقيقي لم يكن في ما فعله الآخرون، بل في ما فعلته هي: في سذاجة التوقع، في ثقتها التي منحتها من دون قيد أو شرط، في الأحلام التي شاركتها معهم وكأنها حق مشترك. ولكنها تعلمت. لم تُصب بالقسوة، لكنها صارت أكثر وعيًا. لم تُغلق قلبها، لكنها فتحت عينيها. لم تعد تبحث عن المدى في عيون الناس، بل صارت تقرأ ما بين السطور. أدركت أن بعض الأسماء لا تستحق أن تُكتب بالحبر الذي سُكب من مشاعرها، وأن بعض القلوب لا يصلح أن يكون لها مفتاح. الخذلان، مهما تكرر، لا يُميت القلب، لكنه يُعيد تشكيله. يُنضجه. يجعل نبضاته أكثر حذرًا، وعطاءه أكثر انتقاء. وقد أدركت الآن، بعد كل هذا الوجع النبيل، أن خسارة من لا يقدّر نعمة. وأن الحب لا يُقاس بما تمنحه، بل بمن يبادلك الصدق فيه. وأن الضلع المستقيم… لا يُطعنك. وهكذا، في لحظة صدق مريرة، لم تعد تنتظر من أحد أن يُنقذها. عرفت أنها وحدها خلاصها، وأن من لا يُشعل النور في حياتك، لا يستحق أن يعيش في دفئك. كتبت نهاية القصة، ثم بدأت من جديد، لا تحمل سكينًا في ظهرها، بل درعًا على صدرها، وقلبًا ينبض… لكن بحكمة.
462
| 02 يونيو 2025
في غزة، لا توجد استثناءات من الموت. لا مهنة تحميك، ولا أمومة تعفيك، ولا وجود للخطأ في توجيه الصواريخ. الحكايات في هذه المدينة ليست مشاهد درامية ولا سرديات خيالية، بل وقائع دامغة تسير على الأرض، وتُسجل في ذاكرة من تبقى. واحدة من هذه القصص هي قصة الطبيبة الفلسطينية آلاء النجار. آلاء لم تكن في البيت حين سقط عليه صاروخ إسرائيلي. كانت في المستشفى، في عملها اليومي كطبيبة أطفال. تؤدي واجبها الإنساني في رعاية من نجا من الموت، تعالج المصابين وتواسي المفجوعين، وتقاتل بيديها وضميرها من أجل إنقاذ أرواح صغيرة. وبينما كانت تقوم بذلك، لم تكن تعلم أن تسعة من أطفالها كانوا يُقتلون في اللحظة ذاتها، في بيتها، الذي تحول في دقيقة إلى ركام. حين عادت، لم تجد بيتًا. لم تجد أصواتًا مألوفة، لم تجد حتى فرصة للوداع. لم تجد سوى أنقاض، وجثث ممزقة، وأشلاء صغيرة متناثرة، كل منها يحمل اسمًا من أسماء أبنائها. تسعة أطفال، لم يكن فيهم مقاتل، ولا مستهدف عسكريا، ولا من يشكل تهديدًا لأي طائرة أو صاروخ أو جندي. كانوا أطفالا فقط! هذه ليست حادثة معزولة، وليست “أضرارًا جانبية”. هذا قصف مباشر لمنزل مدني، في حي سكني، أثناء وجود الأطفال فيه، في لحظة غياب للأم. الصاروخ لم يخطئ. كان دقيقًا في إصابته. هذه هي طبيعة العدوان الذي يتعرض له سكان غزة؛ لا أحد في مأمن، ولا منزل يُستثنى، ولا طفل يُعفى. الطبيبة آلاء لم تُقتل. نجت، فقط لتظل شاهدة حيّة على جريمة مكتملة الأركان. وهذا بحد ذاته عقاب آخر. أن تُترك أم بلا أطفالها، أن ترى البيت بلا أصوات، بلا لعب، بلا فوضى الحياة اليومية، أن تُجبر على حمل صورهم بدلًا من أيديهم، وعلى تذكّرهم بدلًا من تربيتهم. نجت، لتروي الحكاية، لتكون شاهدًا حيًا على المجزرة. هذه القصة، على قسوتها، ليست الأشد غرابة في غزة. في كل يوم، هناك أم فقدت أبناءها، هناك أب حمل أشلاء طفله بيديه، هناك منزل تحول إلى قبر جماعي. لكن في قصة آلاء تتجلى المفارقة البالغة: طبيبة أطفال تفني يومها في محاولة إنقاذ أطفال الناس، وتفقد في المقابل أطفالها جميعًا بصاروخ واحد. من واجبنا ألا نقرأ هذه القصة كخبر، بل كوثيقة إدانة. هذه الحكاية شهادة دامغة على نوع الحرب التي تُشن على غزة، وعلى الاستهداف المباشر للمدنيين، وعلى انهيار كل ما يمكن أن يُسمى قانونًا دوليًا أو معايير إنسانية. ما يحدث في غزة ليس مجرد “ردود فعل”، ولا مجرد “نزاع معقّد”، بل هو عدوان منظم ضد شعب كامل، يُعاقب جماعيًا في كل تفاصيل حياته. آلاء لم تكن تحمل سلاحًا، ولم يكن بيتها مخزنًا للذخيرة، وأطفالها لم يكونوا مقاتلين. كانوا تسعة أرواح تنام في البيت، مثل أي أطفال في العالم. لكن في غزة، لا يُمنح الأطفال حق النوم الآمن، ولا الأمهات حق الحياة العادية، ولا البيوت صفة الحماية. حين نكتب عن هذه القصة، لا نحتاج إلى زخارف لغوية أو استعارات أدبية. يكفي أن نقول الحقيقة كما هي؛ قصف بيت فيه تسعة أطفال، فقتلوا جميعًا، وبقيت أمهم شاهدة. هذه جريمة لا تحتاج تفسيرًا، ولا تحليلًا، ولا تبريرًا. هذه مأساة لا ينبغي أن تمر بصمت. صوت آلاء اليوم ليس مجرد صوت أم مكلومة، بل هو صوت غزة كله. هو الصوت الذي يصرخ في وجه العالم: انظروا جيدًا. هذا ما يحدث هنا. ليس في الخيال، بل في الواقع، كل يوم.
