رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
يقول برنارد شو في كتابه «حيرة طبيب» إن مهنة الطب لن تصبح مهنة إنسانية إلا بوضع حائل بين جيب المريض ويد الطبيب، واصفا الأطباء بأنهم «محض قتلة يحملون ترخيصًا». حسنا، لكن المؤكد أن هذا الوصف لا يقتصر على أغلب الأطباء الأفراد فقط، ولكن يشمل الشركات الكبرى التي تتحكم في الأطباء، وفي الدواء، وكل ما يتعلق بصحة الإنسان وسلامته. وبما أن كل شيء في هذا العصر بات يصنع صناعة فلم يعد المرض استثناء، حتى شاع أن شعار شركات الأدوية هو «إذا أردت أن تبيع الدواء فاصنع المرض». وهذا ما يقرره د. جاري جرينبرج في كتابه «صناعة الاكتئاب» 2010. وليت الأمر وقف عند ذلك، فهؤلاء لا يصنعون المرض فقط، بل إن أدويتهم لا تعالج بقدر ما تُديم المرض وتجعله مزمنا، بينما يمنعون صناعة الدواء الناجع بحق. وفوق كل ذلك يبيعونه بأسعار يعجز عنها الكثيرون. وهناك قصة توضح خطورة مؤامرات أعداء الإنسانية وارتباط بعضها بالبعض، وهي قصة الأمريكي مارتن شكريلي، (ابن البواب) الذي جعلوه رئيس أحد صناديق التحوط، التي ذكرنا أنها من أهم وسائل صناعة الفقر. فقد رفع سعر دواء مضاد للسرطان والإيدز، بعد احتكار تصنيعه، من 13 إلى 750 دولارا للحبة الواحدة، أي بنسبة أكثر من 5000 بالمئة. ورغم الانتقادات وحتى السجن الذي تعرض له لم ينخفض السعر! وكان من أوائل من فضحوا تلك «المؤامرة» الباحث الأمريكي كيفين ترودو. ففي كتابه «علاجات طبيعية لا يريدونك أن تعرفها»2004، يؤكد ترودو وجود علاجات طبيعية للأمراض الخطيرة ومنها السرطان، والإيدز، والسكري، وأخرى كثيرة، موضحا أن تلك العلاجات تخفيها عن الجمهور عمدا، شركات الأدوية الكبرى، والجهات الرسمية المتواطئة معها. وقد تعرض نتيجة ذلك للسجن ولغرامات بعشرات الملايين من الدولارات، مثل كثيرين ممن حاولوا كشف جرائم النُخب. الأمر نفسه أكده الباحث الأمريكي تاي بولينغر في كتابه «حقيقة السرطان»،2006، قائلا إن شركات الأدوية الكبرى تئد منذ عقود كل محاولات صناعة العلاجات الرخيصة البديلة لأدويتها التي لا تعالج المرض بل تفاقمه لأنها تهاجم أنظمة المناعة، ويسميها، «العلاجات السامة»، في مقابل علاجات الطب البديل الطبيعية التي تستهدف الخلايا السرطانية وتعزز أنظمة المناعة. الأمريكية سيليا فاربر، المناهضة لـ»أكاذيب الأوبئة»، من الإيدز وحتى كورونا، ذكرت بدورها في مقال عام 2006، أن عقارا معروفا مضادا للفيروسات التكاثرية كان جزءًا من «مؤامرة المجمع العلمي الطبي» لنشر الأدوية السامة. وإذا لم يكن هذا كافيا لاقناع البعض، فلا أصدق من شهادة د. بيتر روست، نائب الرئيس السابق لشركة فايزر، إحدى أكبر «عصابات» صناعة الدواء. يكشف د. روست في كتابه «النذير.. اعترافات قاتل صحي»2006، أسرارا خطيرة عن جرائم شركات الأدوية الكبرى، ومنها سيطرتها على البحث العلمي وتوجيهه للخروج بنتائج معدة سلفا تعزز مصالحها على حساب المرضى. ولا عجب إذن أن يتساءل كثيرون، لماذا يشعر معظم الناس بالتعب المستمر الذي أصبح مرض العصر؟ والإجابة وفق موقع، «إشعار المستهلكين»، الذي يعتمد في توثيق معلوماته 20 موقعا طبيا رسميا، تكمن في «الغبار الذكي» الذي ينتشر عبر غاز الكيميتريل، وغازات أخرى تُبث في الجو منذ عقود. وبحسب الموقع فإن من وسائل صناعة المرض التي يعممها أعداء الإنسانية على البشر، مادة كيميائية تسبب أمراضا لا حصر لها، بداية من الزهايمر إلى التوحد وحتى الاضطرابات الهضمية، والاكتئاب. المادة اسمها جلايفوسيت، وهي عبارة عن مبيد حشري، ويتم رشها على كل المحاصيل، وتعتبر رسميا، وبحسب «الصحة العالمية»، مادة مسرطنة، وترش أيضا في الجو. وقد أدى استخدامها منذ العام 1990 إلى زيادة أعراض التعب المزمن بأكثر من 11000%، وتشتت الانتباه بنسبة أكثر من 10000 %، والاكتئاب بنسبة 280%. كما كشفت دراسة نشرتها أخيرا دورية «التلوث البيئي»، وجود مواد كيميائية تسمى «الفثالات»، في آلاف المنتجات الاستهلاكية مثل المعلبات والشامبو والمكياج والعطور وألعاب الأطفال، وكل شيء تقريبا، وتتسبب في أكثر من 100 ألف حالة وفاة مفاجئة سنويا، في الولايات المتحدة وحدها. ومما يؤكد أن صناعة المرض تجرى على قدم وساق، مشروع تقول جامعة «جونز هوبكنز» إنه تدريبي استعدادًا لجائحة كبيرة في السنوات المقبلة!. لكن مصادر عدة أكدت أنه مشروع حقيقي يمهد لإطلاق جائحة جديدة باسم «سبارز»، العام المقبل، وتستمر حتى العام 2028. ويذكّر ذلك بمشروعات مماثلة تحدثت عن «جائحة كورونا» قبل حدوثها بسنوات، وكالعادة تكفل إعلام النُخب بتكذيب من فضحوا ذلك المشروع. البعد السياسي في هذه المأساة لا يقل خطورة وإدهاشا. فالثابت أن كل هذه التصرفات اللا إنسانية تنفذ وفق خطط معلنة وبقيادة أكبر دولة في العالم. ومعروف أن هنري كيسنجر وزير الخارجية الأسبق أصدرعام 1974 مذكرة حول عدد سكان العالم، يتحدث فيها وكأنه مدبر الكون مطالبا بكبح الزيادة السكانية، واصفا إياها بأنها ربما تكون أخطر من التحدي النووي. وهذا زميله روبرت مكنمارا، وزير الحرب، ورئيس البنك الدولي الأسبق، يتحدث عام 1979، في نادي روما -معبد المالتوسية- مرددا نفس الأفكار ومقترحا التخلص من «الأعداد الزائدة» من البشر بصناعة المجاعات و»صناعة المرض». وذكرت دراسة لمنظمة الأبحاث الأسترالية، «CSIRO»، نشرتها مجلة العلوم البريطانية «نيوساينتست» في 2008، أن «التلوث الناشيء عن التغيرات في الإنتاج الصناعي وإنتاج الغذاء هو نتيجة لخطط نادي روما»، ما يدفع للقول إنه ليس فقط الدواء الذي به سم قاتل، بل الغذاء فيه سم قاتل، والماء فيه سم قاتل، والهواء فيه سم قاتل، لتصبح مصانع العصر الحديث، ربما، «مصانع الموت البطيء».
1329
| 15 أغسطس 2024
من الكتب التي تناولت صناعة الفقر من منظور تاريخي كتاب بعنوان «صناعة الفقر العالمي» للكاتبة والناشطة البريطانية تيريزا هايتر، وضعه البعض على مستوى أعمال منظري التبعية مثل أندريه جوندر فرانك، وسمير أمين. وقد صدر عام 1981، ثم في طبعة ثانية عام 1990، ليتأكد بدرجة أكبر ما توصلت إليها هايتر في الطبعة الأولى. وبعد مرور ثلاثة عقود أخرى تقريبا على صدور الطبعة الثانية، لا نجد عناء في ملاحظة أن نتائج كتاب هايتر تزداد تأكيدا بمرور الزمن. فقد ذكرت في طبعتها الأولى أن عدد الجياع في العالم كان يقدر بنحو المليار إنسان، وأنه مرشح للزيادة. وبالفعل لم يتراجع الرقم منذ ذلك الحين، بل تضاعف وفقا للحسابات الواقعية وليست التلفيقية. يؤكد ذلك تقرير حديث للبنك الدولي بأن عدد الجوعى في بلد عربي «متوسطي» يصل إلى نحو 80% من سكانه، بحساب كل أبعاد الفقر، مقارنة بتقرير رسمي سطحي يعتمد فقط معدل الدخل ويجعل النسبة 44% فقط. كما يظهر التقرير أن عدد الجوعى في العالم حتى العام الماضي، ويشمل ضحايا سوء التغذية، وصل إلى نحو 2.5 مليار إنسان. وهي زيادة يؤكد فرانسيس مورلابيه وجوزيف كولينز، في كتابهما «صناعة الجوع: خرافة الندرة»، أنها عملية «مصنوعة». وتوضح هايتر خلفيات ما تسميه «الانقسام العالمي العظيم» بين الدول الغنية والفقيرة. وتقول إن الشمال، شاملا أوروبا الشرقية، يضم ربع سكان العالم وأربعة أخماس دخله. والجنوب، شاملا الصين، يضم ثلاثة الأرباع الأخرى وخمس الدخل العالمي فقط. كما أن «معدلات الأجور في البلدان النامية لا تتجاوز غالباً 30% من معدلات الأجور في البلدان الأكثر ثراءً لنفس نوع العمل». فمثلا، يبلغ متوسط الدخل في معظم أنحاء العالم حوالي 2.5 دولار في اليوم، بينما متوسط الدخل اليومي للعاملين وغير العاملين في الولايات المتحدة فوق الـ 15 عامًا هو 119 دولارًا. وتقول إنه في الدول الفقيرة يموت خمس الأطفال دون الخامسة، ويعيش الملايين حياة غير آدمية، مع تزايد الفقراء والمعدمين بأعداد هائلة مكونين مجموعات ضخمة مما سماه كارل ماركس «جيش الاحتياطي الصناعي»، الذين يستغلهم الرأسماليون لخفض الأجور إلى مستويات تقترب من الكفاف أو أقل، ص 18-27. وتضيف هايتر: إن التفاوت الفادح الذي يميز عالمنا ليس طبيعياً، وإن تطور الدول الأوروبية وغيرها من دول العالم الأول مبني مباشرة على تخلف العالم الثالث، شارحة الأصول التاريخية للفجوة المهولة بين الغرب وبقية العالم والمبررات الواهية لها. تقول هايتر: إن الطفرة التي شهدتها أوروبا بدأت قبل خمسة قرون، ونتجت عن الغزو الأوروبي للعالم، وامتلاء خزائنها نتيجة النهب واستعباد البشر، والقرصنة في «العالم الجديد». وتؤكد أن الكثير مما سُجل على أنه «تجارة حرة» كان في الواقع «سرقة ونهبا». كما أن تقدم أوروبا بُني على افتراضات عنصرية وإمبريالية شوفينية، مثل خرافة التفوق الطبيعي للأوروبيين، التي كان من أبرز منظريها إيمانول كانط، بزعم أن الطقس الحار يجعل الإنسان غير الأوروبي كسولًا، وذلك لتبرير ما سموه «عبء الرجل الأبيض»، ص30-35. الآن ، يجدر الأخذ في الاعتبار أن كثيرا من قساوسة وفلاسفة الغرب بداية من أرسطو وحتى جون لوك وفولتير، ومن تلاهما، كانت لهم آراء تقنن العنصرية وتؤيد استعباد البشر، ونهب ثروات الآخرين، وأنهم سعّروا الحروب من أجل ذلك- بل إن لوك وفولتير، مثلا، كانا من المستثمرين في تجارة الرق. فباعتبار ذلك يصبح من المنطقي أكثر القول إن رأس حكمتهم وفلسفتهم لم تكن «أنا أفكر إذن أنا موجود» كما قال ديكارت، ولكن أنا «أسرق إذن أنا موجود». ولو وضعنا أي فعل يدل على الشذوذ والإجرام مكان «أسرق» فستظل الجملة مفيدة أيضا . ولو أن هناك أي مدلول إيجابي لكلمة حضارة، فيجب أن يوصف ما أفرزه الغرب على مدى القرون الماضية بأنه «عكس الحضارة»، فقد أوقفوا مسيرة الحضارة الحقيقية، حضارة الإسلام، وسرقوا أهم منجزاتها وتراثها، ليزرعوا مكانها «حضارة الشيطان» التي تتجسد يوما بعد يوم، انحلالا وشذوذا تجلى بوضوح في افتتاح دورة الألعاب الأوليمبية في باريس أخيرا . وتتجلى أيضا إجراما وإرهابا في ممارسة «عولمة الإرهاب» باغتيال الشهيد إسماعيل هنية، عبر الحدود، في طهران. فاليد التي ترسم لوحات الشذوذ هي ذاتها التي تريق دماء الأبرياء هنا وهناك. كما يؤكد ذلك وجود علاقة بين هؤلاء الفلاسفة ورجال الدين، وذرياتهم المتلاحقة، وبين أعداء الإنسانية أشرت إليها من قبل، وسيأتي تفصيلها لاحقا.
