رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

Al-sharq

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

الشرق

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

أفرغتَ يا أبا الوليد؟

كلمةٌ لو وُزِنت بثقل الأرض بيانًا، لرجحتها حكمةً وسكينةً ومهابة، لم تكن تلك الكلمة مشهدًا عابرًا في سيرة المصطفى ﷺ، بل كانت درسًا نُقِش في الأرض لأهل الرسالة، ليُعلّمهم كيف يقفون على باب العقول، لا ليكسروها، بل ليطرقوها بلُطف النبوة، وهدوء اليقين، وصبر الواعين. جلس أبو الوليد عُتْبة بن ربيعة – السياسيّ العريق، والبلاغيّ الفصيح – أمام النبي ﷺ، لا ليُحاور، بل ليُساوم. أراد أن يشتري الصمت بالنفوذ، وأن يُسكت الوحي بالعرض المغري، وأن يبدّل الرسالة بعرشٍ على الرمال! ‏‏ جلس بنفَس السياسة، وحنكة البيان، وخبرة المفاوضات، لكنّه لم يكن يعلم أنه يجلس بين يدي من أوتي جوامع الكلم، وأوتي معها سكينة الجبل حين تُزمجر العاصفة. قال عتبة ما شاء، ومضى كما أراد، ونثر على الطاولة كل أوراق الصفقات: مالٌ، ومُلك، ونساء، وجاه، وسلطان. لكنّ محمداً ﷺ، ما نطق، ولا اعترض، بل تركه حتى أفرغ كلّ ما في جُعبته. ثم التفت إليه، بكل السكينة التي يورثها الإيمان، وبكل الهيبة التي يصوغها اليقين، وقال: «أفرغتَ يا أبا الوليد؟» فيا من تظن أن الحق لا يُقال إلا بصوتك، تأمّل سكون النبوة في حضرة الباطل! تأمل تلك الكلمة فإنها ليست مجرّد عبارة، بل هي ميزانُ عقول، ودرسُ حياة، ومنهجُ دعوة. لقد أبانت لنا هذه الكلمة أن الاستماع ليس ضعفًا، بل حُكمٌ من فوق، وأن الحوار لا يُختطف بالصراخ، بل يُبنى على توقير العقل، واحترام الوقت، وإعطاء الفرصة لكل فكرة أن تخرج، حتى تُرى على حقيقتها، ويُكشف غُثاؤها من ذهبها. من لا يُمهّد لسماع خصمه، لا يُمكن أن يُقيم عليه حجة. ومن لا يصبر على كلام الآخر، لا يملك قلبًا يَسعُه، ولا عقلًا يُقنعه، ولا نفسًا تُحاوره. الاختلاف في الإسلام ليس لعنة، بل سنة كونية (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً، وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ۝ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ، وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُم) لكنّ الفتنة تنشأ حين لا يُحسن الناس أدبَه. حين لا يصبرون حتى «يفرغ» من يُحدّثهم، ولا يُمهلونه حتى يُتمّ حجّته، ولا يُنصتون إليه إلا ليسقطوه، لا ليفهموه. حينها تصير الكلمات رصاصًا، والمواقف سكاكين، وتُختزل الدعوة إلى تصنيفٍ وتبديعٍ وتكفيرٍ، وتضيق الأرض بمَن فيها. ولذلك، فإنّ أولى خطوات النجاة من فتنة الاختلاف هي في أدب الاختلاف، لا في كتمه. وإنّ من رحمة الله بالأمة أن جعل في سيرة نبيها ﷺ هذا الموقف العظيم، ليكون ميزانًا لا يزيغ، وأصلًا لا ينقض. فيا من تمسك بزمام الحجة، لا تمضِ فيها بعجلة، بل قف، وقل لصاحبك: «أفرغت؟»، ثم أنصت له، واعلم أن من لم يُحسن الإصغاء، لم يُحسن البيان، ومن لم يُتقن السكوت، لم يُجِد الدعوة. «أفرغتَ يا أبا الوليد؟» جملةٌ تختصر الدعوة، وتختبر الأخلاق، وتُفرز من يصلح للبناء، ومن يصلح للهدم. فليتنا نُعيدها لا جُملةً في الألسنة، بل خلقًا في القلوب، وليتنا نُعلّم أبناءنا كيف يُنصتون، قبل أن يُحسنوا الرد، وليصبح اختلافنا ميزة، لا مِعولًا للهدم. ولنُوقن، كما أيقن محمدٌ ﷺ، أن الحقّ لا يُخاف عليه من حوار، وأن الباطل لا ينجو من سكوت، وأن النور يعلو، وإن صمت. فهل نقدر – في زمن الضجيج – أن نقول:»أفرغتَ يا أبا الوليد؟» ثم نُعلّم الناس كيف يختلفون؟ وكيف يتناصحون؟ وكيف يُحاورون دون أن يهدموا الجسور؟

639

| 13 يوليو 2025

﴿وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ﴾

‏آية تواجه انحراف الإنسان، وتكشف ستار الوهم الذي يغطيه الكذب والافتراء، وتفضح أولئك الذين بدل أن يُسلموا ويشكروا، جعلوا من التكذيب بابًا للرزق، ومن الجحود مطيةً للعيش. ‏هي ليست جملة عابرة، بل هي صفعة علوية لأولئك الذين يجعلون من الكذب صناعة، ومن الافتراء تجارة، ومن الباطل طريقًا إلى القوت والشهرة، ممن امتلأ بهم هذا العصر الذي خفت فيه صوت الوحي، وارتفع فيه نعيق المزيفين! ‏يخرج أحدهم على الناس، فيكذب على الله ورسوله، يتقوّل على الدين، يهوّن من الوحي، ويسخر من الصلاة، ويصف المؤمنين بأنهم أسرى التراث، ويحسب أن الكلمة تُقال بلا حساب، وأن الضحك المأجور يُغني عن عذاب الآخرة. ‏ثم يأتي من يعتذر له: إنه يبحث عن رزق! ‏وكأن الرزق لا يُنال إلا بالتطاول على الحق! ‏وكأن الكذب صار طريقًا شرعيًّا إلى القوت! ‏وهنا تتجلّى خطورة الكلمة. ‏فالكلمة ليست مجرد لفظ، بل قنبلة تُلقى في قلوب الناس، إما أن تفتحها للنور، أو تُقفلها في الظلمات. ‏والكلمة، كما قد تهدي، فإنها قد تضلّ، وقد تهوي بصاحبها في النار سبعين خريفا: ‏«إن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يرى بها بأسًا، يهوي بها في النار أبعد مما بين المشرق والمغرب» ‏وهكذا يكون التكذيب بالوحي بابًا للرزق عند التافهين، الممسوخين، الذين حوّلوا الكلمة من أمانةٍ إلى بضاعة، ومن دعوة إلى سلعة، ومن نورٍ إلى وسيلة للظهور! ‏ثم يأتي القرآن فيكشف ذلك الوجه البشع للإنسان حين يُبدّل الفطرة، ويُحرف اللسان، ويجعل من النعمة كفرًا بها، ومن الرزق سبيلاً إلى النكران، ‏والأمر لا يقتصر على هؤلاء الذين ينكرون نعمة الغيث أو يُرجعونها إلى النجوم، بل إن الآية تتسع لتشمل صنفًا جديدًا في هذا الزمان، ‏صنفًا لبس عباءة الشهرة، وركب موجة الإعلام، وسوّق للرذيلة تحت لافتة “الترفيه”، وجعل الكذب سلّمًا للانتشار، وجعل من الفضائح تجارةً تدرّ الأرباح! ‏هؤلاء الذين يُسمّون اليوم “مشاهير”، وما هم في حقيقتهم إلا أبواق الكذب الحديث، يُنفقونه كما تُنفق النقود، ويعيشون على فتات الخداع، ويصطنعون المواقف والقصص لجذب الأنظار، وجمع المتابعين، ورفع الأرقام. ‏يختلق أحدهم مشهدًا تافهًا: طلاق، خيانة، شتيمة، دموع، عراك، تمثيل مفضوح! ‏ ثم ينشره على الناس وكأنه “واقع” يُبكى له! ‏وهو في قلبه يعلم أنه كذبٌ محض، وتمثيلٌ وضيع، لكنّه يدرّ المال، ويكسب الجمهور. ‏وربما يُخرجون مقاطع فيها “تمثيل للرذيلة”: ‏انكشاف أخلاقي، ميوعة في الكلام، إيحاءات فاجرة، ألفاظ ساقطة، بحجة “كسر التابو”، و”التجديد”، و”حرية التعبير”! ‏فأي حرية هذه؟ وأي توعية؟! ‏بل هو استثمار في فساد الذوق، وتسويق للميوعة، وتخريب للمروءة! ‏وما أقبح أن يكون كل ذلك باتفاق بين رجل وامرأة، كلاهما لا يعرف من الدين إلا الاسم، ولا من الحياء إلا القناع، يتواطآن على خداع الناس، ثم يقولان: “إنها مشاهد من الواقع”! ‏وهنا تعود الآية من جديد لتجلجل في أذن الزمان: ﴿وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ﴾ ‏فيا من جعلت الكذب مهنتك، والضلال مورد رزقك، والشهرة على أنقاض الفضيلة سبيلك؛ ‏تب إلى الله قبل أن تختم صحيفتك بهذا الكذب، وارجع إلى مولاك قبل أن تُسأل: ‏﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ ‏ ﴿وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ﴾ ‏فكل كلمة، محسوبة، ‏وكل كذبة، مكتوبة ‏وكل فتنة نشرتها، مردودة إليك ‏﴿اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا﴾