768
| 26 مايو 2025
في اللحظة التي يصدح فيها الأذان للفجر، لا يستيقظ الجسد فقط، بل تصحو معه ذاكرة غائرة في الأعماق، أصوات من رحلوا، ملامحهم، ضحكاتهم، وحتى حكاياهم التي كنا نعتقد أنّها ذابت مع الزمن، تتسلّل فجأة من حيث لا أدري. هم لا يطرقون الباب، لا يستأذنون، بل يأتون في صمت، في خفة، كأنّ الفجر موعدهم، وكأنّ صلاة الفجر فسحتهم المخبأة للعودة إليّ، ولو قليلاً. أجلس على سجادتي بعد الصلاة، أبقى حتى أشعر بيدٍ خفية توضع على كتفي. لا ألتفت. أعرف هذا الشعور لكنني لا أتحرك لأنني لا أريد أن أربك تلك الطمأنينة التي يصنعها الفجر في روحي. حين نصلي الفجر، لا نصلي وحدنا. هناك مَن يطمئن علينا، من حيث لا نراهم. لا صوت لهم، فقط أرواحهم تحيط بنا كوشاح من دفء، تهمس في القلب: “نحن هنا.. نراكم، نحبكم، لم نغادركم حقًا.” والمفارقة الجميلة أن تلك الأرواح تعرف الوقت جيدًا. تأتي قبل الصلاة بقليل، وتختفي قبل أن نرفع أيدينا إلى السماء. لا تمنحنا وقتًا كافيًا لنبكي أمامها، كأنها تأبى أن ترى الدموع، أو كأنها تقول إن اللقاء لا يجب أن يُثقل بالحزن. صلاة الفجر هي الموعد الذي لا يكذب، هي اللحظة التي تخلع فيها الحياة أقنعتها، وتتجلى كما هي. لا شيء يُخفي الروح عن حقيقتها وقت الفجر. حتى الدعاء يكون نقيًا، فوريًا، بلا زخارف. تقول ما تريد دون ترتيب: “يا رب، خذ قلبي إليك، وخفف عني فَقْد من أحب.” تقولها وأنت تعلم أن من تحب قد غاب، لكنه يعود، في هذا الموعد تحديدًا، ليأخذ من حزنك ما يستطيع، ويترك لك من الطمأنينة ما يكفي ليوم آخر. كل الذين فقدناهم، مهما كانت طريقة الرحيل، يعودون فجراً. لا يتكلّمون، لا يبتسمون، حضورهم يكفي. تفتح عينيك في الضوء الخافت فتشعر بهم، كأن الهواء صار أثقل قليلاً، كأنك لست وحدك. ولأن الفجر زمن النقاء، فإن حضورهم لا يخيفك، بل يربّت على قلبك، لأن أرواحهم تعرف أن الوقت محدود، وأن الطمأنينة التي يزرعونها فيك لا بد أن تكون سريعة وخفيفة. ما أغرب هذه العلاقة بين الموت والفجر. الفقد والضوء الأول. في لحظة طلوع النهار نافذة صغيرة نطل بها على من تركونا. لا لنسألهم عن شيء، بل لنخبرهم أننا ما زلنا هنا، نحاول، نتذكّر، نصلي وندعو لأجلهم. في كل ركعة وعد خفي أن لا ننسى، ونظل نذكرهم من دون ضجيج ولا وجع فاضح. إنها لحظة الصدق النادر، لحظة يكون فيها الحنين طاهراً لا يشوبه غضب ولا احتجاج. مجرّد أمنية أن يكونوا بخير، وأن يكون الله قد لطف بهم كما نرجوه كل يوم. وكل فجر نمرّ به هو رسالة غير مكتوبة، نبعث بها إليهم: “أنتم في القلب، في الدعاء، في تفاصيل الحياة.” وربما كانت الصلاة نفسها هي لغتنا المشتركة معهم الآن، حيث لا رسائل ولا مكالمات، فقط هذا الصمت المقدس الذي نمارسه أمام الله، ويصل صداه إليهم، حيث هم. ثم، ما أن تنتهي الصلاة، ويبدأ الضوء يتسلل من خلف النوافذ، حتى يبهت كل شيء. كأن الراحلين لا يريدون أن يراهم النهار. يعودون إلى غيابهم الأكيد، بهدوء، كما جاؤوا. يتركون وراءهم قلبًا أكثر اتزانًا، وعينًا رطبة دون أن تفيض. وتبقى الرائحة، رائحة الفجر الذي مرّ عليهم وعليك، وصوت الأذان الذي جمعكم للحظة، ثم مضى. في كل فجر، لا نصلي فقط، بل يعاد ترميمنا من الداخل. في كل ركعة شيء يشبه اللقاء، وشيء يشبه الفقد، وشيء يشبه الرضا. الفجر موعد الأرواح الخفيفة، الوجوه التي لم تنسها قلوبنا، ولم تغب عن ذاكرة الدعاء. هؤلاء الراحلون لا يغيبون فعلًا، بل يختارون أجمل الأوقات ليعودوا. وها هو الفجر مرة أخرى، يفتح لنا بابه، لنلتقيهم في صمت، ونكمل الصلاة، وقد صار القلب أخف.