783
| 07 أغسطس 2024
لسنوات طويلة وعندما كنت أسمع أن أمريكا من أكبر دول العالم مديونية كنت أتعجب كثيرا؛ كيف تكون أغنى دولة في العالم مدينة، ولمن؟ أليست هي الأغنى، وتقدم «المساعدات» للدول الفقيرة! لكن كثيرا من الحقائق التي أظهرتها كتب ووثائق كُشف عنها النقاب، وكثيرا أيضا من الاعترافات والتسريبات، التي ظهرت تباعا، أزال الغموض وأكد نظريات كانت توصف سابقا بأنها إما متطرفة أو «مؤامرة». ولو تأملنا قليلا فكرة أن كل الدول مدينة -ديون حكومات دول العالم وصلت، وفق تقارير أممية، إلى 91 تريليون دولار، وهو مبلغ يقارب حجم الاقتصاد العالمي بأكمله- فسندرك أن صاحب الدَين لا شك أغنى وأقوى منها، وإلا فما ضمانة ديونه؟ وهذا يستدعي مقولة «لا تهمني الدمية التي تجلس على عرش بريطانيا إذا كنت أنا من يصنع النقود»، وهذه واحدة من مقولات عدة بهذا المعنى منسوبة إلى زعماء عائلة روتشيلد، التي تحدث عنها وليام جاي كار الكاتب الكندي في كتابه التاريخي «أحجار على رقعة الشطرنج»،1955، والذي يشرح كيف سيطر هؤلاء على صناعة المال في أوروبا وانجلترا خاصة، ص 66-70. وقد غادر كار هذا العالم بعد إصداره كُتُبا مماثلة في فضح جرائم أعداء الإنسانية كان آخرها «الشيطان أمير هذا العالم» 1959، إذ وجد مقتولا في ظروف غامضة بعد صدوره بشهور. ولأن أعداء الإنسانية، وفي إطار صناعة الكفر، يديرون صناعة الفقر، وصناعة المرض، وصناعة الجهل، وصناعة الوهم، إلخ..، للوصول إلى الهدف النهائي وهو إنهاء عبادة الله في الأرض، فسيكون من الطبيعي أن يتداخل حديثنا عن كل صناعة من تلك الصناعات الشيطانية في بعض المفاصل والسرديات. ونبقى مع صناعة الفقر، ولكن في مفصل من أخطر مفاصلها، وهو التغرير بالمرأة التي بإفساد طبيعتها ضربوا عصافير كثيرة؛ في صناعة الفقر، بإخراجها لسوق العمل واستخدامها ذريعة لخفض أجور الرجال، وفي صناعة الفساد والانحلال، بإقناعها بالتعري وتحويلها هي ذاتها إلى سلعة تباع وتشترى، بداية من الدعارة إلى الإعلانات التجارية، وفي صناعة الهدم المنظم للمجتمع، بشغلها عن وظيفتها المقدسة التي خصها الله بها، وهي إنتاج الذرية ورعاية النشء. لقد ضربوا نصف المجتمع «الرجل» بنصفه الآخر «المرأة»، وجعلوهما في حرب مفتوحة، رغم أنف الجانبين. وهم لم يكتفوا بالخروج الجزئي للمرأة للعمل بفعل الثورة الصناعية وتداعياتها، ولا بفعل نقص الأيدي العاملة بفعل الحربين العالميتين، فروجوا ما سموه «حركة تحرير المرأة» التي ظلت تتصاعد وتتأجج لتشهد زخما كبيرا خلال ستينيات وسبعينيات القرن الـ20. وللمخرج الأمريكي إيرون روسو تصريحات تؤكد استغلالهم للنساء في صناعة الفقر والفساد والكفر، أساسها معلومات أسرّ بها له نيكولاس روكفلر أحد أقطاب العائلات الـ13 التي تحاول السيطرة على العالم. يقول روسو إن روكفلر أفصح له عن أن تلك العائلات كانت وراء شعار «تحرير المرأة» الزائف لإخراج المرأة من البيت. ويضيف روسو تفصيل تلك الخطة الشيطانية في قول روكفلر: «نحن كنا وراء إخراج المرأة للعمل لإيجاد أيد عاملة بأجور أرخص، ولجعلها، وهي نصف المجتمع، تدفع ضريبة عن دخلها، ثم تفكيك الأسرة بإرسال الأطفال إلى دور الرعاية والمدارس التي نتحكم فيها ونلقن من خلالها الأطفال ما نريد». روسو التقى روكفلر قبيل هجمات 11 سبتمبر 2001، التي ذكر أنها كانت إحدى مكائد آل روكفلر، وأفشى بتلك المعلومات للصحفي الأمريكي أليكس جونز، أوائل العام 2007، و»توفي» في أغسطس من نفس العام، بعدما زُرع في جسمه السرطان، كما فُعل برئيس فنزويلا السابق هوجو شافيز، وهذا أيضا مما ألمح إليه روكفلر خلال ذلك اللقاء. وتحدث روسو أيضا عن الصحفية الأمريكية اليهودية غلوريا شتاينيم التي كانت، وما تزال، رأس حربة القوى الخفية بقيادة آل روكفلر، في تعميم إخراج المرأة من البيت. وقد كشفت شتاينيم في كتاب لها بعنوان «ما وراء الكلمات»، عن علاقتها بال»سي آي إيه»، وأنهم مولوها لإصدار مجلة باسم (MS Magazine) «مجلة السيدة»، كانت مهمتها المحددة تفتيت الأسرة وتحريض المرأة على استباحة الإجهاض والخروج للعمل لتعميم فرض الضرائب عليهن. وهي وإن حاولت نفي ذلك الاعتراف لاحقا، بتفسيرات ومراوغات، فقد أكده الصحفي الأمريكي جون لوفتون مشيرا إلى تصريحات لشتاينيم بذات المعنى في الواشنطن بوست ونيويورك تايمز في فبراير عام 1967. وأحسب أن البشرية لم تصب مصابا جللا في عمومها كمصابها بإخراج المرأة من بيتها وتعريتها، ثم استخدامها في تدمير المجتمع بحجة تحريرها وحمايتها من الرجل. فلم تكن القوانين التي صنعوها من أجل ذلك إلا للإمعان في تدمير النسيج المجتمعي وتخريب العلاقات الإنسانية. خذ مثلا، قوانين الطلاق التي أعطت المرأة حق الاستيلاء على نصف ما يملك الزوج حال الطلاق حتى ولو لم يستمر الزواج إلا شهورا معدودة. وقد أدى ذلك إلى عزوف الرجال عن الزواج الرسمي وتفضيل العلاقات غير الشرعية ما سبب انتشار الجرائم والفساد واختلاط الأنساب، وتشوه المجتمع، مع الإفراط في إدمان كل أنواع المحرمات، واطراد ازدياد الفقر. لكن ما سُمي تحرير المرأة لم يكن إلا وهما بحسب كثيرين من بينهم الكاتبة سيلفيا آن هيوليت. ففي كتابها «حياة أقل شأناً: أسطورة تحرير المرأة في أميركا»، 1986. تقول سيلفيا إن تحرير المرأة لم يكن إلا وهماً، ولم يحررها إلا من ضوابط ممارسة الجنس ومن العقيدة، ولم يكن هدفه إلا هدم الأسرة. لذلك تحضر هنا مقولة الفرنسيين «ابحث عن المرأة»، التي يبدو أن أعداء الإنسانية نفذوها بطريقتهم الخاصة في طريق صناعتهم للكفر ولكل وسائل السيطرة على البشرية. وكما وسوس الشيطان لآدم وحواء فأخرجهما من الجنة، وسوس لها هؤلاء ليخرجوها من «بيتها».
