رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
(وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ * وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا). هو لقمان بن عنقاء بن سدون، الحكيم الذي أوتي الحكمة فكان كأنه نور يمشي بين الناس، يلقي على ولده دروس النجاة كما تسكب الشمس ضياءها على الأرض، فافتتح الله حديثه عنه بهذه الآية العظيمة: «وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ». والوهن، كما قال المفسرون، هو المشقة والجهد والضعف، وهي معانٍ تتكاثف في قلب الأم كما تتكاثف السحب في جوف السماء، تتحمل لأجل وليدها عناءً لا يطيقه إلا قلب أمٍّ جبلت على الفداء، وكلما ازداد الجنين نموًا، ازداد الضعف بها حتى كأنها تسير على جسر من الآلام. ثم يجيء النداء الرباني الرحيم: «وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا»، فتلك هي الحكمة العليا، أن يكون الولد للوالدين برًّا، ولكنه في دينه ثابت كالجبل، لا تزلزله ريح ولا تهزه عواصف، فإن هما ألحّا عليه ليشرك بالله، لم يكن له أن يطيعهما في ذلك، لكنه مع ذلك لا يقسو ولا يجفو، بل يمضي في صحبتهما بالمعروف، متحليًا بالصبر، متوشحًا بالإحسان. وكيف لا يكون برُّ الوالدين عظيمًا، وقد قرن الله شكره بشكرهما في قوله: «أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ»؟ فالشكر الذي يُرفع إلى السماء، لا يكتمل حتى يعبر على أرض الوالدين، فمن جحد فضلهما، فكأنما جحد نعمة الله نفسها. ولذا قال ابن عباس، فقيه الأمة وترجمان القرآن: «ثلاث آيات مقرونة بثلاث، لا تُقبل إحداها إلا بأختها: «وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول»، فمن أطاع الله ولم يطع رسوله لم يُقبل منه، و»وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة»، فمن صلى ولم يزكِّ لم يُقبل منه، و»أن اشكر لي ولوالديك»، فمن شكر الله ولم يشكر والديه لم يُقبل منه». وهذا المعنى الجليل تجسّد في حديث المصطفى ﷺ: «رضا الله في رضا الوالدين، وسخط الله في سخط الوالدين»، فكأنما الوالد باب إلى الجنة، من أحسن الدخول إليه سعد، ومن أعرض عنه خسر. وكان سعد بن أبي وقاص، رضي الله عنه، هو صاحب القصة التي نزلت فيها هذه الآية، وكان بارًّا بأمه برًّا لا يُوصف، فلما أسلم ضاقت بذلك صدرًا وقالت: «يا سعد، ما هذا الذي أراك قد أحدثت؟ لتدعنَّ دينك هذا أو لا آكل ولا أشرب حتى أموت، فتُعَيَّر بي، فيُقال: يا قاتل أمه!». ولكن سعدًا كان قد استمسك بعروة اليقين، فقال لها في أدب الابن البار، وثبات المؤمن الصادق: «يا أمه، لا تفعلي، فإني لا أدع ديني هذا لشيء». ومضت أمه يومًا وليلة لا تأكل، حتى أشرفت على الهلاك، ولكنه لم يلن ولم يضعف، بل قال لها في قوة الإيمان: «يا أمه، والله لو كانت لك مائة نفس فخرجت نفسًا نفسًا، ما تركت ديني هذا لشيء، فإن شئتِ فكلي، وإن شئتِ فلا تأكلي». فلما رأت صدقه أذعنت، وأكلت. فهكذا ترتفع معاني البر إلى ذروتها، حيث يكون القلب ممتلئًا حبًّا ورحمة، ولكنه في الحق لا يعرف التردد، يوقّر الوالدين في غير معصية، ويحسن إليهما وإن أضمرَا له العداء، فيكون في وداعته كالغدير، وفي عزمه كالطود الشامخ، فلا تُزحزحه العواصف، ولا تغريه العواطف عن طريق الحق والهداية.
885
| 06 مارس 2025
«وَقَالُوا إِن نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آَمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ» الإيمانُ ليس كلمةً تهيمُ في أجواء الخيال، ولا هتافًا تذروه الرياح، ولا شعارًا يُرفع دون تكاليف وأمانة، بل هو حقيقة تملأ القلب، وتُحكِم سلطانها على الجوارح، وتنهض بصاحبها إلى ميادين العطاء والتضحية، فيسير بها مستسلمًا لربه، منقادًا لطاعته، مستيقظًا لها في ليله ونهاره، باذلًا لها نفسه وماله، لا يريد بها إلا وجه الله، ولا يسعى بها إلا إلى رضوانه. غير أن فِئَامًا من الناس ضعُفت نفوسهم، وقلَّ يقينهم، فلم يقووا على حمل تبعات الإيمان، ولم يطيقوا ما يقتضيه من بذل وجهاد، فاختلقوا لأنفسهم المعاذير، يجمِّلون بها حالهم، ويبرِّرون بها تقاعسهم، فما هم في حقيقتهم إلا كمن رأى النور بعينيه، ثم اختار العمى، وعرف الحق بقلبه، ثم آثر الباطل. وهذه الحجة الباطلة قديمة، قد تشبث بها فريق من مشركي قريش حين غلبهم الحياء أن يجاهروا بالتكذيب، ولكنهم لم يستطيعوا أن يَسلموا للحق، ولا أن يفارقوا ما ألفوه من ضلال