رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
لقد كانت مكة نائمةً تحت ركام الجاهلية، تتنفس الظلام كما يتنفس الصبح ندى الفجر، وكان الناس فيها أموات القلوب وإن دبّت فيهم الحياة، فلما أذن الله أن تُبعث الأرض من سباتها، أرسل الملك إلى النبي في الغار فقال له: اقرأ جاءت الآية الأولى كالنور الخاطف الذي يشق الليل البهيم، "اقرأ باسم ربك الذي خلق"، فإذا القراءة لا تُطلب لذاتها، وإنما تُطلب باسم الله، وإذا العلم لا يُلتمس من عقول البشر وحدها، بل يُلتمس من نور الوحي الذي يهديها. لقد نزلت عليه الكلمة الأولى، التي لم تكن أمرًا بالعقيدة، ولا تفصيلًا للشريعة، بل كانت أمرًا بالقراءة: "اقرأ"! وماذا يقرأ وهو لم يتعلم حروف الدنيا؟ لذا لما قال له الملك: "اقرأ"، أجاب بصدق الفطرة: "ما أنا بقارئ"، إذ لم يكن حمل القلم ديدنه، ولكن الله أراد له علمًا ليس كعلم البشر، وأراد له مدادًا لا ينفد، فكان من رحمة الله أن غطّه الملك حتى بلغ منه الجهد، ثم أطلقه، فأعاد الأمر: "اقرأ"! كأنما هو نفخٌ في روحه ليبعث فيها سر الحياة الحقيقية. عاد النبي إلى بيته وهو يحمل على كتفيه أمانةً أثقل من الجبال، ترجف بوادره من هول ما لقي، احتضنته خديجة بكلماتها التي لم تكن مجرد تعزية، بل كانت شهادةً بحق رجلٍ أعده الله لحمل هذه الرسالة، فقالت: "كلا، أبشر، فوالله لا يخزيك الله أبدًا، إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق". ومن هناك، من بيتٍ صغيرٍ في مكة، ومن قلبٍ واحدٍ رجف من خشية الله، بدأ النور يشع، وبدأت الآيات تتنزل، وبدأ الكون يتغير، ليشهد هذا العصر مولد الرسالة الخالدة، التي ستملأ الأرض بعدلها، وتنير القلوب بحكمتها، وتعيد الإنسان إلى مقامه الذي خلق له: عبدًا لله، حرًا عن غيره، قارئًا في كتاب الكون، سائرًا على هدى الحق المبين. إنها ليست مجرد كلمة، بل هي مفتاحُ الكون، ومفتاحُ النفس، ومفتاحُ الحياة. إنها الكلمة التي فصلت بين عصرين، وجعلت للإنسان شأنًا جديدًا. كان الناس يقرؤون الدنيا بغير نور، فكانت أبصارهم مفتوحة وقلوبهم مطموسة، فلما قال له الملك: "اقرأ"، كان ذلك إيذانًا بأن الحياة الحقيقية تبدأ من هذه اللحظة، وأن هذا الوجود إنما يُفهم باسم الله، وأن القراءة لا تكون علمًا حتى تكون عبادة، ولا تكون معرفةً حتى تكون لله.
291
| 16 مارس 2025
{إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ}. تحكي آيات الله في كتابه الكريم قصة من قصص الأنبياء العظام، وهي قصة نبي الله زكريا عليه السلام وزوجه وولده يحيى عليه السلام. في هذا السياق، وصف الله سبحانه وتعالى عبادة هؤلاء الأنبياء وتقربهم إليه ودعاءهم بقولهم: «وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا.» ففي هذا الوصف، يتجلى المعنى العميق لعبادة المؤمن، حيث يظهر الرغَب الذي هو الطمع في جنة الله وفضله، ويظهر الرهَب الذي هو الخوف من عقابه وناره. وهكذا، يجسد هذا الدعاء التوازن الدقيق في قلب المؤمن الذي يسعى إلى النجاة، فيجمع بين رغبة في رحمة الله، وخوف من عذابه. إن العبادة عند أهل السنة تشتمل على أصلين عظيمين، هما: المحبة والتعظيم. فالمحبة تولّد الرجاء، والتعظيم يولّد الخوف، وهكذا فإن المحبة تدفع العبد للعمل، والخوف يمنعه من تجاوز الحدود. ولا تعارض بين الحب والخوف والرجاء، بل تتكامل هذه المعاني في عبادة المؤمن. يؤسس القرآن الكريم قاعدة عظيمة في هذا الباب، لتمثل توازنًا مطلوبًا في حياة المؤمن الذي يريد الظفر والنجاة، كما قال تعالى: «نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ». وقد حذر أهل العلم من أن الخوف والرجاء لا ينفك أحدهما عن الآخر، فخوف بلا رجاء يفضي إلى اليأس والقنوط، ورجاء بلا خوف يقود إلى الغرور والأمن الكاذب. إن السلامة في أن يتوازنا، ويعتدل الجانبان، حتى يصبحا كالجناحين للطائر الذي يطير بهما في استقامة. وعن ابن حجر في فتح الباري، في باب الرجاء مع الخوف، قال: «يستحب ألا يقطع النظر في الرجاء عن الخوف، ولا في الخوف عن الرجاء، لئلا يؤدي ذلك إلى المكر في الأول، أو القنوط في الثاني، وكل منهما مذموم. والمقصود من الرجاء أن يحسن العبد ظنه بالله إذا وقع في تقصير، ويرجو أن يغفر له، كما يرجو قبول الطاعة». أما من انغمس في المعصية دون ندم أو إقلاع، فهذا في غرورٍ عظيم، كما قال أبو عثمان الجيزي: «من علامة السعادة أن تطيع الله وتخاف أن لا تُقبل طاعتك، ومن علامة الشقاء أن تعصي الله وترجو أن تنجو». إن خشية الله عز وجل، وطاعته، هما السبيل للنجاة من النار والفوز بالجنة، وهي ما ينقلب فيه الخوف إلى طاعة، والرجاء إلى غفران.