996
| 31 يوليو 2024
مازلنا مع تفاصيل صناعة الفقر كَمُكَون أساسي من مكونات صناعة الكفر. تحدثنا في المقال السابق عن بعض أهم الأساليب الكلية التي يتبعها أعداء الإنسانية في تنفيذ مخططاتهم تلك. واليوم نكمل مع بعض أهم الأساليب الجزئية لصناعة الفقر، ومنها «البورصة»، والمضاربات المالية، وما يسمى (Speculators) أي المضاربين الذين يشعلون حروب العملات فيهاجمون عملة دولة ما فتنهار بين ليلة وضحاها. وكان من أكبر مجرمي هذه العملية الملياردير الراحل جورج سوروس الذي ركّع بنك انجلترا في حادثة معروفة. هؤلاء الذين وضع أساس وجودهم على ساحة الاقتصاد العالمي، الولايات المتحدة، ومَن وراءها، خلال الحرب العالمية الثانية، عندما كانوا يجهزون خططهم المالية والتنفيذية لحكم العالم بعد انتهاء الحرب. وفي هذا قصة معبرة عن خطورة المضاربة في العملات، نقدم لها باستنتاج مهم مفاده أن حكام العالم الفعليين، ومع اقتراب نهاية الحرب الثانية، كانوا قد قرروا نقل مقر حكمهم المؤقت للعالم من بريطانيا إلى الولايات المتحدة، التي كانت تتبلور وقتها كأكبر قوة على الساحة العالمية، ومعهم انتقلت كل مراكز الثقل المالي والأكاديمي والفني، إلخ..، من ضفة الأطلسي الشرقية إلى ضفته الغربية. ونعود إلى قصة المضاربات ونلخصها بأنه في يوليو 1944، اجتمعت القوى الكبرى لوضع أسس المؤسسات التي ستُستخدم لتقنين حكم العالم وابتزاز دوله ونهب ثرواتها بعد الحرب. كان ذلك في بلدة «بريتون وودز» بولاية نيوهامبشاير الأمريكية. حينها تصادم ممثل بريطانيا (القوة العظمى الغابرة) في الاجتماع وهو الخبير الاقتصادي الكبير جون مينارد كينيز مع ممثل الولايات المتحدة هاري ديكستر وايت بشأن عدد من الإجراءات التي كان من شأنها تحقيق قدر من التوازن بين الدول وحفظ حقوق الدول الأقل تقدما. وقتها حذر كينيز من أن غياب تلك الإجراءات «سيزيل السلطة من المسؤولين المنتخبين ويضعها في أيدي المستثمرين الأثرياء»، ويجعل الحكومات «رهينة» لتقلبات السوق، ويحول الاقتصاد العالمي إلى «كازينو قمار»، وهو ما حدث بالفعل، (مرشد العولمة ص 73،99،114). حينها اقترح كينيز إنشاء (Clearing Bank)، بنك مقاصة ليكون بمنزلة بنك مركزي عالمي يُمكِّن الدول من إتمام تعاملاتها التجارية بعملاتها المحلية دون الحاجة لعملة حاكمة تقاس إليها قيمة بقية العملات، والتي ستصبح الدولار الأمريكي لاحقا. وقد أحبط المندوب الأمريكي مقترحات كينيز. كما تم لاحقا إحباط مقترحات أخرى منها ما يسمى «توبين تاكس» (Tobin Tax)، وكان من شأنها تثبيت أسعار العملات والسيطرة على جشع المضاربين، بفرضها على عمليات المضاربة. وبإحباط تلك المقترحات اكتملت «الجريمة»، التي طُبخت على نار هادئة، وتحقق لأعداء الإنسانية ما أرادوا، ومهدوا الساحة لاستغلال المجرمين، ما سبَّبَ كوارث اقتصادية «متعمدة» كثيرة منذئذ، منها أزمة النمور الآسيوية ومنها الضربات التي تتعرض لها العملة التركية بين الحين والآخر، مثالا لا حصرًا. ويذكر كتاب (Dirty Dealing)، «الصفقات القذرة»، لمؤلفه بيتر ليللي، ص 109، أن السناتور كارل ليفين أعد في العام 2002 تقريرا رصد فيه خطورة ظاهرة شركات المضاربة وانضواء كل أنواع المجرمين تحتها من تجار مخدرات ودعارة وحتى سياسيين. وهناك أيضا ما يعرف باسم (Hedge Funds) أي «صناديق التحوط» وهي باختصار، وبحسب دراسة لباتريك كيلي وآخرين،2014، صناديق استثمارية ظهرت بُعيد الحرب، أعمالها محاطة بسرية تامة، قد لا تتيح حتى للمستثمرين أنفسهم معرفة طبيعة استثماراتها. ويكفي أن نعرف أن هناك الآلاف من تلك الصناديق في أنحاء العالم، ما يجعل المستثمر الطبيعي كمنافس يبدو كمن يحارب منافسا أو عدوا لا يراه، تماما مثل الشيطان الذي يحاربنا هو وقبيله من حيث لا نراهم. ويكفي أيضا لتوضيح خطورة تلك الصناديق أن نعرف أن شركة «بلاك روك» وهي إحدى الشركات التي تتحكم في جزء كبير من الاقتصاد العالمي تمتلك عددا كبيرا من تلك الصناديق. وتحت مظلة صناديق التحوط تنضوي معظم عمليات تهريب الأموال والحسابات السرية (سويسرا) والملاذات الآمنة (دول وجزر المحيط الهادي)، وأمور أخرى خطيرة، منها كروت الائتمان «مجهولة الهوية». وهناك نظام التأمين (Insurance) الذي يقوم عليه جزء كبير من الاقتصاد في أغلب دول الغرب والذي يعتبره كثيرون في كندا مثلا «أكبر عملية سرقة مقننة على وجه الأرض»، كونها عملية تفرضها الحكومات وتحميها القوانين، وتحقق أرباحا بمئات المليارات لشركات أعداء الإنسانية «الخاصة»، ولا يستفيد منها الجمهور إلا لماماً، مع أنها تخالف الشرائع السوية، في عملية مشابهة بدرجة كبيرة للإتاوات التي كان يفرضها البلطجية على الناس قديما. هناك أيضا وسيلة أخرى لصناعة الفقر لا تقل شيطانية وإجراما عن ما سبق ألا وهي حساب العمل بالساعات بدلا من الراتب الشهري، وهو ما يحرم العامل أو الموظف من كثير من الحقوق والامتيازات تبدأ من أن الساعة التي لا يعمل فيها لا يؤجر عليها، ولا تنتهي عند حرمانه من حق الإجازة السنوية المدفوعة، ومن الرعاية الطبية ومن مكافأة نهاية الخدمة المعمول بها في أي نظام توظيف إنساني عادل. وهذا يُذكِّر بتاجر البندقية، فما كان يقتطعه ذاك التاجر من جسد المدين بلا حق، يقتطعه هؤلاء، إربا إربا، من وقت الملايين بدم بارد، فلا يعدو ذلك إلا أن يكون «ربا الوقت»، وهو ما يندرج تحت ما سماه ماركس بالفعل «فائض القيمة». وخلاصة ذلك أن النظام المالي الذي يحكم العالم منذ الحرب الثانية وللآن، ولد فاسدا ومتحيزا «مع سبق الإصرار والترصد»، تحقيقا لصناعة الفقر. لكن الأخطر في صناعة الفقر ما هو قادم لا قدر الله،،، وهو تحويل كل الثروات في العالم إلى عملات معدنية بهدف تحويل أموال كل إنسان بل هو ذاته إلى «معسكر اعتقال رقمي» يتم التحكم فيه عن بعد.
702
| 24 يوليو 2024
تخيل لو أن الشيطان يخطط لمستقبلك. كيف سيكون شكله؟ النار والدمار وخراب الديار.. أليس كذلك؟ للأسف، هذا ليس خيالا. إنه الواقع. فما يزال الشيطان يعد الناس الفقر عن طريق أوليائه من أعداء الإنسانية وهم يصنعونه للبشر، بأساليب كلية وأخرى جزئية. تحدثنا سابقا عن العائلات المعدودة التي تتحكم في الاقتصاد العالمي، وعدد شركاتها التي تسيطر على التجارة العالمية. واليوم نتناول عددا من الأساليب الكلية في تنفيذ مخططات أعداء الإنسانية لتقنين الفقر وفرضه على الشعوب. تبلور ذلك مع تأسيس البنوك، وتشمل المؤسسات المالية الدولية، وهناك مقولة مشهورة مفادها «إنه ليس أسوأ من جريمة سرقة بنك إلا جريمة تأسيسه». فمع تأسيس البنوك وترسُخ عملها فُتح الباب لأعداء الإنسانية للتحكم في ثروات البشر وتوجيهها في الاتجاه الذي يريدون حتى ولو لم يمتلكوها ملكية مباشرة. وهناك دراسات كثيرة حول خدعة البنوك وأثرها الشيطاني في صناعة الفقر وتكبيل وإخضاع الحكومات والشعوب بالديون، ومنها سلسلة وثائقيات بالغة الأهمية من إنتاج «مركز دراسات الواقع والتاريخ». ومما يذكر في هذا الصدد ما كشفه لي د. ريتشارد سطبظ (R.Stubbs) مؤسس مدرسة الاقتصاد السياسي البريطانية، من أن الأمريكيين، (ومن يتخفون وراءهم)، استخدموا أموال بعض دول الخليج، المتراكمة في بنوكهم، من أرباح النفط، في السبعينات والثمانينات، للقيام بأعمال تخريبية في أرجاء العالم وخاصة أمريكا اللاتينية مثل التحريض على الانقلابات وإزالة الحكومات وشراء الاحتكارات. وفي كتاب «اعترافات قاتل اقتصادي» لجون بيركنز، في طبعتيه الأولى والثانية (2005، 2016)، تفاصيل حقيقية لمثل تلك العمليات، كونه كان أحد منفذيها. وهو ما واصل كشفه في كتاب آخر بعنوان «التاريخ السري للإمبراطورية الأمريكية، 2007». أسلوب آخر ساهم في وصول عبدة الشيطان إلى التحكم في كل شيء في الأرض تقريبا هو ما سموه الاستثمار الأجنبي المباشر (FDI)، والخصخصة، أي إلغاء دور الحكومات والاعتماد على «القطاع الخاص» الذي تتخفى وراءه شركاتهم ووكلاؤهم. وقد بدأوا يزيحون «قناع ماركس» عن وجوههم تدريجيا حينما شعروا بأن قبضتهم على العالم قد اقتربت من الإحكام وفق اعتراف الحاخام روبنشتاين الذي سنحتاج للتذكير بخطابه الخطير كثيرا. ومن بين الشعارات التي روجوها لتنفيذ ذلك ما سموه (do more with less) أي «حقق الأكثر بالأقل»، أي تقليل الدور الحكومي لصالحهم. وقد تمكنوا من ترسيخ ذلك وترويجه من خلال العلوم السياسية التي باتت حقا عقيدتهم الأسمى ودينهم الجديد. ولأنهم سيطروا على معظم مناطق العالم من قبل فقد غزوا تلك المناطق جميعا، ومنها دول الشرق الأوسط، بتلك الأفكار التي استباحت ولاتزال المؤسسات العامة في معظم الدول، عن طريق شرائها بأسعار بَخْسة لا تساوي فُتات قيمتها الحقيقية، وبشروط تجعل كل الخسائر على الشعوب وكل المكاسب لهم. وبالطبع كان لذلك تداعياته الخطيرة ومنها استئثارهم بالثروات الحقيقية حيث باتت معظم الأرباح تعود إليهم هم وليس للشعوب والحكومات التي باتت كلها مدينة لهم بما فيها الحكومة الأمريكية! كما سبب ذلك استئثارهم بما هو أهم وأخطر كثيرا وهو التخطيط لمستقبل الشعوب وكل ما يتعلق بحياتها، عمرانيا وتعليميا وصحيا وغذائيا واجتماعيا وعقائديا، إلخ. وماذا ينتظر الإنسان السوي من الشيطان وعبدته عندما يصبحون هم المخططين لمستقبل البشرية سوى التخطيط بعيدا عن الرخاء والتقدم، وبعيدا عن السكينة والإيمان من جانب، وأيضا التخطيط للهلاك والدمار من جانب آخر، من خلال توجيه العلوم والتكنولوجيا لنشر الفساد والأمراض وعدم انتاج الأدوية الناجعة ولكن التي تُبقي المرض، وإفساد التعليم والغذاء والماء والهواء، في وقت يحاربون فيه كل اكتشاف علمي مفيد ونافع بحق. ولعل مكيدة كورونا تقدم مثالا واضحا على ذلك. أسلوب آخر سموه الاستحواذ والاندماج، Mergers and acquisitions. فبعد أن يشتروا مجموعة كبيرة من الشركات يعلنون الاندماج بينها لتكوين شركة واحدة كبيرة، ثم تستحوذ تلك الشركة على شركات أخرى كبيرة مثلها أو أصغر حجما، وهكذا. وبهذا يحدث الاحتكار، المنهي عنه في أسس النظام الديمقراطي المفترض، أمام الجميع وبتشريع ومباركة «كنائسهم ومعابدهم» المستحدثة وهي الجامعات ومراكز البحوث كما أشرنا من قبل. ومع الاحتكار يأتي كل الخراب، فيأتي رفع الأسعار بلا منطق، كما يأتي خفض الأجور بإجحاف، لأن من يحتكر الانتاج يحتكر التشغيل في آن معا. كما تتلاشى الديمقراطية والعدالة لأنه مع الخصخصة والاحتكار تتلاشى المحاسبة، فالشركات لا تتحمل أي مسؤولية مباشرة أمام الشعوب. ومما كُتب في التحذير من هذه الخدعة مقال لإدوارد هيرمان وريتشارد دو بوف، بعنوان «الاندماج والاستحواذ وتآكل الديمقراطية»، ذكرا فيه أنه في العام 1999، أي قبل ربع قرن، كانت نسبة استحواذ الشركات الكبرى تصل إلى ثلث قيمة الاقتصاد الأمريكي. ومنذ سادت عمليات الاستحواذ تلك وتعاظم الاحتكار زادت عمليات الغلاء وانهيار الخدمات وإغلاق المدارس وتقليل عدد المشافي والأطباء، وتقليل الإنفاق على البنى التحتية. ويرتبط مباشرة بمسألة الاندماج والاستحواذ خدعة أخرى هي من الأسباب المهمة في إدامة الفقر على الفقراء والغنى على الأغنياء، سموها نظام «الفرانشايز» (Franshising) أو حق منح الامتياز، أي امتلاك غير كامل من الباطن، بمعنى أنهم ينشئون الشركات، التي تسيطر على كل القطاعات، ثم يعطون من يريد الاستثمار حق استخدام اسم تلك الشركات وإدارتها وليس ملكيتها، مقابل أن يدفع لهم نسبا كبيرة من الأرباح وأشياء أخرى من أهمها أنه لا يستطيع اتخاذ أي قرار مستقل في إدارة الامتياز الممنوح له، وهكذا. وقد سيطروا بذلك على أغلب قطاعات سوق الخدمات والتصنيع وكل شيء. وكما ذكرت سابقا مكنهم ذلك من السيطرة على الأرباح الكبرى ورأس المال والأهم على التخطيط والتوجيه لمستقبلنا!.