آبائهم، فجاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم يعترفون بصدق دعوته، ثم يلقون بين يديه العذر في عدم اتباعه، كما رُوي عن ابن عباس أن الحارث بن عثمان بن نوفل وناسًا من قريش جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال الحارث: «إنا لنعلم أن قولك حق، ولكنا نخاف إن اتبعنا الهدى معك أن يتخطفنا العرب من أرضنا، ولا طاقة لنا بهم، وإنما نحن أكلة رأس»—يعني أنهم قلة لا تقوى على مواجهة أعدائها. فما أشبه حال هؤلاء بمن يكابرون اليوم عن نصرة الحق، فلا يجرأون على إنكاره، ولا يملكون دافعًا للانتصار له، فيُلقون بالأعذار الواهية، ويستترون خلف مخاوف مصطنعة، ولو أنهم تأملوا قليلاً لرأوا أن قريشًا، وهي يومئذ قلة في العدد والعدة، قد أكرمها الله بحرم آمن، لا تمتد إليه أيدي المعتدين، ولا تُطاول مقامه سيوف الغزاة، وكان يجبي إليه ثمرات الأرض كلها، فيعيش أهله في رخاء وأمان، فكيف يخافون على أنفسهم من العرب، وربهم الذي آمنهم من قبل قادر على أن يؤمنهم بعدُ إن استجابوا لدعوته واتبعوا رسوله؟! والتخطف: مبالغة في الخطف، وهو انتزاع الشيء بسرعة، والمراد: يأسرنا الأعداء معهم إلى ديارهم، فرد الله عليهم بأن قريشاً مع قلتهم عدّاً وعدة أتاح الله لهم بلداً هو حرم آمن يكونون فيه آمنين من العدو على كثرة قبائل العرب واشتغالهم بالغارة على جيرتهم، وجبى إليهم ثمرات كثيرة قروناً طويلة، فلو اعتبروا لعلموا أن لهم منعة ربانية وأن الذي أمنهم في القرون الخالية يؤمنهم إن استجابوا لله ورسوله. إن أقسى الناس غفلةً من يرتدُّ عن أداء حقوق الله بمثل هذه الدعاوى الفارغة، التي لا تدل إلا على ضعف العقيدة ووهن اليقين، وما علموا أن الخوفَ لا يدفعه إلا التسليم لله، وأن الأمن لا يُنال إلا بالاعتصام به، فمن مضى في سبيل الله غير هيّاب، ولم يخشَ في الله لومة لائم، أيده الله ونصره، ومكَّن له في الأرض، وجعل له العاقبة الحسنة، ووقاه من كيد أعدائه، إذ الحق لا يُخذل أهله، ولا يُضيِّع الله من توكل عليه. أما من ركن إلى غير الله، واعتمد في أمره على سواه، فذاك عبدٌ ألقى بنفسه في أيدي أعدائه، وأسلمه الله إلى من توكل عليه، فلا يزيده ذلك إلا ضعفًا، ولا يكون مآله إلا الهلاك.
204
| 05 مارس 2025
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) ها هو شهر رمضان، سيد الشهور وأكرمها، قد أقبل يحمل بين جنباته نفحات الطهر، وعطايا المغفرة، ودروس الإيمان. أتى ليكون ميدانًا لترويض النفوس، وتزكية القلوب، وليستقيم فيه السلوك على نور من صلاح الباطن، إذ لا وصول إلى الله إلا عبر طريق السائرين إليه، ولا بلوغ لمراقي القرب إلا بارتقاء منازل السالكين، وأول هذه المنازل – كما قرر الإمام ابن القيم – اليقظة. واليقظة هي انتفاض القلب من غفوته، واهتزاز الروح من سباتها، فإذا مستها نسائم الانتباه انبعثت نحو ربها، واستشعرت الفلاح، وإلا تردّت في دركات الغفلة، حيث تتكاثف الظلمات، ويعمى البصر والبصيرة. فإن أفاق القلب من سكرته، استحث الهمة، واشتد العزم، وأخذ في سفر الرجوع إلى دياره الأولى، تلك الديار التي خُلق الإنسان لها، ولكنه سُبي في متاع الدنيا وزخرفها، فهل يُرجى له فكاك؟ فحي على جنات عدن فإنها... منازلك الأولى وفيها المخيم ولكننا سبي العدو فهل ترى... نعود إلى أوطاننا ونسلم إن أدوأ الأمراض التي تعتري المرء هو أن يبيت غافلاً عن ربه، ساهيًا عن آخرته، مخدوعًا بظل زائل، ومنقطع فانٍ. وما الغفلة إلا داء مهلك، قال الله تعالى: ﴿وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا﴾، ولم يكن الله ليغفل العبد عن ذكره، ولكن العبد هو من أسلم قلبه للهوى، ورضي لنفسه أن يتردى في مهاوي النسيان. أما إذا هبت على القلب نسائم اليقظة، انبعثت منه الفكرة، فصار يتأمل في عاقبته، ويحدق في مصيره، فتُفتح له أبواب البصيرة، وإذا البصيرة نور يبدد عنه غياهب الضلال، فيرى الوعد والوعيد، ويبصر الجنة وما أُعد فيها للأبرار، ويرى النار وما ينتظر فيها من العصاة والفجار، كأنما يُكشف له عن الغيب وهو مشاهد، وكأنما الحُجب قد أُزيلت، فإذا بيوم القيامة ماثل أمام عينيه، وإذا بالقبور قد تفجرت، وأهلها قد بُعثوا حفاةً عراةً، مهطعين إلى داعي الحق، وإذا الملائكة قد نزلت وأحاطت بالموقف، والميزان قد نُصب، والصحف قد تطايرت، والخصوم قد تجمعت، والحوض قد بدا للناظرين، والناس بين ظمآن ومُرتوٍ، والجسر قد مُد على متن جهنم، والأهوال قد أطبقت، والمتساقطون فيه أضعاف الناجين.