297

| 06 يوليو 2025

وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم

صورة قاتمة تعكس انحطاطا أخلاقيا رذيلا لجماعة أفلت فيهم الزمام؛ واختلت عندهم المقاييس، واضطربت فيهم القيم، وضاعت بينهم الأصول؛ فضعف عندهم ما حذر الله منه، وهان عليهم ما استعظمه الله! وما يعظم عند الله إلا الجليل الضخم الذي تزلزل له الرواسي، وتضج منه الأرض والسماء. والحادثة وإن نزلت في أم المؤمنين المطهرة رضي الله عنها إلا أن الآفة قائمة وامتدادها حتى اليوم حادث وهذا هو الخطر. تبدأ القصة بجماعة تلقوا الشائعة بألسنتهم! {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ} وانظر إلى بلاغة الأداء القرآني في التعبير عن السرعة في إفشاء هذا الكلام وإذاعته دون وَعْي ودون تفكير، فمعلوم أن تلقِّي الأخبار يكون بالأذن لا بالألسنة، لكن من سرعة تناقل الكلام فكأنهم يتلقونه بألسنتهم، كأن مرحلة السماع بالأذن قد ألغيت، فبمجرد أن سمعوا قالوا، لسان يتلقى عن لسان، بلا تدبر ولا تروٍّ ولا فحص ولا إمعان نظر. حتى لكأن القول لا يمر على الآذان، ولا تتملاه الرؤوس، ولا تتدبره القلوب! وكأن لا حرمة لغائب، ولا صيانة لسامع، ولا خوف من غد يقف الخلائق فيها أمام حكم عدل في يوم ينصب فيه ميزان لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها! إن هذا السلوك الأهوج ما هو إلا صورة فيها من الخفة والاستهتار وقلة التحرج، ما ينبيك عن عقل صاحبه ومستمعه معا! فما الفارق بين من يقذف الغير بالشر ومن ينصت إليه من غير نكير أو إعراض أو ترك المكان، كلهم في الإثم سواء. إن خطر الكلمة ثقيل لا يتحمله ظهر، ولا يطيق تبعته بشر، ففي الصحيحين عن أبي هريرة - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - عَنِ النبي - صلى الله عليه وسلم – قَالَ (إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مَا يَتَبَيَّنُ مَا فِيهَا يَزِلُّ بِهَا في النَّارِ أَبْعَدَ مِمَّا بَيْنَ المَشْرِقِ والمَغْرِبِ) وعند الترمذي: (إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنَ الشَّرِّ مَا يَعْلَمُ مَبْلَغَهَا يَكْتُبُ اللهُ لَهُ بِهَا عَلَيْهِ سَخَطَهُ إِلى يَوْمِ القِيامَةِ). إن السلامة كل السلامة في الابتعاد عن مواطن الذلل، أو تتبع عورات الأمم، أو كشف الستور المرخاة على أصحابها؛ فالجزاء من جنس العمل، وقد قال صلى الله عليه وسلم (يا معشرَ مَن أسلَم بلسانِه ولم يدخُلِ الإيمانُ قلبَه لا تؤذوا المسلِمينَ ولا تُعيِّروهم ولا تطلُبوا عثَراتِهم فإنَّه مَن يطلُبْ عورةَ المسلِمِ يطلُبِ اللهُ عورتَه ومَن يطلُبِ اللهُ عورتَه يفضَحْه ولو في جوفِ بيتِه) ونظَر ابنُ عمرَ يومًا إلى البيتِ فقال: ما أعظَمَك وأعظَمَ حُرمتَك ولَلمُؤمنُ أعظَمُ عندَ اللهِ حُرمةً منكَ. قد كان الأولى بمن سمع الإشاعة أن يحسن بالمسموع الظن حتى يحفظ خواطره، وأن يصمت عن القول حتى يحفظ لسانه، وهذا ما أشار إليه القرآن بقوله: {لَّوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَٰذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ} {وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَٰذَا سُبْحَانَكَ هَٰذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} هذا درب السلامة لمن أرادها، فاللهم احفظنا وسلمنا

240

| 29 يونيو 2025

الفجوة الجيلية (جيل التراث وجيل الترند)