975
| 17 يوليو 2024
ظن الناس لفترات طويلة، وخاصة أواخر القرن العشرين، أنه كلما تقدم الزمن تقدمت الحضارة الإنسانية وتحسنت حال الحريات في العالم وانقرضت الأمراض وتراجع الظلم والاستبداد، وعاش الناس حياة الرفاه وتحققت لهم «المدينة الفاضلة» التي تصورها ما يسمى فلاسفة أوروبا، قبح الله وجهها، بتعبير إمامنا الغزالي، والذين شوهوا الفكر الإنساني منذ ظهورهم على مسرح التاريخ. لكن الذي حدث وشاهدناه يترسخ يوما بعد يوم، وخاصة خلال العقود الأخيرة، هو أنه كلما ازدادت الحياة تقدما وتطورت الصناعات التكنولوجيا زادت معاناة البشر وتأصل استعبادُهم، وتوسعت مصادرة حرياتهم، وزادت عمليات إفقارهم عن طريق المبالغة في الغلاء وتقليص الخدمات، وأصبحت الأمراض والأوبئة أكثر خطورة وتكرارا، بل أصبحت سلاحا يهدد أعداءُ الإنسانية به البشر بطرق مباشرة وغير مباشرة. وقد باتت عمليات صناعة الفقر والمرض والتفاهة والانحلال والعنت بكل أنواعه، وكلها مفردات في صناعة الكفر، باتت أكثر وضوحا من سطوع الشمس، لكن انشغال الناس بمتاعبهم المالية المتواصلة، وأمراضهم المزمنة المصطنعة ومشاكلهم التي لا تتوقف، لأن هناك من يصنعها لهم، تجعلهم لا ينتبهون لكل ما يدور حولهم، وتلك غاية صُناع الكفر. فكيف يصنع هؤلاء الكفر إذن؟ لنأخذ مثلا صناعة الفقر،،، في الوقت الذي كان أعداء الإنسانية يستعدون، انطلاقا من أوروبا، لاستباحة ثروات العالم، بعد سقوط دولة الإسلام في الأندلس، كانت بقية العالم، تستعد بدورها للسقوط القسري، تدريجيا، في مستنقعات الظلام والجهل ومن ثم الفقر. ولا جدال في أن الفقر مكتوب على البشر أو بعضهم في فترات من حياتهم كل حسب قَدَرِه. لكن الفقر في هذا العصر، هو أيضا كيد بشري وصناعة شيطانية أحكمها أعداء الإنسانية على رقاب البشر، منذئذ، ضمن قدر الله. في عصور سيادة الحكم الإسلامي الصحيح وقعت الشدائد لفترات قصيرة ومنها عام الرمادة. وكان بعض أثرياء المسلمين يواجهونها بتقديم كل أموالهم حتى تنقضي. لكن أيضا فاض المال والخير حتى نثر عمال الخليفة الخامس عمر بن عبدالعزيز الحبوب على رؤوس الجبال والقصة معروفة بتفاصيلها. وفي عهد هارون الرشيد خاطب الخليفة السحابة أن انزلي هنا أو لا تنزلي فسيأتيني خراجك. وهذه القصة أيضا معروفة ونظم فيها محمود غنيم رائعته «مالي وللنجم» التي تلخص قصة الأمة وأبدع النقشبندي إنشادها وفيها: أين الرشيدُ وقد طاف الغمامُ به.. فحين جاوز بغدادًا تحداهُ. لقد عمل أعداء الإنسانية، الذين لم ولن يوقفوا حربهم على الأمة، على تعميق وتعميم الفقر بطرق منظمة جعلتهم يتحكمون في مصادر الثروة وتوزيعها وحجبها!. وكانت لهم في ذلك أساليب عدة بعضها دائم وبعضها مزمن. فكان هناك احتلال الدول ونهب ثرواتها، وإلى الآن. ومع إحكام قبضتهم على الاقتصاد العالمي بدأت سياسات التسعير الظالمة للسلع والخدمات، والمبالغة في تقليل الأجور، بدرجة تجعلهم يحققون أرباحا بالمليارات، بينما الأغلبية تجد تكاليف الحياة بالكاد، وتفتك بهم المجاعات. ومع احتكارهم لمعظم النشاطات البشرية بما فيها الأكاديميا ابتدعوا ما سموه الأزمات الاقتصادية وزعموا حتمية حدوثها بين الحين والحين. وفي كتاب المرشد الخالي من الهراء للعولمة، ص 83و84، مثال يتناول أزمة النمور الأسيوية أواخر التسعينات، يؤكد مسألة افتعال تلك الأزمات. في البدايات كانت وتيرة الأزمات بطيئة ومتباعدة ثم تسارع معدل تكرارها. وكلما تسارعت وتيرة الأزمات الاقتصادية زاد الفقراء فقرا وزاد الأغنياء غنى وزاد البعد عن الدين والوقوع في الكفر، مع أن مؤلفات عدة وضعت في نفي حتمية هذه الأزمات واستدامة الفقر والندرة والشح، منها كتاب «أمراض الفقر» تأليف دكتور فيليب عطية، 1991. ومن الأفكار الشيطانية التي روجوها على أنها مسائل أكاديمية، لمفكرين أضفوا عليهم صفات كاذبة من العظمة والتقديس، ما تسمى نظرية مالتوس عن السكان، (1798)، وهي كافية لإلقاء الضوء على تلك العقلية الشيطانية التي أسست وروجت لصناعة الفقر، هي وكل ما يتعلق بها من جرائم فكرية وضعية مثل «الداروينية» و»تحسين النسل»، وهي أيضا توضح الفارق بين الوحي الإلهي والفكر الوضعي الشيطاني. فبينما يؤكد الخالق سبحانه وتعالى أنه يضمن أرزاق كل ما خلق من إنسان وغيره، -وقدر فيهار أقواتها، فُصلت 10- تأتي نظرية مالتوس، (سُميت الكارثة المالتوسية)، والذي زعم إن موارد الأرض لا تكفي الجميع، ودعا لتقليل عدد السكان وتقليل أجور العمال لمنعهم من الزواج المبكر، وهو ما استخدمه المجرمون مبررا لعلميات إبادة مئات الملايين من البشر في الأمريكتين واستراليا والاتحاد السوفيتي والصين وإفريقيا، وغيرها. وقد كان يحاكي في ذلك أفكارا توراتية، وربما أوحي بها له الشيطان مباشرة. فقد شهد شاهد من المنشقين عن الماسونية يدعى جورج مورنو بمعلومات عن أن داروين تعلم نظريته عن أصل الأنواع مباشرة من الشيطان الرجيم، «وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم»،الأنعام121. المدقق فيما سبق، سيتيقن من أن تقدم الزمان لا يعني بالضرورة تقدم الحضارة بل ربما يعني زيادة تخلفها وسيرها في الاتجاه المعاكس، (الذين كانوا من قبلهم كانوا هم أشد منهم قوة وآثارا في الأرض) - غافر21، وليس ذلك إلا لأن من يمسكون بزمام الاقتصاد والعلوم في العالم لا يهدفون إلى رقي البشرية وتحضرها وإنما إلى محاربة الله ودينه في إطار صناعة الكفر التي يديرون «مصانعها» في كل مكان، وبكل الطرق، لإفساد الدين والقضاء على الأخلاق. وربما يتفق ذلك مع ما قاله أينشتاين من أنه لا يعرف كيف ستخاض الحرب العالمية الثالثة، لكن الحرب الرابعة ستخاض بالعصي والحجارة، لأن الحرب الثالثة ستقوم بين بشر فقدوا كل ما يتعلق بالاخلاق، وهو ما كشفت عنه كلمة الحاخام إيمانول روبينشتابن التي أشرنا إليه سابقا، ولعله اطلع عليها.
