رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

Al-sharq

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

الشرق

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

شعبان نسيم الرحمة بين يدي رمضان

شعبانُ طلائعُ النورِ الزاحف، وبشائرُ الخيرِ الوارف، ونفحةٌ سماويَّةٌ تهبُّ على القلوبِ بعد طولِ جدبٍ، فتُحيي فيها ما ذوى، وتبعثُ فيها ما خمد، كالغيثِ إذ يُلامسُ أرضًا ظامئةً، فتنتفضُ بالحياةِ بعد موات. هكذا يكونُ شعبانُ بين يدي رمضان، يهيّئ الأرواحَ لاستقبالِ النورِ الأعظم، ويشحذُ العزائمَ لترتقيَ في مدارجِ الطُّهر، ويمسحُ غبارَ الغفلةِ عن القلوبِ التي أعرضت عن السماءِ طويلًا، حتى إذا لاحَت لها تباشيرُ الرحمة، أقبلت على ربِّها إقبالَ التائبِ الذي أبصرَ بعد عمًى، ووجدَ بعد ضياع، وارتوى بعد ظمأٍ طويل. شهر شعبان موسمٌ جليلٌ، تمهيدٌ لما بعده، وتوطئةٌ للنفوس أن تستعد لقدوم شهر الصيام، إذ كيف يستوي من دخل رمضان وقد أقبل عليه بروحٍ مدربةٍ، وجسدٍ معوَّدٍ، ونفسٍ مشحونةٍ بالإيمان، ومن وافاه الشهر بغتةً، وهو في غمرة اللهو والغفلة؟ لقد كان صلى الله عليه وسلم يخصُّ هذا الشهر من العبادة بما لا يخصُّ به غيره، حتى إنه كان يكثر من الصيام فيه حتى يظن الظان أنه لا يفطر، وما ذاك إلا لأنه شهرٌ تُرفع فيه الأعمال إلى الله، وأيّ عبدٍ لا يحب أن يُرفع عمله وهو في أصفى حالاته، وأخلص أوقاته فعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ:»مَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ يَسْتَكْمِلُ صِيَامَ شَهْرٍ قَطُّ إِلَّا رَمَضَانَ، وَمَا رَأَيْتُهُ فِي شَهْرٍ أَكْثَرَ صِيَامًا مِنْهُ فِي شَعْبَانَ»متفق عليه وعنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رضي الله عنهما قَالَ: «قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَمْ أَرَكَ تَصُومُ مِنْ شَهْرٍ مِنْ الشُّهُورِ مَا تَصُومُ مِنْ شَعْبَانَ؟ قَالَ: ذَاكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهُ بَيْنَ رَجَبٍ وَرَمَضَانَ، وَهُوَ شَهْرٌ تُرْفَعُ فِيهِ الأَعْمَالُ إِلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ» هكذا كان ﷺ يصومه رجاء أن يرفع عمله وهو في حال من الطاعة، فما حالنا نحن؟ أيليق بنا أن تعرض صحائفنا وهي مثقلة باللهو والغفلة؟ أيطيب لنا أن ترفع ونحن في عجز وتقصير؟ أما آن أن نراجع أنفسنا قبل أن ترفع أوراقنا إلى من لا يخفى عليه شيء؟ شعبان مدرسة الإعداد، ودورة التهيئة، فمن دخلها نال الزاد، ومن تخرج منها كان مؤهلًا لنفحات رمضان، فالتوبة أول أبوابها، والصيام عمودها، والقرآن روحها، والقيام زادها، فمن رام رمضان، فليبدأ بشعبان، وليجعل منه بابًا إلى الطاعة، ومفتاحًا للخير، ومدرسة لتزكية النفس، ورياضة للروح، حتى يدخل رمضان بنفسٍ مشرقة، وهمّة عالية، وجوارح طاهرة، وقلب مقبل على مولاه. إن الأيام تمضي، وإن الصحائف تملأ، وإن الأعمار تفنى، فهنيئًا لمن اغتنم، وويل لمن غفل وندم، فهل لنا في شعبان من نصيب؟ وهل لنا فيه من زاد نتزود به إلى رمضان؟ هي فرصة لن تعود، فاغتنمها قبل أن يفوت الأوان!