ليست الفجوة الجيلية فرقًا في الأعمار، ولا مجرد تباعد في الأذواق، بل هي شرخ داخلي في المعنى، وثغرة في جدار القيم، وهوّة تفصل بين جيلين لم تعُد اللغة بينهما واحدة، ولا الرؤية، ولا حتى مفهوم الإنسان. جيلٌ وُلِد في حضن الكفاف، نشأ على صوت المؤذن لا على صوت الإعلانات، وتفتّحت روحه على مفردات مثل: الطاعة، والحياء، والبر، والرضا. وجيلٌ انفتح على شاشة تسبق الفطرة، وتُغني عن المعلم، وتُشكّك في كل مسلَّم! جيلٌ استُبدلت فيه المرجعية الدينية بـ «المؤثّر»، والموعظة بـ «المحتوى»، والقدوة بـ «الترند»! ليست الفجوة هنا مجرد مشهد في بيت، ولا خصومة بين جيل الآباء والأبناء، بل هي أزمة وجود؛ حين يُعاد تعريف «الحق»، و»الهوية»، و»القيمة» بمعايير لا صلة لها بالوحي، ولا بالوجدان. والخطر الأكبر ليس في سوء العلاقة، بل في سقوط المرجعية. حين لا يعود الشابُّ يثق أن في قول أبيه حكمة، ولا يرى في أمّه نورًا يُضيء، ولا يشعر أنّ للبيت قدسيّة، فذلك إعلانٌ صامت بأنّ الجيل القادم سيتّخذ من ذاته قبلة، ومن شهوته إمامًا، ومن الهوى دينًا. لا يُعالج الشقّ بطلاءٍ لفظي، ولا تُرمَّم الفجوات التربوية بخطب المناسبات، بل تُعاد صياغة البناء من الأساس، وتُؤسّس كل لبنة فيه على الصدق، والوعي، والتواضع في التوجيه. علاج الفجوة الجيلية يتطلب: 1. الاعتراف لا الإنكار: أن نُقِرّ، بلا مكابرة، أننا أخطأنا حين أنزلنا جيلًا جديدًا في نهرٍ جارف، ثم طلبنا منه أن يسبح بأساليبنا القديمة. وأخطأنا حين ظننا أن تربية الأبناء تعني نسخًا مكررة منّا، لا كائنات لها زمانها، وأسئلتها، وملامحها المستقلة. 2. العودة إلى القدوة الصامتة: فالعين تلتقط ما لا تلتقطه الأذن، والطفل يقتدي بالفعل لا بالبيان، وجيل اليوم لا يسمع النصيحة، بل يراها. إن رأى والده يعتذر حين يخطئ، تعلّم الشجاعة. وإن رأى والدته تُصلّي بخشوع، تعلّم الإيمان بلا خطبة. وإن رأى في بيته صدقًا، ووفاءً، واحترامًا، تعلّم القيم من غير تلقين. 3. تجديد العلاقة على أساس الحوار: ليس كلّ سكوت هيبة، ولا كلّ صراخ تربية! الحوار مفتاح القلوب، والسكون الذي ينصت أبلغ من ضجيج التوبيخ. فمن لم يصغِ لأنين السؤال، أخطأ في جواب المآل! 4. زرع اليقين قبل المهارة: أن نعلّم أبناءنا من يكونون، قبل أن نُعلّمهم ماذا يفعلون. أن نُعلّمهم لماذا خُلقوا، قبل أن نوجّههم إلى أي وظيفة يسعون، فما نفع المهارة بلا رسالة؟! وما قيمة التفوّق بلا وجهة؟! من لم يعرف غايته، تاه في كلّ خطوة، وإن بلغ القمم. 5. تربية الرؤية لا السلوك فقط: لا يكفي أن نُصلح السلوك، بل لا بد أن نرسخ الرؤية التي معيارها نور الآيات، لا عدد (اللايكات)! فمن اتّخذ الجمهور إمامه، أضله الهوى وإن كثر المصفقون. 6. الرحمة لا القسوة: ما دخل الرِّفقُ في تربية إلا زيّنها، وما نُزع منها إلا شَوَّهها، والقلوب تُفتح بالمودّة لا بالمدية، والتوجيه الذي يُطابق القلب يثمر، ولو تأخر 7. الحضور لا الغياب: ليس الحضور أن تكون في البيت، بل أن تكون في القلب! أن تشاركهم السؤال، وتسمع منهم قبل أن تُملي عليهم الجواب. فالغياب العاطفي هو الغربة التي لا تُرى، ولكن يُربّى فيها الضياع! 8. الصبر لا الاستعجال: التربية ليست معركة كسب سريع، بل بناء على مهل، الزرع لا ينبت بالغضب، ولا تُسقى النفوس بالمواعظ الغليظة، بل بالرفق، والتكرار، وانتظار الثمر بعد جهدٍ ودمع! 9. بناء الجسر لا حفر الخندق: بيننا وبين أبنائنا مسافة، لا خصومة، والمطلوب أن نبني جسرًا من الفهم لا خندقًا من الاتهام، فمن رآهم خصومًا خسرهم، ومن رآهم أمانةً أدرك أنهم امتداد لا اعتراض! بين التيه والوعي؛ تُرسم ملامح الجيل إنّ هذه الفجوة التي تنخر في أوصال بيوتنا، ليست قدرًا، ولكنها نذير، نذير بأنّ الجيل القادم سيكتب تاريخه بأدوات غير أدواتنا، وسيُقيّمنا لا بما قلناه، بل بما سكتنا عنه، ولا بما علّمناه، بل بما أهملناه. فإما أن نبني الجسر اليوم، وقلوبنا منفتحة، وأذهاننا متواضعة، أو نُسلّم أبناءنا – صامتين – إلى أسواق مفتوحة، يعرض فيها الهوى فتاواه، والجهل أفكاره، والفراغ هويّته. ذلك الجسر لا يُبنى من الماضي، بل من وعيٍ يحمل الماضي معه إلى المستقبل. وإن لم ننتصر للحقّ في هذه المعركة الصامتة، التي تُخاض كل يوم في داخل البيوت، فسنُسلّم جيلًا لا يعرف من نحن، بل ولا يهمّه أن يعرف!

786

| 22 يونيو 2025

نقطة نظام

‏ليس أعظم خديعة تُخدع بها الأمة، من أمرين: ‏١- أن يظن البعض أن الفوضى تجديد، وأن الخروج عن الوحي حرية فكر، وأن احتقار التراث شجاعة عقلية. ‏لقد مضت قرونٌ من التمكين حين كانت الأمة تهتدي بكتاب الله وتقتبس من مشكاة نبوّته، فكانت السيادة بقدر ما كان في الأمة من الإيمان والعلم والعمل. ‏٢- غفلة الأمة عن تكامل العالم والسلطان: ثغرة في جدار الحضارة ‏إن من أعظم ما يُمهد طريق النهضة أن تلتقي الإرادتان: إرادةُ العلم، وإرادةُ الحكم. فالعلم وحده لا يكفي، والحكم وحده لا يستقيم. ‏وحين تتلاقى الراية بيدٍ تهدي وأخرى تحمي، تنشأ للدين دولة، وللأمة منعة، وللمجتمع شريعة. وهكذا كانت بدايات كل نهضة صادقة في تاريخ الإسلام… لا من صدامٍ بين السلطان والعالم، بل من تلاقيهما على صراطٍ مستقيم. إن الفتن إنما تتكاثر حين تتنازع الكلمة، ويقف أهل العلم في معزل عن القرار، ويستقل أصحاب القوة بتدبير المصير، أما إذا تعاون المخلصون من الفريقين، عادت للأمة روحها، وارتفعت من فوقها الغشاوة، وعرفت سبيلها، ومشت إليه واثقةً مطمئنةً مهتدية أن النهضة لا تقوم على سيفٍ منفرد، ولا على قلمٍ وحيد، بل على اجتماع البصيرة والقدرة، الشرعية والقوة. ‏وحين يصافح العالمُ يدَ السلطان، ويجلس العدل على عرش القوة، تولد النهضة، وتمضي الرسالة. ‏وفي صفحات التاريخ أمثلة باهرة، تُجسد هذا التلاقي العظيم، وتُخبر أن الأمة لا تنهض إلا إذا حمل الرسالة عالِمٌ يهدي، وسلطان يحمي ويمضي. ‏1. عبد الرحمن الناصر وأهل العلم بالأندلس ‏تولّى الخلافة عام 300هـ / 912م، وتوفي عام 350هـ / 961م، فجمع حوله نخبة من الفقهاء والقضاة والعلماء والأطباء والفلكيين. فأقام دولة علم وعدل، ونهضة عمرانية في قرطبة، وأسس مكتبة ضخمة ومراصد فلكية. ‏2. نظام الملك وملكشاه السلجوقي ‏نظام الملك (ت. 485هـ / 1092م)، ملكشاه (ت. 485هـ / 1092م)، التقاء بين وزير عبقري وسلطان فذ من دولة السلاجقة، تم من خلاله: -تأسيس المدارس النظامية في بغداد ونيسابور وغيرها -دعم مذهب أهل السنة أمام نفوذ الباطنية والفوضى السياسية -إعداد جيل من العلماء وترسيخ الانضباط بين العلم والدولة. ‏3. نور الدين زنكي والعلماء المحدثون حكم من 541هـ حتى وفاته سنة 569هـ / 1174م، وقد التف جمع حوله المحدثين والفقهاء، أبرزهم ابن عساكر والخطابي فماذا كان: •أسس دار الحديث في دمشق لتكون منارة لنشر السنة. ‏•دعم العدل وأسس الحكم على التقوى. ‏•مهد الأرضية العلمية والدينية لصلاح الدين الأيوبي، وأوقف المد الصليبي بذكاء متوازن. 4. القاضي الفاضل وصلاح الدين الأيوبي (ت. 596هـ / 1200م)، رافق صلاح الدين حتى وفاته ، كاتب مفكر، وزير وأديب وزاهد، كان عقله ولسانه وسيفه : •فتولّى ديوان الإنشاء، وحرّر المراسلات التي وحدت الأمة معنويًا. ‏•نظّم الحياة الإدارية والسياسية للدولة الأيوبية. ‏•قال فيه صلاح الدين: “ما فتحتُ بلدًا إلا والقاضي الفاضل معي”، وقيل: “فتحت البلاد بقلمه قبل سيفي”. ‏5. العز بن عبد السلام (ت. 660هـ / 1262م) والسلطان قطز (قُتل في 658هـ بعد عين جالوت)، تحالف بين عالم مجاهد وسلطان حاسم فكان ماذا : •مضى قطز مع العز إلى عين جالوت، فكانت أول هزيمة كبرى للتتار، وفتحٌ جديد للمسلمين. ‏6. السلطان المظفر (ت. 765هـ / 1364م)، والإمام الصفدي (ت. 764هـ / 1363م) جمع السلطان بسبب الالتقاء في مجلسه العلماء والأدباء. ‏•دعم حركة التأليف والتعليم، وساهم في دعم المدارس والمكتبات. ‏•كتب الصفدي سيرًا وموسوعات خدمت التاريخ الإسلامي لقرون. ‏خلاصة سننية: كلما اجتمع السلطان والعالِم، عادت للأمة هيبتها، ونهضت من سُباتها. وكلما افترقا، ذهبت هيبتها، واستُبيح أمرها بين فوضى الجهال واستبداد السلاطين. ‏العالِم وحده نور بلا ذراع ، والسلطان وحده سيف، ‏ولا نهضة حتى يتعانقا، ويحكمهما النور والعدل معًا. ‏وما أحوج هذه الأمة اليوم أن تفتح سجل التاريخ لتفهم: أن النهضة لا تولد من شتات، ولا تُبنى على صراع داخلي بين دوائر النور وأروقة الحكم، بل تُبنى حين يحملها الاثنان معًا، ويحكمانها بالحق، ويقودانها إلى الله، لا إلى الهوى.