489
| 14 مارس 2025
تلك حقيقة الحياة، مسرح تتصارع فيه النفوس، وتتقاتل عليه الأهواء، ثم لا تلبث أن تتكشّف خفاياه لطائفة من الصالحين، عرفوا أن هذه الدنيا لا ينبغي أن تعمر قلوبهم، ولا أن تكون غايتهم، وإنما هي مزرعة يغرسون فيها، ليحصدوا في دار البقاء. لقد جسّد النبي صلى الله عليه وسلم صورة الزهد في أبهى معانيها، فقد كانت الدنيا في يده، ولكنه آثر ما عند الله، مُعلّمًا أمته أن الزهد ليس فاقةً يُرغم عليها المرء، بل هو تَرَفُّع بعد مَلكٍ، وعزوف بعد قُدرة، كما قال مالك بن دينار: «الناس يقولون: مالك زاهد، إنما الزاهد عمر بن عبد العزيز، الذي أتته الدنيا فتركها». ولقد ضرب النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه أروع الأمثلة، ليُبَصّرهم بحقيقة الدنيا، فلا يغترّوا ببريقها الخادع، فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: مرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسوق، فرأى جدياً ميتاً، صغير الأذنين، فأخذه وقال: «أيكم يحب أن يكون هذا له بدرهم؟» قالوا: «ما نحب أنه لنا بشيء، وما نصنع به؟!» فقال: «أتحبون أن يكون لكم؟» قالوا: «والله لو كان حيًا كان عيبًا فيه، فكيف وهو ميت؟» فقال: «فوالله، للدنيا أهون على الله من هذا عليكم». وهكذا، يتجلى للمرء الحق حين يدرك أن الدنيا ليست سوى ظل زائل، وسراب خادع، فهي بالنسبة للآخرة كنقطة ماء في محيط لا ساحل له، كما جاء في الحديث الشريف: «ما الدنيا في الآخرة إلا كمثل ما يجعل أحدكم إصبعه في اليم، فلينظر بمَ يرجع!». فأي عقل راجح ينشغل بفانٍ عن باقٍ، ويستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير؟ إن الزهد هو البلسم الذي يُهوّن المصائب، فلا تهزّ صاحبها، يقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: «من زهد في الدنيا هانت عليه المصيبات». وهو مفتاح الحكمة، كما قال مالك: «بلغني أنه ما زهد أحد في الدنيا واتقى إلا نطق بالحكمة». بل هو الطريق إلى حلاوة الإيمان، يقول الفضيل بن عياض: «حرام على قلوبكم أن تصيب حلاوة الإيمان حتى تزهدوا في الدنيا». فالزاهد الحق، هو من يملك الدنيا بين يديه، لا في قلبه، فإن جاءت إليه لم يُفتن بها، وإن زُويت عنه لم يتحسر عليها، فهو الغني وإن قلّ ذات يده، وهو المالك وإن لم يكن بيده مال، لأنه ملك زمام قلبه، فأصبح حرًا، وملك شهواته، فأصبح سيدًا.
333
| 10 مارس 2025
قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ الغني والفقير، صنفان من الناس لا تخلو منهما البشرية، قد وُجدَا منذ أن نشأت الحياة، وسيظلان ما بقيت الأيام، للأول بسطة في المال يسطو بها على غيره، وللآخر ضَعَة في الحرمان تنكسُ رأسه بين الناس. هذا شأن الدنيا إذا غاب عنها شرع الله، أو ضاع فيها الإيمان، أو فُقِدَ منها الضمير الحي. لكن لما جاء الإسلام، جعل للفقير في مال الغني حقًّا معلومًا، بل فريضة مفروضة لا يمتنّ بها الغني، ولا يتفضل بها اختيارًا، بل إن لم يعطِها طوعًا، أُخِذَت منه عَنوةً، وكان ذلك صونًا للعدالة، وحفظًا للتوازن بين القادر والعاجز. فطرةٌ قد جُبِلَ عليها الناس، فمنهم من يُسرع إلى العطاء، يُخرجه طائعًا مختارًا، لا يُماطل ولا يتردد، ينفق ليلاً ونهارًا، سرًّا وعلانية، لا يحول بينه وبين البذل حال، ولا يمنعه عنه مقال، فإنما يُنفق وهو موقنٌ بأن الله هو الغنيُّ المطلق، وأنه سبحانه قادرٌ على أن يستبدل بالقوم البخلاء آخرين، يفيضون من رزقه في سبيله، كما قال الحسن: "إن لله عبادًا اختصهم بحوائج الناس، يعطيهم الله ما أعطَوا الناس، فإن منعوا العطايا عن الناس، منع الله العطية عنهم". وهنا يقف الإسلام موقف التأديب والتهذيب، ليعلِّم من تصدَّق أن الصدقة ليست بالمَنِّ والأذى، وأن العطاء لا يكون كماله إلا إذا اقترن بالتواضع ولين القول. فما المنُّ إلا ذِكرُ النعمة على سبيل التعديد والتقريع، وما الأذى إلا السَّبُّ والتشكِّي، وكلاهما يُفسد الصدقة، ويذهب بأجرها، ويُحيل النعمة إلى نقمة. ولذا قال زيد بن أسلم رضي الله عنه: "لَئِنْ ظَنَنْتَ أنَّ سلاَمَكَ يَثْقُلُ على من أنفقْتَ عليه، تريدُ وجْهَ اللَّه، فلا تسلِّم عليه". ما أعظمها من عبرة، وما أرقاها من حكمة! فإنّ بعض الناس يُعطي، لكنه يُتبعه بنظرات الامتنان، وكلمات التفضل، حتى ليشعر الفقير بأن حاجته أضحت قيدًا في عنقه، وأنه لوى رأسه للغني ليجود عليه. وهنا يقف الإسلام ليقول: إن لم تكن الصدقة مقرونة بالرفق، فالإعراض عنها أولى. فما أبلغها من كلمة، وما أعمقها من حكمة! إن العطاء إن لم يكن مصحوبًا بالرحمة، تحوَّل إلى استعلاء، وإن لم يكن مغلفًا بالرفق، صار بابًا للأذى. فما أعظم الإسلام حين جعل الصدقة تزكيةً للروح قبل أن تكون سدًّا للحاجة، ورفعةً للمعطي قبل أن تكون يدًا ممتدة إلى الآخذ!