906
| 10 يوليو 2024
تزعم مصادر التاريخ، المشوه عن عمد، أن ما تُسمى الحملات الصليبية على الأراضي الإسلامية انتهت عام 1291م بعدما استمرت لنحو قرنين، وبلغ عددها ثماني حملات، بدأ أولها عام 1096. فهل كانت فعلا «صليبية»؟ وهل بدأت وانتهت في التاريخين المذكورين؟ لقد كتب كثيرون من قبل في الإجابة عن سؤال «هل انتهت الحروب الصليبية؟». ورأى كثيرون، وهو ما أتفق معه بالكلية، أنها لم تنته على الإطلاق. لذلك أحسب أن هناك حاجة لدراسة أكثر عمقا حول الطبيعة الحقيقية لتلك الهجمات البربرية الشيطانية والأسباب الفعلية وراءها، ولماذا هي مستمرة ولم تنته. لقد اقتضت حكمة الله في خلقه أن تتطور الحياة على هذا النسق الذي نراه بكل ما فيه من مظالم وجرائم يرتكبها أعداء الإنسانية، «لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ». ولذلك تعاقبت القرون حتى جاءت الدولة الإسلامية فأخذت وقتها ثم ضعفت وذهبت ريحها. كما ظهرت الإمبراطورية البريطانية» (Pax Britanica) «باكس بريتانيكا». وكلمة باكس هي إضافة يُقصد بها استتباب السلام في العالم بفضل سيادة القوة المضافة إليها الكلمة. ثم تفككت باكس بريتانيكا وأخلت موقعها الإمبراطورية الأمريكية، (Pax Americana) أو «باكس أمريكانا» التي يخطط أعداء الإنسانية، منذ زمن، لكي يعلنوا زوالها، لتحل محلها الإمبراطورية اليهودية، (Pax Judacia)، أو «باكس يهودا»، والتي لن تقتصر حدودها على ما يسمى إسرائيل الكبرى حسبما يروجون، ولكنها تستهدف بسط نفوذها على الكوكب كله، وسيكون هذا هو التطبيق الحرفي لما يسمى الحكومة العالمية والنظام العالمي الجديد، والذي يبشرون به منذ فترة طويلة من خلال كتابات منها كتاب (The New World Order)، أو النظام العالمي الجديد (1991)، ومسلسلات وأفلام هوليودية شيطانية، من بينها فيلم (Revelation:Dawn of Global Government)، أو (الوحي: فجر الحكومة العالمية)، وغيره كثير. وأيضا من خلال طروحات سياسية مثل (Global Reset)، «إعادة ضبط العالم»، وتحدثنا عنه سابقا. كل ذلك تحت شعار(الحكومة التي ستنشر الرخاء والسلام في العالم الذي بات يحتاج لرأس واحدة تدبر شؤونه بعدما تشابكت وتداخلت المصالح في كل أنحاء الكوكب)، بحسب زعمهم. هنا نُذكّر سريعا بما وثقناه من قبل من أن أعداء الإنسانية من أسلاف وأحفاد ابن سبأ يعملون في خدمة الشيطان منذ أن خلقهم الله، ولذلك كان منهم قتل الأنبياء وهدم الإمبراطوريات وتشويه وتحريف الأديان، وأمور أخرى، هي من صميم حرب الشيطان على الإنسان، وهي من أسس صناعة الكفر، سنواصل تفصيلها لاحقا. ونذكِّر بأن بولس الرسول وهو شخصية رئيسية في العقيدة المسيحية، كان يهوديا تحول إلى المسيحية لهدمها من الداخل. وليس مفاجئا أن نضيف الآن أن البابا أوربان الثاني الذي كان وراء ما سُمي زورا بالحملات الصليبية، كان يهوديا من عائلة البيرليوني، التي عاثت فسادا في كنائس أوروبا في العصور الوسطى، بحسب باحثين بينهم د. علي الغامدي، ود. ريا السعدون. وهو أيضا ما ذكرته مصادر أجنبية منها كتاب «التأثير اليهودي في حركات الإصلاح المسيحية»- لويس نيومان. ومن المفيد هنا أن نذكر مقتطفا من خاتمة دراسة للدكتورة السعدون بعنوان «اليهود والاضطراب السياسي في روما.. تقول فيها (ويتبين أن الحروب الصليبية التي شنها المسيحيون (الغربيون) ضد المسلمين في الشرق كانت نتاج جهد يهودي بحت، كما يتبين إصرار اليهود على ارتقاء الكرسي الباباوي والمناصب الدينية المهمة، ليس في روما فقط بل في بعض الممالك الأخرى). وهي تؤكد أيضا ما سبق وأشرت إليه بشأن التأثير اليهودي على حركة الفلسفة في أوروبا ومن ثم على الشرق. يستفاد من ذلك أمران مهمان، أولهما أن من الخطأ الانخداع بتسمية تلك الحروب بالصليبية- فقد كان هدف أعداء الإنسانية منها خلق عداء دائم بين المسلمين والغرب- ووجوب تسميتها بالمسمى الصحيح وهو الحروب «الصهيوصليبية» أو بالأدق «الصهيوماسونية»، وثانيهما أنها لم تنته حتى اليوم ولن تنتهي حتى قيام الساعة. فالناظر بتمعن في حركة التاريخ سيرى أن الحملات «الصليبية» لم تتوقف ولم تنته وأنها كانت حملات صهيوماسونية من بدايتها. وقد فضح ذلك، بما لا يدع مجالا للشك، الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الابن عندما تحدث عن حرب صليبية على ما سماه «الإرهاب» بعد «مكيدة» 11 سبتمبر. فكل ما فات لم يكن إلا مراحل متتالية في عملية بناء باكس يهودا. ومن هذه الزاوية سيرى الباحث في «دين» أعداء الإنسانية، وهو العلوم السياسية، أن موجة إقامة «الدول القومية» بعد الحرب العالمية الثانية لم تكن إلا لتبرير ظهور الكيان الشيطاني كدولة على المسرح العالمي. والقول الفصل في ذلك نجده في كلمة ألقاها حاخام يدعى إيمانويل رابينوفيتش في لقاء خاص لمجلس حاخامات أوروبا في بودابست بالمجر، (12 يناير 1952)، وتم كشفها ضمن وثائق أفرجت عنها الاستخبارات الأمريكية بتاريخ 28-3-2003. يقول: «علينا أن نبذل كل ما في وسعنا لإشعال حرب عالمية ثالثة، لن تكون بعدها أديان. إن الهدف الذي سعينا لتحقيقه بدأب كبير على مدى 3 آلاف سنة أصبح الآن في متناول أيدينا. ولأن تحققه أصبح واضحا جدا فهذا يُلزمنا بمضاعفة جهودنا وحذرنا أيضا. أستطيع أن أعدكم أنه خلال سنوات سيكون كل يهودي ملكا وسيكون كل الأغيار عبيدا. وسيبدأ حكمنا العالمي باكس يهودا لعشرة آلاف عام». كانت هذه نظرة الباحث في حقائق التاريخ، أما الباحث في حقائق الإيمان فلابد أن يلحظ أن كل تلك المخططات كانت تسير بخطى حثيثة حتى ما قبل طوفان الأقصى، لكن ما بعد ذلك هو في علم الله وحده. ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين.
1503
| 03 يوليو 2024
هممتُ قبل سنين طويلة أن أكتب بحثاً بعنوان «عودة كونتا كينتي»، لكن تعاقب الأسفار والعمل الصحفي اليومي حال دون ذلك. غير أن طول التأجيل لم يُنسني تلك الملحوظة التي كتبتها على قصاصة صغيرة آنذاك. وقتها كنت مازلت مخدوعا مثل كثيرين بشعارات الدول «المتقدمة» عن الحرية والديمقراطية والعدل والرفاه، إلخ. كان التساؤل الكبير لدي هو: ماذا لو أن كونتا كينتي عاد إلى الحياة في ذلك الوقت، مطلع الألفية الجديدة، ورأى أحفاده يتمتعون بالرخاء والديمقراطية في أمريكا، بينما نظراؤهم في إفريقيا مازالوا يعانون الفقر والمرض والعسف؟ وقبل الاسترسال لا بد أن ننعش ذاكرة القراء بأن كونتا كينتي هو الشخصية الرئيسية في رواية «جذور» التي صدرت عام 1976 لمؤلفها الأمريكي الإفريقي الأصل أليكس هيلي. وقد تم تجسيد أحداثها وأفكارها في مسلسل ضخم مشهور بنفس الاسم بعدها بسنوات قليلة. يحكي هيلي قصة جده (كونتا كينتي) الشاب المسلم الفتي الذي تم خطفه مع آخرين من غرب إفريقيا إلى أمريكا عام 1776، أي في عام إعلان استقلال أمريكا وقبل 200 عام بالضبط من صدور الرواية، وكيف حاول بكل قوة واستبسال الفكاك من الأسر والعبودية دون جدوى. ويُظهر حجم الآلام والمعاناة التي تعرض لها هؤلاء على أيدي لصوص البشر، تجار الرقيق، المجرمين الذين كان معظمهم من أعداء الإنسانية أحفاد بن سبأ، وذلك بحسب دراسات موثقة من بينها، كتاب البروفيسور توني مارتن، بكلية ويلسلي (ماساتشوستس)، «الهجوم اليهودي: برقيات من جبهة القتال في ويلسلي»، ويوثق أنه كان لليهود نشاط خاص في تجارة الرقيق عبر الأطلسي ويؤكد لعبهم دورًا بارزًا للغاية في استعباد الأفارقة في أوروبا والأمريكتين. الأمر نفسه أكده المؤرخ الأمريكي إيلاي إس فيبر المتوفى عام 2020، وكان رئيس تحرير مجلة التاريخ اليهودي الأمريكي. ومن المفارقات أن تأكيد مارتن أن اليهود كانوا وراء جزء كبير من استجلاب الرقيق من إفريقيا أيده العديد من العلماء اليهود أواسط القرن العشرين بحسب المؤرخ الأمريكي أيضا وينثروب جوردان في دراسة بعنوان «العبودية واليهود». نعود إلى كونتا كينتي وماذا لو عاد الآن.. هل كان سيندم على أنه قاوم العبودية والأسر بكل تلك الضراوة التي صورتها الرواية، لدرجة أن مالكه الأبيض قطع نصف قدمه اليمنى بالفأس حتى يتوقف عن الهرب، أم أنه كان سيظل معتزا فخورا بكفاحه ذاك؟ أعترف بأن الإجابة التي كانت في خاطري وقتها أنه كان حتما سيندم على كفاحه ضد العبودية وسيرحب بما آلت إليه أوضاع أحفاده وذريته في الغرب. لكن تلك الفكرة كانت قبل نحو ربع قرن، لم أكن قد فهمت وقتها أن البشر كلهم تحولوا تدريجيا إلى كونتا كينتي بدرجة أو أخرى، كما تحدثنا في المقال قبل الأخير. لم أكن أفهم وقتها أن الديمقراطية وهم كبير لا توجد معانيه الإيجابية إلا على الورق. وقد كُتبت في فكرة وهم الديمقراطية كُتب ودراسات لا حصر لها، ربما تعد بالالاف، ويحمل كثير منها العنوان ذاته، وهو «وهم الديمقراطية»، وأذكر منها مثلا، كتابي فرديناند ليندبرج و تيج ليندبوم بالعنوان سالف الذكر. لم أكن قد فهمت أن وضع السود في أمريكا وأوروبا لم يتحسن إلا ظاهريا ولقلة مختارة منهم ويشهد على ذلك تعديات الشرطة المتكررة على السود. ولم أكن قد فهمت أن وضع البشر جميعا كان يسير منذ ذلك الوقت في نفس الاتجاه. ثم تتابعت الأحداث لتبين واحدا بعد الآخر، وأحدثها ما سُمي جائحة كورونا، أن البشر جميعا مستهدفون بالاستعباد من قبل أعداء الإنسانية الذين يتخفون وراء الحكومات، كما ذكر ماركس، وأن الحرية مسألة شكلية قضت عليها بدرجة كبيرة «ثنائية الإعلام والرصاصة». لكن أهم من ذلك كله أنني فهمت لاحقا أن رواية جذور-التي حاول أعداء الإنسانية التقليل من نجاحها باتهام كاتبها بسرقة أفكارها أو بعضها من كاتب «أبيض»!!- تحمل بُعدا أخطر وأبشع من مجرد الاستعباد هو أن كونتا ذلك ومعظم الرقيق الذين تم خطفهم في تلك الحقبة من إفريقيا كانوا مسلمين تم سلخهم عن دينهم قهرا وظلما. وهذا جانب آخر من صناعة الكفر، يتصل مباشرة بما استعرضناه في سلسلة «تشكيل العقل العربي الحديث» من أن أحفاد ابن سبأ كانوا وراء تشويه وتدمير العقل العربي الإسلامي. فهم لم يكتفوا بتشويه الفكر وتدمير العقل بل تعددت جرائمهم بحق الإسلام والمسلمين بلا توقف في كل مكان وزمان وصلوا إليه. وكما كانوا هم المحرضين والممولين للحملات الصليبية وما سمي بحروب الاسترداد في الأندلس، وصولا إلى هدم الخلافة، فقد عملوا أيضا على استعباد المسلمين الأفارقة ونقلهم إلى أوروبا والأمريكتين. وقد انفلت عقال إجرامهم بسقوط غرناطة (1492)، والتي لم يخسر المسلمون بسقوطها وجودهم في غرب أوروبا فقط بل أيضا في الأمريكتين اللتين كان بهما بالفعل أعداد كبيرة من المسلمين بحسب ما أكدت مصادر عدة بينها كتاب المؤرخ والجغرافي المسلم أبو الحسن المسعودي «مروج الذهب ومعادن الجوهر»، الذي يوثق وصول المسلمين هناك أواخر القرن التاسع الميلادي، بينما يوثق باحثون محدثون مثل د. كريج كونسيداين وصول المسلمين إلى الأمريكتين بداية ذلك القرن. على كل حال أستطيع الآن أن أقول وبكل وضوح ان كونتا لو عاد اليوم سيفتخر بما فعل بكل تأكيد لأنه سيتأكد أن كفاحه ودفاعه عن حريته كان هو التصرف السليم. أما الآن فلابد من مواصلة الكفاح من الجميع لأن أعداء الإنسانية لايزالون يستهدفون تقويض حرية البشر الجسدية والفكرية، والجميع مستهدفون بصناعة الكفر والفقر والاستعباد وليس جنسا بعينه فقط.