291

| 15 يونيو 2025

تقبّل الله طاعتكم

تقبّل الله طاعتكم، يا من وقفتم على أبواب الله بالأمس، ضارعين باكين، وها أنتم اليوم على أبواب العيد، تفتحون قلوبكم للرضا، وتجعلون أفراحكم ثوبًا يُلبس بعد الغفران، لا بعد اللهو. ما أجمل العيد حين يكون امتدادًا للعبادة لا انقطاعًا عنها، وبدايةً لعهد جديد لا رجوعًا إلى الغفلة! إن في هذا العيد معنى يجهله اللاهون، وتغفُل عنه قلوب لا تزال تحت طبقات الشهوات، فالعيد ليس لمن لبس الجديد، بل لمن جدّد التوبة، ولا لمن فرش بيته، بل لمن فرش قلبه بالخضوع، ولا لمن جمع المال، بل لمن بذل في سبيل الله، وذبح هواه كما ذبح أضحيته. لقد جئنا من يوم عرفة بقلوب قد غسلها الموقف، وأعين قد جرى دمعها على صعيد المناجاة، فويلٌ لنا إن استقبلنا العيد بجفاف القلب، كأننا ما عرفنا عرفات، ولا لهجنا بالتلبية، ولا خفقنا في دعاء مغربٍ وحيدٍ في المزدلفة. العيد هو يوم الشكر بعد النعمة، والطاعة بعد القبول، والتكبير بعد الذكر، والأضحية بعد التوبة. وإنّ من أعظم شكر هذا اليوم، أن نُعظّم شعائره، وأن نُخرج من أموالنا ما يسدّ جوع الجائع، وأن نُخرج من قلوبنا ما يُرضي الله، فإنّ العيد لا يُقبل بلباسٍ مشرق وقلبٍ مظلم، ولا تُرفَع فيه التهاني والقلوب غارقة في الدنيا. وللأضحية في هذا اليوم شأن عظيم، فهي ليست سُنّة فحسب، بل رمزٌ للتسليم، وإحياءٌ لسُنن الإيمان، وتذكيرٌ بأصل العقيدة: أن الله لا يُقرَّب إليه بالذهب والفضة، ولكن بما يُذبح من الأنفس لمرضاته، وما يُقطع من الحرام خشيةً منه، وما يُبذل من الحب له وحده. إن كل دمٍ يُراق في سبيل الله اليوم، هو شاهدٌ أن في هذه الأمة حياة، وفي قلوب أبنائها طاعة، وإنها ما زالت تعرف عهد إبراهيم، وتُكرّم موضع الفداء، وتُجدد كل عام رسالة (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ). وفي وسط التكبير والفرح، يبقى جرح الأمة حاضرًا، ويظلّ الأقصى أسيرًا، وتظلّ الأجساد في الأرض المباركة تكتب أعيادها بالدم لا بالحلوى، وتُذبح لا تذبح، وتُضحّي بأعمارها كي نظلّ نحن نعيش شعيرة الذبح لا ذبح الشعيرة. فيا من نادى اليوم بالتكبير، ارفع صوتك أيضًا بالحقّ، ولا تكن من الذين فرحوا بالعافية ونسوا المبتلين، ولا من الذين لبسوا الثياب وتركوا فلسطين في كفنها، ولا من الذين ذبحوا أضاحيهم ونسوا من تُذبح كرامته كلّ يوم. اللهم كما رزقتنا العيد في أمن، فارزق المظلومين عيدًا في نصر، واهدِ أعياد الأمة إلى وجهتها، واجعلها أعوام فداءٍ بالحقّ لا بالضعف، وأعد علينا التكبير في ساحاتٍ عادت لأهلها، وفي منابر لم تُطفأ شعلتها. اللهم تقبل طاعتنا، وذبحنا، وتكبيرنا، ودعاءنا، ولا تجعل فرحتنا ناقصة حتى تعود الأمة إلى عزها، ويعود الأقصى إلى أهله، وتُكتب الأمة عندك من التائبين القانتين المجاهدين. وكل عام وأنتم إلى الله أقرب، وعلى طاعته أثبت، وفي نصرة دينه أصدق.