939
| 04 مارس 2025
إذا انبثقت أنوار المواسم المباركة، وأقبلت نفحاتها العطرة، نادى منادي الرحمة من فوق سبع سماوات: «يا باغي الخير، أقبل!” فها هو شهر رمضان، شهر البركات والرحمات، قد أقبل ضيفًا كريمًا، يحمل بين أيامه نفحات المغفرة، ويُبسط فيه الكرم الإلهي لمن أراد القرب، فتُفتح أبواب الجنة، وتُغلق أبواب النيران، وتُصفّد الشياطين، فليس للشر سلطان إلا على من استسلم لهواه. يا باغي الخير، إن العمر أنفاس معدودة، وأيام محسوبة، فهل لك في ساعةٍ تُبدِّد بها غفلتك، وتستدرك بها ما فاتك؟ هذا رمضان، فرصتك التي إن ضيّعتها كنت من المغبونين، فهو موسم تتضاعف فيه الأجور، ويُكتب فيه كل ليلة جمع من العتقاء من النار، فبادر قبل أن يغلق الباب، وأخلص قبل أن ينقضي الحساب. إن رسول الله ﷺ قال: «من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفِر له ما تقدم من ذنبه”؟وقال: «من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفِر له ما تقدم من ذنبه”؟ فكيف يلهو لُبُّ المؤمن عن شهر تتنزل فيه الرحمات؟ وكيف تنام عين العاقل عن ليلة هي خير من ألف شهر؟ على أن في هذا الشهر ساعات، احذر أن يغلبك الشيطان عليها: - بعد الفجر إنها أول ساعات النهار، وقت تصريف الأرزاق ونزول البركات، وقد كان النبي ﷺ يجلس في مصلاه حتى تطلع الشمس، وحثّ أمته على استغلال هذا الوقت، فقال: «من صلى الفجر في جماعة، ثم قعد يذكر الله حتى تطلع الشمس، ثم صلى ركعتين، كانت له كأجر حجة وعمرة تامة، تامة، تامة”. فهل يليق بالصائم أن يضيعها تلك الساعة. - قبيل الغروب لحظات عظيمة تُستجاب فيها الدعوات، حين تمتد أكفّ الصائمين إلى السماء قبل الإفطار، والقلوب متعلقة بعطاء المنّان، فقد قال النبي ﷺ: «ثلاث دعوات مستجابات: دعوة الصائم، ودعوة المظلوم، ودعوة المسافر”. وإن كان أوّل اليوم مفتاحه الذكر، فآخره ختامه الدعاء، فكيف يشغل الصائم نفسه في هذه الساعة بغير طلب حاجته من ربّه، والتضرّع بين يديه! - وقت السحر أما السحر، فهو وقت المناجاة الصادقة، وقت الاستغفار الذي مدحه الله في قوله: ﴿وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾. فمن أراد أن يكون من أهل النفحات الربانية، فليقم لله آناء الليل ساجدًا وقائما، يستغفر ربه ويطلب منه ما شاء، فإنها ساعة لا يرد فيها السائل، ولا يخيب فيها الراجي. يا باغي الخير، إن رمضان سوقٌ فتحت أبوابه، وعُرضت فيه بضائع الآخرة، فمنهم من ربح، ومنهم من خسر. فما أجمل أن تُقبِل على الطاعات بفرح السالكين، وأن تتزوّد منها زادًا يدوم نفعه، فتكون من الذين قال الله فيهم: «أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون”. يا طالب الخير، هذا ميدانك، وهذه فرصتُك، فاجعل لك في كل ساعةٍ ذكرًا، وفي كل ليلةٍ سجدة، وفي كل يومٍ دعوة، فلعلك تخرج من هذا الشهر كيوم ولدتك أمك، طاهرًا نقيًّا، قد غُفِر لك ما سلف، وتكون من الفائزين برضوان الله وجنّته.
477
| 02 مارس 2025
التاريخ ذاكرة الزمن، تحفظه الأيام كما يحفظ البحر آثار السفن، أمواجه تهمس بقصص العابرين، لكنها لا تزيد على أن تكون انعكاسًا لما كان، دون أن تبسط للمتأمل سرًّا من أسرارها أو تكشف عن عبرة بين سطورها! والتاريخ بهذا المعنى ليس إلا سجلًّا يخطّ في صفحاته ما جرى، ويعدد الوقائع والحوادث كما وقعت، يخبرك بأسماء الملوك: تاريخ الميلاد والوفاة، والمعارك: تاريخ البداية والانتهاء! ثم يقف عند هذا الحد، لا يتجاوزه إلى البحث في علل الأحداث، ولا يسبر غور الحِكَم التي انطوت عليها! كمن يقف عند شاطئ البحر لا يرى فيه إلا سطحه، غافلًا عن أن الأعماق حبلى بالخفايا والعجائب! لا تراها العين العابرة، ولا يدركها إلا من وقف موقف الحكيم المتأمل، وهذه فلسفة التاريخ التي لا تقف عند حدود الرواية الجافة، بل تغوص في أعماق العلل، وتبحث في السنن الخفية، فلا تكتفي بأن تقول: «حدث هذا» ولكنها تتساءل: «لِمَ حدث؟ وكيف؟ وما الذي كان سيؤول إليه لو اختلفت الظروف؟ وهل يمكن أن يعود في صورة أخرى؟ ما كان هذا الفهم العميق بدعًا من الفكر، ولا طارئًا على العقول، بل هو قديم قدم البشرية لكنه بزغ منذ قرون في قوانين كتبها ابن خلدون رحمه الله 808هـ في مقدمته -المظلومة- والتي جعلت من التاريخ مرآة صافية، لا ينظر فيها الناظر إلا رأى في انعكاسها: مصارع الأمم ومآلاتها كأنها رأي العين، وفق نظام محكم كأنه ناموس الكيمياء في تفاعل عناصرها! فكما أن الهيدروجين متى ما اتحد بالأوكسجين لم يكن له إلا أن يصير ماءً، فكذلك الأمم متى ما اجتمعت أسباب قيامها وامتزجت بعوامل قوتها وفق مشروع جامع، لم يكن لها إلا أن تنهض. أما إذا تسللت الرفاهية إلى أوصالها، وامتدت ظلال الترف فوق أجيالها، وغاب عنها المشروع الذي تستظل به، كان ذلك نذير زوالها. إن هذه السنن الكونية هي بمثابة المدّ والجزر في بحر الوجود، لا يبدلها الأمل، ولا يردها التمني، بل تمضي كما يمضي القدر. ولو أن الناس قرأوا التاريخ بعين فلسفته، لعرفوا أن حوادثه ليست فوضى تتلاطم أمواجها كيف شاءت، بل هي نظام محكم، تسير فيه الأمم كما تسير الشمس في أفلاكها، ترتفع حتى تبلغ أوجها، ثم تميل إلى غروبها، وتتكرر السنن في أهلها كما تتكرر الفصول في العام. إنَّ التاريخ في جوهره مادة صامتة، لا تنبض بالحياة إلا حين يلامسها الفهم العميق الذي يصل بين أجزائها، تمامًا كما أن الحروف المبعثرة لا تحمل معنى، ولا تصبح كتابًا إلا إذا نظمها الفكر في سياق متكامل. ومن يقتصر على ظاهر الأحداث دون أن ينفذ إلى حكمتها المستترة، فكأنما يقرأ بلا فهم، ويسمع بلا وعي، وما أشبهه بمن يرى ظلَّ الشيء لا حقيقته!