429
| 19 مايو 2025
تخيّل أن كلماتك ستُقرأ بعد مائة عام. أن يُقلّب أحدهم صفحاتك كما يُقلّب الذكريات، ليبحث بين السطور عنك، لا عن زمانك، وعن صوتك لا صدى الآخرين فيك. تخيّل أن الكتابة لم تكن لحظتك أنت، بل اللحظة التي تسبق ميلاد قارئٍ لن تراه، فماذا ستكتب؟ وكيف ستُكتب؟ الكتابة ليست تمرينًا لغويًّا ولا استعراضًا لأدواتك البلاغية، إنها رسالة تُرمى في بحر الزمن، لا تدري على أيّ شاطئ ستُلفظ، ولا من سيمسك بها بعدك. لهذا. لا تكتب ليُقال: «يا له من أسلوب»، بل ليُقال: «يا لها من روح»، أو «من هذا؟ أشعر أنني أعرفه، رغم أن بيننا قرنًا من النسيان». وفي زمن يتهافت فيه كثيرون على نسخ الآخرين، وعلى تكرار النغمة نفسها بحروف مختلفة، والانبهار بما يُرضي السوق لا النفس، تصبح الكتابة التي تشبه صاحبها عملة نادرة. لكن الكاتب الحقيقي لا يختبئ خلف الظلال، بل يصنع ضوءه الخاص، حتى لو كان باهتًا أول الأمر، لأنه مع الوقت، يُصبح الضوء صوتًا، ويُصبح الصوت أثرًا، ويُصبح الأثر حياةً ثانية. حين تكتب، اسأل نفسك؛ هل ما أقوله الآن نابع من صدري، أم من تراث محفوظ؟ هل هذه الكلمات تشبهني، أم تشبه الكتب التي قرأتها؟ لا عيب أن تتأثر، ولكن العيب أن تُصبح نسخة بلا ملامح. اجعل لحروفك ملامحك، حتى لو لم تكن الأجمل، حتى لو كانت مليئةً بالشوائب. فالنقاء لا يصنع دائمًا الصدق، وأحيانًا العيوب هي ما يُحبّبنا في الأشياء. نحن لا نحبّ اللوحات المتقنة دائمًا، بل تلك التي تُحدث فينا رعشة، التي تجعلنا نتوقف، نتأمّل، نقول: «هناك شيء هنا… شيء لا يُرى، لكن يُحَسّ». والكتابة التي تُشبه صاحبها، لا تُهرَم. لأنها لا تنتمي فقط إلى سياقها الزمني، بل تنتمي إلى تجربة إنسانية أوسع، وإلى الصدق، وهذا ما يبقى. فقد تتغير الأذواق، وقد تتبدل المدارس، لكن شيئًا واحدًا لا يُغيّره الزمن؛ الشعور بالصدق. فحين تقرأ رسالة كتبها عاشقٌ قبل مائة عام، وتشعر أن قلبك يخفق معها، فاعلم أن ما كتبه كان يشبهه حقًّا. لم يُحاول أن يُقنعك، بل فقط قال ما يشعر به، وها أنت تشعر به أيضًا. وهنا يكمن السرّ؛ اكتب لتُشبه نفسك، لا لتُرضي غيرك. لا تُشبه كاتبًا تحبّه، ولا مدرسةً تُعجبك، ولا زمنًا تتمنى أن تنتمي إليه. اكتب لأنك لا تعرف طريقة أخرى للنجاة. لأنك تريد أن تترك أثرًا، لا أثر أحدهم، ولا تحتمل فكرة أن تمرّ في هذا العالم، وتغيب من دون أن تترك وراءك شيئًا يقول: “كنت هنا، هذا أنا، وهذا حُبّي، وهذا حزني، وهذا ضحكي، وهذه أسئلتي التي لم أجد لها إجابة». إن الكتابة الحقيقية لا تخاف من الفقد، بل تُراهن عليه. تعرف أن الزمن سيمحو كثيرًا، لكنها تؤمن أن ما كُتب بصدق لا يُمحى بسهولة. تُراهن على أن الحروف حين تنبض بالروح، تصير أكثر بقاءً من الجسد. لذا، لا تكتب كمن يخشى النسيان، بل كمن يعرف أنه لن يُنسى طالما أن أثره صادق. اجعل من حبرك امتدادًا لنبضك، لا لبصمتك فقط. لا توقّع باسمك، بل بروحك. اكتب كما لو أن الكتابة طوق نجاةٍ من الزيف، وكأنها الطريقة الوحيدة لتقول لمن سيأتي بعدك؛ «أنا لم أكن شبحًا، كنت إنسانًا… وهذا دليلي». ربما لن تقرأك الملايين، وربما لن تُدرَس نصوصك في الجامعات، لكنك ستكون قد كتبت ما يُشبهك، وهذا وحده يكفي، لأنك عندها لن تكون مجرد صوت مرّ في الزحام، بل نفسًا، روحًا، شعورًا يُحسّه من سيأتي بعدك، حتى لو لم يعرف اسمك. اكتب، لا لتعيش في الكتب، بل لتعيش في من سيقرؤك.