639

| 06 يونيو 2025

لبيك اللهم لبيك

الحجّ ليس انتقالًا من بلدٍ إلى بلد، بل هو خروجٌ من النفس إلى ربّ النفس، هو السفر الذي تُخلع فيه عن القلب أغطيته، ويُنزَع فيه عن الروح غبار الأيام، وتُكتَب فيه صفحةٌ جديدة من النور، كأن العبد حين يخرج من داره إنما يخرج من ذاته، ويعود وهو ليس هو. ما بين التلبية الأولى حتى آخر دمعة على عرفات، يمرّ الإنسان بتجربة خلع الدنيا، لا من الجيب والثوب، بل من الضلوع والأعماق. يتخفّف من الأسماء، من المناصب، من الزينة، من الحُجُب، حتى لا يبقى إلا هو، ونفسه، وربّه. الحجّ موسمٌ يلتقي فيه الخلق على صعيدٍ واحد، وتنكسر فيه الفوارق، وتسقط فيه الزخارف، فلا وجهٌ إلا وجه التوبة، ولا لباسٌ إلا لباس الذل، ولا صوتٌ يعلو على «لبيك»، ولا طواف إلا حول بيتٍ بُني على التوحيد، وسُقي بدموع المحبين. الذي يقف بعرفة، إنما يقف على باب الرحمة، وإنّ دمعةً واحدة على ذلك الصعيد، لتعدل جبالًا من العمل، ولفظةَ استغفار، تصعد به إلى أعلى مراتب القبول. ذاك اليوم هو محشرٌ صغير، فيه تُسكب الرحمة لا الحساب، وتُعطى الصحف لا العقاب، وتُكتب البداية لا النهاية. الذي يطوف، إنما يدور حول محبوبه، فيزداد بكل شوطٍ قربًا، وبكل طواف شوقًا، وبكل دمعةٍ يقينًا، فالبيت ليس من حجارة، ولكنه مناداة للقلوب، دعوة من السماء أن أقبلوا. الذي يسعى، لا يركض بين جبَلين فقط، بل يركض بين اليأس والرجاء، بين الخوف والطمع، بين فناء الدنيا وثبات الطاعة، وهو يكتب برجليه قصة امرأة سعت لأجل ولد، فصار سعيها شريعةً للأمم، ورحمةً للعالمين. أما التجرّد من الثياب، فليس من أجل الفقر، بل من أجل العودة إلى أصل التكوين، ليقف الإنسان كما خرج من بطن أمه: لا يملك من نفسه شيئًا، ينتظر القَبول والرحمة. وأما التلبية، فهي تجديد عهد، وتكرار عهد، وإصرار على العهد، كأنّ العبد يقول: لبيك، وإن تأخرتُ، لبيك، وإن عصيتُ، لبيك، وإن قصّرتُ، لبيك مهما كنت. وفي الحج تتجلّى أعظم معاني التوحيد؛ يُلقى فيه عن القلب كل شريك، وتُنسى فيه الدنيا والناس، ويُرفع فيه شعار: «لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير». ومن كرم الله في هذه الفريضة، أنه جعل أجرها عظيمًا، وثوابها موفورًا، وجعل من حجّ فلم يرفث ولم يفسق، يعود كما ولدته أمّه، نقيّ الصفحة، طاهر القلب، خفيف الحمل. فيا من نادى ربّه في عرفات، ويا من طاف حول البيت، ويا من سعى وقبّل، ويا من لبّى وهلل، ابكِ كثيرًا، وارجُ كثيرًا، فإن الله في هذا المقام أرحم من كل وصف، وأقرب من كل ظن، وأوسع من كل حلم. أما من لم يبلغه الحجّ، فحسبه أن يحسن النية، ويشتاق بقلبه، ويتعطّر بذكر الحجيج، ويكثر من الذكر والدعاء، فإن الرحمة أوسع من أن تُقصر على مَن حضر، والله كريم لا يُضيّع قلبًا اشتاق، ولا عينًا بكت، ولا لسانًا قال: «يا رب، لو استطعت لحججت». اللهم اجعل حجّنا حجًّا مبرورًا، وسعينا مشكورًا، وذنبنا مغفورًا، واجعل عودتنا عودة إلى الطاعة، لا إلى الغفلة، وإلى النور، لا إلى الظلمة، وإلى الصدق، لا إلى الحجاب. اللهم لا تحرمنا ما حيينا من شوق البيت، ولا تجعلنا ممن يُردّ بعد التلبية، واكتب لنا حجًّا آخر قبل الممات، أو حسنَ ختامٍ يقوم مقامه.

435

| 01 يونيو 2025

لبيك اللهم لبيك

حين يُلبي المسلم: «لبيك اللهم لبيك»، فهو لا يردّد لفظًا فقط، بل يُعلن تحوّله الكامل… من عبودية الطين، إلى عبودية النور. إنها صيحة الولاء... لا لموطن، ولا لقوم، بل لله وحده، لا شريك له. هناك في وادٍ غير ذي زرع نبتت شجرة التوحيد، وسُقيت بماء الذلّ لله، فجاء الحجّ ليكون في كل عام سُقيًا جديدًا لها من دموع العابدين، وعرق الساعين، وقلوبٍ نبضت بنداء الطاعة: «لبيك اللهم لبيك». فالحجّ ليس رحلة أجساد، بل رحلة أرواح، ليس منازل تُقطع بالأقدام، بل منازل تُقطع بالدموع، وما أشبه الحاجّ بمن نُفخ فيه روح جديدة، فقام يسير إلى الله كما يسير المولود إلى الحياة! الحجّ تجرد…من الثياب، ومن الاسم، ومن الجاه، ومن المال، ومن كل زخرف الأرض. يقف فيه الإنسان كما وُلِد، وكما سيُبعث… في لباسٍ يشبه الكفن، وخشوعٍ يشبه العرض، وجمعٍ يشبه يوم القيامة. في هذا الوقوف، لا يُنظر إلى الألقاب، ولا تُوزن الأقدار، ولا يُلتفت إلى الدنيا. إنما يُنظر إلى القلوب: أذلّت لله؟ أقبلت عليه؟ تابت من سفهها الطويل؟ هنالك يُغسل العبد من خطاياه، كما يُغسل الثوب الأبيض من الدنس. الحجّ موقف في العقيدة؛ لأنه إعلانٌ للتوحيد الخالص وتجريدٌ للعبودية، لا يعرف التواءً ولا نفاقًا. وهو موقف في العبادة؛ لأنه أقسى ما تُكابد فيه النفس من مفارقة الدنيا وشهواتها. وهو موقف في الحياة؛ لأنه يعلّم الإنسان أن لا يركن إلى الأرض، بل يُهيّئه للرحيل الأبدي، ليحيا بروح الاستعداد. الحجّ ليس مرّة في العمر، بل لحظة صادقة تغيّر العمر كلّه. لحظة تولد فيها الروح كما لم تولد من قبل، وتُكتب فيها صفحة جديدة من النقاء المطلق. قال الله تعالى: ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ﴾ [البقرة: 196] أمرٌ يحمل التمام في اللفظ والمعنى، فلا ينقص الحجّ إلا من حجّ بقلبٍ ناقص. وقال النبي ﷺ: (الحجّ المبرور ليس له جزاء إلا الجنة) [متفق عليه]. (من حج فلم يرفث ولم يفسق، رجع كيوم ولدته أمه) [متفق عليه]. فلا يُجازى هذا النسك بأجرٍ يُقاس، لأنه ليس مجرد عبادة، بل حياةٌ تُولد من جديد، ومصيرٌ يُعاد بناؤه من أساسه. وفي صعيد عرفات، تتلاقى الأرواح لا الأجساد، وتتكلم القلوب لا الألسنة. هناك تذكر وكرر في فؤادك : كم من نبيّ وقف ها هنا؟ وكم من عبدٍ بكى؟ وكم من دعوةٍ رُفعت؟ وكم من ذنبٍ سُقي بغيمة التوبة فغُسل. ففي الطواف، لا يطوف الجسد وحده، بل يطوف القلب… يدور حول مركز العقيدة، ويعيد ترتيب العالم حول الله وحده. ففي السعي، تسير النفس بين الخوف والرجاء، كما سعت امرأة مؤمنة بين الصفا والمروة، فجعل الله سعيها شعيرة خالدة إلى يوم الدين. ففي المبيت بالمزدلفة ومنى، يسكن الجسد ليستيقظ القلب. وفي رمي الجمرات، يرمي الإنسان ضعفَه، وجبنه، وتردده، وأهواءه التي طالما جرّته إلى الحضيض. الحجّ ليس نهاية الطريق، بل بدايته. فاللهم يا من فتحت لعبادك أبواب الرحمة في بيتك، وكتبت لمن لبى لك عفوًا ومغفرة…تقبّل من الحجاج حجّهم، وسعيهم، وتكبيرهم، ودموعهم، ونَصَبهم… واغفر لهم ذنوبهم، وانقلهم من عرفة إلى عفوك، ومن منى إلى أمنك، ومن مزدلفة إلى ساحة القرب منك.