468
| 23 فبراير 2025
كان جالسًا في المقهى، يرقب المارّة كما يرقب القاضي متّهميه، لا يجتازه عابر إلا وقد صاغ له في نفسه حُكمًا، كأنما هو ميزان الخلق، يزنهم بمكياله، ويقيسهم بمعياره. فهذا يسير مسرعًا، كأن القدر يطارده، وذاك يمشي الهوينى كأنه قد ألقى عصا الترحال واستراح من عناء الدنيا بأسرها! وذاك يجلس وحده، كأنه لا يعبأ بعابر أو جليس! وذلك يضحك بملء فيه كأنما قد مُلكت له الدنيا وما فيها! ضاقت عليه نفسه فهرب إلى سيارته، وقد تدافعت الأفكار في رأسه كما تتدافع الخيل إلى حلبة السباق، وما إن بدأ السير حتى صار يرصد الطرقات بعين الناقد المتبرم، فهذا سائق متباطئ يعوقه، وذاك متهور يزعجه، وثالث أوقف مركبته حيث شاء، كأنما الطريق ملكٌ له وحده! وبينما هو مُمسك بالمقود كأنما يحرك به مصيرًا لا يعبأ كثيرًا بتفاصيله، إذ فجأة اخترق المذياع الهادئ صمته بصوت القارئ: «إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى.» اهتزّ قلبه فجأة، وتوقف عقله للحظات، وكأن الصوت اخترق أغوار روحه حتى سحب كل شيء حوله إلا السكون! لقد ملأت هذه الآية أركانه، حتى لكأنها الضوء الذي مزّق ظلمات نفسه، وسمع صوتًا من داخله يصرخ مستنكرًا: «ويحك! أليس لكل متعجّل عذر، ولكل متمهّل سبب، ولكل صامت هم، ولكل ضاحك فرح؟! فكيف جعلتَ نفسك ميزانًا للخلق؟!» صمت طويلا وكأنه يبصر الدنيا من زاوية جديدة، فالناس ليسوا انعكاسًا لنفسه، والأحكام التي كان يلقيها عليهم لم تكن إلا ظلالًا لوهمٍ سجن نفسه فيه اسمه سراب الـ ( أنا) مضى في طريقه، وقد تبدّلت نظرته، فما عاد يلوم، ولا عاد يتعجّب، بل صار يرى الناس كما هم، لا كما يريدهم أن يكونوا. فاستراح من قيد الهم، بعدما تخلص من سراب الوهم. إن الحياة، أيها السادة، نهر دافق لا يعرف السكون، ينساب بين ضفتيه فلا يعود منه ما قد مضى، ولا يقف منه ما قد جرى. كل قطرة فيه لها مسراها المقدر، وإن بدت في عين الرائي سواء، والعاقل ليس ذاك الذي يقف على الضفاف يرقب الماء مندهشًا أو مستنكرًا، ولكن من يدرك أن القطرات وإن توحدت في ظاهر الحجم والصورة، فإن لها من الاختلاف في المصير ما لا تحصيه العقول. فإذا كان هذا شأن المتشابه، فكيف بالمتباين؟ تلك حكمة الحياة، تجري فلا يعترضها إلا من جهل حقيقتها، ويتعايش معها من وعى سرها! سراب الـ»أنا» ليس إلا سقفًا مغلقًا، يحجب عن الإنسان نور الحقيقة، ويجعله يتيه في ظلامٍ لا يرى فيه إلا نفسه. الـ ( أنا) درعٌ ظاهره حماية، وحقيقته قيدٌ يحبس الروح في دائرة ضيقة، لا ترى فيها إلا انعكاس ظله وفكره، ولا يسمع فيه إلا صدى صوته. أيها الطائر في السماء: إن الـ «أنا» قيد يثقل جناحيك، والطائر لا يعلو إلا إذا تحرر من كل ثقل!