207
| 09 مارس 2025
لله ما ألطف هذا البيان وما أرقَّه! إنّه ليشهد بمكانة الرسول الكريم ﷺ عند ربه، ويكشف عن نفحة من أنوار العناية الإلهية التي تغمره في كل حال. هذه آيةٌ تُسرِّي عنه، وتواسي قلبه، وتقول له بلسان الوحي: نعلمُ ما قالوا فيك، ولكنهم ما قالوا إلا من أجلنا، ولأجل حديثنا فيك. لقد كنت فيهم ذا جاه عظيم، وكانوا يسمّونك "محمدًا الأمين"، فلما أنزلنا عليك هذا الأمر تغيرت قلوبهم عليك، فما أصابك من مكروه إنما هو في سبيلنا، ولن يضيع عندنا أجرك. وحالك فينا كما قال الشاعر: أشاعوا لنا في الحيِّ أشنع قصةٍ... وكانوا لنا سِلْما فصاروا لنا حَربا فاصبر؛ فإن من سار على هذا الدرب، وثبت على ما أصابه، فلن يخسر أبدًا تجارته معنا، ولن تخفى علينا حاله، بل سنجزيه جزاء الأوفياء. وهذه الحادثة التي جرت في قريش، والتي بلغت أسماع النبي ﷺ، تبرز لنا حقيقة موقف القوم من نبوّته، ذلك الموقف الذي لم يكن عن شك أو ريبة، بل عن عناد واستكبار! وكان بطلا هذه القصة: الأخنس بن شريق، وأبو جهل بن هشام. فهيا بنا نقترب بأرواحنا وننصت إلى حوارهما: قال الأخنس: يا أبا الحكم، أخبرني عن محمد، أصادق هو أم كاذب؟ فإنه ليس هنا من يسمع كلامك غيري. فأجاب أبو جهل، وقد غلبه الصدق رغم أنفه: والله إن محمدًا لصادق! وما كذب قط! ولكن، إذا ذهب بنو قصيّ باللواء والسقاية والحجابة والندوة والنبوة، فماذا يكون لسائر قريش؟ وقيل إن الحارث بن عامر، وهو من سادات قريش، قال: "والله يا محمد، ما كذبتنا قط فنكذبك اليوم، ولكن إنْ نتَّبعك نُتَخَطَّف من أرضنا!". وكان هذا شأنهم جميعًا: يعلمون صدقه، ولكن تحجزهم المطامع، ويمنعهم الجحود والعناد. يروي أبوميسرة أن رسول الله ﷺ مرّ بأبي جهل وأصحابه، فقالوا: "يا محمد، إنا والله ما نكذبك، وإنك عندنا لصادق، ولكن نكذب ما جئت به". فهل بعد هذا البيان من بيان؟ قريش كلها تعلم أنه النبي، ولكنها تتعامى عن الحق، كما قال تعالى: "وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ". فإذا كان هذا شأن القوم الذين كذبوه، فما حال الذين صدقوه وآمنوا به؟ ألا فلينظر كل مسلم في أمر نفسه! كم منّا من يؤمن بالحكم ولا يطبقه؟ وكم منّا من يدرك الحكمة ولا يهتدي بها؟ الإسلام لا يحتاج إلى أقوال باردة، بل إلى تصديق بالأفعال. فيا ليت شعري، متى نتحرك بالإسلام؟ متى ننقل محراب المسجد إلى محراب الكون؟ متى تكون حياتنا وأعمالنا ومعاملاتنا كلها بالإسلام وللإسلام؟ إن الإسلام نور لمن حمله، ورحمة لمن صدقه، وسعادة لمن جعل منه منهاج حياته. فهلموا، يا أبناء الإسلام، لنكون له كما أراد، فيكون لنا كما نريد.