387

| 25 مايو 2025

إني أنا أخوك

‏من الناس من يُولد لك، ومنهم من يُولد معك؛ والأخ كلاهما! ‏هو النبتة التي خرجت من أصلك، ثم نمت على كتف قلبك، فامتزجت بك كأنها لا تفارقك إلا لتعود إليك. الأخ ليس علاقة من لحم ودم فحسب، بل هو معنى يسكن الروح، وركن في القلب، إذا انكسر: اهتزت أركانك جميعاً. ‏كم من نفسٍ تاهت، فما ردّها إلا أخ! ‏وكم من دمعٍ جرى، فما مسحه إلا أخ! وكم من وجعٍ لا يُحتمل، صار يسيرًا بوجوده، وكم من فرح كان ناقصًا، فاكتمل بحضوره! وكم من موقف كاد أن يكسر صاحبه، فإذا بظل الأخ يُعيد إليه قامته. هو ظِلك، وإن أخطر ما يصيب الظل أن ينكسر! وما كسرُه إلا التخاصم؛ فإنه متى ما وقع؛ مزّق الثقة، وقطع خيط المودة. آه، ثم آه! ألا ما أتعس بيتًا يسكنه الخصام بين الإخوة! أي خصومة هذه التي تورث الكره؟ ‏وأي هجر هذا الذي يُذبح به عهد الإخاء؟ إن القلوب إذا ابتعدت، لم تُسعفها المسافات، وإذا تراكمت الجراح، فسد الحديث مهما لُيِّن، وضاعت الأعمار في انتظارٍ لا يأتي، لأن شر الخصام ما طالت أيّامه، وأُخّرت كلماته ‏إن المماطلة في الوصل تزيد القلب قسوة، وتجعل من الهجر عادة، ومن الجفاء حيلةً للتغلّب، كأنما الإخوة يتبارون: مَن يصبر على الصمت، لا مَن يسارع إلى العفو! ‏فيا أيها المبتلى بفُرقة أخيه، لا تنتظر يومًا يُصالحك فيه الوقت، بل ابحث عنه ولو في ظلمة الزمان، فإن السبق إلى الود نُبلٌ لا يعرفه إلا مَن زكّى الله قلبه. ‏أصلِحوا ذات بينكم، فإن الموت لا يُنذر، وإن العُمر لا يَطول، وإن القلوب إذا عادت صافية، عادت الحياة معها جنةً صغيرة، لا يُفسدها إلا التأخير. ‏يوما وقع خلافٌ بين أخوين من بيت النبوة:محمد بن الحنفية والحسن بن علي وكان الحسن أمير المؤمنين وسيد أهل زمانه، فأرسل إليه محمد برسالة كتب فيها: ‏“إن لك سابقةً وفضلاً، ولا أحب أن أسبقك إلى الخير، فإن أتيتني، فهو أحب إليّ، وإن لم تأتِ، أتيتُك”. ‏فلما قرأ الحسن الرسالة، نهض إلى أخيه مسرعًا، وضمه إلى صدره، وقال: ‏“ما كنتَ لتسبقني إلى صلة رحم”. ‏أي نفوسٍ تلك التي تذيب الكِبر في لحظة، وتقدّم الرحم على الموقف، وتنتصر لله لا للنفس؟ ‏أي نفوس تلك التي لا تزن الأخوّة بميزان المصلحة، ولا تتعامل مع القرب ببطاقة حساب، بل تسير إلى أخيها طاهرةً من الغيظ، نقيّةً من الريبة، تقتل في صدرها وسوسة الشيطان المتربص، وتطفئ الغضب المتأجج، ثم تمضي إليه لا لتكسب لحظةً من رضا الناس، بل لتنال وجه الله؛ فإن أعظم الانتصار أن تغلب شيطانك، لا أن تهزم أخاك. ‏فيا أيها الإخوة: ‏- لا تورّثوا بخصامكم الأحقاد لأبنائكم، فإنها إن نبتت فيهم، اقتلعت المودة من جذورها؛ فلن تأمنوا عليهم غدًا من غوائلها، ولن ينفعكم معها ندم، ولا يُقبل منكم ساعتها نصيحة. ‏-لا تجعلوا من خصومتكم ميراثًا، ولا من عنادكم سنّةً تُتّبع؛ فإن قلوب الصغار لا تعرف سبب خلافكم، لكنها تعرف أن البيت قد انكسر، وأن الجدران لم تعد تستر كما كانت. ‏-لا تكسروا قلوب آبائكم بخصومة بينكم، فإن دمعتهم وإن خفيت تزلزل أفئدتهم زلزلة موجعة،وتحرق آمالهم كما تحرق النارُ الحطب اليابس في ليلة ريح باردة. ‏-لا تُغضبوا ربّ الأرض والسماء من أجل ساعةِ غلّ، أو لحظةِ كبرياء، أو كلمةٍ خرجت ثم طارت، فكيف ترضى أن تغضب الله لتُرضي نفسك؟ ‏-لا تقطعوا أرحامكم، فإنها من الإفساد في الأرض “فهل عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ”. ‏فهل بعد هذا تحسبون الخصام أمرًا هينًا؟ وهل بعد نداء الربّ عذرٌ لمتخاصم مع أخيه؟ ‏لا والله، ما بقي عذرٌ لمن عرف هذا، ثم ظل يختار الخصومة على الصلة. ‏امضِ إلى أخيك، وافتح له قلبك، ولا تقل: “هو المخطئ”، فالعاقل لا ينتظر عذرًا ليفتح بابًا أُغلق، بل يكفيه أن يعلم أن الله يحب الواصلين، وأن الرحم إذا شُدّت، شدّ الله بها في السماء رزقًا، وأجلاً، وذكرًا طيبًا لا يزول.

351

| 18 مايو 2025

( شمخصة )