411
| 12 مايو 2025
ليس الحقُّ لغزًا يحتاج إلى تفكيك، ولا سرًّا خفيًا لا يُدركه إلا القلّة، بل هو واضحٌ كالشمس، جليٌّ لمن أراد أن يراه. لكنه، في كثيرٍ من الأحيان، ليس كافيًا وحده. فالمشكلة ليست في غموض الحق، بل في الذين يتجاهلونه عمدًا، في الذين يُعيدون تشكيله بحيث يُناسب رواياتهم، في الذين يُرهقون المظلوم بأسئلةٍ لا تُطرحُ على الظالم، وكأنَّ عليه أن يُثبت مرارًا وتكرارًا أنه ضحية، بينما يُمنح الجلاد حقَّ الشك والتمهل في الحكم. لذلك، لا ينبغي أن تُضاعفوا على المظلوم عبء التبرير، ولا أن تُحملوه فوق آلامه اختبارًا قاسيًا يُثبتُ من خلاله أنه يستحقُّ التعاطف. المظلوم لا يحتاج إلى إحسانكم، بل إلى إنصافكم، لا يحتاج إلى دموعكم، بل إلى أن تقفوا حيث يجب أن تقفوا، بلا تردد، بلا تحذلقٍ يُحاول أن يجعل كل شيءٍ رماديًا، بلا خطبٍ باردة تُحاول أن تُخفف وقع الجريمة بحجة الموضوعية. لكن هناك من يظن أن التعاطف مع المظلوم يُجيز له الانتقاص من كرامته، كأنما هو يتفضّل عليه بمواساته، فيُشعره بأنَّه ضعيف، بأنَّه مدين لهذا التعاطف، بأنَّه محظوظٌ لأنَّ هناك من التفت إليه أصلًا. هذا النوعُ من التعاطف ليس إلا وجهًا آخر للخذلان، لأنَّه لا يرى في المظلوم إنسانًا له حق، بل مجرد حالةٍ تستدعي العطف لا العدالة، يستدرُّ دموع الآخرين لكنه لا يستفزُّ وقوفهم معه. ليس هناك ما هو أشدّ قسوةً على المظلوم من أن يُصبح مجرّد قصةٍ يتداولها الناس بعبارات الأسف العابر، ثم يمضون في حياتهم كما لو أن شيئًا لم يكن. أن يُعامَل كأنه مُكسَرٌ إلى الأبد، كأنَّ مأساته هي كلُّ ما يُعرّفه، كأنَّ الحياة قد حُسمت له في خانة الألم، فلا يُنتظر منه إلا أن يبقى هناك، في دائرة الضحية التي لا تخرج منها. لكنه ليس ضحيةً ليُعزى، بل إنسانٌ له كامل الحقِّ في أن يكون أكثر من قصته الحزينة، له الحقُّ في أن يُعامل بكرامته، لا بشفقةٍ تُلقي عليه نظرةً من علٍ، وكأنه أقل شأنًا ممن لم يُصبه ما أصابه. المشكلة في هذا العالم ليست في قلة العدل فحسب، بل في أولئك الذين يظنون أنَّهم يُمارسون التعاطف، بينما هم، دون أن يشعروا، يُمارسون لونًا آخر من الظلم. في الذين يمدّون يدهم للمظلوم لا ليُعينوه على النهوض، بل ليبقوه في موضع الاستجداء. في الذين يُحدّقون في جراحه بدهشةٍ زائفة، لا لأنهم يريدون مداواتها، بل لأنهم يجدون في تأمل الألم نوعًا من التسلية، من الفضول، من الإحساس المُريح بأنَّهم في موقع المتفرّج لا في موقع المتألم. الحقُّ واضحٌ لمن أراد اتباعه، لكن المشكلة دائمًا في الذين لا يُريدون ذلك، في الذين يُجيدون الالتفاف حول الحقيقة، في الذين يُنفقون جهدهم في تبرير القسوة بدلاً من مواجهتها، في الذين يُمارسون حيادًا خادعًا يُساوي بين الظالم والمظلوم، ثم يُنادون بتسامحٍ لا يُطلب إلا ممن فُرض عليه الألمُ فرضًا. أما العدالةُ ليست فعلًا انتقائيًا، تُمارَس حين تكون مُريحة، وتُتجاهل حين تُصبح مكلفة، لأن المظلوم ليس بحاجةٍ إلى نصفِ موقف، أو كلماتٍ جميلة لا تُغيّر من واقعه شيئًا، أو تعاطفٍ مشروطٍ بقبوله لدور الضحية الصامتة التي لا يُسمح لها بالغضب، ولا بالمطالبة بحقها كاملًا. ما يحتاجه هو أن يُؤخذ حقه بجدية، لا أن يُعامل كحالةٍ إنسانيةٍ تُثير التعاطف، ثم تُطوى صفحتها مع أول خبرٍ جديدٍ يسرق انتباه العالم. ومن أراد أن يقف مع المظلوم، فليقف معه بكرامته، لا بشفقته. ومن أراد أن يكون عادلًا، فليكن ذلك بوضوح، بلا مواربة، بلا عباراتٍ مُلتوية تُجمّل الوقوف في المنتصف، بلا خطبٍ فارغة تُحاول أن تُخفي الحقيقة وراء ستارٍ من الكلمات المنمقة. الحقُّ واضحٌ، لا يحتاجُ إلى زخرفةٍ لغويةٍ تُخفي حدَّته، ولا إلى تبريراتٍ تُخفف من وطأته على من لا يُريد أن يراه كما هو.