228
| 07 مارس 2025
(وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ * وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا). هو لقمان بن عنقاء بن سدون، الحكيم الذي أوتي الحكمة فكان كأنه نور يمشي بين الناس، يلقي على ولده دروس النجاة كما تسكب الشمس ضياءها على الأرض، فافتتح الله حديثه عنه بهذه الآية العظيمة: «وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ». والوهن، كما قال المفسرون، هو المشقة والجهد والضعف، وهي معانٍ تتكاثف في قلب الأم كما تتكاثف السحب في جوف السماء، تتحمل لأجل وليدها عناءً لا يطيقه إلا قلب أمٍّ جبلت على الفداء، وكلما ازداد الجنين نموًا، ازداد الضعف بها حتى كأنها تسير على جسر من الآلام. ثم يجيء النداء الرباني الرحيم: «وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا»، فتلك هي الحكمة العليا، أن يكون الولد للوالدين برًّا، ولكنه في دينه ثابت كالجبل، لا تزلزله ريح ولا تهزه عواصف، فإن هما ألحّا عليه ليشرك بالله، لم يكن له أن يطيعهما في ذلك، لكنه مع ذلك لا يقسو ولا يجفو، بل يمضي في صحبتهما بالمعروف، متحليًا بالصبر، متوشحًا بالإحسان. وكيف لا يكون برُّ الوالدين عظيمًا، وقد قرن الله شكره بشكرهما في قوله: «أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ»؟ فالشكر الذي يُرفع إلى السماء، لا يكتمل حتى يعبر على أرض الوالدين، فمن جحد فضلهما، فكأنما جحد نعمة الله نفسها. ولذا قال ابن عباس، فقيه الأمة وترجمان القرآن: «ثلاث آيات مقرونة بثلاث، لا تُقبل إحداها إلا بأختها: «وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول»، فمن أطاع الله ولم يطع رسوله لم يُقبل منه، و»وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة»، فمن صلى ولم يزكِّ لم يُقبل منه، و»أن اشكر لي ولوالديك»، فمن شكر الله ولم يشكر والديه لم يُقبل منه». وهذا المعنى الجليل تجسّد في حديث المصطفى ﷺ: «رضا الله في رضا الوالدين، وسخط الله في سخط الوالدين»، فكأنما الوالد باب إلى الجنة، من أحسن الدخول إليه سعد، ومن أعرض عنه خسر. وكان سعد بن أبي وقاص، رضي الله عنه، هو صاحب القصة التي نزلت فيها هذه الآية، وكان بارًّا بأمه برًّا لا يُوصف، فلما أسلم ضاقت بذلك صدرًا وقالت: «يا سعد، ما هذا الذي أراك قد أحدثت؟ لتدعنَّ دينك هذا أو لا آكل ولا أشرب حتى أموت، فتُعَيَّر بي، فيُقال: يا قاتل أمه!». ولكن سعدًا كان قد استمسك بعروة اليقين، فقال لها في أدب الابن البار، وثبات المؤمن الصادق: «يا أمه، لا تفعلي، فإني لا أدع ديني هذا لشيء». ومضت أمه يومًا وليلة لا تأكل، حتى أشرفت على الهلاك، ولكنه لم يلن ولم يضعف، بل قال لها في قوة الإيمان: «يا أمه، والله لو كانت لك مائة نفس فخرجت نفسًا نفسًا، ما تركت ديني هذا لشيء، فإن شئتِ فكلي، وإن شئتِ فلا تأكلي». فلما رأت صدقه أذعنت، وأكلت. فهكذا ترتفع معاني البر إلى ذروتها، حيث يكون القلب ممتلئًا حبًّا ورحمة، ولكنه في الحق لا يعرف التردد، يوقّر الوالدين في غير معصية، ويحسن إليهما وإن أضمرَا له العداء، فيكون في وداعته كالغدير، وفي عزمه كالطود الشامخ، فلا تُزحزحه العواصف، ولا تغريه العواطف عن طريق الحق والهداية.
819
| 06 مارس 2025
«وَقَالُوا إِن نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آَمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ» الإيمانُ ليس كلمةً تهيمُ في أجواء الخيال، ولا هتافًا تذروه الرياح، ولا شعارًا يُرفع دون تكاليف وأمانة، بل هو حقيقة تملأ القلب، وتُحكِم سلطانها على الجوارح، وتنهض بصاحبها إلى ميادين العطاء والتضحية، فيسير بها مستسلمًا لربه، منقادًا لطاعته، مستيقظًا لها في ليله ونهاره، باذلًا لها نفسه وماله، لا يريد بها إلا وجه الله، ولا يسعى بها إلا إلى رضوانه. غير أن فِئَامًا من الناس ضعُفت نفوسهم، وقلَّ يقينهم، فلم يقووا على حمل تبعات الإيمان، ولم يطيقوا ما يقتضيه من بذل وجهاد، فاختلقوا لأنفسهم المعاذير، يجمِّلون بها حالهم، ويبرِّرون بها تقاعسهم، فما هم في حقيقتهم إلا كمن رأى النور بعينيه، ثم اختار العمى، وعرف الحق بقلبه، ثم آثر الباطل. وهذه الحجة الباطلة قديمة، قد تشبث بها فريق من مشركي قريش حين غلبهم الحياء أن يجاهروا بالتكذيب، ولكنهم لم يستطيعوا أن يَسلموا للحق، ولا أن يفارقوا ما ألفوه من ضلال آبائهم، فجاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم يعترفون بصدق دعوته، ثم يلقون بين يديه العذر في عدم اتباعه، كما رُوي عن ابن عباس أن الحارث بن عثمان بن نوفل وناسًا من قريش جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال الحارث: «إنا لنعلم أن قولك حق، ولكنا نخاف إن اتبعنا الهدى معك أن يتخطفنا العرب من أرضنا، ولا طاقة لنا بهم، وإنما نحن أكلة رأس»—يعني أنهم قلة لا تقوى على مواجهة أعدائها. فما أشبه حال هؤلاء بمن يكابرون اليوم عن نصرة الحق، فلا يجرأون على إنكاره، ولا يملكون دافعًا للانتصار له، فيُلقون بالأعذار الواهية، ويستترون خلف مخاوف مصطنعة، ولو أنهم تأملوا قليلاً لرأوا أن قريشًا، وهي يومئذ قلة في العدد والعدة، قد أكرمها الله بحرم آمن، لا تمتد إليه أيدي المعتدين، ولا تُطاول مقامه سيوف الغزاة، وكان يجبي إليه ثمرات الأرض كلها، فيعيش أهله في رخاء وأمان، فكيف يخافون على أنفسهم من العرب، وربهم الذي آمنهم من قبل قادر على أن يؤمنهم بعدُ إن استجابوا لدعوته واتبعوا رسوله؟! والتخطف: مبالغة في الخطف، وهو انتزاع الشيء بسرعة، والمراد: يأسرنا الأعداء معهم إلى ديارهم، فرد الله عليهم بأن قريشاً مع قلتهم عدّاً وعدة أتاح الله لهم بلداً هو حرم آمن يكونون فيه آمنين من العدو على كثرة قبائل العرب واشتغالهم بالغارة على جيرتهم، وجبى إليهم ثمرات كثيرة قروناً طويلة، فلو اعتبروا لعلموا أن لهم منعة ربانية وأن الذي أمنهم في القرون الخالية يؤمنهم إن استجابوا لله ورسوله. إن أقسى الناس غفلةً من يرتدُّ عن أداء حقوق الله بمثل هذه الدعاوى الفارغة، التي لا تدل إلا على ضعف العقيدة ووهن اليقين، وما علموا أن الخوفَ لا يدفعه إلا التسليم لله، وأن الأمن لا يُنال إلا بالاعتصام به، فمن مضى في سبيل الله غير هيّاب، ولم يخشَ في الله لومة لائم، أيده الله ونصره، ومكَّن له في الأرض، وجعل له العاقبة الحسنة، ووقاه من كيد أعدائه، إذ الحق لا يُخذل أهله، ولا يُضيِّع الله من توكل عليه. أما من ركن إلى غير الله، واعتمد في أمره على سواه، فذاك عبدٌ ألقى بنفسه في أيدي أعدائه، وأسلمه الله إلى من توكل عليه، فلا يزيده ذلك إلا ضعفًا، ولا يكون مآله إلا الهلاك.
162
| 05 مارس 2025
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) ها هو شهر رمضان، سيد الشهور وأكرمها، قد أقبل يحمل بين جنباته نفحات الطهر، وعطايا المغفرة، ودروس الإيمان. أتى ليكون ميدانًا لترويض النفوس، وتزكية القلوب، وليستقيم فيه السلوك على نور من صلاح الباطن، إذ لا وصول إلى الله إلا عبر طريق السائرين إليه، ولا بلوغ لمراقي القرب إلا بارتقاء منازل السالكين، وأول هذه المنازل – كما قرر الإمام ابن القيم – اليقظة. واليقظة هي انتفاض القلب من غفوته، واهتزاز الروح من سباتها، فإذا مستها نسائم الانتباه انبعثت نحو ربها، واستشعرت الفلاح، وإلا تردّت في دركات الغفلة، حيث تتكاثف الظلمات، ويعمى البصر والبصيرة. فإن أفاق القلب من سكرته، استحث الهمة، واشتد العزم، وأخذ في سفر الرجوع إلى دياره الأولى، تلك الديار التي خُلق الإنسان لها، ولكنه سُبي في متاع الدنيا وزخرفها، فهل يُرجى له فكاك؟ فحي على جنات عدن فإنها... منازلك الأولى وفيها المخيم ولكننا سبي العدو فهل ترى... نعود إلى أوطاننا ونسلم إن أدوأ الأمراض التي تعتري المرء هو أن يبيت غافلاً عن ربه، ساهيًا عن آخرته، مخدوعًا بظل زائل، ومنقطع فانٍ. وما الغفلة إلا داء مهلك، قال الله تعالى: ﴿وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا﴾، ولم يكن الله ليغفل العبد عن ذكره، ولكن العبد هو من أسلم قلبه للهوى، ورضي لنفسه أن يتردى في مهاوي النسيان. أما إذا هبت على القلب نسائم اليقظة، انبعثت منه الفكرة، فصار يتأمل في عاقبته، ويحدق في مصيره، فتُفتح له أبواب البصيرة، وإذا البصيرة نور يبدد عنه غياهب الضلال، فيرى الوعد والوعيد، ويبصر الجنة وما أُعد فيها للأبرار، ويرى النار وما ينتظر فيها من العصاة والفجار، كأنما يُكشف له عن الغيب وهو مشاهد، وكأنما الحُجب قد أُزيلت، فإذا بيوم القيامة ماثل أمام عينيه، وإذا بالقبور قد تفجرت، وأهلها قد بُعثوا حفاةً عراةً، مهطعين إلى داعي الحق، وإذا الملائكة قد نزلت وأحاطت بالموقف، والميزان قد نُصب، والصحف قد تطايرت، والخصوم قد تجمعت، والحوض قد بدا للناظرين، والناس بين ظمآن ومُرتوٍ، والجسر قد مُد على متن جهنم، والأهوال قد أطبقت، والمتساقطون فيه أضعاف الناجين.