1380
| 26 يونيو 2024
يُحكى أن ملكاً أراد أن يختار خليفة له من اثنين من أبنائه. أرسلهما مع مستشاره للتجول في مملكته ومخالطة الناس لاختبارهما في فنون الحكم. أخذهما مستشار الملك إلى إحدى القرى وطلب منهما أن يكتما أمر صفتهما الملكية ويحاولا النزول ضيفين على أي بيت هناك. وقع اختيارهما على بيت فلاح بسيط سألاه الضيافة فرحب بهما وقدم لهما ما لديه من طعام وفراش، واحتفى بهما هو وزوجته وأولاده. لما انتهت الضيافة غادرا القرية وعادا إلى مستشار الملك الذي طلب أن يحكيا له كيف كانت التجربة. قال أحدهما: إن الفلاح لم يحسن استضافتنا إذ قدم لنا بقايا طعام في أوان مهشمة، وترك أبناءه يزعجوننا طيلة الوقت، كما أن الفراش الذي جهزه لنومنا لم يكن نظيفا كما ينبغي. أما الآخر فقال: لقد أحسن الفلاح استضافتنا وأكرمنا بكل ما توفر لديه. فهو قدم لنا كل ما كان في بيته من طعام ربما استخلصه من بين أيدي زوجته وأبنائه فلم يكملوه. كما أنه آثرنا بفراشه وفراش أبنائه، ولا يبدو أنه كانت لديهم غيرها. فلما عاد الثلاثة إلى الملك وسمع قصة ولديه مع الفلاح اختار الثاني ليصبح خليفته كونه كان أحكم في النظر إلى الأمور وفهم أبعادها وسياستها. * الشاهد، أن الابن الأول نظر إلى الأمر بعين القسوة وقلة التدبر أما الثاني فنظر إلى الأمر ذاته بعين الرحمة والتفهم، وهذه صورة مبسطة لما يسمى في العلوم السياسية نظرية المعرفة. ونظرية المعرفة هي الأسس أو المعايير التي نرى بها الأشياء ونحكم عليها. وهي التي تشكل فكر إنسان وتحدد قيمه وقناعاته وتجعله يقدس شيئا أو يحقره، بينما يأتي شخص آخر بنظرية معرفة مختلفة تحتقر ما يقدسه الأول وتقدس ما يحقره. مثلا، الذي يؤمن بالدين الحق، يرى الله في كل شيء، ويفهم أن المُلك كله بيد الله، وأن الدول والإمبراطوريات تبقى بالعدل وإقامة شرع الله وتزول بالظلم وأكل حقوق الناس بالباطل. أما الذي يجعل نظريته المعرفية هي الماركسية مثلا، فهو لا يؤمن بالخالق ابتداء، ويرى أن الأمم والإمبراطوريات تزول لأسباب وعوامل دنيوية سطحية يسميها صراع الطبقات، ويرى أن الزوال يحدث عندما يصل تسلط النخب والقوى الحاكمة إلى درجة الاستئثار بجل المنافع والخيرات وترك الشعوب في حالة مزرية. وهو لا يرى يد الله في كل ذلك، تماما كالذي لم ير أي خير في ضيافة الفلاح. * ذلك الذي نظريته المعرفية ليست الإيمان بالله تظل فكرته عن الحياة والحق والعدل تتقلب وتتناقض في مستوياتها المختلفة ولا تصل إلى الكمال، تماما كاستحالة وصول الفكر الوضعي سواء كان ماركسيا أو ليبراليا أو أناركيا، إلخ..، إلى مستوى المنهج المتكامل، وهو ما أثبتته التجارب في العقود الأخيرة التي شهدت فشل كل المشاريع الإنسانية القائمة على نظرية معرفية غير الوحي الإلهي. فقد شهدنا في بداية تسعينيات القرن الماضي انهيار أكبر حصن للفكر الشيوعي والاشتراكي وهو الاتحاد السوفيتي والذي كنت شاهدا على تدشين زواله من خلال ندوة دولية (سالزبورج سيمينار، سبتمبر 1989) تنعقد في النمسا سنويا وتضم صحفيين وسياسيين ومفكرين من مختلف دول العالم وكانت محصلتها النهائية أن الاتحاد السوفيتي إلى زوال قريب،،، وقد كان. كما شهدنا كيف تحولت الصين وهي الحصن الآخر للشيوعية إلى شيء ليس هو بالشيوعي وليس هو بالليبرالي، ولكنه «بين بين»، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء. ثم شهدنا في الوقت نفسه تحول المعسكر الغربي بدوره إلى شيء أيضا «بين بين» فهو لم يعد ليبراليا كما يدعي ولم يعلن رسميا اتباعه الفكر الشيوعي القمعي وإن كان يطبقه بحذافيره. وقد ظهر ذلك بوضوح في أحداث كثيرة أحدثها المشاركة الوحشية في عملية الإبادة الجارية في غزة وفي قمع طلاب الجامعات المحتجين عليها. * لقد شهدت البشرية في الأزمنة الأخيرة، وبفعل فاعل أراد تشويه الفكر الإنساني، عمليات تصنيف لمراحل الحياة على الأرض بعضها زمنية مثل العصر الجليدي والعصر الحجري والعصر البرونزي، وبعضها على أساس الإنجاز العلمي مثل عصر القوس والعجلة وعصر البخار والقطار وعصر الكمبيوتر والإنترنت، وبعضها فكرية مثل عصور الظلام وعصر النهضة وعصر العقل وعصر العلم، وهكذا. ومع عدم التسليم بصحة أو دقة معظم تلك التصنيفات، فأحسب أن الأغلب هو أننا نعيش الآن عصر الـ «بين بين»، ولا أسميه بعصر الغموض لأنه ليس غموضا على الحقيقة بل هو غموض مصنوع مقصود في إطار عملية «صناعة الكفر» لجعل النموذج الصيني الجديد هو نموذج الحكم العالمي. وهو عصر يراد فيه التلاعب بالبشر بكل الوسائل الممكنة حتى لا يكون الرجال رجالا ولا النساء نساء، ولا الحق حقا بيّنا ولا الباطل باطلا بيّنا، ولا الخير خيرا صريحا ولا الشر شرا قبيحا. والخلاصة أننا بصدد تحول تاريخي عالمي يريد من يحركه توحيد نظرية المعرفة لدى البشر كافة إلى عبادة أي شيء إلا الله الواحد الأحد، ويريد توحيد البشر على كذبة أنهم يشتركون في أصلهم مع القرود، وأن ليس عليهم إلا الحياة الفردية من أجل الاستهلاك والعبث واللهو، فيعيش كل فرد منعزلا عن المحيطين به وإن تواصل مع من لا يعرفهم في أقاصي الأرض. هذا المعنى أكده لي الدكتور وليام كولمان، مؤسس «معهد دراسات العولمة» بجامعة ماكماستر الكندية، في مقابلة صحفية، عام 2007، بقوله إن العولمة تفرق الناس في الواقع بينما تجمعهم في اللاواقع أي في العالم الافتراضي. وحتى هذه الفكرة، بحد ذاتها، تجعل مسألة التقارب بين البشر «بين بين».