465
| 05 مايو 2025
حين يكتب أحدنا يومياته، فإنه يمارس أبسط أشكال الاعتراف مع النفس. لا يكتب ليصنع نصًا أدبيًا ولا ليبهر أحدًا، بل لأنه يشعر أن هناك أشياء لا يمكنه مشاركتها مع الآخرين. الكتابة اليومية أشبه بعملية جرد داخلي: ماذا حدث اليوم؟ كيف شعرت به؟ ماذا تعني لي هذه التفاصيل الصغيرة التي قد تبدو عابرة لكنها، مع الزمن، تصنع حياتي الحقيقية؟ الكتابة هنا وظيفة عملية أكثر منها عاطفية. إنها طريقة لتنظيم الأفكار، لتفريغ المشاعر السلبية قبل أن تتراكم وتتحول إلى مشاكل أكبر. الإنسان الذي يكتب مشاكله وانفعالاته اليومية غالبًا ما يكون أكثر قدرة على إدارتها بعقلانية لاحقًا، لأنه راقبها بوضوح بعيدًا عن لحظة الانفعال. كما أن اليوميات تؤدي دورًا مهمًا في بناء الوعي الذاتي. حين يراجع الشخص ما كتبه قبل أشهر أو سنوات، يلاحظ أنماطًا معينة تتكرر؛ طريقة تعامله مع الغضب، مصادر قلقه، أخطاؤه المتكررة، أو حتى تطور نظرته إلى نفسه والآخرين. بهذه الطريقة تصبح المذكرات أداة لفهم السلوك الشخصي بشكل أكثر علمية وموضوعية. ولا يمكن تجاهل أن الكتابة اليومية أيضًا وسيلة لحفظ الذاكرة الشخصية. التفاصيل التي تبدو تافهة اليوم قد تحمل لاحقًا قيمة لا تعوض. الشخص الذي كتب عن حوار قصير مع والده أو عن صباح شتوي عادي قد يكتشف بعد سنوات أن هذه الذكرى البسيطة تساوي كنزًا شعوريًا يصعب تعويضه. الذين يواظبون على كتابة مذكراتهم لا يفعلون ذلك بدافع الحنين فقط، بل لأنهم يدركون أن الإنسان كائن ينسى. والكتابة، ببساطتها وصدقها، تصنع نسخة موازية للحياة، نسخة يمكن الرجوع إليها حين تغيب التفاصيل أو تختلط الذكريات. كذلك، الكتابة تتيح نوعًا من الانفصال المؤقت عن ضغوط الواقع. عندما يكتب الإنسان عن مشكلة ما، فإنه ينقلها من ذهنه إلى الورق. هذه الحركة البسيطة تخلق مسافة عقلية بين الشخص والمشكلة، تجعله ينظر إليها ببرود نسبي يسمح له بتحليلها بهدوء بدل أن يبقى عالقًا في دائرة التفكير السلبي. وليس كل من يكتب يومياته يعاني من مشكلة أو أزمة. كثيرون يكتبون ببساطة لأنهم يجدون في الكتابة طريقة لتوثيق حياتهم كما هي، بحلوها ومرها. الكتابة هنا تصبح سجلًا موضوعيًا لرحلة إنسانية مليئة بالتناقضات؛ الفرح والحزن، النجاح والفشل، البداية والنهاية. وهذا السجل الشخصي لا يُكتب من أجل الآخرين، بل من أجل احترام التجربة الذاتية نفسها. وهذا يعني أن كتابة المذكرات واليوميات ليست رفاهية ولا سلوكًا غريبًا. إنها فعل طبيعي لإنسان يسعى لفهم نفسه، وللحفاظ على صوته الخاص في عالم كثير الضجيج. إن الشخص الذي يكتب يومياته لا يبحث عن شهرة، ولا يحاول أن يبدو مثاليًا. إنه ببساطة يمارس حقه في أن يكون صادقًا مع نفسه، أن يواجه مشاعره وأفكاره دون تزييف أو تبرير. الجميل في كتابة المذكرات أنها لا تتطلب قارئًا آخر. الكاتب والقارئ في هذه الحالة شخص واحد. لا أحد يفرض عليك قواعد اللغة ولا منطق الأحداث. يمكنك أن تبدأ من النهاية، أو أن تكرر نفسك مئة مرة، أن تكتب بأخطائك، بدموعك، بأحلامك المحطمة. كل شيء مسموح لأنك تكتب لنفسك، ولنفسك فقط. وفي هذا الفعل البسيط تكمن قيمة كبيرة: القدرة على رؤية الذات بوضوح، القدرة على تنظيم الفوضى الداخلية، القدرة على الاحتفاظ بما هو مهم وسط سيل النسيان. لذلك نكتب. نكتب كي نفهم. نكتب كي لا نضيع. والمهم أن نكتب، لأن الكتابة تضيء العتمة التي نخشى النظر إليها، وتبني لنا جسرًا بين ما نحن عليه وما نرجو أن نكونه. المهم أن نكتب لأننا، ببساطة، لا نستطيع أن نصمت أكثر!