891
| 04 مارس 2025
إذا انبثقت أنوار المواسم المباركة، وأقبلت نفحاتها العطرة، نادى منادي الرحمة من فوق سبع سماوات: «يا باغي الخير، أقبل!” فها هو شهر رمضان، شهر البركات والرحمات، قد أقبل ضيفًا كريمًا، يحمل بين أيامه نفحات المغفرة، ويُبسط فيه الكرم الإلهي لمن أراد القرب، فتُفتح أبواب الجنة، وتُغلق أبواب النيران، وتُصفّد الشياطين، فليس للشر سلطان إلا على من استسلم لهواه. يا باغي الخير، إن العمر أنفاس معدودة، وأيام محسوبة، فهل لك في ساعةٍ تُبدِّد بها غفلتك، وتستدرك بها ما فاتك؟ هذا رمضان، فرصتك التي إن ضيّعتها كنت من المغبونين، فهو موسم تتضاعف فيه الأجور، ويُكتب فيه كل ليلة جمع من العتقاء من النار، فبادر قبل أن يغلق الباب، وأخلص قبل أن ينقضي الحساب. إن رسول الله ﷺ قال: «من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفِر له ما تقدم من ذنبه”؟وقال: «من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفِر له ما تقدم من ذنبه”؟ فكيف يلهو لُبُّ المؤمن عن شهر تتنزل فيه الرحمات؟ وكيف تنام عين العاقل عن ليلة هي خير من ألف شهر؟ على أن في هذا الشهر ساعات، احذر أن يغلبك الشيطان عليها: - بعد الفجر إنها أول ساعات النهار، وقت تصريف الأرزاق ونزول البركات، وقد كان النبي ﷺ يجلس في مصلاه حتى تطلع الشمس، وحثّ أمته على استغلال هذا الوقت، فقال: «من صلى الفجر في جماعة، ثم قعد يذكر الله حتى تطلع الشمس، ثم صلى ركعتين، كانت له كأجر حجة وعمرة تامة، تامة، تامة”. فهل يليق بالصائم أن يضيعها تلك الساعة. - قبيل الغروب لحظات عظيمة تُستجاب فيها الدعوات، حين تمتد أكفّ الصائمين إلى السماء قبل الإفطار، والقلوب متعلقة بعطاء المنّان، فقد قال النبي ﷺ: «ثلاث دعوات مستجابات: دعوة الصائم، ودعوة المظلوم، ودعوة المسافر”. وإن كان أوّل اليوم مفتاحه الذكر، فآخره ختامه الدعاء، فكيف يشغل الصائم نفسه في هذه الساعة بغير طلب حاجته من ربّه، والتضرّع بين يديه! - وقت السحر أما السحر، فهو وقت المناجاة الصادقة، وقت الاستغفار الذي مدحه الله في قوله: ﴿وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾. فمن أراد أن يكون من أهل النفحات الربانية، فليقم لله آناء الليل ساجدًا وقائما، يستغفر ربه ويطلب منه ما شاء، فإنها ساعة لا يرد فيها السائل، ولا يخيب فيها الراجي. يا باغي الخير، إن رمضان سوقٌ فتحت أبوابه، وعُرضت فيه بضائع الآخرة، فمنهم من ربح، ومنهم من خسر. فما أجمل أن تُقبِل على الطاعات بفرح السالكين، وأن تتزوّد منها زادًا يدوم نفعه، فتكون من الذين قال الله فيهم: «أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون”. يا طالب الخير، هذا ميدانك، وهذه فرصتُك، فاجعل لك في كل ساعةٍ ذكرًا، وفي كل ليلةٍ سجدة، وفي كل يومٍ دعوة، فلعلك تخرج من هذا الشهر كيوم ولدتك أمك، طاهرًا نقيًّا، قد غُفِر لك ما سلف، وتكون من الفائزين برضوان الله وجنّته.
438
| 02 مارس 2025
التاريخ ذاكرة الزمن، تحفظه الأيام كما يحفظ البحر آثار السفن، أمواجه تهمس بقصص العابرين، لكنها لا تزيد على أن تكون انعكاسًا لما كان، دون أن تبسط للمتأمل سرًّا من أسرارها أو تكشف عن عبرة بين سطورها! والتاريخ بهذا المعنى ليس إلا سجلًّا يخطّ في صفحاته ما جرى، ويعدد الوقائع والحوادث كما وقعت، يخبرك بأسماء الملوك: تاريخ الميلاد والوفاة، والمعارك: تاريخ البداية والانتهاء! ثم يقف عند هذا الحد، لا يتجاوزه إلى البحث في علل الأحداث، ولا يسبر غور الحِكَم التي انطوت عليها! كمن يقف عند شاطئ البحر لا يرى فيه إلا سطحه، غافلًا عن أن الأعماق حبلى بالخفايا والعجائب! لا تراها العين العابرة، ولا يدركها إلا من وقف موقف الحكيم المتأمل، وهذه فلسفة التاريخ التي لا تقف عند حدود الرواية الجافة، بل تغوص في أعماق العلل، وتبحث في السنن الخفية، فلا تكتفي بأن تقول: «حدث هذا» ولكنها تتساءل: «لِمَ حدث؟ وكيف؟ وما الذي كان سيؤول إليه لو اختلفت الظروف؟ وهل يمكن أن يعود في صورة أخرى؟ ما كان هذا الفهم العميق بدعًا من الفكر، ولا طارئًا على العقول، بل هو قديم قدم البشرية لكنه بزغ منذ قرون في قوانين كتبها ابن خلدون رحمه الله 808هـ في مقدمته -المظلومة- والتي جعلت من التاريخ مرآة صافية، لا ينظر فيها الناظر إلا رأى في انعكاسها: مصارع الأمم ومآلاتها كأنها رأي العين، وفق نظام محكم كأنه ناموس الكيمياء في تفاعل عناصرها! فكما أن الهيدروجين متى ما اتحد بالأوكسجين لم يكن له إلا أن يصير ماءً، فكذلك الأمم متى ما اجتمعت أسباب قيامها وامتزجت بعوامل قوتها وفق مشروع جامع، لم يكن لها إلا أن تنهض. أما إذا تسللت الرفاهية إلى أوصالها، وامتدت ظلال الترف فوق أجيالها، وغاب عنها المشروع الذي تستظل به، كان ذلك نذير زوالها. إن هذه السنن الكونية هي بمثابة المدّ والجزر في بحر الوجود، لا يبدلها الأمل، ولا يردها التمني، بل تمضي كما يمضي القدر. ولو أن الناس قرأوا التاريخ بعين فلسفته، لعرفوا أن حوادثه ليست فوضى تتلاطم أمواجها كيف شاءت، بل هي نظام محكم، تسير فيه الأمم كما تسير الشمس في أفلاكها، ترتفع حتى تبلغ أوجها، ثم تميل إلى غروبها، وتتكرر السنن في أهلها كما تتكرر الفصول في العام. إنَّ التاريخ في جوهره مادة صامتة، لا تنبض بالحياة إلا حين يلامسها الفهم العميق الذي يصل بين أجزائها، تمامًا كما أن الحروف المبعثرة لا تحمل معنى، ولا تصبح كتابًا إلا إذا نظمها الفكر في سياق متكامل. ومن يقتصر على ظاهر الأحداث دون أن ينفذ إلى حكمتها المستترة، فكأنما يقرأ بلا فهم، ويسمع بلا وعي، وما أشبهه بمن يرى ظلَّ الشيء لا حقيقته!
405
| 23 فبراير 2025
كان جالسًا في المقهى، يرقب المارّة كما يرقب القاضي متّهميه، لا يجتازه عابر إلا وقد صاغ له في نفسه حُكمًا، كأنما هو ميزان الخلق، يزنهم بمكياله، ويقيسهم بمعياره. فهذا يسير مسرعًا، كأن القدر يطارده، وذاك يمشي الهوينى كأنه قد ألقى عصا الترحال واستراح من عناء الدنيا بأسرها! وذاك يجلس وحده، كأنه لا يعبأ بعابر أو جليس! وذلك يضحك بملء فيه كأنما قد مُلكت له الدنيا وما فيها! ضاقت عليه نفسه فهرب إلى سيارته، وقد تدافعت الأفكار في رأسه كما تتدافع الخيل إلى حلبة السباق، وما إن بدأ السير حتى صار يرصد الطرقات بعين الناقد المتبرم، فهذا سائق متباطئ يعوقه، وذاك متهور يزعجه، وثالث أوقف مركبته حيث شاء، كأنما الطريق ملكٌ له وحده! وبينما هو مُمسك بالمقود كأنما يحرك به مصيرًا لا يعبأ كثيرًا بتفاصيله، إذ فجأة اخترق المذياع الهادئ صمته بصوت القارئ: «إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى.» اهتزّ قلبه فجأة، وتوقف عقله للحظات، وكأن الصوت اخترق أغوار روحه حتى سحب كل شيء حوله إلا السكون! لقد ملأت هذه الآية أركانه، حتى لكأنها الضوء الذي مزّق ظلمات نفسه، وسمع صوتًا من داخله يصرخ مستنكرًا: «ويحك! أليس لكل متعجّل عذر، ولكل متمهّل سبب، ولكل صامت هم، ولكل ضاحك فرح؟! فكيف جعلتَ نفسك ميزانًا للخلق؟!» صمت طويلا وكأنه يبصر الدنيا من زاوية جديدة، فالناس ليسوا انعكاسًا لنفسه، والأحكام التي كان يلقيها عليهم لم تكن إلا ظلالًا لوهمٍ سجن نفسه فيه اسمه سراب الـ ( أنا) مضى في طريقه، وقد تبدّلت نظرته، فما عاد يلوم، ولا عاد يتعجّب، بل صار يرى الناس كما هم، لا كما يريدهم أن يكونوا. فاستراح من قيد الهم، بعدما تخلص من سراب الوهم. إن الحياة، أيها السادة، نهر دافق لا يعرف السكون، ينساب بين ضفتيه فلا يعود منه ما قد مضى، ولا يقف منه ما قد جرى. كل قطرة فيه لها مسراها المقدر، وإن بدت في عين الرائي سواء، والعاقل ليس ذاك الذي يقف على الضفاف يرقب الماء مندهشًا أو مستنكرًا، ولكن من يدرك أن القطرات وإن توحدت في ظاهر الحجم والصورة، فإن لها من الاختلاف في المصير ما لا تحصيه العقول. فإذا كان هذا شأن المتشابه، فكيف بالمتباين؟ تلك حكمة الحياة، تجري فلا يعترضها إلا من جهل حقيقتها، ويتعايش معها من وعى سرها! سراب الـ»أنا» ليس إلا سقفًا مغلقًا، يحجب عن الإنسان نور الحقيقة، ويجعله يتيه في ظلامٍ لا يرى فيه إلا نفسه. الـ ( أنا) درعٌ ظاهره حماية، وحقيقته قيدٌ يحبس الروح في دائرة ضيقة، لا ترى فيها إلا انعكاس ظله وفكره، ولا يسمع فيه إلا صدى صوته. أيها الطائر في السماء: إن الـ «أنا» قيد يثقل جناحيك، والطائر لا يعلو إلا إذا تحرر من كل ثقل!