420
| 16 فبراير 2025
إذا أقبلت ليلة النصف من شعبان، أقبل معها الخلاف، وتنازع الناس بين مثبِتٍ لفضلها ونافٍ، وبين مَن يخصها بعبادة ومَن يجعلها كغيرها من الليالي، من يرجو فيها الخير كله؟ ومن يعرض عنها كأنها لم تذكر في التاريخ؟ والحق بين الاثنين هكذا قرر كثير من المحققين، فابن تيمية رحمه الله يرى: «إن هذه الليلة قد ورد فيها من الأحاديث والآثار ما يدل على فضلها، ولكنه لم يصح فيها حديث يوجب تخصيصها بعبادة معلومة». فأنت تراه هنا يثبت لها الفضل العام، ولكنه لا يجيز ابتداع العبادات فيها بغير أصل صحيح. وإن في هذا لمنهجًا قويمًا، لا إفراط فيه ولا تفريط، فلا حرمان لخير، ولا اختلاق لفضل. والله يهدي من يشاء إلى سواء السبيل. وما ينبغي حقا النظر إليه بعين البصيرة ما جاء في الحديث (إنَّ اللَّهَ ليطَّلعُ في ليلةِ النِّصفِ من شعبانَ، فيغفرُ لجميعِ خلقِه إلَّا لمشرِك أو مشاحنٍ» صحيح ابن ماجه فحقٌّ على العبدِ أن يقفَ عنده وقفةَ المتأمِّلِ المتدبِّرِ، وقفةَ من يعرضُ قلبَهُ على ميزانِ الحقِّ، فينظرُ: أهو من أهلِ المغفرةِ أم من المحرومين؟ فإنها ليلةٌ يعمُّ فيها الصفحُ، ولكن ثمَّةَ نفوسٌ قد أقامتْ بينَها وبينَ الرحمةِ حاجزًا، فلا يصلُ إليها النورُ، ولا تنالُ من العفوِ نصيبًا. فأما المشرك، فقد عبد مع الله غيره، فبأي وجهٍ يلقى الله وهو قد جعل له ندًّا؟ وأما المشاحن، فقد تلطخت روحه بالعداوة، وأغلقت الضغينة بينه وبين الناس أبواب الصفح، فكيف ينال عفو الله من لم يعفُ عن عباده؟ يقول ابن تيمية في “مجموع الفتاوى”: “فإن المغفرة إنما تنال أهل التوحيد… وأما الشحناء، فهي تمنع المغفرة، والمغفرة لا تكون إلا لمن تطهرت روحه من الحقد والبغضاء”. إن الشرك يقطع العبد عن ربه، والشحناء تقطع القلب عن أنواره، وكلاهما يترك النفس في ظلمة لا ينفذ إليها النور. فليطهِّر العبد قلبه قبل أن يرفع كفّيه، وليغسل روحه من أدران الأحقاد قبل أن يسأل الله العفو، فإن باب الرحمة مفتوح، ولكن لا يدخله إلا قلبٌ سليم. يا ويح تلك القلوب التي نمت على البغضاء! أي نومٍ يهنأ لصاحبها، وأي دعاءٍ يرتفع له، وأي طاعة تُرفع منه؟ أما علم أن الله لا يقبل من عبدٍ عملًا وقلبه ملوثٌ بحسدٍ أو قطيعة؟ أما سمع قول النبي صلى الله عليه وسلم: “إياكم والحقد، فإنه الحالقة، لا أقول تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين”؟ ألا إن ليلة النصف من شعبان مرآة للقلوب، فمن وجد في قلبه ظلمة، فليعلم أن الحجاب بينه وبين المغفرة إنما هو من صنع يده، ومن وجد فيه نور الصفاء، فقد أبصر السبيل. فهلّا بادر المذنب قبل أن يُغلق الباب، وهلّا ألقى المشاحن ما في قلبه قبل أن يحين الحساب؟
843
| 09 فبراير 2025
شعبانُ طلائعُ النورِ الزاحف، وبشائرُ الخيرِ الوارف، ونفحةٌ سماويَّةٌ تهبُّ على القلوبِ بعد طولِ جدبٍ، فتُحيي فيها ما ذوى، وتبعثُ فيها ما خمد، كالغيثِ إذ يُلامسُ أرضًا ظامئةً، فتنتفضُ بالحياةِ بعد موات. هكذا يكونُ شعبانُ بين يدي رمضان، يهيّئ الأرواحَ لاستقبالِ النورِ الأعظم، ويشحذُ العزائمَ لترتقيَ في مدارجِ الطُّهر، ويمسحُ غبارَ الغفلةِ عن القلوبِ التي أعرضت عن السماءِ طويلًا، حتى إذا لاحَت لها تباشيرُ الرحمة، أقبلت على ربِّها إقبالَ التائبِ الذي أبصرَ بعد عمًى، ووجدَ بعد ضياع، وارتوى بعد ظمأٍ طويل. شهر شعبان موسمٌ جليلٌ، تمهيدٌ لما بعده، وتوطئةٌ للنفوس أن تستعد لقدوم شهر الصيام، إذ كيف يستوي من دخل رمضان وقد أقبل عليه بروحٍ مدربةٍ، وجسدٍ معوَّدٍ، ونفسٍ مشحونةٍ بالإيمان، ومن وافاه الشهر بغتةً، وهو في غمرة اللهو والغفلة؟ لقد كان صلى الله عليه وسلم يخصُّ هذا الشهر من العبادة بما لا يخصُّ به غيره، حتى إنه كان يكثر من الصيام فيه حتى يظن الظان أنه لا يفطر، وما ذاك إلا لأنه شهرٌ تُرفع فيه الأعمال إلى الله، وأيّ عبدٍ لا يحب أن يُرفع عمله وهو في أصفى حالاته، وأخلص أوقاته فعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ:»مَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ يَسْتَكْمِلُ صِيَامَ شَهْرٍ قَطُّ إِلَّا رَمَضَانَ، وَمَا رَأَيْتُهُ فِي شَهْرٍ أَكْثَرَ صِيَامًا مِنْهُ فِي شَعْبَانَ»متفق عليه وعنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رضي الله عنهما قَالَ: «قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَمْ أَرَكَ تَصُومُ مِنْ شَهْرٍ مِنْ الشُّهُورِ مَا تَصُومُ مِنْ شَعْبَانَ؟ قَالَ: ذَاكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهُ بَيْنَ رَجَبٍ وَرَمَضَانَ، وَهُوَ شَهْرٌ تُرْفَعُ فِيهِ الأَعْمَالُ إِلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ» هكذا كان ﷺ يصومه رجاء أن يرفع عمله وهو في حال من الطاعة، فما حالنا نحن؟ أيليق بنا أن تعرض صحائفنا وهي مثقلة باللهو والغفلة؟ أيطيب لنا أن ترفع ونحن في عجز وتقصير؟ أما آن أن نراجع أنفسنا قبل أن ترفع أوراقنا إلى من لا يخفى عليه شيء؟ شعبان مدرسة الإعداد، ودورة التهيئة، فمن دخلها نال الزاد، ومن تخرج منها كان مؤهلًا لنفحات رمضان، فالتوبة أول أبوابها، والصيام عمودها، والقرآن روحها، والقيام زادها، فمن رام رمضان، فليبدأ بشعبان، وليجعل منه بابًا إلى الطاعة، ومفتاحًا للخير، ومدرسة لتزكية النفس، ورياضة للروح، حتى يدخل رمضان بنفسٍ مشرقة، وهمّة عالية، وجوارح طاهرة، وقلب مقبل على مولاه. إن الأيام تمضي، وإن الصحائف تملأ، وإن الأعمار تفنى، فهنيئًا لمن اغتنم، وويل لمن غفل وندم، فهل لنا في شعبان من نصيب؟ وهل لنا فيه من زاد نتزود به إلى رمضان؟ هي فرصة لن تعود، فاغتنمها قبل أن يفوت الأوان!
399
| 02 فبراير 2025
لا تكاد تمر بأمة الإسلام آية من آيات الله، إلا وأقلام السوء تخرج من جحورها في محاولة بائسة لهدم اليقين في قلوب المسلمين! ظانين أن الشبهة إذا أُلبست رداء عقل قاصر نُصرت، وما درى هؤلاء أن العقل الذي لا يهتدي بنور الوحي ضال كالسائر في ظلمة ليلٍ دامس يتلمس السبيل! إذ كيف لعقلٍ يدَّعي العلم أن يقيس أمر الإسراء والمعراج بموازين الأرض وهو غافلٌ عن أن الذي أسرى بعبده ليلاً هو الذي خلق الزمان والمكان، وصرف الأسباب كما شاء. فقل للأولى قد أنكروه رويدكم أمامكم آيات ربي فانتظروا إذا أنكر المعراج بالأمس جاهل فليس يمارى اليوم فيه مفكر أيعرج صاروخ إلى قمر السما تسيره منا عقول تفكر وننكر أن يرقى إليها محمد بتقدير من للكائنات يسير أيقدر مخلوق ويعجز خالق تباركت يارب فإنك أقدر فلندع تلك القلوب الحائرة تلتمس في ظلمة شكها هلاكها، ولنقف أمام قول الله ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾. إن اختيار الله للمسجد الأقصى بدايةً للإسراء، كان إشارةً إلى مكانته في العقيدة، فهو القبلة الأولى التي صلّى إليها المسلمون، والأرض التي بارك الله حولها، ومهوى قلوب الأنبياء من قبله. ولولا أن لهذه الأرض شأنًا عظيمًا، لما كان المرور بها مقصدًا في تلك الرحلة المقدسة. ولو شاء الله لعرج بالنبي صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى السماوات العلا مباشرة، ولكن الحكمة أرادت أن يرتبط المسجد الحرام بالمسجد الأقصى، لتظلّ قلوب المؤمنين بهما متصلة، فلا يفرّطوا في قدسيتهما. أما وعد الله بعودة الأقصى إلى المسلمين، فليس مجرد وعدٍ بعيد، بل هو وعدٌ مُنتظرٌ له شروطه التي يدركها كل مؤمن صادق. عودة الأقصى للمسلمين هي عودةٌ للكرامة، هي عودةٌ للأمل بعد المحنة، هي عودةٌ لتحقيق وعد الله لعباده المخلصين. نحن نعيش اليوم مرحلة من مراحل التاريخ التي قد تكون مظلمة، ولكن التاريخ لا ينسى أصحاب الهمم الطاهرة. فكما كان في الماضي أحرارٌ حملوا راية الدين وحرروا الأماكن المقدسة، فإن القادم من الزمان يحمل في طياته تحريراً لا محالة، طالما أن العزم صادق والإيمان راسخ. وإذا كان الأقصى قد احتُل، فلا تحسب أن الأرض قد قُيدت، بل هي في يد الله، هو الذي يقرر الزمان والمكان. وغدا سيبزغ الفجر على الأرض المقدسة، فوعد الله واقعٌ لا محالة، قال صلى الله عليه وسلم (لا تزالُ طائفةٌ من أمَّتي على الدِّينِ ظاهرينَ، لعدوِّهم قاهرينَ، لا يضرُّهم مَن خالفَهُم؛ إلَّا ما أصابَهُم مِن لأواءَ حتَّى يأتيَهُم أمرُ اللَّهِ وَهُم كذلِكَ. قالوا: يا رسولَ اللَّهِ، وأينَ هُم؟ قالَ: ببيتِ المقدسِ وأَكْنافِ بيتِ المقدسِ).