‏كأنك — وأنت تقرأ العنوان — تستغرب المعنى أو تستهجن اللفظ؟! ‏نعم، (شمخصة)! ‏لا تبحث عن أصل الكلمة ولا عن اشتقاقها، فإن هذا اسم على علم، له قصة طريفة مؤلمة، حدثني بها الدكتور محمد التميمي — حفظه الله — فيما نقله عن ابن عدي في كتابه “الكامل”، أن رجلاً بمكة اسمه (شمخصة) كان إذا رأى الخراسانيين دخلوا البلد، أعطاهم الدراهم وقال لهم: العنوني في الأسواق!!! ‏فإذا مرّ به أحدهم صاح: هذا شمخصة، لعنه الله! ‏فيبتسم ابتسامة الرضا، كأنما نال مجدًا أو بلغ رتبة!! ‏فلما سُئل عن فعله هذا، قال: أشتهر في الدنيا!!! ‏فيا سبحان الله! ‏وهل كانت الشهرة يومًا مقصدًا للعار حتى يتقرب إليها الناس بوسائل الفضيحة؟ ‏إن من الناس صنفًا لا يعرفون أقدار أنفسهم، ولا يستحيون أن يلمعوا بين الخلق ولو في ظلمات العار، كما تلمع الحشرات في المستنقع. ‏شمخصة هذا قد عرفه عصرنا حتى ألفه! ‏ صورة تتكرر على هيئة رجل يفرح أن يُسبّ في سبيل أن يُرى، ويهنأ بأن يُحتقر في سبيل أن يُشار إليه! المهم أن يكون من (المشاهير)!!! ‏فلئن مات (شمخصة) فإن له أبناء يتناسلون في كل زمان، يعيشون بيننا، يستعذبون أن يكونوا موضع السخرية، ويستطيبون أن تطأهم الألسنة بأقذر ما فيها، ما دام ذلك يذيع لهم اسمًا، أو يشهر لهم وجهًا، أو يلفت إليهم عيون السفهاء. ‏تراهم يتسابقون إلى الفضائح سباق الأبطال إلى المكارم! ‏ويطلبون المسبة كما يطلب الحر الكريم المدح والثناء! لا يبالون أن تهدم المبادئ، وتُذبح القيم، إذا كان الثمن لقبًا زائفًا أو صورة ملوّنة أو كلمة تافهة في زاوية النسيان. بل إن (شمخصة) الجد كان صادقًا مع نفسه؛ اعترف أنه يشتري اللعن لأجل الشهرة، ولم يتستر خلف شعار، أو يختبئ وراء دعوى الحرية، أو يلبس ثوب الوعظ وهو يدس السم في العسل.‏أما هؤلاء في زمننا، فقد جمعوا إلى طلب الشهرة وقاحة النفاق، وإلى السقوط الأخلاقي وقاحة التنظير! تراهم يظهرون للناس بوجوه متوردة مصطنعة، يتكلفون الغرابة، ويستخرجون العجب من قمامة الألفاظ والمواقف، كأن الشهرة لا تصعد إلا على أكتاف الجنون والانحراف. فهذا قد نزع عنه لباس الرجال، فجعل يتراقص كالنساء، ويُري الناس خفة روحه على جثة رجولته! وهذا يتمايل في مشيته كالمخنثين، يظن أن الضحك عليه انتصار، وأن العبث بوقاره بطولة!‏وتلك تخلع عنها ثوب الحياء، فتتكلم بما يستحيي منه الشريف، وتفاخر بما كان الأعراب الأوائل يستترون منه في ظلمات الليل! وهذا يبيع أهله وكرامته في قصة سخيفة أو مقطع هابط، يفرح أن يُشار إليه بالأصابع، وإن كانت أصابع السخرية والاحتقار! ‏إنهم يعرضون أنفسهم على الدنيا كما تُعرض البضاعة في السوق الرخيص، فإن وجدوا من يشتري ضحكاتهم السوداء، ضاعفوا العرض، وإن سخر الناس منهم، فرحوا وقالوا: «ها نحن صرنا حديث الناس!» ‏ثم أشدهم سقوطًا وأخسهم منزلة: ‏ذاك الذي يبيع دينه بدنياه، يفتري على الله كذبًا، ويهين شرائعه، ويسخر من سننه، كل ذلك في سبيل شهرة زائفة أو دراهم معدودة! ‏يا هؤلاء! أفي رضا السفهاء تُسخطون رب الأرض والسماء؟ ‏أفي ابتسامة العيون التافهة تبيعون آخرتكم السرمدية؟ ويلٌ لكم، وويلٌ لمن رضي أن يكون (شمخصة) جديدًا في سوق هذا الزمانإن الشهرة التي تأتي من مدارج الرذيلة، إنما هي لعنة الزمن، يحملها صاحبها كما يحمل الوشمَ العبدُ الهارب، تظل معه حيثما ذهب، لا تمحوها دموع الندم، ولا تغسلها أنهار التوبة. ‏أفٍّ لكم! ‏إنما يقاس الرجال بما يضيفونه إلى الدنيا من حق، لا بما تضيفه إليهم الدنيا من صيت! ‏يا من فيكم بقايا شمخصة… ‏ارحموا أنفسكم، فإن أعين الناس مرايا صادقة، لا تخفي القبح بزينة، ولا تُظهر الكرامة بزيف. ‏وإن أرخصتم أنفسكم، فلن يرفعكم أحد. ‏وإن بعتم قيمتكم لمن يشتريها بالتصفيق، ‏فأنتم — والله — في سوق العبيد تباعون بيع الكسالى، وتُطردون طرد الأراذل، وتُنسَون نسيان النفايات

537

| 11 مايو 2025

القوامة بين التكليف والتشريف

ليس الرجل من ولد ذكرا، فإن الذكورة قسمة في الخِلقة، ولكن الرجولة مقام لا يبلغه إلا من راض نفسه على الكمال، وحمل عبء غيره قبل عبء نفسه، ووقف بين الحنان والحزم موقف الميزان، لا تميل كفته، ولا يختل ميزانه. ‏ولأجل هذا المقام، نزل قول الله: “الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ”، لا ليُتخذ وسادة للغرور، ولكن ليكون سُترة في وجه الفوضى، وسندًا للمرأة، وعمادًا للأسرة. ‏القوامة بهذا ليست تشريفا يعلق على الصدور، ولكنها تكليف يسحق القلب أحيانًا، ويستنزف المروءة، ويجعل من الرجل حارسا لا ينام، وربّانًا لا يغفل، وسندا لا ينهار. ‏إن القوّام إذا جار، تهدّمت أركان البيت، وإن فرّط، تفرّقت السُبل بأهله، وإن غفل، صار حمله ثقيلًا لا يُعين، وظلّه طويلًا لكن لا يُستظلّ به. ‏ليس في القوامة زينة يتبختر بها المتكلف، ولكن فيها بذل النفس، والسهر على الكفاح، وبسط الكفّ عند الشدة، وستر العورة عند الحاجة، وحمل العبء إذا جثمت الأيام على كاهل الأسرة. ‏وما من شيءٍ يجرح هذه القِوامة إلا كان خنجرًا في قلب الكرامة، ينقص من قدر الزوج عند زوجته، فتراه في عينها صغيرًا وإن عظم، هزيلًا وإن اشتد، فهي لا تنظر إليه بعينٍ تحصي رزقه، ولكن بعينٍ ترى رجولته في قيامه، وعطفه، وحزمه، وسَعَة صدره. ‏وقد عقب الله بعد ذكر القوامة بذلك قال الله: “الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ”، فكانت النفقة أحد أعمدة القوامة، وأوضح براهينها. ‏فالنفقة ليست فضلًا، بل حقٌ واجبٌ لا يصح غيره، فهي توقيع القوامة، وختم السيادة بالرحمة، وهي لغة الرجولة التي تفهمها المرأة من غير خطاب. ‏إن الرجل الذي يمدّ يده ليأخذ حيث وجب عليه أن يعطي، كمن نزع عن نفسه تاج القيادة، واستبدله بقلادة الذل. ‏كما أن السمع والطاعة حقٌ للزوج، يكون تاما ما كان الزوج على الجادّة، وما دام أمره بمعروف لا يناقض شرعًا ولا يهدم إنسانية. ‏ولكن أيّ قلبٍ يُسلم الزمام لمن لا يُقيم للبيت عمادًا؟! ‏إن المرأة تحتاج في بيت زوجها الحنان والعطف الذي ودّعته في بيت أبيها، كما أن الرجل يحتاج إلى الاهتمام والرعاية التي ودّعها في بيت أمه. فليس الزواج موطنًا للمُطالبات، بل هو موطنُ تعويض وتدارك، يسدّ فيه كلٌّ نقص الآخر، ويُتمّ فيه كلٌّ ضعف شريكه. ‏فلا تطالب بحقك حتى تؤدي واجبك، فإن الحقوق لا تُنال بالتشدّق، بل تُنتزع من عِرق الواجب، ومن عَرق الجبين، ومن صدق المعاملة. ‏إن مشكلة البعض أنه لا يبصر إلا حقوقه، كمن يمشي في ظلمةٍ لا يرى فيها إلا مرآته، فيظن نفسه ضوءًا وهو غارق في العتمة. ‏وهنا تأتي كلمات السلف كأنها النور الذي يُساق إلى العميان، أو السيف الذي يُقطع به حبل الغفلة؛ فقد قال سفيان الثوري رحمه الله: ‏“لا يكون الرجل رجلًا حتى يُطعم ويكسي، ويصبر على الأذى، ويعفو عن الزلل”. ‏فانظر كيف جمع سفيان في سطرٍ ما لا يجمعه كثيرون في أعمارهم: الكفّ المفتوحة، والصدر الواسع، والخلق الذي لا يضيق بالهفوة، فإن الرجولة في معناها الأعلى، عطاءٌ وسعة، لا تسلّطٌ وقسوة.