363

| 02 فبراير 2025

مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى

لا تكاد تمر بأمة الإسلام آية من آيات الله، إلا وأقلام السوء تخرج من جحورها في محاولة بائسة لهدم اليقين في قلوب المسلمين! ظانين أن الشبهة إذا أُلبست رداء عقل قاصر نُصرت، وما درى هؤلاء أن العقل الذي لا يهتدي بنور الوحي ضال كالسائر في ظلمة ليلٍ دامس يتلمس السبيل! إذ كيف لعقلٍ يدَّعي العلم أن يقيس أمر الإسراء والمعراج بموازين الأرض وهو غافلٌ عن أن الذي أسرى بعبده ليلاً هو الذي خلق الزمان والمكان، وصرف الأسباب كما شاء. فقل للأولى قد أنكروه رويدكم أمامكم آيات ربي فانتظروا إذا أنكر المعراج بالأمس جاهل فليس يمارى اليوم فيه مفكر أيعرج صاروخ إلى قمر السما تسيره منا عقول تفكر وننكر أن يرقى إليها محمد بتقدير من للكائنات يسير أيقدر مخلوق ويعجز خالق تباركت يارب فإنك أقدر فلندع تلك القلوب الحائرة تلتمس في ظلمة شكها هلاكها، ولنقف أمام قول الله ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾. إن اختيار الله للمسجد الأقصى بدايةً للإسراء، كان إشارةً إلى مكانته في العقيدة، فهو القبلة الأولى التي صلّى إليها المسلمون، والأرض التي بارك الله حولها، ومهوى قلوب الأنبياء من قبله. ولولا أن لهذه الأرض شأنًا عظيمًا، لما كان المرور بها مقصدًا في تلك الرحلة المقدسة. ولو شاء الله لعرج بالنبي صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى السماوات العلا مباشرة، ولكن الحكمة أرادت أن يرتبط المسجد الحرام بالمسجد الأقصى، لتظلّ قلوب المؤمنين بهما متصلة، فلا يفرّطوا في قدسيتهما. أما وعد الله بعودة الأقصى إلى المسلمين، فليس مجرد وعدٍ بعيد، بل هو وعدٌ مُنتظرٌ له شروطه التي يدركها كل مؤمن صادق. عودة الأقصى للمسلمين هي عودةٌ للكرامة، هي عودةٌ للأمل بعد المحنة، هي عودةٌ لتحقيق وعد الله لعباده المخلصين. نحن نعيش اليوم مرحلة من مراحل التاريخ التي قد تكون مظلمة، ولكن التاريخ لا ينسى أصحاب الهمم الطاهرة. فكما كان في الماضي أحرارٌ حملوا راية الدين وحرروا الأماكن المقدسة، فإن القادم من الزمان يحمل في طياته تحريراً لا محالة، طالما أن العزم صادق والإيمان راسخ. وإذا كان الأقصى قد احتُل، فلا تحسب أن الأرض قد قُيدت، بل هي في يد الله، هو الذي يقرر الزمان والمكان. وغدا سيبزغ الفجر على الأرض المقدسة، فوعد الله واقعٌ لا محالة، قال صلى الله عليه وسلم (لا تزالُ طائفةٌ من أمَّتي على الدِّينِ ظاهرينَ، لعدوِّهم قاهرينَ، لا يضرُّهم مَن خالفَهُم؛ إلَّا ما أصابَهُم مِن لأواءَ حتَّى يأتيَهُم أمرُ اللَّهِ وَهُم كذلِكَ. قالوا: يا رسولَ اللَّهِ، وأينَ هُم؟ قالَ: ببيتِ المقدسِ وأَكْنافِ بيتِ المقدسِ).

1278

| 26 يناير 2025

ويومئذ يفرح المؤمنون

منذ أن خُلق الإنسان على هذه الأرض، وهو يسير في معركة أزلية بين الحق والباطل، معركة لا تهدأ نارها ولا يخمد أوارها، لكنها تتزين دائمًا بمشهد الخاتمة، تلك الخاتمة التي قال الله عنها: “ويومئذ يفرح المؤمنون”. إن فرح المؤمنين ليس فرحًا عابرًا كفرح أهل الدنيا حين يظفرون بما يحبون من متاعٍ زائل، بل هو فرح عميق، يسكن القلوب التي ذاقت مرارة الصبر، واحتملت وطأة البلاء، ثم رأت وعد الله يتحقق، وكلماته تُصدّق في أرض الواقع. قديما حين انتصر الروم على الفرس، كان الحدث بعيدًا عن المسلمين من حيث المكان، لكنه قريب في دلالته ومعناه. كان انتصارًا للحق على الباطل، ولو من خلف حجاب. وها هم المؤمنون، الذين كانوا يذوقون الويلات في مكة، يفرحون بذلك النصر، لأنه أمل جديد يضاف إلى آمالهم، ورجاء يُمد حياتهم بالأمل الكبير في يوم قريب يُدحر فيه الظلم. وكما فرح المؤمنون يوم بدر، يوم رأوا جند الله يتنزل على الميدان، ورأوا النصر بعين الإيمان قبل أن تراه العين المجردة. كذلك في كل زمان، يفرح المؤمنون حين يُنصر الحق، حين ترتفع رايات العدل، حين يزهق الله الباطل ولو كره الكافرون. يُعاد اليوم مشهد الفرح الإيماني في تلك البقعة الصغيرة، التي أحاطها الأعداء من كل صوب، ظانّين أن كيدهم سيُجهز على صمودها. لكنها غزة كعادتها، وقفت شامخة كطود عظيم، تكابد النيران وتُطفئها بثبات الرجال ودموع الأمهات وصبر الأطفال. اليوم قد أشرق الصباح على أرضٍ ارتوت بالدماء، وتضوعت أنسامها برائحة العزّة، وتجلّت فيها سُنّة الله التي لا تبديل لها غزة تلك القطعة الصغيرة من الأرض التي ضُربت فيها أروع الأمثلة لصبر الرجال واحتسابهم، حيث تلاطمت فيها أمواج الحق والباطل، وكانت للدماء الزكية صوت فيها أبلغ من أي سلاح. “ويومئذ يفرح المؤمنون» يوم تخرج غزة من بين الأنقاض منتصرة، وقد أذاقت عدوها مرارة الخيبة، وسجّلت للتاريخ أن الأمة التي تؤمن بالله وحده لا تُقهر، مهما اجتمع عليها الطغاة. إنه فرح المؤمن حين يرى الباطل يتهاوى، وحين يدرك أن وعد الله حق، وأن المستقبل للحق مهما اشتد ظلام الباطل. إن فرحة اليوم ليست فرحة انتهاء معركة، لكنها فرحة بداية جديدة. بداية لفجر يلوح في الأفق، يحمل معه وعد الله الصادق. بداية يدرك فيها الجميع أن النصر لا يأتي فجأة، ولا يتحقق بين عشية وضحاها، بل هو حصاد لسنين من الصبر والجهد، ثم هو موعد مع القدر لا يتخلف. فسلامٌ على غزة وهي تطفئ نار الحرب لتشعل شعلة الأمل. وسلامٌ على الصامدين الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه وسلامٌ على صمودها الذي سجله التاريخ بحروفٍ من دم وعلى صبرها الذي لم يضعف رغم كل الجراحات، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.