1368
| 26 يناير 2025
منذ أن خُلق الإنسان على هذه الأرض، وهو يسير في معركة أزلية بين الحق والباطل، معركة لا تهدأ نارها ولا يخمد أوارها، لكنها تتزين دائمًا بمشهد الخاتمة، تلك الخاتمة التي قال الله عنها: “ويومئذ يفرح المؤمنون”. إن فرح المؤمنين ليس فرحًا عابرًا كفرح أهل الدنيا حين يظفرون بما يحبون من متاعٍ زائل، بل هو فرح عميق، يسكن القلوب التي ذاقت مرارة الصبر، واحتملت وطأة البلاء، ثم رأت وعد الله يتحقق، وكلماته تُصدّق في أرض الواقع. قديما حين انتصر الروم على الفرس، كان الحدث بعيدًا عن المسلمين من حيث المكان، لكنه قريب في دلالته ومعناه. كان انتصارًا للحق على الباطل، ولو من خلف حجاب. وها هم المؤمنون، الذين كانوا يذوقون الويلات في مكة، يفرحون بذلك النصر، لأنه أمل جديد يضاف إلى آمالهم، ورجاء يُمد حياتهم بالأمل الكبير في يوم قريب يُدحر فيه الظلم. وكما فرح المؤمنون يوم بدر، يوم رأوا جند الله يتنزل على الميدان، ورأوا النصر بعين الإيمان قبل أن تراه العين المجردة. كذلك في كل زمان، يفرح المؤمنون حين يُنصر الحق، حين ترتفع رايات العدل، حين يزهق الله الباطل ولو كره الكافرون. يُعاد اليوم مشهد الفرح الإيماني في تلك البقعة الصغيرة، التي أحاطها الأعداء من كل صوب، ظانّين أن كيدهم سيُجهز على صمودها. لكنها غزة كعادتها، وقفت شامخة كطود عظيم، تكابد النيران وتُطفئها بثبات الرجال ودموع الأمهات وصبر الأطفال. اليوم قد أشرق الصباح على أرضٍ ارتوت بالدماء، وتضوعت أنسامها برائحة العزّة، وتجلّت فيها سُنّة الله التي لا تبديل لها غزة تلك القطعة الصغيرة من الأرض التي ضُربت فيها أروع الأمثلة لصبر الرجال واحتسابهم، حيث تلاطمت فيها أمواج الحق والباطل، وكانت للدماء الزكية صوت فيها أبلغ من أي سلاح. “ويومئذ يفرح المؤمنون» يوم تخرج غزة من بين الأنقاض منتصرة، وقد أذاقت عدوها مرارة الخيبة، وسجّلت للتاريخ أن الأمة التي تؤمن بالله وحده لا تُقهر، مهما اجتمع عليها الطغاة. إنه فرح المؤمن حين يرى الباطل يتهاوى، وحين يدرك أن وعد الله حق، وأن المستقبل للحق مهما اشتد ظلام الباطل. إن فرحة اليوم ليست فرحة انتهاء معركة، لكنها فرحة بداية جديدة. بداية لفجر يلوح في الأفق، يحمل معه وعد الله الصادق. بداية يدرك فيها الجميع أن النصر لا يأتي فجأة، ولا يتحقق بين عشية وضحاها، بل هو حصاد لسنين من الصبر والجهد، ثم هو موعد مع القدر لا يتخلف. فسلامٌ على غزة وهي تطفئ نار الحرب لتشعل شعلة الأمل. وسلامٌ على الصامدين الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه وسلامٌ على صمودها الذي سجله التاريخ بحروفٍ من دم وعلى صبرها الذي لم يضعف رغم كل الجراحات، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
1680
| 19 يناير 2025
الحمد لله الذي جعل الزمن مواسم، والدهر أياما يفيض فيها بكرمه على عباده، فجعل منهم شهورا عظّمها وشهرا مباركا، حتى يكون العبد فيها أقرب إلى ربه وأشد استقامة على أمره. ومن أعظم هذه المواسم، الأشهر الحرم التي قال فيها الله تعالى: “إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ”. والأشهر الحرم هي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب، كما في الصحيحين من حديث أبي بكرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، السنة اثنا عشر شهراً منها أربعة حرم، ثلاثة متواليات: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، ورجب، شهر مُضر، الذي بين جمادى وشعبان». وقوله: ورجب شهر مضر الذي بين جمادى وشعبان، لأن ربيعة كانوا يحرمون شهر رمضان ويسمونه رجباً، وكانت مضر تحرم رجباً نفسه، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الذي بين جمادى وشعبان» تأكيداً وبياناً لصحة ما سارت عليه مُضر. لقد اصطفى الله هذه الأشهر من بين سائر الشهور، فجعلها حُرُماً: حرّمت فيها الدماء، وعُظّمت فيها الحرمات، وأُمر العبد فيها بمزيد من التقى والعمل الصالح، فكانت بمثابة الراحة للنفس من عناء الخطايا، ومجالا رحبا لإصلاح ما أفسده الزمن والشيطان والنفس بالإنسان. عظم الله هذه الأشهر وحذر من ظلم الإنسان نفسه بها فقال: (فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ) أي في هذه الأشهر المحرمة، لأنها آكد، وأبلغ في الإثم من غيرها، كما أن المعاصي في البلد الحرام تضاعف، لقوله تعالى: (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ). ويقول القرطبي رحمه الله: (لا تظلموا فيهن أنفسكم بارتكاب الذنوب، لأن الله سبحانه إذا عظم شيئاً من جهة واحدة صارت له حرمة واحدة، وإذا عظمه من جهتين أو جهات صارت حرمته متعددة فيضاعف فيه العقاب بالعمل السيئ، كما يضاعف الثواب بالعمل الصالح، فإن من أطاع الله في الشهر الحرام في البلد الحرام ليس ثوابه ثواب من أطاعه في الشهر الحلال في البلد الحرام، ومن أطاعه في الشهر الحلال في البلد الحرام ليس ثوابه ثواب من أطاعه في شهر حلال في بلد حلال، وقد أشار الله إلى هذا بقوله: (يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً). بقي أن نذكر أن شهر رجب لم ترد فيه عبادة مخصوصة به، وما يفعله البعض من ذلك لا أصل له، ولكن هذا لا يعنى التهاون في العبادات، بل يعنى عدم اعتقاد أن هذه العبادة بعينها لها فضل ما في شهر رجب.