486
| 19 يونيو 2024
ذكرت في المقال السابق أن للحرية معاني كثيرةً، واليوم أقول إنه قد تكون للعبودية معاني أكثر. في مجموعته القصصية "العبودية"، التي كتبها في عشرينيات القرن الماضي، يتحدث الأديب الروسي "الثائر" مكسيم غوركي عن أنواع من العبودية تكاد تشمل كل أشكالها، من عبودية العمل والفقر إلى عبودية الحب والفكر والعادة (الروتين)، إلى عبودية المجتمع والمركز الاجتماعي. وهو يرى إجمالا أن الحرية ليست إلا وهما، وأن الإنسان يكون غالبا عبدا لهواه. وهو يقترب بهذا من المعنى القرآني "أفرأيت من اتخذ إلهه هواه". وهذا بدرجة كبيرة هو ما يسعى أعداء الإنسانية لجعله حال الناس جميعا في إطار "صناعة الكفر"، من خلال إتاحة الحرية للوصول إلى كل الموبقات والدنايا مقابل "تصعيب" كل الطيبات والصالحات. في كتاب مهم عن العولمة (حاضنة صناعة الكفر) بعنوان (-2001 The No-Nonesense Guide To Globalization) أو "الدليل الخالي من الهراء للعولمة" يقول المؤلف وين إيلوود، الذي كانت لي معه مداخلات مهمة ربما نأتي على ذكرها لاحقا، إن هدف أصحاب رأس المال، أرباب العولمة، كان وما زال هو السعي الدائم والأبدي وراء تعظيم رأس مالهم. وهذا كلام وإن كان صحيحا فإنه لا يذكر الحقيقة الكاملة لأهداف العولمة. وفي تعريف المراجع العالمية، ومنها وزارة الخارجية الأمريكية، لأسباب العبودية أنها توفر لأصحاب رأس المال ربحا أكبر كثيرا حتى من العمالة زهيدة الأجر، لأن العبد لا يتكلف إلا نفقة طعامه وسكنه في أي ظروف وبأرخص التكاليف، أما العامل الحر فيحتاج لمستوى مختلف من المعيشة مهما قلت تكلفتها. لكن تظل هذه أيضا حقيقة غير كاملة، فأصحاب رأس المال أعداء الإنسانية لا يهدفون، في نهاية الأمر لا إلى تعظيم ثرواتهم فقط ولا إلى تقليل نفقاتهم فقط، ولكنهم يريدون استعباد البشر على الحقيقة في إطار فرض أفكارهم الشيطانية عليهم لمنع عبادة الله في الأرض، كما يشير د. بهاء الأمير في كتابه المهم "الوحي ونقيضه"، 2006. يقودنا هذا الحديث للنظر بعمق في معنى "الاستعباد الجماعي للبشر" الذي أشرت إليه في المقال السابق، لنجد أنه في الوقت الذي تخرج فيه التقارير تترى عن تزايد بل واستفحال ظاهرة العبودية الحديثة فإنه تجب ملاحظة أن تلكم التقارير والتي تصدرها بالطبع هيئات ومنظمات تابعة للمنظومة الدولية، الخاضعة لرأس المال، تركز على حالات من تلك العبودية محدودة ومقصورة على الصور التقليدية مثل الاتجار بالبشر والاستغلال الجنسي. كما يجدر الانتباه إلى أنه رغم كل الحديث عما يسمى منجزات الحضارة الإنسانية ممثلة في الغرب بصفة خاصة فإننا نجد أن "العبودية العارية" أو الاتجار بالرقيق الأبيض في تزايد عجيب، وهو ما رأيت نموذجا منه بأم عيني، خلال زيارة للنمسا قبل نحو 30 عاما لحضور مؤتمر سياسي دولي. كانت الفتيات يجلسن في نوافذ عرض المتاجر في الشارع الرئيسي، في فيينا وفي سالزبورج، بلا ملابس تقريبا، تماما كما تعرض الحيوانات، حاشاكم الله، أو البضائع المعدة للبيع، وما زلن، مع كل الأسف والحزن. والاختلاف الوحيد بين الحيوانات وتلك الضحية أنها تدعوك للدخول بيدها وجسدها معا. وهو ما يدفع إلى التساؤل: هل الجهات التي تعلن أنها تكافح العبودية، تكافحها فعلا أم تغذيها؟ أليس هذا النوع من العبودية أحقر وأقذر من كل عبودية أخرى؟ أليس الأحرى بتلك الدول التي تسمي نفسها متحضرة أن تمنع هذا الشيء بدلا من أن تقننه وتنظمه وتعظمه. والسؤال الأهم، لماذا إذن تسمح تلك الدول بذلك الانحطاط اللاإنساني؟ وهذا سؤال سنجيب عنه بعد قليل. وفق أحدث التقارير التي صدرت خلال العام الماضي، ذكرت منظمة حقوق الإنسان الأسترالية "ووك فري" أن عدد ضحايا العبودية الحديثة ارتفع بنسبة كبيرة في السنوات الأخيرة، وأن ما يقرب من 50 مليون شخص في أنحاء العالم ضحايا للعبودية الحديثة، بزيادة 10 ملايين شخص عن عام 2018، أكثرهم من الرقيق الأبيض. كما توصلت دراسة استمرت عامين أجرتها منظمة الهجرة الدولية مشاركة مع جامعة "بيدفوردشير" البريطانية واختتمت أواخر عام 2019، إلى نتائج مماثلة بل وأشارت إلى أن الأعداد الحقيقية ربما تكون أكبر كثيرا من الأرقام المعلنة. أخيرا، يقول الكاتب الأمريكي الساخر مارك توين واصفاً العبودية في أمريكا ولكن بمنطق المعاكسة: "لقد منَّ الله علينا بثلاث في هذا البلد (أمريكا)؛ حرية التعبير وحرية التفكير وحرية عدم التمتع بأي منهما". أما مواطنه تشارلز بوكوفسكي الألماني الأصل فيعمم مسألة العبودية قائلا: إن العبودية لم تختف أبداً من الوجود، ولكن تمت توسعة نطاقها فقط لتشمل جميع الأعراق. وأحسب أن هذا من أدق ما قيل عن صناعة الكفر وتعميم العبودية لغير الله في هذا العالم. وهنا تأتي الإجابة عن السؤال الأهم: لماذا تسمح الدول المسماة بالمتقدمة بل تعمل بكل جهد على تعميم العبودية بكل أنواعها على البشر ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا؟ والإجابة بكل بساطة هي أن العبودية العارية وعبودية الأجر وغيرهما، كلها تُخفي وراءها الهدف الأكبر، ألا وهو عبودية الهوى والفكر وصناعة الكفر.
921
| 12 يونيو 2024
وقفنا سابقا عند اختراع الرصاصة وأنها غيرت شروط «العقد الاجتماعي» بين الشعب وحاكميه. فالأصل في العقد الاجتماعي أن الشعب يتنازل عن بعض حقوقه في تقرير مصيره لفئة منه مقابل أن تقوم تلك الفئة برعاية مصالحه على أكمل وجه. وبالمناسبة فالعقد الاجتماعي ليس تسمية اخترعها ما يسمى فلاسفة الغرب، بل هي معنى مستقر منذ فجر التاريخ، مهما حاولوا نسبته إلى أسماء مثل هوبز ولوك وروسو. وربما لم يعرف التاريخ فترة كان فيها ذلك العقد في أتمّ صوره وأعدل نماذجه من فترة حياة الرسول الكريم ﷺ ثم الخلفاء الراشدين. وقد حدثت انتهاكات كثيرة لذلك العقد في معظم فترات التاريخ، حتى في بلاد الإسلام، وقبله وبعده. لكن أخطر انتهاك لهذا العقد حدث باختراع الرصاصة وآلات القتل الجماعي. فقديما كان اختراع البارود مهما ولا شك في حسم مصير الحروب والمواجهات بين القوى المتصارعة لكنه لم يكن مصيريا بتلك الدرجة لاستعباد الشعوب بالكلية، جماعات وأفرادا، حتى ظهرت آلات القتل الجماعي. فقد عرف العالم استخدام البارود في الحرب بشكل بدائي أواخر القرن التاسع للميلاد، وقيل إن الصينيين اخترعوه لكن باحثين موثوقين أكدوا أن المسلمين كان لهم ذلك الفضل. ومن ثم ظهرت المدافع التي تطلق ذلك البارود في القرون التالية. وفي أواسط القرن 15، ظهرت المدافع العملاقة التي برع فيها العثمانيون وكانت مفتاح السر في فتح القسطنطينية، وبالتوازي تم اختراع البندقية الشخصية البدائية التي تعمل بالحشوة في الأندلس، حوالي القرن الثالث عشر، والتي تطورت تدريجيا حتى وصلنا إلى الرصاصة التي غيرت كل معايير المواجهة العسكرية والشخصية ومعاني الشجاعة والجبن. لذلك قال الأمريكي صمويل كولت عندما نجح في اختراع المسدس عام 1835 «اليوم يتساوى الشجاع والجبان»، وهي عبارة تفتقر إلى شيء من الدقة فهنا لا يتساوى الشجاع بالجبان بل يصبح الجبان أشجع الشجعان وأقوى الأقوياء طالما كان المسدس في يده وليس في يد غيره. لذلك، أحسب أن الشيء الذي غير، حقا، وجه التاريخ والبشرية وأفسد العقد الاجتماعي، بلا رجعة، ليس العجلة أو المطبعة كما تعلمنا قديما، وليس التلفزيون أو الكمبيوتر كما قيل حديثا، ولكن هذا الشيء هو الرصاصة، وما يلزم لإطلاقها، وكل ما تلى ذلك من أسلحة تقتل عن بعد ودون اشتباك مباشر مع الخصم. هذا هو الذي دشن حقا عصر «العبودية الجماعية» للبشر، إلا ما رحم ربي. فبعد الرصاصة والمسدس، وأخواتهما، بات بإمكان فرد واحد أو بضعة أفراد أن يسيطروا على جموع غفيرة من البشر بل ودول بأسرها ويسلبوهم حريتهم وقرارهم. بعد الرصاصة باتت المعادلة هي: العبودية أو الموت. وأصبح العقد الاجتماعي هو «الخضوع مقابل الحياة» وليس مقابل الخدمة المستحقة، إلا إذا امتلكت أسلحة مماثلة وبقدرات متناسبة (الردع). ولذلك كان من أهم بنود صلح ويستفاليا 1648، الذي أسس النظام العالمي الحالي، احتكار الحاكم للعنف (استخدام السلاح) داخل حدوده، أي حرمان الشعب من هذه القدرات. وهذا ما جعل رأس المال مضافا إليه قوة القتل الفتاكة «الرصاصة» يتحكم في البشر بلا رجعة. فأنت إن لم تقبل الأجر البخس الذي يحدده صاحب رأس المال فليس لك إلا الرصاصة. وإذا عارضت أهواءه وشذوذه وشذوذ أفكاره فليس لك إلا الرصاصة. ربما يرخون لك الحبل قليلا لإرهاقك واستنفاد طاقاتك من خلال مفاوضات شكلية مع عمال مضربين مثلا للمطالبة بزيادة الأجر (تحسين شروط العبودية) أو مع طلاب مطالبين بالعدالة للمظلومين (في غزة)، للتظاهر بأن ما تسمى «الديمقراطية» تعمل، لكنهم في النهاية لا يعطونك إلا الفتات وإن لم تقبل فالرصاصة جاهزة تنتظر ضغطة على الزناد. ولطالما اختلف المفكرون بشأن معنى الحرية. ومن ذلك قول مونتيسكيو (أحد أنبياء العولمة) وصاحب كتاب (روح القوانين المقدس لدى أعداء الإنسانية): «ليست هناك كلمة كالحرية تعددت واختلفت معانيها». وأحسب أن خلافا لا يقل ضراوة كان وسيظل بشأن معنى العبودية. وقد يقول قائل إن الخضوع لأصحاب المال والقوة كان السمة الغالبة على المجتمعات البشرية منذ فجر التاريخ، وسيكون معه الحق. فقد استخف فرعون قومه فأطاعوه، ومثله نيرون. ثم تفنن الرومان في إلقاء الأبرياء للوحوش في ساحات الكولوسيوم (المدرجات الرومانية) لتفترسهم. واستمرت ثنائية «الظلم والخضوع» في عصور تالية من أبرزها وأعجبها قصة خضوع شعب كامل لحاكم نحو ستين سنة تخللتها شدة أكل الناس خلالها بعضهم بعضا أحياء من شدة الجوع ورغم ذلك بقي ذلك الحاكم 20 سنة كاملة بعدها يحكم ذلك الشعب، مع أنه بسياساته الفاسدة كان السبب وراءها. لكن الرصاصة هي التي رسخت وبلورت مبدأ استئثار من يملكها بالقوة والسلطة بغض النظر عن مسميات نظم الحكم الشكلية من ديمقراطية أو عسكرية أوغير ذلك. وهي التي مكنت أحفاد ابن سبأ من استعباد زنوج أفريقيا واقتيادهم إلى الأراضي الجديدة في أمريكا الشمالية. وجعلت مقاومة «العبودية» أمرا بعيد المنال إلا إذا كانت تلك مقاومة «صنعت في غزة». أما الذي رسخ حالة الاستعباد التي يعيشها البشر حاليا وجعلهم يستسلمون لجبروت الرصاص وبهتان عبودية الأجور، وكأنهم تحت تنويم مغناطيسي، هو الإعلام بكل مشتقاته من صحافة وتلفزيون وسينما.. إلخ، لتنطبق على جموع البشر وليس على شعب بعينه آية «وسحروا أعين الناس واسترهبوهم». سحر الإعلام، وإرهاب الرصاصة. لذلك كان قول كلمة حق عند سلطان جائر جواز دخولك في ظل الله يوم لا ظل إلا ظله، وكان الجهاد ذروة سنام الأعمال في الإسلام، وكانت رسالة الأديان والإسلام خاصة إخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد.