1602

| 19 يناير 2025

فلا تظلموا فيهن أنفسكم

الحمد لله الذي جعل الزمن مواسم، والدهر أياما يفيض فيها بكرمه على عباده، فجعل منهم شهورا عظّمها وشهرا مباركا، حتى يكون العبد فيها أقرب إلى ربه وأشد استقامة على أمره. ومن أعظم هذه المواسم، الأشهر الحرم التي قال فيها الله تعالى: “إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ”. والأشهر الحرم هي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب، كما في الصحيحين من حديث أبي بكرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، السنة اثنا عشر شهراً منها أربعة حرم، ثلاثة متواليات: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، ورجب، شهر مُضر، الذي بين جمادى وشعبان». وقوله: ورجب شهر مضر الذي بين جمادى وشعبان، لأن ربيعة كانوا يحرمون شهر رمضان ويسمونه رجباً، وكانت مضر تحرم رجباً نفسه، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الذي بين جمادى وشعبان» تأكيداً وبياناً لصحة ما سارت عليه مُضر. لقد اصطفى الله هذه الأشهر من بين سائر الشهور، فجعلها حُرُماً: حرّمت فيها الدماء، وعُظّمت فيها الحرمات، وأُمر العبد فيها بمزيد من التقى والعمل الصالح، فكانت بمثابة الراحة للنفس من عناء الخطايا، ومجالا رحبا لإصلاح ما أفسده الزمن والشيطان والنفس بالإنسان. عظم الله هذه الأشهر وحذر من ظلم الإنسان نفسه بها فقال: (فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ) أي في هذه الأشهر المحرمة، لأنها آكد، وأبلغ في الإثم من غيرها، كما أن المعاصي في البلد الحرام تضاعف، لقوله تعالى: (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ). ويقول القرطبي رحمه الله: (لا تظلموا فيهن أنفسكم بارتكاب الذنوب، لأن الله سبحانه إذا عظم شيئاً من جهة واحدة صارت له حرمة واحدة، وإذا عظمه من جهتين أو جهات صارت حرمته متعددة فيضاعف فيه العقاب بالعمل السيئ، كما يضاعف الثواب بالعمل الصالح، فإن من أطاع الله في الشهر الحرام في البلد الحرام ليس ثوابه ثواب من أطاعه في الشهر الحلال في البلد الحرام، ومن أطاعه في الشهر الحلال في البلد الحرام ليس ثوابه ثواب من أطاعه في شهر حلال في بلد حلال، وقد أشار الله إلى هذا بقوله: (يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً). بقي أن نذكر أن شهر رجب لم ترد فيه عبادة مخصوصة به، وما يفعله البعض من ذلك لا أصل له، ولكن هذا لا يعنى التهاون في العبادات، بل يعنى عدم اعتقاد أن هذه العبادة بعينها لها فضل ما في شهر رجب.

270

| 12 يناير 2025

وتلك الأیام نداولها بین الناس

آية تُلخّص الحياة بأسرها، وتُطمئن القلوب المرتجفة، وتُلين العقول المتصلبة، فليست كلمات عابرة، بل مرآة عاكسة لحقائق الوجود، وميزان يزن العاقل بها حركة التاريخ، لتنفض عنه غبار الغفلة، وتوقظ فيه أهلية المحاسبة. فما الحياة إلا حُلم ممتدّ، ما يكاد ينقضي منه مشهد حتى يعقبه آخر، والمرء في هذه الحياة رهين عمله، يقرأ في غده ما خطت أعماله في أمسه! بين عسرٍ ويُسرٍ، وليلٍ ونهار، تتداول الأيامُ أحوالَ الناس كما يتداول البحر موجه، فيُقبِل حيناً ويُدبِر حيناً، ومن يألف حياة البحار يدرك أن الأمواج التي ترفع اليوم قد تغمر صاحبها غدا، فدوام الحال مُحال، وتلك سنّة الله في كونه المنتظم والمحكم؛لا سرور دائم، ولا حزن مُقيم، وكل هذا بموازين عادلة وإن بدت للغافل ظالمة! وخير مثال على ذلك ما يصيب الظالم من سطوة السلطان تلك التي تحجب عنه البصيرة، فإذا ذاق نعيم المقام وأنس بالحال، ونسي عاقبة المآل؛ استطال بغيا على العباد وظن أن حصونه مانعته من الله؛ فإذا بأيامه تنقلب كأنها صفحةٌ طوتها الريح، فيصير ذليلا بعد عزة، شريدا بعد منعة، ضعيفا بعد قوة، تحاصره المظالم أنى توجه وتوقظه أنات الثكالى أنى تقلب، وينتظره مصير محتوم بميزان عادل. وتريك الأيام في ذات الوقت: سجين الأمس مكين اليوم، هذا الذي عاش مستكينًا تحت رحى الظلم والقهر؛ تبدل حاله، وأتاه -بقدر الله- زمن جديد يرفعه حتى يصير من أهل القوة والهيبة! وهكذا، تمضي عجلة الحياة، تُبدّل المواقع، وتخلط الأوراق، وكأنها تُعلّمنا ألا نغتر بالنعمة، ولا نيأس من النقمة، فكلٌّ يمضي بأمر الله وحكمته فلا تجزع من دوران الأيام، ولا تغتر بثبات الحال، واحذر الاستدراج، وارقب كيف تعمل يد الله في مصائر الطغاة، والتاريخ خير شاهد فرعون ادعى الألوهية واستطال على الرعية، وقال: ما علمت لكم من إله غيري، فماذا كان؟! (فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم) قارون اغتر بماله، وانتفش بكنوزه، وقال: أوتيته على علم عندي، فماذا كان؟ (فخسفنا به وبداره الأرض فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله) عاد وثمود: رموز التكبر والجحود والتجبر، ماذا أغنت عنهم من الله؟! حين قال الله عنهم (.. فأهلكوا بريح صرصر عاتية). وهذه الأمثلة ليست قاصرة على الزمن الذي نزلت فيه، بل ممتدة برسائلها إلى كل عصر إنّ للظلم جولةً، وللعدل دولة، وما من ظالمٍ يرفع يده على ضعيف، أو يطغى بجوره على بريء، إلا وقد كتب القدر خاتمته، وما تلك الأيام التي تبسط له الطريق وتُزيّنه إلا استدراج من الله له، ثم تنقلب الموازين لتكون تلك الأيام ذاتها هي التي تُسقطه على وجهه يومًا ما، فلا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون.