465
| 28 أبريل 2025
ليست الكارثة في أن يظهر فنان على المسرح ليقدم وصلة فنية لا تعجبنا، نحن «جيل الطيبين»، كما يسمى كل من غادر الأربعينيات من عمره وحسب، بل في أن يتحول المسرح إلى منصة لاغتيال الذوق، وأن يُستبدل الفن بالاستعراض، والرسالة بالمهزلة، والجمال بالإثارة الرخيصة. في ليلة أمريكية صاخبة، وقف «ممثل» مصري على خشبة المسرح مؤخراً، ليعرض جسده في بدلة رقص نسائية لامعة ومبتذلة! لم يكن ما فعله مجرد “عرض فني”، كما يحاول أن يبرر، بل كان فعلاً مقصوداً بعناية، وموجهاً، ومشحوناً برسائل خفية وظاهرة في آن. لم يكن يبحث عن صدمة جمالية، ولا عن كسر لحدود فنية قديمة، بل عن ضجيج. ضجيج يداري خواء التجربة، وغياب الموهبة، وارتباك البوصلة. ضجيج يجذب الكاميرات، ويفتح أبواب الجدل على مصراعيها، ويعيد اسمه إلى “الترند”، ولو على حساب أجيال تبحث عن قدوة، وعن ملامح رجل شرقي لا ينهار تحت بريق الشهرة الغربية الزائف. ما فعله «الممثل» ليس حدثاً معزولاً، بل هو حلقة في سلسلة طويلة من محاولات تجريف الوعي، وتفكيك الثوابت، وضرب ما تبقى من قيم في عالم عربي بات يتلقى صدماته الأخلاقية واحدة تلو الأخرى، دون أن يملك الوقت ليلتقط أنفاسه. فالفن الذي كان من قبل يُهذِّب الذوق، ويُنير العقول، ويُسائل الواقع، تحوّل على يد بعض المغامرين إلى لعبة تجارية قائمة على الانحدار، وعلى تصدير التفاهة باعتبارها “تحرراً”، والانحطاط باعتباره “فنّاً”، والخروج عن المألوف كأنه شجاعة، لا قلة حياء. في بدلة الرقص النسائية التي ارتداها «الممثل»، لم يكن الجسد وحده عارياً، بل كانت الرسالة أيضاً عارية من المعنى، عارية من أي إحساس بالمسؤولية تجاه مجتمع يتفكك، نحو أطفال ومراهقين يتخذون من نجوم الشاشات والمسرح مرآة لهويتهم. فما الذي يمكن لطفل في العاشرة أن يفهمه حين يرى “نجم الأكشن” و”الأسطورة” يرقص كراقصة مبتذلة على المسرح؟ وأي نوع من الرجولة يُعاد تصديره هنا؟ وأي مفاهيم تُزرع في اللاوعي الجمعي؟ * إن المشكلة ليست في حرية الفنان، فالفن الحقيقي لا يُربى في أقفاص، بل في غياب البوصلة القيمية. الفنان حين يعتلي المسرح، يعتلي قلوب الناس، ويتسلل إلى عقولهم، ويشغل وجدانهم. فإذا خان هذه المساحة، خان جمهوره. وإذا قرر أن يطل على الناس بلا مسؤولية، فليتحمل نتائج قراره، لا أن يتذرع بـ”حرية التعبير” ليخرب الذوق العام. لقد دخل كثيرون مثل هذا المغني الممثل، في سباق نحو قاع لا قاع له. سباق لا يحترم الفن، ولا الجمهور، خاصة أن ما يُبث عبر المسرح، أو التلفاز، أو وسائل التواصل، ليس ترفاً، بل هو تشكيل للوعي، وصناعة للقيم، وخلق لنماذج إنسانية يتبعها الملايين. * نحن لا نهاجم الأشخاص، بل نُحاكم الأفعال. لا نريد أن نصادر حرية أحد، لكننا نرفض أن تُغتال الحرية باسمها. نرفض أن يُصدر لنا نموذج مشوَّه عن الفن، عن الرجولة، عن الإنسان. نريد فناً يحمل همومنا، لا يسخر منها. نريد وجوهاً ترفعنا، لا تسحبنا إلى الأسفل. نريد فناناً يشعر أن على كتفيه عبء رسالة، لا مجرد عباءة لامعة وبذلة غريبة. ولن يخلد التاريخ من رقص على المسرح في ثياب الآخرين، بل من مشى على الجمر بقلبه. ولن يبقى في الذاكرة من صرخ بالألوان والابتذال، بل من همس بكلمة صدق في وجه الانهيار. ونحن، في زمن اختلط فيه كل شيء، ما أحوجنا لأولئك الذين يحمون نار الجمال من الريح، لا لأولئك الذين يرقصون حول رمادها.