306
| 12 يناير 2025
آية تُلخّص الحياة بأسرها، وتُطمئن القلوب المرتجفة، وتُلين العقول المتصلبة، فليست كلمات عابرة، بل مرآة عاكسة لحقائق الوجود، وميزان يزن العاقل بها حركة التاريخ، لتنفض عنه غبار الغفلة، وتوقظ فيه أهلية المحاسبة. فما الحياة إلا حُلم ممتدّ، ما يكاد ينقضي منه مشهد حتى يعقبه آخر، والمرء في هذه الحياة رهين عمله، يقرأ في غده ما خطت أعماله في أمسه! بين عسرٍ ويُسرٍ، وليلٍ ونهار، تتداول الأيامُ أحوالَ الناس كما يتداول البحر موجه، فيُقبِل حيناً ويُدبِر حيناً، ومن يألف حياة البحار يدرك أن الأمواج التي ترفع اليوم قد تغمر صاحبها غدا، فدوام الحال مُحال، وتلك سنّة الله في كونه المنتظم والمحكم؛لا سرور دائم، ولا حزن مُقيم، وكل هذا بموازين عادلة وإن بدت للغافل ظالمة! وخير مثال على ذلك ما يصيب الظالم من سطوة السلطان تلك التي تحجب عنه البصيرة، فإذا ذاق نعيم المقام وأنس بالحال، ونسي عاقبة المآل؛ استطال بغيا على العباد وظن أن حصونه مانعته من الله؛ فإذا بأيامه تنقلب كأنها صفحةٌ طوتها الريح، فيصير ذليلا بعد عزة، شريدا بعد منعة، ضعيفا بعد قوة، تحاصره المظالم أنى توجه وتوقظه أنات الثكالى أنى تقلب، وينتظره مصير محتوم بميزان عادل. وتريك الأيام في ذات الوقت: سجين الأمس مكين اليوم، هذا الذي عاش مستكينًا تحت رحى الظلم والقهر؛ تبدل حاله، وأتاه -بقدر الله- زمن جديد يرفعه حتى يصير من أهل القوة والهيبة! وهكذا، تمضي عجلة الحياة، تُبدّل المواقع، وتخلط الأوراق، وكأنها تُعلّمنا ألا نغتر بالنعمة، ولا نيأس من النقمة، فكلٌّ يمضي بأمر الله وحكمته فلا تجزع من دوران الأيام، ولا تغتر بثبات الحال، واحذر الاستدراج، وارقب كيف تعمل يد الله في مصائر الطغاة، والتاريخ خير شاهد فرعون ادعى الألوهية واستطال على الرعية، وقال: ما علمت لكم من إله غيري، فماذا كان؟! (فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم) قارون اغتر بماله، وانتفش بكنوزه، وقال: أوتيته على علم عندي، فماذا كان؟ (فخسفنا به وبداره الأرض فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله) عاد وثمود: رموز التكبر والجحود والتجبر، ماذا أغنت عنهم من الله؟! حين قال الله عنهم (.. فأهلكوا بريح صرصر عاتية). وهذه الأمثلة ليست قاصرة على الزمن الذي نزلت فيه، بل ممتدة برسائلها إلى كل عصر إنّ للظلم جولةً، وللعدل دولة، وما من ظالمٍ يرفع يده على ضعيف، أو يطغى بجوره على بريء، إلا وقد كتب القدر خاتمته، وما تلك الأيام التي تبسط له الطريق وتُزيّنه إلا استدراج من الله له، ثم تنقلب الموازين لتكون تلك الأيام ذاتها هي التي تُسقطه على وجهه يومًا ما، فلا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون.
564
| 29 ديسمبر 2024
مساحة إعلانية
في منتصف العام الدراسي، تأتي الإجازات القصيرة كاستراحة...
1956
| 24 ديسمبر 2025
في هذا اليوم المجيد من أيام الوطن، الثامن...
1137
| 22 ديسمبر 2025
حين تُذكر قمم الكرة القطرية، يتقدّم اسم العربي...
1086
| 28 ديسمبر 2025
تستضيف المملكة المغربية نهائيات كأس الأمم الإفريقية في...
1068
| 26 ديسمبر 2025
أرست محكمة الاستثمار والتجارة مبدأ جديدا بشأن العدالة...
873
| 24 ديسمبر 2025
-قطر نظمت فأبدعت.. واستضافت فأبهرت - «كأس العرب»...
831
| 25 ديسمبر 2025
«فنّ التّأريخ فنّ عزيز المذهب جمّ الفوائد شريف...
720
| 21 ديسمبر 2025
لماذا تقاعست دول عربية وإسلامية عن إنجاز مثل...
663
| 24 ديسمبر 2025
-قطر تضيء شعلة اللغة العربيةلتنير مستقبل الأجيال -معجم...
633
| 23 ديسمبر 2025
انتهت الاحتفالات الرسمية باليوم الوطني بحفل عسكري رمزي...
552
| 23 ديسمبر 2025
منذ القدم، شكّلت اللغة العربية روح الحضارة العربية...
525
| 26 ديسمبر 2025
في عالم اليوم، يعد التحول الرقمي أحد المحاور...
510
| 23 ديسمبر 2025
مساحة إعلانية