504

| 29 ديسمبر 2024

وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله

في سورة الحشر يحدثنا القرآن عن فصيل من البشر تجبر الطاغوت في نفوسهم واستعظم، وغرهم حلم الله عليهم، حتى ظنوا أن عروشهم لن تنكسر، حصونهم لن تنهدم ؛ فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا، وقذف في قلوبهم الرعب! ما كان أحد يتوقع انهيارهم بهذه السرعة، ولا هم أنفسهم! إذ غرهم سلطانهم حتى نسوا قوة الله وتغافلوا عن قدرته (فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ) أتاهم ابتداء من داخل أنفسهم! لا من داخل حصونهم! أتاهم من قلوبهم فقذف فيها الرعب، فسلموا البلاد تسليما، واستسلموا للقدر الذي لا يقاومه معاند مهما تجبر أو تكبر. ما أقرب المسافات التاريخية وما أغفل الناس عن حقائق واقعة، ومصائر متحققة لكل من سلك ذات الطريق متغابيا عن نهايته. الكون يحكمه الله لا غيره، والقدرة بيده هو سبحانه لا بيد عبد من عباده وإن انتفش أو ظن نفسه شيئا، لكنه الهوى والغفلة الذي يولد الظلم في النفس ويغريها عن مصيرها المحتوم. إن اللهُ تعالى حَرَّمَ الظلم على نفسه فقال في الحديث القدسي (يَا عِبَادِي، إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا؛ فَلَا تَظَالَمُوا) وأكد على هذا في طول القرآن وعرضه فقال: ﴿وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ﴾ [ق: 29]، وقال جل شأنه: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾ [يونس: 44]، وقال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا ﴾ [النساء: 40]، وقال سبحانه: ﴿وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ القِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ اليَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا * مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا ﴾ وهؤلاء لا يتورعون عن الظلم ولا يدركون عواقبه، إذ كيف لمؤمن يسمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من ضَرَبَ بسوط ظلمًا، اقتُصَّ منه يوم القيامة) ثم يعتدي على الغير! صدق القائل: أَمــــــــــــــــــــا وَاللَـــــــــــــــــــــــــــــــهُ إِنَّ الظُّلــــــــــــمَ شُـــــــــــــــؤمٌ وَلا زالَ المُســــــــــــــــيءُ هُـــــــــــــــــــــــــوَ الظَلــــــــــــــــــــــــــومُ إِلى الديّــــــــــــــــــــــانِ يَــــــــــــــــــومُ الدينِ نَمضي وَعِنــــــــــــــــــدَ اللَــــــــــــــــهِ تَجتَمِعُ الخُصــــــــــــــــــــــــومُ سَتَعلَمُ في الحِســــــــــابِ إِذا التَقَينـــــــــــــــــــــــــــا غَـــــــــــــــــــــــــــــــداً عِنــــــــــــــــدَ المَليكِ مَنِ الغَشـــــــــــــــــومُ سَتَنقَطِـــــــــــــــــعُ اللِـــــــــــــــــذاذَةُ عَــــــــن أُنــــــــــــــــــــاسٍ مِــــــــــــــــــــــن الدُنيـــــــــــــــــا وَتَنقَطِع الهُمــــــــــــــــــــــــومُ لِأَمـــــــــــــــــــــــــــــرٍ ما تَصَرَّفَـــــــــــــــــــــتِ اللَيـــــــــــــــــــــــالي لِأَمـــــــــــــــــــــرٍ مـــــــــــــــــا تَحَرَّكَـــــــــــــــــــــتِ النُجــــــــــــــــــــــومُ سَــــــــــــــــــــــــــلِ الأَيّـــــــــــــــــامَ عَن أُمَـــــــــــــمٍ تَقَضَّــــــــــــــــت سَتُخبِــــــــــــــــــــــــرُكَ المَعـــــــــــــــــــــــالِمُ وَالرُّســــــــــــــــــــــــومُ تَـــــــــــــــــــرومُ الخُــــــــــــــــــــلدَ في دارِ المَنايــــــــــــــــــــــا فَكَــــــــــــــــــــم قَــــــــــــــــــــد رامَ مِثلَكَ ما تَــــــــــــــــــــــــــــــــــرومُ تَنـــــــــــــــــــــــامُ وَلَم تَنَــــــــــــــــم عَنـــــــــــكَ المَنايـــــــــــــــــــــا تَنبَّــــــــــــــــــــــــــــه لِلمَنِّيَــــــــــــــــــــــــــــــةِ يا نُـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــؤومُ لَهَـــــــــــــــــــــــوتَ عَنِ الفَنــــــــــــــــــــــاءِ وَأَنتَ تَفنـــــــــــى فَمـــــــــــــــــــــــا شَيءٌ مِــــــــــــــنَ الدُنيــــــــــــــــا يَـــــــــــــــــــدومُ