1155
| 21 أبريل 2025
في لحظة صمت، وبين يديك كتاب مفتوح، يحدث أمر لا تراه، لكنه يمسّك بعمق. الكلمات التي سُكبت ذات يوم من عقل كاتب إلى حبرٍ على ورق، تبدأ فجأة بالحركة. لا تصدر صوتًا، لكنها تهمس. لا تمتدّ إليك بيد، لكنها تمسك بك. هناك، في ذلك الحبر اليابس، شيء حيّ، شيء قادر على أن يوقظك، أن يأخذك من مكانك إلى حيث لم تكن. الكتب ليست أشياء ميتة تُصفّ على الرفوف. ليست فقط أوراقًا مربوطة بين غلافين. الكتب أشياء تصنعنا، تعيد ترتيبنا من الداخل، تمنحنا عيونًا إضافية نرى بها العالم، وصوتًا داخليًا نُراجع به أنفسنا. من يظن أن القراءة مجرّد عادة ثقافية، لم يقرأ كتابًا غيّره. لم يشعر بتلك الرعشة التي تأتي فجأة عندما تصادف جملة كأنها كُتبت لك وحدك. جملة تضع إصبعها على ندبة في روحك لم تكن تعرف أنها موجودة، ثم تخبرك بهدوء أنها تراها. والكتب هي الشيء الذي نلجأ إليه لا لننسى العالم، بل لنفهمه. نقرأ لنعرف كيف يحبّ الآخرون، كيف يخسرون، كيف يصمدون، كيف يعيشون. نقرأ لنجد تشابهات غريبة بيننا وبين من لم نرهم، ولنشعر أن هذا الاتّساع البشري فيه شيء منا، وأننا لسنا وحدنا في هذا الركض المتعب نحو المعنى. منذ أول قصة سمعناها في الطفولة، بدأ شيء فينا يتشكّل. الطفل الذي يُنصت لحكاية قبل النوم لا ينتظر نهاية سعيدة فقط، بل ينتظر أن يرى نفسه في البطل، أن يتعلم شيئًا عن الشجاعة أو الحيلة أو الحزن. تلك البذور الصغيرة من القصص تنمو معنا، وتتحوّل إلى أشجار ضخمة من الخيال والفهم. وحين نكبر، تصير الكتب مرآة نراجع بها ملامحنا الداخلية، ونحاول بها فهم ما لا يُفهم بسهولة؛ لماذا نشعر كما نشعر؟ لماذا نفعل ما نفعل؟ من نحن أصلًا؟ كل كتاب جيّد هو رحلة. ليس لأنك تنتقل من فصل إلى فصل، بل لأنك تُسافر داخل نفسك. تقرأ شيئًا عن الحب، فتتذكّر من أحببت. تقرأ عن الفقد، فيرتجف قلبك لأحدٍ لم يعد موجودًا. تقرأ عن حلمٍ صغير لأحدهم، فيُوقظ هذا الحلم شيئًا نائمًا فيك. الكلمات تصبح خيوطًا تمتدّ إلى داخلك، وتربطك بأجزاء من نفسك نسيتها أو خفت أن تراها. وهناك سحر خفيّ في الكتب لا يمكن تزييفه؛ أن تقرأ فكرة عميقة عبّر عنها شخصٌ مات قبل مائة عام، وتجد أنها تعبّر عنك الآن. هذا العبور الزمني هو المعجزة الحقيقية. أن نصبح أكثر فهمًا لزمننا من خلال كلمات كُتبت في زمن آخر. أن ننجو من لحظات الوحشة بفضل من كتبوا قبل أن نُولد، وكأنهم تركوا لنا كلماتهم في زجاجة تطفو على بحار الزمن، تنتظر أن نلتقطها. * أنا لا أؤمن بأن الكتب تغيّر العالم بشكل مباشر. لكنها تغيّر القارئ، وهذا يكفي. لأن القارئ المختلف يذهب إلى العالم بطريقة مختلفة. يفكر، ويشعر، ويحلم بطريقة أخرى. ومن هنا تبدأ التغييرات الحقيقية من داخل الفرد، ومن عمق التجربة التي يعيشها حين يقرأ شيئًا يهزّه. بعض الكتب لا تُقرأ مرة واحدة. نعود إليها كما نعود لأماكننا المفضلة. نُعيد اكتشافها، أو نكتشف أننا نحن من تغيّرنا. وما كان يبدو عاديًا صار يمسّ القلب، وما كان عميقًا أصبح أوضح. هذه العلاقة المتحركة مع الكتاب تجعله أكثر من مجرد مادة للقراءة. تجعله صديقًا، شاهدًا على مراحلنا، مرافقًا في صعودنا وهبوطنا. لكن الكتب لا تمنحنا أجوبة نهائية، بقدر ما تمنحنا طريقة أذكى لطرح الأسئلة. تعلمنا أن الحياة ليست وصفة جاهزة، وأن كل إنسان يكتب قصته بنفسه. تعلمنا أن نكون أكثر رحمة بأنفسنا، وبالآخرين. أن نرى الجمال وسط الفوضى، وأن نبحث عن الحقيقة، لا لنمتلكها، بل لنفهمها ونعيش بقربها. من الحبر خرج الحلم. ومن بين السطور خرجنا نحن. أكثر وعيًا، أكثر صدقًا، وأكثر قدرة على احتمال هذا العالم الغريب. فالكتب لا تصنعنا من جديد، بل تُعيدنا إلينا.