402

| 05 مايو 2025

قال أنا خير منه

ليست هذه الكلمة ـ وإن صدرت عن إبليس ـ من كلماته وحده، بل هي صيحة ذلك الداء القديم المتجدد في قلوب بعض البشر كلما تسربلوا بجهلهم، وتوشّحوا بغرورهم. هي صدى النفس المريضة، تردده في سرها، وتُعلنه في فعلها، وتبني عليه دينها وعقيدتها، حتى تضل وتُضل، وتهلك وتُهلك، ثم تُبعث يوم القيامة مفلسةً لا تملك من أمرها شيئًا، تُسأل فلا تهتدي إلى جواب، وتُعرض على ربها فتجد أن عمرها كله كان مشغولًا بالنظر إلى فساد غيرها، تبرّر به قبيح فعلها، وتستند إليه في ضلالها. بل إنك لو فتّشت عن طغيان النفس، فلن تجد أفتك بها من هذه الكلمة، ولا أضيعَ لدين المرء من هذا المعنى؛ فإن كثيرًا من الناس يقع فيه خفيًا أو جهرًا، بعلم أو بغير علم. ألا ما أضيع دين من جعل فساد الناس دليل صلاحه! ومن ظن أن هدايته كامنة في رؤية من هو أضل منه! كأن الجنة تُنال بعيون تتلصص على العورات، لا بقلوب تتضرع للثبات، وكأن النجاة تكون بأن يرى أقوامًا قد هلكوا، فيُسرّ هو بنجاته من مهلكهم، لا بإخلاصه في طريق نجاته. يا للعجب من هذه النفس! لا تُبصر عيبها حتى تتلمّس عيوب الناس، ولا تخشى الغرق ما دامت ترى من هو أعمق غوصًا منها في لجج المعصية. يسقط في السرقة، فلا يشعر بوخز الضمير لأن غيره سرق وقتل وزنى. يهمل أمانته، فلا يرى بأسًا، لأن سواه أشد منه تفريطًا. فلا يزال يردد في سره: «أنا خير منه»، حتى تُصبح هذه الكلمة سُلّمه إلى النار، ودرجه إلى الخسران. فما هذه الكلمة إلا هادم كل بناء للهدى، وهادم كل رقي في مدارج الصالحين، لأنها تبرر السوء وتحسن القبيح وفوق ذلك تولّد الكِبْر، وترضع العُجب، وتُربّي الغرور، حتى يصير صاحبها صنمًا من الغرور لا يشعر، وإن كان يمشي على الأرض. وتأمل حال من أقام حياته على فساد غيره، ستجد في قلبه داءً خفيًّا، يجعل عينه لا ترى الخير إلا في صورة شبح ضلال غيره، فإن لم يجده؛ صنعه من خياله، ليُرضي ضميره، ويستريح على سريره، ولو كان سريره من قشّ الغرور. فإذا ذكّرته بالله يوما، صاح: «غيري أضل»، «وفلان أفجر»، و»الناس كلهم هكذا» كأنها حجة تنفعه يوم العرض الأكبر. ووالله، ما هذا إلا جهلٌ بالدين، وغفلة، فلن يسأل العبد غدا من كان أضل منك؟ بل سيسأل: (مَاذَآ أَجَبتُمُ ٱلمُرسَلِينَ) فاحذر ـ يا ابن آدم ـ هذه الكلمة، واحذر منابتَها، فإن لها في القلب جذورًا لا تُرى، تبدأ من عُجب خفي، ثم تنمو في أرض الجهل، وتسقى بمديح الناس، وتُثمر كِبرًا لا يُقلع إلا بندم صادق، وتوبة تمحو ما كان قبلها. فلا تنظر إلى الناس لترى قدرك، بل انظر إلى الوحيين لتستبين موقعك ولا تزكّ نفسك بلسانك، فإن الله أعلم بسريرتك، وأبصر بحقيقتك، وأعدل في حكمه منك. واحذر أن تكون كما قال: «أنا خير منه»، فخرج من رحمة الله، فكان من الهالكين».

774

| 27 أبريل 2025

alsharq
السفر في منتصف العام الدراسي... قرار عائلي أم مخاطرة تعليمية

في منتصف العام الدراسي، تأتي الإجازات القصيرة كاستراحة...

2025

| 24 ديسمبر 2025

alsharq
قمة جماهيرية منتظرة

حين تُذكر قمم الكرة القطرية، يتقدّم اسم العربي...

1635

| 28 ديسمبر 2025

alsharq
محكمة الاستثمار تنتصر للعدالة بمواجهة الشروط الجاهزة

أرست محكمة الاستثمار والتجارة مبدأ جديدا بشأن العدالة...

1152

| 24 ديسمبر 2025

alsharq
الملاعب تشتعل عربياً

تستضيف المملكة المغربية نهائيات كأس الأمم الإفريقية في...

1089

| 26 ديسمبر 2025

alsharq
بكم تحلو.. وبتوجهاتكم تزدهر.. وبتوجيهاتكم تنتصر

-قطر نظمت فأبدعت.. واستضافت فأبهرت - «كأس العرب»...

1011

| 25 ديسمبر 2025

alsharq
حين يتقدم الطب.. من يحمي المريض؟

أدت الثورات الصناعيَّة المُتلاحقة - بعد الحرب العالميَّة...

792

| 29 ديسمبر 2025

alsharq
لماذا قطر؟

لماذا تقاعست دول عربية وإسلامية عن إنجاز مثل...

672

| 24 ديسمبر 2025

alsharq
معجم الدوحة التاريخي للغة العربية… مشروع لغوي قطري يضيء دروب اللغة والهوية

منذ القدم، شكّلت اللغة العربية روح الحضارة العربية...

537

| 26 ديسمبر 2025

alsharq
أول محامية في العالم بمتلازمة داون: إنجاز يدعونا لتغيير نظرتنا للتعليم

صنعت التاريخ واعتلت قمة المجد كأول محامية معتمدة...

492

| 26 ديسمبر 2025

alsharq
عولمة قطر اللغوية

حين تتكلم اللغة، فإنها لا تفعل ذلك طلبًا...

459

| 24 ديسمبر 2025

alsharq
أين المسؤول؟

أين المسؤول؟ سؤال يتصدر المشهد الإداري ويحرج الإدارة...

459

| 29 ديسمبر 2025

alsharq
لُغَتي

‏لُغَتي وما لُغَتي يُسائلُني الذي لاكَ اللسانَ الأعجميَّ...

450

| 24 ديسمبر 2025

أخبار محلية