1500

| 15 ديسمبر 2024

اللسان السائب

العرب تقول: صَارَ وَلَداً سَائِبا أي تَائِهاً، ضَالاًّ، وحديثنا اليوم عن سوائب الكلمات التي تخرج من فم من لا يدرك الخطر ولا يعرف الخلل، ولم يفهم عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: ( إن الرجل ليتكلم الكلمة من سخط الله لا يلقى لها بالا تقذفه في النار سبعين خريفا ) ولاقوله صلى الله عليه وسلم: ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو يصمت) وليست الآفة في اللسان وفقط، بل في المريدين والمتحمسين، فلكل لسان آذان تستمع له، وقلوب تتشوق إليه، وأسواق فيها تباع أعراض المسلمين بثمن بخس دراهم معدودة لا توصف إلا بالنخاسة الفكرية أو النجاسة السلوكية! العرب في جاهليتها كانت تعاقب من هذا حاله بشدِّ لسانه تأديبا، أو شرائه بالمعروف تهذيبا، تلمح هذا في هجاء الحُطيئة للزبرقان بن بدر، والتي أفضت إلى سجن عمر له ثم أخرجه بعد أن توسل إليه ونهاه عن ذلك فقال: إذاً تموت عيالي جوعاً! فاشترى عمر -رضي الله عنه- منه أعراض المسلمين بثلاثة آلاف درهم. ولنا أن نتساءل اليوم -بعد أن أصبحت أعراض المسلمين لا بل أعراض بعض الصادقين في الأمة والمدافعين عنها مقدساتها: مائدة يستدعي لها أنصاف الرجال وأشباه المسلمين- أين من يشتري أعراضَ العلماء والدعاة والمسلمين اليوم من أقوام قد تخلفوا في كهوف القَعَدَة، وصرفوا وجوههم عن آلام الأمة وعيوب الذات إلى تتبع عورات الناس ولسان حالهم: هذا مغتسلٌ باردٌ وشراب! أين من يشتري أعراض الناس بأربع لا تتخلف: النجاة من النار: قال صلى الله عليه وسلم (من رد عن عرض أخيه بالغيب رد الله عن وجهه النار يوم القيامة، والأمن من مكر الله فقد قال صلى الله عليه وسلم: « يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه، ألا لا تؤذوا المؤمنين ولا تعيبوهم ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من يتبع عورة أخيه المسلم يتبع الله عورته، ومن يتبع الله عورته فضحه في بيته « وثالثتهم النجاة من عذاب الله فقد قال الله: «إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ» والرابعة: ستر الله عز وجل فقد قال صلى الله عليه وسلم: « من ستر مسلما ستره الله في الدنيا و الآخرة»هذا إذا كان الكلام بحق فكيف بفاسد القول وباطله! إن اللسان السائب خطره كبير لذا كثيرا ما كان يحذر السلف منه: ابن وهب بقول: في حكمة آل داود مكتوباً: (حق على العاقل أن يكون عارفاً لزمانه، حافظاً للسانه، مقبلاً على شانه). والبصري الحسن يقول: ما عقل دينه من لم يحفظ لسانه. ومنح بن عبيدة يقول: ما من الناس أحد يكون منه لسانه على بال إلا رأيت صلاح ذلك في سائر عمله. وآخر يقول: أنا على رد ما لم أقل أقدر مني على رد ما قلت. وختاما: خَلِّ جَنْبَيْكَ لِرَامٍ وَامْضِ عَنْهُ بِسَلَامٍ مُتْ بِدَاءِ الصَّمْتِ خَيْرٌ لَكَ مِنْ دَاءِ الْكَلَامِ رُبَّمَا اسْتُفْتِحَ بِالْقَوْلِ مَغَالِيقُ الْحِمَامِ رُبَّ قَوْلٍ سَاقَ آجَالَ قِيَامٍ وَفِئَامِ إِنَّمَا السَّالِمُ مَنْ أَلْجَمَ فَاهُ بِلِجَامٍ

396

| 17 نوفمبر 2024

الهاتك المبير

خرج النبي صلى الله عليه وسلما يوما على أصحابه فقال لهم (فِي ثَقِيفٍ كَذَّابٌ وَمُبِيرٌ) والمبير هو الذي يسرف في إهلاك الناس.. وأشد الجرائم وأبشعها تلك التي تأتي ممن يفترض أنهم المأمن والعضد! وأخس الجرائم وأحقرها وأكثرها دناءة حين تكون من مسلم يطعن بلسانه أعراض المسلمات العفيفات الطاهرات! هؤلاء ملعونون في كتاب الله تعالى، كما قال الله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ). هنا -كما يقول صاحب الظلال- (يجسم التعبير جريمة هؤلاء وهو يصورها رمياً للمحصنات المؤمنات وهن غافلات غارّات، غير آخذات حذرهن من الرمية. وهن بريئات الطوايا مطمئنات لا يحذرن شيئاً، لأنهن لم يأتين شيئاً يحذرنه! فهي جريمة تتمثل فيها البشاعة كما تتمثل فيها الخسة. ومن ثم يعاجل مقترفيها باللعنة. لعنة الله لهم، وطردهم من رحمته في الدنيا والآخرة. ثم يرسم ذلك المشهد الأخاذ: {يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم}. فإذا بعضهم يتهم بعضاً بالحق، إذ كانوا يتهمون المحصنات الغافلات المؤمنات بالإفك! وهي مقابلة في المشهد مؤثرة). إن الاستطالة في أعراض المسلمات رأس مال سقط المتاع وسفلة القوم، متحدثا كان أم مستمعا غير منكر. الجميع أمام الله مسؤول عن نقل مثل هذا الإفك أو قوله أو تمريره، وقد قال صلى الله عليه وسلم (كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع). وصح أنه قال: (يا مَعْشَرَ مَن أسلم بلسانِه ولم يَدْخُلِ الإيمانُ قلبَه لا تُؤْذُوا المسلمينَ، ولا تُعَيِّرُوهم، ولا تَتَّبِعُوا عَوْراتِهِم، فإنه مَن تَتَبعَ عَوْرَةَ أَخِيه المسلمِ، يَتَتَبَّعِ اللهُ عَوْرَتَه ومَن يَتَتَبَّعِ اللهُ عَوْرَتَه يَفْضَحْهُ ولو في جوفِ بيتِه). وهذا وعيد من الله لمن تتبع عورة وأظهرها، سيفضحه الله في الدنيا قبل أن يعذبه في الآخرة. وعذابه من جنس عمله، يقول عليه الصلاة والسلام: (من قال في مؤمنٍ ما ليس فيه أسكنَه الله رَدْغَة الخَبال حتى يخرج مما قال). ورَدْغَة الخَبال: عصارة أهل النار. وما ذلك إلا لأن أعراض المسلمين مصونة، أعلن ذلك النبي صلى الله عليه وسلم في يوم المشهد المهيب يوم حج المسلمين الأكبر، حين قال: (كل المسلم على المسلم حرام، دمه، وماله، وعرضه)، وقال في خطبة الوداع: (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، ألا هل بلغت، اللهم فاشهد). وحين عُرج به صلى الله عليه وسلم مر على قوم لهم أظافر من نحاس يخمشون بها وجوههم وصدورهم فقال: (يا جبريل من هؤلاء؟ فقال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم).