642
| 14 أبريل 2025
الكتابة ليست مجرد حروفٍ تُسَطَّر على الورق أو على الشاشة، بل هي معركةٌ يخوضها الكاتب مع نفسه، مع أفكاره، مع العالم. إنها النور الذي ينبعث من قلب الظلام، والجرح الذي ينزف ليمنح صاحبه نوعًا من الراحة. الكاتب الأوروغوياني إدواردو غاليانو اختصر هذه الرحلة العجيبة في عبارة واحدة: “الكتابة تُتعب، ولكنها تواسي”، وكأنه يصف ذلك الشعور المتناقض الذي يعرفه كل من جرب أن يسكب روحه على الورق. إنها عملية استنزاف، لكنها أيضًا شفاء؛ ألمٌ، لكنه يحمل في طياته عزاءً لا يمنحه شيءٌ آخر. أن تكتب يعني أن تنظر إلى العالم بعينٍ ثالثة، عينٍ لا تكتفي برؤية الأشياء، بل تلامس جوهرها، تلتقط التفاصيل التي يغفل عنها الآخرون، وتعيد تشكيلها بلغةٍ قادرة على اختراق القلوب. لكن هذا الامتياز ليس بلا ثمن. الكتابة فعلٌ مرهق، ليس فقط لأنها تستنزف الفكر والمشاعر، بل لأنها تتطلب الغوص عميقًا في الذات، مواجهة المخاوف والشكوك، الحفر في الذاكرة، واستدعاء اللحظات التي ربما حاول الكاتب نسيانها. كل كاتب يعرف ذلك الشعور المزعج حين تتزاحم الأفكار في رأسه لكنه يعجز عن ترجمتها إلى كلمات، حين يكون المعنى واضحًا في داخله لكنه يتعثر في التعبير عنه، حين يشعر أن اللغة خانته وأن الكلمات لا تليق بما يريد قوله. تلك المعاناة لا يفهمها إلا من اختبرها. ومع ذلك، لا يتوقف الكاتب عن الكتابة، وكأن شيئًا ما في داخله يدفعه إلى الاستمرار، رغم التعب، رغم الإرهاق، رغم الإحباطات المتكررة. لكن لماذا نكتب إذن، إذا كانت الكتابة بهذا القدر من المشقة؟ ربما لأننا لا نستطيع التوقف. ربما لأن الكتابة ليست مجرد فعل، بل هي حاجة، غريزة، طريق وحيد للخلاص. الكاتب الحقيقي لا يكتب لأنه يريد ذلك فحسب، بل لأنه مضطر، لأنه لو لم يكتب، لاختنق بما يحمل في داخله. الكتابة تمنحنا القدرة على إعادة تشكيل العالم وفق رؤيتنا، على ترتيب الفوضى، على خلق معنى من العبث، على تحويل الألم إلى شيءٍ أجمل، أكثر قابلية للتحمل. لكنّ الكتابة ليست مجرد منفذ للألم، هي أيضًا عزاء. ثمة راحة غريبة في القدرة على تحويل المشاعر إلى كلمات، في تحرير ما يعتمل في الداخل وإلقائه على الورق، في الشعور بأن ما نكتبه قد يلمس شخصًا آخر، قد يواسيه، قد يخبره أنه ليس وحده في هذا العالم القاسي. الكلمة المكتوبة أشبه بيدٍ تمتد في الظلام، تربت على كتف القارئ وتخبره أن ثمة من يشعر مثله، من يفهمه، من مرّ بنفس ما مرّ به. ولذلك، رغم التعب، رغم الألم، يواصل الكاتب الكتابة. يواصل حتى عندما يبدو الأمر بلا جدوى، حتى عندما يشعر أن كلماته لا تساوي شيئًا، حتى عندما يتسلل الشك إلى قلبه ويقنعه أن كل ما يكتبه تافه. لأنه يعلم، في أعماقه، أن الكتابة ليست مجرد كلمات تُكتب، بل هي حياة تُعاد صياغتها، جراح تُشفى، وأرواح تتلاقى عبر الحروف. ولعل أعظم ما في الكتابة أنها تمنح الكاتب نوعًا من الخلود، فهي الطريقة الوحيدة التي يستطيع بها الإنسان أن يتحدى الزمن، أن يترك أثرًا يستمر بعد رحيله. الكلمات المكتوبة تظل قائمة، تتنقل بين الأجيال، تقرأها أعين لم تولد بعد، وتتردد أصداؤها في قلوب لم تخفق بعد. قد يرحل الكاتب، لكن كلماته تبقى، تواسي آخرين لم يعرفهم يومًا، وتمنحهم القوة والدفء في أوقاتٍ لم يكن يتخيلها. إنها هدية غير مشروطة، شهادة على أن الإنسان، رغم هشاشته، قادر على أن يترك بصمة لا تمحى، مجرد جملة واحدة قد تنير ظلام شخص ما، وقد تكون الكلمة الأخيرة التي كتبها الكاتب هي البداية لشخص آخر. غاليانو كان محقًا؛ الكتابة تُتعب، لكنها تواسي. ولعلها التعب الوحيد الذي لا نستطيع، ولا نريد، أن نتوقف عنه.
363
| 07 أبريل 2025
مساحة إعلانية
في الساعات المبكرة من صباح السبت، ومع أول...
4212
| 05 ديسمبر 2025
-«المتنبي» حاضراً في افتتاح «كأس العرب» - «أبو...
1848
| 07 ديسمبر 2025
فجعت محافل العلم والتعليم في بلاد الحرمين الشريفين...
1761
| 04 ديسمبر 2025
في كل يوم، ينظر الإنسان إلى ما ينقصه...
1611
| 02 ديسمبر 2025
لم يدخل المنتخب الفلسطيني الميدان كفريق عابر، بل...
1422
| 06 ديسمبر 2025
تتجه أنظار الجماهير القطرية والعربية إلى استاد خليفة...
1158
| 04 ديسمبر 2025
مواجهات مثيرة تنطلق اليوم ضمن منافسات كأس العرب،...
1149
| 03 ديسمبر 2025
لم تعد الدوحة مجرد مدينة عربية عادية، بل...
903
| 03 ديسمبر 2025
أحياناً نمر بأسابيع تبدو عادية جداً، نكرر فيها...
657
| 05 ديسمبر 2025
تشهد الساحة الدولية اليوم تصاعدًا لافتًا في الخطابات...
621
| 04 ديسمبر 2025
شهدت قطر مع بداية شهر ديسمبر الحالي 2025...
549
| 07 ديسمبر 2025
ليس بكاتب، إنما مقاوم فلسطيني حر، احترف تصويب...
495
| 03 ديسمبر 2025
مساحة إعلانية