555
| 04 يونيو 2024
في 20 ديسمبر الماضي كان عنوان مقالي «يا شعوب العالم اتحدوا». حذرت فيه من أن ما يُفعل بأهل غزة سيكون مصير كل الشعوب في أي مكان تتحكم فيه النخب الرأسمالية الغربية، «أعداء الإنسانية»، متى خالفوهم الرأي. وها نحن بعد نحو 4 شهور، ينتفض طلاب الجامعات في أمريكا ودول أخرى، دفاعا عن الإنسانية في ضوء ما يتعرض له قطاع غزة من إبادة جماعية، فيقابلها أعداء الإنسانية بالقمع والاعتقال ومصادرة الحريات. والاختلاف الوحيد هو فقط في حجم ونوعية الاعتداءات، التي ترتكبها «مليشيات» حكومات تلك الدول المسماة بالشرطة، والتي ستزداد حتما مع تزايد واتساع حجم ونوعية الاحتجاجات. وهم لن يتورعوا عن سحل وقتل الطلاب كما فعلوا من قبل خلال الاحتجاجات الطلابية على حرب فيتنام. فضمن سلسلة طويلة من الاعتداءات قتلت قوات الحرس الوطني بولاية أوهايو أربعة طلاب وأصابت آخرين فيما عرف بـ»مذبحة مدينة كينيت» عام 1970. لكن ذلك لم يمر دون ثمن فقد أدت تلكم المذبحة إلى اتساع الاضرابات وانتشار الاحتجاجات التي لم تنته إلا بوقف حرب فيتنام وتفجر فضيحة ووتر جيت التي أدت لاستقالة الرئيس الأسبق نيكسون نتيجة لجوئه لإجراءات غير قانونية لقمع قادة الحركة الطلابية. لكن موقفا حازما من جون إدغار هوفر، رئيس مكتب التحقيقات الفيدرالي (إف بي آي) آنذاك أحبط مساعي نيكسون، بل كان السبب المباشر في فضحه واستقالته استباقا أن يعزله الكونجرس. وقد ظهرت هذه القصة في فيلم مهم بعنوان «مارك فيلت» من بطولة ليام نيسون الذي أدى دور هوفر وكان يطلق عليه لقب «الصوت العميق» نظرا لأنه كان يسرب المعلومات عن تحركات نيكسون غير القانونية. وكان من أبرز الشعارات التي ظهرت خلال تلك الاحتجاجات، التي كانت دموية في بعض الأحيان، شعار تبناه طلاب جامعة نيويورك يقول «إنهم لن يستطيعوا أن يقتلونا جميعا». وكانت هذه هي كلمة السر في توحيد صفوف الطلاب. وفي مواجهة الاحتجاجات التي وصفها كاتب خطابات نيكسون آنذاك ريموند برايس بـ»الحرب الأهلية» بدأت آلة الإعلام الصهيونية يوجهها نيكسون ذاته، في تشويه المحتجين باتهامهم بأنهم عملاء للشيوعية، وكانت تلك هي التهمة التي يوجهونها لمن يخالفهم الرأي آنذاك، واستبدلوها الآن بما يسمى»معاداة السامية». وتم حينها استدعاء الجيش للتدخل، ونقل الرئيس إلى مكان آمن، لدرجة أن مستشاره تشارلز كولسون الذي أوصله للرئاسة وكان يوصف بأنه «بلطجي نيكسون»، قال بالحرف «لا يمكن أن تكون هذه هي الولايات المتحدة.. لا يمكن أن تكون هذه أعظم ديمقراطية في العالم. هذه أمة في حالة حرب مع نفسها». لكن،،، بعد أن انتهت الحرب واستقال نيكسون عادت الأمور لما كانت عليه وخضع الناس طلابا وغير طلاب لحكم أعداء الإنسانية من جديد. آنذاك لم ينكشف الغطاء بالكامل عن الوجه القبيح للصهيونية العالمية. لكن هذه المرة يبدو الأمر مختلفا في شقين أساسيين، الأول أن المحتجين يثورون ضد مسألة تبدو ظاهريا لكثيرين شأنا خارجيا (دعم غزة) وليس قضية أمريكية داخلية وهو ما يمنح الاحتجاج أهمية أكبر. لكن الذي لا يريد أن يفهمه أو ربما أن يعترف به أعداء الإنسانية هو أن الطلاب يثورون الآن من أجل أنفسهم وشعوبهم، قبل غزة التي أظهرت أن الجميع في خندق واحد، كما ذكرت سابقا، وهذا يقودنا إلى الشق المهم الثاني وهو أن الاحتجاجات موجهة صراحة ضد الصهيونية والإمبريالية العالمية أيا كان من يقف وراءها. لقد استفاق الطلاب، وقليل من الأساتذة، كما كان الحال في مفاصل تاريخية كثيرة، على ما لم يدركوه بدرجة كافية وقت حرب فيتنام، وهو أن من يحكمونهم يشكلون «عصابة» واحدة مع من يقتلون الأبرياء في غزة. (انظر مقال ياعزيزي كلهم لصوص). ولكن لماذا الطلاب هم دائما أو في أغلب الأحيان من يقود مسيرة الثورة على الطغيان. والإجابة ببساطة هي لأنهم الأقل خضوعا لاستعباد أصحاب رأس المال. فالموظفون عبيد وظائفهم والتجار ورجال الأعمال عبيد مصالحهم التي يتحكم فيها أعداء الإنسانية بعدما احتكروا كل شيء تقريبا من تجارة وصناعة بكل أشكالها بما في ذلك الرياضة والفن. ولايكاد يكون هناك استثناء وحيد من حالة العبودية الحديثة تلك التي تحدث عنها كثيرون من قبل، من عباس العقاد ومقاله «الاستخدام رق القرن العشرين» الذي نشره بعد استقالته من وظيفته الحكومية، قبل نحو 100 عام، إلى باتريسيا ديلبيانو وكتابها «العبودية في العصر الحديث» (2011)، حيث تحدثت عن عبودية الوظيفة وسمتها العبودية التعاقدية أو العبودية بالأجر، وهو ما تحدث عنه أيضا المفكر اليهودي نعوم تشومسكي المتمرد على الصهيونية. ويتعلق مباشرة بالحرية النسبية التي يتمتع بها الطلاب مقارنة ببقية طبقات المجتمع أنهم الأكثر قربا وتمكنا من متابعة الأحداث بحكم الترابط والتنظيم الذي توفره مقار الدراسة، وتعززه وسائل التواصل الاجتماعي، (انظر مقال «عندما ينقلب السحر على الساحر»). على أن جميع من تحدثوا عن العبودية الحديثة لم يصيبوا قلب الحقيقية وإن اقتربوا منها كثيرا فالعبودية الحديثة تظل محكومة أو مرهونة بعامل آخر، يترافق مع «الأجر المضبوط» بحيث يكون، وباستثناءات قليلة، بمثابة السلسلة في يد صاحب العمل ورقبة الموظف. ذلك العامل الآخر هو «الرصاصة»، التي غيرت تفاصيل العقد الاجتماعي منذ اختراعها، وفي هذا حديث آخر. لكن حتى ذلك الحين، دعونا نردد معا إن «الوحدة تحمينا»، و»إنهم لن يستطيعوا أن يقتلونا جميعا». فهذا هو الشعار الذي يجب أن ترفعه الشعوب قبل فوات الأوان، وهذا هو ثمن الحرية، فمن لم يكن مستعدا للموت فلا يتحدث عن الحرية، كما قال مالكوم إكس.
741
| 08 مايو 2024
مساحة إعلانية
في زمنٍ تتسارع فيه التكنولوجيا وتتصارع فيه المفاهيم،...
6315
| 24 أكتوبر 2025
ليس الفراغ في الأماكن، بل في الأشخاص الذين...
5079
| 20 أكتوبر 2025
لم تكنِ المأساةُ في غزّةَ بعددِ القتلى، بل...
3804
| 21 أكتوبر 2025
يمثل صدور القانون رقم (24) لسنة 2025 في...
2859
| 21 أكتوبر 2025
تُخلّف بعض اللحظات أثرًا لا يُمحى، لأنها تزرع...
2535
| 23 أكتوبر 2025
القضية ليست مجرد غرامات رادعة، بل وعيٌ يُبنى،...
1740
| 23 أكتوبر 2025
جاء لقاء حضرة صاحب السمو الشيخ تميم بن...
1614
| 26 أكتوبر 2025
واكبت التعديلات على مجموعة من أحكام قانون الموارد...
1563
| 21 أكتوبر 2025
لم تعد مراكز الحمية، أو ما يعرف بالـ«دايت...
1083
| 20 أكتوبر 2025
فيما يبحث قطاع التكنولوجيا العالمي عن أسواق جديدة...
996
| 21 أكتوبر 2025
1. الوجه الإيجابي • يعكس النضج وعمق التفكير...
987
| 21 أكتوبر 2025
في زمنٍ تاهت فيه الحدود بين ما يُقال...
972
| 24 أكتوبر 2025
مساحة إعلانية