645

| 03 نوفمبر 2024

«وكان حقا علينا نصر المؤمنين»

في سورة الروم يقول ربنا: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} فالله أوجب على نفسه إهلاك الظالمين ونصرة المؤمنين متى استحق كل فريق ذلك. تلك سنة الله الجارية: ﴿إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ﴾ وقال سبحانه: ﴿كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾. إن وعد الله واقع وكلمة الله قائمة ﴿وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ﴾. يقول صاحب الظلال: هذه هي الحقيقة في كل دعوة لله يخلص فيها الجند ويتجرد لها الدعاة أنها غالبة منصورة مهما وضعت في سبيلها العوائق وقامت في طريقها العراقيل، ومهما رصد لها الباطل من قوى الحديد والنار وقوى الدعاية والافتراء، وقوى الحرب والمقاومة، وإن هي إلا معارك تختلف نتائجها ثم تنتهي إلى الوعد الذي وعده الله لرسله والذي لا يخلف، ولو قامت قوی الأرض كلها في طريقه؛ الوعد بالنصر والغلبة والتمكين، هذا الوعد سنة من سنن الله الكونية، سنة ماضية كما تمضي هذه الكواكب والنجوم في دورتها المنتظمة، وكما يتعاقب الليل والنهار في الأرض على مدار الزمان، وكما تنبثق الحياة في الأرض الميتة ينزل عليها الماء، ولكنها مرهونة بتقدير الله يحققها حين يشاء. والمؤمن يتعامل مع وعد الله على أنه الحقيقة الواقعة فإذا كان الواقع الصغير في جيل محدود أو في رقعة محدودة يخالف تلك الحقيقة فهذا الواقع هو الباطل الزائل الذي يوجد فترة في الأرض لحكمة خاصة لعل منها استجاشة الإيمان وإهاجته لتحقيق وعد الله في وقته المرسوم، وحيث ينظر الإنسان اليوم إلى الحرب الهائلة التي شنها أعداء الإيمان على أهل الإيمان في صورها المتنوعة من بطش ومن ضغط ومن كيد بكل صنوف الكيد في عهود متطاولة بلغ في بعضها من عنف الحملة على المؤمنين أن قتلوا وشردوا وعذبوا وقطعت أرزاقهم وسلطت عليهم جميع أنواع النكاية، ثم بقي الإيمان في قلوب المؤمنين يحميهم من الانهيار ويحمي شعوبهم كلها من ضیاع شخصيتها وذوبانها في الأمم الهاجمة عليها ومن خضوعها للطغيان الغاشم إلا ريثما تنقض عليه وتحطمه، حين ينظر الإنسان إلى هذا الواقع في المدى المتطاول يجد مصداق قول الله تعالى، يجده في هذا الواقع دون الحاجة إلى الانتظار الطويل ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَٰئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ * كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾. إن إهلاك الله للظالمين سنة ثابتة لا تتغير، التغيير في التأقيت والوسائل، و‏من ذلك أن يُسلط الله على الظالم ظالما ‏يبتليهم الله ببعض ويكفي الناس شرهم أو بعضه، فسبحانه القادر على أن يبعث عليهم عذابا من فوقهم أو من تحت أرجلهم أو يلبسهم شيعا ويذيق بعضهم بأس بعض.