372
| 16 فبراير 2025
إذا أقبلت ليلة النصف من شعبان، أقبل معها الخلاف، وتنازع الناس بين مثبِتٍ لفضلها ونافٍ، وبين مَن يخصها بعبادة ومَن يجعلها كغيرها من الليالي، من يرجو فيها الخير كله؟ ومن يعرض عنها كأنها لم تذكر في التاريخ؟ والحق بين الاثنين هكذا قرر كثير من المحققين، فابن تيمية رحمه الله يرى: «إن هذه الليلة قد ورد فيها من الأحاديث والآثار ما يدل على فضلها، ولكنه لم يصح فيها حديث يوجب تخصيصها بعبادة معلومة». فأنت تراه هنا يثبت لها الفضل العام، ولكنه لا يجيز ابتداع العبادات فيها بغير أصل صحيح. وإن في هذا لمنهجًا قويمًا، لا إفراط فيه ولا تفريط، فلا حرمان لخير، ولا اختلاق لفضل. والله يهدي من يشاء إلى سواء السبيل. وما ينبغي حقا النظر إليه بعين البصيرة ما جاء في الحديث (إنَّ اللَّهَ ليطَّلعُ في ليلةِ النِّصفِ من شعبانَ، فيغفرُ لجميعِ خلقِه إلَّا لمشرِك أو مشاحنٍ» صحيح ابن ماجه فحقٌّ على العبدِ أن يقفَ عنده وقفةَ المتأمِّلِ المتدبِّرِ، وقفةَ من يعرضُ قلبَهُ على ميزانِ الحقِّ، فينظرُ: أهو من أهلِ المغفرةِ أم من المحرومين؟ فإنها ليلةٌ يعمُّ فيها الصفحُ، ولكن ثمَّةَ نفوسٌ قد أقامتْ بينَها وبينَ الرحمةِ حاجزًا، فلا يصلُ إليها النورُ، ولا تنالُ من العفوِ نصيبًا. فأما المشرك، فقد عبد مع الله غيره، فبأي وجهٍ يلقى الله وهو قد جعل له ندًّا؟ وأما المشاحن، فقد تلطخت روحه بالعداوة، وأغلقت الضغينة بينه وبين الناس أبواب الصفح، فكيف ينال عفو الله من لم يعفُ عن عباده؟ يقول ابن تيمية في “مجموع الفتاوى”: “فإن المغفرة إنما تنال أهل التوحيد… وأما الشحناء، فهي تمنع المغفرة، والمغفرة لا تكون إلا لمن تطهرت روحه من الحقد والبغضاء”. إن الشرك يقطع العبد عن ربه، والشحناء تقطع القلب عن أنواره، وكلاهما يترك النفس في ظلمة لا ينفذ إليها النور. فليطهِّر العبد قلبه قبل أن يرفع كفّيه، وليغسل روحه من أدران الأحقاد قبل أن يسأل الله العفو، فإن باب الرحمة مفتوح، ولكن لا يدخله إلا قلبٌ سليم. يا ويح تلك القلوب التي نمت على البغضاء! أي نومٍ يهنأ لصاحبها، وأي دعاءٍ يرتفع له، وأي طاعة تُرفع منه؟ أما علم أن الله لا يقبل من عبدٍ عملًا وقلبه ملوثٌ بحسدٍ أو قطيعة؟ أما سمع قول النبي صلى الله عليه وسلم: “إياكم والحقد، فإنه الحالقة، لا أقول تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين”؟ ألا إن ليلة النصف من شعبان مرآة للقلوب، فمن وجد في قلبه ظلمة، فليعلم أن الحجاب بينه وبين المغفرة إنما هو من صنع يده، ومن وجد فيه نور الصفاء، فقد أبصر السبيل. فهلّا بادر المذنب قبل أن يُغلق الباب، وهلّا ألقى المشاحن ما في قلبه قبل أن يحين الحساب؟
810
| 09 فبراير 2025
مساحة إعلانية
        المسيرات اليوم تملأ السماء، تحلّق بأجنحةٍ معدنيةٍ تلمع...
2811
| 28 أكتوبر 2025
        كان المدرج في زمنٍ مضى يشبه قلبًا يخفق...
2472
| 30 أكتوبر 2025
        اطلعت على الكثير من التعليقات حول موضوع المقال...
1902
| 03 نوفمبر 2025
        نعم… طال ليلك ونهارك أيها الحاسد. وطالت أوقاتك...
1482
| 30 أكتوبر 2025
في زحمة الحياة اليومية، ونحن نركض خلف لقمة...
1107
| 29 أكتوبر 2025
        حينَ شقَّ الاستعمار جسدَ الأمة بخطوطٍ من حديد...
981
| 04 نوفمبر 2025
        أحيانًا أسمع أولياء أمور أطفال ذوي الإعاقة يتحدثون...
741
| 30 أكتوبر 2025
        ما من ريبٍ أن الحلم الصهيوني لم يكن...
741
| 02 نوفمبر 2025
        من الشيق استرجاع حدث سابق تم تحليل واقعه...
690
| 28 أكتوبر 2025
        ليست كل النهايات نهاية، فبعضها بداية في ثوب...
690
| 29 أكتوبر 2025
        في السنوات الأخيرة، أصبحت الأغاني تصدح في كل...
639
| 30 أكتوبر 2025
        الحمدُ للذي أنطقَ اللسان، وجعل للكلمةِ سُلطانا وللبيانِ...
582
| 02 نوفمبر 2025
مساحة إعلانية