555

| 27 أكتوبر 2024

مِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ

واهم من يظن أن قضية الحق مرتبطة بشخص وإن بلغ بين الأتباع منزلة الرأس من البدن. أحمق من يتوهم أن القضايا الكبرى تموت بموت معتنقيها! وأن الحق يمكن أن يمحى بارتقاء بعض متبعيه! الحق يصنع أبطاله ويجمع رواده، ويقودهم نحو المعالي أحياء كانوا أو أمواتا، وقوده في مسيرته تلك: دماء تراق تمهيدا لنصر آت. وفي التاريخ عبرة وعظة لمن أراد أن يستشرف الغد المرتقب، من ذلك ما كان في غزوة مؤتة في السنة الثامنة من الهجرة، وقد بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ملك «بصرى الشام» رسولا منه فقتله، فكان لابد من الرد، فجهز النبي جيشا قوامه (ثلاثة آلاف مقاتل) وجهز الروم وأعوانهم من الخارج والداخل جيشا قوامه مائتي ألف مقاتل! اصطف المسلمون في مؤتة في أشرس موقعة في تاريخ الإسلام حيث أمواج بشرية من الرومان ونصارى العرب تنساب إلى أرض مؤتة، ورجال كالجبال من المسلمين يقفون ثابتين في وجه أقوى قوة في العالم آنذاك. أمّر النبي صلى الله عليه وسلم على الجيش زيد بن حارثة، وأخبر إن قتل أن يكون جعفر مكانه، فإن قتل أن يكون عبد الله بن رواحة، ثلاثة قادة لجيش عظيم الهمة قليل العدد أمام جحافل الباطل كلهم. حمل الراية زيد بن حارثة رضي الله عنه فكان أول شهيد في المعركة، لأن القادة في الإسلام لا يختبئون خلف أبواقهم بل هم في الميدان يقاتلون دفاعا عن قضيتهم. قتل زيد مقبلا غير مدبر فهل انهار الجيش بموته؟! تقدم جعفر بن أبي طالب فحمل الراية، وقاتل قتالاً لم يُرَ مثله، وأكثر رضي الله عنه الطعن في الرومان حتى تكالبوا عليه. كان ساعتها يحمل الراية بيمينه فقطعوا يمينه، فحملها بشماله فقطعوا شماله، فحملها رضي الله عنه بعضضيه قبل أن يسقط شهيدًا، فهل انهار جيش الإسلام وضاعت قضيته بموته؟! تقدم عبد الله بن رواحة الخزرجي الأنصاري رضي الله عنه، فحمل الراية، وقاتل قتالاً عظيمًا مجيدًا حتى قُتل في صدره رضي الله عنه، وكان من شعره يومئذٍ: يَا نَفْسُ إِنْ لَمْ تُقْتَلِي تَمُوتِـي *** هَذَا حِمَامُ الْمَوْتِ قَدْ صُلِيتِ وَمَا تَمَنَّيْتِ فَقَـدْ أُعْطِيـتِ *** إِنْ تَفْعَلِـي فِعْلَهُمَا هُدِيـتِ سقط القادة الثلاثة الذين عينهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فهل انتهت القضية؟! وهل سينزوي الحق بانزواء القادة؟! انبرى لحمل الراية مسلم جديد لعله أحدث الجيش إسلاما فقد أسلم قبل ثلاثة أشهر فقط! قاتل خالد بن الوليد كما لم يقاتل من قبلُ، حتى قال - كما في صحيح البخاري-: «لقد انقطعت في يدي يوم مؤتة تسعة أسياف، فما بقي في يدي إلا صفيحة يمانية». وضع خالد خطة عبقرية تدرس إلى يوم الناس هذا وانتصر المسلمون بخروجهم سالمين وعادوا إليها بعد سنوات بقيادة خالد نفسه ليفتحها وتم له ذلك. الحق منتصر وموت كل القادة لا يغير من تلك الحقيقة، فهنيئاً لمن قضى نحبه وهنيئاً لمن ينتظر.

1728

| 20 أكتوبر 2024

وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله

التحصُّن بالقوة من دون الله ضعف، والتحصن بالمال من دون الله فقر، والتحصن بالعِزْوة من دون الله عُزلة، والذين يفضِّلون الضلالَ على الحلال، والكفر على الإيمان، والخير على الشر، والعمى على الهدى - يحيطهم غضبُ الله وانتقامه ﴿وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾. لا تنفع قوة من دون الله، ولا تبقى حياة ناعمة أو طاعمة مطمئنَّة بغير الله، لكن القوة أحيانا ما تعمى صاحبها فيظن أنه على كل شيء قدير، ونسي أخذ العبرة من التاريخ أجداده من اليهود. في سورة الحشر، وقعت حادثة بني النضير وهو -حي من أحياء اليهود ـ في السنة الرابعة من الهجرة. وفيها أن النبي صلى الله عليه وسلم ذهب مع عشرة من كبار أصحابه منهم أبو بكر وعمر وعلي - رضي الله عنهم - إلى محلة بني النضير، يطلب منهم المشاركة في أداء دية قتيلين بحكم ما كان بينه وبينهم من عهد في أول مقدمه على المدينة. فاستقبله اليهود بالبشر والترحاب ووعدوا بأداء ما عليهم، بينما كانوا يدبرون أمراً لاغتياله ومن معه. قال بعضهم لبعض: إنكم لن تجدوا الرجل على مثل حاله هذه. فمن رجل منكم يعلو هذا البيت، فيلقي عليه صخرة، فيريحنا منه؟. فانتدب لذلك عمرو بن جَحاش بن كعب. فقال: أنا لذلك. فصعد ليلقي عليه صخرة كما قال. فأُخبر رسول الله بغدرهم، فقام كأنما ليقضي أمراً. فلما غاب استبطأه من معه، فخرجوا من المحلة يسألون عنه، فعلموا أنه دخل المدينة. وأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالتهيؤ لحرب بني النضير لظهور الخيانة منهم، ونقض عهد الأمان الذي بينه وبينهم، وفق قاعدة محكمة سجلها القرآن فقال: (وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين}. تواصل بنو النضير مع مناصريهم من اليهود والمنافقين فأجابوهم: أن اثبتوا وتمنعوا فإنا لن نسلمكم. وإن قوتلتم قاتلنا معكم، وإن أخرجتم خرجنا معكم. بلغ الحصار ستاً وعشرين ليلة، وقد يئس بعض المسلمين في خروج بني النضير لقوّتهم ومنعتهم قال الله: (ما ظننتم أن يخرجوا). وبنو النضير غرتهم قوتهم الداخلية وتحالفاتهم الخارجية (وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله). غرتهم هذه المنعة حتى نسوا قوة الله التي لا تردها الحصون! فكان الجواب لهم ولكل متكبر ومتغطرس (فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب). قد كانوا يحسبون حساب كل شيء إلا أن يأتيهم الهجوم من داخل كيانهم، لا من خارج حصونهم، من قلوبهم لا من قصورهم، لم يحتسبوا هذه الجهة التي أتاهم الله منها. وهكذا حين يشاء الله أمرا يأتي به من حيث لا يحتسب أهل البغي، فاللهم يوما كهذا اليوم.

1689

| 13 أكتوبر 2024

ومنافقون لا يحصون أظهروا الإسلام وأبطنوا الكفر! ثم ماذا؟

اللهُ مَولانَا وَلا مَولى لَكُم، من كان الله مولاه وناصره؛ فحسبه ذلك فيه الكفاية والغناء؛ وكل ما قد يصيبه إنما هو ابتلاء وراءه الخير، لا تخليا من الله عن ولايته له، ولا تخلفا لوعد الله بنصر من يتولاهم من عباده (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ). في يوم (أحد) أشرف أبو سفيان على المسلمين فقال: أفي القوم أحد محمد؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تُجِيبُوهُ)، فقال: أفي القوم ابن أبي قحافة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تُجِيبُوهُ)، فقال: أفي القوم عمر؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تُجِيبُوهُ). فالتفت أبو سفيان إلى أصحابه فقال: أَمَّا هَؤُلاءِ فَقَد قُتِلُوا، لَو كَانُوا أَحيَاءً لأَجَابُوا. فلم يملك عمر نفسه فقال: كذبت يا عدو الله قد أبقى الله لك ما يخزيك. فقال أبو سفيان: اعل هبل! اعل هبل. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أَجِيبُوهُ)، فَقَالُوا: مَا نَقُولُ؟ قَالَ: «قُولُوا: اللهُ أَعلَى وَأَجَلُّ»، فَقَالَ أَبُو سُفيَانَ: أَلا لَنَا العُزَّى وَلا عُزَّى لَكُم. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: «أَجِيبُوهُ « قَالُوا: مَا نَقُولُ؟ قَالَ: «قُولُوا: اللهُ مَولانَا وَلا مَولى لَكُم». إن علو أهل البغي اليوم لا يعد انتصارا لهم ولا خذلانا للحق، بل هو لون من ألوان الابتلاء من الله لعباده تمحيصاً لهم: ﴿ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ﴾ ثم العاقبة لهم بعد التمحيص ﴿مَا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ المُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ﴾. فالابتلاء مقصود قبل أي نصر مرتقب، ومن خطب الحسناء لم يغلها المهر: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ البَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ﴾. في تاريخ الإسلام الممتد كفار حاربوه كأبي جهل، وأبي لهب، وزنادقة خلعوا عباءة الإسلام على عقائد باطلة كالحلاج، وابن الراوندي، وابن الفارض، ‏ومنافقين- لا يحصون- أظهروا الإسلام وأبطنوا الكفار! ‏ثم ماذا؟ ‏هلكوا جميعا وبقي الإسلام شامخا. فليفعل الصهاينة اليوم ما شاءوا فعله من سفك وقتل وتشريد، فالعاقبة لنا والله مولانا ولا مولى لهم. الله أقوى من هدير سلاحهم أنعم برب العالمين وكيلا وسيعلم الباغي مغبة مكره ولسوف يعلم من أضل سبيلا فليحرقوا كل النخيل بساحنا سنطلّ من فوق النخيل نخيلا فليهدموا كل المآذن فوقنا نحن المآذن فاسمع التهليلا إن يبتروا الأطراف تسعى قبلنا قدماً لجنات النعيم وصولا نحن الذين إذا ولدنا بكرة كنّا على ظهر الخيول أصيلا نحن الشهادة والشهيد وشاهد ولأسدنا قد فصلت تفصيلا فالعيش تحت الاحتلال جهنم زقومها غسلينها المرذولا يا من صبرتم للحصار طويلاً في عزة تعلو المجرة طولا تحت القذائف والحريق جهنم لم تقطعوا التكبير والتهليلا لقنتم الدنيا الدروس صريحة لا تقبل التزييف والتدجيلا إن الأعز محمد وجنوده والله أكبر ناصراً ووكيلا ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا.

735

| 06 أكتوبر 2024

alsharq
حدود العنكبوت

حينَ شقَّ الاستعمار جسدَ الأمة بخطوطٍ من حديد...

3609

| 04 نوفمبر 2025

alsharq
انخفاض معدلات المواليد في قطر.. وبعض الحلول 2-2

اطلعت على الكثير من التعليقات حول موضوع المقال...

2172

| 03 نوفمبر 2025

alsharq
العالم في قطر

8 آلاف مشارك بينهم رؤساء دولوحكومات وقادة منظمات...

2079

| 04 نوفمبر 2025

alsharq
حين يصبح النجاح ديكوراً لملتقيات فوضوية

من الطرائف العجيبة أن تجد اسمك يتصدر أجندة...

1287

| 04 نوفمبر 2025

alsharq
الكفالات البنكية... حماية ضرورية أم عبء؟

تُعدّ الكفالات البنكية بمختلف أنواعها مثل ضمان العطاء...

936

| 04 نوفمبر 2025

alsharq
نظرة على عقد إعادة الشراء

أصدر مصرف قطر المركزي في التاسع والعشرين من...

927

| 05 نوفمبر 2025

alsharq
خطاب سمو الأمير خريطة طريق للنهوض بالتنمية العالمية

مضامين ومواقف تشخص مكامن الخلل.. شكّل خطاب حضرة...

891

| 05 نوفمبر 2025

alsharq
نحو تفويض واضح للقوة الدولية في غزة

تسعى قطر جاهدة لتثبيت وقف اطلاق النار في...

876

| 03 نوفمبر 2025

alsharq
مِن أدوات الصهيونية في هدم الأسرة

ما من ريبٍ أن الحلم الصهيوني لم يكن...

849

| 02 نوفمبر 2025

alsharq
عمدة نيويورك

ليس مطلوباً منا نحن المسلمين المبالغة في مسألة...

735

| 06 نوفمبر 2025

alsharq
الانتخابات العراقية ومعركة الشرعية القادمة

تتهيأ الساحة العراقية لانتخابات تشريعية جديدة يوم 11/11/2025،...

696

| 04 نوفمبر 2025

alsharq
التعلم بالقيم قبل الكتب: التجربة اليابانية نموذجًا

لفت انتباهي مؤخرًا فيديو عن طريقة التعليم في...

678

| 05 نوفمبر 2025

أخبار محلية